...
مقدمة السلسلة:
تهدف هذه السلسلة المعنونة بـ [المفسّرون.. والقرآن] إلى هدفين كبيرين:
أولهما: التعرف على اجتهادات علماء المسلمين، باهتماماتهم ومدارسهم المختلفة، وعبر العصور، في فهم القرآن الكريم، وبذلك تحاول أن تلغي كل التصنيفات التي صُنفت بها كتب التفسير، أو تجمع بينها في محل واحد، ولذلك، فإنها ـ مثل سلسلة التنزيل والتأويل ـ تحاول أن تكون حلقة وصل بين المسلمين من خلال التعرّف على أقوال المفسّرين من المشارب والطوائف المختلفة، والاستفادة منها جميعا، وهو ما يزيل الكثير من الشحناء التي دسها الأعداء، واستغلوا بعض الخلافات الفرعية في ذلك.
ثانيهما: معالجة الثغرات الكبرى التي تمنع من الاستفادة المثلى من المصادر التفسيرية، أو تسيء استعمالها، وقد رأينا أنه يمكن حصرها فيما يلي:
1. اختلاط المباحث التفسيرية بغيرها من المباحث، والتي لا يمكن إهمالها لأهميتها، وفي نفس الوقت لا يمكن إبقاؤها لأنها تصرف القارئ عن مبتغاه من البحث عن الوجوه والمعاني القرآنية، ولذلك عالجنا هذا من خلال التمييز بين المباحث؛ فما كان منها من ضمن التفسير المحض، وضعناه في الكتاب الخاص بالتفسير التحليلي، وما كان منها من باب الإشارات واللطائف، أو المباحث الفقهية أو الكلامية وغيرها، وضعناه في الكتب الخاصة بها.
2. تجاهل المدارس والطوائف الإسلامية لبعضها، حتى أنه أحيانا يُنقل الإجماع في مسألة، أو على معنى قرآني على الرغم من وجود الخلاف فيه، ولهذا جمعنا في هذه السلسلة بين المصادر المعتمدة لدى المدارس الإسلامية الكبرى، وبتفريعاتها المختلفة.
3. كثرة الاستطرادات أو عدم تنظيم المسائل، وخاصة في التفاسير القديمة، وهو ما يصرف الكثير عن مواصلة القراءة فيها بسبب ذلك، ولذلك حاولنا أن نعتمد في هذه السلسلة منهجية خاصة تعتمد على ضم النظير إلى نظيره، وتصنيف المسائل على منهج التعداد الرقمي والحرفي والنقطي وغيرها.. بحيث يمكن للقارئ أن يتنقل بسهولة بين محتويات التفاسير، من خلال الاطلاع على رؤوس المسائل، وهذا ما اضطرنا إلى التصرف في المصادر التفسيرية من الناحية المنهجية من غير إضرار بمحتوياتها.
4. حشو التفاسير أحيانا بما لا علاقة له بها، لا من قريب ولا من بعيد، ولهذا حذفنا كل ما لا نرى له علاقة ذلك به، سواء من حيث الجمل والتراكيب، أو المباحث، من غير أن يؤثر ذلك على المحتويات، لأن قصدنا من السلسلة استيعاب ما في التفاسير من القضايا العلمية دون غيرها.
5. احتواء بعض التفاسير ـ مع أهميتها العلمية ـ أحيانا على ما يشير إلى تعصّب المفسّر لطائفته، وهو ما يحرم سائر الطوائف من الاستفادة منه نتيجة كلمة أو جملة أو فقرة يضمّنها تفسيره، مع أنه لا علاقة لها بالتفسير، ولا بالمباحث العلمية، ولذلك حذفنا كل ذلك، حتى لا يكون حجابا بين القارئ وبين الاستفادة من تلك التفاسير، مع العلم أنا أفردنا المباحث الجدلية للطوائف بمباحث خاصة في كتب السلسلة، مع مراعاة الآداب العلمية في أمثال تلك المسائل.
6. انتقاء المفسرين، وخصوصا المحدثين منهم للأقوال من خلال الانتقاء الذاتي البعيد عن الموضوعية، ولذلك يتوهم القارئ أنه لم يقل في تفسير تلك الآية الكريمة إلا ذلك القول، ولذلك رأينا أن نسدّ ذلك من خلال ذكر كل ما قيل، بل محاولة استيعاب كل ما ورد من وجوه ومعان بغض النظر عن رأينا الشخصي فيها.
7. تعقيد أسلوب بعض التفاسير، إلى الدرجة التي صارت تحتاج إلى شروح تيسر فهمها، من أمثال بعض المحال في تفسير الفخر الرازي أو تفسير الطباطبائي أو ابن عاشور وغيرها، ولذلك رأينا أن أحسن شرح لها هو إيراد ما سبقها أو لحقها من التفاسير، لأنها تبيّن أسباب طرح المفسّر لتلك المسائل، أو ترجيحاته المرتبطة بها، لأن تلك التفاسير ـ مراعاة للاختصار ـ تكتفي بترجيح المفسر من غير أن تطلع على القارئ على الخلاف الوارد فيها.
8. الاختصار المخلّ في الكثير من التفاسير، والتي تصرف المفسر عن الاهتمام بالنواحي المختلفة المرتبطة بالآيات الكريمة، ولهذا لم نهتم في هذه السلسلة بعدد الأجزاء ولا الصفحات، وإنما كان اهتمامنا باستيعاب كل ما قيل في الآيات الكريمة من معان أو مباحث أو لطائف، وقد راعينا ـ بدل الاختصار ـ منهجية تنظيم المسائل بحيث يمكن للقارئ أن يتجاوز أي مسألة لا يرغب في الاطلاع عليها إلى غيرها.
9. نقل المفسرين عن بعضهم البعض من دون توثيق، وخاصة المتأخرين منهم، وهو ما يمنع من نسبة الأقوال لأصحابها، ولهذا وثّقنا كل الأقوال، ومن خلال مصادرها الأصلية.
10. تأثر المفسرين بثقافة عصرهم، وخاصة في النواحي المرتبطة بالحقائق الكونية والعلمية، والتي قد يستغلها المغرضون لضرب كل التفاسير، أو اتهام القرآن الكريم نفسه، ولذلك رأينا أن أحسن رد لهذا هو ذكر ما ذكره المفسّرون، لا الاكتفاء بردنا الشخصي، ولهذا لم نتدخل في رد أي قول نرى خطأه أو معارضته للقرآن الكريم ما دام هناك من المفسرين من قام بذلك، وننبه عادة إلى ذلك في الهوامش، حرصا على الموضوعية، وعلى الفصل بين ما نراه وبين قول المفسر.
مزايا السلسلة:
بناء على هذا؛ فإن هذه السلسلة تحاول أن تتميّز بما يلي:
1. محاولة استيعاب كل ما ورد في التفاسير القرآنية لدى المدارس الإسلامية المختلفة من المباحث المرتبطة بالوجوه والمعاني التي فسّر بها القرآن الكريم، أو البحوث المكملة لها، مثل المباحث الكلامية والفقهية وغيرها.
2. التمييز بين المباحث التي وردت في كتب التفسير، من خلال المواضيع التي تبحث فيها، ولذلك قسّمنا هذه السلسلة بحسب تلك المواضيع إلى سبعة كتب.
3. عرض ما ورد في التفاسير القرآنية من المباحث بما يتوافق مع الأساليب المعتمدة في عصرنا، وباللغة التي يفهمها أكثر الناس، ذلك أن الكثير منها صيغت بأساليب يصعب الوصول إليها لأكثر الناس، ففيها الكثير من الاستطرادات، والخلط بين المواضيع، ولذلك احتاجت إلى عرض مبسط ييسّر الوصول إليها، وذلك بتمييز كل موضوع أو فكرة عن غيرها.
4. محاولة التقريب بين المدارس الإسلامية، ذلك أن كل طائفة تتبنى في الغالب ما يكتبه علماؤها، من غير استفادة من غيرهم، مع أن الحكمة ضالة المؤمن، ولذلك حاولنا في هذه السلسلة أن نجمع بين ما كتبه أعلام المدارس المختلفة في هذه الجوانب، حتى يكون وسيلة للحوار والتقارب والوحدة، ولذلك وثقنا لكل نص نقتبسه، حتى يتسنى لمن يريد أن يرجع إلى المصدر بسهولة ويسر، لأن هناك من قد يشكك في سلامة النقل، أو أمانة الناقل.
5. الربط بين العصور المختلفة، وفهمها للقرآن الكريم، ذلك أن لكل عصر خصوصياته، ولذلك عرضنا في تفسير كل مقطع أو آية بحسب التسلسل التاريخي، لنرى تاريخ الأقوال، وتاريخ التأثر والتأثير، بالإضافة إلى احترام خصوصيات كل عصر، حتى لا نقع فيما وقع فيه أعداء التراث الإسلامي من محاولة فرض خصوصيات عصرنا على غيره من العصور، لذلك لم نستبعد كل القضايا الجدلية التي خيض فيها ما دامت لا يتعارض البحث فيها مع القرآن الكريم.
6. هذه السلسلة تفيد خصوصا المهتمين بالدراسات التفسيرية المقارنة، وذلك أنا ذكرنا فيها تفاسير المدارس المختلفة، وفي العصور المختلفة، وحتى الذين لم تذكر كتبهم، كالزمخشري وغيره، أقوالهم موجودة في هذه الكتب، بل حتى الكتب المفقودة نقلنا كل ما نقله المفسّرون منها.
7. محاولة الاستفادة من فهوم المفسّرين والعلماء وتدبّراتهم، وذلك لأجل:
أ. اكتشاف معان جديدة، ترتبط بواقعنا وحياتنا، بالإضافة إلى رد الشبهات التي تثار كل حين، بسبب سوء فهم المعاني القرآنية، أو اختيار فهوم معينة، وتصور أنها الفهوم الوحيدة.
ب. تعميق تدبّرنا للقرآن الكريم، ذلك أن الذي يستفيد من تدبّر غيره وتأمله أعمق فهما، وأوفر حظا من الذي يكتفي بتدبره وتأمّله وفهمه، وخاصة مع كتاب الله تعالى الذي لا يمكن أن تحيط به عقول البشر جميعا، فكيف بعقل واحد!؟
ج. تحقيق المرجعية القرآنية، أو مركزية القرآن الكريم، باعتباره مصدر المعارف الإسلامية المختلفة، ولذلك لم نجنح لما ذهب إليه بعضهم من الإنكار على المفسّرين الذين خاضوا في بعض المسائل العرفانية أو العقدية أو الفقهية بحجة عدم ارتباطها بعلم التفسير، ذلك أننا نرى أن للتفسير دلالتين:
• دلالة ترتبط بالبحث في المعنى، والذي يعتمد اللغة أو التفسير عادة.
• ودلالة في البحث عن المقاصد وكيفية تحقيقها، أو ما يمكن أن يطلق عليه التدبر والتأويل، ولذلك كان لكل مفسر تدبراته الخاصة، المرتبطة به، أو بتخصصه، أو بالعصر الذي عاش فيه، وهذا ما يستدعي الاستفادة من تلك الفهوم جميعا.
8. الرد على الذين يريدون استئصال التراث الإسلامي، وخصوصا ما يتعلق بالتفسير منه، بسبب بعض الأخطاء التي يجدونها فيه، غافلين عن المعاني الكثيرة الصحيحة التي يمتلئ بها، ولذلك حاولنا أن نجمع تلك المعاني، ونرى الأقوال المختلفة فيها، ذلك أن المفسّرين ينتقد بعضهم بعضا، ويصحّح بعضهم لبعض، ولذلك كان في الرجوع لكل الأقوال فوائد من هذا الباب.
بالإضافة إلى فوائد أخرى تتعلق بفهم مراد المفسّر، فالكثير من المسائل المطروحة، قد يستغرب طرحها، أو لا يفهم المراد منها، لكن عند الاطلاع على التفاسير السابقة لذلك التفسير يسهل الفهم، ويتضح المقصود.
كتب السلسلة:
بناء على هذه الأهداف، قسمنا هذه السلسلة إلى سبعة كتب:
1. المفسّرون والتفسير التحليلي للقرآن: وفيه عرض وتهذيب لما ورد في المصادر التفسيرية الكبرى حول المعاني التفصيلية للقرآن، وقد قسمناه ـ كعادة المفسرين ـ بحسب الترتيب المصحفي للقرآن الكريم.
2. المفسّرون والوحدة الموضوعية للقرآن: وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم حول الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم، مع الحديث عن كل سورة، وتعريفها، والترابط بين آياتها، وقد قسمناه ـ أيضا ـ بحسب الترتيب المصحفي للقرآن الكريم، حيث قسمنا القرآن الكريم إلى مقاطع، وصلة كل مقطع بما قبله وبعده، وبحسب ما ذكر المفسّرون والباحثون في هذا المجال.
3. المفسّرون والإشارات واللطائف القرآنية: وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم من الإشارات واللطائف القرآنية التي لا علاقة ظاهرة لها بالمعاني القرآنية، وقد تناولنا فيه خصوصا ما ذكره الصوفية من تلك الإشارات.
4. المفسّرون والمباحث العقدية في القرآن، وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم من المسائل العقدية في القرآن.
5. المفسّرون والمباحث الفقهية في القرآن، وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم من المسائل الفقهية في القرآن.
6. المفسّرون والمباحث التربوية والأخلاقية في القرآن، وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم من الحديث عن القضايا التربوية والأخلاقية في القرآن.
7. المفسّرون والآيات الكونية في القرآن، وفيه عرض وتهذيب لما ذكره المفسّرون وغيرهم من الحديث عن الآيات الكونية في القرآن، وعلاقتها بالمعارف العلمية القديمة والحديثة.
وبناء على هذا يمكن تقسيم كتب السلسلة ـ بحسب مراعاة الترتيب المصحفي والموضوعي ـ إلى قسمين:
1. أولها كتب اعتمدت الترتيب المصحفي للقرآن، وهي: (المفسرون والوحدة الموضوعية للقرآن)، و(المفسرون والإشارات واللطائف القرآنية)، و(المفسرون والتفسير التحليلي للقرآن)، مع العلم بأن هذا الأخير هو أكبرها حجما.
2. ثانيها كتب اهتمت بالترتيب الموضوعي، وهي الكتب المخصصة للمسائل الفقهية أو العقدية أو الأخلاقية ونحوها، مع العلم أننا في هذا النوع أضفنا من مصادر خارجية، حتى ولو لم تكن من كتب التفسير، وذلك حرصا على التعرف على موقف كل المدارس من المسائل المطروحة، ومن الأمثلة على ذلك أن الرازي يفيض في الانتصار لمدرسة الأشاعرة، لكنا لا نجد في المقابل من يفصل تفصيله عند ذكر المدارس الأخرى، ولذلك اضطررنا إلى العودة إلى مصادر تلك المدارس، للإجابة على ما ذكره الرازي.
شكر وعرفان:
في ختام هذه المقدمة، أتوجه بالشكر الجزيل لكل من أمدّني بما أحتاجه من مراجع، ويسّر لي الحصول عليها، وأولهم أستاذنا الكريم الكبير السيد جلال ميرأقائي الذي قدّم لي الخدمات الكثيرة في هذا المجال، بالإضافة إلى كونه من الداعين لي للاهتمام بأمثال هذه البحوث، خدمة للقرآن الكريم، وخدمة للأمة بتعريفها بمعارف كتابتها، وخدمة للمفسّرين بتعريف الأمة بما تركوه من آثار عظيمة، بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الكثير من التحديثات أو المراحل التي مررت بها في هذه السلسلة، كانت نتيجة مناقشات لي حول منهجها ومواضيعها، فأسأل الله أن يجزيه خير الجزاء.
كما لا أنسى أن أتقدم بالشكر الجزيل لشركة نور سوفت، وهي من كبرى شركات البرمجيات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي أهدتني ما أنتجته من إصدارات علمية، وخصوصا تلك التي جمعت التفاسير القرآنية، وهي إصدارات دقيقة جدا، وموافقة تماما للمطبوع، ولذلك اعتمدت عليها في التوثيق، كما اعتمدت عليها في الاقتباس، فأسأل الله أن يجزيهم عني وعن الأمة خير الجزاء، وأسأل الله تعالى أن ييسر فتصبح هذه السلسلة جزءا من إصداراتها العلمية، لأنها منها وإليها.
كما لا أنسى أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل إخواننا في اليمن الذين أمدّوني بكل ما كتبه أئمة الزيدية وعلمائها في القديم والحديث، وخصوصا الأستاذ الفاضل حمود محمد شرف مدير إذاعة سام، ومن استعان بهم من مكتبات وجهات.
وأسأل الله في ختام هذه المقدمة أن تؤدّي هذه السلسلة غرضها في خدمة القرآن الكريم، وخدمة الوحدة الإسلامية، والتقارب بين المسلمين بطوائفهم وأجيالهم المختلفة، تحت راية القرآن الكريم، فلا يمكن أن تقوم للأمة قائمة، وهي تعزل نفسها عن قرآنها، ولا يمكن أن تعود لقرآنها، وهي تحتقر كل التراث العظيم الذي تركه علماؤها في تفسيره والتدبر في معانيه.
مقدمة الكتاب
يحاول هذا الكتاب الأول من هذه السلسلة التعرف على ما ذكره المفسّرون ـ بحسب مدارسهم المختلفة، وبحسب التسلسل التاريخي ـ من المعاني التي فُسّرت بها آيات القرآن الكريم ـ وبحسب الترتيب المصحفي ـ من خلال:
1. التعرف على معاني مفرداتها، وما تحتمله من معان.
2. أو من خلال تراكيبها النحوية، وما تحتمله كذلك من المعاني.
3. أو ما قد ترشد إليه علوم البلاغة من البيان والمعاني ونحوها من المعاني القرآنية.
وبذلك، فإنه يحاول استيعاب كل ما ذكره المفسّرون من الوجوه التي تحتملها كل لفظة أو آية قرآنية، من خلال تحليلها اللغوي، وبجوانبه المختلفة، بالإضافة إلى علاقة ذلك بما ورد في الأحاديث والآثار، أو بما يتبناه المفسّر من رؤية عقدية أو فقهية أو ثقافة علمية.
ولهذا اعتمدنا ما ورد في المصادر التفسيرية الكبرى للطوائف المختلفة، وفي العصور المختلفة ـ ابتداء من العصر الأول إلى هذا العصر ـ وقد انتقيناها من خلال الرجوع لكل التفاسير المعروفة، والتي رأينا أغلبها يكرر ما سبق ذكره، أو يختصر الكلام في الآيات الكريمة، ولذلك رأينا أن ما انتقيناه منها قد يغني عن غيرها.
وهذا الانتقاء مؤسس على الاهتمام بطائفة المفسر، وعصره، وأسلوبه في تفسيره، ومدى اهتمام طائفته أو الأمّة به، ومدى توسعه في تناول المواضيع المختلفة، ولذلك استبعدنا التفاسير المختصرة جدا إلا تلك التي قد نرى من خلالها رؤية طائفة معينة.. وقد رتبنا التفاسير بحسب التسلسل الزمني، لنرى مدى تأثر بعضها ببعض، بالإضافة إلى التعرف على الجدل الحاصل بينها، فالكثير من التفاسير المتأخرة تتناول بالعرض أو النقد أو التفصيل التفاسير السابقة لها.
ولعل أهم ما حاولنا القيام به في هذا الكتاب ـ كما في السلسلة جميعا ـ هو تبسيط وتيسير الوصول إلى المعلومة من هذه المصادر التفسيرية، وذلك من خلال اعتماد المناهج الحديثة من التفكيك والترتيب وضم النظير إلى نظيره، ونحو ذلك، مما سنشرحه في منهجية العمل في الكتاب.
المنهجية المعتمدة:
اعتمدنا في هذا الكتاب منهجا يقوم على الأسس التالية:
1. اعتمدنا منهج التفسير الترتيبي التحليلي، حيث قسّمنا آيات كل سورة إلى مقاطع بحسب معانيها، ووضعنا عناوين لكل مقطع تتناسب معها، ومع الموضوع الذي تحويه.
2. حاولنا أن نجمع في كل مقطع، أو آية، كل ما ذكر فيها من تفاسير ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ ولذلك وضعنا أمام كل مفسر من الصحابة أو التابعين أو من بعدهم تاريخ وفاته، وجمعنا كل ما ذكره في تفسير الآيات الكريمة ـ حتى لو كان متعارضا ـ في محل واحد، ثم انتقلنا لغيره ممن كانت وفاته بعده، وهكذا، وبذلك فإن هذه السلسلة تحوي كل الآثار التفسيرية الواردة في كتب التفسير بالمأثور، مع توثيقها من خلال مصادرها الأصلية، لا المراجع التي جمعتها إلا إذا اضطررنا لذلك.
3. قد لا نذكر أحيانا ما ذكره بعض المفسّرين، لا لغفلتنا عنه، أو تجاوزنا له، وإنما لكون كل ما طرحه قد سُبق إليه، أو أن ما ذُكر من التفاسير يغني عنه، وقد استثنينا في هذا ما يبين مواقف المدارس المختلفة، فلذلك اعتبرنا تفاسيرها، حتى لو تشابهت مع غيرها نوعا من الدلالة على ما تعتقده تلك المدرسة، بناء على أن من أغراض السلسلة تعريف المدارس الإسلامية بعضها ببعض، ومن الأمثلة على ذلك ما يشاع من تفاسير للإمامية، لا يراها علماؤهم، أو أنها مجرد مصاديق للآيات الكريمة، ولا علاقة حقيقية لها بالتفسير، ولذلك ذكرنا من تفاسيرهم المتقدمة والمتأخرة ما يبين فهمهم للآيات الكريمة، والتي يتفقون فيها في العادة مع غيرهم من المدارس، وفي ذلك أبلغ رد على هذه الشبهة.
4. حذفنا كل ما رأيناه حشوا في التفسير، ولا علاقة به، ولا بالمباحث العلمية، كحديث المفسّر عن نفسه، أو سبقه لبعض الآراء، وأبقينا فقط ما رأينا له علاقة بالفكرة أو المعلومة المطروحة، ومثل ذلك إن ذكر المفسر أنه فسّر هذه الآية سابقا، فإنا نكتفي بما أضافه من جديد من دون تعرض لذكره لذلك، لأنه معلوم وواضح.
5. حذفنا ما ذكره المفسّرون من المباحث الفقهية والكلامية المفصّلة، لعدم علاقتها بالتفسير التحليلي، وقد نقلناها إلى محالها المختلفة من كتب السلسلة، مع الإبقاء على ما كان له صلة مباشرة بالآيات الكريمة.
6. مع محاولتنا استيعاب كل ما ذكرته كتب التفسير التي انتقيناها، والتي رأينا أن فيها أكثر المسائل المطروحة في كتب التفسير إن لم تكن جميعا إلا أننا حذفنا النصوص أو الآثار التفسيرية التي تحوي ما يلي:
أ. النصوص التفسيرية أو الآثار التي تحوي من الكلمات والمعاني ما يستحيا منه، أو ما فيه بذاءة وفحش، والتي تسبب الحرج والأذى لقارئيها، بالإضافة إلى تشويهها للمعاني القرآنية، ولذلك نكتفي بما يوضّح المراد، وبألفاظ لائقة، مقتصرين على أدنى ما يحقق الغرض.
ب. بعض العبارات التي لا علاقة لها بالتفسير، وفي نفس الوقت قد تثير بعض الحزازات الطائفية مثل الترضي أو الثناء على بعض الصحابة المختلف في شأنهم، أو نبز الطوائف لبعضها البعض ونحوها، مع العلم أنا قد خصصنا الحديث عن هذه المسائل في الكتاب الخاص بالمفسرين والقضايا العقدية، وعند ذكر الموقف من الإمامة خصوصا.
ج. النصوص التفسيرية أو الآثار المرتبطة بالقراءات، لأن لها محلها الخاص بها في علم القراءات، بالإضافة إلى أنها إما آثار تفسيرية تغني عنها الآثار الأخرى، أو آثار غير معتبرة لأنها تخالف القرآن المتواتر، وقد أبقينا في حال الضرورة ما له علاقة بفهم الآيات الكريمة، مع الاكتفاء بأول من ذكرها من المفسرين، وعدم تكريره إلا للضرورة.
د. التفاصيل الكثيرة المرتبطة بالمباحث اللغوية التي لا علاقة لها بالآيات الكريمة، لأن لها محالها في كتب اللغة، بالإضافة إلى أنها تصرف الكثير عن المعاني القرآنية إلى الجدل اللفظي واللغوي، ولذلك اقتصرنا على المختصرات الدالة على الغرض، أو المطولات في حال علاقتها بفهم الآية الكريمة، أو بيان سر التعبير فيها.
7. حاولنا تفكيك المعلومات التي ذكرها المفسّرون، وتصنيفها إلى عناصر مختلفة، واستعملنا في ذلك التعداد النقطي والرقمي وغيرهما، وضممنا النظير إلى نظيره، من باب التيسير والتبسيط، لأن المفسرين ـ وخصوصا القدامى ـ يستطردون أثناء ذكرهم لبعض المقالات أو الوجوه أو الأدلة، ثم يعودون إليها، وبعد كلام كثير لا علاقة له بما سبقه.. فلذلك قمنا بتفكيك تلك المعلومات، وتحويل كل منها إلى عنصر خاص له رقم أو حرف خاص به.
8. جعلنا من باب التبسيط المسألة القائمة بذاتها تحت رقم خاص، والمسائل أو الوجوه التابعة لها مرقمة بالحروف الأبجدية، وهكذا فعلنا في المسائل المتفرعة عن المرقمة بالحروف الأبجدية، حيث وضعنا قبلها علامات التعداد الرقمي.
9. راعينا في التعدد الرقمي المسائل وانفصالها كفكرة تامة عما قبلها، ولذلك يمكن لمن أراد أن يتجاوز أي مسألة من خلال الانتقال إلى رقم جديد، من غير أن يتأثر فهمه لما سبقها أو لحقها، وقد قصدنا هذا، لأن الكثير ممن يطلع على تلك التفاسير، وخصوصا القديمة منها، قد يترك مواصلة القراءة نتيجة تعرضه لمسألة لم يفهمها، أو لم يعلم علاقتها بما قبلها وما بعدها، خاصة مع كثرة الاستطرادات في بعض تلك الكتب.
10. لم نراع في ترقيم المسائل طول النصوص وقصرها، بل راعينا، اكتمال الفكرة، ولذلك قد تكون بعض المسائل طويلة تستغرق صفحات، وبعضها قصيرة جدا، قد لا يتجاوز السطر الواحد.
11. جعلنا التعداد الأبجدي مخصصا للأقوال المختلفة في المسألة، أو الوجوه والاحتمالات والأدلة المرتبطة بها، ومثل ذلك التعداد النقطي، والذي هو فرع عن التعداد الأبجدي، أي أن النقاط تفصل لما ورد في التعداد بالحروف، والتعداد بالحروف تفصيل لما ورد في المسائل المرقمة بالأرقام، وقد وضعناها باللون الأحمر جميعا ليسهل التنقل.
12. قصدنا من التعداد الأبجدي والنقطي التيسير، وأن تتحول المسألة إلى خارطة ذهنية يسهل من خلالها فهم المسألة، ولذلك لم نطبق هذا في حالة تكرار المسألة، خاصة عند الاختصار الشديد إلا إذا كان في ذلك إضافة أقوال أو أدلة جديدة.
13. قمنا بدمج المسائل أحيانا من باب التيسير والاختصار، وهكذا نقلنا ترجيحات المفسر إن كانت مختصرة إلى القول الذي أراد ترجيحه، وإن كانت مطولة خصصناها بترقيم خاص، مع ربطه بالمسألة.. وكل ذلك بشرط أن لا يختل المعنى.
14. لم نراع في هذا الكتاب ـ بالضرورة ـ الترتيب الذي وضعه المفسر لتفسير الآيات الكريمة، خاصة إذا تعارض مع التبسيط والتيسير، مع العلم أننا لم نتدخل في المحتوى.
15. قد نتصرف أحيانا ـ ومن باب الضرورة ـ في بعض الألفاظ التي يستعملها المفسّرون، وذلك مراعاة للتنسيق والتيسير كما هو الحال في المناهج الأكاديمية الحديثة، ومن الأمثلة على ذلك:
أ. تصرّفنا في الإشكالات التي يطرحها المفسّرون، إن وجدنا أنه يمكن صياغتها على شكل معلومة مجردة عن التساؤل صغناها كذلك، لأن الكثير من تلك التساؤلات لا يمكن اعتبارها إشكالا، وإذا وجدنا فيها إشكالا حقيقيا، قدمنا لها بهذه العبارة (سؤال وإشكال:) وذكرنا الجواب هكذا (والجواب:)
ب. يذكر المفسّرون الأقوال بالصيغ المختلفة، كقولهم: (وقال بعضهم:)، أو (ومنها)، وغيرها، وحتى نوحّد التعبير استعملنا غالبا عبارة (وقيل:)، وصدرنا بها الكلام.
ج. يعبر المفسّرون عن ترجيحاتهم بصيغ مختلفة مثل قولهم (عندي)، وغيرها، وقد حذفنا كل ذلك، أو عبّرنا بعبارة (والصحيح) حتى تكون عبارة موحدة تدل على الترجيح.
د. يعبّر المفسّرون عن اختيارات مذاهبهم عادة بقولهم (عندنا)، أو (قال أصحابنا)، أو (عند أصحابنا) ونحوها، وقد استبدلنا ذلك بما يدل على المذهب، فمثلا عندما يقول الرازي عبارته المعروفة (عندنا) نعبر عنها بـ (على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم)، لأنه ينصّ على ذلك في محال مختلفة.. وهكذا إن ذكر المعتزلة، نعبر عنها بهذه العبارة (على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم)، لأن الكثير مما ينسبه للمعتزلة يتوافق مع ما يذكره الزيدية أو الإمامية أو الإباضية أو حتى من علماء أهل السنة المتأخرين.
هـ. هكذا تصرفنا عند ذكر أصحاب الأقوال، وخصوصا الفقهية منها، لأن بعض المفسرين كالقرطبي ينسب ما قولا ما لمالك أو لغيره، مع أنه قال به غيره أيضا، فلذلك استبدلنا أسماء الفقهاء الذين. يذكرهم بـ (قال بعض الفقهاء)، (أو ذهب بعض الفقهاء الى)، مع العلم أنا سنذكر ذلك في الكتب المخصصة لهذه المسائل.
16. اضطررنا إلى إضافة بعض العبارات في مقدمات المسائل، وغيرها إلى ذكر ما لم يذكره المفسر لتيسير الفهم، لأن بعض المفسرين يترك ذلك طلبا للاختصار، لكنه قد يؤدي إلى عدم فهم ما ذكره.. وذلك مثل عبارة (اختلف في معنى قوله تعالى)، ونحوها، لأن بعض المفسرين يبدأ مباشرة في ذكر الأقوال من غير ذكر الخلاف، وهكذا عند ذكر الأدلة، وإن وجدنا أن هناك استطرادات للمفسر نقلناها من ذلك المحل إلى محل آخر، واعتبرناها مسألة منفصلة، مع ربطها بما قبلها.
17. حاولنا ترتيب المسائل بحسب محتوياتها، وبحسب منهج المفسّر، ولذلك فصلنا بين شرح الكلمات والمسائل النحوية، والمعاني عند بعض المفسرين كالطبرسي والجشمي والطوسي وغيرهم، ولم نقم بذلك عند آخرين، كما هو الحال عند الرازي والقرطبي وابن عاشور، وغيرهم، لأن ذلك سيؤثر على المعنى الذي يقصدونه، ذلك أنا اعتبرنا مراعاة مقصد المؤلف، وعدم التأثر فيما قاله أهم من مراعاة التيسير، وخاصة في هذا الجانب الذي يمكن تجاوزه بسهولة.
18. لم نذكر ـ في غالب الأحوال ـ ما ذكره المفسرون من الآثار عن الصحابة والتابعين، لأنا نذكرها عند ذكر أقوال ذلك الصحابي والتابعي، وبحسب التسلسل التاريخي، إلا إذا كان للمفسر موقف من ذلك الأثر، أو لتلك الرواية، فإنا حينها نكتفي بذكر جزء منها، مع ذكر نقده لها.
19. اكتفينا في القراءات القرآنية ببعض من ذكرها، وذكر الوجوه التفسيرية المرتبطة بها، إلا إذا ارتبط بها خلاف أو استدلال، فنعيد ذكرها، مع التنبيه إلى أننا لم نذكر من القراءات ما له علاقة بوجوه الأداء لعدم تأثيره في معنى.
20. مع اختلافنا مع بعض التفاسير، أو لرؤيتنا لكون بعض الآثار أو الأحاديث معارض القرآن الكريم، إلا أنا أثبتناها لوجود مفسرين آخرين يتناولون ذلك بالنقد، ولهذا يستحسن في المسائل الجدلية الاطلاع على أقوال كل المفسرين، لأنا سنجد من ينتقد تلك المقولات المعارضة للقرآن الكريم.. وهكذا في المسائل العلمية التي ذكر المفسّرون؛ فإن أشرنا في التنبيهات في الهوامش، إلى أن ذلك مما يعبر عن ثقافة المفسر في عصره، مع العلم أنّا خصصنا المسائل العلمية بكتاب خاص في السلسلة.
21. لم نذكر من المسائل العقدية أو الفقهية وغيرها إلا ما له علاقة شديدة بالآيات وفهمها، وما عدا ذلك من التفاصيل، نذكره في الكتب المختصة بها من هذه السلسلة.
22. اكتفينا من التوثيق بأول صفحة ورد فيها النص المنقول، وعند كل مقطع، وذلك لأننا أحيانا نرتب النص بخلاف ترتيبه، بالإضافة إلى كفاية ذلك التوثيق.
23. حاولنا أن نكون حياديين وموضوعيين قدر الإمكان، وذلك بأن لا ننتقد أي فهم لأي آية، حتى لو اختلفنا معه، ما دام لا يتعارض مع المقاصد والمعاني القرآنية، بالإضافة إلى أن الكثير من الخلاف لفظية، أو لا آثار عملية لها، وبالتالي فإن الانتصار لأحد الأقوال فيها مجرد تعصب يؤدي إلى الشحناء من غير فائدة، بالإضافة إلى ذلك، فإن تفسير أو تدبر القرآن الكريم لا يعني بالضرورة أن يكون المعنى الذي وصل إليه المتدبر عميقا؛ ونرى ذلك في الواقع حيث يتأثر أكثر الناس للفهوم البسيطة، أكثر من تأثرهم للفهوم العميقة، والتي قد لا يفهمونها، والقرآن أُنزل للناس جميعا، لا للخاصة منهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن انتقاد تلك الفهوم، وترجيح فهوم أخرى بدلها، قد يؤدي إلى الصراع والشقاق الذي نُهينا عنه، فأكثر ما صرف الكثير من علماء المدرسة السنية عن تفاسير إخوانهم من المدرسة الشيعية هو ما يرونه من تطبيق بعض الآيات الكريمة أو الكثير منها على الإمام علي أو أئمة الهدى، مع أنه لا حرج في الكثير من التطبيقات ما دامت لا تمسّ بعمومية القرآن الكريم.
لكن هذا لا يعني قبول كل ما ورد من تلك الفهوم والتدبّرات، فالسكوت عن الباطل المعارض للمعاني القرآنية رعاية للوحدة والوفاق غير مقبول لا شرعا ولا أخلاقا؛ فنحن مطالبون بأن ننكر على المنكر، لا أن نسكت عنه، أو نلتمس له المبررات، ولكن بشرط أن يكون منكرا واضحا، لا مجرد معنى لا ضرر فيه، حتى ولو كان لا جدوى منه.
التفاسير المعتمدة:
حاولنا أن تكون التفاسير المنتقاة والمعتمدة في هذا الكتاب من التفاسير المعتمدة لدى المدارس المختلفة، سواء منها الأشاعرة أو الماتريدية أو الزيدية أو الإمامية أو الإباضية، بالإضافة للمدارس الفقهية، بالإضافة إلى المدارس التنويرية والحركية الحديثة، بالإضافة إلى أهل الحديث والأثر.
وننبه إلى أننا نبدأ كل مقطع بذكر ما ورد في تفسيره من الآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ مع ذكر المصدر، من غير بيان درجة صحته وضعفه، إلا أننا في أثناء النقل من أقوال المفسّرين قد نعيد الإشارة إلى تلك النصوص مع بيان موقف المحدثين أو المفسّرين منها.
بناء على هذا يمكن تقسيم التفاسير التي رجعنا إليها، وعرضنا ما فيها إلى قسمين:
أولا. التفسير بالمأثور: فقد رجعنا إلى المصادر التفسيرية المختلفة، والتي يمكن تقسيمها بحسب مدارسها إلى ثلاثة أقسام:
1. كتب التفسير بالمأثور المعتمدة لدى المدارس السنية، ونجد سائر المدارس أيضا ترجع إليها، وتتمثل في التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ونجد الكثير منها في تفسير الطبري وابن أبي حاتم ومقاتل بن سليمان، وغيرها، والتي جمع أكثرها السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
2. كتب التفسير بالمأثور لدى الإمامية، والتي تعتمد بالإضافة إلى ما ورد في التفاسير بالمأثور السنية، ما ورد عن أئمة الهدى ابتداء من الإمام علي إلى سائر الأئمة الاثني عشر، وننبه إلى أن الكثير من تلك التفاسير مما يصدق عليه التفسير بالمصاديق، أو بالجري والتطبيق.
3. كتب التفسير بالمأثور لدى الزيدية، فهم يعتمدون بالإضافة إلى ما ورد في التفاسير السنية التفاسير التالية:
أ. تفسير الإمام الشهيد زيد بن علي (ت 120 هـ)، المسمى تفسير غريب القرآن.
ب. مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسّي (المتوفى: 246 هـ)
ج. مجموع كتب ورسائل الإمام محمد بن القاسم الرسّي (المتوفى: 284 هـ)
د. تفسير الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم (المتوفى: 298 هـ) ، وهو في جزئين.
هـ. تفسير الإمام المهدي العياني المسمى (تفسير غريب القرآن) ، وهو للإمام المهدي لدين الله الحسين بن الإمام القاسم بن علي العياني (ت 404 هـ) ، وهو في جزئين.
و. البرهان في تفسير القرآن، للإمام الناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى الحسني، المعروف بأبي الفتح الديلمي (ت 1053 هـ)، وهو في جزئين.
ز. بالإضافة إلى ذلك رجعنا إلى كتاب الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية، جمع عبد الرحيم بن محمد بن أحسن المتميز، وهو في 3 أجزاء، وقد رجعنا فيه إلى النصوص والروايات لأئمة الزيدية التي لم نجد مصادرها، وهي أقل مما قبلها بكثير.
4. كتب التفسير بالمأثور لدى المعتزلة، وللأسف هي من الكتب المفقودة، ولذلك نذكر ما نقله المفسّرون من أقوالهم، بالإضافة إلى أن الكثير من أقوالهم يتفق مع تفاسير الإمامية والزيدية والإباضية التي اعتمدناها.
ثانيا. تفاسير المدارس الإسلامية المختلفة، وقد انتقينا منها أهمّها في القديم والحديث، وهذه عناوينها، وسبب انتقائنا لها، بحسب التسلسل التاريخي، مع التنبيه إلى أننا قد نرجع لغيرها في حال الحاجة:
5. تأويلات أهل السنة، أو ما يعرف بـ (تفسير الماتريدي)، وهو لأبي منصور الماتريدي (ت 333 هـ) ، وهو في 10 أجزاء، وقد اخترناه لتقدمه أولا، ولكونه يهتم بذكر الأقوال والوجوه المختلفة في التفسير، بالإضافة إلى انتصاره في المسائل العقدية للمدرسة الماتريدية السنية، وانتصاره في الفقه لمذهب الحنفية، والكثير مما يطرحه ـ باعتباره متقدما ـ نرى مناقشات لها من طرف من يأتي بعده من المفسّرين.
6. النكت والعيون، المعروف بتفسير الماوردي، وهو لأبي الحسن الماوردي (ت 450 هـ) ، وهو في 6 أجزاء، وقد اخترناه لاهتمامه بحصر كل ما قيل في تفسير الآيات الكريمة أو ألفاظها، أو ما تحتمله منها، وهو بالإضافة إلى كونه مفسّرا، من فقهاء الشافعية وعلمائهم الكبار.
7. التبيان في تفسير القرآن، وهو لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ)، المعروف بـشيخ الطائفة، وقد اخترناه لكونه من كبار المتكلمين والمحدثين والمفسّرين والفقهاء المعتمدين لدى المدرسة الإمامية، بالإضافة إلى ذكره للأقوال المختلفة في تفسيره، ومناقشته لبعض مسائل الخلاف.
8. التهذيب في التفسير ، وهو للشيخ الإمام الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة البيهقي الجشمي (ت 494 هـ) ، وهو في 10 أجزاء، وقد اخترناه لكونه من علماء الزيدية المعتبرين، وهو يعبّر عن مواقفهم العقدية خصوصا، والتي تتفق في أكثرها مع عقائد المعتزلة، ولذلك نراه في معظم المحال ينتقد الجبرية والمرجئة وغيرهما.
9. مجمع البيان في تفسير القرآن ، وهو للفضل بن الحسن الطَبرِسي (ت 548 هـ) ، الملقب بـأمين الإسلام، وهو في 10 أجزاء، وقد اخترناه لكون تفسيره من التفاسير المهمّة المعتبرة لدى الإمامية، بالإضافة إلى قبوله لدى سائر المدارس الإسلامية، ولذلك اعتبر من أحسن التفاسير المساهمة في التقريب بين المدارس الإسلامية.
10. زاد المسير في علم التفسير، وهو لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ) ، وهو في 4 أجزاء، وقد اخترناه لاهتمامه بحصر كل ما قيل في تفسير الآيات الكريمة أو ألفاظها، أو ما تحتمله منها، وهو بالإضافة إلى كونه مفسّرا، من علماء الحنابلة الكبار.
11. التفسير الكبير، أو مفاتيح الغيب ، لمحمد بن عمر المشهور بالفخر الرَّازي (ت 606 هـ) ، وهو في 32 جزءا، وقد اخترناه باعتباره من أوسع التفاسير، وأكثرها اهتماما بالجوانب التدبرية المختلفة، بالإضافة إلى أن ما ذكره في تفسيره من مسائل كان لها أثرها في التفاسير التي تلته، ولا يمكن فهمها إلا من خلال المرور عليه، وننبه إلى أننا لم نضع في هذا الكتاب من تفسيره إلا ما له علاقة بالتفسير، أما ما عداه، فقد وضعناه في محله من أجزاء السلسلة، وهو ينتمي مذهبيا إلى المدرسة الشافعية الأشعرية، بالإضافة إلى ميول صوفية تشبه ميول القشيري والغزالي.
12. الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان، وهو لمحمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) ، وهو في 20 جزءا، وننبه إلى أننا لم نضع في هذا الكتاب من تفسيره إلا ما له علاقة بالتفسير، أما ما عداه، وخصوصا المسائل الفقهية التفصيلية، فقد وضعناه في محله من أجزاء السلسلة، وقد اخترناه لاهتمامه بالأحكام الفقهية للمدارس المختلفة، مع الاهتمام خصوصا بالاحتجاج لما ذهب إليه علماء المدرسة المالكية، ومن يتفق معهم.
13. فتح القدير ، وهو لمحمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) ، وهو في 6 مجلدات، وقد اخترناه باعتباره يعبر عن وجهة نظر الكثير من أهل الحديث، بالإضافة إلى أنه من المقبولين، بل والمعتمدين عند التيارات المهتمة بالحديث الشريف، وهو في أصله زيدي المذهب، لكنه صار لا مذهبيا، كما يقال، وبذلك فإنه يمثل هذا التيار أحسن تمثيل.
14. تفسير محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ)، وقد اخترناه لأنه تفسير معتمد لدى المدرسة الإباضية، بالإضافة إلى توافق ما يذكره مع مدرسة المعتزلة في أكثر المسائل، ولهذا نذكر ما ذكره حتى لو تشابه مع كلام غيره من المفسّرين، لنتعرف على التفسير الإباضي للآيات أو المقاطع التي نذكر تفسيرها.
15. تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل ، وهو لجمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) ، وهو في 9 مجلدات، وقد اخترناه لمحاولته الجمع بين المدرسة السلفية القديمة مع الحديثة، وخاصة التنويرية منها.
16. تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ، وهو لمحمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) ، وهو في 12 مجلدا، وقد اخترناه لترجيحاته القيمة للكثير من المباحث التفسيرية القديمة، بالإضافة إلى اهتمامه بالجوانب الحادثة، وبذلك يمكن اعتباره صلة وصل مهمة بين القديم والحديث، بالإضافة إلى أن الكثير من التفاسير المتأخرة، بل الكثير من الدراسات التنويرية والحركية المتأخرة تأثرت به، ونحب أن ننبه إلى ما ذكره محمد رشيد رضا، اختلط في أحيان كثيرة مع ما ذكره أستاذه محمد عبده، فلذلك لم نهتم كثيرا بالفصل بينهما، باعتبار أن الغرض هو الأقوال لا الضبط في أسماء القائلين خاصة مع تأييد محمد رشيد رضا لكل ما يذكره أستاذه، وفي حال مخالفته له، ننبه إلى ذلك، ونهتم بذكر الاسم بدقة، للحاجة إليه.
17. تفسير المراغي ، وهو لأحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) ، وهو في 30 جزءا، وقد اخترناه لمحاولته تقرير ما ذكرته المدرسة الحديثة في التفسير، وخاصة مدرسة محمد عبده، بالإضافة إلى يسره وسهولته، ولذلك يمكن اعتبار ما ذكره شرحا وتبسيطا لما ذكره غيره، وخصوصا ما ذكره محمد رشيد رضا ومحمد عبده، وهو من أهداف هذه السلسلة، كما ذكرنا ذلك سابقا.
18. في ظلال القرآن ، وهو لسيد قطب (ت 1385 هـ) ، وهو في 6 مجلدات، وقد اخترناه لما يذكره من تأثير القرآن الكريم، والمشاعر المرتبطة به، بالإضافة إلى عرضه الحقائق القرآنية بأسلوب أدبي يساهم في فهمها، والتأثر بها، بالإضافة إلى اهتمامه بالجوانب الاجتماعية والحركية للقرآن الكريم.. بالإضافة إلى كونه المعتمد في التفسير بالدرجة الأولى لدى الحركات الإسلامية السنية، بل حتى الإمامية والزيدية والإباضية لم يروا حرجا في الاستفادة منه، وبذلك هو يمثل نقاط اشتراك كبيرة بين المسلمين.. ونحب أن ننبه هنا إلى الفرق الكبير بين طروحات سيد قطب ـ الذي ينتسب للإخوان المسلمين ـ وبين غيره من طروحات حركية، وخاصة المتأخرة منها، والتي تأثرت بالتيارات الوهابية إبان إيواء السعودية للكثير من قادتها الفكريين.
19. التفسير القرآني للقرآن ، وهو لعبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) ، وهو في 16 جزءا، وقد اخترناه لسهولة أسلوبه ويسره، بالإضافة إلى اهتمامه بالجوانب الاجتماعية، وأحيانا الحركية، بالإضافة إلى ذوقه البياني الخاص، وآرائه التي حاول تطبيقها في القرآن الكريم جميعا، مثل قوله بعد النسخ ونحو ذلك.
20. تفسير التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور ، وهو لمحمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) ، وهو في 30 جزءا، وهو أشبه التفاسير من حيث قيمته العلمية بتفسير الرازي قديما، وتفسير المنار حديثا، وهو يحاول الجمع بين المدارس القديمة والحديثة، بالإضافة إلى قدراته اللغوية الكبيرة، واهتمامه بالمقاصد القرآنية وربطها بمقاصد الشريعة، ولذلك كان لترجيحاته قيمتها البالغة.
21. زهرة التفاسير ، وهو لمحمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) ، وهو في 10 أجزاء، وقد اخترناه للغته السهلة البسيطة، بالإضافة إلى اهتماماته اللغوية والجوانب البيانية في القرآن الكريم، بالإضافة إلى كونه من التفاسير الحديثة التي حاولت تبسيط ما ورد في التفاسير القديمة، بالإضافة إلى كونه من الشيوخ الكبار الذين يمثلون جامعة الأزهر العريقة، واهتمامها بالتقارب والحوار بين المسلمين، ولذلك نرى أكثر الأزاهرة المتأخرين متأثرين به.
22. الميزان في تفسير القرآن ، وهو لمحمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) ، وهو في 20 جزءا، وقد اخترناه لأهميته الكبيرة لدى المفكرين والفلاسفة من الطوائف المختلفة، بالإضافة إلى طريقته في طرح المسائل القديمة بطريقة سهلة يسيرة، ومن خلال العودة للقرآن الكريم نفسه،، وننبه إلى أننا لم نضع في هذا الكتاب من تفسيره إلا ما له علاقة بالتفسير، أما ما عداه، فقد وضعناه في محله من أجزاء السلسلة، وقد رأينا أن الكثير مما طرحه في تفسيره مما قد يعسر فهمه يصبح سهلا يسيرا بعد التعرف على ما ذكره السابقون عليه، أو اللاحقون له.
23. من وحي القرآن ، وهو لمحمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) ، وهو في 25 جزءا، وقد اخترناه للغته الأدبية التي تيسر فهم القرآن الكريم، بالإضافة إلى اهتمامه بالجوانب البيانية والاجتماعية والحركية للقرآن الكريم، بالإضافة إلى كونه وسيلة وصل بين المدرسة الإمامية والمدارس السنية، فالمعتدلون منها لا يرون غضاضة في الرجوع إلى تفسيره، وخاصة وأنه يشبه ما كتبه سيد قطب في الكثير من النواحي.
24. التيسير في التفسير ، وهو لبدر الدين بن أمير الدين مطهر، (ت١٤٣١ هـ) ، وهو في 7 أجزاء، وقد اخترناه لكونه ممثلا للمدرسة الزيدية المتأخرة، بالإضافة إلى كونه التفسير المعتمد لدى اليمنيين المتأخرين، خاصة وأنه والد القائد الشهيد بدر الدين الحوثي، وأخيه السيد عبد الملك، ولذلك نرى المسيرة القرآنية اليمنية تعتبره من مصادرها التفسيرية.
25. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، وهو لناصر مكارم الشيرازي (ولد 1345 هـ) ، وهو في 20 جزءا، وقد اخترناه لكونه من التفاسير التي تجمع بين البساطة والعمق، وسهولة الطرح، وكثرة المسائل المطروحة، بالإضافة إلى أنه من أحسن التفاسير التي حاولت أن ترد على الشبهات والإساءات التي مست المدرسة الإمامية، وكونه أيضا من التفاسير التي يمكن اعتبارها تفاسير حركية، خاصة وأن مؤلفه من كبار الذين جاهدوا وساهموا في نصرة الثورة الإسلامية الإيرانية.
أسس الانتقاء:
بعد أن تعرّفنا على التفاسير التي اعتمدناها، سواء تلك التي تتعلق بالتفسير بالمأثور، أو بغيرها، نذكر هنا الأسس التي اعتمدنا عليها في الانتقاء، وهي:
1. مرجعية التفسير، أي أنه يقدم الذي يكون مرجعا لغيره من التفاسير على غيره، ذلك أن الاطلاع عليه يعني الاطلاع على كل التفاسير التي اعتمدت عليه، ومن الأمثلة على ذلك تفسير الفخر الرازي، والذي بنيت عليه الكثير من التفاسير التي تلته، من أمثال تفسير (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) للبيضاوي، والذي بنيت عليه هو الآخر الكثير من التفاسير.
2. اعتماد التفسير لدى المدرسة التي ينتمي إليها المفسر، ذلك أن من أهداف السلسلة التعرف على مواقف المدارس المختلفة، ولذلك اعتمدنا في المدرسة الإمامية ـ مثلا ـ على تفاسير الطوسي والطبرسي والطباطبائي والشيرازي وجواد مغنية وغيرهم، ولم نعتمد التفسير المنسوب للإمام العسكري، أو القمي، وغيرهما، بناء على كونه غير معتبر لديها، ولذلك في حال ذكر ما ذكراه يكون بناء على ما ذكره مفسرو المدرسة، لا المصادر نفسها.
3. الصياغة وسهولتها ويسرها، ذلك أن من أهداف السلسلة تبسيط المعارف القرآنية، وما ذكره المفسّرون بشأنها، ولذلك كان للصياغة دورها في انتقائنا للتفسير، ومن الأمثلة على ذلك تفاسير المتأخرين، كعبد الكريم الخطيب وتفسير المراغي في المدرسة السنية، وتفسير محمد حسين فضل الله ومحمد جواد مغنية وناصر مكارم الشيرازي في المدرسة الإمامية.. فهذه التفاسير تبسط الكثير من المسائل المطروحة في الكتب القديمة، وطبعا لا تغني عنها.. ومن هذا الباب لم نضع في الكتب التي اعتمدناها تفسير الزمخشري باعتبار أن كل ما ذكره ـ وإن كان متقدما على غيره ـ إلا أنه موجود في تفاسير المتأخرين عنه، مع إضافة ما ذكره الشراح والنقاد تعقيبا عليه.
4. التحقيقات والاهتمام بالمعارف القرآنية، وهو مما يدخل ضمن تدبر القرآن الكريم، والاستفادة منه في كل الشؤون، ومن هذا الباب انتقينا التفاسير المطولة، ومن العصور المختلفة، ومن المدارس المختلفة، باعتبارها تهتم بالتحقيق، وليس بمجرد الفهم السطحي للآيات الكريمة، ومن أمثلتها في التفاسير القديمة تفسير الفخر الرازي والقرطبي، ومن التفاسير الحديثة تفسير الطباطبائي وابن عاشور وغيرهما.
5. الاهتمام بالجوانب الاجتماعية والسياسية والحضارية، ولهذا اعتمدنا التفاسير التي تصنف ضمن هذا التفسير، كتفسير المنار، ومن تأثر به كالمراغي والقاسي، أو تفسير الطباطبائي والشيرازي ومحمد حسين فضل الله وغيرهم.
6. الاهتمام بالجوانب الحركية، ومسؤوليات الأمة، وفهم القرآن الكريم من خلال الواقع، وكيفية تطبيقه، ومن هذا الباب اعتمدنا تفسير سيد قطب ومحمد حسين فضل الله، وغيرهما، ممن يهتم بالجوانب الحركية، وخصوصا المعاصرة منها.
7. الاهتمام بالجوانب البيانية واللغوية في القرآن الكريم، باعتبارها توضح مقصوده، وتبين أسرار إعجازه، ولكنا مع ذلك لم نذكر كل ما ورد في تفاصيل لغوية، وخاصة ما يتعلق بالإعراب منها، باعتبار أن الكثير منها نوع من الحشو والاستطراد، ولذلك اكتفينا بذكر ما يفي بالغرض.
سورة الفاتحة
ننبّه في مقدمة هذه السورة، كما في كل سورة إلى أنّنا قسّمنا السورة إلى مقاطع بحسب معناها، من غير مراعاة لطول المقطع أو قصره، وأنا لم نذكر ما يرتبط بتعريف السورة وفضلها ومواضيعها ونحو ذلك، لأنّا تحدثنا عنه في الكتاب الثاني من هذه السلسلة، وهو (المفسّرون والوحدة الموضوعية للقرآن)، ومثل ذلك حذفنا الإشارات واللطائف والمباحث التي لا علاقة لها مباشرة بالتفسير التحليلي، لأنّا أفردناها بالحديث في سائر كتب السلسلة.
وننبه إلى أننا نذكر ما ذكره المفسّرون بحسب التسلسل التاريخي ابتداء من الصحابة، فما بعدهم، ولم نذكر الأحاديث المرفوعة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضمن الأحاديث التفسيرية، لصلتها في العادة بمواضيع القرآن الكريم، وقد ذكرناها في سلسلة (سنة بلا مذاهب)، بالإضافة إلى أن المفسّرين في العادة يذكرونها، ويذكرون مواقفهم منها(1)..
__________
(1) كرّرنا هذه التنبيهات في كل سورة لأن هناك من لا يطلع على التنبيه الوارد في أول سورة.
1. البسملة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع الأول من سورة الفاتحة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي:
1. روي أنه قام رجل إلى الإمام السجاد، فقال: أخبرني ما معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؟ فقال: حدثني أبي عن أخيه الحسن عن أبيه أمير المؤمنين أن رجلا قام إليه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ما معناه؟ فقال: إن قولك (الله) أعظم اسم من أسماء الله عز وجل؛ وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمي به غير الله، ولم يتسم به مخلوق، فقال الرجل: فما تفسير قوله: الله)؟ قال هو الذي يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه، وتقطع الأسباب من كل من سواه، وذلك أن كل مترئس في هذه الدنيا ومتعظم فيها، وإن عظم غناؤه وطغيانه، وكثرت حوائج من دونه إليه، فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى الله عند ضرورته وفاقته، حتي إذا كفي همه عاد إلى شركه. أما تسمع الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 40 ـ 41]، فقال الله عز وجل لعباده: أيها الفقراء إلى رحمتي، إني قد ألزمتكم الحاجة إلى في كل حال، وذلة العبودية في كل وقت، فإلي فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فإني إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري علي منعكم، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري علي إعطائكم، فأنا أحق من سئل، وأولى من تضرع إليه، فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا يحق العبادة لغيره، المغيث إذا استغيث، المجيب إذا دعي، الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه(1).
2. روي أنه دخل عبد الله بن يحيى على الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تفسير ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؟ قال إن العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملا ويقول ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ : أي بهذا الاسم أعمل هذا العمل، فكل أمر يعمله يبدأ فيه بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فإنه يبارك له فيه(2).
3. روي أنه قال: الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا(3).
4. روي أنه قال: هو الذي اشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته، واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته(4).
__________
(1) التوحيد: ص 230.
(2) التفسير المنسوب إلى العسكري: ص 25.
(3) التوحيد: ص 232.
(4) نهج البلاغة: الخطبة: 90.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنه قيل له: نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ فقال: إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئا، بل اعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء، إن الأسماء صفاتٌ وصف بها نفسه(1).
__________
(1) الكافي: 1/7.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي:
1. روي أنه قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ هو تعظيم لله ﴿الرَّحْمَنُ﴾ بما خلق من الأرض في الأرض، والسّماء في السّماء.. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الجن عالم والإنس عالم، وسوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم.. من الملائكة على الأرض في كل زاوية منها أربعة آلاف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته تبارك وتعالى(1).
2. روي عنه أنه قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ : فإن الله عز وجل دل عباده على أنهم إذا أرادوا قولا أو عملا افتتحوا ببسم الله كما افتتح الله تعالى كلامه، وليجعلوا ذكر اسم الله تعالى استعانة منهم نافعة، وتبركا بالافتتاح باسمه؛ كما قال ابن رواحة(2).:
ببسم الله وبه بدينا... ولو عبدنا غيره شقينا
3. روي أنه قال: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مجازه: ذو الرحمة؛ وكانت العرب لا تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى، ولا تسمي الله تعالى به، وكانوا يقولون لعراف اليمامة: رحمن اليمامة، وكان أهل الكتاب يعلمون أنه من أسماء الله تعالى؛ فلما أنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت قريش: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ [الفرقان: 60]، يقول: إنا لا نعرف هذا الاسم من أسماء الله تعالى، ولا ندعوه بما لا نعرف، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، يقول: فأي ذلك دعوتموه به فهو اسمه وهو حسن.. والرحمن: المنان(2).
4. روي عنه أنه قال: ﴿الرَّحِيمُ﴾، ومجاز الرحيم: الرحمن المترحم الرحيم بعباده، ففي رحمته يتقلبون، وبرحمته ما بأنفسهم من نعمة، وما سخر لهم في السماء والأرض، وما أنزل عليهم من غيث، وما أخرج لهم من معاش.. ومن رحمته بخلقه: أمهلهم في إعطائه، وهم يعبدون به غيره، ومن رحمته: استتابهم من شتمه، وتكذيب كتبه، وقتل رسله، ولم يعجل إهلاكهم على عظيم ما ركبوا؛ فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين الرؤوف الحكيم: الله الذي هو كذلك، لا مثل له من خلقه، وتأويل الرؤوف الرحيم واحد، والكلمة جامعة لكل نعمة في الدنيا.. وتأويل الرحمة من الله لعباده: إغاثة الفقير، والصفح عن الإساءة؛ فالله عز وجل غياث كل مضطر، وخير الغافرين(3).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 76.
(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/7.
(3) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/8.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي:
1. روي أنه قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه، فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته؛ فأولئك هم المؤمنون حقا(1).
2. روي أنه قال ـ في جواب الزنديق حين سأله عن الله: فما هو؟ ـ: هو الرب، وهو المعبود، وهو الله، وليس قولي: الله) إثبات هذه الحروف: ألف ولام وهاء، ولا راء ولا باء، ولكن أرجع إلى معنى وشيء خالق الأشياء وصانعها، ونعت هذه الحروف، وهو المعني سمي به الله، والرحمن، والرحيم، والعزيز، وأشباه ذلك من أسمائه، وهو المعبود جل وعز(2).
3. روي أنه سئل عن اسم الله واشتقاقه، فقال: الله مشتقٌ من إله، والإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد).. قيل: زدني قال: إن لله تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء، وكلها غيره.. الخبز اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسمٌ للمحرق(1).
4. روي أنه قال: أسماء الله تعبيرٌ، وأفعاله تفهيمٌ، وذاته حقيقةٌ(3).
5. روي أنه سئل عن الاسم ما هو؟ فقال: صفة لموصوف(4).
6. روي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن، قال سمعته يقول: وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشإ لكنه المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئا، قلت: أجل جعلني الله فداك، لكنك قلت: الأحد الصمد، وقلت: لا يشبهه شيء، والله واحد والإنسان واحد، أليس قد تشابهت الوحدانية؟ قال يا فتح، أحلت ثبتك الله! إنما التشبيه في المعاني، فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دالة على المسمى، وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحد؛ لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة، ومن ألوانه مختلفة غير واحد، وهو أجزاء مجزأة ليست بسواء؛ دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعني، والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان(5).
__________
(1) الكافي: 1/87.
(2) الكافي: 1/84.
(3) التوحيد: ص 36.
(4) الكافي: 1/113.
(5) الكافي: 1/118.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي:
1. روي أنه سئل عن ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، فقال: معنى قول القائل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي أسم على نفسي سمة من سمات الله عز وجل وهي العبادة، فقيل له: ما السمة؟ فقال: العلامة(1).
2. روي أنه سئل عن ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، فقال: معنى قول القائل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي أسم على نفسي سمة من سمات الله عز وجل وهي العبادة، فقيل له: ما السمة؟ فقال: العلامة(1).
3. روي أنه سئل عن اسم الله واشتقاقه، فقال: الله مشتقٌ من إله، والإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.. قيل: زدني قال إن لله تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء، وكلها غيره.. الخبز اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسمٌ للمحرق(2).
4. روي أنه قال: أسماء الله تعبيرٌ، وأفعاله تفهيمٌ، وذاته حقيقةٌ(3).
__________
(1) التوحيد: ص 229.
(2) الكافي: 1/87.
(3) التوحيد: ص 36.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) في تفسير ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قوله: الله هو الذي يتأله إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من كل من هو دونه، وتقطع الأسباب من جميع ما سواه، يقول: بسم الله؛ أي أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحق العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي، وهو ما قال رجل للصادق: يا ابن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال نعم، قال فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال نعم، قال فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر علي أن يخلصك من ورطتك؟ فقال: نعم، قال الصادق: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلي الإغاثة حيث لا مغيث(1).
__________
(1) التوحيد: ص 230.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير البسملة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ هو: بسم الله يبدأ كل شيء.. ﴿الرَّحْمَنُ﴾ : هو: ذو الرحمة والإحسان.. ﴿الرَّحِيمُ﴾ هو: ذو التعطف بالرحمة والامتنان(1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/133.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ بذكر الله نبدأ، ومعنى ﴿اللَّهُ﴾ هو: الذي تفزع إليه القلوب، وتله ولها إليه، وهو: الشوق عند المهمات، والنوازل والمصائب والملمات؛ قال الكميت بن زيد يمدح آل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
ولهت نفسي الطروب إليهم... ولها حال دون طعم الطعام
يعني بالوله: الشوق.
2. معنى ﴿الرَّحْمَنُ﴾ هو: ذو الرحمة والإحسان، ومعنى ﴿الرَّحِيمُ﴾ مثل تأويل الرحمن، وهو: تأكيد لذكر الرحمة، وزيادة في البيان، وإنما أراد سبحانه: أن يخبر العباد برحمته؛ ليرجوه، ويطيعوه فيما أمرهم، ولا يعصوه.
3. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : مأخوذ من الرحمة للعباد، والمودة لهم للطف والرشاد، لأنه عز وجل أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا، وألطف بنا من أنفسنا، وأنظر لنا في كل أحوالنا، فمن لم يعتقد ما ذكرنا من ذلك فهو كافر من المشركين، لأنه شبه الله أرحم الراحمين بمن لا يرحم ولا يلطف من الكافرين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 1/94.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿بِسْمِ﴾ الباء:
أ. يجوز أن تكون صلة زائدة وإنما هو الله الرحمن الرحيم والمستشهد بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فذكر اسم السلام زيادة، وإنما أراد ثم السلام عليكما.
ب. أو أن تكون (بسم) أصل مقصود.
2. في دخول الباء عليه قولان،
أ. أحدهما أنها دخلت على معنى الأمر.
ب. الثاني أنها دخلت على معنى الخبر.
أما معنى الأمر فتقديره: ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، وأما الثاني: فعلى الإخبار بدأت بسم الله الرحمن الرحيم.
3. حذفت ألف الوصل بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، ولم تحذف من قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق]، لقلة استعماله.
4. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارة.. والصفة: كلمة تدل على الموصوف دلالة إفادة فإن جعلت الصفة اسماً دلت على الأمرين على الإشارة، والإفادة.
5. في اشتقاق الاسم وجهان،
أ. أحدهما، أنه مشتق من السمو وهو الرفعة، لأن الاسم يسمو بصاحبه.
ب. والآخر من السمة وهو العلامة فيرفعه من غيره.
6. قوله: ﴿اللَّهُ﴾ هو أخص أسمائه لأنه لم يتسمَّ به غيره وفيه تأويلان،
أ. أحدهما: أنه اسم عَلَم للذات.
ب. والآخر: أنه اسم مشتق من صفة وأسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات فلم يكن به سن أن يختص باسم ذات يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً له.
7. اشتقاق ﴿اللَّهُ﴾ من (أله)، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام، وفُخّم للتعظيم، وفي اشتقاقه قولان:
أ. أحدهما: أنه من الوله؛ لأن العباد يألهون إليه أي يفزعون إليه في أمورهم فقيل للمألوه إليه: إله؛ كما قيل للمؤتمّ به: إمام..
ب. الثاني: مشتق من الألوهية وهي العبادة من قولهم فلان يتأله أي يتعبد؛ قال رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المبدة... لما رأينني خلق المموه
سبحن واسترجعن من تأله
وقد قيل إن بعض العلماء من آل الرسول قرأ: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾، أي عبادتك.
8. اختلف في هل استحق هذا الاسم لذاته أو هو مشتق من فعل العبادة:
أ. قيل: مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا لم يكن صفة لازمة لذاته لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا منع أن يكون إلهاً لم يزل.
ب. وقيل: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون صفة لازمة لذاته لأنه لم يزل مستحقاً للعبادة، فلم يزل إلهاً، وهذا أصح القولين لأنه لو كان مشتقاً من فعل العبادة لا من استحقاقها لكان عيسى إلهاً، والأصنام آلهة لأن الناس قد عبدوها فصار قولنا على هذا من صفات الذات وهو الأصح، وعلى القول الأول من صفات الفعل.
9. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ اشتقاقه من الرحمة وهي النعمة على المحتاج قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، أي نعمة عليهم، وإنما سميت النعمة رحمة لحدوثها عنها.
10. الرحمن: أشد مبالغة من الرحيم لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم يتعدى معناه ولا يتعدى لفظه، وكذلك تسمى قوم بالرحيم ولم يتسم أحد بالرحمن فكانت الجاهلية تسمي الله تعالى به قال الشنفري:
ألا ضربت تلك الفتاة مجنها... ألا ضرب الرحمن ربي يمينها
وقيل: إن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/16.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. اختلف في قوله: ﴿بِسْمِ﴾ : فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة، وإنما هو الله الرحمن الرحيم، واستشهدوا بقول لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر اسم السّلام زيادة، وإنما أراد: ثم السّلام عليكما.
2. اختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين:
أ. أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين، وهذا قول قطرب..
ب. الثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرّك، وهذا قول الأخفش وذهب الجمهور إلى أن (بسم) أصل مقصود.
3. اختلفوا في معنى دخول الباء عليه ـ فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر ـ على قولين:
أ. أحدهما: دخلت على معنى الأمر، وتقديره: ابدؤوا ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهذا قول الفراء..
ب. الثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهذا قول الزجّاج.
4. حذفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] لقلّة استعماله.
5. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارة، والصفة كلمة تدل على الموصوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسما، دلّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة.. وزعم قوم أن الاسم ذات المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماء الذوات هي الذوات، لكان أسماء الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات.
6. اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين:
أ. أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفرّاء.
ب. الثاني: أنه مشتق من السمو، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجّاج، وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع أمرا فدعه... وجاوزه إلى ما تستطيع
وصله بالدّعاء فكلّ أمر... سما لك أو سموت له ولوع
7. تكلف من راعى معاني الحروف ببسم الله تأويلا، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصودا عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموّه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومنّه، وهذا قول الكلبي..
ب. الثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار.
ج. الثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق.
ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمّن يقتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرته مع بعده حاكيا، لا محققا ليكون الكتاب جامعا لما قيل.
8. يقال لمن قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ بسمل على لغة مولّدة، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها... فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل
9. (الله)، هو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسمّ باسمه الذي هو (الله) غيره.. والتأويل الثاني: أن معناه هل تعلم له شبيها، وهذا أعمّ التأويلين، لأنه يتناول الاسم والفعل.. وحكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى، لأن غيره لا يشاركه فيه.
10. اختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم علم للذات أو اسم مشتقّ من صفة، على قولين:
أ. أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بدّ من أن يختص باسم ذات، يكون علما لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعا.
ب. القول الثاني: أنه مشتق من أله، صار باشتقاقه عند حذف همزه، وتفخيم لفظه الله.
11. اختلفوا فيما اشتق منه (إله) على قولين:
أ. أحدهما: أنه مشتق من الوله، لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في أمورهم، فقيل للمألوه إليه إله، كما قيل للمؤتمّ به إمام.. .
ب. الثاني: أنه مشتق من الألوهية، وهي العبادة، من قولهم فلان يتألّه، أي يتعبد، قال رؤبة بن العجاج:
لله درّ الغانيات المدّه... لمّا رأين خلق المموّه... سبّحن فاسترجعن من تألّه.. أي من تعبد، وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ أي وعبادتك.
12. اختلفوا، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة، أو من استحقاقها، على قولين:
أ. أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا، منع من أن يكون الله تعالى إلها لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود.
ب. الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقّا للعبادة، فلم يزل إلها، وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقّا من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية عيسى عليه السّلام إلها، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل، على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا (إله) على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل.
13. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : هما اسمان من أسماء الله تعالى، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته.
14. اختلف في أصل كلمة الرحمن:
أ. قيل: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشا وهم فطنة العرب وفصحاؤهم، لم يعرفوه حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60]، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير:
أو تتركون إلى القسّين هجرتكم... ومسحكم صلبهم رحمن قربانا
ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدّم الرحمن لمبالغته.
ب. وقيل: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفرى:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها... ألا ضرب الرّحمن ربّي يمينها
15. إذا كان ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، يعني نعمة عليهم، وإنما سميت النعمة رحمة لحدوثها عن الرحمة.
16. الرحمن: أشدّ مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتسمّ أحد بالرحمن، وكانت الجاهلية تسمّي الله تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمّى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحدا لم يتسمّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره، فيكون الفرق في المبالغة، وفرّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم.
17. اختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين:
أ. أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدة، جعل لفظ الرحمن أشدّ مبالغة من الرحيم.. .
ب. الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال:
• أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته.. .
• الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمته لأهل الدنيا دون الآخرة.
• الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلها.
__________
(1) تفسير أبي الحسن الماوردي: 1/48.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : هما اسمان مشتقان من الرحمة، وهي النعمة التي يستحق بها العبادة وهما موضوعان للمبالغة، وفي رحمان خاصة مبالغة يختص الله بها، وقيل ان تلك المزية من حيث فعل النعمة التي يستحق بها العبادة، لا يشاركه في هذا المعنى سواه.
2. الأصل في باب فعل يفعل وفَعِل يفعِل ان يكون اسم الفاعل فاعلا فإن أرادوا المبالغة حملوا على فعلان وفعيل كما قالوا غضب فهو غضبان وسكر فهو سكران إذا امتلأ غضباً وسكراً، وكذلك قالوا: رحم فهو رحمان وخصوه به تعالى لما قلناه، وكذلك قالوا علم فهو عليم ورحم فهو رحيم، وعلى هذا الوجه لا يكونان للتكرار، كقولهم ندمان ونديم، بل التزايد فيه حاصل والاختصاص فيه بيَّن، وقيل في معنى الرحيم: لا يكلف عباده جميع ما يطيقونه فإن الملك لا يوصف بانه رحيم، إذا كلف عبيده جميع ما يطيقونه..
3. إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن وصفه بالرحمن بمنزلة الاسم العلم، من حيث لا يوصف به إلا الله تعالى فصار بذلك كاسم العلم في انه يجب تقديمه على صفته، وورد الأثر بذلك روى ابو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة، وعن بعض التابعين أنه قال: الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين خاصة:
• وجه عموم الرحمن بجميع الخلق هو انشاؤه إياهم وجعلهم احياء قادرين وخلقه فيهم الشهوات، وتمكينهم من المشتهيات، وتعريضهم بالتكليف لعظيم الثواب.
• ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، ما فعل الله تعالى بهم في الدنيا من الألطاف التي لم يفعلها بالكفار، وما يفعله بهم في الآخرة من عظيم الثواب، فهذا وجه الاختصاص.
عن عطاء قال: الرحمن كان يختص الله تعالى به، فلما تسمى مسيلمة بذلك صار الرحمن الرحيم مختصيّن به تعالى، ولا يجتمعان لأحد.. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأن تسمى مسيلمة بذلك لا يخرج الاسم من أن يكون مختصاً به تعالى، لأن المراد بذلك استحقاق هذه الصفة وذلك لا يثبت لأحد، كما أنهم سمو أصنامهم آلهة ولم يخرج بذلك من أن يكون الاله صفة يختص بالوصف به.
4. قال بعضهم إن لفظة الرحمن ليست عربية، وإنما هي ببعض اللغات كقوله تعالى: ﴿بِالْقِسْطَاسِ﴾ فإنها بالرومية، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ إنكاراً منهم لهذا الاسم، حكي ذلك عن تغلب، والصحيح انه معروف واشتقاقه من الرحمة، على ما بينا. قال الشنفري:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها... ألا ضرب الرحمن، ربي، يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوري:
عجلتم عليه قد عجلنا عليكم... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
5. بدأ بالرحمن لما فيه من مبالغة، وما روي عن ابن عباس من انهما اسمان رقيقان أحدهما ارق من الآخر.. فالرحمن الرقيق، والرحيم العطاف على عباده بالرزق محمول على انه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل وبالنعمة بعد النعمة لأنه تعالى لا يوصف برقة القلب.
6. دلت هذه الآية على التوحيد لأن وصفه بالرحمن يقتضي مبالغة في الوصف بالرحمة على وجه يعم جميع الخلق، وذلك لا يقدر عليها غير الله القادر لنفسه، وذلك لا يكون إلا واحداً، ولأن وصفه بالإلهية يفيد انه تحق له العبادة وذلك لا يكون إلا للقادر للنفس.
7. البسملة تدل على العدل لأن وصفه بالرحمة التي وسعت كل شيء، يعم كل محتاج الى الرحمة من مؤمن وكافر وطفل وبالغ من كل حي، وذلك يبطل قول المجبرة الذين قالوا: ليس لله على الكافر نعمة، ولأنها صفة مدح تنافي وصفه بانه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه لان هذا صفة ذم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/29.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. اختلف في اشتقاق الاسم:
أ. قيل: مشتق من السمو، وهو الرفعة، أصله سمو بالواو، لأن جمعه أسماء مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء، وتصغيره سمي قال الراجز: (باسم الذي في كل سورة سمه)، وسمه أيضا، ذكره أبو زيد، وغيره، وهو أصح لأن:
• المحذوف الفاء نحو صلة ووصل، وعدة ووعد، لا تدخله همزة الوصل.
• ولأنه كان يجب أن يقال في تصغيره وسيم، كما يقال وعيدة ووصيلة في تصغير عدة وصلة، والأمر بخلافه.
ب. وقيل: إنه مشتق من الوسم والسمة.
2. ﴿اللَّهُ﴾ اسم لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وذكر سيبويه في أصله قولين:
أ. أحدهما: إنه إلاه على وزن فعال، فحذفت الفاء التي هي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضا لازما عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم، والنداء، في نحو قوله أفألله لتفعلن ويا الله اغفر لي ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم.
ب. الآخر: إن أصله لاه، ووزنه قعل، فالحق به الألف واللام، يدل عليه قول الأعشى: كحلفة من أبي رباح... يسمعها لاهه الكبار.
3. إنما أدخلت على اسم ﴿اللَّهُ﴾ الألف واللام للتفخيم والتعظيم فقط.. ومن زعم أنها للتعريف، فقد أخطأ لأن أسماء الله تعالى معارف، والألف من لاه منقلبة عن ياء، فأصله إليه كقولهم في معناه لهي أبوك.. قال سيبويه: نقلت العين إلى موضع اللام، وجعلت اللام ساكنة إذ صارت في مكان العين، كما كانت العين ساكنة، وتركوا آخر الاسم الذي هو ﴿لَهِيَ﴾ مفتوحا، كما تركوا آخران مفتوحا، وإنما فعلوا ذلك حيث غيروه لكثرته في كلامهم، فغيروا إعرابه كما غيروا بناءه، وهذه دلالة قاطعة لظهور الياء في ﴿لَهِيَ﴾ : والألف على هذا القول منقلبة كما ترى، وفي القول الأول زائدة، لأنها ألف فعال، وتقول العرب أيضا: لاه أبوك، تريد لله أبوك، قال ذو الإصبع العدواني:
لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب... عني، ولا أنت دياني فتخزوني
أي: تسوسني.. وقال سيبويه: حذفوا لام الإضافة واللام الأخرى، ولم ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها، فقد حكى سيبويه من قولهم: الله لأخرجن، يريدون: والله، ومثل ذلك كثير يطول الكلام بذكره.
4. اختلف في اشتقاق اسم ﴿اللَّهُ﴾ :
أ. منهم من قال: إنه اسم موضع غير مشتق، إذ ليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا، لأنه لو وجب ذلك لتسلسل، هذا قول الخليل.
ب. ومنهم من قال: إنه مشتق.
5. من قال باشتقاق اسم ﴿اللَّهُ﴾ اختلفوا في اشتقاقه على وجوه:
أ. قيل: إنه مشتق من الألوهية التي هي العبادة والتأله التعبد، قال رؤبة: لله در الغانيات آلمده، سبحن واسترجعن من تألهي أي: تعبدي.. وقرأ ابن عباس: ويذرك وإلاهتك أي: عبادتك.. ويقال: آله الله فلان إلاهة كما يقال عبده عبادة، فعلى هذا يكون معناه الذي يحق له العبادة، ولذلك لا يسمى به غيره، ويوصف فيما لم يزل بأنه آله.
ب. وقيل: إنه مشتق من الوله: وهو التحير، يقال: آله يأله إذا تحير ـ عن أبي عمرو ـ فمعناه: إنه الذي تتحير العقول في كنه عظمته.
ج. وقيل: إنه مشتق من قولهم ألهت إلى فلان أي: فزعت إليه، لأن الخلق يألهون إليه أي: يفزعون إليه في حوائجهم، فقيل للمألوه: آله، كما يقال للمؤتمّ به: إمام.
د. وقيل: إنه مشتق من ألهت إليه أي: سكنت إليه، عن المبرد، ومعناه: إن الخلق يسكنون إلى ذكره.
هـ. وقيل: إنه من لاه أي: احتجب، فمعناه: إنه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل والأعلام.
6. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ اسمان وضعا للمبالغة، واشتقا من الرحمة، وهي النعمة، إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل، وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: الرحمن: ذو الرحمة، والرحيم: هو الراحم، وكرر لضرب من التأكيد.
7. ما روي عن ابن عباس أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، فالرحمن الرقيق، والرحيم العطاف على عباده بالرزق والنعم، فمحمول على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل، والنعمة بعد النعمة، فعبر عن ذلك بالرقة، لأنه لا يوصف بالرقة.
8. ما حكي عن تغلب أن لفظة الرحمن ليست بعربية، وإنما هي ببعض اللغات مستدلا بقوله تعالى ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ إنكارا منهم لهذا الاسم، فليس بصحيح لأن هذه اللفظة مشهورة عند العرب موجودة في أشعارها، قال الشنفري:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها... ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل: (وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق)
9. الباء في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ حرف جر أصله الإلصاق، والحروف الجارة موضوعة لمعنى المفعولية، ألا ترى أنها توصل الأفعال إلى الأسماء، وتوقعها عليها، فإذا قلت: مررت بزيد، أوقعت الباء المرور على زيد، فالجالب للباء فعل محذوف نحو: إبدأوا بسم الله، أو قولوا: بسم الله، فمحله نصب لأنه مفعول به، وإنما حذف الفعل الناصب، لأن دلالة الحال أغنت عن ذكره، وقيل: إن محل الباء رفع على تقدير مبتدأ محذوف، وتقديره: ابتدائي بسم الله، فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه أي: ابتدائي ثابت بسم الله، أو ثبت، ثم حذف هذا الخبر فأفضى الضمير إلى موضع الباء، وهذا بمنزلة قولك: زيد في الدار، ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر، لأنه مصدر، وإذا تعلقت به صارت من صلته، وبقي المبتدأ بلا خبر.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: المراد به تضمين الاستعانة فتقديره: استعينوا بأن تسموا الله بأسمائه الحسنى، وتصفوه بصفاته العليا، وقيل: المراد استعينوا بالله، ويلتفت إليه قول أبي عبيدة: إن الاسم صلة، والمراد هو الله كقول لبيد:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي ثم السلام عليكما.. والاسم قد يوضع موضع المسمى لما كان المعلق على الاسم ذكرا أو خطابا معلقا على المسمى، تقول: رأيت زيدا، فتعلق الرؤية على الاسم وفي الحقيقة تعلقها بالمسمى، فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى.
ب. وقيل: المراد به ابتدئ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته كرامة أي: إكراما، وأهنته هوانا أي: إهانة، ومنه قول الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني... وبعد عطائك المائة الرتاعا
أي: بعد إعطائك، وقال الآخر:
فإن كان هذا البخل منك سجية... لقد كنت في طولي رجائك أشعبا
أراد في إطالتي رجائك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله، أو أقرأ مبتدئا بتسمية الله، وهذا القول أولى بالصواب، لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله، لا بالخبر عن كبريائه وعظمته، كما أمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح، ألا ترى أن الذابح لو قال: بالله، ولم يقل باسم الله، لكان مخالفا لما امر به.
11. اختلف في معنى الله والإله:
أ. قيل: إنه الذي تحق له العبادة، وإنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها، والإنعام عليها بما يستحق به العبادة، وهو تعالى إله للحيوان والجماد، لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة.
ب. أما من قال: معنى الإله المستحق للعبادة، يلزمه أن لا يكون إلها في الأزل، لأنه لم يفعل الانعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ.
12. إنما قدم ﴿الرَّحْمَنُ﴾ على ﴿الرَّحِيمُ﴾، لأن الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله، فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم، لأنه يطلق عليه وعلى غيره.. وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة.. وعن بعض التابعين قال: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة.
13. ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، هو إنشاؤه إياهم، وخلقهم أحياء قادرين، ورزقه إياهم.. ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام، وغفران الذنوب والآثام، والى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة.. وعن عكرمة قال: الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة.. وهذا المعنى قد اقتبسه من قول الرسول: إن لله عز وجل مائة رحمة، وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون، ويتراحمون، وأخر تسعا وتسعين لنفسه، يرحم بها عباده يوم القيامة، وروي أن الله قابض هذه إلى تلك، فيكملها مائة، يرحم بها عباده يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الفضل بن الحسن الطَبرِسي: 1/93.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. اختلف العلماء في اسم الله الذي هو (الله)؛ فقال قوم: إنه مشتقّ، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتقّ، وفيه عن الخليل روايتان: إحداهما: أنه ليس بمشتقّ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن، والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتقّ.
2. أصل اسم الله في الكلام:
قيل: مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره وأمّنه، فسمي إلها كما يسمّى الرجل إماما.
أ. وقيل: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا: وسادة وإسادة، ووشاح وإشاح، واشتقّ من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾، وكان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما، كما قالوا للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب.
ب. وقيل: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحيّر، لأن القلوب تتحيّر عند التفكّر في عظمته.
ج. حكي عن بعض اللّغويين: أله الرجل يأله إلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة، وروي عن ابن عباس أنه قال: ويذرك وإلاهتك) أي: عبادتك. قال والتّألّه: التّعبّد.
ذهب الجمهور إلى أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مشتقّ من الرحمة، مبنيّ على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها، وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشّبع: شبعان، وقال الخطّابيّ: فـ ﴿الرَّحْمَنُ﴾ : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمّت المؤمن والكافر، و(الرحيم): خاصّ للمؤمنين. قال عزّ وجلّ: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، والرحيم: بمعنى الرّاحم.
__________
(1) زاد المسير: 1/17.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. الباء من ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ متعلقة بمضمر، وهذا المضمر يحتمل أن يكون اسما، وأن يكون فعلا، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدما، وأن يكون متأخرا، فهذه أقسام أربعة:
أ. أما إذا كان متقدما وكان فعلا فكقولك: أبدأ باسم الله.
ب. أما إذا كان متقدما وكان اسما فكقولك: ابتداء الكلام باسم الله.
ج. أما إذا كان متأخرا وكان فعلا فكقولك: باسم الله أبدأ.
د. أما إذا كان متأخرا وكان اسما فكقولك: باسم الله ابتدائي.
2. التقديم والتأخير كلاهما وارد في القرآن، أما التقديم فكقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: 41] وأما التأخير فكقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: 1]، والتقديم أولى، ويدل عليه وجوه:
أ. الأول أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقا على وجود غيره، والسابق بالذات يستحق السبق، في الذكر.
ب. الثاني: قال تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3] وقال: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾، [الروم: 4]
ج. الثالث: أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم.
د. الرابع: أنه قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فههنا الفعل متأخر عن الاسم، فوجب أن يكون في قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ كذلك، فيكون التقدير باسم الله ابتدئ.
3. سبب الجر في البسملة يحصل بشيئين:
أ. أحدهما: بالحرف كما في قوله: باسم.
ب. الثاني: بالإضافة كما في (الله) من قوله: باسم الله)
4. كون الاسم اسما للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى، وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص، فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني، فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى، فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى.
5. قال أبو عبيد: ذكر الاسم في قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ صلة زائدة، والتقدير بالله، قال: وإنما ذكر لفظة الاسم: إما للتبرك، وإما ليكون فرقا بينه وبين القسم.. وكلام أبي عبيد ضعيف، لأنا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا، وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا، فوجب أن يكون المراد أبدأ بذكر الله، والمراد أبدأ ببسم الله، وأيضا فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار، واسمه أشرف الأسماء، فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقا على كل الأذكار، وأن يكون اسمه سابقا على كل الأسماء، وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة.
6. أجمعوا على أن الوقف على قوله: (بسم) ناقص قبيح، وعلى قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أو على قوله: بسم الله الرحمن) كاف صحيح، وعلى قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والوقف لا بد وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، وهو أن يكون ناقصا، أو كافيا أو كاملا، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقا بما قبله يكون كافيا، والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعا عنه يكون وقفا تاما.
7. قوله ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ معناه أبدأ باسم الله، فأسقط منه قوله: (أبدأ) تخفيفاً، فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلًا على الصفح والإحسان.
8. المختار أن هذا اللفظ ﴿اللَّهُ﴾ اسم علم لله تعالى، وأنه ليس بمشتق ألبتة، وهو قول الخليل وسيبويه، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء، ويدل عليه وجوه، وحجج:
أ. لو كان اسم ﴿اللَّهُ﴾ لفظاً مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقاً لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين، ولو كان كذلك لما كان قولنا: لا إله إلا الله) توحيداً حقاً مانعاً من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، لأن بتقدير أن يكون الله لفظاً مشتقاً كان قولنا: الله) غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة، وحينئذ لا يكون قولنا: لا إله إلا الله) موجباً للتوحيد المحض، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا: لا إله إلا الله) يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا: الله) اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة.
ب. من أراد أن يذكر ذاتاً معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولًا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات، مثل أن يقول: زيد الفقيه النحوي الأصولي، إذا عرفت هذا فنقول: إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولًا لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول: الله العالم القادر الحكيم، ولا يعكسون هذا فلا يقولون: العالم القادر الله، وذلك يدل على أن قولنا: الله.
ج. قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم 65] وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ فوجب أن يكون المراد اسم العلم، فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله.
9. سؤال وإشكال: أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؟ [إبراهيم: 1، 2] والجواب: أن هاهنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع، وحينئذ يزول السؤال، لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا: هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل، بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل؟ فقيل عقيبه زيد، ليصير هذا مزيلًا لذلك الاشتباه، ولما لم يلزم هاهنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية.
10. احتج القائلون بأن اسم ﴿اللَّهُ﴾ ليس اسم علم بما يلي:
أ. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأنعام: 3] وقوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 255] فإن قوله: الله) لا بدّ وأن يكون صفة، ولا يجوز أن يكون اسم علم، بدليل أنه لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين: إن الضمير لا يقع موصوفاً ولا صفة، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم.
ب. اسم العلم قائم مقام الإشارة، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعاً في حقه.
ج. اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعاً كان القول بإثبات الاسم العلم محالًا في حقه.
11. الجواب عما احتج به القائلون بأن اسم ﴿اللَّهُ﴾ ليس اسم علم،
أ. عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى أن يقال: هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد؟
ب. عن الثاني والثالث أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشاراً إليه بالحس أم لا.
12. من قالوا بأن اسم ﴿اللَّهُ﴾ مشتق، اختلفوا في اشتقاقه:
أ. قيل: أن الإله هو المعبود، سواء عبد بحق أو بباطل، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق، وعلى هذا التفسير لا يكون إلهاً في الأزل، والجواب أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، والواجب واحد وهو الله تعالى، وما سواه ممكن، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فثبت أن غاية الأنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فإن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى.
ب. وقيل: الإله مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، ويدل لهذا وجوه:
• أن الكمال محبوب لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته، لأن الممكن من حيث هو هو معدوم، والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته، فإذا كان الكامل محبوباً لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوباً لذاته.
• أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه، بل يبقى متعلقاً بغيره، لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه.
وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
ج. وقيل: أنه مشتق من الوله، وهو ذهاب العقل، واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر معرفته، ومحرومون، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو.. وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار، فالأولون بادوا في أودية الظلمات، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات.
د. وقيل: أنه مشتق من لاه إذا ارتفع، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، لأن الواجب لذاته ليس إلا هو، والكامل لذاته ليس إلا هو، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو.. وأيضاً فهو تعالى مرتفع عن أن يقال: إن ارتفاعه بحسب المكان، لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض، لأجل حصوله في ذلك المكان، وما بالذات أشرف مما بالغير، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان.
هـ. وقيل: من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه، فالعبد إذا تفكر فيه تحير، لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه، فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه، لأن كل ما سواه فهو محتاج، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضاً، لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك، فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه.
و. وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، ومعنى كونه محتجباً من وجوه:
• الأول: أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول.
• الثاني: أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها، فحينئذ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس، فكذا هاهنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات، فحينئذ كان يظهر أن نور الوجود منه، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالًا لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره، فلهذا قال بعض المحققين: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز أن يقال: محجوبة لأن المحجوب مقهور، والمقهور يليق بالعبد، أما الحق فقاهر، وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب، والخلق محجوبون.
و. وقيل: من أله الفصيل إذا ولع بأمه، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، ويدل لهذا:
• الأول: أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية، فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيقول بقلبه ولسانه: يا رب، يا رب، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة، وهذا فعل متناقض، لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات، وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات.
• الثاني: أن الخير والراحة مطلوب من الله..
• الثالث: أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان، فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه.
ز. وقيل: أن اشتقاق لفظ (الإله) من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ [المؤمنون: 88] ولأنه هو المنعم لقوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53] ولأنه هو المطعم لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14] ولأنه هو الموجد لقوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: 87] فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه.
13. ذكر بعضهم أن اسم ﴿اللَّهُ﴾ لفظة ليست عربية، بل عبرانية أو سريانية، فإنهم يقولون إلهاً رحماناً ومرحيانا، فلما عرب جعل (الله الرحمن الرحيم).. وهذا بعيد، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25] وقال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65] وأطبقوا على أن المراد منه لفظة (الله):
أ. أما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية، أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث.
ب. أما المنكرون لذلك فلهم قولان:
• قال الكوفيون: أصل هذه اللفظة إلاه، فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم، فصار الإله فحذفت الهمزة استثقالًا، لكثرة جريانها على الألسنة، فاجتمع لامان، فأدغمت الأولى فقالوا: (الله)
• وقال البصريون: أصله لاه، فألحقوا بها الألف واللام فقيل: الله) وأنشدوا: كحلفة من أبي رباح... يسمعها لاهه الكبار فأخرجه على الأصل.
14. قال الخليل: أطبق جميع الخلق على أن قولنا: (الله) مخصوص بالله سبحانه وتعالى، وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى، وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا، أو ينكرونه فيقولون: إله كما قال الله تعالى خبراً عن قوم موسى ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138]
15. ذكر في تفسير ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ مباحث موضوعية، نقلناها إلى الكتاب المرتبطة بها من السلسلة.
__________
(1) تفسير الفخر الرَّازي: 1/100.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿اللَّهُ﴾ هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، لذلك لم يثن ولم يجمع، وهو أحد تأويلي قوله تعالى ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أي من تسمى باسمه الذي هو) الله)، فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه، وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد، وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال، والمعنى واحد.
2. اختلف في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم، وذهب إلى الأول كثير من أهل العلم، واختلفوا في اشتقاقه وأصله:
أ. روى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس، وقيل: أصل الكلمة (لاه) وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه، وأنشد:
لاه ابن عمك لا أفضلت في سب... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ب. وقال الكسائي والفراء: معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ بسم الإله، فخذوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة، كما قال عز وجل: ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ ومعناه، لكن أنا، كذلك قرأها الحسن.
3. اختلف في معناه المشتق منه:
أ. قيل: هو مشتق من (وله) إذا تحير، والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل وله وامرأة والهة وواله، وماء مولة: أرسل في الصحاري. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل (إلاه) و(لاه) وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في أشاح ووشاح، وإسادة ووسادة، وروى عن الخليل.
ب. وروى عن الضحاك أنه قال إنما سمى (الله) إلها لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم، وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال لأن الخلق يألهون إليه (بنصب اللام) ويألهون أيضا (بكسرها) وهما لغتان.
ج. وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت.
د. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تنسك، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ ويذرك وإلاهتك ﴾ على هذه القراءة، فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: لا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله، و(إلا) في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء.
هـ. وزعم بعضهم أن الأصل فيه (الهاء) التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجدا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار (له) ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما.
4. ذهب إلى أن اسم الله موضوع للذات علم، جماعة من العلماء منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفها منه، قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا لله، فدل على أنهما من بنية الاسم.
5. اختلف في اشتقاق اسم ﴿الرَّحْمَنُ﴾ :
أ. قيل: لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ الآية، ولما كتب علي رضى الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال سهيل بن عمرو: أما ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فما ندري ما ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ .
ب. وذهب الجمهور إلى أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثني ولا يجمع كما يثنى (الرحيم) ويجمع. قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته)، وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.
6. زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب (الزاهر) له: أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ اسم عبراني فجاء معه بـ (الرحيم).. وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: (وقال أحمد بن يحيى: الرحيم) عربي و ﴿الرَّحْمَنُ﴾ عبراني، فلهذا جمع بينهما، وهذا القول مرغوب عنه.
7. اختلف في سر الجمع بينهما:
أ. قال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر، وروى مطرف عن قتادة في قوله عز وجل: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال مدح نفسه. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن.
ب. وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.
8. اختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين،
أ. قيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة.
ب. وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للممتلئ غضبا، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس ولا أعرف اسمه، وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
الله يغضب إن تركت سؤله... وبني آدم حين يسأل يغضب
9. روي عن ابن عباس أنهما (اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر)، أي أكثر رحمة، قال الخطابي: وهذا مشكل، لأن الرقة لا مدخل لها في شي من صفات الله تعالى، وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف.
10. أكثر العلماء على أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وقال: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ فأخبر أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ هو المستحق للعبادة جل وعز، وقد تجاسر مسيلمة الكذاب لعنه الله فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كاذبا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به، ألزمه الله إياه، وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم، ذكره ابن العربي.
11. ﴿الرَّحِيمُ﴾ صفة للمخلوقين، ولما في ﴿الرَّحْمَنُ﴾ من العموم قدم في كلامنا على ﴿الرَّحِيمُ﴾ مع موافقة التنزيل، قاله المهدوي، وقيل: إن معنى ﴿الرَّحِيمُ﴾ أي بالرحيم وصلتم إلى الله، فـ ﴿الرَّحِيمُ﴾ نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد نعته تعالى بذلك فقال: ﴿ لرَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن وبالرحيم، أي وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلتم إلى، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/103.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. متعلّق الباء في ﴿بِسْمِ﴾ محذوف وهو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له؛ فمن قدّره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، ومن قدّره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، والإشارة إلى أن البداية به أهمّ لكون التبرك حصل به، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام، ولا يعارضه قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ لأن ذلك المقام مقام القراءة، فكان الأمر بها أهمّ.
2. اختلف أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
3. الباء للاستعانة أو المصاحبة، ورجّح الثاني الزمخشري، واسم أصله سمو حذفت لامه، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن، وهو اللفظ الدالّ على المسمى.
4. ﴿اللَّهُ﴾ علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره، وأصله إله حذفت الهمزة وعوّضت عنها أداة التعريف فلزمت، وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كالنجم والصعق، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، وبعده من الأعلام المختصة.
5. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، وقد تقرّر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وقال ابن الأنباري والزجاج: إن الرحمن عبراني والرحيم عربي وخالفهما غيرهما.
6. الرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزّ وجلّ، وأما قول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، فقال في الكشاف: إنه باب من تعنتهم في كفرهم.. قال أبو عليّ الفارسيّ: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/22.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أتبرَّكُ في كلِّ مباحٍ وعبادَة، ولا تُكتَبُ البسملة في أوَّل ديوان الشعر، إلَّا إن كان عِلمًا، أو وعظًا، أو نفعًا لا محذور فيه شرعًا؛ وأجاز سعيد بن جبير كتابتها في أوَّل ديوان الشعر، ووجدتها مكتوبة في نسخة قديمة بأكثر من خمسمائة عام، من ديوان الشعراء الستَّة، معروضة على أبي عليٍّ السَّلوثين، وأعطى الإجازة فيها لبعض تلامذته، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لو أنَّ أحدَكم قبْل أن يأتيَ أهله قال: بسم الله، اللهمَّ جنِّبنا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رَزَقْتَنا، فإنَّه إن يُقَدَّرْ بينهما ولد لم يَضُرَّه الشيطانُ أبدًا)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (سترُ ما بين الجنِّ وعورات بني آدم، إذا دخلوا الكنيف، أن يقولوا: بسم الله) أو إذا أرادوا الدخول.
2. (الله) مختصٌّ به تعالى، و(الإله) أعمُّ، سواء أقلنا: أصل لفظ (الله) إله أم لا، فلا تَهِمْ، وقرئ بنصب (الرحمن) وجرِّ (الرحيم)، والنصب على تقدير: أَحمَدُ، وسمَّاه أبو حيَّان: عطف توهُّم، أي على طريق التوهُّم وأصاب، ووجه توهُّمه أنَّ الإتباع بعد القطع ضعيفٌ، فلتسميته وجهٌ، ونصَّ هو على ضعف ذلك لاختصاص التوهُّم بالعطف.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/28.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان، أو معنى كعلم وأدب، وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه في آيات فقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، وقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، وقال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه في آيات أخرى فقال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾، وقال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾، ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها.
2. ذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة في كون الفعل معتدا به شرعا، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم.
3. ﴿اللَّهُ﴾ علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، وكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول الله: وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب (لا).. والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق.
4. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ كلاهما مشتق من الرحمة وهي معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه، ويراد منها في جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان، إلا أن لفظ ﴿الرَّحْمَنُ﴾ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهي إسباغ النعم والإحسان، ولفظ ﴿الرَّحِيمُ﴾ يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما، وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة دائمة هي الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم؛ وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/28.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. وصفه ـ سبحانه ـ في البدء بـ ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها، وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم؛ ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن، ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان.
2. مهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
3. إذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي.. فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/22.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ باسم الألوهية يقوم الوجود، وإليه يركن كل موجود.. فكل عوالم الكون مألوهة لله، خاضعة لمشيئته، محفوفة برحمته، ووصف الألوهية بهاتين الصفتين: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ يدل على أن هذا الوجود إنما هو فيض من رحمانية الله ورحمته.
2. الوجود ـ على أية صورة من صوره ـ نعمة وخير، إذا هو قيس بالعدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/18.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. البسملة: صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادّته من حروف جملة أو حروف مركّب إضافيّ، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة، وقد استعمل العرب النحت في النّسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عبشميّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس، وفي النسبة إلى عبد الدار عبدريّ كذلك وإلى حضر موت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسب) إلى المضاف من الأسماء: وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية، قال الراعي: قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ما عونهم ويضيّعوا التهليلا أي لم يتركوا قول: لا إله إلا الله، وقال عمر بن أبي ربيعة: لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ألا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل أي قالت بسم الله فرقا منه، فأصل بسمل قال بسم الله.
2. ثم أطلقه المولدون على قول ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت خليّا من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمن الرحيم، فشاع قولهم بسمل في معنى قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلّل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل، واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول.
3. الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة: بسمل في بسم الله، وسبحل في سبحان الله، وحيعل في حي على الصلاة، وحوقل في لا حول ولا قوة إلا بالله، وحمدل في الحمد لله، وهلّل في لا إله إلا الله، وجيعل إذا قال جعلت فداك، وزاد الطّبقلة في أطال الله بقاءك، والدّمعزة في أدام الله عزك.
4. متعلق المجرور في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ محذوف تقديره هنا أقرأ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنة عند ابتداء الأعمال الصالحة فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما إيجازا اعتمادا على القرينة، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله: ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ [الشعراء: 44]، وذكر صاحب (الكشاف) أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم: باسم اللات باسم العزّى.
5. المجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلّق به وليس ظرفا مستقرا مثل الظروف التي تقع أخبارا، ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلّق العام مثل أبتدئ لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل، ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه، وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموما، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به.
6. هذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرّس (بالرفاء والبنين) وقول المسافر عند حلوله وترحاله (باسم الله والبركات) وقول نساء العرب عندما يزففن العروس (باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون) ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحا.
7. أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كلّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه، والحذف من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق، وإذ قد كان المتعلق محذوفا تعين أن يقدر في موضعه متقدّما على المتعلّق به كما هو أصل الكلام؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحصر، ودعوى صاحب (الكشاف) تقديره مؤخرا تعمق غير مقبول، لا سيما عند حالة الحذف، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل.
8. الباء باء الملابسة والملابسة، هي المصاحبة، وهي الإلصاق أيضا فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: 20] وقولهم: بالرفاء والبنين، وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها، قال سيبويه: الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها، ولذلك قال صاحب (الكشاف): وهذا الوجه (أي الملابسة) أعرب وأحسن) أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى.
9. إنما أقحم لفظ اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شئون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 118] وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119] وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: 1] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيرا وتصرفا من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 74] أمر بأن يقول سبحان الله، وقوله: ﴿وَسَبِّحْهُ﴾ [الإنسان: 26] أمر بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص.
10. استعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ .. وفي الحديث في دعاء الاضطجاع: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ أي قل سبحان الله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1] وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْجُدْ لَهُ﴾ [الإنسان: 26] وقوله في الحديث: اللهم بك نصبح وبك نمسي) أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى: ﴿فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ﴾ أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى ( ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.
11. ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها... يهدى إليّ غرائب الأشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تعرّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]. أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد: (إلى الحول ثم اسم السلام عليكما).. يعني ثم السلام عليكما، وليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجيء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: 26] وكذلك (لفظ) في قول بشار هاجيا:
وكذاك، كان أبوك يؤثر بالهني... ويظل في لفظ النّدى يتردّد
12. قد يطلق الاسم وما في معناه كناية عن وجود المسمى، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ [الرعد: 33] والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضع أسماء لهم.
13. هذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسّرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا ولا تتبعوا طرائق قددا.. وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقولها برسمها، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/136.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. الباء في ﴿بِسْمِ﴾ حرف جر يدل على السببية، وهي مبنية على الكسر ك (لام) الأمر، والمعنى: بسبب اسم الله الذي لا يعبد سواه وأنه الرحمن الرحيم أبتدئ، فهي متعلقة بمحذوف يذكر بعدها، لبيان اختصاص الابتداء أو التبرك باسم الله تعالى، فالتأخير يفيد الاهتمام بمتعلّق الباء ومزيد الاختصاص بالاستعانة والتيمن والتبرك به.
2. البسملة يبدأ بها في كل أمر ذي بال، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فهو أبتر) والفعل الذي تعلقت به الباء محذوف، وكما ذكرنا يقدر مؤخرا؛ لأن المقدم يكون محل التخصيص، ولأن البسملة يبدأ بها كل أمر ذي بال، فإنه يقدر الفعل على حسب ما نبتدئ البسملة.
3. يرى بعض المفسّرين أن يقدر الفعل المحذوف (أبتدئ)؛ لأنه يكون صالحا، لكل أمر ذي بال وشأن، والآخرون قالوا: إنه يقدر في القرآن أتلو أو أقرأ أو أرتل أو نحو ذلك، وبعض العلماء قال إنها في القرآن الكريم في معنى القسم بأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكون على هذا للقسم، ويقدر الفعل ب (أقسم)، والمعنى على ذلك في أول كل سورة اجعل قسمك بالله الرحمن الرحيم أن ما تتلو هو الحق الذي لا ريب فيه، فهو الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
4. ﴿اللَّهُ﴾ هو لفظ الجلالة الدال على أنه وحده له كمال العبودية، واسم الله ـ قال بعض العلماء إنه المراد فيه الذات العلية فهو اسم يعنى المسمى، والمعنى هو القسم بالذات العلية، وقرر بعض العلماء أن الاسم الأعلى هو المقصود بالافتتاح تبركا وتيمنا باسم الذات العلية، ولها المكان الأقدس من العباد تبارك الله، والاسم ذاته يتيمن به ويتبرك، فليس المراد بالاسم الذات؛ لأنها مذكورة، كما قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن]، وقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى] وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا يحتاج إلى تحول من المعنى الأصلي لكلمة الاسم إلى غيره، ولأن إطلاق الاسم على المسمى من قبيل المجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، ولأن قصد الاسم الاسمى ابتداء يفيد معنيين، وهو تقديس الاسم في كلمة بسم الله، وتقديس المسمى وهو الله سبحانه، ولو أطلق الاسم على المسمى، لكان تقديسا للذات العلية من غير إعلاء للاسم في ذاته، ولا شك أن الأول أبلغ تسبيح لله تعالى لقاء التبرك بذكره، والتيمن به سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
5. كلمة ﴿اللَّهُ﴾ تعالى لا تطلق إلا على الذات العلية خالق الكون، ومنشئ الوجود على غير مثال سبق، بديع السموات والأرض، وقالوا: إن أصل كلمة الله: الإله، ثم كان حذف الهمزة، مع تقدير أنها مطوية في الكلام مقدرة فيه، والإله تطلق على المعبود، وتعم المعبود بحق وبغير حق، ولكن كلمة ﴿اللَّهُ﴾ تعالى لا تطلق إلا على المعبود بحق، فيقال: آلهة المشركين، وآلهة الرومان، وآلهة المصريين، ولا يقال: (الله) إلا في مقام أنه الخالق المدبر المنشئ المستحق للعبادة، ولذلك كانت ألفاظ القرآن الكثيرة في مخاطبة المشركين، على أن الله تعالى معروف بأنه المنشئ، وأنه غير آلهتهم، فكانوا يقولون: الآلهة هبل، واللات، والعزى، ومناة الثالثة؛ يقولون عنها إله وآلهة ولا يقولون عن واحدة منها إنه (الله)، لقد قال تعالى عنهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان]، وكان يحتج عليهم بأنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وجدل القرآن الكريم لهم لإلزامهم بالتوحيد بأنهم يعترفون بأن الله تعالى خالق السموات والأرض فهو الجدير وحده بالعبادة، اقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل] ونرى من هذا أن العرب كانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق لكل شيء وما كانوا يطلقون كلمة (الله) إلا على الخالق المدبر المنفرد بالإيجاد والإبداع، وما كانوا يطلقون على آلهتهم كلمة الله، وهذا عرف لغتهم ودلالتها.
6. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : هذان وصفان لله تعالى قرنا في البسملة، وكلاهما يدل على كمال رحمة الله تعالى في ذاته وعلى خلقه، والرحمة رقة في القلب، والله تعالى لا يتصف بذلك؛ لأن هذا من صفات الحوادث، والله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما يراد من الأوصاف التي يتصف بمثلها العباد غايتها، وثمرتها، وثمرة الرحمة الإنعام الكامل، والنفع ودفع الضر، والرزق، وغفران الذنوب، وكلاءة الله تعالى لهم، والقيام على كل ما يمدهم به بالخير والنعمة.
7. الوصفان اقترنا واجتمعا في البسملة، كما اجتمعا في بسملة كتاب سليمان عليه السلام لبلقيس، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وهذه بسملة كبسملة أوائل السور، كما اجتمع الوصفان في آيتين أخريين من آيات القرآن، ففي أول سورة فصلت ذكر للقرآن الكريم، وقال سبحانه عن الذكر ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وجاء في سورة الحشر ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ .
8. لا شك أن الوصفين من أسماء الله الحسنى وصفاته، ولا شك أن لكل منهما معنى قائما بذاته، منفردا به عن الآخر، وعن الزمخشري والزجاج: إن صيغة فعلان من الصيغ التي تدل على الامتلاء، كغضبان، وشبعان، وسكران، وجوعان، فإنها تدل على الامتلاء من الفعل الذي اشتقت منه، فكذلك الرحمن معناها الممتلئ رحمة، ورحيم تدل على الاتصاف بالرحمة التي تليق بذاته العلية من غير امتلاء.. ولذلك يقول الزمخشري ومن تبعه في دراساته البيانية للقرآن الكريم: إن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ أبلغ من (الرحيم)، وإن كان كلامه تعالى كله فوق الكلام البشرى وما ترى فيه من تفاوت، وإن كان كله في أعلى درجات البيان لا يساويه بيان للإنسان.
9. بدراسة اللفظين في القرآن يتبين لنا الفرق بينهما في الاستعمال القرآني السامي في بلاغته إلى ما لا يتسامى إليه كلام بشر، ولا يدانيه شيء من الكلام الإنساني، وعند الاتجاه إلى استقراء الآيات القرآنية نجد القرآن الكريم جمع بين الوصفين في آيتين غير البسملة وقد ذكرتا، وذكر وصف الرحمن منفردا في نحو ستين موضعا من كتاب الله العزيز، وكان يذكر ذلك الوصف السامي غير مضاف إلى فعل من الأفعال، ولا واقع على أحد كقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء] وكقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ [مريم] وقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن] ومثل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف]. وهكذا في نحو ستين آية يذكر وصف الرحمن مجردا من الإضافة إلى شيء أو شخص أو فعل كما يذكر (الله) تعالى، وذكر وصف الرحيم منفردا عن الرحمن في أكثر من ثلاثين ومائة آية، ونجد أنها مضافة إلى رحمته سبحانه وتعالى بالعباد مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة] ومثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ [الحج] ومثل قوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
10. من الفروق بين ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ :
أ. أن وصف الرحمن وصف ذاتي للذات العلية لا يتعلق بفعل ولا بشخص يذكر، ولكنه وصف لله أو اسم له كلفظ الجلالة، ولكنه يشعرنا بالرحمة، كما أنه لفظ يشعر بالألوهية واستحقاق العبادة؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ اسم لله تعالى، وأما (الرحيم) فهو وصف لله تعالى يتعلق برحمته بالعباد المكلفين المخاطبين بشريعته، والذين طلب منهم أن يقوموا بحق الله تعالى في إجابة أوامره، واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقترن كثيرا بالتوبة والمغفرة.
ب. أن الرحمة في ﴿الرَّحْمَنُ﴾ أكثر من (الرحيم)؛ ولذلك قالوا: إن رحمة الرحمن، هي الرحمة بالوجود كله، فبرحمة الرحمن يرزق الله من في السموات والأرض، وبرحمته الواسعة ينزل الغيث، ويرسل الرياح، ومهّد الأرض، وجعل الجبال، وبرحمة الرحمن بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وبرحمة الرحمن جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام]. وهكذا كانت رحمة الرحمن شاملة الوجود كله، والرحيم متعلق في رحمته بالمكلفين.
ج. أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ أكثر رحمة لما في الوصف بالرحمة فيه من شمول يشمل الوجود الإنساني كله، ووصف (الرحيم) خاص بالمكلفين، كما يدل على ذلك سياق اللفظ في القرآن الكريم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/50.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. الأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدئ بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة وهو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، والغرض المحصل منه.
2. ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه وكلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، وهو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن والكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم، وهو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربهم وقد قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
3. ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾، وقوله: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾، وقوله: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾، فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعا قطعا، وسمي كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف والتمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة، ومن هنا نعلم: أن الأغراض والمقاصد المحصلة من السور مختلفة، وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، وعلى هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
4. فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة والمعنى المحصل منه، والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به. وإظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، والأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.
5. التسمية تنعيته باسمه سبحانه وتبريكه به ليكون بذلك خالصا لوجهه الكريم، وتستقرّ معنى العبوديّة في مستقرّها، إذ إثبات العبادة للعبد ينافي كونه عبدا لا يملك لنفسه شيئا، ويتبيّن بذلك معنى ما ورد من الروايات عنهم ـ عليهم السلام ـ فعن عليّ عليه السلام: (يعني بهذا الاسم أقرأ وأعمل هذا العمل)، وفي التوحيد وتفسير الإمام عنه عليه السلام يقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي: أستعين على اموري كلّها بالله الذي لا تحقّ العبادة إلّا له، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي.. وهو إشارة إلى ما ذكرناه آنفا: أنّ التسمية في هذه السورة لتتميم الإخلاص، على ما يقتضيه لفظ الاستعانة الذي لا يستعمل إلّا في مورد يحتاج فيه إلى التتميم دون أصل العمل..
6. في العيون، والمعاني، عن الرضا عليه السلام: يعني اسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة قيل له: ما السمة؟ قال: العلامة.. وهذا معنى كالمتولّد من المعنى الذي أشرنا إليه، فإنّ العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته تعالى.
7. لفظ الجلالة (الله) أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، والظاهر أنه علم بالغلبة، وقد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾، ومما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم ويقال: رحم الله وعلم الله، ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.
8. لما كان وجوده سبحانه، وهو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، وصح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.
9. ﴿الرَّحْمَنُ﴾ فعلان بمعنى كثير الرحمة، والصفات المثبتة له تعالى من المعاني التي نفهمها يجب أن تجرّد عن الخصوصيّات المصداقيّة التي بين أيدينا أعني عن نواقص الإمكان، فهي تثبت له سبحانه بمجرّد معناها من غير تقيّد بقيود المصاديق المادّية، بل الممكنة على ما حقّق في محلّه، والرحمة فينا ميل قلبي من الراحم إلى المرحوم لإصابة الخير إليه وبالتجريد عن خصوصيّات المصاديق هي إيصال الخير إلى المحتاج إليه، والخير هو الوجود، فالرحمة منه سبحانه إفاضة الوجود فهو الغنيّ ذو الرحمة وسعت رحمته كلّ شيء.
10. الاسمان: الرحمن والرحيم) بمعنى واحد إلّا ما يدلّ عليه هيئة الاسمين، فصيغة المبالغة تدلّ على الكثرة، والصفة المشبّهة على الاستقرار والثبوت والدوام، من غير فرق من حيث الظرف كالدنيا والآخرة، ولا من حيث المتعلّق كالمؤمن والكافر، لكنّه سبحانه يستعمل اسم (الرحيم) في كلامه في موارد يختصّ بالمؤمنين، وبـ (الرحمة) من حيث الهداية أو الثواب، كقوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿ وإِنَّ اللهَ بِكُمْ لرَؤُوف رَحِيمٌ ﴾، ومن هنا ما يقال: إنّ الرحمان مختصّ بالدنيا أو عامّ للمؤمن والكافر، والرحيم بالآخرة، وهو الملائم لما تفيده الصفة المشبّهة.
11. بذلك يتبيّن معنى ما في الكافي، والتوحيد، والمعاني، والعيّاشي، عن الصادق عليه السلام في حديث: (والله إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة)، وروي عن عيسى بن مريم عليه السلام: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة). وروي عن الصادق عليه السلام: الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة.. وكأنّه عليه السلام يريد أنّ الرحمن خاصّ بالدنيا ويعمّ المؤمن والكافر، والرحيم يشمل الدنيا والآخرة لكن يختصّ بالمؤمنين والإفاضة الخاصّة بهم، فيرجع إلى ما ذكرناه من المعنى، وقد قال سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ .
12. الرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، وقال: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾، إلى غير ذلك، ولذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوف رَحِيمٌ ﴾، إلى غير ذلك، ولذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمن.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/20.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي: أبتدئ باسم الله، وهذا هو المعنى المتبادر من جوّ الكلمة في متعلّق الجار والمجرور، لأنّ المقصود هو الابتداء باسم الله في إيحاءاته بارتباط الفعل وهو القراءة، أو الانفتاح على المضمون الذي تشتمل عليه السورة في المعاني العامّة التي أراد الله بيانها في تفاصيل آياتها، لأن البداية عندما تكون ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، فإنها تفتح وعي الإنسان على كلام الله النازل من خلال وحيه، مما يجعل من الابتداء باسمه مدخلًا للانفتاح عليه على أساس ما يرمز إليه اسم الله من الذات المقدسة المطلقة التي يرجع إليها الأمر كله، فتكون بداية كل شيء منه ونهايته إليه.
2. كلمة الجلالة (الله) لا تدل إلا على ذاته سبحانه، بالوضع، أو لغلبة الاستعمال، وذلك من خلال التبادر الذي يوحي بذلك. وعلى ضوء هذا، فإن الكلمة تحمل الوضوح الصافي المشرق الذي يجعل التصور في مستوى الحقيقة التي لا مجال فيها للغموض أو الاشتباه، بحيث لا يبقى هناك مجال للحاجة إلى أيّ تأويل أو تفسير، ولذلك كانت كلمة التوحيد: لا إله إلّا الله) تعني الالتزام بالوحدانية من دون حاجة إلى أيّ لفظ آخر يكمل المعنى، لتعيّن المعنى التوحيدي من خلال الكلمة.
3. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ هاتان الكلمتان الدالّتان على وصف واحد هو الرحمة، التي تمثل، في مدلولها الإنساني، حالة انفعال إيجابيّ، تصيب القلب بفعل احتضانه لآلام الآخرين وآمالهم ومشاكلهم، في رعاية محبّبة، وعناية ودودة، وحنان دافق، وتنفذ إلى عمق حاجتهم، إلى العاطفة المنفتحة على كل كيانهم الجائع إلى الحنان الظامئ وإلى الحب المتحرك نحو احتواء الموقف كله. أمّا في الجانب الإلهي، فهي لا تقترب من مشاعر الانفعال الممتنع على الله، لأنه من حالات الجسد المادّي، ولكنها تنطلق في النتائج العملية المنفتحة على وجود الإنسان الذي يمثل وجها من وجوه حركة الرحمة الإلهية لديه، وعلى كل تفاصيل حياته في النعم التي يغدقها الله عليه، وعلى كل مواقع خطاياه التي يغفرها الله له، وعلى كل مجالات حركته العامة أو الخاصة في آلامه ومشاكله ليخفّفها عنه أو ليبعدها عن حياته، وعلى كل تطلعاته في أحلامه، ليحقّقها له، وعلى كل مصيره في الدنيا والآخرة ليجعل السعادة له في دائرة رضوانه في ذلك كله.
4. إن الوجود كله هو مظهر الرحمة الإلهية التي هي صفة من صفات الكمال لله فيما تعبّر عنه من الموقع الرحيم الذي يطل به الله على الوجود وعلى الإنسان في كل مواقعه في داخل طبيعة الوجود وفي عمق حركته، وهذا ما يريد الله في الإنسان أن يتصوره به، ليشعر ـ دائماً ـ بقربه إليه من خلال حركة الرحمة التي وسعت كل شيء، باعتبار أنها تلاحق الإنسان لتضمّد له جراحة، ولتفتح قلبه على الأمل كله والخير كله، ولتعده بمستقبل مشرق كبير، وهذا هو ما يوحي به الدعاء المأثور: اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء.
5. لعل هذا هو الأسلوب التربوي الذي يعمل على تأكيد التصور الإنساني لله من موقع الرحمة، بيبقي قريبا منه في مواقع حاجته إليه، من حيث الأفق الواسع المليء بالعطف والطف والحنان والرضوان.. ولعل هذا الأسلوب أيضا، هو الذي أوجب التعبير عن الرحمة بكلمتين، ليزداد تأكيد هذا المضمون في الوعي الشعوري للإنسان تجاه ربه.
6. إذا كان التأكيد يمثل لونا من التكرار للفكرة، فإنّ الحاجة إليه لا تقتصر على دفع احتمال الاشتباه، كما يقرر النحويون، بل قد تكون المسألة فيه هي الحاجة إلى تعميق المعنى الذي تتضمنه الكلمة بشكل عميق واسع، مما لا يحصل الإنسان عليه بالكلمة الواحدة فلا ينافي ذلك بلاغة القرآن، لأن التأكيد في مدلوله التصويري التعميقي لا يكرّر المعنى بشكل جامد، بل يعمقه بشكل حيّ متحرك.
7. أفاض المفسّرون في توضيح الفرق بين الكلمتين، فذهب بعض منهم إلى أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ هو المنعم بجلائل النعم، وأن ﴿الرَّحِيمُ﴾ هو المنعم بدقائقها، وذهب آخرون إلى أن ﴿الرَّحْمَنُ﴾ هو المنعم على جميع الخلق، وأن ﴿الرَّحِيمُ﴾ هو المنعم على المؤمنين خاصة، وذهب رأي ثالث إلى أن الوصفين بمعنى واحد، وأن الثاني تأكيد للأول.
8. ذكر بعض المفسّرين أن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة، ويعلّق السيد الخوئي (قده) عليه فيقول: وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن، فإن كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شيء، ومما يدلنا على ذلك، أنه لا يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن، كما يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم، أمّا صفة ﴿الرَّحِيمُ﴾ فهي صفة مشبّهة أو صيغة مبالغة، ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة عن الذات كالعليم والقدير والشريف والوضيع والسخي والبخيل والعلي والداني، فالفارق بين الصفتين: أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط، ومما يدلّ على أن الرحمة في كلمة ﴿الرَّحِيمُ﴾ غريزة وسجيّة: أن هذه الكلمة، لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلّا متعدية بالباء، فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]. فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم.
9. هناك وجوه أخرى، ولكنا لا نجد وجها واضحا لهذه الاحتمالات، فهي لم ترتكز إلى دليل واضح.. أمّا ما ذكره أستاذنا المحقق السيد الخوئي ـ قده ـ من دلالة كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ على المبالغة في الرحمة، إمّا لكونها من صيغ المبالغة، كما ذكر البعض، وإمّا لحذف المتعلق مما يفيد العموم، فهو غير واضح، لأنّ دلالتها على المبالغة لم تثبت، وربما كانت ملاحظة ما كان على هذا الوزن من الكلمات الأخرى تدفع ذلك، كما أن حذف المتعلق لا يفيد العموم دائما، فربما كان ذلك من أجل التركيز على المبدأ، أمّا بالنسبة إلى صيغة (فعيل) فقد تستعمل فيما يكون من قبيل الغرائز، ولكنها قد تستعمل في غيره.
10. هناك وجه آخر قد يكون أقرب الوجوه إلى الاعتبار، وهو الذي ذكره بعض المتأخرين؛ وخلاصته أن الوصفين متغايران تمام التغاير، فالرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان، والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعدّيهما إلى المنعم عليه، ويدلّ على هذا أن الرحمن لم تذكر في القرآن إلّا مجرى عليها الصفات كما هو شأن أسماء الذات: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء: 110] ﴿لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الزخرف: 33] ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 91] ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [مريم: 45] ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: 1 ـ 2] ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] وهكذا.. أمّا ﴿الرَّحِيمُ﴾ فقد كثر استعمالها وصفا فعليا، وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه: ﴿ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143] ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43] ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107]، كما جاءت الرحمة كثيرا على هذا الأسلوب: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156] ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: 16]، ولم ير في القرآن تعبير ما برحمانية الله.
11. قد نستطيع التعبير عن هذا الوجه بأن كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ هي صفته في ذاته، بينما ﴿الرَّحِيمُ﴾ تمثل صلّى الله عليه وآله وسلّم﴿ فته في حركة الرحمة في خلقه، ولعلّ هذا هو المتبادر للذهن من موارد استعمالها؛ والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/41.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. قولنا: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ في بداية كلّ عمل يعني (الاستعانة) بالله، ويعني أيضا (البدء) باسم الله، وهذان المعنيان يعودان إلى أصل واحد، وإن عمد بعض المفسّرين إلى التفكيك بينهما وتقدير كل واحد منهما في الكلام، فالمعنيان متلازمان، أي: أبدأ باسم الله وأستعين بذاته المقدّسة.
2. طبيعي أنّ البدء باسم الله الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والاندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإخلاص والنزاهة في الحركة. وهذا رمز آخر للنجاح، حين تبدأ الأعمال باسم الله.
3. كلمة (اسم) أول ما تطالعنا في البسملة من كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من (السموّ) على وزن (العلوّ)، ومعناه الارتفاع، ويفهم أن الشيء بعد التسمية يخرج من مرحلة الخفاء إلى مرحلة البروز والظهور والرقي، أو إنّه يرتفع بالتسمية عن مرحلة الإهمال ويكتسب المعنى والعلو.
4. تجدر الإشارة إلى أنّ البسملة تقتصر على صيغة ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ ولا تقول فيها: باسم الخالق أو باسم الرزاق وما شابهها من الصيغ، والسبب يعود إلى أنّ كلمة (الله) جامعة لكلّ أسماء الله وصفاته. أمّا الأسماء الأخرى لله فتشير إلى قسم من كمالاته كالرحمة والخالقية.
5. بعد كلمة الاسم نلتقي بكلمة (الله) وهي أشمل أسماء ربّ العالمين فكل اسم ورد لله في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من صفات الله، والاسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهية أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو (الله). ولذلك اعتبرت بقية الأسماء صفات لكلمة (الله) مثل: الغفور) و(الرحيم) و(السميع) و(العليم) و(البصير) و(الرزاق) و(ذو القوة) و(المتين) و(الخالق) و(الباري) و(المصوّر).
6. كلمة (الله) هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتّخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ أحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلّا بعبارة (لا إله إلّا الله)، وعبارة (لا إله إلّا القادر.. أو إلّا الخالق.. أو إلّا الرّزّاق) لا تفي بالغرض، ولهذا السبب يشار في الأديان الأخرى إلى معبود المسلمين باسم (الله) فهذه التسمية الشاملة خاصة بالمسلمين.
7. المشهور بين جماعة من المفسّرين أنّ صفة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ تشير إلى الرحمة الإلهية العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات، وكلّ العباد يتمتعون بموهبة الحياة، وينالون حظهم من مائدة نعمه اللامتناهية، وهذه هي رحمته العامة الشاملة لعالم الوجود كافة وما تسبّح فيه من كائنات. وصفة (الرحيم) إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحرم منها المنحرفون والمجرمون.
8. الأمر الذي يشير إلى هذا المعنى أنّ صفة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكنّ صفة (الرحيم) ذكرت أحيانا مقيّدة، لدلالتها الخاصة، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ وأحيانا أخرى مطلقة كما في هذه السّورة، وفي رواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال: والله إله كلّ شيء الرّحمن بجميع خلقه، الرّحيم بالمؤمنين خاصّة.. من جهة أخرى، كلمة ﴿الرَّحْمَنُ﴾ اعتبروها صيغة مبالغة، ولذلك كانت دليلا آخر على عمومية رحمته، واعتبروا (الرحيم) صفة مشبّهة تدلّ على الدوام والثبات، وهي خاصة بالمؤمنين.. وثمّة دليل آخر، هو إنّ ﴿الرَّحْمَنُ﴾ من الأسماء الخاصة بالله، ولا تستعمل لغيره، بينما (الرحيم) صفة تنسب لله ولعباده. فالقرآن وصف بها الرّسول الكريم، حيث قال: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ ﴾. وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق عليه السّلام، فيما روي عنه: الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرّحيم عامّ بصفة خاصّة.
9. مع كل هذا، نجد كلمة (الرحيم) تستعمل أحيانا كوصف عام، وهذا يعني أن التمييز المذكور بين الكلمتين إنما هو في جذور كل منهما، ولا يخلو من استثناء. في دعاء عرفة ـ المنقول عن الحسين بن علي عليه السّلام ـ وردت عبارة: يا رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/28.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. معنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ليس لأحد غير الله فيه شيء.
2. القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وكل سورة منه مبتدأة ببسملة، فمتعلق البسملة من ملك الوحى تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من روح الوحى: اقرأ يا محمد هذه السورة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ على عباده أي اقرأها على أنها منه تعالى لأمنك فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، وعلى هذا كان يقصد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من متعلق البسملة إنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي وعلى أنها منه لا منى فإنما أنا مبلغ عنه عز وجل ﴿ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أتلو الْقُرْآنَ ﴾
3. اختلف في اشتقاق اسم ﴿اللَّهُ﴾ :
أ. قيل: إن لفظ (إله) من أله بمعنى عبد فهو بمعنى معبود ككتاب بمعنى مكتوب، يقال أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية كما يقال عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية فهو صفة بمعنى اسم المفعول(2).
ب. وقيل: هو من أله بمعنى تحير وقيل من وله بمعنى تحير، وهو إذا استشكل من جهة اللفظ لأنه تعالى منزه عن الحيرة يصح أن يقال من جهة المعنى، والمراد أنه سبب الحيرة. لأن الناظرين إذا ارتقوا في سلم أسباب التكوين ينتهون عند درجة الحيرة في معرفة الموجد الأول الذي هو موجود بنفسه لا بسبب ولا علة سابقة عليه، وبه وجد كل ما عداه، لا يستطيعون الوصول إلى حقيقة هذا الموجود العظيم الذي لا يعقل وجود هذه الكائنات الممكنة إلا بوجوده، حتى إن الملاحدة الماديين لما بحثوا في أصل الموجودات، وارتقوا إلى معرفة البسائط التي تركبت منها الكائنات، قالوا إنه لا بد أن يكون لها منشأ وحدة مجهول الذات، ذو قوة وحياة.
4. الحاصل أن اسم الجلالة (الله) علم على ذات الباري سبحانه وتعالى تجرى عليه الصفات ولا يوصف به، ولفظ (الإله) صفة، والجمهور على أن معناه الشرعي المعبود بحق، ولذلك أنكر القرآن عليهم تسمية أصنامهم آلهة، والتحقيق أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها، لا مجرد تسميتها، وقد سماها هو آلهة في قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية.
5. مما يترتب على قولنا أن لفظ الجلالة (الله) علم يوصف ولا يوصف به أن أسماء الله الحسنى صفات تجرى على هذا الاسم العظيم، ولكونها صفات وصفت بالحسنى. قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات فيقال: رحم الله فلانا، ويرحمه الله، واللهم ارحم فلانا، وتضاف إليه مصادرها فيقال رحمة الله وربوبيته ومغفرته ﴿ إِنَّ رَحْمَة الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
6. هذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة، وعلى الذات وجدها أو الصفة بالتضمن، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام، كدلالة الرحمن على الاحسان والانعام، ودلالة الحكيم على الاتقان والنظام، ودلالة الرب على البعث والجزاء، لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى.
7. من عرف الأسماء الحسني، والصفات العليا، عرف أن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع النقائص، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
8. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ مشتقان من الرحمة وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ويحمله على الاحسان إلى غيره، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر، لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الاحسان والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها وهو الاحسان، وقد مشى الجلال في تفسيره وتبعه الصبان على أن الرحمن والرحيم بمعنى واحد، وأن الثاني تأكيد للأول، ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها.
9. لا يجوز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه ان في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتى لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به. نعم قد يكون في معنى الكلمة ما بزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا ولكن الذي لا أجيره هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة. فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمى في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق، وفى العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها.
10. ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك ومعناه هو التأكيد وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها. فالباء في قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ تؤكد معني اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها ومعناها الذي وضعت له، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب وكذلك معنى (من) في قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ونحو ذلك.
11. التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه كتكرار جملة ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ونحوها عقب ذكر كل نعمة، وهي عند التأمل ليست مكررة، فإن معناها عند ذكر كل نعمة: أفبهذه النعمة تكذبان، وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو.
12. الجمهور على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها، وبعضهم يقول إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم هو المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين.. وكل هذا تحكم في اللغة مبنى على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أو دقيقا، وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الاحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا، فهو غير معنى ولا مراد، وقد قارب من قال ان معنى الرحمن المحسن بالإحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال إن الثاني مؤكد للأول على قوله هذا هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة مع عدم التفطن لما هو أحسن منه.
13. صيغة فعلان تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين. فلفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والاحسان؛ ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والاحسان وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكدا للأول، فاذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين، ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهانا عليه.
14. سبق ابن القيم إلى مثل هذه التفرقة ولكنه عكس في دلالة الاسمين الكريمين، قال وأما الجمع بين الرحمن والرحيم، ففيه معنى بديع، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، وكأن الأول الوصف، والثاني الفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، أي صفة فعل له سبحانه، فاذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: ﴿ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ ولم يجيء قط رحمن بهم، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته، (قال رحمه الله تعالى) هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها.. وكرر أذانا (أي إعلاما) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته، فالرحمن الذي الرحمة وصفه، والرحيم الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: ﴿ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوف رَحِيمٌ ﴾ ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين، مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن (فعلان) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به. ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتلئ غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن مليء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول.
15. هذه الأمثلة تؤيد أن صيغة (فعلان) تدل على الصفة العارضة ولا تدل على الدائمة فاحتيج إلى صيغة أخرى تدل على الصفة الثابتة الدائمة وهي صيغة (فعيل) فهذا أقوى ما قيل في نكتة الجمع بين الاسمين الكريمين بالصيغتين، ويليه دلالة أحدهما على الرحمة بالقوة والآخر دلالة عليها بالفعل، وهذا معنى آخر ألمّ به هذان الامامان، ولكن ابن القيم جعل لفظ الرحيم هو الدال على الرحمة بالفعل بدليل الآيتين اللتين أوردهما، ولفظ الرحمن هو الدال عليها بالقوة لعدم تعلق مثل ذلك الظرف به، وهو قوى، وعكس محمد عبده وجعل ذلك من مدلول الصيغة باللزوم.
__________
(1) تفسير المنار: 1/44.
(2) تفسير المنار: 1/46.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره للبسملة ما يلي(1).:
1. ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ المعنى: باسم الله أقرأ، أي هذا كلام الله أقرأه باسمه، ليس كلامي أنا، وعلى هذا فهي تلقين للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته، مثل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وهذا أرجح من تقدير أبتدئ؛ لأنه لو لم يكن المراد إلا الابتداء باسمه تعالى لكان الابتداء الحقيقي به أولى من الإخبار به، كأن يقال: الله الرحمن الرحيم، ولأن القراءة قد ظهرت في ﴿ اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1] ومثله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا﴾ [هود: 41]. وتقول عند الذبح: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي باسم الله أذبح؛ لأنه أحل لي ذبح هذه وبناءً عليه أذبح لا اعتداءً وظلماً، ويظهر أن وجوب التسمية على الذبيحة لإفادتها هذا المعنى، وتقول: باسم الله آكل) أي لأنه نعمته وكذا الشرب واللباس وغيرها و(باسم الله أعمل)؛ لأنه بتيسيره وما خلق لي من القدرة.
2. ﴿اللَّهُ﴾ هو الذي يأله إليه المخلوقون، ويفزعون إليه في المهمات، ويلجؤون إليه عند المصائب، وإياه يعبدون، فمعناه: الإله الذي لا إله إلا هو.
3. ﴿الرَّحْمَنُ﴾ اسم لله يفيد رحمته لعباده والدليل على أنه اسم أن الكفار أنكروه ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60] ولو كان مجرد وصف بالرحمة لما أنكروه كما لم ينكروا الرحيم.
4. ﴿الرَّحِيمُ﴾، وصف لله تعالى، يدل أنه يرحم عباده، ومن رحمته سبحانه إرسال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنزال القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. فالدلالة على رحمته وتكرارها بالاسم والوصف في أوائل السور، فيه فائدة عظيمة، كأنه يقول: استمعوا لكلام الرحمن الرحيم لتشملكم الرحمة إذا اتبعتموه، فإنه أنزله لكم رحمة لكم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/37.
2. الحمدلة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع الثاني من سورة الفاتحة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
أبيّ:
روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) قال: العالمون: الملائكة، وهم ثمانية عشر ألف ملك، منهم أربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمشرق، ومثلها بالمغرب، ومثلها بالكتف الثالث من الدنيا، ومثلها بالكتف الرابع من الدنيا، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله(1).، ولا نرى صحته لحاجة هذا المعنى إلى مصدر معصوم.
__________
(1) الثعلبي: ١/١١١.
كعب:
روي عن كعب الأحبار (ت 32 هـ) قال: لا يحصي عدد العالمين إلا الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١](1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/٥٣.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، هو أن عرف عباده بعض نعمه عليهم، جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها، بالتفصيل، لأنها أكثر من أن تحصى، أو تعرف، فقال لهم قولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ما أنعم به علينا، ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وهم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات، فأما الحيوانات، فهو يقلبها في قدرته، ويغذوها من رزقه، ويحوطها بكنفه، ويدبر كلا منها بمصلحته، وأما الجمادات، فهو يمسكها بقدرته، ويمسك المتصل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض، الا بإذنه، ويمسك الأرض أن تنخسف الا بأمره، انه بعباده رؤوف رحيم(1).
2. روي أنه قال: و ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم اليهم، من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، فالرزق مقسوم، وهو يأتي ابن آدم، على أي سيرة سارها من الدنيا، ليس تقوى متقي، بزائده، ولا فجور فاجر، بناقصه، وبينه وبينه ستر وهو طالبه، فلو أن أحدكم يفر من رزقه، لطلبه رزقه، كما يطلبه الموت، فقال الله ـ جل جلاله ـ: قولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ما أنعم به علينا(1).
3. روي أنه قال: الحمد لله الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تفقد له نعمة(2).
4. روي أنه قال: يوم الدين، هو يوم الحساب، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ألا أخبركم بأكيس الكيسين وأحمق الحمقى؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال أكيس الكيسين، من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت، وإن أحمق الحمقى، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله تعالى الأماني، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، فكيف يحاسب الرجل نفسه؟ قال إذا أصبح ثم أمسى، رجع الى نفسه، فقال: يا نفس، إن هذا يوم مضى عليك، لا يعود إليك، أبدا، والله تعالى يسألك عنه، بما أفنيته وما الذي عملت فيه، أذكرت الله؟ أحمدته؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفست عنه كربته؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ أأعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير، حمد الله تعالى وشكره، على توفيقه، وان ذكر معصية أو تقصيرا، استغفر الله تعالى، وعزم على ترك معاودته، ومحى ذلك عن نفسه(3).
__________
(1) عيون الاخبار: 1/284.
(2) نهج البلاغة: الخطبة: 45.
(3) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص46.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ كلمة الشكر، إذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ قال الله: شكرني عبدي(1).
2. روي أنه قال: الحمد لله هو الشكر، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته، وهدايته، وابتدائه وغير ذلك(1).
3. روي أنّه قال: أنه قال جبريل لمحمد: يا محمد، قل: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، قال ابن عباس: يقول: قل: الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن وما بينهن، مما يعلم ومما لا يعلم، يقول: اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء(2).
4. روي أنه قال: الجن والإنس(2).، ولا نرى صحته، فالعالمون أعم من ذلك بكثير إلا أن يكون ذلك من باب المصاديق التقريبية.
5. روي أنه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا، ثم قال: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: ٣٨]، وقال: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ [طه: ١٠٨]، وقال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: ٢٨](3).
6. روي أنه قال: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إلا من عفا عنه؛ فالأمر أمره، ثم قال: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤](4).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٣٥.
(2) ابن جرير: ١/١٤٥.
(3) ابن جرير: ١/١٥١.
(4) ابن جرير: ١/١٥٨.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنه قال: الإنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم من الملائكة، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته(1).
2. روي أنه قال: الجن عالم، والانس عالم، وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٤٧.
(2) تفسير القرطبي: 1/139.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنه قال: أحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال(1).
2. روي أنه قال: من قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، فقد أدى شكر كل نعمة لله تعالى(2).
3. روي أنه قال: لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسعة رحمة الله(3).
4. روي أنه لما قيل له يوما: إن الحسن البصري قال ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، قال ـ: أنا أقول: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله تعالى!(4).
5. روي عن ابن شهاب الزهري، قال كان علي بن الحسين إذا قرأ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، يكررها حتى كاد أن يموت(5).
__________
(1) تحف العقول: ص 265.
(2) الخصال: 1/299.
(3) أعلام الدين: ص 299.
(4) إعلام الورى: 1/489.
(5) الكافي: 2/602.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أنهم جميع المخلوقات(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/٥٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ كل صنف عالم(1).
2. روي أنه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم يدين الله العباد بأعمالهم(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٤٦.
(2) عبد الرزاق: ١/٣٧.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ): ملك يوم لا ينفع فيه إلا الدين(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/٥٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ثم افتتح بعد أسمائه الحسنى ما وصف به نفسه من الإلهية، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، يقول: الشكر لله على عباده بما أنعم عليهم؛ وشكرهم إياه وحمدهم إياه: طاعتهم إياه فيما أمرهم به ونهاهم عنه.. والكلمة جامعة لكل طاعة ونعمة؛ لأن الحمد: شكر على النعم، فالنعم كلها من الله تعالى، والشكر واجب على الطاعة كلها؛ لأنها بالله كانت؛ فهو أهل أن لا يعصى ولا ينسى(1).
2. روي أنه قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، يقول: الحمد لله لمولى العالمين، والرب هو: المولى، والعالمين: أهل السماوات والأرض، وجميع ما خلق الله تعالى من خلقه، وواحد العالمين: عالم، يقول: فليس لرب العالمين شريك، قال الشاعر:
ما إن رأيت ولا سمعت... بمثلهم في العالمينا
وقد روينا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لله أربعة عشر ألف عالم: الجن والإنس منها عالم واحد(2).
3. روي أنه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أي: هو يملك يوم الدين، كما هو اليوم رب العالمين؛ يخبر: أن الدنيا والآخرة له، وهو ملكهما لا غيره.. والدين هو: الجزاء يوم يدان الناس بعضهم من بعض، ويجازيهم بما كانوا يعملون.. وإنما أخبرنا أنه يدين بعض الخلائق من بعض: يخوفهم بذلك ويحذرهم؛ ليزدجروا ويحذروا، وقد يقال في الأمثال: كما تدين تدان(2).
4. روي أنه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم الحساب والجزاء(3).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/8.
(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/9.
(3) تفسير الإمام زيد، ص 77.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الشكر لله، وفي قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، قال خالق المخلوقين(1).
1. روي أنه قال: من قال أربع مرات، إذا أصبح: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فقد أدى شكر يومه، ومن قالها، إذا أمسى، فقد أدى شكر ليلته(2).
2. روي أنه قال: من عطس ثم وضع يده على قصبة أنفه ثم قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حمدا كثيرا كما هو أهله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، خرج من منخره الأيسر طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب، حتى يصير تحت العرش، يستغفر الله له الى يوم القيامة(3).، ولا نرى صحته.
3. روي أنّه قال: ﴿الرَّحْمَنُ﴾، بجميع خلقه، ﴿الرَّحِيمُ﴾، بالمؤمنين خاصة(1).
4. روي أنه قال ـ في دعاء شهر رجب ـ: يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحننا منه ورحمة(4).
__________
(1) تفسير القمي: 1/28.
(2) الكافي: 2/503.
(3) الكافي: 2/655.
(4) بحار الأنوار: 98/390.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ)، أنه قال: لله ثمانون ألف عالم؛ أربعون ألفا في البحر، وأربعون ألفا في البر(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/٥٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم يدان الناس بالحساب(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٥٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، يعني: الجن، والإنس، مثل قوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١](1).، ولا نرى صحته لحاجة هذا المعنى إلى مصدر معصوم.
2. روي أنّه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، يعني: يوم الحساب، كقوله سبحانه: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ [الصافات: ٥٣]، يعني: لمحاسبون، وذلك أن ملوك الدنيا يملكون في الدنيا، فأخبر سبحانه أنه لا يملك يوم القيامة أحد غيره، فذلك قوله تعالى: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩](1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٦.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: حمد الله ذكر وشكر، وليس شيء يكون ذكرا وشكرا غيره(1).
__________
(1) البيهقي في الشعب: ٤٤٥٧.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنه قال لهشام: اعلم أن الله لم يفرج المحزونين بقدر حزنهم، ولكن بقدر رأفته ورحمته، فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يؤذى فيه، وما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه(1).
__________
(1) تحف العقول: ص 399.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسيره للحمدلة هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، إنما هو أداء لما أوجب الله تعالى على خلقه، من الشكر، وشكر لما وفق عبده من الخير، ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، توحيد له، وتحميد واقرار بأنه هو الخالق المالك، لا غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، استعطاف، وذكر لآلائه ونعمائه، على جميع خلقه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، إقرار له بالبعث والحساب والمجازاة، وإيجاب ملك الآخرة له، كإيجاب ملك الدنيا(1).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 1/203.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. تأويل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هو الشكر لله على نعمه وإحسانه، والتحميد لله والثناء عليه، ومن الحمد قيل: محمود وحميد، كما يقال من الجود: جواد ومجيد.. والله لا شريك له، فهو الذي تأله إليه القلوب، ويستغيث به في كل كرباته المكروب، وإليه يجأر الخلق كلهم جميعا ويألهون، وإياه سبحانه يعبد البررة الأزكياء ويتألهون، دون كل إله ورب ومعبود، وإياه يحمدون في كل نعمة قبل كل محمود.
2. تأويل: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ هو: السيد المليك، الذي ليس معه فيما ملك مالك ولا شريك.. وتأويل قوله سبحانه: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ فيراد به الخلق أجمعون، الباقون منهم والفانون، والأولون منهم والآخرون.
3. تأويل: ﴿الرَّحْمَنُ﴾، هو: ذو الغفران والمن والإحسان.. وتأويل: ﴿الرَّحِيمُ﴾، هو: العفوّ عن الذنب العظيم، والناهي عن الظلم والفساد، لما في ذلك من رحمته للعباد، ضعيفهم وقويهم، وفاجرهم وبرّهم.
4. تأويل ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هو: مالك أمر يوم الدين، الذي لا ينفذ أمر في ذلك اليوم غير أمره، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه، والملك: من الملك، والمالك: من الملك، وهما يقرآن جميعا، وكلاهما معا فلله، فهو يوم الجزاء والثواب والعقاب، وإنما سمي الدين لما يدان أي يجازى، ومعنى يوم الدين هو يوم يدان العاملون أعمالهم، ويجزون يومئذ بهداهم وضلالهم.
__________
(1) مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم الرسّي: 2/69.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ : معنى ﴿مَلِكِ﴾ هو: مالك أمر يوم الدين، لا ينفذ أمرا في ذلك اليوم غير أمره، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه.
2. يوم الدين هو: يوم الجزاء والحساب، والثواب والعقاب، وإنما سمي الدين لما يدان العالمون فيه، ومعنى يدان هو: يجازى.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/134.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. اختلف في ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ :
أ. يحتمل: أن يكون جلّ ثناؤه حمد نفسه؛ ليعلم الخلق استحقاقه الحمد بذاته؛ فيحمدوه، وجاز أن يحمد نفسه، ومثله في الخلق غير محمود لوجهين:
• أحدهما: أنّه استحقّ الحمد بذاته، لا بأحد؛ ليكون في ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى على نفسه؛ ليثنوا عليه، وغيره إنما يكون ذلك له به ـ جل وعزّ ـ فعليه: توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه؛ إذ نفسه لا تستوجبه بها، بل بالله تعالى.
• الثاني: أن الله تعالى حقيق بذلك؛ إذ لا عيب يمسّه، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان في ذلك، ولا هو خاصّ بشيء، والعبد لا يخلو عن عيوب تمسّه، وآفات تحل به، ويمدح بالائتمار، ويذم بتركه، وفى ذلك تمكن النقصان، وحق لمثله الفزع إلى الله، والتضرع إليه؛ ليتغمده برحمته، ويتجاوز عن صنيعه، وعلى ذلك معنى التكبير، نحمد به ربنا ولا نحمد غيره؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم معه تكبّره، إذ هم جميعا أكفاء من طريق المحبّة، والخلق، وما أدرك أحد منهم من فضيلة أو رفعة فبالله أدركه، لا بنفسه؛ فعليه تنزيه الرب، والفزع إليه بالشكر، لا بالتكبر على أمثاله، والله عن هذا الوصف متعال.
ب. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على إضمار الأمر، أي قولوا: الحمد لله؛ لأن الحمد يضاف إلى الله، فلا بد من أن يكون له علينا؛ فأمر بالحمد لذلك، ولذلك وجهين:
• ما روي عن ابن عباس أنه قال: (الحمد لله: أي الشكر لله بما صنع إلى خلقه)، فيخرج تأويل الآية على هذا؛ لأنه ـ على هذا الترتيب ـ على الأمر بتوجيه الشكر إليه، وذلك يتضمن الأمر أيضا بكل الممكن من الطاعة على ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، (أنّه صلّى حتّى تورّمت قدماه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا)، فصيّر أنواع الطاعات شكرا له، فمن أطاع الله ـ تعالى ـ فقد شكر له، فيخرج تأويل الآية على هذا.
• أنه يخرج مخرج الثناء على الله ـ عزّ وجل ـ والمدح له، والوصف بما يستحقه، والتنزيه عما لا يليق به، من توجيه النعم إليه، وقطع الشركة عنه في الإنعام والإفضال على عباده، وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله ربّ العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدى)؛ فجعل الحمد هذا الحرف، وصيّر منه ثناء؛ لوجهين: أحدهما: أنه نسب الربوبية إليه في جميع العالم، وقطعها عن غيره.. الثاني: أنه سمّى ذلك صلاة، والصلاة اسم للثناء والدعاء، وذلك خلاف الذم ونقيضه، وفى الوصف بالبراءة من الذم مدح، وثناء بغاية المدح والثناء.
2. يفرق القول بين الحمد والشكر؛ إذ أمرنا بالشكر للناس بما جاء عن رسول الله عليه السلام: إنّ من لم يشكر النّاس لم يشكر الله) صيره بمعنى المجازاة، والحمد بمعنى الوصف بما هو أهله؛ فلم يستحب الحمد إلا لله.
3. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ العالم: كل من دبّ على وجه الأرض.
4. قد يتوجه: (الربّ) إلى:
أ. الرّبوبية لا إلى السؤدد؛ إذ يستقيم القول برب كل شيء من بنى آدم وغيره، نحو رب السموات والأرضين، ورب العرش ونحوه، وغير مستقيم القول بسيد السموات ونحوه.
ب. وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك؛ إذ كل من ينسب إليه الملك يسمّى أنه مالكه، ولا يسمّى أنه سيد إلا في بنى آدم خاصة.
ج. واسم الرب يجمع ذلك كلّه؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب، وإن احتمل المروى عن ابن عباس إذ هو في الحقيقة سيّد من ذكر وربّهم.
5. اختلف أهل التفسير في العالمين:
أ. منهم من رد إلى كل ذي روح دب على وجه الأرض.
ب. ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأرض وغيرها.
ج. ومنهم من قال لله كذا، كذا عالم.
6. الصحيح ما أجمع عليه أهل الكلام: أن العالمين: اسم لجميع الأنام والخلق جميعا، وقول أهل التفسير يرجع إلى مثله، إلا أنهم ذكروا أسماء الأعلام، وأهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرهم.. ثم العالم اسم للجميع، وكذلك الخلق، ثم تعريف ذلك بالعالمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع، من غير أن يكون في التحقيق تفاوت، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلق كل زمان على حكم تجدد العالم.
7. في ذلك أن الله ـ عزّ وجل ـ ادعى لنفسه: رب العالمين كلهم، من تقدم وتأخر، ومن كان ويكون، ولم يقدر أحد أن ينطق بالتكذيب، يدّعى شيئا من ذلك لنفسه؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره، ولا خالق لشيء من ذلك سواه؛ إذ لا يجوز أن يكون حكيم أو إله ينشئ ويبدع ولا يدعيه، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره، وبنفسه قام ذلك لا بغيره؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ [المؤمنون: 91] فهذا ـ مع ما في اتّساق التدبير، واجتماع التضاد، وتعلق حوائج بعض ببعض، وقيام منافع بعض ببعض، على تباعد بعض من بعض وتضادها ـ دليل واضح على أن مدبر ذلك كله واحد، وأنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مدبّر عليم.
8. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : اسمان مأخوذان من الرحمة، لكنه روى فيهما: رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر، وكأن الذي روى عنه هذا أراد به لطيفان أحدهما ألطف من الآخر، ويدل لذلك:
أ. أحدهما: مجيء الأثر في ذلك ـ اللطيف ـ في أسماء الله تعالى مع ما نطق به الكتاب، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق. ومعنى اللطيف: استخراج الأمور الخفية وظهورها له؛ كقوله: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 16]
ب. الثاني: أن اللطيف حرف يدل على البرّ والعطف، والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة، كما يقال: فلان رقيق القلب، وإذا قيل: فلان لطيف، فإنما يراد به بارّ: عاطف؛ فلذلك يجوز: لطيف، ولا يجوز: رقيق، وكذلك فسر من فسر (الرحمن) بالعاطف على خلقه بالرزق. وذهب بعضهم ـ وهو الأول ـ إلى اللطافة وذلك بعيد، وإنما هو من اللّطف.
9. ما روي عن ابن عباس أن أحدهما أرق من الآخر، إذا عنى بذلك اللطف، فإنه يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: التحقيق بأن اللطف بأحد الحرفين أخص وأليق، وأوفر وأكمل، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال: رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه؛ ولذا ذكر أمته وإن أشركهم في الرزق فيما يراهم غيرهم؛ ألا ترى أنه لا يقال: رحمن بالمؤمنين، وجائز القول: رحيم بهم، وكذلك لا يقال: رحيم بالكافرين، مطلقا!؟
ب. ووجه آخر: أن أحدهما ألطف من الآخر؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف.
10. اسم (الرحمن) هو المخصوص به الله لا يسمى به غيره، و(الرحيم) يجوز تسمية غيره به؛ فلذلك يوصف أن (الرحمن) اسم ذاتي، و(الرحيم) فعلي، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة، ودليل ذلك: إنكار العرب (الرحمن)، ولا أحد منهم أنكر (الرحيم)، حيث قالوا: ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ [الفرقان: 60] وذلك قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾ [الإسراء: 110] يدل على أنّه ذاتيّ لا فعلىّ، وإن كان الفعل صفة الذات؛ إذ محال صفته بغيره؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناء والمدح، وفى ذلك خلق الخلق لنفع الامتداح، وهو عن ذلك متعال، بل بنفسه مستحقّ لكل حمد ومدح، ولا قوة إلا بالله، وروي في خبر القسمة: أن العبد إذا قال الرحمن الرّحيم، قال الله تعالى: أثنى علىّ عبدى، وإذا قال مالك يوم الدين، قال مجدني عبدى)، وذكر أنه قال في الأول: بالتمجيد، وفى الثاني: بالثناء، وذلك واحد؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم والجود، والتمجيد هو الوصف بذلك.
11. قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾،
أ. أجمع على أن أنه يوم الحساب والجزاء، وعلى ذلك القول: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ [الصافات: 53]، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ [النور: 25] وهو الجزاء، ومن ذلك قول الناس: كما تدين تدان.
ب. وجائز أن يكون ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم؛ إذ به يظهر حقيقته، وعظم مرتبته، وجليل موقعه عند ربه.
12. في الآية دلالة وصف الرب بملك ما ليس بموجود لوقت الوصف بملكه، وهو يوم القيامة، ثبت أن الله بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره، ولذلك قلنا: هو خالق لم يزل، ورحيم لم يزل، وجواد لم يزل، وسميع لم يزل ـ وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن ـ وكذلك نقول: هو رب كل شيء، وإله كل شيء في الأزل ـ وإن كانت الأشياء حادثة ـ كما قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وإن كان اليوم بعد غير حادث.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/358.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو أمرٌ أمرَ به جميع المخلوقين أن يكونوا له على نعمه من الحامدين، والحمد هو الشكر شكر الشاكرين، والشكر من العباد لرب العالمين، والعمل بطاعته والتقرب إليه بولايته.
2. الله هو الذي تله إليه القلوب وتتوق إليه، وتطلب عند النوائب ما لديه، قال الكميت بن زيد رحمه الله تعالى:
ولهت نفسي الطروب إليهم... ولهاً حال دون طعم الطعام
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 1/94.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الحمد هو الثناء على الرجل بجميل صفاته وأفعاله، والشكر الثناء عليه بإحسانه وإنعامه، وكل شكر حمد، وليس كل حمد شكراً فهذا فرق ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يحمد الله نفسه ولم يجز أن يشكرها.
2. الفرق بين الحمد والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمداً، ولهذا جاز أن يمدح الله على صفة بأنه عالم قادر، ولم يجز أن نحمده به لأن العلم والقدرة من صفات ذاته لا من صفات فعله، ويجوز أن يمدح ويحمد بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته.
3. قوله عز وجل: ﴿رَبَّ﴾ يحتمل أربعة أوجه:
أ. أحدها: أنه مشتق من المِلْكِ كما يقال: رب الدار أي مالكها.
ب. الثاني: مشتق من السيد لأن السيد يسمى رباً، قال الله عز وجل: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ [يوسف: 41]، أي سيده.
ج. الثالث: أنه المدبر ومنه: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ [المائدة: 44]، أي العلماء وسموا بذلك لقيامهم بتدبير الناس، وقيل: ربة البيت لأنها تدبره.
د. الرابع: أنه مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ [النساء: 23]، وسميت بذلك الربيبة لتربية الزوج لها.
4. إن جعل معنى رب بأنه سيد ومالك كان من صفات الذات، وإن جعل من التدبير للخلق والتربية كان من صفات الفعل.. ومتى أدخلت الألف واللام عليه اختص اللهُ سبحانه به دون عباده، وإن حذفا منه صار مشتركاً بين الله تعالى وبين عباده، وإنما كسر (رب) لأنه وصف الله والوصف يتبع الموصوف.
5. ﴿الْعَالَمِينَ﴾ : جمع عالم لا واحد له من لفظه مثل: رهط، وقوم، ونفر، وأهل كل زمان عالم، قال العجاج: فخندف في هامة هذا العالَم.
6. اختلف في العالم على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن العالم عبارة عمن يعقل من الملائكة والإنس والجن وهو قول جيد.
ب. الثاني: أن العالم الدنيا وما فيها.
ج. الثالث: أن العالم كل ما خلقه الله سبحانه في الدنيا والآخرة، وهذا قول جيد.
7. في اشتقاق العالم وجهان:
أ. أحدهما: أنه مشتق من العلم وهذا تأويل من جعل العالم عبارة عمن يعقل.
ب. الثاني: أنه مشتق من العلامة لأنه دلالة على خالقه وهذا تأويل من جعل العالم اسماً لكل مخلوق.
8. ﴿مَالِكُ﴾، الذي روينا عن عاصم عن عبدالرحمن السلمي عن أمير المؤمنين علي: مالك، وفي اشتقاقه وجهان:
أ. أحدهما: أن اشتقاقهما من قولهم: ملكت العجين إذا عجنته بشدة.
ب. الثاني: أن اشتقاقهما من القدرة قال الشاعر:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها... يرى قائم من دونها ما وراءها
9. الفرق بين المالك والملك من وجهين:
أ. أحدهما: أن المالكَ من كان خاص المِلْك، والملِكَ من كان عام المِلْك.
ب. الثاني: أن المالك من اختص بنفوذ الإمرة.
10. في أيهما أبلغ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الملك أبلغ في المدح من المالك؛ لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، ولأن أمر الملك نافذ على المالك.
ب. الثاني: أن مالك أبلغ من ملك في المدح لأنه قد يكون على من لا يملك كما يقال: ملك العرب وملك الروم وإن لم يكن يملكهم ولا يقال: مالك، وهو مالك إلا وصح ملكه.
ج. الثالث: أن مالك أبلغ في مدح الخلق من ملك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً وإن وصف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته وإن وصف بأنه مالك كان من صفات فعله.
11. ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾، في الدين تأويلان:
أ. أحدهما: أنه الجزاء.
ب. الثاني: الحساب.
12. في أصل الدين في اللغة قولان:
أ. أحدهما: أنه العادة ومنه قول المثقف العبدي:
تقول وقد ذرأت لها وضيني... أهذا دينه أبداً وديني
أي من عادته وعادتي.
ب. الثاني: أن أصل الدين الطاعة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
لئن حللت نحو في بني أسد... في دين عمرو وحالت دوننا فدك
أي في طاعة عمرو، وهذا اليوم هو عبارة عن ضياء يستديم إلى أن يحاسب الله عباده فيستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
13. في اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان
أحدهما: أنه ملك يوم ليس فيه ملك سواه فكان أعظم من ملك الدنيا.
الثاني: أنه لما قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ يريد به ملك الدنيا قال بعده: ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يريد به ملك الآخرة ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/18.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، والشكر الثناء عليه بإنعامه، فكلّ شكر حمد، وليس كلّ حمد شكرا، فهذا فرق ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يحمد الله تعالى نفسه، ولم يجز أن يشكرها.
1. الفرق بين الحمد والمدح، هو أن الحمد لا يستحق إلا على فعل حسن، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، فكلّ حمد مدح وليس كل مدح حمدا، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته، بأنه عالم قادر، ولم يجز أن يحمد به، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته، لا من صفات أفعاله، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته.
2. اختلف في اشتقاق ﴿رَبَّ﴾ على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه مشتق من المالك، كما يقال رب الدار أي مالكها.
ب. الثاني: أنه مشتق من السيد، لأن السيد يسمى ربّا قال تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ [يوسف: 41] يعني سيده.
ج. الثالث: أن الرب المدبّر، ومنه قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ وهم العلماء، سموا ربّانيّين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم، وقيل: ربّة البيت، لأنها تدبره.
د. الرابع: الرب مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، [النساء: 23] فسمى ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها.
3. على هذا، أن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته، وإن قيل لأنه مدبّر لخلقه، ومربّيهم، فذلك صفة من صفات فعله، ومتى أدخلت عليه الألف واللام. اختص الله تعالى به، دون عباده، وإن حذفتا منه، صار مشتركا بين الله وبين عباده.
4. ﴿الْعَالَمِينَ﴾ جمع عالم، لا واحد له من لفظه، مثل: رهط وقوم، وأهل كلّ زمان عالم قال العجاج: فخندف هامة هذا العالم.. واختلف في العالم، على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنّه ما يعقل: من الملائكة، والإنس، والجنّ، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن العالم الدنيا وما فيها.
ج. الثالث: أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا قول أبي إسحاق الزجّاج.
5. اختلفوا في اشتقاقه على وجهين:
أ. أحدهما: أنه مشتق من العلم، وهذا تأويل من جعل العالم اسما لما يعقل.
ب. الثاني: أنه مشتق من العلامة، لأنه دلالة على خالقه، وهذا تأويل من جعل العالم اسما لكلّ مخلوق.
6. قرأ عاصم والكسائي ﴿مَالِكُ﴾ وقرأ الباقون ملك، وفيما اشتقا جميعا منه وجهان:
أ. أحدهما: أن اشتقاقهما من الشدة، من قولهم ملكت العجين، إذا عجنته بشدة. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ﴿ مَلِكِ النَّاسِ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ﴾.
ب. الثاني: أن اشتقاقهما من القدرة، قال الشاعر:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها... يرى قائم من دونها ما وراءها
7. الفرق بين المالك والملك من وجهين:
أ. أحدهما: أن المالك من كان خاصّ الملك، والملك من كان عامّ الملك.
ب. الثاني: أن المالك من اختص بملك الملوك، والملك من اختص بنفوذ الأمر.
8. اختلفوا أيهما أبلغ في المدح، على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الملك أبلغ في المدح من المالك، لأنّ كلّ ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا، ولأن أمر الملك نافذ على المالك.
ب. الثاني: أن مالك أبلغ في المدح من ملك، لأنه قد يكون ملكا على من لا يملك، كما يقال ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، ولا يكون مالكا إلا على من يملك، ولأن الملك يكون على الناس وغيرهم.
ج. الثالث: وهو قول أبي حاتم، أن مالك أبلغ في مدح الخالق من ملك، وملك أبلغ من مدح المخلوق من مالك، والفرق بينهما، أن المالك من المخلوقين، قد يكون غير ملك، وإن كان الله تعالى مالكا كان ملكا، فإن وصف الله تعالى بأنه ملك، كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك، كان من صفات أفعاله.
9. في قوله تعالى: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنه الجزاء.
ب. الثاني: أنه الحساب.
10. في أصل الدين في اللغة قولان:
أ. أحدهما: العادة، ومنه قول المثقّب العبدي:
تقول وقد درأت لها وضيني... أهذا دينه أبدا وديني
أي عادته وعادتي.
ب. الثاني: أنّ أصل الدين الطاعة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
لئن حللت بجوّ في بني أسد... في دين عمرو ومالت بيننا فدك
أي في طاعة عمرو.
11. اختلف في اليوم المراد على قولين:
أ. أحدهما: أنه يوم، ابتداؤه طلوع الفجر، وانتهاؤه غروب الشمس.
ب. الثاني: أنه ضياء، يستديم إلى أن يحاسب الله تعالى جميع خلقه، فيستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
12. في اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان:
أ. أحدهما: أنه يوم ليس فيه ملك سواه، فكان أعظم من ملك الدنيا التي تملكها الملوك، وهذا قول الأصم.
ب. الثاني: أنه لما قال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، يريد به ملك الدنيا، قال بعده: ملك يوم الدّين يريد به ملك الآخرة، ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير أبي الحسن الماوردي: 1/54.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ :
أ. قيل: الشكر للَّه خالصاً دون سائر ما يعبد بما أنعم على عباده من ضروب النعم الدينية والدنياوية.. وهو أصح في اللغة، لأن الحمد والشكر يوضع كل واحد منهما موضع صاحبه.
ب. وقيل: الحمد للّه ثناء عليه بأسمائه وصفاته، وقوله الشكر للَّه ثناء على نعمه وأياديه.
2. يقال: الحمد لله شكراً نصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن في معناه لما نصبه، ودخول الألف واللام فيه لفائدة الاستيعاب، فكأنه قال جميع الحمد لله، لأن التالي مخبر بذلك، ولو نصبه فقال حمداً لله أفاد أن القائل هو الحامد فحسب وليس ذلك المراد، ولذلك اجتمعت القراء على ضم الدال على ما بيناه، والتقدير: قولوا الحمد لله. وإذا كان الحمد هو الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة على ضرب من التعظيم فالمدح ليس من الشكر في شيء وانما هو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد اليه.
3. يطلق الرب في اللغة على عدة معان:
أ. يسمى السيد المطاع رباً، قال لبيد بن ربيعة:
فاهلكن يوماً رب كندة وابنه... ورب معد بين خبت وعرعر
يعني سيد كندة. ومنه قوله تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ يعني سيده ويسمى الرجل المصلح رباً، قال الفرزدق بن غالب:
كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت... سلائها في أديم غير مربوب
يعني غير مصلح، ومنه قيل فلان رب ضيعة إذا كان يحاول إتمامها، والربانيون من هذا من حيث كانوا مدبرين لهم.
ب. اشتق رب من التربية يقال ربيته وربيته بمعنى واحد والربىّ الشاة ولدت حديثاً لأنها تربى.
4. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي المالك لتدبيرهم. والمالك للشيء يسمى ربه ولا يطلق هذا الاسم إلا على اللَّه، وأما في غيره فبقيد فيقال: رب الدار ورب الضيعة، وقيل انه مشتق من التربية ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، ومتى قيل في الله انه رب بمعنى انه سيد فهو من صفات ذاته.. وإذا قيل بمعنى انه مدبر مصلح فهو من صفات الأفعال.
5. العالمين: جمع عالم وعالم لا واحد له من لفظه كالرهط والجيش وغير ذلك، والعالم في عرف اللغة عبارة عن الجماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس ولا يقولون جاءني عالم من البقر وفي عرف الناس عبارة عن جميع المخلوقات وقيل انه ايضاً اسم لكل صنف من الأصناف وأهل كل زمن من كل صنف يسمى عالماً ولذلك جمع. وقيل عالمون لعالم كل زمان. قال العجاج: فخندف هامة هذا العالم.. وهذا قول اكثر المفسرين كابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم.
اشتقاق (العالمين) من العلامة لأنه علامة ودلالة على الصانع تعالى. وقيل انه من العلم ـ على ما روى ابن عباس ـ قال هم صنف من الملائكة والانس والجن لأنه يصح ان يكون كل صنف منهم عالماً.
6. سؤال وإشكال: كيف يجوز ان يقول الحمد لله، والقائل هو الله تعالى وان كان يجب ان يقول الحمد لنا، والجواب: العالي الرتبة إذا خاطب من دونه لا يقول كما يقول للنظير. ألا ترى ان السيد يقول لعبده الواجب ان تطيع سيدك ولا تعصيه، وكذلك يقول الأب لابنه يلزمك أن تبر أباك والمنة لأبيك. والخلفاء يكتبون عن أنفسهم إن أمير المؤمنين رأى كيت وكيت ليقع ذلك موقع إجلال وإكرام وإعظام.. على أنا قد بينا ان المراد بذلك: قولوا الحمد للَّه، وحذف لدلالة الكلام عليه.
7. ﴿مَالِكُ﴾ : هو القادر على التصرف في ماله، وأن يتصرف فيه على وجه ليس لأحدٍ منعه منه، ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم، والملك هو القادر الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير، ويقال ملك بيِّن الملك مضمومة الميم، ومالك بيِّن الملك والملك بفتح الميم وكسرها.. ويقال: هذا ملك فلان إذا كان له التصرف فيه على ما بيناه.
8. من رجح قراءة ملك من حيث انه وصف نفسه بأنه ملك كل شيء بقوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فلا فائدة في تكرير ما قد مضى فقد ابعد لأن في القرآن له نظائر تقدّمها العام وذكر بعد العام الخاص: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ فعمَّ في الأول ثم خص ذكر الإنسان تنبيهاً على تأمل ما فيه من إتقان الصنعة ووجوه الحكمة، كما قال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾، ولذلك نظائر كثيرة.
9. اختلف في أيهما أبلغ:
أ. من الناس من قال: إن ملك ابلغ في المدح من مالك، لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً.
ب. وقال تغلب: إن مالك ابلغ من ملك لأنه قد يكون الملك على من لا يملك، كما يقال ملك الروم وان كان لا يملكهم ولا يكون مالكا إلا على ما يملك.
ج. وقال بعضهم: ان مالك أبلغ في المدح للخالق من ملك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن مالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا.
والأقوى أن يكون مالك أبلغ في المدح فيه تعالى، لأنه ينفرد بالملك ويملك جميع الأشياء فكان أبلغ.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/35.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الحمد والمدح والشكر نظائر، وبين الحمد والشكر فرق؛ لأن نقيض الحمد الذم، ونقيض الشكر الكفر، ولأن الشكر لا يكون إلا على نعمة، والحمد يكون من غير نعمة، وقيل: معنى الحمد والشكر: الاعتراف بنعم المنعم مع اعتقاد بعظمته، والشكر يكون بالقلب وهو الأصل، ويكون باللسان، وقد يجب عند تهمة الجحود، وأصل الحمد: الوصف بالجميل، والحمد مصدر لا يُثَنَّى ولا يجمع، تقول: أعجبني حمدكم زيدًا.
2. ذكر الحمد دون الشكر: لأن الحمد يكون على نعمة وغير نعمة، فنحن نحمده على نعمته علينا، ونحمده على أفعاله الحسنة، وصفاته العلا.
3. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ معنى كلا الاسمين، والفرق بينهما، وبدأ بأولاهما، فقال: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ : المنعم بنعم الدنيا والدين. ﴿الرَّحِيمُ﴾ : واسع الرحمة، كأنه قيل: الأوصاف الجميلة والثناء الحسن كلها للذي يحق له العبادة؛ لكونه قادرًا على أصول النعم، وفاعلاً لها، ولكونه منشئًا للخلق، ومالكًا لهم، رحيمًا بهم.
4. اختلف لما أعاد ذكر الرحمن الرحيم:
أ. قيل: لأن الأول ليس من السورة.
ب. وقيل: الأول للاستعانة، والثاني ليجعل الحمد كله له.
ج. وقيل: للمبالغة.
د. وقيل: في الأول ذَكَرَ العبودية، ووصله بذكر النعم التي يستحق بها العبادة، وههنا ذكر الحمد، فذكر ما به يستحق الحمد من النعم، وليس فيه تكرار.
5. ﴿مَالِكُ﴾ : ملك من المُلك، ومالك من الملك، وأصله من الاشتقاق من الشد والربط، ومنه قول الشاعر: مَلَكْتُ بِهَاَ كفِّي فَأَنهرتُ فَتْقَهَا.. وقيل: من القدرة، والتصريف مطرد على الأصلين، فالَملِك: القادر على ماله أن يصرفه، والمالك: القادر الواسع المقدرة الذي له السياسة والتدبير.
6. ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ : اليوم: اسم لوقت طلوع الشمس إلى غروبها، ويستعمل بمعنى الوقت، يقال: أيام بني العباس، وسمي يوم القيامة؛ لأنه بمقدار يمتد فيه الضياء إلى أن يستقر أهل كل دار فيها.. والدين: الجزاء، والدين: العادة، والدين: ما يدان به، والدين: الحساب، والدين: الانقياد، وقيل: أصله الجزاء من قولهم: كما تدين تدان، وقيل: العادة، كقول الشاعر: أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي؟.
7. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ : لما بين تعالى أنه رب العالمين، وملك الدنيا بَيَّنَ ملكه في الآخرة فقال تعالى ﴿مَالِكُ﴾ يعني القادر ﴿يَوْمُ الدِّينِ ﴾ قيل: أراد باليوم الوقت، وقيل: أراد مقدار الضياء إلى أن يفرغ من القضاء، ويستقر أهل كل دار فيها، ويوم الدين: قيل: يوم الحساب، عن ابن عباس والسدي، وقيل: يوم الجزاء، عن الضحاك، وقتادة، وقيل: يوم الجزاء عن الدين، عن أبي علي، وقيل: يوم القهر، من قولهم: دينته أي قهرته، وقيل: يوم لا ينفع إلا الدين، عن محمد بن كعب(2).
8. خص ذلك اليوم بالذكر:
أ. قيل: تعظيمًا له وتفخيمًا لشأنه، كما قال: ﴿رَبِّ الْعَرْشِ﴾
ب. وقيل: لأنه هناك أملاك الملوك زائلة، والملوك خاضعة، والدعاوي باطلة، فلا حكم إلا له.
ج. وقيل: ذكره ترغيبا في الاستعداد لذلك اليوم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/206.
(2) التهذيب في التفسير: 1/209.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر:
أ. إن الحمد نقيض الذم، كما أن المدح نقيض الهجاء، والشكر نقيض الكفران.
ب. والحمد قد يكون من غير نعمة، والشكر يختص بالنعمة.
2. الحمد يوضع موضع الشكر، ويقال: الحمد لله شكرا، فينصب شكرا على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون بالقلب وهو الأصل، ويكون أيضا باللسان، وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران.
3. المدح هو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه.
4. لكلمة ﴿رَبَّ﴾ معان:
أ. منها: السيد المطاع، كقول لبيد:
وأهلكن قدما رب كندة، وابنه... ورب معد، بين خبت وعرعر
أي سيد كندة.
ب. ومنها: المالك نحو قول النبي لرجل: أرب غنم، أم رب إبل؟ فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب.
ج. ومنها: الصاحب، نحو قول أبي ذؤيب:
قد ناله رب الكلاب بكفه... بيض رهاب ريشهن مقزع
أي: صاحب الكلاب.
د. ومنها: المربب.
هـ. ومنها: المصلح واشتقاقه من التربية يقال: ربيته ورببته بمعنى، وفلان يرب صنيعته: إذا كان ينممها.
5. لا يطلق اسم الرب إلا على الله، ويقيد في غيره، فيقال: رب الدار، ورب الضيعة.
6. ﴿الْعَالِمُونَ﴾ : جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالنفر والجيش وغيرهما، واشتقاقه:
قيل: من العلامة لأنه يدل على صانعه.
وقيل: إنه من العلم، لأنه اسم يقع على ما يعلم.
7. ﴿الْعَالِمُونَ﴾ :
أ. في عرف اللغة: عبارة عن جماعة من العقلاء، لأنهم يقولون: جاءني عالم من الناس، ولا يقولون: جاءني عالم من البقر.
ب. وفي المتعارف بين الناس: هو عبارة عن جميع المخلوقات، وتدل عليه الآية ﴿ قال وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾
ج. وقيل: إنه اسم لكل صنف من الأصناف، وأهل كل قرن من كل صنف يسمى عالما، ولذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان، وهذا قول أكثر المفسرين كابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم.
د. وقيل: العالم نوع ما يعقل وهم الملائكة والجن والإنس.
هـ. وقيل: الجن والإنس لقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ وقيل: هم الإنس لقوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾
8. معنى الآية أن الأوصاف الجميلة، والثناء الحسن، كلها لله الذي تحق له العبادة، لكونه قادرا على أصول النعم، وفاعلا لها، ولكونه منشئا للخلق، ومربيا لهم، ومصلحا لشأنهم، وفي الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه، وفيها تعليم للعباد كيف يحمدونه.
9. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ : إنما أعاد ذكر الرحمن والرحيم للمبالغة، وقال علي بن عيسى الرماني: في الأول ذكر العبودية، فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة، وهاهنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم، فليس فيه تكرار.
10. ﴿الْمُلْكُ﴾ : القادر الواسع المقدرة، الذي له السياسة والتدبير (والمالك): القادر على التصرف في ماله، وله أن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد منعه منه، ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم، يقال: ملك بين الملك بضم الميم، ومالك بين الملك.. والملك بكسر الميم وفتحها، وضم الميم لغة شاذة.. ويقال: طالت مملكتهم الناس، ومملكتهم بكسر اللام وفتحها.. ولي في هذا الوادي ملك، وملك، وملك، ذكرها أبو علي الفارسي، وقال: الملك للشيء اختصاص من المالك به، وخروجه من أن يكون مباحا لغيره.. ومعنى الإباحة في الشيء، كالاتساع فيه، وخلاف الحصر والقصر على الشيء، ألا تراهم قالوا: باح السر، وباحت الدار.
ومحمد بن السري السراج: الملك والملك يرجعان إلى أصل واحد، وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين أي: شددته، قال الشاعر:
ملكت بها كفي، فأنهرت فتقها... يرى قائم من دونها ما وراءها
يقول: شددت بهذه الطعنة كفي.
ومنه الأملاك ومعناه: رباط الرجل بالمرأة.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الدِّينَ﴾ :
أ. قيل: معناه في الآية الجزاء، قال الشاعر: (واعلم بأنك ما تدين تدان) وهو قول سعيد بن جبير، وقتادة.
ب. وقيل: الدين الحساب، وهو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وابن عباس.
ج. وقيل: الدين: الطاعة، قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال... عصينا الملك فيها أن ندينا
د. قيل: الدين: العادة، قال الشاعر:
تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا، وديني
هـ. وقيل: الدين: القهر والاستعلاء، قال الأعشى:
هو دان الرباب إذ كرهوا الدين... دراكا بغزوة، واحتيال
ثم دانت بعد الرباب... وكانت كعذاب عقوبة الأقوال
ويدل على أن المراد به الجزاء والحساب قوله تعالى: ﴿ اليوم تجزى كل نفس ما كسبت واليوم تجزون ما كنتم تعملون ﴾
12. لما بين الله تعالى ملكه في الدنيا بقوله رب العالمين، بين أيضا ملكه في الآخرة بقوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وأراد باليوم:
أ. قيل: الوقت.
ب. وقيل: أراد به امتداد الضياء إلى أن يفرغ من القضاء، ويستقر أهل كل دار فيها.
ج. وقال أبو علي الجبائي: أراد به يوم الجزاء على الدين.
د. وقال محمد بن كعب: أراد يوم لا ينفع إلا الدين، وإنما خص يوم القيامة بذكر الملك فيه تعظيما لشأنه، وتفخيما لأمره، كما قال: رب العرش.
13. هذه الآية دالة على إثبات المعاد، وعلى الترغيب والترهيب، لأن المكلف إذا تصور ذلك لا بد أن يرجو، ويخاف.
14. قراءات ووجوه:
أ. أجمع القراء على ضم الدال من الحمد، وكسر اللام من ﴿لِلَّهِ﴾، وروي قي الشواذ بكسر الدال واللام، وبفتح الدال وكسر اللام، وبضم الدال واللام.. وأجمعوا على كسر الباء من ﴿رَبَّ﴾، وروي عن زيد بن علي نصب الباء، ويحمل على أنه بين جوازه لا أنه قراءة.
ب. اختلفوا في أن أي القراءتين لقوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أمدح:
• فمن قرأ ﴿مَالِكُ﴾ قال: إن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون مالكا للشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملكا للشيء ولا يملكه، كما يقال: ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم.. وقد يدخل في المالك ما لا يصح دخوله في الملك، يقال: فلان مالك الدراهم، ولا يقال ملك الدراهم.. فالوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك.. والله مالك كل شيء، وقد وصف نفسه بأنه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء والمدح من وصفه بالملك.. يشهد لمن قرأ ﴿مَالِكُ﴾ من التنزيل قوله تعالى: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ لأن قولك الأمر له، وهو مالك الأمر، بمعنى، ألا ترى أن لام الجر معناها الملك والاستحقاق، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ يقوي ذلك.
• ومن قرأ ﴿الْمُلْكُ﴾ قال: إن هذه الصفة أمدح، لأنه لا يكون إلا مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير، واختاره أبو بكر محمد بن السري السراج، وقال: إن الملك الذي يملك الكثير من الأشياء، ويشارك غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه، وكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، وإنما قال تعالى ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ لأنه تعالى يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، فمعناه أنه يملك ملك الدنيا فيؤتي الملك فيها من يشاء.. ويوم الدين ليس إلا ملكه، وهو ملك الملوك يملكهم كلهم، وقد يستعمل هذا في الناس يقال: فلان ملك الملوك، وأمير الأمراء، ويراد بذلك أن من دونه ملوكا وأمراء، ولا يقال ملك الملك، ولا أمير الإمارة، لأن أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، فلا معنى لإضافتها إلى المصدر.. فأما إضافة ملك إلى الزمان، فكما يقال: ملك عام كذا، وملوك الدهر الأول، وملك زمانه، وسيد زمانه، فهو في المدح أبلغ، والآية إنما نزلت في الثناء والمدح لله، الا ترى إلى قوله ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ والربوبية والملك متشابهان.. ويشهد لقراءة من قرأ ﴿مَلِكِ﴾ قوله تعالى ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ لأن اسم الفاعل من الملك الملك، فإذا قال الملك له ذات اليوم، كان بمنزلة قوله هو ملك ذلك اليوم، وهذا مع قوله ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾، و ﴿الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ﴾، و ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾
15. مسائل نحوية:
أ. ﴿الْحَمْدُ﴾ رفع بالابتداء، والابتداء عامل معنوي غير ملفوظ به، وهو خلو الاسم عن العوامل اللفظية، ليسند إليه خبر، وخبره في الأصل جملة هي فعل مسند إلى ضمير المبتدأ، وتقديره: الحمد حق، أو استقر لله، إلا أنه قد استغنى عن ذكرها لدلالة قوله لله عليها، فانتقل الضمير منها إليه، حيث سد مسدها، وتسمى هذه جملة ظرفية، هذا قول الأخفش، وأبي علي الفارسي.. وأصل اللام للتحقيق والملك، وأما من نصب الدال فعلى المصدر تقديره: أحمد الحمد لله، أو أجعل الحمد لله، إلا أن الرفع بالحمد أقوى وأمدح، لأن معناه الحمد وجب لله أو استقر لله، وهذا يقتضي العموم لجميع الخلق.
ب. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ : مجرور على الصفة، والعامل في الصفة:
• عند أبي الحسن الأخفش كونه صفة، فذلك الذي يرفعه وينصبه ويجره، وهو عامل معنوي، كما أن المبتدأ إنما رفعه الابتداء، وهو معنى عمل فيه.. واستدل على أن الصفة لا يعمل فيه ما يعمل في الموصوف:
ـ أنك تجد في الصفات ما يخالف الموصوف في إعرابه، نحو: أيا زيد العاقل، لأن المنادى مبني، والعاقل الذي هو صفته معرب.
ـ ودليل ثان: وهو أن في هذه التوابع ما يعرب بإعراب ما يتبعه، ولا يصح أن يعمل فيه ما يعمل في موصوفه، وذلك نحو: أجمع وجمع وجمعاء.. ولما صح وجوب هذا فيها، دل على أن الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة لاجتماعهما في أنهما تابعان.
• وقال غيره من النحويين: العامل في الموصوف هو العامل في الصفة، ومن نصب ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فإنما ينصبه على المدح والثناء، كأنه لما قال الحمد لله، استدلّ بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله، فكأنه قال اذكر رب العالمين.. فعلى هذا لو قرئ في غير القرآن رب العالمين مرفوعا على المدح أيضا لكان جائزا، على معنى هو رب العالمين.
ج. ﴿مَالِكُ﴾ : مجرور على الوصف لله تعالى، وما جاء من النصب فعلى ما ذكرناه من نصب رب العالمين.. ويجوز أن ينصب رب العالمين، ومالك يوم الدين، على النداء، كأنك قلت: لك الحمد يا رب العالمين، ويا مالك يوم الدين..
د. إنما خص يوم الدين بذلك لتفرده تعالى بذلك في ذلك اليوم، وجميع الخلق يضطرون إلى الاقرار والتسليم.. وأما الدنيا فليست كذلك، فقد يحكم فيها ملوك ورؤساء، وليست هذه الإضافة مثل قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، وليست مفعولا بها على السعة، لأن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف، ولو كانت الساعة ظرفا لكان المعنى يعلم في الساعة، وذلك لا يجوز لأنه تعالى يعلم في كل وقت والمعنى أنه يعلم الساعة أي: يعرفها.
__________
(1) تفسير الفضل بن الحسن الطَبرِسي: 1/95.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقا، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلّا في مقابلة النعمة.. وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد للّه، وقال ابن قتيبة: (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك، والشكر: الثناء عليه بمعروف أو لاكه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته.
1. (الرّبّ) هو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة، فيقال: هذا ربّ الدار، وربّ العبد، وقيل: هو مأخوذ من التّربية، قال شيخنا أبو منصور اللغويّ: يقال: ربّ فلان صنيعته يربّها ربّا: إذا أتمّها وأصلحها، فهو ربّ ورابّ. قال الشاعر:
يربّ الذي يأتي من الخير إنه... إذا سئل المعروف زاد وتمّما
2. يقال (الرّبّ) على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: المالك، يقال: ربّ الدار.
ب. الثاني: المصلح، يقال: ربّ الشيء.
ج. الثالث: السّيد المطاع. قال تعالى: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ .
3. في اشتقاق (العالم) قولان:
أ. أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوّي قول أهل اللغة.
ب. الثاني: أنه من العلامة، وهو يقوّي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمّي عندهم بذلك، لأنه دالّ على خالقه.
4. للمفسّرين في المراد ب (العالمين) هاهنا خمسة أقول:
أ. أحدها: الخلق كلّه، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهنّ. رواه الضحّاك عن ابن عباس.
ب. الثاني: كلّ ذي روح دبّ على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنهم الجنّ والإنس. روي أيضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل.
د. الرابع: أنهم الجنّ والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة.
هـ. الخامس: أنّهم الملائكة، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا.
5. في (الدّين) في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الحساب. قاله ابن مسعود.
ب. الثاني: الجزاء. قاله ابن عباس.
6. لما أخبر الله عزّ وجلّ في قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أنه مالك الدنيا دلّ بقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ على أنه مالك الأخرى، وقيل: إنما خصّ يوم الدّين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.
__________
(1) زاد المسير: 1/19.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الفرق بين الحمد والمدح من وجوه:
أ. الأول: أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها، ويستحيل أن يحمدها، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
ب. الثاني: المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان.
ج. الثالث: المدح قد يكون منهياً عنه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: احثوا التراب في وجوه المدّاحين أما الحمد فإنه مأمور به مطلقاً، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من لم يحمد الناس لم يحمد الله.
د. الرابع: المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصاً بنوع من أنواع الفضائل، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصاً بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان.
فثبت بهذا أن المدح أعم من الحمد.
2. الفرق بين الحمد وبين الشكر: هو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك.
3. المدح حاصل للحي ولغير الحي، وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلًا مختاراً، أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختاراً.. فقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يدل على كون هذا القائل مقراً بأن إله العالم ليس موجباً بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار.
4. صيغة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أولى من قوله الشكر لله لأن قوله صيغة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل، ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كأن العبد يقول: سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين، وأنت مستحق للحمد العظيم.
5. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أبلغ من (أحمد الله) بوجوه:
أ. أحدها: أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده أما لما قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
ب. ثانيها: أن قولنا الحمد للّه، معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد، فقولنا: الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقاً للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحد حمده.
ج. ثالثها: أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمداً يليق به، وأما إذا قال الحمد لله فكأنه قال من أنا حتى أحمده؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين، مثاله ما لو سئلت: هل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت: نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً، ولو قلت في الجواب: بل نعمه على كل الخلائق، فقد حمدته بأكمل المحامد.
د. رابعها: أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلًا منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال، فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلًا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً، لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك، أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلًا أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلًا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن.
6. اللام في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، تحتمل وجوهاً:
أ. أحدها: الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس.
ب. ثانيها: الملك كقولك الدار لزيد.
ج. ثالثها: القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان.
واللام في قول ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه.. وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده.
7. الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، وفيه قولان:
أ. الأول: أنه إن كان مسبوقاً بمعهود سابق انصرف إليه، وإلا يحمل على الاستغراق صوناً للكلام عن الإجمال.. إن قلنا بهذا أفاد أن كل ما كان حمداً وثناء فهو لله وحقه وملكه، وحينئذ يلزم أن يقال: إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد والثناء ألبتة.
ب. الثاني: أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط.. إن قلنا بهذا: كان معناه أن ماهية الحمد حق الله تعالى وملك له، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله، فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله.
8. سؤال وإشكال: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال عليه السلام: من لم يحمد الناس لم يحمد الله، والجواب: إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى، لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله تعالى.
9. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه:
أ. الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم.
ب. الثاني: أن غيره إذا ربي فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21].
ج. الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء.
د. الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنيناً في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلا غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية.
هـ. الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة.
و. السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين.
10. قوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، أي: مالك يوم البعث والجزاء، وتقريره أنه لا بدّ من الفرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساؤوا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31] وقال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28] وقال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه: 15]، ومن سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضياً بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا، وذلك هو المراد بقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] وبقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7] الآية.
11. من قرأ ﴿مَالِكُ﴾ استدلّ على ذلك بوجوه:
أ. الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً.
ب. الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله.
ج. الثالث: المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى.
د. الرابع: إن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالًا من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالًا من الملك.
هـ. الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية.
و. السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، ولا يجب على الرعية خدمة الملك.. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً، فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك.
12. استدلّ من قال أن الملك أولى من المالك بوجوه:
أ. الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك.
ب. الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ﴾ [الناس: 1، 2] لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالًا من المالك وإلا لم يتعين.
ج. الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة، هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلًا للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه، لأنه وإن كان ذلك تطويلًا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ ألي اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا هاهنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد.
__________
(1) تفسير الفخر الرَّازي: 1/191.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته... بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر: إلى الماجد القرم الجواد المحمد.. وبذلك سمي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الشاعر:
فشق له من اسمه ليجله... فذو العرش محمود وهذا محمد
والمحمدة: خلاف المذمة، وأحمد الرجل: صار أمره إلى الحمد، وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه، ورجل حمده مثل همزة يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها، وحمده النار بالتحريك: صوت التهابها.
2. اختلف في الفرق بين الحمد والشكر:
أ. ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضى، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب (الحقائق) له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله، إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه، واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا.. ونقل عن ابن عطية رده على هذا القول، وهو قوله: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه، لان قولك شكرا، إنما خصصت به الحمد، لأنه على نعمة من النعم.
ب. وقيل: إن الشكر أعم من الحمد، لأنه باللسان وبالجوارح والقلب، والحمد إنما يكون باللسان خاصة.
ج. وقيل: الحمد أعم، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر، لان الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد، وروي عن ابن عباس أنه قال الحمد لله كلمه كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله، وقال الله لنوح عليه السلام: ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، وقال في قصة داوود وسليمان: ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾، وقال أهل الجنة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ .. ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . فهي كلمة كل شاكر.
3. الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر.
4. أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (احثوا في وجوه المدّاحين التراب).. فمعنى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل.. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار.
5. اختلف في معنى ﴿رَبَّ﴾ قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ :
أ. أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك، وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك،
ب. السيد، ومنه قوله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾، وفي الحديث: أن تلد الامة ربتها) أي سيدتها.
ج. المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شي وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب، وفي الحديث: هل لك من نعمة تربها عليه) أي تقوم بها وتصلحها.
د. المعبود، ومنه قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس، وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنى أي رباه، والمربوب: المربى.
6. بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم، لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.
7. اختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ . فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.
8. متى أدخلت الالف واللام على (رب) اختص الله تعالى به، لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، فالله سبحانه رب الأرباب، يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورزقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئا دون شي، وصفه الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.
9. اختلف أهل التأويل في ﴿الْعَالَمِينَ﴾ اختلافا كثيرا:
أ. قال قتادة: العالمون جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم.. وقيل: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، لقول تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ أي من الناس، وقال العجاج: فخندف هامة هذا العالم، وقال جرير بن الخطفي:
تنصفه البرية وهو سام... ويضحي العالمون له عيالا
ب. وقال ابن عباس: العالمون الجن والانس، دليله قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ولم يكن نذيرا للبهائم.
ج. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الانس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة، قال الأعشى: ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا.. وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون.. ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون، وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض.
د. وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها، وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد، وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر، وروى الربيع ابن أنس.
10. أصح هذه الأقوال هو أن العالمين هم كل موجود سوى الله تعالى، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود، دليله قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة، لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة، وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا، وهذا واضح.
11. اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك:
أ. قيل: (ملك) أعم وأبلغ من ﴿مَالِكُ﴾ إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك.
ب. وقيل: ﴿مَالِكُ﴾ أبلغ، لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.
12. ذكر بعض من اختار القراءة بـ (ملك) أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شي بقوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فلا فائدة في قراءة من قرأ ﴿مَالِكُ﴾ لأنها تكرار.. ولا حجة في هذا، لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ فالخالق يعم، وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة، وكما قال تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ بعد قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، والغيب يعم الآخرة وغيرها، ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ فذكر ﴿الرَّحْمَنُ﴾ الذي هو عام وذكر ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعده، لتخصيص المؤمنين به في قوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾
13. ذكر بعضهم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من (ملك)، و(ملك) أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، لثلاثة أوجه:
أ. الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام، فتقول: مالك الدار والأرض والثوب، كما تقول: مالك الملوك.
ب. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير.
ج. الثالث: أنك تقول: مالك الملك، ولا تقول: ملك الملك.
14. ذكر بعضهم أنه إنما كان ذلك لأن المراد من ﴿مَالِكُ﴾ الدلالة على الملك بكسر الميم وهو لا يتضمن (الملك) بضم الميم و(ملك) يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة، ويتضمن أيضا الكمال، ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الامامة في قريش) وقريش أفضل قبائل العرب، والعرب أفضل من العجم وأشرف(2).، ويتضمن الاقتدار والاختيار وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والامر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.
15. احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف، فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.. وهذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفية من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا والله أعلم.
16. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ويوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده، والجواب: من وجهين:
أ. الوجه الأول: وهو أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، وهو أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا، وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل، أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قوله عز وجل: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر.
ب. وجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجعا إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لان المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه، والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.
17. سؤال وإشكال: لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ والجواب: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمرود وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، كما قال تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ فأجاب جميع الخلق: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ فلذلك قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره، سبحانه لا إله إلا هو.
18. ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ : اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما، وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ وجمع يوم أيام، وأصله أيوام فأدغم، وربما عبروا عن الشدة باليوم، يقال: يوم أيوم، كما يقال: ليلة ليلاء.
19. ﴿الدِّينَ﴾ : الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ أي حسابهم، وقال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر 17] و ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقال: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ أي مجزيون محاسبون، وقال لبيد:
حصادك يوما ما زرعت وإنما... يدان الفتى يوما كما هو دائن
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/132.
(2) ولا نرى صحة هذا المعنى لمعارضته القرآن الكريم.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، وبقيد الاختياري فارق المدح، فإنه يكون على الجميل وإن لم يكن الممدوح مختارا، كمدح الرجل على جماله وقوّته وشجاعته، وقال صاحب الكشاف: إنهما أخوان.
2. الحمد أخصّ من الشكر موردا وأعمّ منه متعلقا. فمورد الحمد اللسان فقط، ومتعلقه النعمة وغيرها، ومورد الشكر اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة، وقيل إن مورد الحمد كمورد الشكر، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية واستهزاء، وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا ـ وفرق بين الشرط والشطر.
3. سبب تعريف الحمد، لاستغراق أفراد الحمد وأنها مختصة بالرّبّ سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو الله عزّ وجلّ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادّعائيا. ورجّح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق، والصواب ما ذكرناه، وقد جاء في الحديث (اللهمّ لك الحمد كله.
4. رجّح ابن جرير اتحاد الحمد والشكر مستدلا على ذلك بما حاصله: إن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير: وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والأركان.. ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير، ولا تقوم به الحجة، هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية، فإن ثبتت وجب تقديمها.
5. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ قال في الصحاح: الربّ اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك، وقال في الكشاف: الربّ المالك، ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره: والربّ السيد، ومنه قوله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وفي الحديث (أن تلد الأمة ربّها).. والربّ: المصلح والجابر والقائم قال والربّ: المعبود، ومنه قول الشاعر:
6. العالمين: جمع العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى؛ قاله قتادة، وقيل أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، وقال ابن عباس: العالمون الجنّ والإنس، وقال الفرّاء وأبو عبيد: العالم عبارة عمن يعقل وهم أربعة أمم: الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره وذكر أدلتها وقال: إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق وموجود، دليله قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجّاج، وقال: العالم: كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة.. وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم، وقال في الكشاف: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم، وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد، وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ قال إله الخلق كله، السموات كلهنّ ومن فيهنّ. والأرضون كلهنّ ومن فيهنّ، ومن بينهنّ مما يعلم ومما لا يعلم.
7. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ وأبلغ من مالك، إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الملك، قاله أبو عبيد والمبرّد ورجّحه الزمخشري، وقيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم.. وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي.. والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع والهبة والعتق ونحوها، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعية؛ فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور، والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله.
8. ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ : يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ والْأَمْرُ حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو الله عزّ وجلّ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادّعائيا.
__________
(1) فتح القدير: 1/25.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْحَمْدُ للهِ﴾ إخبار بأنَّ الله تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، ومستحقٌّ لأن يحمدوه، ومَن ذَكَرَ جملةً وأراد بها الثناء على الفعل الجميل الاختياريِّ تعظيمًا كان محصِّلا للحمد ولو لم يقصد الإنشاء، ولا يجوز قصد الإنشاء، على أنَّ الآية نزلت إخبارًا إلَّا لمن أراد غير الآية، وإلَّا أن يقال: المعنى: قولوا هذه السورة، فحينئذٍ يجوز لقارئها التصرُّف في الحمد بالإخبار أو الإنشاء، لكنَّ الإنشاء بالجملة الاسميَّة قليل، ومختلف فيه.
2. ولا يُحمَد الله على صفاته بل على أفعاله، وقيل بالجواز على إسقاط لفظ (الاختياريِّ) من الحدِّ، أو على أنَّ المراد نفي الضرورة، وصفاته ليست ضروريَّة كما أنَّها ليست اختياريَّة، لا إله إلَّا الله، سبحان الله.
3. ولفظ الجلالة لا يدلُّ على فعل ولا صفة بل على الذات، فهو جامد، وقيل: أصله الاشتقاق من لفظ يدلُّ على معنى العبادة أو العلوِّ أو الطرب أو الفزع أو التحيُّر أو الاحتجاب أو نحو ذلك، بمعنى أنَّ خلقه احتجبوا عن رؤيته بأنْ حَجَبَهم عنها ومَنَعَهُم، وليس هو بمحتجب؛ وفزعوا إليه واضطربوا وتحيَّروا.
4. ﴿رَبِّ﴾ سيِّد ﴿العَالَمِينَ﴾، أو مالِكِهم؛ الناسُ عالَم، والملائكة عالَم، والجنُّ عالَم، والحيوان عالم، والجبال عالم، والنبات عالم، والفعل عالم، والاعتقاد عالم، وهكذا.. كلُّ صنف عالم، والجمع: عالَمون، جُمِع تغليبًا للعاقل جمع قلَّة إيذانًا بقلَّتهم بالنسبة إلى قدرته تعالى على خلقه أصنافًا غير الموجودة، وسمِّيت لأنَّ فيها علامة الحدوث كالتركيب والحلول، وعلامة وجود الله.
5. ﴿الرَّحْمَنِ﴾ المنعِمِ بالنعم العظيمة، أو مريد الإنعام به، وليس معرَّبًا من رخمن بالخاء المعجمة كما قيل.
6. ﴿الرَّحِيمِ﴾ المنعم بالنعم التي دون تلك، أو مريدها، وليس بينها عموم وخصوص على هذا، فضلاً عن أن يقال: قدِّمت الخاصَّة على العامَّة، وإنَّما ذلك لو فسِّر الرحيم بالمنعم بمطلق النعم، أو هما سواء كنديم وندمان جمعًا تأكيدًا، كما روي: (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)، وعلى الأخصِّـيَّة فقد قيل بجواز تقديم الصفة الخاصَّة على العامَّة للفاصلة كما في قوله تعالى: ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، وقوله تعالى: ﴿رَسُولاً نَّبِيئًا﴾ [مريم: 51]، وقيل: يا رحمن الدنيا لأنَّه يعمُّ المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنَّه يخصُّ المؤمن، وقيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا؛ لأنَّ نعم الآخرة كلَّها عظام، وَأَمَّا نعم الدنيا فجليلة وحقيرة، وهي هنا مبنيَّة على الميم نظير النون في (العالَمين) و(الدين).
7. ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء بالجنَّة والنار، وخصَّه لأنَّه لم يَجعل فيه ملِكًا، بخلاف الدنيا ففيها ملوك، والملِكُ: السلطان القاهر، هو مَلِك يوم الجزاء إذا حضر يوم الجزاء، أو صفة مبالغة، أي أنَّه مالك ليوم الدين ملكًا قويًّا إذا شاء أحضره، ولك تقدير: ملك الأمور يوم الدين، كما كان ملكها في الدنيا، أو ملكها فيه وحده.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/29.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، واللام في ﴿الْحَمْدُ﴾ للاستغراق أي استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيما وتمجيدا ـ كما في الحديث: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله.
2. الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان(2). فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]. فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح.
3. الطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدا، لأن جميع أسمائه، تبارك وتعالى، حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله. فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر.. وبالجملة فكل صفة علياء، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزّ وجلّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه.
4. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب يطلق على السيد المطاع وعلى المصلح وعلى المالك، تقول: ربّه يربّه فهو ربّ كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ ـ فهو صفة مشبهة، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى التربية وهي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل، والرب ـ باللام ـ لا يقال إلا لله عزّ وجلّ، وهو في غيره على التقييد بالإضافة ـ كربّ الدار ـ ومنه قوله تعالى: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ [يوسف: 50] ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23].. و ﴿الْعَالَمِينَ﴾ جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه، وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها(1).
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/227.
(2) هذا الكلام وما بعده نقله عن ابن القيّم من كتابه (طريق الهجرتين) .
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. إن معنى الحمد الثناء باللسان، وقيدوه بالجميل لأن كلمة (ثناء) تستعمل في المدح والذم جميعا، يقال: أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا، ويقولون إن (أل) التي في الحمد هي للجنس في أيّ فرد من أفراده لا للاستغراق ولا للعهد المخصوص، لأنه لا يصار إلى كلّ منهما في فهم الكلام إلا بدليل وهو غير موجود في الآية، ومعنى كون الحمد لله تعالى بأي نوع من أنواعه هو أن أي شيء يصح الحمد عليه فهو مصدره وإليه مرجعه فالحمد له على كل حال.
2. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هذه الجملة خبرية، ولكنها استعملت لإنشاء الحمد.. فأما معنى الخبرية فهو إثبات أن الثناء الجميل في أي أنواعه تحقق فهو ثابت له تعالى وراجع إليه، لأنه متصف بكل ما يحمد عليه الحامدون، فصفاته أجل الصفات، وإحسانه عمّ جميع الكائنات، ولأن جميع ما يصح أن يتوجه إليه الحمد مما سواه فهو منه جل ثناؤه، إذ هو مصدر الكون كله، فيكون له ذلك الحمد أولا وبالذات، والخلاصة أن أيّ حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى سواء لاحظه الحامد أو لم يلاحظه، وأما معنى الانشائية فهو أن الحامد جعلها عبارة عما وجهه من الثناء إلى الله تعالى في الحال.
3. التعريف المشهور بين العلماء للحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري أي الفعل الجميل الصادر عن فاعله باختياره أي سواء أسدى هذا الجميل إلى الحامد أم لا.. وأزيد عليهم أنه قد يحمد غير الفاعل المختار تنزيلا له منزلة الفاعل في نفعه، ومنه: إنما يحمد السوق من ربح، وهذا هو المتبادر من استعمال اللغة، وحذف بعضهم قيد الاختيار ليدخل (تفسير الفاتحة) في الحمد الثناء على صفات الكمال، ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بقوله: سواء كان من الفضائل ـ أي الصفات الكمالية لصاحبها ـ أو الفواضل ـ وهي ما يتعدى أثره من الفضل إلى غير صاحب الفضل.
4. الظاهر أن الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنما يكون باعتبار ما يترتب عليها من الأفعال الاختيارية وما عدا هذا من الثناء تسميه العرب مدحا، يقال: مدح الرياض ومدح المال ومدح الجمال ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء، وقيل هما مترادفان، والمقام المحمود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور.. وقد يقال: إن ما ذكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض، وأما الله عز وجل فإنه يحمد لذاته باعتبار أنها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم، أو مطلقا خصوصية له، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته، ويحمد لصفاته باعتبار تعلقها وآثارها.
5. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق، ومعنى الرب السيد المربى الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره ولفظ (العالمين) جمع عالم بفتح اللام جمع جمع المذكر العاقل تغليبا وأريد به جميع الكائنات الممكنة، أي إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم.. وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلا لنكتة تلاحظها فيه وهي أن هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كل كائن وموجود كالحجر والتراب، وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه، إن لم تكن منه، فيقال عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات.
6. علاقة كلمة ﴿رَبَّ﴾ بكلمة ﴿الْعَالَمِينَ﴾، أننا نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ (رب) لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان، ولقد كان السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى يقول: الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي، تمشى، والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب، وإن كان لا ينام ولا يغفل.
7. بعض العلماء قال إن المراد بالعالمين هنا أهل العلم والإدراك من الملائكة والإنس والجن، ويؤثر عن جدنا الامام جعفر الصادق عليه الرضوان أن المراد به الناس فقط كما يدل على هذا وذاك استعمال القرآن في مثل ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ أي الناس ومثل ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ويرى بعضهم أنه على هذا مشتق من العلم، ومن قال يعم جميع أجناس المخلوقات يرى أنه مشتق من العلامة.
8. ربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان: تربية خلقية بما يكون به نموهم وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية ـ وتربية شرعية تعليمية وهي ما يوحيه الى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به. فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى.
9. حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن بحمده تعالى عليه وبشكره له باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، وباستعمال نعتمه بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم، وأن لا يبغى كما بغى فرعون فيدعى أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال، وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته. قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ وفسر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا.
10. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ سر اعادتهما النكتة فيها ظاهرة وهي:
أ. أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه.
ب. وثمّ نكتة أخرى، وهي أن البعض يفهم من معنى الرب الجبروت والقهر، فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا.. فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة واحسان ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات، وليتعلقوا به ويقبلوا على اكتساب مرضاته، منشرحة صدورهم، مطمئنة قلوبهم.
11. لا ينافى عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا، وما أعده من العذاب في الآخرة، للذين يتعدون الحدود، وينتهكون الحرمات، فإنه وإن سمى قهرا بالنسبة لصورته ومظهره، فهو في حقيقته وغايته من الرحمة، لأن فيه تربية للناس وزجرا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية، وفى الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم، وفى الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم، والوالد الرؤوف يربى ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان عليه إذا قام به، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال، ولله المثل الأعلى لا إله إلا هو وإليه يرجعون.
12. لا أرى وجها للبحث في عد ذكر ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا.. أما على القول بأن البسملة ليست آية منها فظاهر، وأما على القول بأنها آية منها فيحتاج إلى بيان، وهو أن جعلها آية منها ومن كل سورة يراد به ما تقدم شرحه آنفا من أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يلقنها ويبلغها للناس على أنها ـ أي السورة ـ منزلة من عند الله تعالى أنزلها برحمته لهداية خلقه، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا كسب له فيها ولا صنع، وإنما هو مبلغ لها بأمر الله تعالى. فهي مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم، وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافى ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم، وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده، كما أنه مستحق له في ذاته، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات، الموصوف بهذه الصفات.
13. الحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحى والتنزيل، وفى السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة، وقد لاحظ هذا المعنى من قال إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور، وأما من قال إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا.
14. حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والحاكم.. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبى أمامة وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته، ومما يدل على الترغيب في رحمة الحيوان والرفق به بغير لفظ الرحمة، حديث (في كل ذات كبد حرّى أجر) رواه أحمد وابن ماجه عن سراقة بن مالك؛ وأحمد أيضا عن عبد الله ابن عمرو، وهو حديث صحيح.
15. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، الفرق بين (مالك) و(ملك)، أن المالك ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمها، والقرآن يشهد للأولى بمثل قوله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ وللثانية بقوله: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ .. وقال بعضهم إن قراءة ملك أبلغ لأن هذا اللفظ يفهم منه معنى السلطان والقوة والتدبير، وقال آخرون إن القراءة الأخرى أبلغ لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شؤونهم الخاصة والمالك سلطته أعم.. وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه.. والظاهر أن قراءة (ملك) أبلغ لأن معناها المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهى والجزاء ولهذا يقال: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ ولا يقال ملك الأشياء، قاله الراغب، وقال في ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ تقديره الملك في يوم الدين لقوله: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، وإنما كان هذا أبلغ لأن السياق يدلنا على أن المراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على أعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم، ومعنى ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قد يستفاد من قوله: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ على أن مجموع القراءتين يدل على المعنيين فكلاهما ثابت، ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثير من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم لأنها تزيد حرفا في النطق وورد في الحديث أن للقارئ بكل حرف كذا حسنة ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة يكن دونها في التأثير(2).
16. (الدين): يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة وورد (كما تدين تدان) وقال الشاعر:
ولم يبق سوى العدو... ن دنّاهم كما دانوا
وعلى الجزاء وهو قريب من معنى المكافأة، وعلى الطاعة، وعلى الإخضاع وعلى السياسة يقال: دنته، ودينته فلانا (بالتشديد) أي وليته سياسته وهو قريب من معنى الإخضاع، وعلى الشريعة وما يؤخذ العباد به من التكاليف.. والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع، وإنما قال: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ ولم يقل (الدين) لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفّى جزاءه.
17. سؤال وإشكال: أليست كل الأيام أيام جزاء، وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم؟ والجواب: بلى إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها.
18. الجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة، وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات، وقد يصيبهم النقص في أموالهم، وعافية أبدانهم، وقوة عقولهم، ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب، كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله، فإن كان قد ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته، فما ذلك كل ما يستحق، وفى ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العاملين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ علمنا الله أنه رحمن رحيم ليجذب قلوبنا اليه.
19. سؤال وإشكال: هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل لا يبالى بمستقيم ومعوج؟ والجواب: بلى، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم، فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما: الترغيب والترهيب، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/50.
(2) تفسير المنار: 1/55.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ المراد من الحمد والفرق بينه وبين المدح والثناء والشكر، فقال: الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره.. والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض.. والثناء يستعمل في المدح والذم على السواء، فيقال أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا.. والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم:
أفادتكم النعماء منّى ثلاثة... يدى ولساني والضّمير المحجّبا
يريد أن يدى ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا في اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم، ولا في اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.
2. ورد في الأثر: الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده(1). ثم علّق عليه بقوله: وقد جعله رأس الشكر، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسي به، أما الشكر بالقلب فهو خفى قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس.
3. ﴿رَبَّ﴾ هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه. وتربية الله للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية ـ وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم ـ وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه. ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات الله عليه في مولاه عزيز مصر ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ وقال عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي: أما الإبل فأنا ربّها، وأما البيت فإن له ربّا يحميه.
4. ﴿الْعَالَمِينَ﴾ واحدهم عالم (بفتح اللام) ويراد به جميع الموجودات، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم، فيقولون عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات، ولا يقولون عالم الحجر، ولا عالم التراب، ذاك أن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ (رب) إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد.
5. الخلاصة ـ إن كل ثناء جميل فهو لله تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات. وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم، فله الحمد على ما أسدى، والشكر على ما أولى.
6. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده بلا حصر ولا نهاية، وهذا اللفظ خاص بالله تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا في شعر لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان.
7. ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشرحو الصدور، لا ربوبية جبروت وقهر لهم. والعقوبات التي شرعها الله لعباده في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته ـ هي قهر في الظاهر ورحمة في الحقيقة، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرؤوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا، قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما... فليقس أحيانا على من يرحم
8. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قرأ بعض القرّاء مالك، وبعض آخر ملك، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك (بكسر الميم) والملك هو ذو الملك (بضم الميم) وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ ويعاضد الثانية قوله: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى، فهي تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف في شئون العقلاء بالأمر والنهى والجزاء، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء.
9. الدين: يطلق لغة على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا، وإنما قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله، والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم في الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم في أداء الحقوق والواجبات التي عليهم ـ فربما يظهر ذلك في بعض دون بعض، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم، نعم إنهم لا يسلمون من المنغّصات، وربما أتتهم الجوائح في أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، جزاء وفاقا لما عمل ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر جزاؤهم في الدنيا ظهورا تاما، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السوي، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزة، ومهانة بعد جلال وهيبة.
10. جاء قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ إثر قوله: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ليكون كترهيب بعد ترغيب، وليعلمنا أنه تعالى ربّى عباده بكلا النوعين من التربية، فهو رحيم بهم، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 1/30.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. عقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .. والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره للّه.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء، وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان، ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: ﴿ وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى والْآخِرَةِ ﴾، ومع هذا يبلغ من فضل الله ـ سبحانه ـ وفيضه على عبده المؤمن، أنه إذا قال الحمد للّه. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين.
2. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ لا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري.. ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين. ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، وظل يجلوها في الضمير، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش، ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور.
3. كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة. فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير.. مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني، وفي السلوك البشري سواء.
4. الذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة.. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه.. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير، ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة ـ وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. كل هذا لا ينجلي للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم.. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
5. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة؛ ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.
6. إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق، ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في (العهد القديم) كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.
7. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة.. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة، ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة، وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة؛ ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء.. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ .
8. الاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض، وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات، ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور، وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة للّه، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين، ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية، ومفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.
9. ما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير، وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها.. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق، وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/23.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ : بهذا الحمد لله تنطق المخلوقات كلها، فهو سبحانه الذي أوجدها من العدم وأعطاها خلقها بين المخلوقات، وقام عليها مدبرا، وحافظا، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، فحق عليها أن تحمده، وتشكر له، وقد لزمها هذا الحق الذي لا انفكاك لها منه، إن لم تؤده اختيارا أدته اضطرارا، وإن لم يفصح عنه ظاهرها نمّ عليه باطنها: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ .
2. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ معنى ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾، فقال: يوم الدين: هو يوم الدينونة، أي الحساب والجزاء، وهو يوم القيامة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ .
3. ومجيء ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ معطوفا عطف بيان على ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ للإشعار بأن هذه الملكية ملكية رحمانية ورحمة، تضع موازين القسط للفصل بين الناس، حيث يثاب المحسنون، ويعاقب المسيئون، وهو عقاب فيه رحمة لهم، حيث يطهرهم من أدران الآثام التي علقت بهم، ليكونوا أهلا لمساكنة الملأ الأعلى.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/19.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ : لما لقّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل، قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني... حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما... كفاه عن تعرّضه الثّناء
2. كان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من حديث عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع)، وقد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد.
3. كانت سورة الفاتحة لذلك منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأفهام وأدعى لوعيها.
4. (الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة.. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده، فالثناء الذكر بخير مطلقا، وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا ولو بشر، ونسبا إلى ابن القطاع، وغرّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار) وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع، فسمّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك، وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو الثناء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل.
5. أما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره، وقال صاحب (الكشاف) الحمد والمدح أخوان، فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ وجذب، وإن ذلك اصطلاح له في (الكشاف) في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري.. لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح (الكشاف) أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ ولأنه صريح قوله في الفائق: الحمد هو المدح والوصف بالجميل) ولأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في الكشاف: والحمد نقيضه الذم) مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح، وعرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد، بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير:
ومن يجعل المعروف في غير أهله... يكن حمده ذمّا عليه ويندم
لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق.
6. اختلف العلماء في مراد صاحب (الكشاف) من ترادفهما، وهل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري:
أ. على الأول (حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين)، ثم ذكر ما استدلّ به السيد الشريف بأنه صرح بذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ [الحجرات: 7] إذ قال: فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها.
ب. وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في (حواشي التفسير) فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في (الكشاف) و(الفائق) إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين.
7. بهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختياريا.. والصحيح أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال وفينا دليلا على النقص، وما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.
8. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فعل من ربّه يربّه بمعنى رباه وهو رب بمعنى مربّ وسائس، والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملكه، فإن كان مصدرا على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فعل من فعل يفعل إلا قليلا، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينمّه فهو نمّ للحديث. والأظهر أنه مشتق من ربّه بمعنى رباه وساسه لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك ملك يوم الدين كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب (الكشاف) إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي، والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا لما علمت من وزنه واشتقاقه.. وقال صاحب (الكشاف) ومن تابعه: إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه.. وسموا العزى الرّبة، وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.
9. ورد الإطلاق في الإسلام أيضا حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23] إذا كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ﴾ [يوسف: 39] فهذا إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل.. وإنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب.
10. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين عالم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على ياسمون وياسمين قال الأعشى:
وقابلنا الجلّ والياسم... ون والمسمعات وقصّابها
والعالم الجنس من أجناس الموجودات، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقا من العلم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره، وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالبا كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق، ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليبا للعاقل، وقال التفتازانيّ في (شرح الكشاف): العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق، يقال عالم الملك، عالم الإنسان، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافا لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان، عالم النبات وليس اسما لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه.. وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم: العالم حادث فهو من المصطلحات.
11. التعريف في العالم للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعا للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب (الكشاف): ليشمل كل جنس مما سمّي به) إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاما واضحا إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق. وإنما جمع العالم ولم يؤت به مفردا لأن الجمع قرينة على استغراق، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصا على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع (ال) الاستغراقية على التحقيق، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساويا لاستغراق المفردات أو أشمل منه، وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشمل.
12. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ اسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حيّ بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق. فهي من الكيفيات النفسانية لأنها انفعال، ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر استطاعته وعلى قدر قوة انفعاله، فأصل الرحمة من مقولة الانفعال وآثارها من مقولة الفعل، فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه، وإذا أخبر عنه بأنه رحم غيره فهو على معنى صدر عنه أثر من آثار الرحمة، إذ لا تكون تعدية فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها جزئيات من آثارها، فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد أهلها فيما يجوز على الله ويستحيل، وكان أكثر الأمم مجسّمة ثم يجيء ذلك في لسان الشرائع تعبيرا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]
13. أهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الاسمي من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدا ولا يملك له نفعا لعجز أو نحوه.
14. ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: 60] وقال: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.
15. إجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شئونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم، فلما كان ربا للعالمين وكان المربوبون ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحا.
16. سؤال وإشكال: إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وذلك يجمع النعم كلها، فلما ذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانا؟ والجواب: لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيها على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.
17. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ سر إتباع الأوصاف الثلاثة لله تعالى بهذا الوصف، فقال: اتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة، فإنه لما وصف تعالى بأنه ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وكان ذلك مفيدا لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة، وكان معظم تلك التشريعات مشتملا على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففا عن المكلفين عبء العصيان لما أمروا به ومثيرا لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحكم في يوم الجزاء: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [غافر: 17] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد، وجعل مصداق ذلك الجزاء يوم القيامة، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافا إلى يوم الدين.. أما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم، ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحا.. وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزي عليها.
18. سؤال وإشكال: إذا كان إجراء الأوصاف السابقة مؤذنا بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق إلى الشريعة باختياره، والجواب: المخاطبون مراتب: منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك، ولكنه يظن أن في فعل الملائم له رحمة به أيضا فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت مفيدة له، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة، وربما تأول أن الرحمة في تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمن بالنسبة لغير التشريع من تكوين ورزق وإحياء، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه، وربما علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه شقوته.. فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات الماضية بهذه الصفة تذكيرا لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع.
19. في تعقيب قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بقوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم.
20. تصدى المفسّرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة (ملك) ـ بدون ألف ـ وقراءة (مالك) ـ بالألف ـ من خصوصيات بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك)، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شئون ذلك اليوم دون شبهة مشارك، ولا محيص عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك) أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شئون يوم الدين، على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي (القاموس (وكأمير وكتف وصاحب ذو الملك.
21. وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى، فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم: ﴿فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: 88] وقال: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر: ووقرت ثقيف إلى لاتها.. فوصف الله تعالى بأنه رب العالمين كلهم، ثم عقّب بوصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته، ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل ملك الملوك (شاهانشاه) وملك الزمان وملك الدنيا (شاهجهان) وما شابه ذلك مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين (أي الجزاء) للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزيّ عليها في الخير والشر، وذلك العدل الخاص قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر: 17] فلذلك لم يقل ملك يوم الحساب فوصفه بأنه ملك يوم العدل الصّرف وصف له بأشرف معنى الملك فإن الملوك تتخلد محامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل.
22. إجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلّق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/152.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحمد هو الثناء الكامل على الأفعال الاختيارية، وعلى من تصدر عنه هذه الأفعال الاختيارية فيعم نفعها وهي مصدر الخير لهذا الوجود الكوني والإنساني.. وهناك كلمات ثلاث تتلاقى معانيها في جملتها، وتختلف في دقتها، وهي:
أ. (حمد)، وهي تكون كما ذكرنا الثناء الجميل على من يعمل أعمالا اختيارية عامة النفع، ودافعة للضرر للوجود كله بحكمة من يفعلها.
ب. (المدح)، وهى الثناء على الصفات الذاتية، والشخصية الطيبة، فيقال: مدحت الصفات الطيبة في فلان، ولا يقال: حمدتها، إنما يقال: حمدت الله تعالى ومدحت خصال فلان.. وقيل: إن الحمد والمدح مترادفان، ولعل قائل هذا القول نظر إلى معنى الثناء فيهما من غير أن ينظر إلى الباعث، فإن الباعث في الحمد أعمال الإنعام والخير، والباعث على المدح الشخص والذات، فيقال: مدحت الجميل في صفاته الحسنة، وخلاله الكريمة، ولا يقال حمدته، ومن العلماء من قال إن المدح أعم، ومن قال العكس، ونميل إلى التفرقة بينهما باختلاف الموضوع.
ج. (الشكر)، وهو امتلاء النفس بالإحساس بالنعمة، واندفاع النفس إلى الطاعة والخضوع، والقيام بحق المنعم ومقابلة الفضل والنعمة بالإحسان في الطاعة والواجبات، وقد قال تعالى في ذلك: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ .
2. ذكر قول ابن جرير الطبري بأن الحمد والشكر بمعنى واحد، والحق أنهما يتلاقيان ويختلفان، فيتلاقيان في معنى الإحساس بالنعمة والقيام بحقها، وما يجب بالنسبة للمنعم، ولكنهما يختلفان في القيام بحق المنعم، فالقيام بحق المنعم في الشكر الطاعة والعمل وجعل الجوارح كلها في طاعة الله تعالى، والخضوع المطلق لله تعالى في كل شأن من شئونه، وحال من أحواله، والقيام بحق المنعم في الحمد الثناء على الله تعالى ثناء مطلقا كاملا مع تذكر نعمائه، وتذكر ما يحيطه من الوجود كله، لا في ناحية من نواحي شخصه؛ ولذلك روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (الحمد رأس الشكر)، والحمد ذاته عبادة والشكر يكون على النعمة وبالمثابرة على الطاعة والعبادة.. ومهما يكن فالألفاظ الثلاثة متقاربة في مؤداها ـ وإن تخالفت في مدلولاتها.
3. (ال) في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، هي للاستغراق والكمال، أي الحمد كله وبكماله لله تعالى وحده، فلا يستحق أحد من خلقه حمدا.
4. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ في هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى سبب الحمد الكامل، الدائم المستمر المتجدد؛ لأنه هو المالك والسيد، والمربى لهم والرقيب عليهم، الذي ميزهم بالنعم المستمرة، والآلاء المتكررة التي لا تنقطع أبدا.. فالرب هو المالك وهو السيد، وهو المصلح والمدبر، والجابر والقائم على كل شيء، الذي يسير الوجود كله بحكمته وبقدره وإرادته.
5. (الرب) وصف لله تعالى مأخوذ من ربّ الشيء يربّه بمعنى قام بإصلاحه وتقويمه، وتتبّعه بالإصلاح والتنمية في كل أدواره، وروى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (هل لك عليه من نعمة تربّها) أي تصلحها وتنميها، ثم أطلقت كلمة (رب) على الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يتلاقى مع (ربّى)، فإن التربية هي الإصلاح والتغذية، والعمل على الإنماء، ولقد جاء في الصحاح للجوهري: ربّ فلان ولده يربّه ربّا، وتربية بمعنى: ربّاه، والمربوب المربّى). وعلى ذلك يصح أن تقول إن الرب من ربّه، بمعنى نماه، أو من التربية بمعنى الإصلاح والإنماء.. والمعنى في الحالين أن الله رب العالمين بمعنى مغذيهم ومنمّيهم والقائم عليهم، والمصلح لهم، والمدبر لأمورهم، وهو مربيهم لأنه القائم عليهم والمهذب لهم بما خلق فيهم من عقول مدركة تدرك الخير والشر، وتختار ما تفعل وتحاسب على ما تقدم من خير فتنال به الثواب، وما تكسب من شر فينالها العقاب.
6. وكلمة ﴿الْعَالَمِينَ﴾ يريد بها العقلاء من الملائكة والإنس والجن، فهو رب هؤلاء جمعيا، هو الذي رباهم وأصلحهم، ودبر أمورهم، والعالمون جمع لعالم، وهو كل موجود غير الله تعالى، ولكن إذا جاءت (عالمون) بجمع المذكر العاقل، أريد بها العقلاء ممن خلق الله تعالى، وقد أيد ذلك القول بقول ابن عباس رضى الله عنهما: العالمون الجن والإنس)، ودليله قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان] فلا ينذر إلا الجن والإنس؛ لا تنذر الجبال ولا الأرضون، وإنما ينذر العقلاء الذين يتصور الشر منهم، أو لا يتصور كالملائكة، وقد قلنا إن لفظ العالمين يعمهم.
7. سر جمع ﴿الْعَالَمِينَ﴾ هنا، والأقرب الإفراد، لأن المفرد هنا (وهو عالم) أعم من الجمع، وفي ذلك إشارة إلى أن كل عاقل، أو العاقلين بشكل عام فيهم العوالم كلها، ففيهم دقة التكوين وجمال التصوير وروعة الخلق، من عقل يدبر، ولسان وجوارح تتحرك، فجمع الله تعالى في عالم العقلاء كل العوالم الأخرى في إحكام الصنع وبديع التكوين كما قال تعالى في تقديم العلم بالنفس، وجلائل الخلق والتكوين: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات] ففي الإنسان أكمل صورة للخلق والتكوين.
8. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ هذان وصفان من أوصاف الله تعالى، أو اسمان من أسمائه ذكرا في مقام السببية لاستحقاق الله تعالى الحمد وحده، وقد ذكرنا هذين الوصفين في الكلام في البسملة، فلا نعيده، ولكن نذكر هنا مقامهما من النسق بعد قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فنقول إن (الرحمن والرحيم) يدلان على الرحمة التي يصلح بها الكون ويدبر أمره بحكمته وقدرته، فهو سبحانه يرب العالمين ويصلحهم رحيما بهم، ويصلح الكون والوجود كله برحمته الشاملة لاسمه الأعلى الرحمن.
9. ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ يوم الدين هو يوم الجزاء، وقيل يوم الطاعة، وقيل يوم الشريعة الحاكم على كل عقيدة باطلة، ومهما يكن من اختلاف هذه الألفاظ في مدلولاتها الخاصة، فإن النهاية تتجه إلى أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يجازى فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وهو الذي تجد فيه كل نفس ما عملت محضرا، يعلن ما تستحق من عقاب أو ثواب.
10. في ﴿مَالِكُ﴾، قراءات تختلف في أشكالها، ولا تختلف في مضمونها فقرئ هكذا: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وقرئ: مليك يوم الدين، وقرئ: ملك يوم الدين، وقرأ أبو حنيفة: ملك يوم الدين، وقرئ: مالكا يوم الدين، وقرئ: مالك، والقراءات كلها تنتهي إلى معنى واحد، وإن كانت تختلف في أعاريبها، والنص العثماني يشملها جميعا، ولا تخالف في النسخ المتواتر، بيد أن قراءة النصب (مالكا) تكون حالا من الذات العلية، أي أنه الرب للوجود كله والمنعم عليه بجلائل النعم؛ جليها وخفيها، حال كونه مالكا من بعد ذلك ليوم الجزاء، الذي يجزى كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.. وقراءة (مالك) تفيد أن كل شيء مملوك لله تعالى في ذلك اليوم، فالنفوس في مآلها وفى نهايتها ملك لله، ومستقبلها القريب والبعيد لله لا تملك من أمرها شيئا، بل كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار] وإذا كان سبحانه وتعالى يملك كل شيء في هذا اليوم؛ فالسلطان، والتدبير له، وحده الذي يملك الجزاء، والمغفرة إذا أراد، ولا إرادة لسواه، إنه الحكم العدل اللطيف الخبير.
11. الفرق بين اسمي ملك ومالك، كالفرق بين المصدرين، الملك، والملك، فالملك استيلاء على الأشياء يكون مردها إليه، والملك السلطان بالأمر والنهى وتنفيذ ما يريد، وألا يكون معه آمر ولا ناه ولا حاكم سواه، ولا إرادة فوق إرادته، ولا حكم فوق حكمه.. ويلاحظ أن معنى الملك يتضمنه بالاقتضاء معنى الملك؛ لأن من ملك شيئا ملك السلطان فيه، والسيطرة عليه، فالملك يقتضى الملك والسلطان، والملك لا يقتضى الملك والسلطان؛ ولذلك يقال سبحان مالك الملك، ولا يقال ملك الملك.
12. في الإعراب (مالك) أو (ملك) مضاف إلى يوم الدين يدل على أنه هو المسيطر المتصرف المالك لأحداث ذلك اليوم من جزاء: ثواب أو عقاب أو مغفرة، وأنه واقع لا محالة، وأن ما فيه في ملكه وتحت سلطانه وحده.. وإن اسم الفاعل يدل على الاستقبال، فلا يقال إنه مالك لليوم واليوم لم يجئ، وإن الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل كلها بالنسبة لله تعالى واحدة.
13. هذا، ويلاحظ أن الأسماء أو الصفات هي كما أشرنا من قبل من قبيل السبب لانفراد الله تعالى بالحمد الكامل، فالربوبية الكاملة بالإنشاء لهذا الوجود وما فيه ومن فيه، وتعهده بالإنماء والتربية والتهذيب والتكميل، والرعاية لكل شيء، وإن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا ما أمسكهن أحد من بعده، ثم رحمته الظاهرة والباطنة، والعاجلة والآجلة التي تعم الوجود كله من سماء وأرضين، وشموس ونجوم، ورحمته الخاصة بعباده العاقلين المكلفين من قبول للتوبة، وغفران، وثواب.. ثم كونه بعد ذلك مالكا وحده ليوم الجزاء، كل هذه الأسماء والصفات من شأنها أن تجعله مستحقّا للحمد الكامل بكل ضروبه، وفى كل الأحوال، وذلك بربوبيته الشاملة، ورحمته الكاملة، وامتلاكه وحده ليوم الجزاء.
14. إن الأسماء أو الصفات كما أنها سبب لانفراده باستحقاق الحمد، هي أيضا سبب لانفراده بالعبادة والاستعانة، وطلب الهداية، وقد التفت الكلام الحكيم من بعد ذلك من الإخبار باستحقاق الحمد لله تعالى وحده، وبيان جليل أسمائه إلى ذكر ما ينبغي للمؤمن من إفراده بالعبادة والاستعانة به دون غيره، والضراعة إليه في طلب الهداية.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/56.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. قوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى قوله: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ ثناء وحمد منه تعالى لنفسه بقصر الحمد عليه، ولا يتفاوت في ذلك كون اللام للاستغراق أو الجنس، إذ قد قال سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فعمّم نسبة الخلق على ما سواه من شيء ثمّ قال: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ فأثبت الحسن لكلّ شيء مخلوق، فالخلق يدور مع الحسن أينما دار، فما ليس بحسن ليس بمخلوق من حيث إنّه ليس بحسن جميل، ثمّ قال سبحانه: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فأثبت مالكيّة الخلق لنفسه، فهو المالك لكلّ شيء مخلوق جميل، ولا يملك غيره خلقا ولا جميلا إلّا بإذنه وتمليكه، فهو سبحانه المالك لكلّ حمد وثناء بالحقيقة، وما ينسب من ذلك إلى غيره سبحانه فله حقّه وحقيقته قبله.
2. هذا المعنى هو الذي يقتضيه نضد هذه الأسماء الخمسة المباركة بعد الحمد، فهو سبحانه بألوهيّته مبدأ لكلّ خلق وأمر، وبربوبيّته للعالمين مالكهم ومدبّرهم، وبأنّه رحمن فيّاض للرحمة على جميع خلقه، وبأنّه رحيم للمؤمنين خاصّة، وبملكه يوم الدين حاكم فاصل بين عباده مجاز إيّاهم، فلا يبقى شأن من شؤون ما سواه إلّا وهو مبدؤه ومصيره، فله الحمد جميعا.
3. الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الذي في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ الآية أن السورة من كلام العبد، وأنه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، وهو الذي يؤيده قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، ذلك أن الحمد توصيف، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ والكلام مطلق غير مقيد، ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح عليه السلام: ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، وقال تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في بضعة مواضع من كلامه: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وقال تعالى حكاية عن داوود وسليمان عليه السلام ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وإلا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
4. أما غير هذه الموارد فهو تعالى وإن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾، وقوله: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية وجعل الحمد معه، وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الأفعال، قال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عن ما حدوه وقدروه بأفهامهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه ولا يتعدى عنه، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا أحصي ثناء عليك أنت ـ كما أثنيت على نفسك الحديث.
5. قوله في أول هذه السورة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد أن يقوله لولا أن الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به، والبراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول وكل شأن من شئونه إنما هو بالعلة، وأن كل ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو إظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهي إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.
6. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك (الذي عندنا في ظرف الاجتماع) هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شيء بشيء يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: أن لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولولا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، وهو نحو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا فإن لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا، ومعنى هذا الملك أنها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا أن نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي. والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فإن الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لأن الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك.
7. وأما ﴿الْعَالَمِينَ﴾ : فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به وما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الأفراد والأجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الإنسان وعلى كل صنف مجتمع الأفراد أيضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الأنسب لما يؤو إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ على أن يكون الدين وهو الجزاء يوم القيامة مختصا بالإنسان أو الإنس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ .
8. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين، وبعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختص بالمؤمنين لأن الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوى.
9. أما ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، وأما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين، وبعبارة أخرى يملك الأمر والحكم فيهم.. وقد ذكر لكل من القراءتين ملك ومالك؛ وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، والذي تعرفه اللغة والعرف أن الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، ولا يقال مالك العصر الفلاني إلا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال أيضا: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/20.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الْحَمْدُ هو المدح على الجميل الاختياري والجميل يعم الإحسان ويعم تحصيل الخير المطلوب والوقاية من الشر وإنصاف المظلوم والحكم بالحق والعدل وحيث أن نعم الله لا يحصيها العباد وما بهم من نعمة فمن الله ومن أعظم نعمه الهداية لما يرضيه ويقرّب منه ويؤدي صاحبه إلى السعادة الدائمة في جنات النعيم وحيث أن منه تعالى نعم الدنيا والدين ونعم الدنيا والآخرة التي لا تنتهي. فله الحمد كله وهو له، ولو كانت النعمة بواسطة بعض المخلوقين ولا يكون حمد لمخلوق إلا بإذن الله وتيسيره لفعل سببه فحمد المخلوق نعمة من الله عليه، فهو لله من حيث أنه المنعم به لم يكن إلا بنعمته وتيسيره فالله المحمود على النعمة التي بواسطة العبد قبل حمد العبد والله المحمود على حمد العبد لأنه من نعمته ولو كان حمد العبد للعبد فهو نعمة بواسطة العبد ونظير هذا الحصر قول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 44] بمعنى: أن أمرها إليه وحده لا تكون إلا بإذنه ورضاه ولم يناف ذلك وقوعها من العبد.
2. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ معنى كلا اللفظتين بإيجاز، فقال: ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ سيّدهم، وهم كلهم له عبيد، وتعليق الحمد على الربوبية يفيد أنه تعالى محمود في ربوبيّته؛ لأنه منعم على عبيده كريم في مَلَكَتِه، أنعم عليهم وعاملهم بالحلم والرحمة، والتعريض على السعادة نعماً لا يحصونها وأعظمها إكمال العقول والدعوة إلى السعادة الأبدية وتيسير طريقها بإرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك، والعالمون جمع عالم يعم الإنس والجن والملائكة الأولين من العوالم والآخرين.
3. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ معنى ﴿مَالِكُ﴾ وعلاقته بـ ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾، فقال: ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء، أي يوم القيامة، وإسناد المُلك ـ بالضم ـ إلى اليوم لكونه ظرفاً لما يقضي فيه ملك الملوك من جزاء، وله الملك يومئذٍ لأملك سواه ولا شريك له في ملكه، إذًا فالدين إنما هو منه يدين عباده بما قدموا في الدنيا ليس لأحد سواه.
4. هذه الآيات تفيد: أنه المستحق للعبادة، وأنه يرجى من عبادته الفائدة العظمى، كما أن هذه الآيات إذا قرعت السمع، ووقرت في القلب، توجد في النفس رغبة إلى الله ورهبة منه، وتبعث على طلب الهداية منه إلى طريق رحمته ورضوانه، وإلى ما يقرِّب لديه يوم الدين، وتدعونا إلى أن نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لأنك ربنا المحمود في ربوبيته المنعم علينا الرحيم بنا الذي له الملك علينا، يوم الجزاء الذي يجزينا بما قدمنا لا شريك لك نتوسل بعبادتك إلى رحمتك وإلى هدايتك.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/38.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. هذه الجملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ واردة في مورد الحصر، باعتبار أن لله وحده الحمد كله، باعتباره مالكاً للوجود كله، والأمر كله. فإذا كان بعض خلقه مستحقّاً للحمد من خلال صفاته العظيمة، أو أفعاله الحسنة، فإن الله هو الذي وهبه ذلك، ومكّنه منه. فهو الذي هيّأ له الظروف والوسائل والإمكانات التي جعلت منه إنسانا محموداً، مما يجعل من محامد خلقه امتداداً لمحامده، باعتبار أن ذلك من فعله ومن إرادته. إن الخلق كله يمثّل بالنسبة إلى الله الظلّ والصدى وامتداد الشعاع، فلا وجود لهم إلّا من خلال وجوده، ولا حمد لهم إلّا من خلال حمده.
2. إذا كانت الكلمة تنطلق من عمق الإحساس بالعظمة والنعمة، فلا بد من أن تطوف بالإنسان في رحاب الله، في صفات الجلال والكمال، ليعيش مع الله في ذلك الجو كله، مما يجعل الكلمة تجتذب آلاف الكلمات، كما ينطلق التصور في معنى الحمد الممتد في كل مواقع الحمد ليلتقي بآلاف التصورات فيما يحمله اسم الجلالة من كل المعاني العظيمة والصفات الحسنى. وهذا هو التصور الأوّل في السورة فيما يتصوره المؤمن من تصوراته العقدية لله، لتلتقي صفة الله المحمود، مع مشاعر المؤمن الحامد.
3. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ : الربّ: مأخوذ من ربب: وهو المالك المصلح والمربي، ومنه: الربيبة، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافاً إلى شيء، فيقال: رب السفينة، رب الدار)، وكلمة العالم: جمع لا مفرد له كرهط وقوم، وهو قد يطلق على مجموعة من الخلق متماثلة، كما يقال، عالم الجماد، عالم النبات، عالم الحيوان، وقد يطلق على مجموعة يؤلّف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان، فيقال: عالم الصبا، عالم الذّر، عالم الدنيا، عالم الآخرة، وقد يطلق ويراد به الخلق كله على اختلاف حقائق وحداته، ويجمع بالواو والنون، فيقال: عالمون، ويجمع على فواعل، فيقال: عوالم، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل، ويجمع بالواو والنون، غير هذه الكلمة.
4. الله هو المربي لذلك يمتزج معنى الألوهية، فيما تعنيه الكلمة، بمعنى التربية. فهو الإله الذي يخلق الخلق، ولكن لا ليتركهم في الفراغ، بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم، ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك، مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم، ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام عليها كيانهم الفكري، ومن خلال الوسائل الحسية التي حرّكها لتموّن جهاز العقل في وجودهم، ليبدع ما شاء الله له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال، ويربّي لهم حياتهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع، ثم كانت تربيته للوجود كله في مخلوقاته الحية والنامية والجامدة، فيما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكل موجود نظاماً بديعاً من الداخل والخارج، ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثل في الترابط الوجودي المتحرك أو الساكن في وجود الأشياء من خلال حاجتها الذاتية إليها في ذلك كله.
5. من هنا يظهر لنا أن الألوهية، في المفهوم الإسلامي، تمثل حقيقة حيّة متحركة في علاقة الخالق بالمخلوق، كما هي علاقة المخلوق بالخالق، ليبقى الإنسان والحيوان والملك وكل مفردات الوجود في تطلّع دائم، وفي انتظار يومي، لكل العطاء الإلهي في استمرار الوجود، مما يجعل من عملية النموّ عملية مستمرة مع الزمن كله، في حركة الوجود كله التآزر والتآخي بين مفردات الوجود.
6. أمّا كلمة: ﴿الْعَالَمِينَ﴾، تفتح آفاقها لتشمل مفردات الوجود كلها في اختلافها في عناصرها الذاتية وملامحها النوعية، وحركتها الوجودية، وأوضاعها الشكلية، ومجالاتها الحركية، ومداراتها الكونية.. ثم توحّدها في وحدة الخالق المربّي الذي يرعى حركة وجودها، ويمنح كل واحدة منها الخصائص التي تؤدي بها إلى غاية الوجود فيها، لتتآزر كلها في أخوّة وجودية تجعل من ساحة الكون مجالًا للتكامل، فكل وجود منها مسخّر لوجود آخر، حتى مظاهر الصراع بينها لا تبتعد عن نقطة التوازن في دائرة التكامل، فالحيوان الصغير الذي ينمو ليكون طعاما للحيوان الكبير، لا يعيش الصراع بين وجودين، ولكنه يمثّل الوجود الذي يمنح ذاته لوجود آخر، ليتابع نموّه واستمراره في حركة الوجود الصاعد إلى الغاية الكبرى للوجود كله، من خلال التخطيط الإلهيّ للنظام الوجودي الكونيّ الكبير.
7. من خلال ذلك، نستلهم الفكرة الإيمانية التي ترتكز على تآخي الموجودات في حركة الوجود، وهذا ما نتمثله في التطلّع الإيماني الذي ينطلق به الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام عندما يتطلع إلى الصباح، وهو يستقبل الكون كله في شروق الشمس، فيشعر بوحدة الإنسان مع الكون كله بين يدي الله، وفي قبضته وتدبيره، في دعاء الصباح والمساء: أصبحنا (أو أمسينا) وأصبحت الأشياء كلها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بثثت في كل واحد منهما، ساكنه ومتحرّكه ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء وما كنّ تحت الثرى. أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلّا ما قضيت، ولا من الخير إلّا ما أعطيت)، وهذا هو المفهوم الثاني من التصور الإسلامي للعقيدة بالله، فهو ربّ العالمين، أي: رب الوجود)، وهو الرب الذي يرعى خلقه ويقودهم إلى ما فيه هداهم، ويحقق لهم التوازن والتكامل في دائرة الوجود الخاص أو العام.
8. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، موقعهما في هذه السورة، لعله كان بلحاظ الإيحاء بأن الربوبية الشاملة تنفتح على الخلق، ولا سيما الإنسان، من خلال الرحمة الواسعة التي تتسع لتشمل الخلائق كلهم، ليقفوا أمامه في أمل كبير ورجاء عظيم، على هذا الصعيد، ليتوازن الشعور لديهم بين الخوف، من خلال وحي الربوبية الشاملة، وبين الرجاء، من خلال وحي الرحمة الواسعة.
9. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هذه الفقرة تدل على إحاطة الله تعالى وسيطرته على هذا اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، لينطلق التصور في جولة واسعة في ساحة المسؤولية التي يتحملها الإنسان في حياته بين يدي الله، فيما كلّفه الله به من إطاعة أوامره ونواهيه، لأن ذلك هو طبيعة وجود يوم الجزاء، لأن الجزاء لا يكون إلا على الطاعة أو المعصية، كما أن يوم الحساب يفرض وجود يوم للعمل، وهكذا ينفتح الإنسان على ربه المالك ليوم الجزاء ليخاف عقابه من موقع عدله، أو ليرجو ثوابه به موقع رحمته، ليقترب، منه في ساحات الخضوع والخشوع من خلال معرفته بالمصير الأخروي الذي يحمل إليه السعادة الدائمة أو الشقاء الخالد.
10. هكذا تتحرك هذه الآيات الثلاث لتدفع بالإنسان إلى حمد الله تعالى فيما هو التصوّر للربوبية المهيمنة على العالمين، وللرحمة الشاملة الواسعة على كل آفاق حياتهم، وللمالكية المطلقة ليوم الجزاء الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، ليبعث فيهم الشعور بالرغبة أو الرهبة.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/49.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره للحمدلة ما يلي(1).:
1. أول واجبات العباد أن يستحضروا دوما مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله من جهة، وتدفعنا على طريق العبودية من جهة أخرى. وعند ما نقول أن النعم تشكّل دافعا ومحرّكا على طريق العبودية، لأنّ الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على أنعامه. من هنا فإن علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى (وجوب شكر المنعم) باعتباره أمرا فطريا وعقليا دافعا إلى معرفة الله سبحانه. وإنما قلنا إن النعم تهدينا إلى معرفة الله، لأن أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.
2. لفهم عمق هذه العبارة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ وعظمتها يلزمنا توضيح الفرق بين (الحمد) و(المدح) و(الشكر) والنتائج المترتبة على ذلك:
أ. معنى (الحمد)، في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدي شخص عملا طيّبا عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإنّنا نحمده ونثني عليه.
ب. معنى المدح: هو الثناء بشكل عام، سواء كان لأمر اختياري أو غير اختياري، كمدحنا جوهرة ثمينة جميلة، ومفهوم المدح عام، بينما مفهوم الحمد خاص.
ج. أمّا مفهوم (الشكر) فأخصّ من الاثنين، ويقتصر على ما نبديه تجاه نعمة تغدق علينا من منعم عن اختيار.
3. لو علمنا أنّ الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أنّ كل حمد وثناء يختص بالله سبحانه دون سواه. ثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأنّ مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنّما هي في الأصل من ذاته المقدسة، وبعبارة أخرى: حمد هؤلاء هو حمد للّه، والثناء عليهم ثناء على الله تعالى. وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كلّ ذلك منه سبحانه، ولذلك فكلّ الحمد له. وبكلمة أخرى: جملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إشارة إلى توحيد الذات، والصفات، والأفعال.
4. يستفاد من (الحمد) أن الله سبحانه واهب النعم عن إرادة واختيار خلافا لأولئك القائلين إنّ الله تعالى مجبر على أن يفيض بالعطاء كالشمس.
5. جدير بالذكر أن الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضا كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه عن أهل الجنة: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
6. ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ كلمة (ربّ) في الأصل بمعنى مالك وصاحب الشيء الذي يهتم بتربيته وإصلاحه، وكلمة (ربيبة) وهي بنت الزوجة، ومأخوذة من هذا المفهوم للكلمة، لأن الربيبة تعيش تحت رعاية زوج أمّها. والكلمة بلفظها المطلق تعني ربّ العالمين، وإذا أطلقت على غير الله لزم أن تضاف، كأن نقول: ربّ الدار، وربّ السفينة.
7. ﴿الْعَالَمِينَ﴾ جمع (عالم)، والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة ذات صفات مشتركة، أو ذات زمان ومكان مشتركين، كأن نقول: عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم النبات. أو نقول عالم الشرق وعالم الغرب، وعالم اليوم، وعالم الأمس. فكلمة العالم وحدها تتضمن معنى الجمع، وحين تجمع بصيغة (عالمين)، فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم.
8. يلفت النظر هنا أن كلمة عالم جمعت هنا جمعا مذكرا سالما، ونعرف أن جمع المذكر السالم يستعمل في العاقل عادة، ومن هنا ذهب بعض المفسّرين إلى أن كلمة ﴿الْعَالَمِينَ﴾ إشارة إلى المجموعات العاقلة في الكون كالبشر، والملائكة، والجن، ولكن قد يكون هذا الاستعمال للتغليب، أي لتغليب المجموعات العاقلة على غير العاقلة.
9. لو استعرضنا مواضع استعمال (عالمين) في القرآن، لرأينا أن هذه الكلمة وردت في كثير من الآيات بمعنى بني الإنسان، بينما وردت في مواضع أخرى بمعنى أوسع يشمل البشر وسائر موجودات الكون الأخرى، كقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وكقوله سبحانه: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، وعن الإمام علي عليه السّلام في تفسير ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: (ربّ العالمين هم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات)
10. كلمة (عالمين) يمكن فهمها في إطارها الكوني الأوسع، ويمكن فهمها في إطار عالم (الإنسان) ـ كما ورد في رواية الإمام زين العابدين عليه السّلام، لأن الكائن البشري أشرف المخلوقات، ولأنّ الإنسان هو الهدف الأساس من هذه المجموعة الكبرى وليس بين الفهمين أي تناقض.
11. جدير بالذكر أن هناك من قسّم العالم إلى عالم صغير وعالم كبير، والمقصود من العالم الصغير هو الإنسان، لأنه لوحده ينطوي على مجموعة من نفس القوى المتحكمة في هذا الكون الفسيح، والإنسان ـ في الواقع ـ عينيّة مصغرة لكل هذا العالم.
12. عبارة ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ جاءت وكأنّها دليل على عبارة (الحمد للّه)، أي أننا نقول في سورة الفاتحة: إن الحمد مختص بالله تعالى لأنه صاحب كل كمال ونعمة وموهبة في العالم.
13. وصف (الله) بأنّه ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ من قبيل ذكر الدليل بعد ذكر الادعاء، وكأنّ سائلا يقول: لم كان حمد للّه؟ فيأتي الجواب: لأنّه ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ وفي موقع آخر يقول القرآن عن الباري سبحانه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ . ويقول أيضا: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ .
14. شهد التاريخ البشري ألوان الانحرافات عن خط التوحيد، والصفة البارزة في هذه الانحرافات هو الاعتقاد بوجود آلهة متعددة لهذا العالم، وفكرة التعدد انطلقت من ضيق نظرة أصحابها الذين راحوا يعيّنون لكل جانب من جوانب الكون والحياة إلها، وكأنّ ربوبيّة العالمين لا يمكن إناطتها لمصدر واحد! وراحت بعض الأمم تصنع الآلهة لأمور جزئية كالحب والعقل والتجارة والحرب والصيد، واليونانيّون مثلا كانوا يعبدون اثنتي عشرة الهة وضعوها على قمة (أولمپ) وكل واحدة منها تمثل جانبا من صفات البشر!.. والكلدانيّون اعتقدوا بإله الماء وإله القمر وإله الشمس وإله الزهرة، وأطلقوا على كل واحد منها اسما معينا، واتخذوا فوق ذلك (مردوخ) إلها أكبر لهم.. والروم تعددت آلهتهم أيضا، وراج سوق الشرك عندهم أكثر من أية أمّة أخرى. فقد قسموا الآلهة إلى مجموعتين: آلهة الأسرة وآلهة الحكومة، ولم يكونوا يكنون ولاء لآلهة الحكومة، (لعدم ارتياحهم من حكومتهم!). وقد ورد في التاريخ أن الروم اتخذوا لهم ثلاثين ألف إلها حتى قال أحد رجالهم مازحا: إن عدد الهتنا من الكثرة إلى درجة أنها اكثر من المارّة في الأزقة والطرقات، وكلّ واحد منها مظهر من مظاهر الكون المشهودة، إله مثل إله الزراعة، وإله المطبخ، وإله مستودع الطعام، وإله البيت، وإله النار، وإله الفاكهة، وإله الحصاد، وإله شجرة العنب، وإله الغابة، وإله الحريق، وإله بوابة روما، وإله بيت النار.
15. الخلاصة، أن البشرية كانت غارقة في وحل الخرافات كما أنها تعاني الآن أيضا من ذلك الموروث السقيم، وفي عصر نزول القرآن كان في الجزيرة العربية وفي كثير من مناطق العالم، آلهة تعبد من دون الله، كما كانت عبادة الأفراد رائجة، وإلى ذلك يشير القرآن في خطابه لليهود والنصارى إذ يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ . بعبارة موجزة: حين تنحرف البشرية عن خط التوحيد، وتتورط في شراك الخرافات وفخاخ الأوهام. فمضافا الى أنها تساهم في تغريب العقل وانحطاط الفكر، تؤدي الى تشتت المجتمع وتعمل على تمزيقه. خط التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء يتميز بنبذ الآلهة المتعددة، وهداية البشرية نحو الإله الواحد الأحد.
16. انطلاقا من هذه الأهمية القصوى للقضاء على الآلهة المتعددة جاء التأكيد القرآني بعد آية البسملة بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . وبهذا يرسم القرآن الكريم خط البطلان على جميع الآلهة المزيفة وارباب النوع ويلقي بها في وادي العدم مكانها الاوّلي، ويغرس محلّها أزهار التوحيد والاتحاد. هذا التأكيد يتلوه الإنسان المسلم عشر مرات في صلواته اليومية ـ على الأقل ـ لتترسخ فكرة التوحيد، وفكرة رفض ربوبية كل الأرباب والآلهة، غير ربوبيّة الله ربّ العالمين.
17. ربوبية الله طريق لمعرفة الله كلمة (الربّ)، وإن كانت تعني في الأصل المالك والصاحب، تتضمّن معنى الصاحب المتعهّد بالتربية.. وإمعان النظر في المسيرة التكاملية للموجودات الحيّة، وفي التغييرات والتحولات التي تجري في عالم الجماد، وفي الظروف التي تتوفّر لتربية الموجودات، وفي تفاصيل هذه الحركات والعمليات، هو أفضل طريق لمعرفة الله. والتنسيق اللاإرادي بين أعضاء جسدنا هو نموذج حيّ لذلك. لو واجهنا في حياتنا ـ مثلا ـ حادثة هامّة تتطلب منّا أن ننهض أمامها بقوة وحزم، فإنّ أوامر منسّقة تصدر خلال لحظة قصيرة إلى جميع أجزاء جسدنا بشكل لا إرادي، وبسرعة خاطفة يشتد ضربان قلبنا وتنفسنا، وتتجهز كل قوانا، وتتدفق المواد الغذائية والأوكسجين ـ المحمولة عن طريق الدم ـ إلى جميع الخلايا، وتتأهب الأعصاب والعضلات للعمل والحركة السريعة، وترتفع قدرة تحمّل الإنسان للمتاعب والآلام، ويغادر النوم العيون، ويزول التعب من الأعضاء، ويزول الإحساس بالجوع. من الذي أوجد هذا التنسيق العجيب في هذه اللحظة الحساسة، وبهذه السرعة، بين جميع أجزاء وجود الإنسان؟ هل هذه العناية والتربية ممكنة من غير الله العالم القادر!؟ آيات القرآن الكريم تكثر من عرض نماذج لهذه التربية الإلهية، سنتعرض لها في مكانها إن شاء الله تعالى، وكل واحدة منها دليل واضح على معرفة الله.
18. ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ هاتان الصفتان تتكرران في البسملة والحمد، والملتزمون بذكر البسملة في السّورة بعد الحمد يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة، وبذلك يصفون الله برحمته ستين مرّة يوميا. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق الله، وتواقة للتخلق بأخلاق الله. إنه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة. القرآن يركز على علاقة الرحمة والرأفة بين ربّ العباد والعباد، حيث يقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ . هذه العلاقة نستحضرها مرات يوميا إذ نقول: ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، لنربّي أنفسنا تربية صحيحة في علاقتنا بالله، وفي علاقتنا بأبناء جنسنا.
19. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ هذه الآية تلفت الأنظار إلى أصل هامّ آخر من أصول الإسلام، هو يوم القيامة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.. وتعبير (مالك) يوحي بسيطرة الله التامة وهيمنته المستحكمة على كل شيء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضرا، فلا يضيع أي شيء ـ مهما صغر ـ ولا ينسى، والإنسان ـ وحده ـ يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه.
20. مالكية الله في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم، ملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق أخرى، لكن ملكية الله لعالم الكون ملكية حقيقية، تتمثل في ارتباط الموجودات ارتباطا خاصا بالله، ولو انقطع هذا الارتباط لحظة لزالت الموجودات تماما مثل زوال النور من المصابيح الكهربائية، حين ينقطع اتصالها بالمولّد الكهربائي.. بعبارة أخرى: مالكية الله نتيجة خالقيته وربوبيته. فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات، ونستطيع أن نرى نموذجا مصغرا للمالكية الحقيقية، في مالكيتنا لأعضاء بدننا، نحن نملك ما في جسدنا من عين وأذن وقلب وأعصاب، لا بالمعنى الاعتباري للملكية، بل بنوع من المعنى الحقيقي القائم على أساس الارتباط والإحاطة.
21. سؤال وإشكال: لماذا وصفنا الله بأنه ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ بينما هو مالك الكون كله؟ والجواب: هو أنّ الله مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأن الارتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشى كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلا بأمر الله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ .. بتعبير آخر: قد يسارع الإنسان في هذه الدنيا لمساعدة إنسان آخر، ويدافع عنه بلسانه، ويحميه بأمواله، وينصره بقدرته وأفراده، وقد يشمله بحمايته من خلال مشاريع ومخططات مختلفة، لكن هذه الألوان من المساعدات غير موجودة في ذلك اليوم. من هنا حين يوجه هذا السؤال إلى البشر: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ يجيبون: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ .
22. الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى التي يخضع فيها كل شيء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنها تذكر الإنسان بالمبدأ المطلّع على حركاته وسكناته وتذكّره أيضا بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.
23. التركيز على مالكية الله ليوم القيامة يقارع من جهة أخرى معتقدات المشركين ومنكري المعاد، لأن الإيمان بالله عقيدة فطرية عامة، حتى لدى مشركي العصر الجاهلي، وهذا ما يوضحه القرآن إذ يقول: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ بينما الإيمان بالمعاد ليس كذلك، فهؤلاء المشركون كانوا يواجهون مسألة المعاد بعناد واستهزاء ولجاج: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ . وروي عن علي بن الحسين السجاد عليه السّلام: أنّه كان إذا قرأ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يكرّرها حتّى يكاد أن يموت.
24. تعبير ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾، حيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات 17 و18 و19 من سورة الانفطار ورد هذا المعنى بصراحة.
25. سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، لأن يوم القيامة يوم الجزاء، و(الدين) في اللغة (الجزاء)، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تكشف السرائر ويحاسب النّاس عما فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحا أم طالحا. وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام يقول: يوم الدّين هو يوم الحساب) (والدين) استنادا إلى هذه الرواية يعني (الحساب)، وقد يكون هذا التعبير من قبيل ذكر العلّة وإرادة المعلول. لأن الحساب دوما مقدمة للجزاء. من المفسّرين من يعتقد أن سبب تسمية ﴿يَوْمُ الدِّينِ﴾ يعود إلى أن كل إنسان يوم القيامة يجازى إزاء دينه ومعتقده. لكن المعنى الأول (الحساب والجزاء) يبدو أقرب إلى الصحة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/37.
3. العبادة والاستعانة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع الثالث من سورة الفاتحة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنه قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يعني: إياك نوحد ونخاف ونرجو ربنا، لا غيرك، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على طاعتك، وعلى أمورنا كلها(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٥٩.
الباقر:
روي عن الحسن بن محمد الجمال قال بعث عبد الملك بن مروان الى عامل المدينة، أن وجه الي محمد بن علي بن الحسين ولا تهيجه ولا تروعه، واقض له حوائجه، وقد كان ورد على عبد الملك، رجل من القدرية، فحضر جميع من كان بالشام، فأعياهم جميعا، فقال: ما له إلا محمد بن علي، فكتب الى صاحب المدينة، أن يحمل محمد بن علي اليه، فأتاه صاحب المدينة، بكتابه، فقال له أبو جعفر ـ: إني شيخ كبير لا أقوى على الخروج، وهذا جعفر، ابني، يقوم مقامي، فوجهه اليه، فلما قدم على الأموي ازدراه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبين القدري، مخافة أن يغلبه، وتسامع الناس، بالشام، بقدوم جعفر، لمخاصمة القدري، فلما كان من الغد، اجتمع الناس، لخصومتهما، فقال الأموي لأبي عبد الله: انه قد أعيانا، أمر هذا القدري، وإنما كتبت اليك لأجمع بينك وبينه، فإنه لم يدع عندنا أحدا، إلا خصمه، فقال: إن الله يكفيناه، فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد الله: سل عما شئت! فقال له: اقرأ سورة الحمد! قال فقرأها، فقال الأموي ـ أنا معه: ما في سورة الحمد علينا، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، قال فجعل القدري يقرأ سورة الحمد، حتى بلغ قول الله ـ تبارك وتعالى ـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فقال له جعفر: قف! بمن تستعين؟ وما حاجتك الى المعونة؟ إن الأمر اليك، ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(1). وظاهر أن المراد من القدري هنا هو الذي ينكر الاستعانة بالله تعالى، وليس ذلك الذي يخالف الجبري.
__________
(1) الاحتجاج: 1/25.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنه قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أمركم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : ثم أمر عباده بالإخلاص، فقال: قولوا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ : لا نعبد غيرك، ومعنى ﴿نَعْبُدُ﴾ : نطيع ونتعبد، ونصلى ونوحد. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : على عبادتك؛ فأمرهم تبارك وتعالى أن يستعينوا به فيما يتعبدهم في كل أمورهم؛ لأنهم لا ينالون خيرا إلا بالله تعالى.. وقد كان الكفار يستعينون بآلهتهم التي كانوا يعبدون من دون الله تعالى، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يخلصوا ذلك له(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/9.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه قال عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، رغبة وتقرب الى الله تعالى ذكره، واخلاص له بالعمل، دون غيره، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة، لما أنعم الله عليه ونصره(1).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 1/203 ـ: 214.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هو: نوحد ونفرد.. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نسأل العون على أمرنا، وتوفيقنا لما يرضيك عنا(1).
__________
(1) مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم الرسّي: 2/70.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال الله تعالى: قولوا أيها الخلق المنعم عليهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أيها المنعم علينا، ونطيعك مخلصين، مع التذلل والخضوع، بلا رياء ولا سمعة، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، منك نسأل المعونة على طاعتك، لنؤديها كما أمرت، ونتقي من دونيانا، ما عنه نهيت، ونعتصم من الشيطان الرجيم ومن سائر مردة الجن والانس، المضلين ومن المؤذين الظالمين، بعصمتك(1).
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص18.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ معناها: أنت معبودنا لا غيرك، ومعنى ﴿نَعْبُدُ﴾ هو: نطيع ونتعبد.. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ معناها: إياك نسأل العون على أمرنا، والتوفيق لما يرضيك عنا(1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/134.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هو على إضمار الأمر، أي قل: ذا، ثم لم يجعل له أن يستثنى في القول به، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين:
أ. أحدهما، يحال القول به على الخبر عن حاله؛ فيجب ألا يستثنى في التوحيد، وأن من يستثنى فيه عن شكّ يستثنى. والله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ الآية [الحجرات: 15]. وكذلك سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أفضل الأعمال فقال: (إيمان لا شكّ فيه)
ب. الثاني، عن الأحوال التي ترد في ذلك، لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات، إنما تعتقد للأبد؛ لذلك لم يجز الثناء فيه في الأبد.
2. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يتوجه وجهين:
أ. أحدهما: إلى التوحيد، وكذا روى عن ابن عباس أنه قال: (كلّ عبادة في القرآن فهو توحيد)
ب. والآخر: أن يكون على كل طاعة أن يعبد الله بها، وأصلها يرجع إلى واحد؛ لما على العبد أن يوحد الله ـ تعالى ـ في كل عبادة لا يشرك فيها أحدا، بل يخلصها فيكون موحّدا لله تعالى بالعبادة والدين جميعا. وعلى ذلك قطع الطمع، والخوف، والحوائج كلها عن الخلق. وتوجيه ذلك إلى الله تعالى بقوله: ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15] وعلى ذلك المؤمن لا يطمع في الحقيقة بأحد غير الله، ولا يرفع إليه الحوائج، ولا يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن الله جعله سببا لوصول بلاء من بلاياه إليه على يديه؛ فعلى ذلك يخافه، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعل سبب ما دفعه إليه على يديه، فبذلك يرجو ويطمع، فيكون ذلك من الضّالّين، فيكون في ذلك التعوّذ من جميع أنواع الذنوب، والاستهداء إلى كل أنواع البر.
3. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ طلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجه دينا ودنيا.. ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ على طلب التوفيق لما أمر به، والعصمة عما حذّره عنه، وكذلك الأمر البيّن في الخلق من طلب التوفيق، والمعونة من الله، والعصمة عن المنهى عنه جرت به سنة الأخيار.
4. لا يصلح هذا على قول المعتزلة؛ لأن تلك المعونة على أداء ما كلف قد أعطى؛ إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفا قد بقى شيء ـ مما به أداء ما كلف ـ عند الله، وطلب ما أعطى كتمان العطية، وكتمان العطية كفران؛ فيصير كأنّ الله أمر أن يكفر نعمه ويكتمها ويطلبها منه تعنتا، وظنّ مثله بالله كفر.. ثم لا يخلو من أن يكون عند الله ما يطلب فلم يعطه التمام إذا، أو ليس عنده فيكون طلبه استهزاء به، إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف، مع ما كان الذي يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم؛ إذ لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدين فلا يعطى، أو ليس له ألا يعطى فكأنه قال اللهم لا تجر. ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به، وهذا مع ما كان لا يدعو الله أحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبه أنه لا يذل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثله يملك الله عند المعتزلة، ولا قوة إلا بالله، وقد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال في خبر القسمة: (الله يقول: هذا بيني وبين عبدى نصفين). وذلك يحتمل: أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعا الفزع إلى الله بالعبادة، والاستعانة ورفع الحاجة إليه، وإظهار غناه ـ جل وعلا ـ عنه؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه، وطلب الحاجة إليه.. ويحتمل: أن يكون الحرف الأول لله بما فيه عبادته وتوحيده، والثاني للعبد بما فيه طلب معونته وقضاء حاجته. ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أخرج على الدعاء فقال الله ـ عزّ وجل ـ: هذا لعبدى، ولعبدى ما سأل.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/363.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ نطيع ونوحد.. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من: العون، والهداية، والتوفيق للطاعة والدين.. ومعنى قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هو أمر من الله عز وجل بالقول ولكن اختصر، ومعنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هو نوحد ونفرد، ونخشع ونطيع ونسجد(1).
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 1/94.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في قوله عز وجل ﴿إِيَّاكَ﴾ :
أ. قيل: كناية عن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف وهذا قول جيد.
ب. الثاني أنها كلمة واحدة كنى بها عن اسم الله تعالى وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف.
2. في قوله ﴿نَعْبُدُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن العبادة الخضوع فلا يستحقها إلا المنعم بأصول النعم كالحياة والقدرة والسمع والبصر.
ب. الثاني: أن العبادة الطاعة.
ج. الثالث: أنها التقرب بالطاعة.
والأولى أظهرها لأن النصارى عبدت عيسى ولم تطعه والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مطاع، وليس بمعبود بالطاعة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/21.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ﴾ : هو كناية عن اسم الله تعالى، وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف، وهذا قول الخليل.
ب. الثاني: أنها كلمة واحدة كنّي بها عن اسم الله تعالى، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف، وهذا قول الأخفش(1).
2. في قوله تعالى: ﴿نَعْبُدُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى، لأنها أعلى مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر.. وهو أظهرها، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السّلام، ولم تطعه بالعبادة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مطاع، وليس بمعبود بالطاعة.
ب. الثاني: أن العبادة الطاعة.
ج. الثالث: أنها التقرب بالطاعة.
__________
(1) تفسير أبي الحسن الماوردي: 1/58.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿نَعْبُدُ﴾ : العبادة ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع ولا تستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة وما يقدر من النعم لا يوازيه نعمة منعم فلذلك اختص الله بأن يعبد، وان استحق بعضنا على بعض الشكر والعبادة في اللغة الذلة، يقال هذا طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء وبعير معبد اي مذلل بالركوب، وقيل أصله إذا طلي بالقطران، وسمي العبد عبداً لذلته لمولاه، ومن العرب من يقول: هيّاك، فيبدل الألف هاء كما يقولون: هيه وايه(2).
4. من استدلّ بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث إن القدرة لو كانت متقدمة لما كان لطلب المعونة وجه إذا كان الله قد فعلها فيه فقد اخطأ، لأن الرغبة في ذلك تحتمل أمرين:
أحدهما ـ ان يسأل الله تعالى من الطافه، وما يقوي دواعيه ويسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل، ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في عاقبة الثواب العظيم والمنازل الجليلة زاد ذلك في نشاطه ورغبته.. والثّاني ـ أن يطلب بقاء كونه قادراً على طاعاته المستقبلة بأن يجدد له القدرة حالًا بعد حال عند من لا يقول ببقائها أو لا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها.
5. اختلف في سر تقديم العبادة على المعونة، مع أن العبادة لا تتم إلّا بتقدم المعونة أولا:
أ. قيل: المراد به التقديم والتأخير، فكأنه قال إياك نستعين و ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
ب. وقيل: ليس يتغير بذلك المعنى، كما أن القائل إذا قال أحسنت إلي فقضيت حاجتي أو قضيت حاجتي فأحسنت الي، فإن في الحالين المعنى واحد، وقال قوم انهم سألوا المعونة على عبادة مستأنفة لا على عبادة واقعة منهم.
6. إنما حسن طلب المعونة، وان كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع اليه كما قال: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾، ولأنه قد لا يكون في ادامته التكليف اللطف ولا في فعل المعونة به الا بعد تقدم الدعاء من العبد.
7. إنما كرّر إياك لأن الكاف التي فيها هي كاف الضمير التي كانت تكون بعد الفعل في قوله نعبدك، فلما قدمت، زيد عليها أيا لأن الاسم إذا انفرد لا يمكن أن يكون على حرف واحد فقيل إياك ولما كانت الكاف يلزم تكرارها لو كرر الفعل وجب مثل ذلك في إياك.. ألا ترى انه لو قال نعبدك ونستعينك ونستهديك لم يكن بد من تكرير الكاف، وكذلك لو قدم فقيل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وفيه تعليم لنا ان نجدد ذكره عند كل حاجة.
8. من قال انه يجري مجرى قول عدي بن زيد العبادي:
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وكقول اعشى همدان:
بين الأشج وبين قيس باذخ... بخ بخ لوالده وللمولود
فكرر لفظ بين، فقد أخطأ لأن في البيتين لو لم تكرر بين لكان الفعل مستحيلا، ألا ترى أنه لو قال الشمس قد فصلت بين النهار لم يكن كلاماً صحيحاً، وكذلك البيت الآخر وليس كذلك الآية، لأنه لو قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وسكت لكان مستقلّا بنفسه ولهذا طعن به بعض المفسّرين، وعندي أن هذا ليس بطعن، لأنه مغالطة لأنه لو قال بين النهار والليل لكان كلاماً صحيحاً وإنما كرر بين وكذلك لو قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ونستعين كان كلاماً صحيحاً وإنما كرر إياك تأكيداً والعلة ما ذكرناه أولا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/38.
(2) .
2. معنى الاستعانة لغة: نستعين اي نطلب منك المعونة على طاعتك وعبادتك، وأصله نستعون لأنه من المعونة فقلبت الواو ياء لثقل الكسرة عليها ونقلت كسرتها الى العين قبلها وبقيت الياء ساكنة.
3. التقدير في أول السورة الى هاهنا، أي قل يا محمد هذا الحمد.. وهذا كما قال: ﴿ وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُو رؤُوسِهِم عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا ﴾ اي: يقولون ربنا، وكما قال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ اي: يقولون سلام عليكم<تفسير الطوسي: 1/38.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿إِيَّاكَ﴾، أصله إِوْياك، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، فصار إياك، وأصله من آوى يُؤْوِي إيواء، كأن فيه معنى الانقطاع والقصد، وإياك يستعمل مقدمًا على الفعل، ولا يستعمل مؤخرًا، إلا أن يفصل بينه وبين الفعل فاصل، فتقول: ما عبدت إلا إياك، قال أبو حاتم: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة: متصل، كقولك: أكرمته، وأكرمك، ومنفصل، كقولك: إياك، ومستكن، كقولك: قام، وقعد.
ب. أصل العبادة في اللغة: التذلل، ومنه طريق مُعَبَّد، أي مذلل، ومن زعم أن العبادة الطاعة فقد أخطأ؛ لأن النصارى عبدوا المسيح، وهم غير مطيعين له، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة.
ج. الاستعانة: سؤال الإعانة، والمعونة: هي الزيادة على القوم بما يسهل الوصول إلى البغية، أعانه إعانة فهو معين، واستعان به فهو مستعين(1).
2. لما بين تعالى أنه مالك الدنيا والآخرة أمر بأن يُعْبَدَ دون غيره، ويستعان به في دون غيره، فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي نخضع لك، ونوجه العبادة إليك، ( ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ) أي نطلب المعونة منك على عبادتك.
3. ما الذي يجب على العبد أن يفعل حتى يصير فعله عبادة؟ والجواب: ينبغي أن يكون الفعل مما يُتَقَرَّبُ به إليه، ثم يقصد به التقرب، فحينئذ يكون هو متقربا، وفعله عبادة، ثم المؤمن يقصد بالتقرب طلب المنزلة والثواب عنده، والفاسق يقصد طلب النجاة أو التخفيف، وجميع ذلك لا يصح إلا بعد معرفة المعبود، وهذا في الشرعيات التي هي ألطاف لا تكون عبادة إلا بالقصد، فأما العقليات، فقد يقع به قربة، وتستحق الثواب من غير قصد القربة كالنظر في معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته؛ لأن كل ذلك يصح قبل معرفة القديم سبحانه، وإنما استحق القديم العبادة لقدْرته على أصول النعم، وفعله ذلك دون غيره.
4. سؤال وإشكال: ﴿إِيَّاكَ﴾ خطاب مشاهد، وهو غير مشاهد؟ والجواب: هو في حكم المشاهد؛ لكونه عالما قادرا عليه، رائيا له، سامعا لما يقوله.
5. سؤال وإشكال: لم قيل: ﴿إِيَّاكَ﴾ )، ولم يقتصر على كاف الخطاب؟ والجواب: لأنه لو قدم اشتبه بكاف التشبيه، فكأن أريد تقديم اسمه فقال: إِيَّاكَ)، وقيل: لأن فيه إثباتا ونفيا، إثبات العبادة له، ونفيها عن غيره.
6. سؤال وإشكال: لم قدم العبادة على المعونة، وطلبُ المعونة على الماضي يستحيل؟ والجواب:
أ. قيل: الواو للجمع.
ب. وقيل: سألوا المعونة على عبادة يستأنفونها.
ج. وقيل: هو خبر، أي: نطلب منك المعونة.
د. وقيل: معناه: منك نطلب المعونة على حوائج الدنيا والآخرة.
هـ. وقيل: من عَلِمَ حُسْنَ فِعْلٍ أَحبًّ أن يعان عليه، ولأن الطلب قد يكون عبادة وإن كان واجبًا، كاستغفار الملائكة للمؤمنين، ولأنه قد يكون لطفًا عند سؤال العبد، ولا يكون لطفًا لولا سؤاله ولهذا تعبَد به.
7. معونة الله تعالى على ضربين:
أ. تمكين كالقدرة والآلة، وذلك قد فُعِلَ بجميع المكلفين.
ب. ما يقربه إلى فِعْلِ ما كُلِّفَ، أو إلى اختياره، كالألطاف، ويختص ذلك بِمَنْ المعلوم أن له لطفًا، ثم اللطف قد يتقدم الفعل وقد يقارنه.
8. سؤال وإشكال: إذا كان عندكم المعونة منه واجبة فما معنى السؤال؟ والجواب: من عَلِمَ حُسْنَ فِعْلٍ أَحبًّ أن يعان عليه، ولأن الطلب قد يكون عبادة وإن كان واجبًا، كاستغفار الملائكة للمؤمنين، ولأنه قد يكون لطفًا عند سؤال العبد، ولا يكون لطفًا لولا سؤاله ولهذا تعبَد به.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب العبادة له؛ لأن تقديره: قولوا، فلو لم تجب لم يصح ذلك.
ب. على وجوب الإخلاص؛ لذلك قال: ﴿إِيَّاكَ﴾
ج. على وجوب الاستعانة والانقطاع إليه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/210.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العبادة: في اللغة هي الذلة يقال: طريق معبد أي: مذلل بكثرة الوطء، قال طرفة:
تباري عتاقا ناجيات، وأتبعت... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
وبعير معبد: إذا كان مطليا بالقطران.. وسمي العبد عبدا لذلته، وانقياده لمولاه.
أ. الاستعانة: طلب المعونة، يقال: استعنته، واستعنت به.
2. مسائل نحوية:
أ. قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: موضع ﴿إِيَّاكَ﴾ نصب بوقوع الفعل عليه، وموضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا إليها.. وإيا اسم للضمير المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات، نحو قولك: إياك ضربت، وإياه ضربت، وإياي حدثت، ولو قلت: إيا زيد حدثت، كان قبيحا، لأنه خص به المضمر.. وقد روى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وأيا الشواب، وهذا كلام الزجاج، ورد عليه الشيخ أبو علي الفارسي فقال: إن إيا ليس بظاهر بل هو مضمر يدل على ذلك تغير ذاته وامتناع ثباته في حال الرفع والجر، وليس كذلك الاسم الظاهر ألا ترى أنه يعتقب عليه الحركات في آخره، ويحكم له بها في موضعه من غير تغير نفسه، فمخالفته للمظهر فيما وصفناه يدل على أنه مضمر ليس بمظهر.. قال: وحكى السراج عن المبرد، عن أبي الحسن الأخفش أنه مفرد مضمر، يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات، لاختلاف أعداد المضمرين.
ب. الكاف في ﴿إِيَّاكَ﴾ كالتي في ذلك، وهي دالة على الخطاب فقط، مجردة عن كونها علامة للمضمر، فلا محل لها من الإعراب.. وهكذا الحكم في إياي وإيانا وإياه وإياها، في أنها حروف تلحق إيا.. فالياء في إياي دليل على التكلم، والهاء في إياه تدل على الغيبة، لا على نفس الغائب.. ويجري التأكيد على إيا منصوبا، تقول: إياك نفسك رأيت، وإياه نفسه ضربت، وإياهم كلهم عنيت، فاعرفه.. ولا يجيز أبو الحسن إياك وأيا زيد، ويستقل روايتهم عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، ويحمله على الشذوذ، لأن الغرض في الإضافة التخصيص، والمضمر على نهاية التخصيص، فلا وجه إذا لإضافته.
ج. الأصل في ﴿نَسْتَعِينُ﴾ : نستعون، لأنه من المعونة والعون، لكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة عليها، فنقلت كسرتها إلى العين قبلها، فتصير الياء ساكنة، لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا، نحو: أعان يعين، وقام يقوم، وفي شرحه كلام.
د. ﴿نَعْبُدُ﴾ و ﴿نَسْتَعِينُ﴾ : مرفوع لوقوعه موقعا يصلح للاسم، ألا ترى أنك لو قلت أنا عابدك وأنا مستعينك، لقام مقامه، وهذا المعنى عمل فيه الرفع.. وأما الإعراب في الفعل المضارع فلمضارعته الاسم، لأن الأصل في الفعل البناء، وإنما يعرب منه ما شابه الأسماء، وهو ما لحقت أوله زيادة من هذه الزيادات الأربع التي هي: الهمزة، والنون، والتاء، والياء.
3. قوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : أدل على الاختصاص من أن نقول نعبدك ونستعينك، لأن معناه نعبدك، ولا نعبد سواك، ونستعينك، ولا نستعين غيرك، كما إذا قال الرجل: إياك أعني، فمعناه: لا أعني غيرك، ويكون أبلغ من أن يقول أعنيك.
4. العبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم، ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة، ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد، ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، وتحسن الطاعة لغير الله تعالى، ولا تحسن العبادة لغيره.
5. قول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود، يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر، وقد يكون موافقا لأمره، ولا يكون عابدا له، ألا ترى أن الابن يوافق أمر الأب، ولا يكون عابدا له، وكذلك العبد يطيع مولاه، ولا يكون عابدا له بطاعته إياه، والكفار يعبدون الأصنام، ولا يكونون مطيعين لهم، إذ لا يتصور من جهتهم الأمر.
6. معنى قوله ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : إياك نستوفق ونطلب المعونة على عبادتك، وعلى أمورنا كلها، والتوفيق: هو أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل، ولهذا لا يقال فيمن أعان غيره: وفقه، لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل.
7. اختلف في سبب تكرار قوله ﴿إِيَّاكَ﴾ :
أ. قيل: لأنه لو اقتصر على واحد، ربما توهم متوهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما، ولا يمكنه أن يفصل بينهما، وهو إذا تفكر في عظمة الله تعالى كان عبادة، وإن لم يستعن به.
ب. وقيل: انه جمع بينهما للتأكيد، كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو، ولو اقتصر على واحد فقيل: بين زيد وعمرو، كان جائزا، قال عدي بن زيد:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به... بين النهار، وبين الليل، قد فصلا
وقال أعشى همدان:
بين الأشج، وبين قيس باذخ... بخ بخ لوالده، وللمولود
وهذا القول فيه نظر، لأن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن محمولا على فعل ثان، وإياك الثاني في الآية محمول على نستعين، ومفعول له، فكيف يكون تأكيدا.
ج. وقيل: إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة.
8. سؤال وإشكال: إن عبادة الله تعالى لا تتأتى بغير إعانة منه، فكان يجب أن يقدم الاستعانة على العبادة، والجواب:
أ. إنه قدم العبادة على الاستعانة لا على الإعانة، وقد تأتي بغير استعانة.
ب. أيضا فإن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر، لم يختلف التقديم والتأخير، كما يقال: قضيت حقي فأحسنت إلي، وأحسنت إلي فقضيت حقي.
ج. وقيل: إن السؤال للمعونة إنما يقع على عبادة مستأنفة، لا على عبادة واقعة منهم، وإنما حسن طلب المعونة، وإن كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه تعالى كقوله ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ ولأنه ربما لا يكون اللطف في إدامة التكليف، ولا في فعل المعونة به إلا بعد تقديم الدعاء من العبد.
9. أخطأ من استدلّ بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل، من حيث إن القدرة لو كانت متقدمة، لما كان لطلب المعونة وجه، لأن للرغبة إلى الله تعالى في طلب المعونة وجهين:
أ. أحدهما: أن يسأل الله تعالى من ألطافه، وما يقوي دواعيه، ويسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل، ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في فعله الثواب العظيم، زاد ذلك في نشاطه ورغبته.
ب. والثاني: أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعته المستقبلة بأن تجدد له القدرة حالا بعد حال، عند من لا يقول ببقائها، وأن لا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها.
10. العدول عن الخبر إلى الخطاب في قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلى آخر السورة، هو على عادة العرب المشهورة وأشعارهم من ذلك مملوءة، قال لبيد:
باتت تشكى إلي النفس مجهشة... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وقال أبو كثير الهذلي:
يا لهف نفسي كان جدة خالد... وبياض وجهك للتراب الأعفر
فرجع من الاخبار عن النفس إلى مخاطبتها في البيت الأول، ومن الإخبار عن خالد إلى خطابه في البيت الثاني، وقال الكسائي: تقديره قولوا إياك نعبد، أو قل يا محمد هذا كما قال الله تعالى: ﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا ﴾ وقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ﴾ أي: يقولون سلام.
__________
(1) تفسير الفضل بن الحسن الطَبرِسي: 1/101.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ﴾، العرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾، وقوله: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾، وقال لبيد:
باتت تشكّى إليّ النفس مجهشة... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
2. في المراد بهذه العبارة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها بمعنى التّوحيد. روي عن عليّ، وابن عباس في آخرين.
ب. الثاني: أنها بمعنى الطّاعة، كقوله: ﴿لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾
ج. الثالث: أنها بمعنى الدّعاء؛ كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾
__________
(1) زاد المسير: 1/20.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير، وهو مأخوذ من قولهم: طريق معبد، أي مذلل، وقولك ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ معناه لا أعبد أحداً سواك، والذي يدل على هذا الحصر وجوه:
أ. الأول: أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به، ولذلك مراتب:
• المرتبة الأولى ـ وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9] وقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] ـ الآية.
• المرتبة الثانية ـ وهي خلق المنتفع به ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]
فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى، فلهذا المعنى قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فإن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يفيد الحصر.
ب. الثاني: في دلائل هذا الحصر والتعيين: وذلك لأنه تعالى سمى نفسه هاهنا بخمسة أسماء: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وللعبد أحوال ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل: أما الماضي فقد كان معدوماً محضاً كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9] وكان ميتاً فأحياه الله تعالى كما قال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] وكان جاهلًا فعلمه الله كما قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل: 78] والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديماً أزلياً، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوماً كان محتاجاً إلى الرب الرحمن الرحيم، أما لما دخل في الوجود انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات، فقال الله تعالى: أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود. أما بعد أن أصرت موجوداً فقد كثرت حاجاتك إليّ فأنا رب رحمن رحيم، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى، فلا جرم قال العبد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على سبيل الحصر.
ج. الثالث: في دليل هذا الحصر، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادراً عالماً محسناً جواداً كريماً حليماً، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه، لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكاً فيه، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبوداً للخلق أمر يقيني، وأما كون غيره معبوداً للخلق فهو أمر مشكوك فيه، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
د. الرابع: أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ، ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره، وأيضاً قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره، فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره، فلهذا السبب قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
هـ. الخامس: أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكناً لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته كان محتاجاً فقيراً والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير، والشيء ما لم يكن غنياً في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى، فمستحق العبادات هو الله تعالى، فلهذا السبب قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
و. السادس: استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة، وأرضاً بلا دعامة، ويسير الشمس والقمر، ويسكن القطبين، ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق، وتارة الهواء وهي الريح، وتارة الماء وهو المطر، وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر، وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مقيمة لا تسافر وهي الجبال، وأجساماً مسافرة لا تقيم وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه، ورفع محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم فجعل قاب قوسين تحته، وجعل الماء ناراً على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا ناراً، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ورفع موسى فوق الطور، وقال له: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ [طه: 12] ورفع الطور على موسى وقومه ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: 63] وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله: ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: 40] وجعل البحر يبساً لموسى عليه السلام، فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك، فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه.
2. قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يدل على أنه لا معبود إلا الله، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله، فقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يدل على التوحيد المحض.
3. قدّم قوله ﴿إِيَّاكَ﴾ على قوله ﴿نَعْبُدُ﴾ ولم يقل نعبدك لوجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى قدّم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يميناً وشمالًا.. يحكى أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع رستاقياً جلفاً فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مراراً، فقيل للرستاقي: إنه فلان الأستاذ، فانصرع في الحال منه، وما ذاك إلا لاحتشامه منه.. عرفه ذاته أولًا حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة.
ب. ثانيها: أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولًا قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات.. ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة، فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولًا معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية، ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب، ثم عقّب عليهما بقوله: فكذا هاهنا: إذا شاهد جمال ﴿إِيَّاكَ﴾ سهل عليه تحمل ثقل العبودية.
ج. ثالثها: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201] فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات.
د. رابعها: أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولًا بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن، فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر، أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولًا إياك ثم قلت ثانياً نعبد كان قولك أولًا إياك صريحاً بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى، فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك.
هـ. خامسها: وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار، فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدماً على ذكر الخلق.
و. سادسها: قال بعض المحققين: من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء، وحينئذ يكون غرقاً في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه، وكل من كان كذلك كان أبداً في أعلى مراتب السعادات، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقاً في كل الأوقات في الاشتغال بغير الله، فكان أبداً في الشقاوة، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفاً من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال، ولهذا التحقيق قال لأمة موسى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: 40]، وقال لأمة محمد عليه السلام: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].. إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقاً في مشاهدة نور جلال إياك، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقراً في عين الفردوس، كما قال تعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً.
ز. سابعها: لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله.
ح. ثامنها: أن هذه النون نون العظمة، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبداً لنا كان ملك الدنيا والآخرة.
ط. تاسعها: لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
4. سؤال وإشكال: جميع هذا قائم في قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله؟ والجواب: أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله، أما لو قدم قوله (نعبد) احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر، والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز للّه، لا جرم حسن تقدم الحمد، أما هاهنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله.
5. سؤال وإشكال: النون في قوله ﴿نَعْبُدُ﴾ أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم، والأول: باطل، لأن الشخص الواحد لا يكون جمعاً.. والثاني: باطل لأن عند أداء العبادة، فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة، والجواب: يمكن الجواب عنه من وجوه، كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة:
أ. الأول: أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة، واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها، ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها)، ثم نقول: إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول: هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل، فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية.
ب. الثاني: أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول ﴿نَعْبُدُ﴾، والمراد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة. فكان المراد بقوله ﴿نَعْبُدُ﴾ هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله.
ج. الثالث: أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، أما لما قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام: من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته.
د. الرابع: كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
هـ. الخامس: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها، لأنها ممزوجة بجهات التقصير، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وهاهنا مسألة شرعية، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة فالمشتري إما أن يقبل الكل، أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قالت العبد ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض، فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء، وإما أن يقبل الكل، وحينئذ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره، والتقدير كأن العبد يقول: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني.
6. قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ كله مذكور على لفظ الغيبة، وقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، للوجوه التالية:
أ. الأول: أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ .
ب. الثاني: أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23]، و ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ [آل عمران: 147]، و ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ [آل عمران: 38]، و ﴿رَبِّ أَرِنِي﴾ [الأعراف: 143] والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى.
ج. الثالث: أن من أول السورة إلى قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى.
د. الرابع: العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
7. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ويدل عليه وجوه من العقل:
أ. الأول: أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان، وذلك المرجح ليس من العبد، وإلا لعاد في الطلب، فهو من الله تعالى، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله.
ب. الثاني: أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين، وما ذاك المعين إلا الله تعالى، لأن ذلك المعين لو كان بشراً أو ملكاً لعاد الطلب فيه.
ج. الثالث: أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى، ولا معنى للإعانة إلا ذلك.
8. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، ثبت بالدلائل النقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ويدل عليه آيات:
أ. أولاها: قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
ب. وثانيتها: قوله: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: 128]
9. اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية: أما الجبرية فقالوا: لو كان العبد مستقلًا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكناً من أصل الفعل، فتبطل الإعانة من الغير، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة.. وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة، وإزالة الداعية الصارفة.
10. سؤال وإشكال: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وهاهنا ذكر قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثم ذكر عقيبه ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فما الحكمة فيه؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: كأن المصلي يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها.
ب. الثاني: كأن الإنسان يقول: يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلباً يفر مني، فأستعين بك في إحضاره، وكيف وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله.
ج. الثالث: لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل، بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال: سله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير، ويدي فلا أحركهما، وعيني فلا أنظر بهما، وأذني فلا أسمع بهما، ولساني فلا أتكلم به، وكان الخليل مشرفاً على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معيناً فكذلك لا أريد معيناً غيرك، فـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فكأنه تعالى يقول: أتيت بفعل الخليل وزدت عليه، فنحن نزيد أيضاً في الجزاء لأنا ثمت قلنا: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69] وأما أنت فقد نجيناك من النار، وأوصلناك إلى الجنة، وزدناك سماع الكلام القديم، ورؤية الموجود القديم، وكما أنا قلنا لنار نمروذ ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ فكذلك تقول لك نار جهنم: جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي(2).
د. الرابع: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : أي: لا أستعين بغيرك، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك.
هـ. الخامس: قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى، وذلك يورث العجب فأردف بقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر.
__________
(1) تفسير الفخر الرَّازي: 1/210.
(2) وهذا الوجه، وإن كان في ظاهره مقبولا وجميلا إلا أننا لا نستحسن الجرأة على مقام النبوة، بالإضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى أثنى ثناء عظيما على فعل إبراهيم عليه السلام، وما ذكره نوع من التهوين منه.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِيَّاكَ﴾ قدِّم للحصر، والثاني للحصر والمفاضلة، ومقتضى الظاهر: إيَّاه نعبد وإيَّاه نستعين ليهدينا، بلام الدعاء، أنعم عليهم بصيغ الغيبة مثل ما قبله، إلَّا أنَّه لَمَّا أتى بالأوصاف الكاملة من كمال الرحمة المشاهدة، وصفات الجلال المحمود عليها، وقدرته الكاملة بتدريج الأفهام في ذلك على وجه الغيبة، وقوي برهان ذلك، صار الغائب شاهدًا، يتكلَّم معه بصيغ الخطاب، وفي صيغة تلذُّذ.
2. ﴿نَعْبُدُ﴾ نخدم بكلِّ ما نقدر عليه، وهذا العموم أفاده الإطلاق القابل لكلِّ ممكن على سبيل البدليَّة؛ فيحمل على العموم الشموليِّ الشامل لكلِّ أفراد البدليِّ، وكذا في قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على تحصيل العبادة والمباح، وعلى دفع المعاصي عنَّا والمضار.
3. وخدمته ـ تعالى ـ إمَّا للثواب والهروب من العقاب، وذلك زهد، وهي عبادة؛ وإمَّا للشرف بها والنسبةِ إليه تعالى وهي عبوديَّة؛ وإمَّا لإجلاله وهي عبوديَّة وهي أعلى، وقدَّم العبادة لنتوسَّل بها إلى دفع المكروه وجلب المحبوب، أو قدَّمها لأنَّ المراد بها التوحيد، فذكر بعدها الاستعانة على مُطلق العبادة، وأيًّا كان الأمر فالواو لا ترتِّب؛ وفي الوجه الأخير حصول التخلِّي قبل التحلِّي.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/31.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي لك، اللهم، نخشع ونذلّ ونستكين. إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك.. والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة (معبّدا) ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج (معبّد) ومنه سمي العبد (عبدا) لذلّته لمولاه.
2. فيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئا ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض والسموات وحده، وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبّا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلّا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلّا هو، تعالى، وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيها على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده.
3. 4. لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار.. إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾ [فصلت: 37] الآية، وفي قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾ [سبأ: 40 ـ 41]، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ [المائدة: 116] الآية. وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ [آل عمران: 80] الآية، وفي قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19 ـ 20]، وحديث أبي واقد الليثيّ قال خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط) فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ـ إلى قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 138 ـ 140].
5. عبادتهم للأحبار والرهبان وردت في قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، فروى الإمام أحمد والترمذي عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ هذه الآية ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمون، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟) فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم.
6. العبادة أنواع وأصناف، ولا يتم الإيمان إلّا بتوحيدها كلها لله سبحانه، وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم، وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ أخرجه الترمذي في: الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، وهذا نصه: عن أبي واقد الليثيّ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم) أخرج الترمذيّ في: التفسير، سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن)، وسمعته يقرأ في سورة براءة: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)، فسماه عبادة. وفي الخبر: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
7. ولهذا(2). كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثر لا يرضى بإيثاره.
8. قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : فالأول تبرّؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123]، ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الملك: 29]، ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل: 9]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/229.
(2) نقله عن ابن القيم.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ما هي العبادة؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة، التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها إجمالا وتساهلا.. وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعني ـ كخضع وخنع وأطاع وذل ـ نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهى (عبد) ويحل محلها ويقع موقعها، ولذلك قالوا: إن لفظ (العباد) مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ (العبيد) تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى.
2. من هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى، ولكن استعمال القرآن يخالفه، يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم مالا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة.
3. تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق ادراكه، فمن ينتهى إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده، وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد، إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية.
4. للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فاذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها، دون مجرد الإتيان بها، واقامة الشيء هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وقوله عز وجل ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون.
5. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، الاستعانة طلب المعونة وهي إزالة العجز والمساعدة على اتمام العمل الذي يعجز المستعين عن الاستقلال به بنفسه.
6. سؤال وإشكال: أمرنا الله تعالى بأن لا نعبد غيره؛ لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره، فلا يشاركه فيها أحد فيعظم تعظيم العبادة، وأمرنا بأن لا نستعين بغيره أيضا وهذا يحتاج إلى البيان لأنه أمرنا أيضا في آيات أخرى بالتعاون: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك؟ والجواب: أن كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية اليه، وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه، وقد مكّن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا على ذلك، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ اليه وحده، ونطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة لثمرته منه سبحانه دون سواه، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب، ورب الأرباب، فقوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ متمم لمعنى قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به، وذلك مخ العبادة، فاذا توجه العبد بها إلى غير الله تعالى كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله.
7. خصت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء أن الاستعانة بمن اتخذوهم أولياء من دون الله، واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة لعامة الناس، هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة، فأراد الحق جل شأنه أن يرفع هذا اللبس عن عباده ببيان أن الاستعانة بالناس فيما هو في استطاعة الناس إنما هو ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما منزلتها الا كمنزلة الآلات فيما هي آلات له، بخلاف الاستعانة بهم، في شؤون تفوق القدر والقوى الموهوبة لهم، والأسباب المشتركة بينهم، كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدة، فإن ذلك مما لا يجوز الفزع والتوجه فيه إلى غير الله تعالى صاحب السلطان الأعظم، على ما لا يصل اليه سلطان أحد من العالم.
8. أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة:
أ. أحدهما، أن نعمل الأعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه، أو يخشى أن لا ينجح فيه، فيطلب المعونة على اتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز على النهوض به وحده، يطلب المعونة من غيره على رفعه، ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأخروية.
ب. ثانيهما: ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين وكمال التوحيد الخالص، الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الاغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين، والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين، من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
9. إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام يما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني: فلأنه هو المربى للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية.
10. من هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الرب الاكرم، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ .
11. هذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة: الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة، الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة، هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل، فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى، ولكنه يحتاج في تحقق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي، وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب.
12. بهذا البيان تعلم أنه لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب واقامة سنن الله تعالى فيها، بل الكمال والأدب في الجميع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا، وجعل لهم خدما يقومون بأمرها، لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، فهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته، والعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت، طلبه منه دون سواه، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه، وجعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل، هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد، فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه، لا يجد من يتوجه اليه سواه، إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله، لأنه هو السيد الصمد، الذي ليس له كفؤا أحد؟.
13. إن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الاعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به، وفى هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج اليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب، ليس من سنة الفطرة ولا من هدى الشريعة، فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا، وبتذكيره من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم أنه مستغن بكسبه عن عناية ربه، فيكون من الهالكين في عاقبة أمره.
14. إذا تدبرت هذا فهمت منه نكتة من نكت تقديم العبادة على الاستعانة وهي أن الثانية ثمرة للأولى، ولا ينافى هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإتيان بها على الوجه المرضىّ له عز وجل، ولا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى.. فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي منا شيء الأعمال، فكل منهما سبب ومسبب وعلة ومعلول، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة.
15. إن نكتة تقديم (إياك) على الفعلين (نعبد، ونستعين) هي إفادة الاختصاص والحصر على المشهور الذي جرى عليه الأستاذ الإمام كغيره فالمعنى إذا: نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين بسواك.. وقد استخرج له بعض الغواصين على المعاني نكتا أخرى: منها: أن (إياك) ضمير راجع إلى الله تعالى وقيل إن (إيّا) اسم ظاهر مضاف إلى الضمير الذي هو الكاف وتقديمه على الوجهين يؤذن بالاهتمام به الذي هو العلة الاصلية العامة للتقديم في هذه اللغة.. ومنها: أنه من الأدب أيضا.. ومنها: أن إفادة الحصر بهذا الاسم (أو الضمير) المقدم على الفعل أبلغ من إفادة الحصر بالضمير المتصل الذي يقرن به ما يدل على ذلك من الكلم، كقولك: إنما نعبدك وإنما نستعينك، أو نستعين بك وحدك.
16. إعادة إياك مع الفعل الثاني يفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات. فلا يستلزم كل منهما الآخر. ذلك بأن الاستعانة بالله تعالى يجب أن تكون عامة في كل شيء ومن الناس من لا يستعين بالله على شيء من أعماله الاختيارية، زعما منهم أنهم يستقلون بذلك بدون إعانة خاصة منه تعالى كالقدرية.
__________
(1) تفسير المنار: 1/57.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته؛ لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه. فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده، لأن سبب التذلل معروف، وهو إما الخوف من جوره وظلمه، وإما رجاء كرمه وجوده.
2. للعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الاسمى، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هي العبادة التي شرعها الدين، هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ فإن لم يكن لها هذا الأثر في النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته، وقد جاء في الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا)، وأنها تلفّ كما يلفّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه.
3. الاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده، وقد أمرنا الله في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها، بيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتى الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر استعداده الذي أوتيه، وفى هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو، ونضع في الأرض السّماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة.. وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى، فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا كما قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ .
4. في ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة، ونبذ هدى الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا، لا متوكّلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتى من حصافة الرأي وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها ـ لا يستغنى عن العون الإلهي واللطف الخفيّ.
5. الاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وهي من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه، لا حيّ ولا ميت، وفى هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين، وإطلاق العزائم من قيود الأفّاكين الكاذبين.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/33.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا للّه، ولا استعانة إلا بالله. وهنا كذلك مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع، وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد، والله وحده هو الذي يستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات.. وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية.
2. أما القوى الإنسانية ـ بالقياس إلى المسلم ـ فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن بالله، وتتبع منهج الله.. وهذه يجب أن يؤازرها، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه، وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها. ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول ـ قوة الله ـ تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها، وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفئ ويبرد ويفقد ناره ونوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ .. غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعا.
3. أما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة، لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته. محكومتان بإرادة الله ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه. إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقا مساعدا متعاونا؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها، ويتعرف إليها، ويتعاون وإياها، ويتجه معها إلى الله ربه وربها. وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحيانا، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.
4. لقد درج الغربيون ـ ورثة الجاهلية الرومانية ـ على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: قهر الطبيعة).. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب للّه.
5. أما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين.. فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. إنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعا. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس، وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها، وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فالله هو الذي يسخرها له، وليس هو الذي يقهرها: ﴿ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾.
6. الأوهام لن تملأ حس المؤمن تجاه قوى الطبيعة؛ ولن تقوم بينه وبينها المخاوف.. إنه يؤمن بالله وحده، ويعبد الله وحده، ويستعين بالله وحده، وهذه القوى من خلق ربه، وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود.. وما أروع قول الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو ينظر إلى جبل أحد: هذا جبل يحبنا ونحبه).. ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من ود وألفة وتجاوب، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/26.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إذا أتم الحامد حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة.
2. الانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإ من قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا.
3. في ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة: أحدهما رأي من عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبّر عن ذات بأحد طريق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلا عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.
4. يظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته: طحا بك قلب في الحسان طروب.. مخاطبا نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم.
5. مما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ التفاتا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تعبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.
6. لأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كيلا يمل من إعادة أسلوب بعينه، وعن السكاكي ـ بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات ـ: أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب.. فهذه فائدة مطردة في الالتفات، ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.
7. ما هنا التفات بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، كعكس هذا الالتفات في قول محمد بن بشير الخارجي (نسبة إلى بني خارجة قبيلة):
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجة... تولّى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها
فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال: إذا هي حثته) فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه، وبعكس ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ [العنكبوت: 23] لاعتبار تشنيع كفر المتحدّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم.
8. مما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تخلصا يجيء بعده: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني:
أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته... تحرك داء في فؤادي داخل
وأن تلادي إن نظرت وشكّتي... ومهري وما ضمّت إليّ الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنها... هجان المهى تزجى عليها الرحائل
9. العبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس، وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز، والعبادة في الشرع أخص فتعرّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه.. وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى، وقال بعضهم: العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.
10. الحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله، وزعم ابن الحاجب في (إيضاح المفصل) في شرح ديباجة (المفصل) عند قول الزمخشري (الله أحمد) أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ [الزمر: 66] ضعيف لورود: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2].. وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.. وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ﴾ لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام.
11. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الاستعانة طلب العون، والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة.. أو بمال كدفع المغرم، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.
12. الاستعانة بالله هي طلب المعونة على ما لا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا، وقد فسرها العلماء بأنها هي خلق ما به تمام الفعل أو تيسيره، فتنقسم قسمين:
أ. ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع.
ب. غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المعين ما يتيسر به الفعل للمعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي.
13. بانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق.
14. المقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل، وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوع تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة، ولذلك حذف متعلّق ﴿نَسْتَعِينُ﴾ الذي حقه أن يذكر مجرورا بعلى، وقد أفاد هذا الحذف الهامّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق، قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8 ـ 10] ـ فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلها المحسوسات وأعلاها المبصرات، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم، والثالث إلى الشرائع.
15. الحصر المستفاد من التقديم في قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شئونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى.
16. يفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى، كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة، وعبد القبط العجل وألّهوا الفراعنة، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين، ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فقد عبدت ضبة وتيم وعكل الشمس، وعبدت كنانة القمر، وعبدت لخم وخزاعة وبعض قريش الشّعرى، وعبدت تميم الدبران، وعبدت طيء الثريا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنّ جعلهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة.
17. إنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضا لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في.
18. سؤال وإشكال: كيف أمرنا بألا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما علّم ابن عباس، قال له (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) فلم يأت بصيغة قصر، والجواب: عن بعضهم قال: ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصورا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام.. وأقول تقفية على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرّر قصر الحكم لديه على طرف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضا بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم، ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام.
19. ضميرا ﴿نَعْبُدُ﴾ و ﴿نَسْتَعِينُ﴾ يعودان إلى تالي السورة ذاكرا معه جماعة المؤمنين. وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله.
20. سر تقديم العبادة على الاستعانة، ووجه تقديم قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ على قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أن العبادة تقرّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل، وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.
21. أعيد لفظ ﴿إِيَّاكَ﴾ في الاستعانة دون أن يعطف فعل ﴿نَسْتَعِينُ﴾ على ﴿نَعْبُدُ﴾ مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا، فالحصر في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ حقيقي والقصر في ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/176.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان الكلام السامي يسير على نهج الغيبة بذكر مقام الربوبية وأسماء الذات العلية التي هي أوصافها من شمول الرحمة في كل الأحوال ولكل الوجود إلى تخصيصها بالمكلفين من عباده، وبعد ذلك انتقل القول من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الانتقال من باب إلى باب في البيان يعطى للكلام روعة تليق بأبلغ من في الوجود، فالانتقال في القول من غيبة إلى خطاب يجدد في النفس الإقبال على الاستمتاع بالتلاوة، والاستمتاع بالسماع، والاعتبار بما في الكتاب، والإقبال الذي يتولد عنه التدبر والتفكر في آيات الله تعالى.
2. إن الأوصاف السابقة لذات الله تعالى توجب على العبد التفكر في أمر الله تعالى وعبادته سبحانه، فكان من بعد ذلك ذكر أحوال العباد الواجبة، خاطبهم الله تعالى بكماله، فخاطبوه بما يليق بهم أن يفعلوه، وهو إفراده بالعبادة والاستعانة، وأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم. وإن العباد إذ يتدبرون صفات الذات العلية، ويستحضرون جلالها، وإفضالها، وإنعامها وسلطانها يصلون في مداركهم إلى مرتبة المشاهدة الروحية لله تعالى؛ ويرتفعون إلى إدراك ملكوت الله تعالى ليخاطبوه قائلين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
3. قال في هذا المقام العلامة أبو السعود في تفسيره: إن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب العبودية بامتياز ذاته عما سواه بالكلّية، واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له سبحانه عن العالمين، وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء منه، أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهود، ويلاحظ نفسه حاضرا في محاضر الأنس كأنه واقف لدى مولاه، ماثل بين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا: يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل عن الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان.
4. إن الارتفاع إلى مقام المشاهدة، ومخاطبة الله تعالى هو الذي من أجله كانت ـ أي الفاتحة ـ واجبة التلاوة في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ لأن الصلاة وقوف بين يدي الديان، واتجاه إلى حضرته العلية، ومشاهدة روحية.
5. العبادة أكمل أنواع الخضوع، والتذلل لله تعالى، ولا تكون لغير الله تعالى، فهو وحده المعبود بحق، فلا يعبد سواه، وإن دوام العبادة والاستمرار عليها مع القيام بحقها من خشوع وخضوع لله وتذكر مقام الله العلى الأعلى، وحضور لذاته العلية كأنه يرى الله تعالى، مع الإحساس بأنه ـ سبحانه ـ يراه. إن دوام العبادة على هذا النحو تولّد في نفسه صدق العبودية، فيحس في كل أحواله بأنه لله، ويحب الشيء لا يحبه إلا لله، ويكون ربانيا، مستجيبا لأمر الله: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾
6. الاستعانة طلب العون من الله تعالى، مستحضرا ما في الذات العلية من صفات الربوبية، والرحمة، والسلطان المطلق يوم الجزاء؛ إذ لا سلطان في يوم الدين لأحد سواه.
7. جاء ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ قبل ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ لأن العبادة حق الله تعالى، والتقدم إليه بالخضوع الذي لا خضوع مثله، والاستعانة حق العبد أو طلبه العون له، فما هو حق أوثق وأولى بالتقديم.
8. يجب أن نلاحظ أن الاستعانة والضراعة إلى الله تعالى، وإفراده سبحانه بطلب العون منه سبحانه هو عبادة أيضا، كما هو طلب من الله؛ لأن الدعاء المخلص لله تعالى هو عبادة في حد ذاته، حتى روى: الدّعاء مخّ العبادة)، وكما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ .
9. إطلاق الاستعانة من غير متعلّق بذكر المستعان عليه من الأمور دال على أنه يستعين الله تعالى في كل أمور حياته.
10. الاستعانة هي نوع من استصغار حاله بجوار عظمة الله تعالى، وافتقاره إليه تعالى، وأنه محتاج إليه دائما، ولا يركبه غرور الحياة والضلال في أن يقرّ بنفسه الغرور، وهو استجابة وفهم لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ .
11. من أعلى أبواب الاستعانة، الاستعانة بالله تعالى على أداء الواجبات والقيام بفروض الله تعالى، فهو يستعين بالله تعالى على أداء واجب العبادة ليصل إلى درجة العبودية، ويكون ربانيا.
12. وتقديم ﴿إِيَّاكَ﴾ على ﴿نَعْبُدُ﴾ و ﴿نَسْتَعِينُ﴾ لتعظيم الله تعالى بذكره أولا، ولأن التقديم للاهتمام بالمعبود والمستعان؛ وللدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المختص بالعبادة وحده، وأنه لا يستعان بغيره، وفى ذلك كمال التوحيد والخضوع له وحده سبحانه وتعالى، ولقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك، فتقديم إياك كما في قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة] وقوله سبحانه: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة] وتكرار ﴿إِيَّاكَ﴾ في ﴿نَعْبُدُ﴾ و ﴿نَسْتَعِينُ﴾، لبيان التباين بينهما، وأن ذلك حق الله، وأن هذا طلب من العباد، ولتكرار النص على تخصيص ذلك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/63.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. العبد هو المملوك من الإنسان أو كلّ ذي شعور بتجريد المعنى، كما يعطيه قوله سبحانه: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ والعبادة مأخوذة منه، وربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهري في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع فمن باب الأخذ باللازم، إذ الخضوع متعدّ باللام، والعبادة بنفسها، فكأنّ العبادة نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه، ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ وغير منافية للاشتراك، فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في عبادة واحد، كما جاز أن يشتركوا في ملك رقبة، قال سبحانه: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ وقال: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ .
2. العبوديّة إنّما تستقيم فيما بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، وأمّا ما لا يتعلّق به الملك من شؤون العبد فلا يتعلّق به عبادة ولا عبوديّة لكنّ الله سبحانه إذا نسبنا إليه العبوديّة لم نجد شيئا سواه لا يتعلّق به ملكه كما لا نجد شيئا سواه يشاركه في ملكه، وذلك كما يفيده معاني ما ساقه سبحانه من أسمائه عند الحمد، فليس الملك إلّا له سبحانه فقط، وليس لغيره سبحانه إلّا المملوكيّة فقط بنحو التعاكس في القصر، فالملك مقصور له سبحانه، وغيره مقصور على المملوكيّة.
3. ثمّ إنّ الملك لا يحجب عن مالكه، فإنّك إذا نظرت إلى الدار المملوكة لزيد ـ مثلا ـ فإن نظرت إليها بما أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد، وإن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن المالك، وإذ كان ما سواه سبحانه ليس له إلّا المملوكيّة وكانت هذه حقيقيّة لم يمكن لشيء منها أن يحجب عن ربّه سبحانه ولا النظر إليه والغفلة عنه سبحانه، فله سبحانه الحضور المطلق، قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ وفي تحف العقول: عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير وما قدروا الله حقّ قدره) الحديث.
4. إذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.. أما من جانب الرب عز وجل، فأن يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ) عن الغيبة إلى الحضور.. وأما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح؛ أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره، إما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض؛ كان يعبد الله وهمه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ .
5. العبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه، وقد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلق قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية والاستكبار.
6. كان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية والاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
7. ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؛ لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الإخلاص إلا ما في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والإرادة مع أنه مملوك والمملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لإبداء معنى واحد وهو العبادة عن إخلاص، ويمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابي حيث قيل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ من دون أن يقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أعنا واهدنا الصراط المستقيم.
8. بان بما مر من البيان في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الآية؛ الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، والوجه في إطلاق قوله: ﴿نَعْبُدُ﴾، والوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، والوجه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، والوجه في تشريك الجملتين في السياق، وقد ذكر المفسّرون نكات أخرى في أطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/25.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لأنك ربنا المحمود في ربوبيته المنعم علينا الرحيم بنا الذي له الملك علينا، يوم الجزاء الذي يجزينا بما قدمنا لا شريك لك نتوسل بعبادتك إلى رحمتك وإلى هدايتك. والعبادة: هي الخضوع المعبّر عن العبودية، أي أن تخضع وتَذَلَّلَ لله معبراً بذلك عن كونك عبداً له تعالى، قال تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [النساء: 172] فدل على أن العبادة تعبير عن العبودية، وقال تعالى: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ [الأنعام: 94] يعني الذين عبدوهم في الدنيا، فنقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي نخصك بالعبادة ونعبدك وحدك لا شريك لك؛ لأنك ربنا لا شريك لك فينا.
2. ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ نطلبك الإعانة على أمورنا لا نستعين غيرك، لأنك الذي تسمع الدعاء وتجيب دعوة الداعي لأنك ربنا الكريم في ربوبيته الحميد الرحيم بعباده السميع العليم القادر على تحقيق المطلوب وصرف المرهوب، فبالإخلاص في عبادتك ودعائك أن تعيننا نتوسل إلى هدايتك لنا وهي من الإعانة لنا، فتم الاتصال بين نستعين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/39.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه نقلة بيانيّة في أسلوب السورة الذي ينقل الجو من الغيبة في حديث الإنسان عن الله في حمده له وتعداده لصفاته، إلى الخطاب الذي ينطلق فيه الإنسان المؤمن بالله، الحامد له، المنفتح على عظمته، من خلال انفتاحه على صفاته في ربوبيته للعالمين، ورحمته لهم، وسيطرته، على مواقع الجزاء في مصيرهم، ليخاطب الله في موقف التزام ودعاء، وذلك أن هذا النوع من التطلّع الإيماني الفكري لله، في صفات عظمته ورحمته، يجسّد في وعي الإنسان الحضور الإلهي، كما لو كانت المسألة في دائرة الإحساس الطبيعي في عمق ذاته، تماماً كما هي الصدمة الفكرية التي تتحول إلى انطلاقة شعورية بين يدي الله، ليعبّر له عن إخلاصه في العبودية، وعن توحيده في العبادة وفي الاستعانة، فلا يعبده غيره من موقع أنّه لا يعترف بالألوهية لغيره، ولا يقر بالعبودية لسواه، فهو وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهو ـ وحده ـ القادر على الإعانة، على أساس أنه الذي يملك الأمر كله، فلا يملك غيره معه شيئا، مما يجعل الخلق كله عاجزا عن تقديم ما لا يريد الله أن يقدّمه من عون لنفسه وللآخرين من حوله.
2. قد نحتاج إلى الإطلالة على خصوصية التعبير عن الالتزام بعبادة الله، والاستعانة به، بطريقة تقديم المفعول به على الفعل والفاعل الذي ينفصل فيه الضمير فيتحول من ضمير متصل فيما يتمثل في كلمة (نعبدك) (ونستعينك)، إلى ضمير منفصل يتقدم على الفعل وذلك في جملة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذه الخصوصية هي الحصر الذي يدلّ عليه تقديم المفعول على الفعل ليكون المعنى هو حصر العبادة بالله، والاستعانة به، وذلك من أجل التعبير عن التوحيد العملي الذي هو التجسيد الواقعي للتوحيد الفكري العقدي.
3. لا يكفي في الإسلام، كما في كل الرسالات التوحيدية، أن يعيش الإنسان العقيدة في دائرتها التصورية، بل لا بد له من أن يعيشها في دائرتها العملية، فيما هي حركة العبادة في الذات، وفيما هي مسألة الارتباط بالله، المشدود إليه في أوضاع الحياة، بل ربما نجد أن هناك نوعاً من الوحدة بين الجانب النظري والجانب العملي في دعوة الرسالات، بحيث يكون التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة فيما تختزنه من التوحيد في العقيدة، وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح عليهم السّلام التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].
4. لعل هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن، كحالة شعورية ذاتية، بعيداً عن الجانب التقريري في هذه المسألة العقدية المهمّة، مما يترك تأثيرا إيجابيا على حركة العقيدة أكثر مما يتركه من التأثير في الأسلوب الخطابي أو التقريري، فيما يمثّله من التعبير عن الصورة في وجودها الواقعي الذي يفرض التوحيد كحقيقة متحركة متجسدة، لا كفكرة ذهنية في مرحلة الدعوة.
5. العبادة قد تفسر لغويا بمعان ثلاثة:
أ. الأول: الطاعة، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: 60] فإن عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.
ب. الثاني: الخضوع والتذلّل، ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 47] أي خاضعون متذلّلون.
ج. الثالث: التألّه، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ [الرعد: 36]، وإلى المعنى الأخير يصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينة.
6. نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني، أنها تنطلق من معنى واحد، وهو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود والذوبان فيه والانسحاق أمامه، حتى ليحتوي في حالته الشعورية الإحساس بشيء من الألوهية أو بالألوهية كلها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع ولا الطاعة ولا التألّه، ولكنها المعنى الذي يشمل ذلك كله في خصوصية مميّزة.
7. في ضوء ذلك، يمكن فهم قول الإمام الحسين عليه السّلام: الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون.. فإن عبادة الناس للدنيا تنطلق من استغراقهم فيها، حتى كأنهم يمنحونها صفة الإله في استسلامهم المطلق لكل شهواتها ومتطلباتها، كما لو كانت إلها معبودا، وهذا من التألّه الخفيّ الذي قد لا يستشعره الإنسان في وعيه، لكنه يختزنه في المنطقة الخفية في ذاته، كما نستوحي ذلك من قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]. فإن اعتبار الهوى إلها، ينطلق من عمق الاستغراق فيه، كما لو كان هو الذي يحتوي الوجود بحيث لا يبصر الإنسان غيره، ولا يندفع إلّا نحوه، ولا يلتزم إلّا به، حتى يستولي على كل ذاته، وقد نستفيد ذلك من الكلمة المأثورة: فمن أطاع ناطقاً فقد عبده، فإن كان الناطق ينطق عن الله تعالى فقد عبد الله، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله)، بما يوحيه ذلك من الاستغراق المتمثل بالإصغاء الذي يستولي على الفكر والشعور، بحيث يفقد الإنسان إرادته معه.
8. سؤال وإشكال: مسألة التوحيد في العبادة كيف يتمثل في الممارسات، هل يتمثل ذلك في الابتعاد، في صورة العبادة الشكلية، عن كل الأشكال التي جرت عليها التشريعات العبادية في طريقة عبادة الله، فيكون الركوع أو السجود أو الانحناء لغير الله لونا من ألوان الشرك، حتى إذا كان ذلك بعنوان الاحترام أو التحية أو ما إلى ذلك، مما لا يبتعد فيه الإنسان عن الإحساس بإنسانية الذات التي يقدم إليها الاحترام أو تلقى إليها التحية؟ والجواب: الصورة الشكلية، فيما تعارف عليه الناس من طقوس في مظاهر العبادة، لا تمثّل ـ بمجردها ـ معنى العبادة، بل لا بد من أن ينضم إليها الاستغراق في الذات التي يوجّه إليها الفعل المعين، فيما يشبه حالة الذوبان الذي يفقد الإنسان معه الإحساس بإرادته أمامها، أو في الالتفات إلى وجوده معها، ولذلك لا بد من وجود حالة نفسية في مستوى الانسحاق في انطباق مفهوم العبادة عليه:
أ. وهذا ما نستوحيه في مسألة أمر الله للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم عليه السّلام، باعتبار ما يمثله ذلك من معنى الاحترام الناشئ من الإيحاء بعظمة خلقه ـ كما هو أحد الاحتمالات في ذلك ـ فإن من الطبيعي أن الله لم يأمر بذلك بمعنى العبادة لآدم عليه السّلام حتى على مستوى المظهر؛ لأن الله لا يرضى بعبادة غيره وإن كان من أقرب خلقه إليه، ولذلك، لم يكن ردّ فعل إبليس على المسألة اعتراضا على منافاة ذلك للإخلاص لله وللإيمان بوحدانيته، بل اعتراضا على أن يكون عنصر التراب أفضل من عنصر النار، بحيث لا يتناسب ذلك مع سجود المخلوق من النار، التي هي أقوى من التراب، للمخلوق من التراب، لأن السجود يمثل التعبير عن التعظيم، باعتبار أنه صاحب القيمة الفضلى والمستوى الأرفع. وهكذا، فإننا لم نجد من الملائكة استغرابا للأمر، فيما يمكن أن يحمله، حسب هذا الفرض، من المنافاة للتوحيد في العبادة(2).
ب. وهذا ما نستوحيه من سجود يعقوب عليه السّلام وزوجته وأولاده ليوسف عليه السّلام، وذلك قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100] فإن الظاهر أن المراد منها هو سجود أبويه وإخوته له، لأنه قال ـ بعد ذلك ـ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ [يوسف: 100]؛ وكان، فيما قصّه على أبيه من رؤياه في بداية القصة، ما ذكره الله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي﴾ ﴿سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]، فهل يمكن أن يكون في سجود يعقوب عليه السّلام وزوجته وأولاده لون من ألوان العبادة ليوسف عليه السّلام الذي يعيش العبودية لله في أعلى مواقعها، كما عاشها أبوه عليه السّلام في هذا المستوى؟
في ضوء ذلك، لا بدّ من التدقيق في طبيعة الأشكال المتعارفة لدى الناس، التي تلتقي ـ بشكل أو بآخر ـ بالشكليات الطقوسية للعبادة، ودراسة خلفياتها الفكرية والروحية في شخصية من يمارسها، ومعرفة التقاليد الاجتماعية في مسألة الاحترام والتقدير، فيما تعتاده المجتمعات من طرق تعبير مختلفة، لنميّز بين ما يسيء إلى التوحيد في العبادة، عندما تكون الخلفيات مرتبطة بالاستغراق بالشخص أو الجهة، بحيث يفقد الإنسان الإحساس بوجوده معه، أو بحضور الله في علوّ موقعه في المعنى الإلهيّ التوحيدي فيه، وبين ما لا يسيء إلى التوحيد، لأنه ينطلق من حالة عرفية تقليدية فيما هو الاحترام والحبّ والتعظيم، لكنها لا تغفل عن الإحساس بعظمة الله في مقام وحدانيته، فيما تمارسه من أعمال وأقوال.
9. قد نلاحظ في الارتباط الإنساني بوحدانية العبادة والاستعانة في خطاب العبد لربه في هذه الآية الكريمة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أن الإنسان لا يحتاج، في حديثه مع الله، وفي طلبه منه، إلى أية واسطة من بشر أو غيره، لأن الله لا يبتعد عن عبده، ولا يضع أيّ فاصل بينه وبينه، إلّا ما يضعه العبد من فواصل تبعده عن مواقع رحمته، وتحبس دعاءه عن الصعود إلى درجات القرب من الله، ولذا أراد من عباده أن يدعوه بشكل مباشر ليستجيب لهم، وحدّثهم عن قربه منهم بحيث يسمع كلامهم وإن كان بمثل الهمس أو في مثل وسوسة الصدور، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186] وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]
10. الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الآيات القرآنية، وفي الروايات المتعددة عن السنة والشيعة، فإنها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم، الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر، بسبب الحواجز المادية الفاصلة بينهم وبين الناس، ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّة أو مصلحة أو موقع معيّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم، وقضاء حوائجهم عندهم.. إن الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده، فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة، فيشفّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده، لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطة في النتائج التي يتمثل فيها العفو الإلهي والنعيم الربّاني، تماما كما لو كان النبي هو السبب، أو كان الوليّ هو الواسطة، ولكنها ـ في العمق ـ إرادة الله لذلك، مما لا يملك نبي مرسل أو ملك مقّرب، أو ولي امتحن الله قلبه للإيمان، أمر تغييرها في غير الاتجاه الذي تتحرك فيه، وبذلك فإنهم يدرسون مواقع رضى الله في عباده ليقوموا بالشفاعة، أو ليأذن الله لهم بها. وفي ضوء ذلك، لا معنى للتقرب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم، لأنهم لا يملكون من أمرها شيئا بالمعنى الذاتي المستقل، بل الله هو المالك لذلك كله على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها، الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له، أو الطلب إليهم أن يسألوا الله في الإذن لهم بالشفاعة لطالبها منهم، وهذا ما نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن، التي تؤكد على أنها قضية تتصل بالله، فليس لأحد أن يمارسها إلّا بإذنه في من ارتضاهم لينالوا عفوه.. قال تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: 87]، وقال: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه: 109]، وقال: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 23]، وقال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28]
__________
(1) من وحي القرآن: 1/54.
(2) من وحي القرآن: 1/59.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآية يتغيّر لحن السّورة، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه والتضرّع إليه.. الآيات السابقة دارت حول حمد الله والثناء عليه، والإقرار بالإيمان والاعتراف بيوم القيامة، وفي هذه الآية يستشعر الإنسان ـ بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة الله في نفسه حضوره بين يدي الله.. يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أولا عن تعبّده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
2. عندما تتعمق مفاهيم الآيات السابقة في وجود الإنسان، وتتنّور روحه بنور ربّ العالمين، ويدرك رحمة الله العامة والخاصة، ومالكيته ليوم الجزاء، يكتمل الإنسان في جانبه العقائدي.. وهذه العقيدة التوحيدية العميقة ذات عطاء يتمثّل أوّلا: في تربية الإنسان العبد الخالص للّه، المتحرر من العبودية للآلهة الخشبية والبشرية والشهوية، ويتجلّى ثانيا: في الاستمداد من ذات الله تبارك وتعالى.
3. الآيات السابقة تحدثت في الحقيقة عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال. توحيد العبادة: يعني الاعتراف بأن الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أيّ نوع من العبودية والتسليم، لغير ذاته المقدسة. وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأن الله هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا الله)، وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأن تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر الله، فالله سبحانه هو الذي يمنح النار خاصية الإحراق، والشمس خاصية الإنارة، والماء خاصية الإحياء.
4. ثمرة هذا الاعتقاد أن الإنسان يصبح معتمدا على (الله) دون سواه، ويرى أن الله هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحا لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالاتكال والاعتماد عليه في كل الأمور.. وهذا التفكير يحرر الإنسان من الانشداد بأي موجود من الموجودات، ويربطه بالله وحده، وحتى لو تحرك هذا الإنسان في دائرة استنطاق عالم الأسباب، فإنما يتحرّك بأمر الله تعالى، ليرى فيها تجلّي قدرة الله، وهو (مسبّب الأسباب). هذا المعتقد يسمو بروح الإنسان ويوسّع آفاق فكره، ليرتبط بالأبدية واللانهاية، ويحرر الكائن البشري من الأطر الضيقة الهابطة.
5. تقدم المفعول على الفاعل يفيد الحصر ـ كما يذكر أصحاب اللغة ـ وتقدم (إيّاك) على (نعبد) يدلّ على الحصر، أي أننا نعبدك دون سواك، ونتيجة هذا الحصر، هو توحيد العبادة وتوحيد الأفعال. نعم، نحن محتاجون إلى عونه حتى في العبودية والطاعة، ولذلك ينبغي أن نستعين به في ذلك أيضا، كي لا تتسرب إلى أنفسنا أوهام العجب والرياء وأمثالها من الانحرافات التي تجهض عبوديتنا.
6. حين نقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فإن هذه الجملة يشم منها رائحة الاستقلالية، لذلك نتبعها مباشرة بعبارة ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، كي نجسّم حالة الأمر بين الأمرين (لا جبر ولا تفويض)، في عباداتنا، ومن ثمّ في كل أعمالنا.
7. في تعبير الآيات كلمة (نعبد) و(نستعين) بصيغة الجمع تشير إلى أن العبادة ـ خاصة الصلاة ـ تقوم على أساس الجمع والجماعة، وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتى حين يقف متضرّعا بين يدي الله، فما بالك في المجالات الأخرى!
8. هذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والانعزال.. الصلاة خاصة ـ ابتداء من اذانها وإقامتها حتى تسليمها ـ تدل على أن هذه العبادة هي في الأصل ذات جانب اجتماعي، أي أنها ينبغي أن تؤدّى بشكل جماعة، صحيح أن الصلاة فرادى صحيحة في الإسلام، لكن العبادة الفردية ذات طابع فرعي ثانوي.
9. يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم على الإنسان عندما ينهض صباحا أن يكرر عبارة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ليعترف بعبوديته لله سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة، وعند ما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلّا بعد تكرار هذه العبارة أيضا، والإنسان المستعين حقّا، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كلّ القوى المتجبّرة المتغطرسة، وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلّا حينما يرتفع الإنسان إلى مستوى القول: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/50.
4. الهداية والصراط المستقيم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع الرابع من سورة الفاتحة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6 ـ 7]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: الصراط المستقيم: الإسلام(1).
2. روي أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو كتاب الله(2).
3. روي أنه قال: الصراط المستقيم: الذي تركنا عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(3).
4. روي أنه قال: الصراط المستقيم تركنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على طرفه، والطرف الآخر في الجنة(4).
5. روي عن عبيد الله بن عمر أنه قال: أتى ابن مسعود عشية خميس، وهو يذكر أصحابه، قال فقلت: يا أبا عبد الرحمن، ما الصراط المستقيم؟ قال يا ابن أخي، تركنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن شماله جواد، وعلى كل جواد رجال يدعون كل من مر بهم: هلم لك، هلم لك، فمن أخذ معهم وردوا به النار، ومن لزم الطريق الأعظم وردوا به الجنة(5).
6. روي أنه قال: إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين، يا عباد الله، هذا الصراط فاتبعوه، والصراط المستقيم: كتاب الله، فتمسكوا به(6).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٧٤.
(2) ابن جرير: ١/١٧٣.
(3) الطبراني في الكبير: ١٠٤٥٤.
(4) البيهقي في شعب الإيمان: ١٥٩٨.
(5) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ١/٣٨ ـ: ٣٩.
(6) الدرّ المنثور: ابن الأنباري.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال في قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، بالتوفيق لدينك وطاعتك، وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن، وإن كان كل هذا، نعمة من الله، ظاهرة، ألا ترون أن هؤلاء، قد يكونون كفارا أو فساقا، فما ندبتم إلى أن تدعوا، بأن ترشدوا إلى صراطهم، وإنما أمرتم بالدعاء إلى أن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم، بالإيمان بالله وتصديق رسوله وبالولاية لمحمد وآله الطيبين وأصحابه الخيرين المنتجبين(1).
2. روي أنه قال: أمر الله تعالى عباده أن يسألوه طريق المنعم عليهم، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون(2).
3. روي أنه قال: أمر الله تعالى عباده أن يسألوه طريق المنعم عليهم، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وأن يستعيذوا به، من طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ وأن يستعيذوا به، من طريق ﴿الضَّالِّينَ﴾، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾، وهم النصارى(2).
__________
(1) تأويل الآيات الباهرة: ص32.
(2) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص24.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال جبريل لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: قل يا محمد: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ألهمنا الطريق الهادي(1).
2. روي أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ألهمنا دينك الحق(2).
3. روي أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له(1).
4. روي أنه قال: الصراط: الطريق(3).
5. روي أنه قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ طريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك(4).
6. روي أنه قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ المؤمنين(5).
7. روي أنه قال: في ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا دينهم(6).
8. روي أنه قال: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: اليهود الذين غضب الله عليهم، ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه، قال يقول: فألهمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حتى لا تغضب علينا، كما غضبت على اليهود، ولا تضلنا كما أضللت النصارى، فتعذبنا بما تعذبهم به، يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك(7).
__________
(1) ابن جرير: ١/١٦٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٠.
(3) ابن جرير: ١/١٧٥.
(4) ابن جرير: ١/١٧٧.
(5) ابن جرير: ١/١٧٨.
(6) تفسير الثعلبي: ١/١٣٢.
(7) ابن جرير: ١/١٨٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فالهداية: التثبيت.. والهداية: البيان.. وهو قوله عزوجل: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ . والصّراط: الطريق.. والمستقيم: الواضح البيّن(1).
2. روي أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : أمرهم أن يسألوه الهدى والاستقامة، وهما: الصواب في كل قول وعمل. ﴿الصِّرَاطِ﴾ : السبيل المنهاج الواضح، وأنشد الشاعر:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
وقال آخر: يصد عن نهج الصراط القاصد(2).
3. روي أنه قال: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هم اليهود والنصارى(1).
4. روي أنه قال: قد قال بعض أهلنا: المغضوب عليهم اليهود، والضالين: النصارى.. والغضب من الله: عذاب ونقمة، وهو لا يغضب إلا على من مقت، ولا يمقت إلا من أسرف وتعدى عن الحق؛ فنعوذ بالله من الغضب والضلالة(3).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 77.
(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/9.
(3) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/11.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه سئل عن (الصراط)، فقال: هو أدق من الشعر وأحد من السيف، فمنهم من يمر عليه، مثل البرق، ومنهم من يمر عليه، مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر عليه، ماشيا، ومنهم من يمر عليه، حبوا، ومنهم من يمر عليه متعلقا، فتأخذ النار منه شيئا وتترك منه شيئا(1).
2. روي أنه قال: هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا، فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه، مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا، زلت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردى في نار جهنم(2).
3. روي أنه قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين الإمام علي(3).، وهذا تفسير بالمصاديق.
4. روي أنه قال يوصي أصحابه: المداومة على العمل في اتّباع الآثار والسنن وإن قلّ، أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتّباع الأهواء، ألا إنّ اتّباع الأهواء واتّباع البدع بغير هدى من الله ضلال، وكلّ ضلالة بدعة، وكلّ بدعة في النار(4).
__________
(1) تفسير القمي: 1/29.
(2) معاني الأخبار: ص32/1.
(3) معاني الأخبار: ص32/2.
(4) روضة الكافي ج 1 ص 2.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، يعني: دين الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام ليس بمستقيم(1).
2. روي أنه قال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، يعني: دلنا على طريق الذين أنعمت عليهم، يعني: النبيين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة، كقوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ [النساء: ٦٩](2).
3. روي أنه قال: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: دلنا على دين غير اليهود الذين غضب الله عليهم فجعل منهم القردة والخنازير، ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يقول: ولا دين المشركين، يعني: النصارى(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٣٦.
(2) تفسير البغوي: ١/٥٢.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، استرشاد لدينه، واعتصام بحبله، واستزادة في المعرفة، لربه تعالى ولعظمته وكبريائه(1).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 1/204.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا﴾ وفقنا وأرشدنا.. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ والصراط: هو السبيل، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل، قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
2. ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الطريق الواضح الذي افترضه الله إلى الطاعة، المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل، فهو لا يجور بأهله عن قصده، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ [الأعراف: 82](1).
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يقول: طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين، الذين وفقتهم وهديتهم لرشدهم.
3. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ تأويل ذلك غير المغضوب عليهم منك.. ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يقول: ولا صراط الضالين بالهوى والعمى عنك، لأنه قد ينعم جل ثناؤه في هذه الدنيا على من يضل عنه ومن لا يقبل ما جاء من الهدى والأمر والنهي، ولمن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين، يقول: اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم، والمغضوب عليهم في هذا الموضع: فهم اليهود ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يقول: ولا صراط الضالين، والضالون: فهم في هذا الموضع النصارى(1).
__________
(1) مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم الرسّي: 2/70.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك فيما مضى من أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا، والصراط المستقيم، هو الصراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأما الطريق المستقيم، في الدنيا، فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام، فلم يعدل الى شيء من الباطل والطريق الآخر، فهو طريق المؤمنين، إلى الجنة، الذي هو مستقيم، لا يعدلون عن الجنة الى النار، ولا الى غير النار، سوى الجنة(1).
__________
(1) معاني الأخبار: ص29.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى ﴿اهْدِنَا﴾ هو: وفقنا وأرشدنا للصراط المستقيم(1).
2. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو: الطريق إلى الطاعة، ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو: الحق الذي افترضه. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يقول: طريق من أنعمت عليه من عبادك الصالحين، الذين وفقتهم وهديتهم لرشدهم.
3. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ يقول: اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم، و ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ في هذا الموضع فهم: اليهود.
4. ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يقول: ولا صراط الضالين، أي: اهدنا صراطا غير صراط الضالين، والضالون فهم في هذا الموضع: النصارى.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/134.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿اهْدِنَا﴾ . قال ابن عباس: أرشدنا. والإرشاد، والهداية واحد، بل الهداية في حق التوفيق أقرب إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هي أعم في تعارفهم، ثم القول بالهداية يخرّج على وجوه ثلاثة:
أ. أحدها: البيان، ومعلوم أن البيان قد تقدم من الله لا أحد يريد به ذلك لمضى ما به البيان من كتاب وسنة، وإلى هذا تذهب المعتزلة.
ب. الثاني: التوفيق له، والعصمة عن زيغه، وذلك معنى قولهم: (اللهمّ اهدنا فيمن هديت)، وقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ﴾ وصفهم إلى آخر السورة، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم في ذلك سواء، فثبت أنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه.
ج. الثالث: أن يكون على طلب خلق الهداية لنا؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل، وكل ما يفعله خلق؛ كأنه قال اخلق لنا هدايتنا، وهو الاهتداء منا، وبالله التوفيق.
2. تأويل طلب الهداية، ممن قد هداه الله يتوجه وجهين:
أ. أحدهما: طلب الثبات على ما هداه الله، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان، أنها بمعنى الثبات عليه، وذلك كرجلين ينظران إلى شيء فيرفع أحدهما بصره عنه، جائز القول بازدياد نظر الآخر.
ب. ووجه آخر: على أن في كل حال يخاف على المرء ضد الهدى، فيهديه مكانه أبدا فيكون له حكم الاهتداء؛ إذ في كل وقت إيمان منه دفع به ضده، وعلى ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ الآية [النساء: 136] ونحو ذلك من الآيات. وقد يحتمل أيضا معنى الزيادة هذا النوع.
3. ﴿الصِّرَاطِ﴾ : هو الطريق والسبيل في جميع التآويل وهو قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾ الآية [الأنعام: 153]، وقوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾، ثم اختلفوا فيما يراد به:
أ. قال بعضهم: هو القرآن.
ب. وقال بعضهم: هو الإيمان.
وأيهما كان فهو القائم الذي لا عوج له، والقيّم الذي لا اختلاف فيه، من لزمه وصل إلى ما ذكر.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ :
أ. قيل: هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأدلة، لا يزيله شيء ولا ينقض حججه كيد الكائدين، ولا حيل المريبين.
ب. وقيل: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي يستقيم بمن تمسك به حتى ينجيه، ويدخله الجنة.
ج. وقيل: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ بمعنى: يستقام به؛ كقوله: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [النمل: 86]، أي يبصر به، يدل عليه قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ الآية [فصلت: 30]؛ فالمستقيم هو المتبع له.
5. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ : ثم ذكر من ذكر من المنعم عليهم؛ ولله على كل مؤمن نعم بالهداية.. وما ذكر دليل على أن (الصراط) هو الدين؛ لأنه أنعم به على جميع المؤمنين، لكن تأويل من يردّ إلى الخصوص يتوجه وجهين:
أ. أحدهما: أنه أنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين، فيكون على التأويل الثاني من القرآن والأدلة.
ب. الثاني أن يكون لهم خصوص في الدين قدّموا به على جميع المؤمنين؛ كقول داوود، وسليمان: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]، وعلى هذا الوجه يكون ﴿اهْدِنَا﴾ .
ج. وجه آخر: وهو المخصوص الذي خص به كثيرا من المؤمنين من بين غيرهم، لكن الثّنيا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين؛ إذ انصرف إلى ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ .
6. قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ على قول المعتزلة: ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين؛ إذ لا نعمة من الله على أحد إلا الأصلح في الدين والبيان للسبيل المرضى، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثّنيا.
7. اختلف في ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ :
أ. منهم من قال هو واحد؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال.
ب. ومنهم من قال: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ هم اليهود، وإنما خصوا بهذا: بما كان منهم من فضل تمرد وعتو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى، ثم قولهم في الله: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ الآية [المائدة: 64]، وقولهم: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾ الآية [آل عمران: 181]، وقول الله تعالى فيهم: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ﴾ الآية [المائدة: 82]، وكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد استفتاحهم، وشدة تعنتهم، وظهور النفاق؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهم، وإن كانوا شركاء غيرهم في اسم الضلال(2).
8. في هذا وجه آخر: أن يحمل الذنوب على وجهين:
أ. منها ما يوجب الغضب ـ وهو الكفر ـ
ب. ومنها ما يوجب اسم الضلال ـ وهو ما دونه ـ كقول موسى: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 20](2).
ورؤية الهداية لأهلها والتعوذ به من كل ضلال، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه ـ وبالله النجاة والخلاص ـ
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/367.
(2) تأويلات أهل السنة: 1/369.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو: أرشدنا يا رب إلى الصراط المستقيم؛ لأن الصراط في لغة العرب هو: الطريق.. وإنما جعل الله عز وجل هذه السورة للدعاء إليه؛ رحمة منه للعباد، ووسيلة إليه في طلب الرشاد، فهي أشرف ما دعا به الداعون، وتضرع إلى الله به الطالبون.
1. ﴿الصِّرَاطِ﴾ هو الطريق والسبيل.. و ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو المعتدل الذي لا يعوج ولا يميل قال الشاعر(2).:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/13.
(2) تفسير الإمام المهدي العياني: 1/94.
الديلمي:
الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ قوله: اهدنا، فمعناه أرشدنا ودلنا، وأما الصراط ففيه تأويلان:
أ. أحدهما: أنه السبيل المستقيم، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
ب. الثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ [الأعراف: 86]، وقال الشاعر: تصد عن نهج الصراط القاصد.. وهو مشتق من مسترط الطعام، وهو ممره في الحلق.
2. في الدعاء بهذا ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم طلبوا استدامة الهداية وإن كانوا قد هُدُوا.
ب. الثاني: يجوز أن يكون استزادة على هدايتهم.
ج. الثالث: أنهم دعوا بها إخلاصاً لله فيه ورجاء لثواب الدعاء والطلبة.
3. الصراط المستقيم هو كتاب الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووصيه ومن تبعهما من ذريتهما سفينة النجاة والفوز من المهواة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/22.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه أرشدنا ودلّنا.
ب. الثاني: معناه وفقنا، وهذا قول ابن عباس.
2. أما الصراط ففيه تأويلان:
أ. أحدهما: أنه السبيل المستقيم، ومنه قول جرير:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوجّ الموارد مستقيم
ب. الثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾، [الأعراف: 86] وقال الشاعر: فصدّ عن نهج الصّراط القاصد.. وهو مشتق من مسترط الطعام، وهو ممره في الحلق.
3. في الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، وإن كانوا قد هدوا.
ب. الثاني: معناه زدنا هداية.
ج. الثالث: أنهم دعوا بها إخلاصا للرغبة، ورجاء لثواب الدعاء.
4. اختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه كتاب الله تعالى، وهو قول علي وعبد الله، ويروى نحوه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. الثاني: أنه الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله، ومحمد بن الحنفية.
ج. الثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى، الذي لا عوج فيه، وهو قول ابن عباس.
د. الرابع: هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخيار أهل بيته وأصحابه، وهو قول الحسن البصري.
5. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم الملائكة.
ب. الثاني: أنهم الأنبياء.
ج. الثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة.
د. الرابع: أنهم المسلمون، وهو قول وكيع.
هـ. الخامس: هم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن معه من أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
6. في غضب الله عليهم، أربعة أقاويل:
أ. أحدها: الغضب المعروف من العباد.
ب. الثاني: أنه إرادة الانتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى.
ج. الثالث: أن غضبه عليهم هو ذمّه لهم.
د. الرابع: أنه نوع من العقوبة سمّي غضبا، كما سمّيت نعمه رحمة..
7. خصّ الله تعالى اليهود بالغضب، لأنهم أشد عداوة.
__________
(1) تفسير أبي الحسن الماوردي: 1/59.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى ﴿اهْدِنَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ أرشدنا. كما قال طرفة:
للفتى عقل يعيش به... حيث يهدي ساقه قدمه
ب. الثاني: وفقنا كما قال الشاعر:
فلا تعجلن هداك المليك... فإن لكل مقام مقالا
أي وفقك.
2. الآية تدل على بطلان قول من يقول: لا يجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم أنه يفعله لأنه عبث، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان عالماً بأن الله يهديه الصراط المستقيم، وانه قد فعل ذلك، ومع ذلك كان يدعو به.
3. قد تكون الهداية بمعنى أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم الى فعل الطاعة، والهدى يكون ايضاً بمعنى العلم لصاحبه لأنه مهتد على وجه المدح، والهدى يكون أن يهديه الى طريق الجنة، كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾، وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق الرشد.
4. سؤال وإشكال: ما معنى المسألة في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم، ومعلوم أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟ والجواب:
أ. قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة وانقطاعاً إليه تعالى كما قال: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وإن علمنا أنه لا يحكم إلا بالحق، ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات، وكما تعبّدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده والإقرار بتوحيده ولرسوله بالصدق، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك.
ب. وقيل: يجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة في الألطاف كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾، وقال: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾
ج. وقيل: يجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا، وأنفع لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا يكون ذلك مصلحة، وكان ذلك وجهاً في حسن المصلحة ﴾
د. وقيل: يجوز أن يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب، لأن إدامته ليست بواجبة، بل هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء.
ويلزم المخالف أن يقال له: إذا كان الله تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله، فما أجابوا به فهو جوابنا.
5. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الدين الحق الذي أمر الله به من توحيده، وعدله، وولاية من أوجب طاعته.. قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
أي على طريق واضح، وقال الشاعر: فصد عن نهج السراط الواضح.. وقيل: إنه مشتق من (مسترط) الطعام، وهو ممره في الحلق.
6. ﴿الصِّرَاطِ﴾ : الصاد لغة قريش، وهي اللغة الجيدة، وعامة العرب يجعلونها سينا، والزاي لغة لعذرة، وكعب وبني القين يقولون: أزدق، فيجعلونها زاياً إذا سكنت، وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق، وبنو تميم يذكرون هذا كله.
7. ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ : أصل الاستقامة التقويم والاستواء في جهة الانتصار وهو ضد الاعوجاج، فمنه القيام والتقويم والتقوّم، ومنه المقاومة، لأنه بمنزلة المماثلة بما هو كالاستواء، وتقاوموا في الأمر إذا تماثلوا، والاستقامة المرور في جهة واحدة.
8. قيل في معنى قوله: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وجوه:
أ. أحدها ـ إنه كتاب الله، وروي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن علي عليه السلام وابن مسعود.
ب. الثاني انه الإسلام، حكي ذلك عن جابر وابن عباس.
ج. الثالث ـ إنه دين الله عز وجل الذي لا يقبل من العباد غيره.
د. الرابع ـ انه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام القائمون مقامه صلوات الله عليهم، وهو المروي في أخبارنا.
9. الأولى حمل الآية على عمومها لأنا إذا حملناها على العموم دخل جميع ذلك فيه، فالتخصيص لا معنى له.
10. ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ هم اليهود عند جميع المفسّرين الخاص والعام، لأنه تعالى قد أخبر أنه غضب عليهم وجعل فيهم القردة والخنازير، ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هم النصارى لأنه قال: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني النصارى، وروي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. الغضب من الله هو ارادة العقاب المستحق بهم، ولعنهم وبراءته منهم، وأصل الغضب الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل المخالفة له ورجل غضوب شديد الغضب والغضوب الحية الخبيثة لشدتها والغضوب الناقة العبوس.
12. اصل الضلال الهلاك، ومنه قوله ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي هلكنا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أهلكها، والضلال في الدين الذهاب عن الحق والإضلال الدعاء الى الضلال والحمل عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾، والإضلال الأخذ بالعاصين الى النار، والإضلال الحكم بالضلال، والإضلال التحيير بالضلال بالتشكيك لتعدل عنه.
13. اليهود ـ وان كانوا ضلالا ـ والنصارى ـ وان كانوا مغضوباً عليهم ـ فإنما خص الله تعالى كل فريق منهم بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وان كانوا مشتركين في صفات كثيرة.
14. قيل إنه أراد بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ جميع الكفار وإنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/41.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : الآية تدل على وجوب طلب الهداية، وتعليم من الله كيف ندعوه.. وتدل على وجوب الدعاء به حالاً بعد حال؛ كيلا تميل بنا الأهواء.. وتدل على أن أفعال العباد ليست بخلق لله؛ إذ لو كانت خلقًا لله لم يكن لطلب المعونة والهداية معنى، ولكان بمنزلة من سأله المعونة على ألوانه وهيئاته، وما يشبه ذلك.
2. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإنعام والإحسان والإفضال نظائر، وبين الإنعام والإحسان فرق؛ لأنه يكون محسنا إلى نفسه، ولا يكون منعما إليه، وأصل النعمة هو اللين، والنعيم: الخفض والدعة، وهو لين العيش ورفاهيته، والنعمة: النفع الحسن الذي يقصد به المنعِم الإحسان إلى المنعَم عليه، والله منعم على المؤمن والكافر؛ ولذلك قال: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ وأول نعمه على العبد خلقه إياه حيًّا لينفعه.
ب. ﴿غَيْرِ﴾ : يكون على ثلاثة أوجه: بمعنى سوى، وبمعنى الجحد، وبمعنى الاستثناء، وقيل: حقيقته ما صح أن يثنى مع المضاف إليه، كقولك: الرجل غير زيد فهما اثنان، فأما حَدُّ الغَيْرَيْنِ، فقيل: ما يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر، عن أبي القاسم، وقيل: كل مذكورين لا يدخل أحدهما تحت الآخر.
ج. الغضب والسخط واحد، ونقيضهما الرضا، والغضب من الله تعالى قيل: إرادة العقوبة، وقيل: ذمه إياهم على فعلهم، والضلال: الهلاك، ونظيره الضياع، ونقيضه الهدى، وقيل للكافر ضال؛ لأنه هالك بكفره، ومنه: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾
3. مسائل نحوية:
أ. ﴿صِرَاطٍ﴾ : نصب لأنه بدل من الأولى.
ب. ﴿غَيْرُ﴾ يجوز خفضها من وجهين:
• أحدهما: أن يكون صفة لـ ﴿الَّذِينَ﴾
• الثاني: أن يكون بدلاً من ﴿الَّذِينَ﴾
ج. ﴿غَيْرُ﴾ يجوز نصبها من وجهين:
• أحدهما: الحال، إن شئت من الهاء والميم في ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، وإن شئت من ﴿الَّذِينَ﴾
• الثاني: الاستثناء، أجازه الأخفش والزجاج، وأباه الفراء وثعلب؛ من أجل أنه لا يعطف على ﴿غَيْرُ﴾ إذا كان استثناء، لا تقول: جاءني القوم إلا زيدا ولا عمرا، ومن أجازه على الاستثناء جعل ﴿لَا﴾ صلة، كقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ أي ما منعك أن تسجد.
د. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ : في موضع رفع؛ لأنه اسم ما لم يُسَمَّ فاعله، فأما من قال: أراد غير المغضوبين فحذف توسعا فغير صحيح؛ لأنه بمنزلة الفعل المتقدم كقولك: ضُرِبَ أخواك، وضرب إخوتُك.
4. بين تعالى أن الطريق الذي ذكره طريق الأنبياء والصالحين، فقال: ﴿صِرَاطٍ﴾ :
أ. أي طريق ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بألطافك حتى ثبتوا على الحق.
ب. وقيل: هم من ذكر في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ الآية.
ج. وقيل: من أنعمت عليهم من ذرية آدم.
د. وقيل: طريق بني إسرائيل، فإنه قال: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾
هـ. وقيل: أنعم اللَّه عليهم بالرضا عنهم،.
و. وقيل: بقبول طاعتهم.
ز. وقيل: هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته، عن سهل بن حوشب.
5. اختلف في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ :
أ. قيل: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ قيل: اليهود ﴿وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ النصارى، روي ذلك مرفوعا، وخص اليهودَ بالغضب، لقوله: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ ووصف النصارى بالضلال، فقال: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾،
ب. وقيل: أراد جميع الكفار، وجمع بين الأوصاف لما فيه من الفائدة، كما تقول: إنه تعالى قادر حي سميع بصير.
ج. وقيل: غير المغضوب عليهم بالبدعة، ولا الضالين عن السنة.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب اتباع سبيل الأنبياء والمؤمنين، وأن طريقهم تجمع أربعة أوصاف: أنه الطريق المستقيم، وطريق من أنعم اللَّه عليه من النبيين، وطريق غير المغضوب عليهم، وطريق غير أهل الضلالة. وفي كل وصف زيادة فائدة ليس في الآخر.
ب. أن من عدل عن طريق المؤمنين غضب اللَّه عليه، فمن هذا الوجه تدل على أن إجماعهم حجة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/215.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الهداية في اللغة: الإرشاد والدلالة على الشيء، يقال لمن يتقدم القوم ويدلهم على الطريق: هاد خريت أي: دال مرشد، قال طرفة:
للفتى عقل يعيش به... حيث تهدي ساقه قدمه
والهداية: التوفيق، قال:
فلا تعجلن هداك المليك... فإن لكل مقام مقالا
أي: وفقك.
ب. الصراط: الطريق الواضح المتسع، وسمي بذلك لأنه يسرط المارة أي: يبتلعها.
ج. المستقيم: المستوي الذي لا اعوجاج فيه، قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط... إذا اعوج الموارد مستقيم
ج. الغضب من الله تعالى: هو إرادته إنزال العقاب المستحق بهم، ولعنهم، وبراءته منهم.. وأصل الغضب: الشدة، ومنه الغضبة: وهي الصخرة الصلبة الشديدة، المركبة في الجبل.. والغضوب: الحية الخبيثة، والناقة العبوس.
د. أصل الضلال: الهلاك، ومنه قوله: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: هلكنا، ومنه قوله: ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: أهلكها.. والضلال في الدين: الذهاب عن الحق، وإنما لم يقل الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم، مراعاة للأدب في الخطاب، واختيارا لحسن اللفظ المستطاب.
2. اختلف في معنى ﴿اهْدِنَا﴾ على وجوه:
أ. أحدها: إن معناه ثبتنا على الدين الحق، لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم، إلا أن الانسان قد يزل، وترد عليه الخواطر الفاسدة، فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه، ويديمه عليه، ويعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين، كما قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ وهذا كما يقول القائل لغيره، وهو يأكل: كل أي: دم على الأكل.
ب. ثانيها: إن الهداية هي الثواب لقوله تعالى: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ فصار معناه اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا، ويؤيده قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾
ج. ثالثها: إن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر، كما دللتنا عليه في الماضي.
3. يجوز الدعاء بالشيء الذي يكون حاصلا كقوله تعالى: ﴿ قل رب احكم بالحق ﴾ وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ وذلك أن الدعاء عبادة، وفيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى.
4. سؤال وإشكال: ما معنى المسألة في ذلك، وقد فعله الله؟ والجواب: من وجوه:
أ. يجوز أن يكون لنا في الدعاء به مصلحة في ديننا، وهذا كما تعبدنا بأن نكرر التسبيح، والتحميد، والإقرار لربنا عز اسمه بالتوحيد، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك.
ب. ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا تكون مصلحة، فيكون ذلك وجها في حسن المسألة.
ج. ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف، والتعريض للثواب، لأن إدامته ليس بواجب، بل هو تفضل محض، فجاز أن يرغب إليه فيه بالدعاء.
5. اختلف في معنى الصراط المستقيم:
أ. قيل: إنه كتاب الله، وهو المروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن علي عليه السلام، وابن مسعود.
ب. وقيل: إنه الاسلام، وهو المروي، عن جابر، وابن عباس.
ج. وقيل: إنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، عن محمد بن الحنفية.
د. وقيل: إنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة القائمون مقامه، وهو المروي في أخبارنا.
6. الأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه، لأن الصراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به، من التوحيد والعدل وولاية من أوجب الله طاعته.
7. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : أي: صراط من أنعمت عليهم بطاعتك، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله ﴿ من يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ وأصل النعمة: المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقه أي: بالغت في دقه، وهذه النعمة، وإن لم تكن مذكورة في اللفظ، فالكلام يدل عليها، لأنه لما قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ بين أن هذا صراط من أنعم عليهم به، ولم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة:
كأنك من جمال بني أقيش... يقعقع خلف رجليه بشن
أي: كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه.
8. أراد بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ اليهود عند جميع المفسرين، الخاص والعام، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾، وهؤلاء هم اليهود بدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾
9. أراد بـ ﴿الضَّالِّينَ﴾ : النصارى بدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ .
10. قال الحسن البصري: إن الله تعالى لم يبرئ اليهود من الضلالة بإضافة الغضب إلى اليهود، بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم، وهم ضالون، إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها، ويميز بينه وبين غيره بها، وإن كانوا مشتركين في صفات كثيرة.
11. من الأقوال الأخرى في تفسير ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ و ﴿الضَّالِّينَ﴾ :
أ. قيل: المراد بـ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، و ﴿الضَّالِّينَ﴾ جميع الكفار، وإنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين.
ب. اختار عبد القاهر الجرجاني قولا آخر قال: إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس، كما تقول: نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم، فإنك لا تقصد به قوما بأعيانهم، ولكنك تريد ما تريده بقولك إذا قلت: اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم، ولا تجعلني ممن غضبت عليهم، فلا تريد أن ههنا قوما بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعما عليهم، وليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون: اجعلني ممن تديم له النعمة، وهم يريدون أن يقولوا أدم علي النعمة، ولا يشك عاقل إذا نظر لقول عنترة:
ولقد نزلت، فلا تظني غيره... مني بمنزلة المحب المكرم
إنه لم يرد أن يشبهها بإنسان هو محب مكرم عنده، أو عند غيره، ولكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي.
12. مسائل نحوية:
أ. ﴿اهْدِنَا﴾ مبني على الوقف، وفاعله الضمير المستكن فيه لله تعالى، والهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور، وموضع النون والألف من ﴿اهْدِنَا﴾ نصب لأنه مفعول به.
ب. ﴿الصِّرَاطِ﴾ : منصوب لأنه مفعول ثان.
ج. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ﴾ : صفة لقوله: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، ويجوز أن يكون بدلا عنه.. والفصل بين الصفة والبدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قوله تعالى: ﴿ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم ﴾، وليس كذلك الصفة، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم، فكذلك العامل الرافع، أو الناصب في تقدير التكرير، فكأنه قال اهدنا صراط الذين، وليس يخرج البدل، وإن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول، كما أن الصفة كذلك، ولهذا لم يجز سيبويه المسكين بي، كان الأمر ولا بك المسكين، كما أجاز ذلك في الغائب نحو: مررت به المسكين.
د. الذين: موصول، وأنعمت عليهم: صلة.. وقد تم بها اسما مفردا يكون في موضع جر بإضافة ﴿صِرَاطٍ﴾ إليه، ولا يقال في موضع الرفع اللذون، لأنه اسم غير متمكن، وقد حكي اللذون شاذا كما حكي الشياطون في حال الرفع.
هـ. في الجر في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ثلاثة أوجه،
• أحدها: أن يكون بدلا من الهاء والميم في عليهم، كقول الشاعر:
على حالة لو أن قي القوم حاتما... على جوده لضن بالماء حاتم
فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده.
• ثانيها: أن يكون بدلا من الذين.
• ثالثها: أن يكون صفة للذين، وإن كان أصل، غير أن يكون صفة للنكرة، تقول: مررت برجل غيرك، كأنك قلت مررت برجل آخر، أو برجل ليس بك، قال الزجاج: وإنما جاز ذلك لأن الذين ههنا ليس بمقصود قصدهم، فهو بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه.. وقال علي بن عيسى الرماني: إنما جاز أن يكون نعتا للذين لأن ﴿الَّذِينَ﴾ بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو: زيد وعمرو، وإنما هي كالنكرات إذا عرفت نحو الرجل والفرس، فلما كانت ﴿الَّذِينَ﴾ كذلك، كانت صفتها كذلك أيضا، كما يقال: لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل، ولو كانت بمنزلة الاعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة.
و. في نصب ﴿غَيْرُ﴾ ثلاثة أوجه:
• أحدها: أن يكون نصبا على الحال من المضمر في ﴿عَلَيْهِمْ﴾، والعامل في الحال ﴿أَنْعَمْتَ﴾ فكأنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم.
• ثانيها: أن يكون نصبا على الاستثناء المنقطع، لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم.
• ثالثها: أن يكون نصبا على أعني، كأنه قال: أعني غير المغضوب عليهم، ولم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم، لأن الضمير قد جمع في ﴿عَلَيْهِمْ﴾ فاستغنى عن أن يجمع المغضوب.
وهذا حكم كل ما تعدى بحرف جر، تقول: رأيت القوم غير المذهوب بهم، استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب.
ز. ﴿لَا﴾ من قوله ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ : ذهب البصريون إلى أنها زائدة لتوكيد النفي، وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى غير، ووجه قول البصريين انك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو، احتمل أن تريد ما قاما معا، ولكن قام كل واحد منهما بانفراده، فإذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو، زال الاحتمال.
ح. ﴿غَيْرُ﴾ متضمن معنى النفي.. ولهذا أجاز النحويون أنت زيدا غير ضارب، لأنه بمنزلة قولك: إنك أنت زيدا لا ضارب ولا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب، لأن زيدا من صلة ضارب، ولا يتقدم عليه.
ط. قال علي بن عيسى الرماني: من نصب على الاستثناء، جعل ﴿لَا﴾ صلة كما أنشد أبو عبيدة: (في بئر لا حور سرى وما شعر) أي في بئر هلكة، وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين.. كما قال: (ما منعك أن لا تسجد) بمعنى أن تسجد.
__________
(1) تفسير الفضل بن الحسن الطَبرِسي: 1/105.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: ثبّتنا، قاله عليّ، وأبيّ.
ب. الثاني: أرشدنا.
ج. الثالث: وفّقنا.
د. الرابع: ألهمنا.
رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.
2. ﴿الصِّرَاطِ﴾ : الطريق، ويقال: إن أصله بالسّين، لأنه من الاستراط وهو: الابتلاع، فالسّراط كأنه يسترط المارّين عليه:
أ. فمن قرأ بالسين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة.
ب. ومن قرأ بالصاد، كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها أخفّ على اللّسان.
ج. ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعيّ عن أبي عمرو، واحتجّ بقول العرب: صقر وسقر وزقر، وروي عن حمزة: إشمام السين زايا، وروي عنه أنه تلفّظ بالصّراط بين الصاد والزاي.
قال الفرّاء: اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامّة العرب يجعلونها سينا، وبعض قيس يشمّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ (الزّراط) بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في (أصدق): أزدق.
3. في المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال:
أحدها: أنه كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
الثاني: أنه دين الإسلام، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وأبو العالية في آخرين.
الثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
الرابع: أنه طريق الجنّة، نقل عن ابن عباس أيضا.
4. سؤال وإشكال: ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: أن المعنى: اهدنا لزوم الصّراط، فحذف اللزوم، قاله ابن الأنباريّ.
ب. الثاني: أن المعنى: ثبّتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك.
ج. الثالث: أن المعنى: زدنا هداية.
__________
(1) زاد المسير: 1/21.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سؤال وإشكال: المصلي لا بد وأن يكون مؤمناً، وكل مؤمن مهتد، فالمصلي مهتد، فإذا قال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ كان جارياً مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلباً لتحصيل الحاصل، وأنه محال، والجواب: العلماء أجابوا عنه من وجوه:
أ. الأول: المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى.. يحكي أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشي عليه، وكان يقول في كل مرة: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
ب. الثاني: أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط، وهما مذمومان، والحق هو الوسط، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143] وذلك الوسط هو العدل والصواب، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمناً مهتدياً، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل.
ج. الثالث: أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلًا عن سائر الدلائل، فقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
د. الرابع: أنه تعالى قال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 52، 53] وقال أيضاً لمحمد عليه السلام: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 153] وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلًا بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، فقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسماعيل عليه السلام، ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام، ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيى وزكريا عليهما السلام، فالمراد بقوله ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء، ولا شك أن هذا مقام شديد هائل، لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به.
هـ. الخامس: كأن الإنسان يقول في الطريق: كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثان، والشيطان إلى طريق ثالث، وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد، وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد.. والعقل ضعيف، والعمر قصير، والصناعة طويلة، والتجربة خطرة، والقضاء عسير، وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ :
أ. قال بعضهم: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الإسلام.
ب. وقال بعضهم: القرآن، وهذا لا يصح، لأن قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدل من ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وإذا كان كذلك كان التقدير اهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام، وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة.
3. إنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ليكون لفظ الصراط مذكراً لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية.
4. ﴿اهْدِنَا﴾ : أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا، ونظيره قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: 8] أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم.
5. سبب التعبير بصيغة الجمع في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا﴾ من وجهين:
أ. الأول: الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب.. كان بعض العلماء يقول لتلامذته: إذ قرأتم في خطبة السابق (ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين) إن نويتني في قولك (رضي الله عنك) فحسن، وإلا فلا حرج، ولكن إياك وأن تنساني في قولك (وعن جماعة المسلمين) لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بد وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولًا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثانياً، لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه.
ب. الثاني: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها، قالوا: يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة، قال يدعو بعضكم لبعض، لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك.
ج. الثالث: كأنه يقول: أيها العبد، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولًا حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل اهدنا.
د. الرابع: كان العبد يقول: سمعت رسولك يقول: الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد للّه، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، فلما لم أفارق الأنبياء، والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة، قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ [النساء: 69] الآية.
6. أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة، فكان العبد يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لوجوه:
أ. الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.
ب. الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان.
ج. الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود، والمعوج لا يوصل إليه.
د. الرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير، فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم.
7. اختلف في حد النعمة:
أ. منهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير.. أما (المنفعة) فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، و(المفعولة على جهة الإحسان) لأنه لو كان نفعاً حقاً وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها.
ب. ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر.. والحق أن هذا القيد غير معتبر، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر، والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
8. ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يتناول كل من كان لله عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين.. ذلك أن كل نعمة دينية سوى الإيمان مشروطة بحصول الإيمان، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدل على أن المراد من قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أنه طلب لنعمة الإيمان.
9. بنى على هذا الأصل فروعا خلافية، سنذكر المناقشات حولها بتفصيل في كتب السلسلة، ومنها:
أ. الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة، ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، ولأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
ب. الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار، لأن قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم.
ج. الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على الله لم يكن ذلك إنعاماً، لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً، وحيث سماه الله تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
د. الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه، لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ :
أ. المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 60] والضالين: هم النصارى لقوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77]
ب. وقيل: هذا ضعيف، لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل.
ج. ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 6] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا﴾ [البقرة: 8] فكذا هاهنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾
11. لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال(2)..
12. قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولما كان ذلك باطلًا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.
13. الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، وهذا على الله تعالى محال، لكن هاهنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء ـ لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الاضرار.. وأيضاً، والحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
14. دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق:
أ. أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾
ب. وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾
ج. وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ .
15. قدّم ذكر العصاة على ذكر الكفرة لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.
16. سؤال وإشكال: من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه وأن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فما الفائدة في أن ذكر عقيبه ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا)، فقوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يوجب الرجاء الكامل، وقوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ يوجب الخوف الكامل، وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حد الكمال.
17. سؤال وإشكال: ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضالين؟ والجواب: أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة، وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ [النساء: 93] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32]
__________
(1) تفسير الفخر الرَّازي: 1/218.
(2) لا نرى صحة هذا، لأن الضلال درجات كثيرة.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
﴿اهْدِنَا﴾ : الهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا، وكقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، وقد يتعدى بإلى كقوله: ﴿اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وقد يتعدّى باللام كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، قال الزمخشري: أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى انتهى، وهي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة، وفرّق كثير من المتأخرين بين معنى المتعدي بنفسه وغير المتعدي فقالوا: معنى الأوّل الدلالة، والثاني الإيصال، وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ .
1. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب.. ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته والمعوجّ باعوجاجه.
2. أخرج أحمد والترمذي وحسّنه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، عن النّواس بن سمعان، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم)، قال ابن كثير بعد إخراجه: وهو إسناد حسن صحيح.
3. جميع ما روي في تفسير هذه الآية يصدق بعضه على بعض، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبيّ قد اتبع الحق، وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وفق إليه ممن أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنهاج كل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
4. ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ : والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ وغير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى: أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة له على معنى: أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان والسلامة من ذلك، وصحّ جعله صفة للمعرفة مع كون غير لا تتعرف بالإضافة إلى المعارف لما فيها من الإبهام، لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار المغايرة بين الجنسين.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/28.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ما لم يكن عندنا من الدين حتَّى يتمَّ عندنا، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمَّد: 17]، ﴿وَيَزيدُ اللهُ الَّذِين اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76]؛ أو أدِمْنا عليه، والأصل: اِهدنا للصراط، أو إلى الصراط؛ والمراد هدى البيان أو هدى الإيصال، بأن نقيم عليه ولا نموت على خلافه، أو التوفيق للعمل والتقوى.
2. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بعلم الدين والعمل به من النبيئين والصدِّيقين والشهداء والصالحين من كلِّ أمَّة.
3. ﴿غَيْرِ﴾ قال سيبويه: نعت (الذين)؛ لأنَّ (الذين) كالنكرة، لأنَّه جنس ولفظ غير نكرة ولو أضيف لمعرفة، ولا سيما أنَّه أضيف لمعرفة هي للجنس فهي كالنكرة، وعندي جواز إبدال المشتقِّ الوصف وما أُوِّل به.
4. ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ اليهود المخالِفين لموسى وعيسى ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ النصارى المخالفين لهما، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المغضوب عليهم اليهود، والضالُّون النصارى)، رواه أحمد وحسَّنه ابن حبَّان، وقدَّم المغضوب عليهم لتقدُّمهم زمانًا، ولأنَّ الإنعام يقابَل بالانتقام، ولأنَّهم أشدُّ في الكفر والعناد والفساد، وأشدُّ عداوة للذين آمنوا، ولأنَّهم كفروا بنبيئيْن عيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهما وسلَّم، والنصارى بواحد وهو سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وروى ابن عديٍّ والديلميُّ والسلفيُّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من لم يجد صدقة فليلعن اليهود).
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/32.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له.. قال الإمام الراغب في تفسيره: الهداية دلالة بلطف، ومنه الهدية، وهوادي الوحش وهي مقدّماتها لكونها هادية لسائرها، وخص ما كان دلالة بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت.
1. سؤال وإشكال: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف وقد قال تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 23]، وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 4]، والجواب: إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وخيل قد دلفت لها بخيل... تحيّة بينهم ضرب وجيع
2. الهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا وفعلا، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلّا بعد الأول، ولا الثالث إلّا بعد الثاني:
أ. فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرا وإما طوعا ـ كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ﴾ [الأعلى: 3]، وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68]، وقوله تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: 5]، وقال في الإنسان، بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان: 3] وقال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]، وقال في ثمود: ﴿فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17]
ب. وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام. وإياها عنى بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [السجدة: 24]. وبقوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبيّ عليه السّلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]
ج. وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90] وقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].. وهذه الهداية هي المعنيّة بقوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28]
د. رابعها هداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43]
3. يصح أن ننسب الهداية التي يوليها الله تعالى صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها، ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم، فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله، ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: 9]. فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا، وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلّا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها، ومن ذلك:
أ. قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات.
ب. وقال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلّا البصير، ولا يعمل به إلّا اليسير.. ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء.
ج. وقال آخر: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات وغدران، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته ـ ثم تلا قوله ـ ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17].
د. وقال آخر: هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
4. من الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه، ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، وقال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ [الروم: 53]. فإنه عنى الهداية ـ التي هي التوفيق وإدخال الجنة ـ دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، وقال في الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: 73]
5. قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة:
أ. قيل: أنه عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك ـ وإن كان هو قد فعله لا محالة ـ ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد.
ب. وقيل: وفقنا لطريقة الشرع.
ج. وقيل: احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات.
د. وقيل: زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]، وقولك: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17].
هـ. وقيل: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35].
و. وقيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 4 ـ 5]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: 9] الآية.
وهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مرادا بالآية ـ إذ لا تنافي بينها ـ وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آية ما ـ إذا لم تتناف ـ صح إرادتها كلها، ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ.
6. معنى ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ : أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69]
7. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال الأصفهانيّ: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/231.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا﴾، هي الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب، وقد منح الله تعالى الانسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
أ. الأولى، وهي هداية الوجدان الطبيعي والالهام الفطريّ فقال: وتكون للأطفال منذ ولادتهم، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، وعند ما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه.
ب. الثانية، وهي الحواس والمشاعر، وهى متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم، بل هو فيهما أكمل من الانسان، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الانسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات ادراك الأصوات والمرئيات، ثم بعد مدة يبصر ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات، فيحسب البعيد قريبا فيمد يديه إليه ليتناوله وإن كان قمر السماء، ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال.
ج. الثالثة، وهي العقل، فقد خلق الله الانسان ليعيش مجتمعا ولم يعط من الالهام والوجدان ما يكفى مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد منحها من الالهام ما يكفيها لأن تعيش مجتمعة يؤدى كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها، ويؤدى الجميع وظيفة العمل للواحد، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد أما الانسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الالهام، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والالهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا، والصفراوي يذوق الحلو مرا، والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الادراك.
د. الرابعة، وهي الدين، فقد يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس، وقد يهمل الانسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة. فاذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا؟
2. أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة، ومنها:
أ. قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر.. وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة وهداية العقل وهداية الدين.
ب. قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ : أي دللناهم على طريقي الخير والشر، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى.
ج. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره، فالهداية في الآيات السابقة بمعنى الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين المهلك والمنجى، مع بيان ما يؤدى إليه كل منهما، وهي مما تفضل الله به على جميع أفراد البشر، وأما هذه الهداية فهي أخص من تلك والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل وشرع الدين ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ﴾
3. لما كان الانسان عرضة للخطإ والضلال في فهم الدين وفى استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا كان محتاجا إلى المعونة الخاصة فأمرنا الله بطلبها منه في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فمعنى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطإ، وما كان هذا أول دعاء علمنا الله تعالى إياه، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه.
4. المستقيم،: هو ضد المعوج.. وليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التمعج والتعاريج، بل المراد كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهى سالكه إليها، والمستقيم في عرف الهندسة أقرب موصل بين طرفين، وهذا المعنى لازم للمعنى اللغوي كما هو ظاهر بالبداهة، وإنما قلنا إن المراد بمقابل المستقيم كل ما فيه انحراف لأن كل من يميل وينحرف عن الجادة يكون أضل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج، لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل، ولكن الأول لا يصل إليها أبدا. بل يزداد عنها بعدا كلما أوغل في السير وانهمك فيه.
5. قالوا: إن المراد بالصراط المستقيم الدين أو الحق أو العدل أو الحدود ونحن نقول إنه جملة ما يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم.
6. سؤال وإشكال: لم سمي الموصل إلى السعادة من ذلك صراطا وطريقا؟ والجواب: خذ الحق مثلا وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس تر معني الصراط فيه واضحا، لأن السبيل أو الصراط ما أسلكه وأسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة هو كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة فالطريق الواضح للحس، يشبه الحق للعقل والنفس، سير حسى، وسير معنوي كذلك إذا اعتبرت هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحا ـ قسمت أحكام الأعمال إلى واجب ومندوب ومباح ومحرم ومكروه فكان هذا مريحا لنا من تمييز الخير من الشر بأنفسنا واجتهادنا، فبيان الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل، ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم، وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه.
7. لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك، وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيرى الدنيا والآخرة. فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
8. سر وصف الصراط بالمستقيم بدل وصفه بصراط الإيمان، لأن هذا أعم منه وأشمل، لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان، من العقائد والعبادات والآداب، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه، فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين، فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت، كذلك الطرق المعنوية، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق، وما يعترى سالكه الموانع واقتحام العقبات واتقاء العثرات.
9. ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الحق، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الانعام ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، وقد قلنا إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الاخبار، التي هي مثل الذكرى والاعتبار، وينبوع العظة والاستبصار، وأخبار القرآن كلها تنطوي في اجمال هذه الآية.
10. إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الامام على رضى الله عنه وهو أعلم بهذا من غيره، لأنه تربى في حجر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأول من آمن به، وإن لم تكن أول سورة على الاطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحى بحيث يطلب الاهتداء بهداهم وما هداهم إلا من الوحى، ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذه السبيل سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم، فأولئك غيرهم، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة، فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة. فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص، وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم، في كفرهم وإيمانهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدى الانسان كالمثلات والوقائع. فاذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم، وغير ذلك مما يعرض للأمم ـ كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار.
11. وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله تعالى ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافا عن الدليل، ورضاء بما ورثوه من القيل، ووقوفا عند التقليد، وعكوفا على هوى غير رشيد.
12. غضب الله يفسرونه بلازمه وهو العقاب، ووافقهم محمد عبده على ذلك، والذى ينطبق على مذهب السلف أن يقال أنه شأن من شؤونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه.
13. معنى الضالين: هم الذين لم يعرفوا الحق البتة، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل.
14. لا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون منها إلى مطلوب، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب، لكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدى إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية لا يهتدى معها إلى المطلوب، والعماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ.
__________
(1) تفسير المنار: 1/63.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا﴾ : الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والصراط هو الطريق، والمستقيم ضد المعوجّ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهى إليها، وهداية الله للإنسان على ضروب:
أ. أولها، هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له.
ب. ثانيها، هداية الحواس، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما في الحيوان أتمّ منهما في الإنسان، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا.
ج. ثالثها، هداية العقل، وهي هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا، والرائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجّا.
د. الرابعة، هداية الأديان والشرائع، وهى هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بنى جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع ـ فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها ـ إلى أن في غرائز الإنسان الشعور ـ بسلطان غيبي متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها.
2. إلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم في آيات كثيرات كقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي طريقي الخير والشر والسعادة والشقاء، وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى.
3. هناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير، وهي التي أمرنا الله بطلبها في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ إذ المراد ـ دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع في الخطأ والضلال، وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وأثبتها لنفسه في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ .
4. الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها، ومن ثم أثبتها للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .
5. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع، وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسي، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنوي يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسىّ يصل به إلى غاية أخرى.. وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد في معرفة أحكام الشريعة، ونكلف أنفسنا الجري على سننها، لنحصل على خيرى الدنيا والآخرة.
6. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة، وقد أجملهم هنا وفصلهم في مواضع عدة من الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر في أحوالهم، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار.
7. أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا، لأن دين الله واحد في جميع الأزمان: فهو إيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إلى آخر الآية.
8. ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد ـ وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
9. ﴿الضَّالِّينَ﴾، هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق، فهم تائهون في عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، والصواب بالخطإ إن لم يضلّوا في شئون الدنيا ضلوا في شئون الحياة الأخرى، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب في أحواله المعيشية وحلت به الرزايا.
10. الذين جاؤوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذبون في الآخرة لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وهذا رأى جمهرة العلماء، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف في التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر في ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر في خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/36.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل؛ ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته.. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه، فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين، وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين.
2. يكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ .. فهو طريق الذين قسم لهم نعمته. لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه. أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلاً إليه.. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/27.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله، أفضوا إلى سؤال حظهم فقالوا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو التخلص من القصيدة.
2. الهداية الدلالة بتلطف، ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير، ولفظ الهداية في اللغة يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد.. ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردان، تقول هديته إلى كذا على معنى أوصلته إلى معرفته، وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 23]، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43].. وقد يعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف، قيل هي لغة أهل الحجاز وأما غيرهم فلا يعديه بنفسه، وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف والإيصال.. وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذ الهداية، وأما هداه إلى كذا أو لكذا فيستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق ومصدره هدى، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في العمل بالفرعية أو التأخير، وإما أن يقصد بها تقوية معناه، والحق أن هذا إن تم فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر، على أن كلا من الهدى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهدي.
3. التعدية والقصور ليسا من الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد، بل هي جارية على معنى الحدث المدلول للفعل، فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر، وإن كان لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر، فإن أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول معان متعددة.. وهدى متعد لواحد لا محالة، وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه إن اعتبر فيه معنى الإراءة والإبانة تعدى بنفسه، وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد والإشارة فهو متعد بالحرف، فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له.
4. قد قيل إن حقيقة الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق وفي حديث الهجرة: (إن أبا بكر استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا) وإن ما نشأ من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها.
5. الهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير، واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية، فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل، وهو قول الأشاعرة وهو الحق، وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره، فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر، والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلق.
6. لا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي، وسوء القبول من المهدي، وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها في القرآن في كل منهما قال: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56] وقال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17] والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز.
7. أنواع الهداية، رغم كثرتها تندرج تحت أربعة أجناس مترتبة:
أ. الأول: إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى انتظام وجود ذات الإنسان، ويندرج تحتها أنواع تبتدئ من إلهام الصبي التقام الثدي والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانيّات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول المهلكات وبشاعة المنافرات، ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذود الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها، ونهايتها أحوال الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة.
ب. الثاني: نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وهي هداية العلوم النظرية.
ج. الثالث: الهداية إلى ما قد تقصر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: 23]
د. الرابع: أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العليا وإظهار أسرار المعاني التي حارت فيها ألباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو التجليات، وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].
8. لا شك أن المطلوب بقوله ﴿اهْدِنَا﴾ الملقّن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عندما يقولون: اهدنا.. أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن.. وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع الناس الحاصل لهم، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول.
9. صيغة الطلب موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان استعمالها مجازا نحو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ [النساء: 136] وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام، وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما حصل بعضه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في مراتب الهداية مثلا تحصيل لمواد أخرى منها، ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذ في لازم المعنى مع المعنى فهو كناية، أما إذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ من بلغ جميع مراتب الهداية ورقى إلى قمة غاياتها وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن دعاءه حينئذ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه ويكون دعاؤه ذلك اقتباسا من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو طلب الهداية الكاملة(2)..
10. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : الصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.. والمستقيم اسم فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير.. والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخلطه شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيّات، وعن ابن عباس أن ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ دين الحق، ونقل عنه أنه ملة الإسلام، فكلامه يفسر بعضه بعضا.. ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى وإن كانت الأديان الإلهية كلها صرطا مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية غواية الشيطان: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16]
11. التعريف في ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو تعريف العهد الذهني، لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32] ولأن الضلال أنواع كثيرة كما قال: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [المائدة: 100] وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي، وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161]
12. الأظهر في تعريف ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أنه المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوفقهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم، وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب، وإنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شئونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه، والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط، وبه يظهر موقع قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ مصادفا المحز.
13. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدل أو عطف بيان من ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لـ:
أ. أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله.
ب. ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي.
ج. وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي.
14. النعمة ـ بالكسر وبالفتح ـ مشتقة من النعيم وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه.. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذات الحسية، ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها.
15. المراد من النعمة في قوله: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيّ منها والكسبيّ، والرّوحانيّ والجثماني، ويشمل النعم الأخروية، والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله.
16. المراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذ فيكون في إبدال ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ﴾ من ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم.
17. الذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة، وإنما يلتئم كون المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها.. أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك، ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، ولنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا وإنما يحرم السّكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.
18. المطلوب من ﴿اهْدِنَا﴾ طلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.
19. الدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترى في ذلك، ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.
20. من غرض وصف ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بأنهم ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها، ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، والتبرّؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساؤوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.. واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم، وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم.. وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المرادين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما.
21. يشمل المغضوب عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني.
22. ما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى هو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه.
23. تبين من هذا أن عطف ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ على ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب الله لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات، وذلك وجه تقديم ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ على ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل.
24. الغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضب الله، وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفية سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام، والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية.
25. إذ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي.
26. طريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.. وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس، فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعده، وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده.. وكلّ فيما صنعوا على هدى، وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا، وما تأوّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
27. غضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث: ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال)، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين، ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 112] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ [يونس: 99].
28. الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي: الحكمة والعفة والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة ومعتدلة فيلقّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السّبعية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكبر الهمة، وثبات القلب في المخاوف، وانحرافها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبر والعجب والشراسة والحقد والحسد والقساوة، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة.
29. إذا أطلق الغضب لغة انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن رجلا قال له أوصني قال لا تغضب فكرّر مرارا فقال: لا تغضب) رواه الترمذي.. واسأل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال: لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب.
30. الغضب المنهي عنه هو الغضب للنّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان، ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب للّه.
31. ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾، الضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطأ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم، ومنه ضالة الإبل، وهو مقابل الهدى وإطلاق الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا.. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختم والطبع والأكنّة.
32. المراد من المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك، واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدا تحمل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة، فاستحقوا الغضب لأنهم أخطئوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.. والضالون جنس للفرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده.
33. وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادوا عن الصراط الذي هدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأن الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شبه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظا من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال، فالمراد المغضوب عليهم غضبا شديدا لأن ضلالهم شنيع.
34. اليهود مثل للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في جامع الترمذي وحسّنه، وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، فهو من قبيل التمثيل بأشهر الفرق التي حق عليها هذان الوصفان، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن، وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.. فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمدا فلزمهم وصف المغضوب عليهم وعلق بهم في آيات كثيرة، والنصارى ضلوا بعد الحواريين وأساؤوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77].
35. في وصف الصراط المسئول في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يهوى أهله إلى هوة الضلالة كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161] وقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، ولم يترك بيان الشريعة مجاري اشتباه بين الخلاف الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلاف الذي يخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79](3).
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/188.
(2) قوله هذا مبني على انتهاء مراتب الهداية مع أنه لا نهاية لها.
(3) لا نرى صحة ما ذكره، ولو كان الأمر كذلك لكان الدعاء بذلك لغوا، بل نرى أن هذا تنبيه وتحذير من الله تعالى لأن نقع فيما وقع فيه المغضوب عليهم والضالون، بالإضافة إلى ذلك، فقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن هذه الأمة ستستن بسنن من قبلها.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أول الاستعانة طلب الهداية؛ ولذلك قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ بعد أن ذكر دعاء العباد لربهم باختصاصه بالعبادة، طلب الاستعانة بالله تعالى في كل شيء مرغوب فيه محمود غير مذموم، وذكرت الاستعانة متجهة إلى الله تعالى من غير الباء، إذ هي تتعدى بها، فيقال استعان به، وتركت الباء للتوجه إلى الله تعالى من غير توسط، ولو كان توسطا لفظيّا بحرف الباء، والتوجه إلى الله وحده بحيث يواجه الذات العلية بإشراف النفس من غير رؤية ولا حسّ إلا أن يكون روحيا.
2. ذكر أعلى مراتب الاستعانة، وهي التي لا تكون لأمور تتعلق بالرغبات الدنيوية ولو كانت في حلال، بل أعلاها ما يتعلق بالنفس وهدايتها، فقال سبحانه على لسان المتقين: ﴿اهْدِنَا﴾ ومجيء ذلك في كتاب الله تعالى وبقوله الحكيم تعليم وتربية للنفس المؤمنة أن تكون استعانتها بالله تعالى تكون أولا بطلب الهداية من الله.
3. قوله تعالى على ألسنة عباده المتقين: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو دعاء من العباد لربهم بأمره سبحانه، وذلك تجلّ من الله العلى الأعلى بالإرشاد والتعليم فقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا﴾ والدعاء ذاته عبادة كما روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء.
4. مراتب الهداية:
أ. الأولى: أن يملأ سبحانه وتعالى نفوسهم وقلوبهم بالحق يميلون نحوه، ويتجهون إليه، وأن يكونوا ممن كتبت عليهم التقوى، وأن تكون هدايتها إلى نجد الخير، وقد قال وقوله الحق: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد] وقال سبحانه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس]، وذلك ليكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ب. الثانية: بعد أن تصغى قلوبهم إلى الحق وتنفتح بقوله والنظر في بيناته وهي إقامة الدلائل على الحق ليتبعوه عن بينة، أو تنفتح نفوسهم وعقولهم لقبول ما تدل عليه آيات الكون وأدلة الحق وهي أماراته، بل بيناته من سماء ذات أبراج، وأرض ذات جبال كالأوتاد، وزروع وثمار، ذات بهجة للناظرين، وأن يتدبروا في ملكوت الله تعالى وخلقه فينظروا نظرة الإدراك والاعتبار كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية]، وهذه هي المرتبة الثانية من الهداية: وهي أن يهديهم سبحانه إلى مواضع العبر والاستدلال في آياته الكبرى في خلق السماء والأرض وما بينهما، وفى آياته الكونية، ما دقّ منها وما جلّ، فهو خالق كل شيء.
ج. الثالثة: فهي إرسال الرسل هداة مبشرين ومنذرين، ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر] وإن إرسال الرسل للهداية والإرشاد، وتبليغ رسالته، إنما هو لكيلا يكون على الله حجة بعد الرسل، فهو بعد أن يخلق الخلق على الفطرة المستقيمة، والاستعداد للعلم بالوجود، وما فيه من أدلة على منشئ الوجود، ثم يؤيد العلم الفطري بعلم كسبي وهو علم النبوة الذي يجيء به رسول مبين يدعو إلى الهدى بإذنه ويهدى إلى صراط مستقيم.
د. الرابعة: مرتبة الوحى والكشف وتعليم الله تعالى لخلقه، وهو ما يكون للرسل الكرام دعاة الحق والهداة إليه، فهداية الله تعالى بالوحى، أو إرسال رسول أو أن يكلمه الله تعالى من وراء شيء من خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [الشورى](2).
5. هكذا هداية الله تعالى تبتدئ من هداية النفس والعقل إلى الحق وطلبه، ثم الإدراك للآيات البينات الدالة على واجب الوجود، ثم هداية الله تعالى بالرسل يرسلهم ليكونوا للعالمين نذيرا، ثم هداية الله تعالى بما يكون لرسله المصطفين الأخيار.
6. هدى تتعدى بإلى وباللام كقوله تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج] وكقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى]، وقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء]، لكن هنا لم يتعلّق قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ب (اللام) ولا ب (إلى)، ولذلك حكمة بيانية، وذلك أنها تضمنت معنى الهداية باختيار خير عاقبة، فتضمنت الهداية معنى الاختيار، ويكون المعنى اهدنا مختارا لنا في هدايتك الصراط المستقيم، و(اختار) تتعدى بنفسها من غير أداة جر كما قال: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ [الأعراف].
7. ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، الصراط معناه الطريق الجدد أو الجادة، وقد وصف بأنه المستقيم لأن المستقيم أقرب خط بين نقطتين، فهو أقرب موصل للغاية المرجوة. والمعنى على هذا: اختر لنا يا رب العالمين أقرب طريق متسع يوصل إلى ما يرضيك، وهو غايتنا، ومطمعنا ورجاؤنا، والصراط المستقيم هو طريق الله الذي أمر باتباعه، فقد قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام] فهم يطلبون أن يهديهم الله تعالى إلى هذا الطريق المستقيم وهو صراط الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين.
8. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هذا بيان للصراط المستقيم، أي المستوى الذي لا اعوجاج فيه، وهو معبّد لا يقف السائر فيه بعثرة يعثرها ولا بحجارة تدعثره، فإعراب ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بدل من ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، يعمل فيها عامله ﴿اهْدِنَا﴾ فمعنى النص الكريم اهدنا طريق الذين أنعمت عليهم.
9. أصل النعمة ما يستلذه الإنسان أو يستطيبه، ولكنها هنا تفسر بأنها المنفعة التي تدوم، ويستطيبها القلب، سواء أكانت عاجلة أم آجلة، وسواء أكانت دنيوية أم كانت أخروية، وسواء أكانت مادية أم كانت روحية.
10. نعم الله تعالى على عباده لا يحصيها العدّ ولا يحيط بها الحصر، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم] فهناك نعمة الخلق الإنساني القويم والتكوين الجسمي السليم الذي يوجد أحيانا الغرور عند غير المؤمنين، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار].. ومن النعم أن يمكّنه من زخارف الحياة من لباس حسن يلبسه، وزخرفة باهرة يزخرف بها مسكنه، وطيب رائحة يطيب بها نفسه، ويقبل بها على جمعه، فهذه نعم ظاهرة وباطنة، فإن آمن بالنعم وشكر له، فإنها نعمة، وإن غره الغرور، وفاخر بها، واستطال على الناس فإنها عند الله النقمة.
11. من النعم أن يحس بإشراق النفس وإخلاص القلب، والاتجاه إلى الله تعالى، وأن يكون مستقيم الفكر، نير المدارك، ولا يضل، بل يهتدى بما أنعم.. ومن النعم نعمة الإخلاص في القول والصدق فيه، وأن يعمل العمل، لا يعمله إلا لله، وأن يراقب الله في سره وجهره وعمله، حتى يصدق عليه قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله). إذا كان المؤمن كذلك يكون ممن هداه الله إلى صراط الذين أنعم عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء].
12. معنى ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، هم الذين ينزل عليهم غضب الله، ووراء غضبه عذابه إلا أن يتغمدهم الله برحمته فيتوبوا، والتوبة تجبّ ما قبلها، وبذلك لا يكونون من المغضوب عليهم، بل ينخلعون منهم، وإنما الأعمال بخواتيمها، وإنما المغضوب عليهم هم من انتهوا إلى ألا يتوبوا، وألا ينتهوا عما يوجب غضب الله تعالى.
13. الذين ينطبق عليهم غضب الله تعالى لدوام شرهم، وبقاء فسادهم حتى يلقوا ربهم، وهم على هذه الحال ـ الكافرون سواء أكانوا وثنيين، وكثير ما هم في الماضي والحاضر، أم كانوا من الذين أوتوا الكتاب كاليهود ـ لعنهم الله ـ ونصارى بولس الذين يعبدون المسيح، وهو بريء منهم، هؤلاء هم المغضوب عليهم ولا ريب في نزول غضب الله تعالى بهم إلى يوم القيامة ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ .
14. الضالون: قال بعض العلماء إنهم النصارى لقوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة] وإنه لينطبق عليهم بلا ريب وصف الضالين؛ لأنهم عند تخلّيهم عن مبادئ المسيح أضلهم بولس وأشباهه، فضلوا، ثم أضلوا غيرهم من بعدهم، وكفروا بما جاء به المسيح، وضلوا ضلالا بعيدا، وكفروا، ولا يزالون يتيهون في أوهامهم، كما توهموا وأوهموا فيما سموه رؤية العذراء، وكذبوا وافتروا، وحاولوا الإضلال كثيرا.
15. مع انطباق الضلال والتضليل عليهم أولى بهم ثم أولى أن يكونوا ممن غضب الله تعالى عليهم، فغضب الله تعالى يحيط بهم من كل جانب؛ ولذلك نرى أن يدخلوا فيمن غضب الله تعالى عليه، ويصح أن نقول: إن فيهم الأمرين، فهم مغضوب عليهم وهم يضلّون، ويضلّون كثيرا إلى اليوم كما رأيت في أمر العذراء.
16. الضالون كما تدل الآية الكريمة هم الذين في حيرة من أمر اعتقادهم، لا يهتدون إلى عقيدة يطمئنون إليها ويستقرون عليها، وليسوا مع هؤلاء ولا هؤلاء.. ولقد قيل إنهم المنافقون الذين ينطبق عليهم ذلك الوصف، وتلك الحال المضطربة، ولقد يكون ذلك من ناحية حالهم قريبا في ذاته؛ لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفهم بالاضطراب والحيرة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين غنمين، إلى أيّهما تذهب)، فالمنافق ضال حائر، لا يستقر على قرار، ولا يطمئن إلى إيمان أو كفر، والمنافقون كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النساء]، وهم أيضا موضع غضب الله تعالى؛ لأنهم كفار كإخوانهم المغضوب عليهم، ولكنهم اختصوا بأنهم ليس لهم اعتقاد، فالمشركون لهم اعتقاد باطل، وكذلك النصارى واليهود يعتقدون اعتقادا باطلا ليس لهم سلطان ولا حجة في اعتقادهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/66.
(2) زهرة التفاسير: 1/68.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الهداية يظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط، والصراط هو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي: إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
2. قرر الله تعالى في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، وقال: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكو سبيل، وأنهم سائرون إلى الله سبحانه.
3. ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، فبين تعالى: أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: ﴿أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾، فبين: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة. فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل.
4. هناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾، ولولا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾، والهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام:
أ. من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته.
ب. ومن طريقه إلى السفل وهم المغضوب عليهم.
ج. ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون
وربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ .
5. الصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام، وبيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾، والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقا، وهذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.
6. إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البتة كما لا يقع فيه ضلال البتة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور ما لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حق التوحيد علما وعملا إذ لا ثالث لهما وما ذا بعد الحق إلا الضلال؟.
7. ينطبق على ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، وفيه تثبيت للأمن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بناء على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
8. التدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وأن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا.
9. مثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبا والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإيمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
10. بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه، فقال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾، فبين: أن القلوب والأفهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، وسيجيء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
11. إذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد.
12. لذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾، أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾، أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف، وقال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾، أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾
13. خلاصة هذه المعاني تتجلى من خلال مجموعة أمور:
أ. أحدها: أن الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلاء ورخصا، في جهة قربها من منبع الحقيقة والصراط المستقيم كالإسلام والإيمان والعبادة والإخلاص والإخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وهذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ .
ب. ثانيها: أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى أمرهم وولّاهم أمر هداية عباده حيث قال: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، والآية نازلة في أمير المؤمنين علي عليه السلام بالأخبار المتواترة، وهو عليه السلام أول فاتح لهذا الباب من الأمة.
ج. ثالثها: أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، وتوضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر.
د. رابعها: الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صح أن يهدي الله الإنسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة من هذا القبيل.
هـ. خامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، وأما ما هذا العلم؟ وكيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾، ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وكذا قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم، وأما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والأمداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجيء تمام البيان في البحث عن الآية.
14. ما قيل: إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وإذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلا بنحو قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ حيث إن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفي غيرها وهو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .. فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإراءة الطريق بإلى، وفيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، وبعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار وبالجملة فالهداية هي الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق وهي نحو إيصال إلى المطلوب، وإنما تكون من الله سبحانه، وسنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بينه الله سبحانه بقوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمئنان، فهو إيجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به، وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
15. سؤال وإشكال: شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ والجواب: ذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع كون شريعته أكمل وأوسع ليس بأكمل من نوح وإبراهيم عليهم السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلا أن حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وإن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر حياة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية التي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها، ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: أن دين الله واحد وهو الإسلام، والمعارف الأصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وإنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع وأشمل لجميع شئون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثم إن الدين وإن كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، وتقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه(2).
في الفقيه، وتفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام قال الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام.. وفي المعاني، عن الصادق عليه السلام قال هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ـ مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة ـ فتردى في نار جهنم.. وفي المعاني، أيضا عن السجاد عليه السلام قال ليس بين الله وبين حجته حجاب، ولا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره.. وعن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط ومجاهد، عن ابن عباس): في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، قال قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليه السلام.. وفي هذه المعاني روايات أخر، وهذه الأخبار من قبيل الجري، وعد المصداق للآية.. والجري (وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليه السلام، ففي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ـ وما فيها حرف إلا وله حد، ولكل حد مطلع؛ ما يعني بقوله: ظهر وبطن؟ قال ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع الحديث، وفي هذا المعنى روايات أخر، وهذه سليقة أئمة أهل البيت فإنهم عليه السلام يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وإن كان خارجا عن مورد النزول.
16. الاعتبار يساعده، فإن القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان، دون زمان وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعة من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع. وما ورد من شأن النزول (وهو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لأن البيان عام والتعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن أيضا يدل عليه، قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ .
17. الروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم عليه السلام أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، وربما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/29.
(2) الميزان في تفسير القرآن: 1/37.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا الدعاء العظيم الذي قصد أعظم المطلوب وأجمعه للخير على شكل التضرع وإعلان الحاجة والافتقار إلى ربنا والاعتراف بضعفنا بحيث أنا مع وضوح الصراط نحتاج إلى أن يهدينا إليه، وذلك لما يصرفنا من شواغل الدنيا ومن الغفلة ومن ضعف العزم، فبالهدى تنشرح صدورنا، فتقوى إرادتنا وننتبه من غفلتنا ونزهد في الدنيا، فلا نشتغل بشواغلها حتى نمضي في الصراط المستقيم.
2. الهدى أصله الإرشاد إلى الطريق، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: 22] فهو شرح يرشدنا إلى الصراط كما قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28].
3. ﴿الصِّرَاطِ﴾، هو الطريق المعبّد الذي لا يلتبس على من مشى فيه، وهو صراط الله الذي دعا إليه عباده قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 52 ـ 53]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام: 161].
4. إنا لم نطلب الهداية إلى الطريق من أجل غموضه وكونه مظنة الالتباس وغلط من مشى فيه؛ لأنه طريق واضح يعبر عنه بالصراط المستقيم، وإنما طلبناه لضعفنا وما يعرض لبصائرنا من الضعف بسبب الذنوب والغفلة والأغراض الدنيوية.
5. ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾، الذي لا عوج فيه فضلاً عن أن يكون فيه ثنايا أي لفّات، والطريق المستقيم أقرب إلى المطلوب، ووصف هذا الصراط بالاستقامة؛ لأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: 1]، وقال تعالى: ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ﴾ [الكهف: 2] فصراط الله قيّم لا عوج له معتدل لا يجور بأهله عن قصده، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده وبيّنه لهم بالقرآن والسنة وغيرهما من وسائل المعرفة.
6. الصراط، والطريق، والسبيل، كل منها يدل على أمر مقصود بالمضي فيه، فصراط إلى ماذا؟ وطريق إلى ماذا؟ وسبيل إلى ماذا؟ والجواب قد بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175] وقوله تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ [الرعد: 27] والهدى إليه أولاً في الدنيا بالإرشاد إلى معرفته الكاملة، وذكره كثيراً بالقلب واللسان، حتى نترك ما يشغلنا عن ذكره وعبادته، وثانياً في الآخرة بإيصالنا بما تقدم من هدايتنا في الدنيا إلى رحمته ورضوانه ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].
7. ثم بيَّن تعالى هذا الصراط المؤدي إليه فقال تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وهم رسل الله الذين أنعم عليهم بالهدى ومن تبعهم إتباعاً كاملاً ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18] قال تعالى في إبراهيم عليه السلام: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: 80] أي لإسلام نفسي له وإسلام وجهي له، ثم قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ إلى أن قال تعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 84 ـ 90]. وقال تعالى بعد ذكر عدد من الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا﴾ [مريم: 58] وقال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ [المائدة: 23] وقال تعالى: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، هذا لأن نعمة الهدى أعظم النعم باعتبار أنه يؤدي إلى السعادة الأبدية وينجي من الشقاوة الأبدية، فكأنه لا نعمة إلا نعمة الذين هداهم الله إليه؛ لأن نعمة الهدى هي النعمة الكبرى التي تصغر في جنبها سائر النعم الدنيوية.
8. حيث أن السورة أول سورة نزلت من القرآن أو من أول ما نزل لا نتحقق أنه يدخل من هذه الأمة في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلي عليه السلام، ولا يدخل فيه أحد ممن يعبد الأصنام يومئذ؛ لأن أنعمت فعل ماض، فلا بد أن يكون المعني بها من قد هداهم قبل نزولها.
9. إن قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ إلى آخرها، يفيد تعيين أهل الصراط فهم رسل الله ومن تبعهم الذين أخلصوا لله العبادة وثبتوا على تقوى الله وطاعته كما أمرهم لم يتعرضوا لغضب الله ولا ضلوا عن سبيل الله وفي تعيينهم فائدة: وهي أنا لم نطلب الهداية للصراط بسبب الحيرة والتباس الطريق كما هو شأن من يسأل عن الطريق ويطلب الهداية إليها، بل نحن نعلم أن الصراط المستقيم صراط الله الذي جاءت به الرسل منهم خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولكن نسأل الهداية إليه لإصلاح عزمنا وكشف الغفلة وغيرها من الصوارف كما قدمنا.
10. فائدة أخرى، وهي الإيمان بالرسل وما جاؤوا به من عند الله حيث نجعل هداهم نعمة من الله، ولما كان قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ قد يُطمع أهل الكتابين الذين هما نعمة عظمى، مع أنهم خالفوا طريقهما، بيّن: أن الذين أنعم الله عليهم لا هم مغضوب عليهم، ولا هم ضالون، فدل ذلك على أنهم غيرهم.
11. ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ أي كاليهود والنصارى ومن كان مثلهم، الذين نزل فيهم قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة: 60] ونزل فيهم قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77] فالذين أنعم الله عليهم غير مغضوب عليهم ولا ضالين، بل مرضي عنهم مهتدون، وفي هذا دلالة على أن النعمة العظمى هي الهدى، ورضوان الله تعالى وهي فائدة لقوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ مع فائدة تعيينهم وإخراج اليهود والنصارى، وقال الإمام القاسم عليه السلام: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ في هذا الموضع هم اليهود، و(الضالون) في هذا الموضع: هم النصارى، وهو عليه السلام لا يعني: أن اليهود غير ضالين، كيف والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 167] ولا يعني عليه السلام: أن النصارى غير مغضوب عليهم، كيف وقد شملتهم الآية الأولى ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ [المائدة: 60] وإنما أراد عليه السلام في هذا الموضع خاصة الذي هو آخر الفاتحة كما قيد بقوله عليه السلام في هذا الموضع.
12. الغضب في المخلوق معروف وهو حالة في النفس تدعو إلى البطش ويريد صاحبه أن يبطش بمن سبّب له، وفي الحديث (أنه جمرة تتوقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه) والله سبحانه منزّه عن هذا؛ لأنه لا يشبه المخلوقين. وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له عليه السلام في (التوحيد) وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها كما قال الرضي ورقمها [228] في صفة الله سبحانه: يريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة).
13. معنى الضلال: هو غواية السائر عن الطريق وخفاؤها عليه، هذا إذا قيل ضل عن الطريق أو نحو هذا واستعمل في العدول عن طريق الحق، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة: 1] ويستعمل الضلال في غير هذا ومرجعه إلى الضياع والغواية، والضالون هنا: المراد بهم الغاوون المخالفون للحق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/40.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ إنها المفردات الحيّة التي تشير إلى الخط الإلهي في التطلّع الإنساني.. فهذا الإنسان الحائر في غياهب الظلمات، التائه في صحارى التيه، الغارق في بحار الأوهام، السائر في طريق المجهول، هذا الإنسان المتطلع إلى مشارق النور في الغيب ليكتشفها في عقله وقلبه وحياته، في انتظار، لا يأكل القلق روحه، بل يملأ الأمل عينيه؛ يناجي ربّه في طفولة الإحساس الروحي بالفقر إليه، والذوبان في مواقع الشوق الباحث عنه. إنه يبحث عن الهدى في معرفة ربّه، ومعرفة مواقع عظمته، ومفردات نعمته، وما يريد له، وما يريده منه، وما يخطط له من خطط، وما يثيره في داخله من أشواق وتطلعات.. إنه يناديه ويناجيه ويدعوه: ها هو عبدك الحائر، فأنقذه من حيرته، الضالّ، فاهده من ضلاله، ووجّهه نحو الطريق الذي تستقيم فيه النيّة، ويتوازن فيه العقل، ويطمئن له القلب، وترتاح فيه الروح، وتثبت فيه الأقدام.
1. الهداية: الدلالة بلطف ـ كما في مفردات الراغب للأصفهاني ـ أمّا هداية الله تعالى للإنسان، فيقول: إنها على أربعة أوجه: الأول: الهداية التي عمّ بجنسها كل مكلّف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شيء بقدر ما فيه حسب احتماله كما قال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]. الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إيّاهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [السجدة: 24].. الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنيّ بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17] وقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11] وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: 9] وقوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69] ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76] ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]. الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيّ بقوله: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 5]، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ إلى قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43].
2. الصراط: هو الطريق، وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، وقد يكون غير حسي، فيقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة الله طريق الجنة، وإطلاقه على الطريق غير الحسيّ إما لعموم المعنى اللغوي، وإما من باب التشبيه والاستعارة.. وفي هذه الآية دعاء إلى الله، يرفعه الإنسان المؤمن إلى ربه ليدلّه إلى الطريق المستقيم الذي يؤدّي به إلى رضوانه في مواقع النعيم المنفتح على جنته.
3. لعلّ من الواضح أن الهداية بالمعنى التكويني من لوازم وجوده، فيما منحه الله من عقل وحسّ وقدرة، كما أن الهداية، في مضمونها الرسالي، فيما أرسل الله به الرسل من رسالاته فيما هي المفاهيم الأساسية للعقيدة والحياة، هي الحقيقة الرسالية المتحركة في الواقع وفي الوعي؛ ويبقى للهداية معناها الروحي المتمثل بالتوفيق واللطف الإلهي الذي يثير في نفس الإنسان الأفكار والمشاعر والأجواء، التي تفتح عقله وقلبه على الحق والخير في الالتزام بالخط الإلهي، في النهج والأمر والنهي في دائرة الإيمان، مضمونا وحركة وانفتاحا على الله في أوسع الآفاق، وبذلك، تكون الهداية إلى جنّته نتيجة طبيعية لذلك، لأن ذلك ما يجعل خط السير في الآخرة نحو النجاة مفتوحا بكل رحابته وامتداده، لأن خطوط الآخرة في حركة الإنسان في سلامة المصير، تبدأ من خلال المضمون الإيماني العملي في خطوط السير في الدنيا نحو الله.
4. الإنسان قد ينحرف في تفكيره عن وعي الإيمان في حقيقته الرسالية، فيضلّ عن طريق الله في تصوراته والتزاماته الفكرية والروحية، كما أنه قد يخضع لشهواته وأهوائه في الابتعاد عن الخط المستقيم، وفي عدم الانضباط في الالتزام بأوامر الله ونواهيه، وبذلك يلتفت الإنسان إلى ربه ليستعين به على تثبيت إرادته، واستقامة فكره، حتى لا يخطئ في تصوراته، ولا ينحرف في خطواته، ولا يهتزّ في مواقفه، من خلال ألطاف الله بعباده، فيما يثيره في داخل شخصياتهم من المعاني الخفيّة التي تدفعهم إلى خط السلام الروحي المنفتح عليه. فهي مرشدة ـ في الخطوط الحركية ـ الإنسان إلى الطريق المستقيم حتى لا يشتبه عليه الحق والباطل، ولا تختلط عليه صور الأشياء فيما يبتعد عنه وضوح الرؤية، ولعلّ هذا الوجه أكثر رجحانا من التفسير القائل بأن المراد استمرار الهداية التي بدأها الله فيما هو الخط التكويني في عناصر الهداية، أو فيما هو الخط الرسالي في مضمون الهداية، لأن ذلك خلاف الظاهر، فإن الظاهر منه هو إرادة المبدأ، الذي يراد من الله إفاضته على عباده لا استمرار ما هو موجود.
5. هكذا نجد في هذا الطلب الإنساني الابتهالي حركة روحية عباديّة تعبّر عن الرغبة العميقة في الوصول إلى الله من خلال طريقة المستقيم، انطلاقا من الحاجة إلى الرعاية الخاصة في الدلالة إلى مواقع هذا الطريق، بالوسائل التي يرسل الله فيها ألطافه إلى عباده، من خلال ما هي إيحاءات الفكر، وهمسات المشاعر، وإشارات الروح.
6. لعلّنا لا نحتاج إلى المزيد من التأكيد على أن هذه الهداية التي يفيضها الله على عباده ليست حالة تضغط على العقل لتشلّ اختياره، وعلى الإرادة لتجمّد حركتها، بل هي لطف إلهيّ يهيّئ الجوّ للاختيار الصحيح من خلال الانفتاح على الله في مواقع رضاه من موقع قويّ منفتح.
7. سؤال وإشكال: كيف نتصور الصراط المستقيم، الذي هو خط معنويّ يتحرك فيه الإنسان في نشاطه الإنساني على مستوى المواقف وحركة المواقع والعلاقات؟ والجواب: إن النظرة إلى الآيات القرآنية توحي بأن المراد هو الخط الذي تتحرك فيه أوامر الله ونواهيه، وتتمثل فيه مناهجه، وتنطلق منه مواقع رضاه، وفقا لما جاء به رسله، ونزلت به رسالاته، وبذلك يمكن تلخيصه بطريق الأنبياء، وهو الإسلام الذي يتمثل في إسلام القلب والوجه واللسان والكيان كله لله.. ضمن هذا الإطار، تكون الاستقامة على الصراط منطلقة من معنى الطاعة التي تحكم البداية والنهاية في خط الله، بعيدا عما يتحدث فيه المتحدثون الغارقون في تحليل مضمون الإسلام، لجهة ما يتمثل فيه من التوازن التشريعي في نظرته إلى الإنسان والحياة، فيما هي الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والفرد والمجتمع، وما إلى ذلك من الشؤون العامة أو الخاصة، التي تنطلق في خط مصلحة الإنسان في علاقته بالله، وبالكون، وبمن حوله من الناس، بحيث لا يطغى جانب على جانب.
8. إن التأكيد على خط الاستقامة ينطلق من الخضوع للخط الإلهيّ الرسالي، فلا ينحرف الإنسان عنه، ولا يتمرد فيه على أوامر الله ونواهيه.. أمّا الاستقامة في المضمون، فإنها تنطلق من حركة المصلحة التي أراد الله لها أن تشمل كل حياة الإنسان في مفردات التشريع، بحيث يشعر بأن حياته مع الشريعة تنطلق في وضع طبيعيّ، وحركة موزونة، لا تبعد به عن سلامته الروحية والجسدية، في حياته الفردية والاجتماعية. وهذا ما تختزنه كل الرسالات التي أنزلها الله على رسله، ليبلّغوها عباده، ليقوم الناس بالقسط، لأن الله أراد من الإنسان أن يصل إلى مستوى الكمال في خط التوازن في حاجاته ومصالحه.
9. لعل الفكرة تزداد وضوحا إذا قرأنا الآيات التي تحدثت عن الصراط المستقيم:
أ. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] والملحوظ أن الإشارة متعلقة بما ورد في الآيتين السابقتين في قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ في الآيتين (150 و151) من سورة الأنعام.
ب. قوله تعالى في حديثه عن إبليس في خطابه لله: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16 ـ 17]، فإن الشيطان يتحدّث عن الحاجز الذي يضعه أمامهم في خط الصراط المستقيم لينحرف بهم عنه، فلا يشكرون الله فيما يتمثل فيه ترك الشكر من تجسيد الانحراف عن طاعة الله التي هي المضمون الحي للصراط المستقيم.
ج. قوله تعالى: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 126 ـ 127]، فالظاهر من الإشارة أن المقصود بها النهج الإلهي في العقيدة والشريعة والمنهج الذي يقود الناس السائرين عليه إلى دار السلام التي هي الجنة في الآخرة.
د. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101]، فإن الاعتصام بالله هو السير في خط الإيمان به وبرسله وبرسالاته، مما يوحي بأن الخط المستقيم هو حركة الإنسان في هذا الاتجاه.
هـ. قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15 ـ 16]، فالقرآن الذي يمثل النور الذي يشرق في عقل الإنسان وقلبه وحياته، يمثل الكتاب الواضح الهادي للذين يتبعون رضوانه إلى سبل السلام الروحي والعملي، والدافع لهم إلى الجانب المشرق من الحياة فيما يأذن الله به من إخراجهم من ﴿الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، ويهديهم إلى ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الذي يؤدي بهم إليه، فيما هو خط السير المتحرك بين البداية والنهاية.
و. قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾، وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن الصراط المستقيم هو دين الله الذي يجسد التوحيد في إسلام الوجود الإنساني لله وحده، ليكون الإسلام هو الانتماء التوحيد، الذي يتمثل فيه الكمال الإنساني في وجوده الفكري والحركي.
10. هكذا نجد أن الصراط المستقيم، الذي ندعو الله أن يهدينا لنسير نحوه، هو دين الله الذي أنزله على رسوله في كتابه، وفيما أوحى به إليه من شريعته ومن منهجه الحق، الذي أراد الله لنبيه الاستقامة عليه في خط الدعوة إليه من دون تغيير ولا تبديل، كما جعل الجنة للناس الذين يعلنون التوحيد ثم يستقيمون في خطه على أساس توحيد الله في العبادة.
11. جاء عن علي عليه السّلام في تفسيره هذه الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يعني: أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا).. وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدّي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك).
12. هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في النماذج التي تتحرك فيه وتلتزمه، فيما يتمثل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها الله على عباده، وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحق الذي يؤدي بهم إلى رضوان الله، وإلى نعيمه في جنته الخالدة! وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى، عند الحديث عن الذين أنعم الله عليهم في النماذج الحيّة المتحركة في خط توحيد الله وطاعته، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69] وهذا يعني أن الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعم الله عليهم ممن رفع الله درجتهم في خط الإسلام والإيمان بالله والسير في مواقع رضاه.
13. هناك فريق ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الذين اختاروا الكفر على الإيمان، والشرك على التوحيد، والمعصية على الطاعة، والانحراف على الاستقامة، مع وضوح الحجّة على الإيمان في إشراقة العقل، وعلى التوحيد في حركة الفكر، وظهور الخير في حركة الطاعة في خط الاستقامة على درب الله، فلم يبتعدوا عن الصراط المستقيم انطلاقا من شبهة، بل ابتعدوا من موقع العناد والإصرار على التمرّد والتحدّي لله في مواقع ألوهيّته، فاستحقوا غضب الله عليهم لأنهم لا يملكون أساسا عقليّا لموقفهم المعاند المتمرّد، بل هناك الأساس المضادّ للإنسانية العقلانية التي تفرض الخضوع للحقّ الثابت بالحجّة الواضحة، والالتزام بكل النتائج المترتبة عليه، مما يجعل من الغضب المنفتح على العقاب الأخرويّ نتيجة طبيعيّة لذلك، فيما هي العلاقة بين السبب والنتيجة.
14. هناك فريق الضالّين الحائرين بين الكفر والإيمان، لأنهم عاشوا الغفلة عن مسألة الفكر العقدية في مجالات التوحيد، والرسالة، واليوم الآخر، واستسلموا للأفكار الموروثة التي عاشوا قداستها من خلال قداسة العلاقة بالآباء والأجداد، أو من خلال استغراقهم في المألوف من أفكار البيئة التي عاشوا فيها، في عملية انجذاب لكل الأوضاع المتحركة في داخلها أو المحيطة بها، وتأثر بكل المشاعر المتنوعة في مؤثراتها النفسية وبكل الإيحاءات المختلفة في أبعادها الذاتية، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى كل ذلك، كما لو كان هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. ثم تتطور المسألة إلى ما يشبه التعصب الذي يرفض الرأي المضاد كما يرفض التفكير فيه، لأنه لا يريد أن يبتعد عن المألوف من الفكر الذي تربّى عليه، أو لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير في ذلك، بل يواجه المسألة بطريقة اللّامبالاة على أساس الاسترخاء الفكري والعاطفي.
15. هؤلاء الضالّون لا يملكون الحجّة على ضلالتهم، لأن الله خلق لهم عقولا، وأراد لهم أن يحرّكوها في عملية إنتاج الفكر الذي يهدي إلى الحق، وخلق لهم أسماعا وأبصارا وألسنة، يستطيعون من خلالها أن يملكوا الوسائل التي توصلهم إلى معرفة المفردات الكونية والإنسانية، والتي ينطلقون من خلالها إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، كما أرسل إليهم رسلا يبلّغونهم رسالات الله في الدائرة التي يمكن للعقل أن ينحرف فيها عن الصواب، أو التي لا يملك خلالها الوسائل الطبيعية لمعرفته بشكل مباشر، وأودع في كيانهم قلق المعرفة الذي يدفعهم للبحث والتأمل عند إثارة الشك أو الاحتمال في داخلهم، بحيث يشعرون بالتقصير عندما يتجمّدون أمامه، ولا يتحركون للتعرّف على طبيعة المضمون الذي يثيره في آفاق النفس إزاء الواقع.. الثقافة المتحركة.
16. هكذا تمثّل هذه الفقرة من السورة جولة أفق فكريّة وشعوريّة في مواقع الناس الذين يتحركون بطرق مختلفة أمام مسألة الالتزام بالفكر الحق، سلبا أو إيجابا، ليحدّد الإنسان موقعه الفكري والعملي في عملية إيحاء ذاتي يتلمّس فيها قضايا الحق ليختزنها في داخل كيانه، فيرفعها إلى ربه مبتهلا إليه بألا يجعله من السائرين في الطريق التي تؤدي إلى غضبه، ولا يتركه مع السائرين في متاهات الضلال في الطريق التي لا يملك فيها الملامح التي تؤدي به إلى النتائج الحاسمة في المصير، بل يجعله من الذين عاشوا نعمة السير في الطريق المستقيم في ألطاف الهداية الإلهية، وهذا ما يدفعه إلى البحث الدائم عن الواقع الذي يحيط به، ليميّز بين الطريق المستقيم والطريق المنحرف، وليتعرف كيف يسير الناس من حوله، مما يجعل عنده ثقافة متحركة على صعيد أفكار الناس وأوضاعهم، لأن الذي لا يعرف الخط المنحرف، أو الخط الضائع، لا يستطيع أن يعرف الخط المستقيم.
17. ورد في بعض الروايات، أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى، ولكن ذلك لا يحصر مداليل السورة في هذين النموذجين من الناس، لأن ذلك قد يكون على نحو المثال، كما هي طريقة القرآن في مواقع النزول للآيات، فيما تتحدث عنه روايات أسباب النزول، وقد ورد أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، فلا يتحدد في المنطقة التي ينزل فيها، ولا في الشخص الذي ترد فيه.
18. ربما كان ذكر اليهود، كمثال للمغضوب عليهم، ناشئا من الصورة المتكررة التي أبرزها القرآن لهؤلاء الناس في نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وكتمانهم لما أنزله الله من الحق على رسوله في كتابه، ونحو ذلك من القضايا التي تجعلهم يستحقون غضب الله عليهم؛ بينما كان النصارى متميّزين بالصفات الطيّبة، باعتبار أنّهم أقرب الناس مودّة للذين آمنوا ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82]، وأنهم ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة: 83] حزنا، ولكن مشكلتهم أنهم انحرفوا عن الرسول فلم يؤمنوا به، وأنّهم قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك من التصورات الخاطئة في العقيدة، ولم يتحدث عنهم بطريقة قاسية كالطريقة التي تحدث بها عن اليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا، بالإضافة إلى المشركين.
19. من خلال ذلك، نستطيع أن ننفتح على التيارات الفكرية المضادة للإسلام التي يمكن إدراجها تحت عناوين دوائر المغضوب عليهم والضالين، تبعا لنوعية الحالة النفسية، والسلوك العدواني، بالإضافة إلى الخطأ والانحراف في العقيدة.
20. هذا ما ينبغي للدعاة إلى الله أن يواجهوه في خط التربية في توعية الناس حول النماذج المضادّة للتفكير الإسلامي، فلا يكون الموقف واحدا، بل لا بد من أن نفرّق بين الحالات العدوانية التي تتحول ـ في بعض الأحوال ـ إلى حالة عنصرية، وبين الحالات العادية في الخلاف الفكري التي يمكن أن تتحول إلى حالة من اللقاء القائم على مواطن الاتفاق، ليكون ذلك مدخلا إلى الحوار في مواطن الخلاف، الذي يفضي بدوره إلى نوع من الوفاق في غياب الحالة النفسية المتشنّجة المعقدة.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/80.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن يقرّ الإنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية لله والاستعانة به تعالى، يتقدّم هذا العبد بأول طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان والعمل الصالح، ليهبه الله نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الأخرى.
2. الإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعا وعارف بربّه، لكنه معرّض دوما بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.. من هنا كان عليه لزاما أن يكرر عشر مرات في اليوم على الأقل طلبه من الله أن يقيه العثرات والانحرافات.
3. أضف إلى ما تقدم أن الصراط المستقيم هو دين الله، وله مراتب ودرجات لا يستوي في طيّها جميع النّاس، ومهما سما الإنسان في مراتبه، فثمّة مراتب أخرى أبعد وأرقى، والإنسان المؤمن توّاق دوما إلى السير الحثيث على هذا السلّم الارتقائي، وعليه أن يستمد العون من الله في ذلك.
4. سؤال وإشكال: ما سبب طلبنا من الله الهداية إلى الصراط المستقيم، ترى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل!؟ والجواب:
أ. أوّلا: الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير الهداية ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى الله، والاستمداد منه في تثبيت قدمه على الصراط المستقيم. ينبغي أن نتذكر دائما أن نعمة الوجود وجميع المواهب الإلهية، تصلنا من المبدأ العظيم تعالى لحظة بلحظة، وذكرنا من قبل أننا وجميع الموجودات (بلحاظ معين) مثل مصابيح كهربائية، النور المستمر في هذه المصابيح يعود إلى وصول الطاقة إليها من المولد الكهربائي باستمرار.. فهذا المولّد ينتج كل لحظة طاقة جديدة ويرسلها عن طريق الأسلاك إلى المصابيح لتتحول إلى نور.. وجودنا يشبه نور هذه المصابيح.. هذا الوجود، وإن بدا ممتدا مستمرا، هو في الحقيقة وجود متجدّد يصلنا باستمرار من مصدر الوجود الخالق الفيّاض.. هذا التجدّد المستمر في الوجود، يتطلب باستمرار هداية جديدة، فلو حدث خلل في الأسلاك المعنوية التي تربطنا بالله، كالظلم والإثم و.. فإن ارتباطنا بمنبع الهداية سوف ينقطع، وتزيغ أقدامنا فورا عن الصراط المستقيم. نحن نتضرّع إلى الله في صلواتنا أن لا يعتري ارتباطنا به مثل هذا الخلل، وأن نبقى ثابتين على الصراط المستقيم.
ب. ثانيا: الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان تدريجيا مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا، وطريق التكامل ـ كما هو معلوم ـ غير محدود، وهو مستمر الى اللانهاية.
5. ممّا تقدّم نفهم سبب تضرّع حتى الأنبياء والأئمة عليهم السّلام لله تعالى أن يهديهم ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فالكمال المطلق لله تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على طريق التكامل، فما الغرابة في أن يطلب المعصومون من ربّهم درجات أعلى!؟ نحن نصلّي على محمّد وآل محمّد، والصلاة تعني طلب رحمة إلهية جديدة لمحمّد وآل محمّد، ومقام أعلى لهم. والرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ . والقرآن الكريم يقول: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ . ويقول: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾، وعن أمير المؤمنين علي عليه السّلام، قال في تفسير ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ : أي: أدم لنا توفيقك الّذي أطعناك به فيما مضى من أيّامنا، حتّى نطيعك في مستقبل أعمارنا، وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنتّك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.
6. هذا الصّراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر الله، ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة، فهو الدين القيم ونهج إبراهيم عليه السّلام ونفي كل أشكال الشّرك كما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من جنبة أيديولوجية.. وهو أيضا رفض عبادة الشيطان والاتجاه إلى عبادة الله وحده، كما في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾، وفيها إشارة إلى الجنبة العملية للدين.. أمّا الطريق إلى الصراط المستقيم فتمّ من خلال الاعتصام بالله: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
7. يلزمنا أن نذكر أنّ الطريق المستقيم هو طريق واحد لا أكثر، لأنه لا يوجد بين نقطتين أكثر من خطّ مستقيم واحد، يشكل أقصر طريق بينهما.. من هنا كان الصراط المستقيم في المفهوم القرآني هو الدين الإلهي في الجوانب العقائدية والعملية، ذلك لأن هذا الدين أقرب طريق للارتباط بالله تعالى، ومن هنا أيضا فإن الدين الحقيقي واحد لا أكثر ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ .. وسنرى فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أن للإسلام معنى واسعا يشمل كل دين توحيدي في عصره، أي قبل أن ينسخ بدين جديد.
8. من هذا يتضح أن التفاسير المختلفة للصراط المستقيم، تعود كلها إلى معنى واحد.. فقد قالوا: إنه الإسلام.. وقالوا: إنه القرآن.. وقالوا: إنه الأنبياء والأئمة.. وقالوا: إنه دين الله، الذي لا يقبل سواه.. وكل هذا المعاني تعود إلى نفس الدين الإلهي في جوانبه الاعتقادية والعملية.
9. الروايات الموجودة في المصادر الإسلامية في هذا الحقل، تشير إلى جوانب متعددة من هذه الحقيقة الواحدة، وتعود جميعا إلى أصل واحد منها: عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الأنبياء، وهم الّذين أنعم الله عليهم).. وعن جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام في تفسير الآية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، قال: الطّريق هو معرفة الإمام).. وعنه أيضا: والله نحن الصّراط المستقيم).. وعنه أيضا: الصّراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السّلام، ومن الواضح أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأئمّة أهل البيت عليهم السّلام، دعوا جميعا إلى دين التوحيد الإلهي، والالتزام به عقائديا وعمليا.. واللافت للنظر، أنّ (الراغب) يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمّن معنى الاستقامة، ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة.
10. ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم، مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة.. لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ .
11. لأننا لسنا على معرفة تامّة بمعالم طريق الهداية، فإن الله تعالى يأمرنا في هذه الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، ويحذّرنا كذلك بأن أمامنا طريقين منحرفين، وهما طريق ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾، وطريق ﴿الضَّالِّينَ﴾، وبذلك يتبين للإنسان طريق الهداية بوضوح.
12. الذين أنعم الله عليهم، تبيّنهم الآية الكريمة من سورة النساء إذ يقول: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ . والآية ـ كما هو واضح ـ تقسم الذين أنعم الله عليهم على أربع مجاميع: الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
13. لعل ذكر هذه المجاميع الأربع، إشارة إلى المراحل الأربع لبناء المجتمع الإنساني السالم المتطوّر المؤمن.. المرحلة الأولى: مرحلة نهوض الأنبياء بدعوتهم الإلهية.. المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصديقين، الذين تنسجم أقوالهم مع أفعالهم، لنشر الدعوة.. المرحلة الثالثة: مرحلة الكفاح بوجه العناصر المضادة الخبيثة في المجتمع، وفي هذه المرحلة يقدم الشهداء دمهم لإرواء شجرة التوحيد.. المرحلة الرابعة: هي مرحلة ظهور الصالحين في مجتمع طاهر ينعم بالقيم والمثل الانسانية باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة.
14. نحن ـ إذن ـ في سورة الحمد نطلب من الله ـ صباحا ومساء ـ أن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربع: خط الأنبياء، وخط الصديقين، وخط الشهداء، وخط الصالحين، ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كل مرحلة زمنيّة بمسؤوليتنا ونؤدّي رسالتنا.
15. يتضح من الآية الكريمة أن ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ و ﴿الضَّالِّينَ﴾ مجموعتان لا مجموعة واحدة، وفي الفرق بينهما ثلاثة أقوال:
أ. يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ أسوأ وأحطّ من ﴿الضَّالِّينَ﴾، أي إنّ الضّالين هم التائهون العاديّون، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن الله وغضبه، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾ .. ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ إذن يسلكون ـ إضافة إلى كفرهم ـ طريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق، ولا يألون جهدا في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإلهية.. يقول سبحانه: ﴿ وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ ﴾
ب. ذهب جمع من المفسّرين إلى أن المقصود من ﴿الضَّالِّينَ﴾ المنحرفون من النصارى، و ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ المنحرفون من اليهود. هذا الفهم ينطلق من مواقف هذين الفريقين تجاه الدعوة الإسلامية. فالقرآن يصرّح مرارا أنّ المنحرفين من اليهود كانوا يكنون عداء شديدا وحقدا دفينا للإسلام. مع أن علماء اليهود كانوا من مبشّري ظهور الإسلام، لكنهم تحوّلوا إلى أعداء ألدّاء للإسلام لدى انتشار الدعوة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها، منها تعرّض مصالحهم المادية للخطر، تماما مثل موقف الصهاينة اليوم من الإسلام والمسلمين.. وتعبير ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ ينطبق تماما على هؤلاء اليهود، لكن هذا لا يعني حصر مفهوم المغضوب عليهم بهذه المجموعة من اليهود، بل هو من قبيل تطبيق الكلي على الفرد.. أما منحرفو النصارى فلم يكن موقفهم تجاه الإسلام يبلغ هذا التعنت، بل كانوا ضالين في معرفة الحق، والتعبير عنهم بالضالين هو أيضا من قبيل تطبيق الكلي على الفرد، والأحاديث الشريفة أيضا فسّرت ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ باليهود، و ﴿الضَّالِّينَ﴾ بمنحرفي النصارى، والسبب في ذلك يعود إلى ما ذكرناه.
ج. من المحتمل أن ﴿الضَّالِّينَ﴾ إشارة إلى التائهين الذين لا يصرّون على تضليل الآخرين، بينما ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ هم الضالّون والمضلّون الذين يسعون إلى جرّ الآخرين نحو هاوية الانحراف، والشاهد على ذلك حديث القرآن عن المغضوب عليهم بوصفهم: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إذ يقول: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ .
ويبدو أن التّفسير الأول أجمع من التّفسيرين التاليين، بل إن التّفسيرين التاليين يتحركان على مستوى التطبيق للتفسير الأول، ولا دليل لتحديد نطاق المفهوم الواسع للآية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/54.
سورة البقرة
ننبّه في مقدمة هذه السورة، كما في كل سورة إلى أنّنا قسّمنا السورة إلى مقاطع بحسب معناها، من غير مراعاة لطول المقطع أو قصره، وأنا لم نذكر ما يرتبط بتعريف السورة وفضلها ومواضيعها ونحو ذلك، لأنّا تحدثنا عنه في الكتاب الثاني من هذه السلسلة، وهو (المفسّرون والوحدة الموضوعية للقرآن)، ومثل ذلك حذفنا الإشارات واللطائف والمباحث التي لا علاقة لها مباشرة بالتفسير التحليلي، لأنّا أفردناها بالحديث في سائر كتب السلسلة.
وننبه إلى أننا نذكر ما ذكره المفسّرون بحسب التسلسل التاريخي ابتداء من الصحابة، فما بعدهم، ولم نذكر الأحاديث المرفوعة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضمن الأحاديث التفسيرية، لصلتها في العادة بمواضيع القرآن الكريم، وقد ذكرناها في سلسلة (سنة بلا مذاهب)، بالإضافة إلى أن المفسّرين في العادة يذكرونها، ويذكرون مواقفهم منها(1)..
__________
(1) كرّرنا هذه التنبيهات في كل سورة لأن هناك من لا يطلع على التنبيه الوارد في أول سورة.
1. ألم.. والحروف المقطعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈1⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾، أو ما يطلق عليه اصطلاحا الحروف المقطعة:
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ هو اسم الله الأعظم(1).
2. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ حروف اشتقت من حروف هجاء أسماء الله(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٠٦.
(2) ابن جرير: ١/٢٠٨.
الإمام علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنه قال: لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٣٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنه قال: آخر حرف عارض به جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(1).
1. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ أنا الله أعلم(2).
2. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿حم﴾، و ﴿ن﴾ اسم مقطع(3).
3. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿المص﴾، و ﴿الر﴾، و ﴿المر﴾، و ﴿كهيعص﴾، و ﴿طه﴾، و ﴿طسم﴾، و ﴿طس﴾، و ﴿يس﴾، و ﴿ص﴾، و ﴿حم﴾، و ﴿ق﴾، و ﴿ن﴾ هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله(3).
4. روي أنه قال: فواتح السور أسماء من أسماء الله(4).
5. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿حم﴾، و ﴿طس﴾ هي اسم الله الأعظم(5).
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي نصر السِّجْزِيِّ في الإبانة: ١/١٢٧.
(2) ابن جرير: ١/٢٠٨.
(3) ابن جرير: ١/٢٠٧.
(4) ابن مردويه: كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي: ١/٣٤ ـ.
(5) ابن جرير: ١/٢٠٦.
السلمي:
روي عن أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) أنه (كان يعدّ ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿حم﴾ آية(1).
__________
(1) عبد بن حميد: ١/١١٨.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ)، قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون ـ والله ـ لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾؟ قال: بلى)، قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم)، قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك، فقال حيي بن أخطب ـ وأقبل على من كان معه ـ: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة!؟ ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم)، قال: وما ذاك؟ قال: ﴿المص﴾ [الأعراف: 1]، قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم)، قال: وما ذاك؟ قال: ﴿الر﴾ [الحجر: 1]، قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، ﴿المر﴾ [الرعد: 1]، قال: فهذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك، يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار: ما يدريكم، لعله قد جمع هذا لمحمد كله؛ إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧](1).
__________
(1) البخاري في تاريخه: ٢/٢٠٨.
أبو العالية:
روي عن أبو العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه قال: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفا، دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم، وقال عيسى ابن مريم: وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون!؟ قال: فالألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والميم: مفتاح اسمه مجيد، والألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده، الألف: سنة، واللام: ثلاثون سنة، والميم: أربعون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ أنا الله أعلم(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٠٨.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنه سئل عن فواتح السور؛ نحو: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿الر﴾، قال: هي أسماء من أسماء الله، مقطعة الهجاء، فإذا وصلتها كانت اسما من أسماء الله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ اسم من أسماء القرآن(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٠٤.
سالم:
روي عن سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿حم﴾، و ﴿ن﴾، ونحوها أسماء الله مقطعة(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٠٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿طسم﴾ فواتح يفتتح الله بها السور(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٨/٢٧٤٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) (إن حييا وأبا ياسر ـ ابني أخطب ـ ونفرا من اليهود ـ أهل خيبر ـ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا له: أليس فيما تذكر، فيما أنزل عليك: الم؟ قال: بلى، قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله؟ قال: نعم، قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك، وما نعلم نبيا منهم أخبر ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك! فأقبل حيي على أصحابه، فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهي إحدى وسبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة، ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم، قال: فهاته، قال: ﴿المص﴾، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/26/2.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ اسم من أسماء القرآن(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٣٩.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنه قال: الألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: ملكه(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٣٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ معناه أنا الله أعلم، ويقال هو اسم من أسماء القرآن(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 78.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: فواتح السور كلها من أسماء الله(1).
2. روي أنه قال: أما ﴿أَلَمْ﴾ فهو حرف اشتق من حروف اسم الله(2).
__________
(1) البيهقي في الأسماء والصفات.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٢.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ ونحوها أسماء السور(1).
2. روي أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ اسم من أسماء القرآن(2).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/١٦٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: ﴿أَلَمْ﴾ ألف: مفتاح اسمه الله، ولام: مفتاح اسمه لطيف، وميم: مفتاح اسمه مجيد(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه سئل عن قوله: ﴿أَلَمْ﴾، فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء؛ لأن الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، والألف ابتداء الحروف، والاستواء؛ فهو عادل غير جائر، والألف مستو بذاته، والانفراد؛ والله فرد، والألف فرد، واتصال الخلق بالله؛ والله لا وصلة له بالخلق، وكلهم يحتاجون إليه، والله غني عنهم، وكذلك الألف لا يتصل بحرف، والحروف متصلة به، وهو منقطع عن غيره، والله بائن بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة؛ فكما أن الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف، عليه تألفت الحروف، وهو سبب إلفتها(1).
2. روي أنه قال: الألف حرف من حروف قول الله، دل بالألف على قولك: الله، ودل باللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، ودل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله، وجعل هذا القول حجة على اليهود، وذلك أن الله لما بعث موسى بن عمران، ثم من بعده من الأنبياء إلى بني إسرائيل، لم يكن فيهم قوم إلا أخذوا عليهم العهود والمواثيق، ليؤمنن بمحمد العربي المبعوث بمكة، الذي يهاجر إلى المدينة، يأتي بكتاب، بالحروف المقطعة افتتاح بعض سوره، تحفظه أمته، فيقرؤونه قياما وقعودا ومشاة، وعلى كل الأحوال، يسهل الله عز وجل حفظه عليهم(2).
3. روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ)، قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي: يا ابن رسول الله، ما معنى قول الله تعالى: الم؟ قال: أما ﴿أَلَمْ﴾ في أول البقرة، فمعناه أنا الله الملك(3).
__________
(1) الثعلبي: ١/١٤٠.
(2) معاني الأخبار: ص24/4.
(3) معاني الأخبار: ص22/1.
أبو روق:
روي عن أبي روق عطية بن الحارث الهمداني (ت 150 هـ) أنه قال في الحروف المقطعة أوائل السور: إنها تسكيت للكفار، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يقولون: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦]، فربما صفقوا، وربما صفروا، وربما لغطوا ليغلطوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما رأى رسول الله ذلك أسر في الظهر والعصر، وجهر في سائرها، وكانوا أيضا يأتونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلما سمعوها بقوا متحيرين متفكرين؛ فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم، وطريقا إلى انتفاعهم(1).، ولا نرى صحة ما ورد في هذا الأثر، لأنه يعتبر هذه الحروف مجرد حروف تنزلت لوضع طارئ، وزمن محدود، وهو ما يعطّلها عن سائر العصور.
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٣٧.
يحيى بن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنه قال: كان الحسن يقول: ما أدري ما تفسير ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿الر﴾، و ﴿المص﴾، وأشباه ذلك من حروف المعجم(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٢٠.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال: كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا هذا سحر مبين تقوله، فقال الله: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أي يا محمد، هذا الكتاب الذي أنزلته عليك، هو الحروف المقطعة، التي منها: ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ هو القرآن الذي افتتح بـ ﴿أَلَمْ﴾ هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى، فمن بعده من الأنبياء، وأخبروا بني إسرائيل: أني سأنزله عليك ـ يا محمد ـ كتابا عربيا عزيزا ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، لظهوره عندهم كما أخبرهم أنبياؤهم: أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل، يقرؤه هو وأمته على سائر أحوالهم، ﴿هُدًى﴾ بيان من الضلالة، ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يجب لهم رضا ربهم(1).
__________
(1) معاني الأخبار: ص24/4.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع: ﴿أَلَمْ﴾ الذي يعول عليه في هذا الباب مع كثرة ما تكلم فيه الناس أنه هجاء أعلم الله تعالى به العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم هذه التي منها بني كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/24.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ على الأقوال التالية:
أ. روى عن ابن عباس قال: قوله: ﴿أَلَمْ﴾ أنا الله أعلم.
ب. وقيل: إنه قسم أقسم بها.
ج. وقيل: إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة.
د. وقيل: إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماء الله: الألف الله، واللام لطفه، والميم ملكه.
هـ. وقيل: إن اللام آلاؤه، والميم مجده.
و. وقيل: إن الألف هو الله، واللام جبريل، والميم محمد.
ز. وقيل: إنها من التشبيب؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام، والمنثور من نحو الشعر ونحوه.
ح. وقيل: إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما ألحق ذكرها بها على أثرها نحو قوله: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [أول سورة البقرة]، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ هو تفسير ﴿أَلَمْ﴾، و ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [أول سورة آل عمران]، و ﴿المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [أول سورة الأعراف]، و ﴿الر كِتَابٌ﴾ [أول سورة هود، وإبراهيم]، و ﴿الم تِلْكَ آيَاتُ﴾ [أول سورة لقمان] كلّ ملحق بها فهو تفسيرها.
ط. وقيل: إن فيها بيان غاية ملك هذه الأمة من حساب الجمّل، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض.
ي. وقيل: إنه من المتشابه الذى لم يطلع الله خلقه علم ذلك، ولله أن يمتحن عباده بما شاء من المحن.
ك. وقيل: إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن؛ كقولهم: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: 26]، وكقوله: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35] فأنزل الله عزّ وجل هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة.
2. الأصل في الحروف المقطعة:
أ. يحتمل: أن تكون على القسم بها.. وأريد بالقدر الذى ذكر كلية الحروف بما كان من شأن العرب القسم بالذي جلّ قدره، وعظم خطره، وهى مما بها قوام الدارين، وبها يتصل إلى المنافع أجمع. مع ما دلّت على نعمتين عظيمتين ـ اللسان والسمع ـ وهما مجرى كل أنواع الحكمة، فأقسم بها على معنى إضمار ربّها، أو على ما أجلّ قدرها في أعين الخلق، فيقسم بها، ولله ذلك.
ب. ويحتمل: أن يكون بمعنى الرمز والتضمين في كل حرف منها أمرا جليلا يعظم خطره على ما عند الناس في أمر حساب الجمل. ثم يخرّج على الرمز بها عن أسماء الله وصفاته ونعمه على خلقه، أو على بيان منتهى هذه الأمة، أو عدد أئمتها، وملوكها، والبقاع التي ينتهى أمرها، وذلك هو في نهاية الإيجاز، بل بالاكتفاء بالرمز عن الكلام، وبما هو بمعنى من الإشارة في الاكتفاء بها عن البسط، ولا قوة إلا بالله؛ ليعلم الخلائق قدرة الله، وأنّ له أن يضمن ما شاء فيما شاء على ما عليه أمر الخلائق من لطيف الأشياء التي كادت العقول وأسباب الإدراك تقصر عنها، وكنهها التي يدركها كل أحد، وبين الأمرين، فعلى ذلك أمر تركيب الكلام.
ج. ويحتمل: أن يكون بمعنى اسم السور، ولله تسميتها بما شاء كما سمى كتبه، وعلى ذلك منتهى أسماء الأجناس خمسة أحرف، وكذلك أمر السور، دليل ذلك وصل كل سورة فتحت بها إليها، كأنه بنى بها، ولا قوة إلا بالله.
د. ويحتمل: أن يكون على التشبيب، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل.. ألا ترى أنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم، فمثله أمر التشبيب، ولا قوة إلا بالله.
هـ. ويحتمل: أن يكون الله أنزلها على ما أراد؛ ليمتحن عباده بالوقف فيها، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذى له يزول ذلك، ويعترف أنه من المتشابه، وفيها جاء تعلق الملحدة، ولا قوة إلا بالله.
و. ويحتمل: أن يكون إذ علم الله من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: 26] أنزل على وجه يبعثهم على التأمل في ذلك بما جاء بالعجيب الذى لم يكونوا يعرفون ذلك: إما لما عندهم أنه كأحدهم، أو لسبيل الطعن؛ إذ خرج عن المعهود عندهم، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياء؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأحرف بالتأمل فيها من بين الجميع، ولا قوة إلا بالله.. وقيل: إنه دعا خلقه إلى ذلك، والله أعلم بما أراد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/371.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ على الأقوال التالية:
أ. أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن كالفرقان والذكر، وهو قول قتادة وابن جريج.
ب. الثاني: أنه من أسماء السور، وهو قول زيد بن أسلم.
ج. الثالث: أنه اسم الله الأعظم، وهو قول السدي.
د. الرابع: أنه قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، وبه قال ابن عباس وعكرمة.
هـ. الخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال، فالألف من أنا واللّام من الله، والميم من أعلم، فكان معنى ذلك: أنا الله أعلم، وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن جبير، ونحوه عن ابن عباس أيضا.
و. السادس: أنها حروف يشتمل كل حرف منها على معان مختلفة، فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والألف آلاء الله، والميم مجده، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة، آجال قد ذكرها الله.
ز. السابع: أنها حروف من حساب الجمل، لما جاء في الخبر عن عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة.. إلى آخر الحديث.
ح. الثامن: أنه حروف هجاء أعلم الله تعالى بها العرب حين تحداهم بالقرآن، أنه مؤلف من حروف كلام، هي هذه التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم.
2. حروف أبجد ليس بناء كلامهم عليها، ولا هي أصل، وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها الأيام الستة، التي خلق الله تعالى فيها الدنيا، وهذا قول الضحاك بن مزاحم.
ب. الثاني: أنها أسماء ملوك مدين، وهذا قول الشعبي وفي قول بعض شعراء مدين دليل على ذلك قال شاعرهم:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالة... سببت بها عمرا وحيّ بني عمرو
ملوك بني حطّي وهوّز منهم... وسعفص أصل للمكارم والفخر
هم صبّحوا أهل الحجاز بغارة... كمثل شعاع الشّمس أو مطلع الفجر
ج. الثالث: ما روى ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن لأبي جاد حديثا عجبا: (أبى) آدم الطاعة، و(جد) في أكل الشجرة، وأما (هوّز)، فنزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما (حطي) فحطت خطيئته، وأما (كلمن) فأكل من الشجرة، ومنّ عليه بالتوبة، وأما (سعفص) فعصى آدم، فأخرج من النعيم إلى النكد، وأما قرشت فأقرّ بالذنب، وسلم من العقوبة.
د. الرابع: أنها حروف من أسماء الله تعالى، روى ذلك معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/64.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف العلماء في معنى أوائل هذه السور مثل ﴿أَلَمْ﴾ و ﴿المص﴾ و ﴿كهيعص﴾ و ﴿طه﴾ و ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ و ﴿بِالْأَحْقَافِ﴾ و ﴿حم﴾ وغير ذلك على وجوه:
أ. قيل: إنها اسم من أسماء القرآن ذهب اليه قتادة ومجاهد وابن جريح.
ب. وقيل: هي فواتح يفتح بها القرآن، روي ذلك عن مجاهد أيضاً واختاره البلخي، وفائدتها أن يعلم ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها، وذلك معروف في كلام العرب وأنشد بعضهم: بل وبلدة ما الأنس من أهلها.. ويقول آخر: بل ما هيج أحزانا وشجواً قد شجا.. وقوله (بل) ليس من الشعر، وإنما أراد أن يعلم أنه قطع كلامه، وأخذ في غيره، وأنه مبتدأ الذي أخذ فيه غير ناسق له على ما قبله.
ج. وقيل: هي اسم للسورة، روي ذلك عن زيد بن أسلم والحسن.
د. وقيل: هي اسم الله الأعظم، وروي ذلك عن السدي إسماعيل وعن الشعبي.
هـ. وقيل: هي قسم اقسم الله به وهي من أسمائه، وروي ذلك عن ابن عباس وعكرمة.
و. وقيل: هي حروف مقطعة من اسماء واقعاً كل حرف من ذلك بمعنى غير معنى الحرف الآخر يعرفه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو قول الشاعر:
نادوهم أن ألجموا ألاتا... قالوا جميعاً كلهم ألافا
يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقال آخر: قلنا لها قفي فقالت قاف.. بمعنى قالت أنا واقفه.. روى ذلك أبو الضحى عن ابن عباس وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة.
ز. وقيل: هي حروف هجاء موضوعة، روي ذلك عن مجاهد.
ح. وقيل: هي حروف هجاء يشتمل كل حرف على معان مختلفة، روي ذلك عن أنس، واختاره الطبري.
ط. وقيل: هي حروف من حساب الجمل.
ي. وقيل: لكل كتاب سر، وسر القرآن في فواتحه.
2. هذه أقوال المفسرين، فأما أهل اللغة فإنهم اختلفوا:
أ. قال بعضهم: هي حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام ثمانية وعشرين حرفا، كما يستغنى بذكر أب ت ث عن ذكر الباقي، وبذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة، قالوا: ولذلك رفع ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، لأن معناه عن الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، وقوله: ذلك الكتاب الذي أنزلته اليك مجموعاً لا ريب فيه كما قالوا في أبي جاد أب ت ث ولم يذكروا باقي الحروف، وقال راجز بني أسد:
لما رأيت أمرها في حطي... أخذت منها بقرون شمط
فأراد الخبر عن المرأة بأنها من أبي جاد، فأقام قوله في حطي مقامه لدلالة الكلام عليه)(2).
ب. وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له، تلا عليهم ﴿أَلَمْ﴾ )(2).
ج. وقال بعضهم: الحروف التي هي أوائل السور حروف يفتتح الله بها كلامه)(2).
د. وقال ابو مسلم: المراد بذلك، أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته، ولم تقدروا على الإتيان بمثله هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم، فحيث لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من فعل الله، وإنما كررت في مواضع استظهاراً في الحجة، وحكي ذلك عن قطرب)(2).
هـ. وروي في اخبارنا أن ذلك من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، واختاره الحسين بن علي المغربي.
3. أحسن الوجوه التي قبلت قول من قال إنها اسماء للسور خص الله تعالى بها بعض السور بتلك كما قيل للمعوذتين: المقشقشتان، أي تبرآن من النفاق، وكما سُميت الحمد أم القرآن وفاتحة الكتاب.
4. لا يلزم أن لا تشترك سورتان أو ثلاث في اسم واحد، وذلك أنه كما يشترك جماعة من الناس في اسم واحد، فإذا أريد التمييز زيد في صفته، وكذلك إذا أرادوا تمييز السورة قالوا: الم ذلك، الم الله، الم، وغير ذلك.
5. ليس لأحد أن يقول: كيف تكون أسماء للسور، والاسم غير المسمى، فكان يجب ألا تكون هذه الحروف من السورة، وذلك خلاف الإجماع، قيل: لا يمتنع أن يسمى الشيء ببعض ما فيه، ألا ترى أنهم قالوا: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، ولا خلاف انها اسماء للسور وان كانت بعضاً للسور، ومن فرق بين الأشخاص وغيرها في هذا المعنى: فأوجب في الأشخاص أن يكون الاسم غير المسمى ولم يوجب في غيرها، فقد أبعد، لأنه لا فرق بين الموضعين على ما مضى القول فيه، ولا يلزم أن تسمى كل سورة بمثل ذلك، لأن المصلحة في ذلك معتبرة، وقد سمى الله كل سورة بتسمية تخصها وإن لم تكن من هذا الجنس، كما أنه لما سمى الحمد بأسمائها لم يلزم ذلك في كل سورة.
6. قيل: إنها أوائل أسماء يعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تمامها، والغرض بها، نحو ما رويناه عن ابن عباس، كما قال الشاعر: سألتها الوصل فقالت: قاف، يعني: وقفت، وقال آخر: بالخير خيرات وإن شراً فا، يريد: فشراً، وقال آخر: ولا أريد الشر إلا أن تا.. يعني: إلا أن تشاء، وقال آخر:
ما للظليم كيف لا يا... ينقد عنه جلده إذا يا
أي: إذا يفزع، فعلى هذا يحتمل ان يكون الالف: أنا، واللام: الله، والميم: اعلم، وكذلك القول في الحروف، وعلى هذا لا موضع (لألف لام ميم) من الاعراب.
7. إعرابها: على قول من قال إنها اسماء السور موضعها الرفع، كأنه قال هذه الم، أو يكون ابتداءه ويكون خبره ذلك الكتاب، وأجمع النحويون على أن هذه الحروف وجميع حروف الهجاء مبنية على الوقف لا تعرب، كما بني العدد على الوقف، ولأجل ذلك جاز أن يجمع بين ساكنين كما جاز ذلك في العدد، تقول واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، فتقطع ألف اثنين وهي ألف وصل، وتذكر الهاء في ثلاثة واربعة، فلو لم تنو الوقف لقلت ثلاث بالثاء.
8. إعراب أسماء الحروف الأبجدية، أبي جاد، هواز، وحطي وكلمن، زعم سيبويه انها مصروفات، تقول: علمت أبا جاد، ونفعني ابو جاد، وانتفعت بأبي جاد، وكذلك: هوازٌ، وهوازٍ، وهوازاً، وحطياً، وحطيُّ، وحطيٍ، وأما كلمن وسعفص وقرشيات فأعجميات، تقول: هذه كلمن، وتعلمت كلمن، وانتفعت بكلمن، وكذلك سعفص وقرشيات اسم للجمع مصروفة لأجل الألف والتاء.
9. اختلف في معنى الحروف الأبجدية:
أ. قال الضحاك: إنها اسماء الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الدنيا وقال الشعبي: انها أسماء ملوك مدين، وانشد:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالة... سببت بها عمرواً وأوحى بني عمرو
ملوك بني حطي وهواز منهم... وسعفص أهل للمكارم والفخر
هم صبحوا أهل الحجاز بغارة... لميل شعاع الشمس أو مطلع الفجر
ب. روي عن ابن عباس أن لأبي جاد حديثاً عجيباً، أبي: آدم جد في أكل الشجرة، وهواز: فزل آدم فهوى من السماء الى الأرض، وأما حطي فحطت عنه خطيئته وأما كلمن فأكل من الشجرة ومنَّ عليه بالتوبة، وسعفص: عصى آدم فاخرج من النعيم الى الكبد، وقرشيات: أقر بالذنب فسلم من العقوبة.. وهذا خبر ضعيف يتضمن وصف آدم، وهو نبي بما لا يليق به.
ج. وقال قوم: انها حروف من أسماء الله، وروي ذلك عن معاوية بن قرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/48.
(2) تفسير الطوسي: 1/49.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما بَيَّنَ الله تعالى في الفاتحة الصراط المستقيم، بَيَّنَ أن ذلك هو الكتاب المنزل عليك، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ﴾
أ. قيل: اسم للسورة، عن الحسن وزيد بن أسلم وأبي علي.
ب. وقيل: اسم للقرآن، عن قتادة، وهذا جائز؛ لأن أسماء الأعلام منقولة للتفرقة بين المسميات، فمتى لم يرد بها معنى الأصل، فهي على جهة النقل، وقد جاء في أسمائهم حارثة بن أويس بن لام، ولا خلاف بين النحويين أن لك أن تسمي بحروف الجمل، وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة، كقولك: زيدا، إذا لم ترد به الزيادة كان منقولاً إلى العلم، ولا يقال: لو أريد بها التسمية لم يُسَمِّ بها سورا كثيرة؛ لأن هذا موجود في أسماء الألقاب، فيسمَّى خلق زيدا، ثم يتميز بشيء آخر يتصل به، كذلك هذا يتميز بما ينضم إليه فيقال: (الم ذَلِكَ)، و(الم الله)، قال الحسن: سمعت السلف يقولون: إنها أسماء السور ومفاتيحها.
ج. وقيل: إنه إشارة إلى حروف المعجم، وتنبيه بأنه تعالى أنزل كتابه من هذه. الحروف، وأنتم تتكلمون بها، فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله دل على أنه كلام الله تعالى وأنه معجز، ويجوز أن يذكر حرف ويراد جميع الحروف، قال الشاعر:
لَمَّاَ رَأَيْتُ أَّنهَا فِي حُطِّي.. أَخَذْتُ مِنْهَا بِقُرُونٍ شُمْطِ
وأراد أَبْجَدَ، فعرفه ببعض كلماته عن المبرد وأبي مسلم وجماعة.
د. وقيل: إنه تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن، فأشار تعالى بهذه الحروف إلى أن كلامه من هذه الحروف دالّ بذلك أنه مسموع محدث غير قديم، عن أبي بكر الزبيري.
هـ. وقيل: إنه علامة يعلم بها انقضاء سورة وافتتاح سورة بعدها، عن ثعلب.
و. وقيل: هو قسم أقسم الله بهذه الحروف المعجمة لشرفها، ولأنها مباني الكتب المنزلة، والألسن المختلفة، وأسمائه الحسنى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون، عن الأخفش.
ز. وقيل: لما تواطأ الكفار ألا يسمعوا القرآن، ويلغوا فيه، أحدث الله تعالى هذه الحروف التي لم يكن لهم بها عهد ليسمعوا، ثم يأتي الكلام بعدها، فيكون حجة عليهم، عن أبي علي وقطرب وأبي روق.
ح. وقيل: إنه اختصار كلام يفهمه المخاطب، كقول الشاعر: قُلتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ.. أي: وقفت، عن ابن العباس والزجاج وجماعة، ثم اختلفوا فقيل: الألف من الله، واللام من لطيف، والميم من ملك.
ط. وقيل: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، عن ابن عباس، وروي عنه: معناه: أنا الله أَعْلَمُ.
ي. وقيل: الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم ملكه، عن محمد بن كعب.
ك. وقيل: إنها حروف مقطعة، لو وصلت صارت أسماء من أسماء الله تعالى، كقوله: (الر)، و(حم)، و(ن)، فهو الرحمن، عن سعيد بن جبير، وهذا إنما يتأتى في بعض الحروف دون جميعها.
ل. وقيل: هو شيء يسرّ لا يعلم المراد به، وهذا لا يصح؛ لأن الغرض من الخطاب الإفهام، ولأن الصحابة والتابعين والعلماء بعدهم تكلموا في معنى هذه الحروف، فقوله يخالف إجماعهم.
2. مسائل نحوية:
أ. قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة؛ لأن حروف الهجاء لا تعرب، وقال أبو النجم:
أقبلت من عند زياد كالحرف... تخط رجلاي بخط مختلف... يكتبان في الطريق لام ألف
فإذا دخل عليها حرف العطف حُرِّك. أنشد أبو عبيدة:
إِذا اجْتمَعُوا عَلَى أَلِفٍ وَوَاوٍ.. وَياءٍ هَاجَ بَيْنَهُمُ قِتَالُ
ب. هذه الحروف تذكر على اللفظ، وتؤنث على توهم الكلمة.
ج. اختلف في محل (الم) من الإعراب:
• قيل: رفع بالابتداء، و ﴿ذَلِكَ﴾ ابتداء آخر، و ﴿الْكِتَابِ﴾ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
• ويحتمل أن يكون محله رفعا؛ لأنه خبر ابتداء محذوف، تقديره هذا ألف لام ميم، هذا على مذهب الحسن؟ أنه اسم للسورة.
• على مذهب ابن عباس أنه اختصار قام مقام جملة فلا موضع له من الإعراب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/219.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور:
أ. ذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها، ولا يعلم تأويلها إلا هو، هذا هو المروي عن أئمتنا عليه السلام، وروت العامة عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
ب. وفسرها الآخرون.
2. اختلف من فسرها على وجوه:
أ. أحدها: إنها أسماء السور ومفاتحها، عن الحسن، وزيد بن أسلم.
ب. ثانيها: إن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى:
• فقوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ معناه: أنا الله أعلم.. (والمر) معناه: أنا الله أعلم وأرى.. (والمص) معناه: أنا الله أعلم وأفصل.. والكاف في ﴿كهيعص﴾ من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، عن ابن عباس.
• وعنه أيضا: إن ﴿أَلَمْ﴾ الألف منه تدل على اسم الله.. واللام تدل على اسم جبرائيل.. والميم تدل على اسم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام، قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عن قوله ﴿أَلَمْ﴾ فقال: في الألف ست صفات من صفات الله تعالى (الابتداء): فإن الله ابتدأ جميع الخلق والألف ابتداء الحروف.. و(الاستواء): فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته.. و(الانفراد): فالله فرد، والألف فرد.. و(اتصال الخلق بالله) والله لا يتصل بالخلق، وكلهم محتاجون إلى الله، والله غني عنهم، وكذلك الألف لا يتصل بالحروف، والحروف متصلة به، وهو منقطع من غيره، والله عز وجل باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الألفة، فكما أن الله عز وجل سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف، وهو سبب إلفتها.
ج. ثالثها: إنها أسماء الله تعالى منقطعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، تقول: الر، وحم، ون: فيكون الرحمن، وكذلك سائرها، إلا أنا لا نقدر على وصلها، والجمع بينها، عن سعيد بن جبير.
د. رابعها: إنها أسماء القرآن، عن قتادة.
هـ. خامسها: إنها أقسام أقسم الله تعالى بها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس، وعكرمة، قال الأخفش: وإنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم كلها، بها يتعارفون، ويذكرون الله عز اسمه، ويوحدونه، فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه.
و. سادسها: إن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس فيها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين، عن أبي العالية، وقد ورد أيضا مثل ذلك في أخبارنا.
ز. سابعها: إن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة، عن مقاتل بن سليمان، قال مقاتل: حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور بإسقاط المكرر، فبلغت سبع مائة وأربعا وأربعين سنة، وهي بقية مدة هذه الأمة.. قال علي بن فضال المجاشعي النحوي: وحسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل، فبلغت ثلاثة آلاف وخمسا وستين، فحذفت المكررات فبقي ستمائة وثلاث وتسعون والله أعلم بما فيها، وأقول: قد حسبتها أنا أيضا، فوجدتها كذلك.. ويروى أن اليهود لما سمعوا ﴿أَلَمْ﴾ قالوا: مدة ملك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قصيرة، إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة، فلما نزلت الر، المر، والمص، وكهيعص اتسع عليهم الأمر.. هذه أقوال أهل التفسير.
ح. ثامنها: إن المراد بها حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور، عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا، كما يستغنى بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة، وكما يقال أب في أبجد وفي أ ب ت ث، ولم يذكروا باقي الحروف، قال الراجز:
لما رأيت أنها في حطي... أخذت منها بقرون شمط
وإنما أراد الخبر عن المرأة بأنها في أبجد فأقام قوله حطي مقامه لدلالة الكلام عليه.
ط. تاسعها: إنها تسكيت للكفار، لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن، وأن يلغوا فيه، كما ورد به التنزيل من قوله ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ الآية، فربما صفروا، وربما صفقوا، وربما لغطوا ليغلطوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا، استمعوا إليه، وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم، ويكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم وعاشرها: إن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فإذا لم تقدروا عليه، فاعلموا أنه من عند الله، لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم، وإنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة، وهو المحكي عن قطرب، واختاره أبو مسلم محمد بن بحر الإصفهاني.
3. أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن، لأن أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات، فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية، ولهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي، ولا خلاف بين النحويين أنه يجوز أن يسمى بحروف المعجم، كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تأبط شرا وبرق نحره، وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل، فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولا إلى العلمية، وكذلك أشباهه، ولو سميت بألم لحكيت جميع ذلك.. أما قول ابن عباس إنه اختصار من أسماء يعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تمامها، فنحوه قول الشاعر:
نادوهم أن ألجموا ألاتا... قالوا جميعا كلهم ألافا
يريد: ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا، وقول الآخر:
قلنا لها: قفي، قالت: قاف... لا تحسبي أنا نسينا الايجاف
يريد: قالت أنا واقفة.
4. موضع ﴿أَلَمْ﴾ من الإعراب مختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب:
أ. على مذهب الحسن فموضعها رفع على اضمار مبتدأ محذوف، كأنه قال هذه ألم.
ب. وأجاز الرماني أن يكون ﴿أَلَمْ﴾ مبتدأ، و ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ خبره، وتقديره حروف المعجم ذلك الكتاب، وهذا فيه بعد، لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى، ولم يكن الكتاب هو حروف المعجم.
ج. ويجوز أن يكون ﴿أَلَمْ﴾ في موضع نصب على إضمار فعل تقديره أتل ألم.
د. أما على مذهب من جعلها قسما فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه، فإن معنى قولك بالله: أقسم بالله، ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء، لقلت الله لأفعلن.
هـ. أما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام، أو حروفا مقطعة، فلا موضع لها من الإعراب، لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لاحظ له في الاعراب، وإنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد، كقولك: زيد أبوه قائم، وإن زيدا أبوه قائم، لأنه بمنزلة قولك: زيد قائم، وإن زيدا قائم.
5. هذه الحروف موقوفة على الحكاية، كما يفعل بحروف التهجي، لأنها مبنية على السكت، كما أن العدد مبني على السكت، يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم، وتقول في العدد واحد اثنان، ثلاثة، أربعة، فتقطع ألف اثنين، وألف اثنين ألف وصل، وتذكر الهاء في ثلاثة وأربعة، ولولا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء، ويدل عليه قول الشاعر: أقبلت من عند زياد كالخرف... تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف كأنه قال لام ألف، ولكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها.
6. إذا أخبرت عن حروف الهجاء، أو أسماء الأعداد أعربتها، لأنك أدخلتها بالاخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة، وأخرجتها بذلك من حيز الأصوات، كما قال الشاعر: (كما بينت كاف تلوح وميمها) وقال آخر: إذا اجتمعوا على ألف، وباء... وواو، هاج بينهم جدال وتقول: هذا كاف حسن، وهذه كاف حسنة.
7. من ذكره فعلى معنى الحرف.. ومن أنثه فعلى معنى الكلمة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/113.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾، وأمثاله من الحروف المقطعة على ستة أقوال:
أ. أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلّا الله، قال أبو بكر: لله عزّ وجلّ في كل كتاب سرّ، وسرّ الله في القرآن أوائل السّور، وإلى هذا المعنى ذهب الشّعبيّ، وأبو صالح، وابن زيد.
ب. الثاني: أنها حروف من أسماء، فإذا ألّفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عزّ وجلّ، قال عليّ بن أبي طالب: هي أسماء مقطّعة، لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، واسأل ابن عباس عن (الر) و(حم) و(نون)، فقال: اسم الرحمن على الهجاء، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والرّبيع بن أنس.
ج. الثالث: أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة، قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطّعة كلّها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت (أب ت ث) وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسمّيها بأوّل حرف منها، وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها، ولأنها مباني كتبه المنزّلة، وبها يذكر ويوحّد، قال ابن الأنباريّ: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بيّن الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزّل، وإنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ دليلا على الجواب.
د. الرابع: أنه أشار بما ذكر من الحروف إلى سائرها والمعنى: أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلّف، أخبر أن هذا القرآن إنما هو مؤلّف من هذه الحروف، قاله الفرّاء، وقطرب، فإن قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبّه بذلك على إعجازه، فكأنه قال هو من هذه الحروف التي تؤلّفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته!؟ فإذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
هـ. الخامس: أنها أسماء للسّور، روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ.
و. السادس: أنها من الرّمز الذي تستعمله العرب في كلامها، يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه، وأنشدوا: قلنا لها قفي لنا فقالت قاف.
ز. السابع: كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطّعة، فسمعوها فبقوا متحيّرين.
ح. الثامن: إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه، لأن النفوس تتطلّع إلى ما غاب عنها، معناه: فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بدّ له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطب.
2. خصّ المفسّرون قوله ﴿أَلَمْ﴾ بخمسة أقوال:
أ. أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عزّ وجلّ، وقد سبق بيانه.
ب. الثاني: أن معناه: أنا الله أعلم، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير.
ج. الثالث: أنه قسم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذّاء عن عكرمة.
د. الرابع: أنها حروف من أسماء، ثم فيها قولان:
• أحدهما: أن الألف من (الله) واللام من (جبريل) والميم من (محمّد)، قاله ابن عبّاس، فإن قيل: إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به، فلم أخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم!؟ فالجواب: أن مبتدأ القرآن من الله تعالى، فدلّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و(محمد) مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حروفه.
• الثاني: أن الألف من (الله) تعالى، واللام من (لطيف) والميم من (مجيد) قاله أبو العالية.
هـ. الخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشّعبيّ، وقتادة، وابن جريج.
__________
(1) زاد المسير: 1/25.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأن الضاد مثلًا لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من (ضرب) فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالإمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة، فكانت لا محالة أسماء.
2. سؤال وإشكال: ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) الحديث، والاستدلال به يناقض هذا، والجواب: سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.
3. مسائل نحوية ولغوية:
أ. راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً.
ب. حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات.
ج. هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين.
4. للناس في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ وما يجري مجراه من الفواتح قولان:
أ. أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به، ومما يروى في ذلك:
• قال علي: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
• وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17] فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم.
• روي في الخبر (للعلماء سر، وللخلفاء سر وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر)
• سئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه.
• روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها.
• قال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه.
ب. الثاني، قول المتكلمين الذين قالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق.
5. احتج الذين قالوا أنه لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق بالآيات والأخبار والمعقول، أما احتجاجهم بالآيات، فقد احتجوا بأربعة عشر آية:
أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24] أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه.
ب. ثانيها: قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق.
ج. ثالثها: قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 ـ 195] فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم منذراً به، وأيضاً قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً.
د. رابعها: قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83] والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه.
هـ. خامسها: قوله: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89] وقوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]
و. سادسها: قوله: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 185]، ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] وغير المعلوم لا يكون هدى.
ز. سابعها: قوله: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ [القمر: 5]، وقوله: ﴿ وشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم.
ح. ثامنها: قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]
ط. تاسعها: قوله: ﴿ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51] وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم؟
ي. عاشرها: قوله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ فكيف يكون بلاغاً، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية ﴿ ولِيَذَّكَّرَ أولو الْأَلْبابِ ﴾ [إبراهيم: 52] وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً.
ك. الحادي عشر: قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174] فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم؟
ل. الثاني عشر: قوله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 123، 124] فكيف يمكن اتباعه والإعراض عنه غير معلوم؟
م. الثالث عشر: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم؟
ن. الرابع عشر: قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ ـ إلى قوله ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: 285] والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً.
6. احتج الذين قالوا أنه لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق بالأخبار التالية:
أ. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي)، فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟
ب. عن علي رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
7. احتج الذين قالوا أنه لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق بالمعقول من وجوه:
أ. أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا.
ب. ثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم.
ج. ثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به.
8. احتج الذين قالوا أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به من القرآن الكريم بأن المتشابه من القرآن غير معلوم، لقوله تعالى: ﴿ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ﴾، والوقف هاهنا واجب لوجوه:
أ. أحدها: أن قوله تعالى: ﴿ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7] لو كان معطوفاً على قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ لبقي ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال، لأنا نقول حينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلًا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ وهذا كفر.
ب. ثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح.
ج. ثالثها: أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً، لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7].
9. احتج الذين قالوا أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به من الخبر:
أ. ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله)،
ب. أن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)
10. احتج الذين قالوا أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به من المعقول بأن الأفعال التي كلفنا بها قسمان:
أ. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم، فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة.
ب. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع.
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة ألبتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلًا لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب.
11. اختلف القائلون بأن المراد من هذه الفواتح معلوم، وذكروا وجوهاً:
أ. الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس: صاد، وللنقد عين، وللسحاب غين، وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نوناً.
ب. الثاني: أنها أسماء لله تعالى، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: (يا كهيعص، يا حم عسق)
ج. الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تعالى، قال سعيد بن جبير: قوله (الر، حم، ن) مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي.
د. الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة.
هـ. الخامس: أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال ابن عباس في (آلم): الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في: ﴿كهيعص ﴾ إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل، والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك.
و. السادس: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات. قال ابن عباس في ﴿أَلَمْ﴾ أنا الله أعلم، وفي ﴿المص ﴾ أنا الله أفصل، وفي ﴿الر﴾ أنا الله أرى، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه.
ز. السابع: كل واحد منها يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده قاله محمد بن كعب القرظي، وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه.
ح. الثامن: بعضها يدل على أسماء لله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ط. التاسع: كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً، واللام أي لامه الجاحدون، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق، وقال بعض الصوفية: الألف معناه أنا، واللام معناه لي، والميم معناه مني.
ي. العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر.
ك. الحادي عشر: قال عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولًا مفردة ثم يتعلمون المركبات.
ل. الثاني عشر: قول ابن روق وقطرب: إن الكفار لما قالوا: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26] وتواصلوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم.
م. الثالث عشر: قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال اخرين، قال ابن عباس: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يتلو سورة البقرة ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، [البقرة: 1، 2].. إلى آخر الحديث.
ن. الرابع عشر: هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه، فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد.
س. الخامس عشر: روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عز وجل به على نفسه.
ع. السادس عشر: قال الأخفش: إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد، هو الكل، كما تقول قرأت الحمد، وتريد السورة بالكلية، فكأنه تعالى قال: أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
ف. السابع عشر: أن التكلم بهذه الحروف، وإن كان معتاداً لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه.
ص. الثامن عشر: قال أبو بكر التبريزي: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف، فيجب أن لا يكون قديماً.
ق. التاسع عشر: قال القاضي الماوردي: المراد من (ألم) أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر.
ر. العشرون: الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة في أول الأمر، وهو رعاية الشريعة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: 30] واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، وهو رعاية الطريقة، قال الله تعالى: ﴿ والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ﴾ [العنكبوت: 69] والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية، وهو مقام الحقيقة، قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]
ش. الحادي والعشرون: الألف من أقصى الحلق، وهو أول مخارج الحروف، واللام من طرف اللسان، وهو وسط المخارج، والميم من الشفة، وهو آخر المخارج، فهذه إشارة إلى أنه لا بد وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى، على ما قال: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]
12. المختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور، والدليل عليه:
أ. أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة، أو تكون مفهومة، والأول باطل، أما أولًا فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج.
ب. لأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم.
ج. إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب، أو أسماء المعاني، والثاني باطل، لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون، فيمتنع حملها عليها، لأن القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلًا في لغة العرب، ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بالإجماع، لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، وليس فيهم من حملها على الكل، أو لا يحمل على شيء منها، وهو الباقي، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.
13. أجاب المخالفون لكونها من أسماء السور على هذا بما يلي:
أ. أما قولهم: (لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج) فلم لا يجوز ذلك؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة، والسجيل والإستبرق فارسيان.
ب. أما قولهم: (وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان) فلا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا هاهنا، سلمنا أنها مفهومة.
ج. أما قولهم: (إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني) فإنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا، فحينئذ يهجم القرآن على أسمائهم، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما، فلم لا يجوز أن يقال: إنها من أسماء المعاني؟
د. أما قولهم: (إنها في اللغة غير موضوعه لشيء ألبتة) فلا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء، ولكن لم لا يجوز أن يقال: إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معيناً؟ وبيانه من وجوه:
• أحدها: أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله.
• ثانيها: أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس.
• ثالثها: أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء.
• رابعها: أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى.
14. ذكر المخالفون لكونها من أسماء السور مجموعة اعتراضات:
أ. أحدها: أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في ﴿أَلَمْ﴾ و ﴿حم ﴾ فالاشتباه حاصل فيها، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه.. فإن قيل: يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد، فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية. قلنا: قولنا ﴿أَلَمْ﴾ لا يفيد معنى ألبتة، فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً، بخلاف التسمية بمحمد، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين، وهو التبرك به لكونه اسماً للرسول، ولكونه دالًا على صفة من صفات الشرف، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين، بخلاف قولنا: ﴿أَلَمْ﴾ فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً،
ب. ثانيها: لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر، لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور.
ج. ثالثها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب، وأنه غير جائز.
د. رابعها: أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران.
هـ. خامسها: هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة، فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً، وهو محال، فإن قيل: مجموع قولنا: (صاد) اسم للحرف الأول منه، فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب؟ قلنا: الفرق ظاهر، لأن المركب يتأخر عن المفرد، والاسم يتأخر عن المسمى، فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين، وذلك غير مستحيل، أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث إنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث إنه اسم كونه متأخراً، وذلك محال.
و. سادسها: لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، ومعلوم أنه غير حاصل.
15. أجاب القائلون بأنها من أسماء السور على هذه الاعتراضات بما يلي:
أ. اعتبارهم المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب، عنه جوابان:
• أحدهما: أن كل ذلك عربي، لكنه موافق لسائر اللغات، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين.
• الثاني: أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولًا في بلاد العرب، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها، فتكلموا بتلك الأسماء، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً.
ب. قولهم: (وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً) الجواب عنه: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل، أو في الكتاب، أو في السنة بيانه، وحينئذ يخرج عن كونه غير مفيد، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه.
ج. قولهم: (لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب؟) الجواب عنه: لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذا الغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض، وهو بالإجماع باطل.
د. سائر الوجوه التي ذكروها الجواب عنها هو أن: (ألم) غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني، فلا يجوز استعمالها فيه، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، ولأنها متعارضة، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض، ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه.
16. أجاب القائلون بأنها من أسماء السور على الاعتراضات الثانية بما يلي:
أ. عن الأول: أنه لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ـ ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى ـ حكمة خفية.
ب. عن الثاني: أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.
ج. عن الثالث: أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة (حضرموت) فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز، فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.
د. عن الرابع: أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا هاهنا.
هـ. عن الخامس: أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسماً لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له.
و. عن السادس: أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض على أن القول الحق: أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.
17. هذه الأسماء على ضربين:
أ. أحدهما: يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً مفرداً (كصاد، وقاف، ونون) أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس، فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو (كدر أبجرد)، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث.
ب. الثاني: ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهيعص، والمر.
18. أورد الله تعالى في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم: أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة.
19. هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت (ص ق ن) على حرف، و(طه وطس ويس وحم) على حرفين، و(ألم والر وطسم) على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، و(كهيعص وحم عسق) على خمسة أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا هاهنا.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/250.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور:
أ. قال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون.. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد.. عن عبد الله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3].. وهذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح.
ب. قال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها.
2. اختلف من قال يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها في ذلك على أقوال عديدة:
أ. روي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
ب. قال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم.. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: ﴿أَلَمْ﴾ و ﴿المص ﴾ استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلّى الله عليه وآله وسلّم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.
ج. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ ) [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.
د. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها:
• كقول ابن عباس وغيره: الالف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• وقيل: الالف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد.
• وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: ﴿أَلَمْ﴾ قال: أنا الله أعلم، ﴿الر﴾ أنا الله أرى، ﴿المص ﴾ أنا الله أفصل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم، واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله: فقلت لها قفي فقالت قاف.. أراد: قالت وقفت، وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا... ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر، وأراد: إلا أن تشاء.
وقال آخر:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا... قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا، وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: اق، كما قال عليه السلام (كفى بالسيف شا) معناه: شافيا.
هـ. وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور.
و. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لان القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا، والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون (لا) جواب القسم، فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.. والحكمة في القسم من الله تعالى، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
ز. وقال بعضهم: ﴿أَلَمْ﴾ أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.
ح. وقال قتادة في قوله: ﴿أَلَمْ﴾ قال اسم من أسماء القرآن.
ط. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس.
وقيل غير هذا من الأقوال.
3. الوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، واختلف: هل لها محل من الاعراب؟ وقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
4. اختلف الذين ذكروا أن لها لها محلا من الاعراب:
أ. من قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه ﴿أَلَمْ﴾، كما تقول: هذه سورة البقرة.. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل.
ب. وقال ابن كيسان النحوي: ﴿أَلَمْ﴾ في موضع نصب، كما تقول: اقرأ ﴿أَلَمْ﴾ أو عليك ﴿أَلَمْ﴾
ج. وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 155.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. من أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال: واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء، وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء: وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن الجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والتاء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقّت في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم، وما يدل على أنه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر.
2. هذا التدقيق الذي ذكره الزمخشري في الكشاف لا يأتي بفائدة يعتدّ بها، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال، فهذا متيسر بأن يقال لهم: هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين ولا يتعقل شيئا منه، فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما للحجة أيا كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم، مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهليّ ولا إسلاميّ ولا مقرّ ولا منكر ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الربّ سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به، وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر، وأيضا لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر، بل من عكسهما وضد رسمهما.
3. من تكلّم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عزّ وجلّ، فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسّرها به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدّمه ما يدل عليه ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدّم ذكره، ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟
4. إذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين:
أ. الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصدّ عنه والتنكّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه.
ب. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئا من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظا عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلا، ولكلام العرب فيه مدخلا، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير، وانظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها.
5. لم يتكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وصحّحه، والحاكم وصحّحه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)
6. سؤال وإشكال: هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولا صحّ إسناده إليه؟ والجواب: لا، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وتنزيل هذا منزلة المرفوع، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغا للوقوع في خطر الوعيد الشديد. على أنه:
أ. يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيرا في تفاسيرهم المنقولة عنهم، ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه.
ب. ثم هاهنا مانع آخر، وهو أن المرويّ عن الصحابة في هذا مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكّما لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملا بما هو مختلف متناقض ولا يجوز.
ج. ثم هاهنا مانع غير هذا المانع، وهو: أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذا عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
7. الذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمّة أن لا يتكلّم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجلّ لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/35.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الـم﴾ الله هو العالم بمعناه، وبمعنى ﴿المص﴾، و﴿المر﴾، و﴿الر﴾، و﴿كهيعص﴾، و﴿طه﴾، و﴿طسم﴾، و﴿طس﴾، و﴿يس﴾، و﴿ص﴾، و﴿حم﴾، و﴿حم عسق﴾، و﴿ق﴾، و﴿ن﴾.
2. وأَذكُرُ بعض ما قيل: الهمزة: الله، واللام لطيف، قال الخليل: نحو بِهْ وكِهْ بالحركة وهاء السكت مسمَّيات، ونحو الباء والكاف اسم، قلت فمسمَّى الهمزة أهـ بالحركة بعدها هاء السكت، والاسم ءَاءْ بهمزتين بينهما ألف، ولم ينطق غيري بهذا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/33.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَلَمْ﴾ للناس في هذا وما يجرى مجراه من الفواتح مذهبين:
أ. الأول: أن هذا علم مستور، وسرّ محجوب، أستأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه، ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق، واحتجوا بأدله عقلية ونقلية، بسطها العلامة الفخر.
ب. الثاني: مذهب من فسرها، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها، وهو ما للجمهور.
2. اختلف من فسرها على أقوال:
الأول، وعليه الأكثر: أنها أسماء للسور.
الثاني، أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد: كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلوّ عليهم ـ وقد عجزوا عنه عن آخرهم ـ كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله ـ بعد المراجعات المتطاولة ـ وهم أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق، وشقت غبار كلّ سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلّا لأنه ليس بكلام البشر، وإنه كلام خالق القوى والقدر. قاله الزمخشريّ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/243.
رضا
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَلَمْ﴾ هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضر وضع الاسم الواحد كـ (ألم) لعدة سور، لأنه من المشترك الذى يعين معناه اتصاله بمسماه، وحكمة التسمية والاختلاف في (الم) و(المص) نفوّض الأمر فيها إلى المسمى سبحانه وتعالى.. ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتابعيهم، وليس من الدين في شيء أن يتنطع متنطع فيخترع ما يشاء من العلل، التي قلما يسلم مخترعها من الزلل.
2. هذه الحروف تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها، فنقول: ألف، لام، ميم؛ ساكنة الأواخر لأنها غير داخلة في تركيب الكلام فتعرب بالحركات.
3. عدم إعرابها يرجح أن حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن والإشارة إلى إعجازه، لأن المكي منها كان يتلى على المشركين للدعوة إلى الاسلام، ومثل هذه السورة وما بعدها لدعوة أهل الكتاب إليه وإقامة الحجج عليهم به.
4. اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحققين من علماء اللغة وفنونها كالفراء وقطرب والمبرد والزمخشري وبعض علماء الحديث، كابن تيمية والحافظ المزى، وأطال الزمخشري في بيانه وتوجيهه بما يراجع في كشافه، وفى تفسير البيضاوي وغيره.
5. أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك، وروى ابن إسحق حديثا في ذلك عن بعض اليهود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ضعيف من رواية الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله.
6. يقرب من هذا ما عنى به بعض الشيعة من حذف المكرر من هذه الحروف وصياغة جمل مما بقى منها في مدح على المرتضى رضى الله عنه أو تفضيله وترجيح خلافته وقوبلوا بجمل أخرى مثلها تنقض ذلك.
7. لا يزال يوجد في الناس حتى علماء التاريخ واللغات منهم من يرى أن في هذه الحروف رموزا إلى بعض الحقائق الدينية والتاريخية ستظهره الأيام.
__________
(1) تفسير المنار: 1/123.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة: (ألف. لام. ميم) يليها الحديث عن كتاب الله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ .. ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية، وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة.
2. المختار منها أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب، ولكنه ـ مع هذا ـ هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله.. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابا!
3. الشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس.. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة. أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائنا في دقته ما يكون.. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر.. وهكذا القرآن.. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/39.
الخطيب
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في القرآن الكريم تسع وعشرون سورة، بدأت بحرف أو أكثر من حروف الهجاء، وكل حرف ينطق به نطقا مستقلا مرتلا، هكذا: ألف.. لام.. ميم.. أو: طا، ها، أو: ياسين، وعلى هذا النحو تنطق جميع الحروف التي جاءت مفتتحا لسور القرآن.. وقد شغلت هذه الحروف علماء التفسير، فأطالوا النظر فيها، وأكثروا القول في تأويلها وتفسيرها، حتى لقد تجاوزت وجوه الرأي فيها أربعين وجها!
2. المفهوم الذي نستريح إليه لهذه الأحرف، أنها مجرد حروف هجاء، مما بنيت منه كلمات القرآن الكريم، وآياته، وسوره، وأنها حين يبدأ بها في التلاوة هكذا.. حرفا حرفا، آخذا كل حرف نغما مستقلا على لسان القارئ ـ ترسم لمرتل القرآن أسلوبا خاصّا في التلاوة، فيقرأ الكلمات قراءة مستأنية، يأخذ فيها كل حرف مكانه على لسان القارئ، كما أخذت حروف هذه المفتتحات وضعها المستقل على لسانه! في أناة وتقطيع.. حرفا حرفا! وبهذا يتحقق الأداء السليم لتلاوة القرآن، كما يقول الله تعالى: ﴿ ورَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾
3. العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، هم قوم أميون، تلقّوا لغتهم سماعا، وحفظوا كلماتها وأساليبها، أصواتا تحمل من المعاني ما تحمل أنغام الموسيقى إلى أربابها! فالعربي كان يعرف الكلمة جملة، كما كان يعرف مدلولها الذي تدل عليه جملة أيضا، بل إنه يعرف مدلول الكلمة أكثر مما يعرف الكلمة ذاتها، فإذا نطق بكلمة (سيف) أو (درع) أو (جمل) أو (ليلى) أو نحو هذا، ارتسم في الحال لعينيه مدلول الاسم الذي نطق به، دون أن يلتفت كثيرا إلى الصوت الذي انطلق من فمه! وإذ كان حساب الكلمات عند العرب الجاهليين على هذا النحو، الذي تبدو فيه الكلمات وكأنها مجرد أصوات! وإذ كان ذلك كذلك، وإذ كان القرآن الكريم كلاما معجزا، فإن وجه الإعجاز لا ينكشف في كلماته وآياته؛ إلا إذا تحقق للكلمة وجود ذاتي، وعرف لها ناطقها وسامعها أنها كائن له مشخصاته، التي تحقّق له وجودا مستقلا عن غيره، مباينا له، كما يستقل الإنسان عن الإنسان بذاته ومشخصاته.
4. على هذا التقدير، تحدث القرآن الكريم إلى هؤلاء الأميّين بما يكشف لهم عن شخصية الكلمة، وأنها بناء يقوم على أسس، ويبنى على أصول، وأن لبنات هذا البناء هي حروف: ألف، لام، ميم، نون، قاف.. وهكذا.
5. بهذا النظر إلى الكلمات، ينطق العربيّ بكلمات القرآن الكريم متأنيا، متأملا، حتى لكأن الحرف كلمة! وبهذا يتصل قارئ القرآن بكلمات القرآن اتصالا وثيقا، يخلص إليه منه كثير من أضوائه ونفحاته، وذلك هو بعض الحكمة من ترتيل القرآن، وقراءته على هذا الوجه الذي ينفرد به عن قراءة أي كلام، حيث يقول الله تعالى: ﴿ ورَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ (4: المزمل) ويقول سبحانه: ﴿ وقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ﴾! (106: الإسراء) وقد امتثل النبي الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أمر ربّه، فكانت قراءته ترتيلا منغما، يأخذ فيه كل حرف مكانه في الكلمة، وتأخذ كل كلمة مكانها في الآية، دون أن يختفى حرف، أو تضيع كلمة، روى البخاري عن أنس، أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (كانت مدّا) ثم قرأ ـ أي أنس ـ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمدّ الله، ويمدّ الرحمن، ويمد الرحيم.. أي أنه يمثّل بهذا الأسلوب القراءة التي كان يقرأ بها النبي الكريم.
6. على هذا، فإن مجيء هذه الأحرف المقطعة في بعض سور القرآن، وفى مفتتح السور التي جاءت فيها ـ إن هذا أشبه (بالوحدة) التي يقوم عليها اللحن الموسيقى، والتي يسرى صداها في اللحن كله، من أوله إلى آخره، وإن تعددت أنغامه، وخفتت أو علت أصداؤه.! فليس من الضروري إذن أن يجتهد في البحث عن معنى لهذه الأحرف المقطعة، ولنا أن نحسبها مطلعا موسيقيا، تقوم عليه وحدة النغم في ترتيل آيات السور التي بدئت بحرف أو حرفين أو أكثر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/24.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1]، وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة.
2. مجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف: السور المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة في السور هي: أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه، ي، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها.
3. لا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء الحروف التهجي التي ينطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارئ: (ألف لام ميم) مثلا ولا يقول (الم)، وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يقوم رسم شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدوالّ ما يقرؤونها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها، وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها.
4. الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال.
5. عرفت اسميتها من دليلين:
أ. أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول: الألف، والباء.
ب. ومثل الجمع حين تقول الجيمات، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في (كتابه): قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كاف، باء، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه، وبه (يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفردا).
6. الذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخله وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولا ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بدا من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع:
أ. النوع الأول، يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة.
ب. النوع الثاني يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا.
ج. النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك.
7. يندرج تحت النوع الأول، وهو أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ثمانية أقوال:
أ. الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون اطلاع الله على المقصود منها رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقاله الشعبي وسفيان.
ب. الثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع بن أنس فألم مثلا الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد، ونحو ذلك، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به.
ج. الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والملائكة فألم مثلا، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، قاله الضحاك، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه.
د. الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة من كتابه (الفتوحات) أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر، ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.
هـ. الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن ملوكة التونسي في (رسالة) له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائه الكريمة وأوصافه الخاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر، فكلها منادى بحرف نداء مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس، ولم يعز هذا القول إلى أحد، وعلق على هذه (الرسالة) تلميذه محمد معاوية (تعليقة) أكثر فيها من التعداد، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد، ويردّ هذا القول التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهروه في يس مبني على قول من قال: إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء لأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من ﴿كهيعص ﴾ [مريم: 1]
و. السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمّل قاله أبو العالية أخذا بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب.. وليس في جواب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو تعجب من جهلهم.
ز. السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو: (الم) أنا الله أعلم، و(المر) أنا الله أرى، و(المص) أنا الله أعلم وأفصل.. رواه أبو الضحى عن ابن عباس، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها، ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلا من كلمات تتألف من تلك الحروف نظما ونثرا، من ذلك قول زهير:
بالخير خيرات وإن شرّ فا... ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تشا، فأتى بحرف من كل جملة، وقال الآخر (قرطبي):
ناداهم ألا ألجموا ألا تا... قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد بالحرف الأول ألا تركبون، وبالثاني ألا فاركبوا، وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم:
قلت لها قفي لنا قالت قاف... لا تحسبنّي قد نسيت الإيجاف
وفي (كامل المبرد) من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد:
وليس العجاجة والخافقا... ت تريك المنا برءوس الأسل
أي تريك المنايا، وفي (تلع) من (صحاح الجوهري) قال لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان... فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد درس المنازل، وقال علقمة الفحل:
كأن إبريقهم ظبي على شرف... مفدم بسبا الكتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان، وقال الراجز:
حين ألقت بقباء بركها... واستمر القتل في عبد الأشل
أي عبد الأشهل، وقول أبي فؤاد:
يذرين جندل حائر لجنوبها... فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أراد الحباحب، ووقع (طراز المجالس) للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس:
لم أنس بدرا زارني ليلة... مستوفزا مطلعا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار ما... قلت له أهلا وسهلا ومر
أراد بعض كلمة مرحبا.. وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مرّ من المرور.
ح. الثامن أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وجعلها في (الفتوحات) في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، فهذه الحروف هي شعب الإيمان، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها، وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفا دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون.. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: 60]، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.
8. يندرج تحت النوع الثاني وهو الذي يذكر أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا أربعة أقوال:
أ. التاسع، وهو لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في (كتابه) باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب (الكشاف) للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عين، والسحاب غين، والحوت نون، والجبل قاف، وأقوال، وحاء قبيلة من مذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر... فهلّا تلا حاميم قبل التقدم
يريد حم عسق [الشورى: 1، 2] التي فيها: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23]، ويبعد هذا القول بعدا ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل الم والر وحم، وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.
ب. العاشر، وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن، نحو الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1، 2]، والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: 1، 2].
ج. الحادي عشر، أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله مثل الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2] والمص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 1، 2].
د. الثاني عشر، قال الماوردي: هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد الم ذلِكَ الْكِتابُ أي نزل عليكم، ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص والمص والر ولولا غرابة هذا القول لكان حريا بالإعراض عنه.
9. تندرج في النوع الثالث، وفيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك هذه الأقوال:
أ. القول الثالث عشر: أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسما بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو: ن والْقَلَمِ [القلم: 1] وحم والْكِتابِ الْمُبِينِ [الزخرف: 1]، قال صاحب الكشاف: وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى: واللَّيْلِ إِذا يَغْشى والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تنفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين، قال النابغة:
والله والله لنعم الفتى ال... حارث لا النكس ولا الخامل
ب. الرابع عشر: أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، قال في (الكشاف) وهذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزلة، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في كهيعص [مريم: 1] والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: 1، 2] والم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1، 2] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي، ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتّاب طلبا للخفة كما سيأتي قريبا في آخر هذا المبحث من تفسير الم.
ج. الخامس عشر: أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن، والعراق مهد القراءة والكتابة.. قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز، وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها.
د. السادس عشر: أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يا فتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت: إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يقدّم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم.
هـ. السابع عشر: أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف.
و. الثامن عشر: أن الكفار كانوا يعرضون عن سماع القرآن فقالوا: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: 26] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد، قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر.
ز. التاسع عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
ح. العشرون: قال التبريزي: علم الله أن قوما سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها.
ط. الحادي والعشرون: روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني.
10. هذا جماع الأقوال، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لام. ميم دون أن يقرؤوا الم وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول، فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهيا، خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.
11. قال في (الكشاف): ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء(2)... وزاد البيضاوي على ذلك أصنافا أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها، ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حقّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف، وترك النصف من باب (وليقس ما لم يقل) لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة، وحقّ الإيجاز في الكلام. فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
12. كيفية النطق أن ينطق بها موقوفة دون علامات إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثة أربعة خمسه، وكحال أسماء الأشياء التي تملى على الجارد لها، إذ تقول مثلا: ثوب، بساط، سيف، دون إعراب، ومن إعرابها كان مخطئا، ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخر نطق به ساكنا نحو ألف، لام، ميم، وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نطق به في أوائل السور ألفا مقصورا لأنها مسوقة مساق المتهجّى بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلبا للخفة لأن التهجّي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدئ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعديد أو مأخوذة منه.
13. قد يجعل الناس فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأت: ﴿كهيعص ﴾ كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسما للقصيدة فيقولون قرأت: (قفا نبك) و(بانت سعاد) فحينئذ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حاميم كما قال شريح بن أوفى العنسي المتقدم آنفا:
يذكّرني حاميم والرّمح شاجر... فهلّا تلا حاميم قبل التّقدّم
وكما قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية... تأوّلها منّا فقيه ومعرب
14. لا يعرب ﴿كهيعص ﴾ [مريم: 1] إذ لا نظير له في الأسماء إفرادا ولا تركيبا، وأما طسم فيعرب إعراب المركب المزجى نحو حضرموت ودارابجرد وقال سيبويه: إنك إذا جعلت (هود) اسم السورة لم تصرفها فتقول قرأت هود للعلميّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو، ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب، فإن جعلتها حروفا للتهجي تعريضا بالمشركين وتبكيتا لهم فظاهر أنها حينئذ محكية ولا تقبل إعرابا، لأنها حينئذ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّئ السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها، أو يطرح، أو يقسم، فلا إعراب لها مع ما يليها، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصود لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجّى الحروف لمن ينافي حاله أن يقصد تعليمه يتعين من المقام أنه يقصد التعريض، وإذا قدّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسما بها فقيل إن لها أحكاما مع ما يليها من الإعراب بعضها محتاج للتقدير الكثير، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير.
15. هاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة، بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور القراء، وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدّوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب (الكشاف) إن هذا لا دخل للقياس فيه، والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم؛ لأن الدليل مفقود، والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالة المطابقة في هذه الحروف تقديرية إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام.
16. يدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرؤونها إذا قرؤوا الآية المتصلة بها، ففي (جامع الترمذي) في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم فنزلت: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ [الروم: 1، 2]، وفيه أيضا: (فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ وفي (سيرة ابن إسحاق) من رواية ابن هشام عنه: (فقرأ رسول الله على عتبة بن ربيعة: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ حتى بلغ قوله: ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 1 ـ 13] الحديث.. وعلى هذا الخلاف اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/204.
(2) سبق ذكر قوله.
أبو زهرة
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ابتدئت السورة بهذه الحروف التي ينطق بها، فيقال: ألف لام ميم، وكذلك ابتدئت عدة سور بهذه الحروف التي ينطق بها مفردة حرفا حرفا، وهذه الأولى، وقد أعقبت الحروف بذكر الكتاب وشرفه، وجاءت سورة آل عمران مبتدأة بهذه الأحرف نفسها ﴿أَلَمْ﴾ [آل عمران] وعقبها ذكر جلال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران].. ثم كانت سورة الأعراف مبتدأة بمثل هذه الأحرف وهى ﴿المص﴾ وذكر بعدها الكتاب، وهو قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف].. وكانت سورة يونس مبتدأة بحروف مفردة، وهى ﴿الر﴾ [يونس] وذكر بعدها الكتاب وآياته فقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس]، وجاءت سورة هود مبتدأة أيضا بهذه الحروف ﴿الر﴾ [هود] وذكر بعدها الكتاب، فقال تعالى بعدها: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود].. وسورة يوسف ابتدئت أيضا بهذه الحروف ﴿الر﴾ [يوسف] وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى عقبها: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [يوسف].. وجاءت أيضا سورة الرعد مبتدأة بهذه الحروف المفردة ﴿المر﴾ [الرعد] وقد ذكر بعدها الكتاب الكريم فقال تعالى عقبها: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الرعد].. وابتدئت سورة إبراهيم بهذه الأحرف المفردة فقال تعالى: ﴿الر﴾ [إبراهيم]، وجاء بعدها ذكر الكتاب فقال تعالى بعدها: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم].. وجاءت سورة الحجر مبتدأة بحروف مفردة وهى ﴿الر﴾ [الحجر] وذكر بعدها الكتاب فقال تعالى عقبها: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر].
2. جاءت سورة مريم مبتدأة بخمسة حروف وهى ﴿كهيعص﴾ [مريم]، ولم يذكر بها (القرآن) عقب هذه الحروف، ولكن ذكّرت برحمة الله تعالى على زكريا، فقال تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ﴾ [مريم]، وقد ذكر (الكتاب) في عدة مواضع بعد ذلك في السورة، فكان يأمر الله تعالى بذكره عند ذكر القصص عن أنبياء الله تعالى، فإذا كان (الكتاب) لم يذكر في الكتاب الكريم عقب هذه الحروف، فقد تكرر ذكره تعالت كلماته في مواضع مختلفة بعد ذلك.
3. جاءت سورة (طه) وإذا لم نعتبر كلمة طه [طه] اسما فإنها تكون حروفا مجردة، وذكر بعدها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ [طه].. وجاءت سورة الشعراء مبتدأة بحروف ثلاثة ﴿طسم﴾ [الشعراء] وجاء عقب هذه الحروف ذكر القرآن ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء].. وابتدئت سورة النمل بحرفين هما ﴿طس﴾ [النمل]، وجاء ذكر القرآن بعدها فقال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل].. وابتدئت سورة القصص بثلاثة أحرف ﴿طسم﴾ [القصص] وجاء بعدها ذكر القرآن الكريم، فقال تعالى عقب الحروف: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [القصص].
4. جاءت سورة العنكبوت مبتدأة بهذه الحروف ﴿أَلَمْ﴾ [العنكبوت] وجاء بعدها اختبار الناس وهو قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت].. وجاءت سورة الروم مبتدأة بالحروف ﴿أَلَمْ﴾ [الروم] ثم ذكر بعد ذلك انهزامهم ثم انتصارهم ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم].
5. جاءت سورة لقمان مبتدأة بالحروف ﴿أَلَمْ﴾ [لقمان] وذكر بعدها الكتاب: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [لقمان].. وجاءت سورة السجدة مبتدأة بهذه الحروف ﴿أَلَمْ﴾ [السجدة] وعقبت بذكر الكتاب ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السجدة].. وابتدئت سورة يس بحرف الياء والسين ﴿يس﴾ [يس]، وذكر بعد الحرفين القرآن الكريم، وذلك إذا لم تعد اسما.. وجاءت سورة ص مبتدأة بالحرف ﴿ص﴾ [ص]، وجاء ذكر القرآن الكريم فقال تعالى عقب هذا الحرف: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص].. وابتدئت سورة غافر بحرفين ﴿حم﴾ [غافر]، ذكر بعدها القرآن فقال تعالى عقبها: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر].. وابتدئت فصلت بالحرفين: ﴿حم﴾ [فصلت] وعقبت بقوله تعالى عن الكتاب: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت].. وابتدئت سورة الشورى بخمسة أحرف، وهى ﴿حم عسق﴾ [الشورى] وجاء بعدها ذكر لنزول القرآن فقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى].. وابتدئت سورة الزخرف ب ﴿حم﴾ [الزخرف] وعقب الله تعالى هذين الحرفين بقوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الزخرف].. وابتدأت سورة الدخان بحرفى ﴿حم﴾ [الدخان] ثم جاء بعد ذلك ذكر القرآن فقال تعالى عقبها: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان].. وابتدأت سورة الجاثية بحرفى ﴿حم﴾ [الجاثية]، وعقبها الله تعالى بتنزيل القرآن فقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الجاثية].. وابتدئت سورة الأحقاف بالحرفين ﴿حم﴾ [الأحقاف] وذكر الله تعالى بعدهما القرآن، فقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الأحقاف].. وابتدئت سورة ﴿ق﴾ [ق] بحرف ـ وجاء بعده القسم بالكتاب ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق].
6. ابتدئت سورة القلم بحرف ﴿ن﴾ [القلم] وجاء بعدها ذكر القلم فقال تعالى: ﴿وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم] وفيه إشارة إلى الكتاب الكريم.. هذه هي السور التي ابتدئت بالحروف المفردة.
7. من هذا الإحصاء يتبين:
أ. أولا ـ أن السور التي صدّرت بهذه الأحرف سور مكية نزلت بمكة ما عدا ثلاث سور هي البقرة، وآل عمران، والرعد، فإن هذه السور الثلاث مدنية، بينما الباقي مكى نزل بمكة حيث كان أكثر التحدي بالقرآن الكريم، وإن كان هناك تحدّ به فى المدينة؛ لأنه المعجزة الدائمة التي يتحدى بها المنكرون في كل الأحيان والعصور ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء]
ب. ثانيا: أن السور التي صدّرت بهذه الحروف ذكر الكتاب بعدها، مما يدل على أن للكتاب الكريم صلة بالابتداء بهذه الحروف، وثلاث سور فقط هي التي لم يأت ذكر للكتاب عقبها، وهى سورة مريم، فلم يذكر الكتاب عقب الحروف، وإن جاء ذكره بعد ذلك في مناسبات أخرى، وكرر ذكره بهذه المناسبات، وسورة العنكبوت فإن ذكر القرآن لم يعقب الأحرف، وكذلك سورة الروم، وما عدا هذه السور الثلاث ذكر القرآن الكريم في أعقابها.
ج. ثالثا: أن عدد الحروف التي ابتدئت بها السور أربعة عشر حرفا، وهى نصف الحروف الهجائية، وهى تشتمل على أنواع مخارج الحروف المختلفة، وهذه الحروف هي الألف، واللام، والميم، والصاد، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والراء، والسين، والطاء، والحاء، والقاف، والنون، ولا يحفظها ويقرؤها إلا من يعرف القراءة والكتابة، فالأمي لا يعرفها وإن عرف بعضها، لا يعرفها كلها، وإلا كان قارئا كاتبا؛ ولذلك هي في القرآن على لسان النبيّ الأمى من دلائل إعجازه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت].
8. بتتبع السور الكريمة التي صدرت بهذه الحروف التي قدسها الله سبحانه وتعالى بذكرها، وإعقاب القرآن في أكثرها بها يدل على الارتباط الوثيق بينها وبين القرآن الكريم؛ لأنه اشتمل عليها، ولأنها تشير إلى مقامه وإعجازه ومنزلته في هذا الوجود الإنساني وإن كانت معانيه المحررة مستورة عنا، وهى في علم الله تعالى المكنون، ولكن لها إشارات توحى إلى معان عالية، تليق بتصدّرها لكثير من سور القرآن، هذا ما نشير إليه إجمالا ونعرض له ببعض التفصيل.
9. روى عن أبى بكر وعلى أنهما قالا: إن هذه الحروف التي ابتدئت بها السور هي سر الله تعالى في الكتاب، ولله تعالى في كل كتاب سر، وتبعهما في هذا القول عامر الشعبي وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين، بل قاله أكثر علماء السلف، وهى من المتشابه الذي اختص به علم الله تعالى، وروى عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة في أوائل السور من المكتوم الذي استأثر به علم الله تعالى، وروى عن الرّبيع ابن خيثم، أنه قال إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه، وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، وما بكل ما تعلمون تعملون.
10. إن هذه المأثورات عن كبار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهى تدل على أن هذه الحروف من المتشابه الذي لا يعلم به أحد إلا الله تعالى، وعلينا أن نكف عما لا نعلم، عملا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء].
11. لكن العقل طلعة يحاول تعرّف المجهول أو المكتوم، وكلما كان الإبهام كان تعرّف كشفه، ولذلك حاول علماء أن يعرفوا سر وجود هذه الحروف وإن لم يعرفوا حقيقة المراد منها، وقالوا في ذلك أقوالا أربعة؛ ثلاثة منها متلاقية في صوابها وواحد حاول تفسيرها، فأخطأ فيما قصد:
أ. أولها: أن بعضهم حاول تفسيرها بأنها رموز للذات العلية، أو أنها رموز لله ولآخرين، فقال قائل إن ﴿أَلَمْ﴾ ترمز إلى أن الله يقول أنا الله أعلم، فالألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، وقالوا: ﴿أَلَمْ﴾ أنا الله أرى، وقال بعضهم: فى ﴿أَلَمْ﴾ : إن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، وقيل الألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح لطيف، والميم مفتاح مجيد، وكل هذه التفسيرات ظنون، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا، ولم يرد واحد منها عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو وردت عنه لقبلناها صاغرين ولخرجت من المتشابه إلى المحكم)(2).
ب. ثانيها: ليس تعرفا لمعانيها، ولكنه تعرف لسر وجودها، أو لبعضها، وذلك بيان لإعجاز القرآن مع أنه مكون من حروفهم التي تتكون منها كلماتهم، ومع ذلك يعجزون عن أن يأتوا بمثله في تأليف نغمه، وسياق معانيه، وتآلف ألفاظه وفواصله، فهذا يدل على أنه من عند الله ويدل على عجزهم عن أن يأتوا بمثله)(2).
ج. ثالثها: وهو كسابقه يدل على بعض أسرار وجودها، ولا يتعرض لذات معانيها، وهى أنها تدل على نزول القرآن من عند الله تعالى، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأت به من عنده، لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فهو النبيّ الأمى، والأمي ينطق بالكلمات ولا يعرف الحروف، فمجيء الحروف على لسانه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى حروف كثيرة، هي نصف عدد الحروف الهجائية، وهى متنوعة المخارج، وتشمل المخارج كلها، وإن لم تشتمل كل عددها، إن هذا دليل على أنها من عند الله عالم الغيب والشهادة، الذي علّم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم)(2).
د. رابعها: وهو كسابقيه فيه بيان سر وجود هذه الحروف، وذلك أن العرب المشركين كانوا يحسّون بأثر القرآن في نفوسهم إذا سمعوه، حتى أنهم قد تفاهموا على ألا يسمعوه ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت]، فكانوا يحاولون ألا يسمعوا، فكانت تلك الحروف الصوتية التى تبتدأ بها السور الكريمة إذا قرئت مرتلة مجودة تسترعى أسماعهم، ويستغربون، وقد يستنكرون، وبينما هم في استغرابهم وعجبهم، يهجم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقرآن ونغماته، وجميل ألفاظه، ورنة موسيقاه، فيخضعون للسماع، وينقضون ما أبرموا من قبل، فهذه الحروف كانت ليستغربوا ويفتحوا أسماعهم، ويسمعوا.
وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها بيان لسر وجود هذه الحروف، والله بكل شيء عليم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/92.
(2) زهرة التفاسير: 1/98.
فضل الله
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَلَمْ﴾ من الحروف المقطعة التي ابتدأت بها أكثر من سورة في القرآن، وقد قال المفسّرون في معناها آراء عدة نذكر منها:
أ. الرأي الأول: إنّها من الرموز والأسرار التي تعبّر عن تاريخ معيّن تنتهي فيه الدنيا، أو تتمثّل فيه بعض الحوادث، وذلك على أساس حساب الحروف الأبجدية الذي يجعل لكل حرف منها رقما معينا يعبّر عن عدد معيّن.. ولا نوافق على هذا الرأي، لأنّ القرآن لم يتنزّل ليتّجه مثل هذا الاتجاه المتكلّف في التعبير عن الحوادث والأشياء، وبالتالي ليربط الناس بأسرار وألغاز ومعميات يختلف الناس في فهمها؛ لأن ذلك لا يحقّق أيّ هدف للمعرفة وللهدى الذي اتبعه القرآن ليشقّ طريقه في الحياة.
ب. الرأي الثاني: إنّها لإثارة انتباه الناس إلى الآيات التي يريد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقرأها عليهم؛ فقد كان المشركون ـ في ذلك الوقت ـ يعملون على إثارة الضوضاء واللّغو عند قراءة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للقرآن، ليمنعوا الآخرين من الاستماع إليه، فجاءت هذه المفردات غير المألوفة لديهم لتؤدّي دورها في إثارة الانتباه من خلال غرابتها على أسماعهم، لأنّها ليست من النوع الذي تعارفوا عليه، فليس لها مدلول معيّن ومضمون واضح، ومن هنا، يبدأ التساؤل الداخلي الذي يهيّئ النفس لانتظار ما بعدها لتستوضح معناها من خلال ذلك، وتتحقّق الغاية من ذلك في سماعهم لآيات الله.. ولا نمانع في معقولية هذا الرأي وانسجامه مع الأجواء العدائية التي كان المشركون يثيرونها أمام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا حدّثنا القرآن الكريم عنه في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: 26]، ولكن ذلك كان موقف المشركين في مكة، بينما يغلب على السور التي اشتملت على هذه الكلمات الطابع المدني في نزولها على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي المدينة لم تكن هذه الأجواء مثارة، لأن المشكلة لم تكن مطروحة هناك، فلا يصلح هذا الرأي لتفسير هذه المفردات.
ج. الرأي الثالث: ما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان حيث قال: إنّ بين هذه الحروف المقطّعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا، ويؤيد ذلك ما نجد أنّ سورة الأعراف المصدرة بـ ﴿المص ﴾ في مضمونها، كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص، وكذا سورة الرعد المصدّرة ب ﴿المر﴾ في مضمونها، كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات، ويستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم خفيت عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها، إلّا بمقدار أن نستشعر أنّ بينها وبين المضامين المودعة في السورة ارتباطا خاصا.. ونلاحظ على ذلك، أن هذا الرأي لا يملك أيّ وضوح للمضمون الذاتي لهذه الحروف، لأن الارتباط الذي يتحدث عنه لا دليل عليه إلا بالاستشعار الذي لا يوحي بأيّة فكرة معيّنة، وقد نتساءل: ما هي الحكمة في تنزّل رموز خفيّة بين الله ورسوله، لا يملك الناس أن يفهموها، ولا يعمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن يشرحها لهم، في الوقت الذي كان القرآن فيه منزّلا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى الناس لأنه ذكر له ولقومه وللعالمين.
د. الرأي الرابع: إن الله سبحانه وتعالى تحدى الناس بالقرآن، وبالغ في التحدي بطرق متنوّعة، فأراد أن يبيّن لهم أن هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله، لم يكن مؤلفا من حروف يجهلونها، لأن المادة الخام التي صنع منها القرآن موجودة بين أيديهم، وهي هذه الحروف المتنوعة المعلومة لديهم: فإذا كانت عندهم القدرة على صنع مثل هذا القرآن، فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم، ولعلّ هذا من أبلغ أنواع التحدّي، تماما كما تواجه إنسانا واقفا أمام مبني ذي شكل هندسي متقن، فتقول له: هل تستطيع أن تبني مثل هذا؟ ثم تعقب على ذلك بأن المواد جاهزة إذا كنت تملك الفكر الهندسي والممارسة الفنية. إنه سيقف عاجزا من موقع عظمة هذه الهندسة وجهله بأصولها الفنية.
2. قد يكون الرأي الرابع هو أقرب التفاسير إلى الفهم، وينسب إلى الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليه السّلام الإمام الحسن العسكري عليه السّلام، برغم أنه لم تثبت صحة نسبته إليه لعدم وثاقة رواته، ولكن من الممكن أن ينسجم مع طبيعة الموقع الذي وردت فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم، ففي هذه السورة عندما تلتقي بكلمة: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فربما تفهم منها أن هذا الكتاب الكامل في كل شيء، مصنوع ومؤلف من هذه الحروف، فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته، فهذه الحروف أمامكم، فاصنعوا منها ولو سورة ممّا تشاؤون.. وقد يتأمّل المتأمل في هذا الرأي، فلا يجد في بعض المواضع القرآنية ما ينسجم معه، أو لا يلمح مثل هذا التوجيه فيما قدمناه من تفسير، ولكن المهم أن التفسير يتحرّك في مثل هذه الأجواء؛ فإن استطعنا أن نقرّبها إلى أذواقنا، وإلا فحسبنا أن نرجع علمها إلى الله والراسخين في العلم، فتكون مما استأثر الله بحقيقة علمه، ضاربين صفحا عما يخوض فيه المفسرون من متاهات الاحتمالات التي لا تستند إلى أساس صحيح.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/100.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَلَمْ﴾ هذه الأحرف من حروف المعجم، هي أسماء للحروف التي ينظم منها الكلام، ف (ألف) اسم للألف في (قال) و(دعا) ونحو ذلك، و(لام) اسم للام في (قال) ونحوها، و(ميم) اسم للميم في (محمد) ونحو ذلك.
2. جاء في القرآن الكريم ذكر هذه الثلاثة الأحرف كثيراً، فقد ذكر ألف لام أربع عشرة مرة؛ ست مرات مع الميم، والسابعة مع الميم والصاد، وست مرات مع الراء، والسابعة مع الميم والراء، وذلك في ﴿أَلَمْ﴾ ﴿المص ﴾ ﴿الر﴾ ﴿المر﴾ وذكرت الميم سبع مرات في ﴿أَلَمْ﴾ و ﴿المص ﴾ ومرة في ﴿المر﴾ وسبعاً في الحواميم، ولعل سبب ذلك ـ والله أعلم ـ كثرة هذه الأحرف في الكلام، فجاءت كافية عن ذكر الأحرف كلها، وهذا حيث جاءت لقصد التعجيز بآيات الكتاب المركبة من حروف المعجم التي ينطق بها العرب، فكأنه يقول: هذا القرآن هو أحرف من الأحرف التي تتكلمون بها في كلامكم، فما لكم لا تأتون بسورة من مثله إن كنتم في ريب منه!؟ فسرد بعض الأحرف إشارة إلى كلها وأكثر منها لهذا الغرض ما هو أكثر وروداً في الكلام، لكونه أوضح وأقرب لفهم الأميين، وكذا حيث جاءت هذه الأحرف في أول بعض السور للدلالة على أن الله تعالى أوحى هذا القرآن كلاماً حقيقياً مؤلّفاً من الأحرف من شأنه أن يسمع ويكتب، تحقيقاً لكونه من الله أنزله على عبده ورسوله أوحاه كلاماً كما نسمع ونرى، لا أنه تقوّله، ولا كان مجرد إلهام للمعنى دون القول وحروفه، ولم نعرف من أسرار هذه الأحرف أكثر من هذا ولا ننفي ما جهلناه.
3. ما ينسب إلى القرآن الكريم من المعاني الباطنة على ثلاثة أقسام:
أ. قسم يتوصل إليه علماء الدين المهتدون بهدي القرآن، يتوصلون إليه بالظاهر من دلالات القرآن.
ب. وقسم يتوصلون إليه بالدلائل العقلية، وهو لاحق بالأول أو بالقرائن الظاهرة من ظروف نزول القرآن أو من مناسبة مقاصد القرآن المعروفة بالممارسة في التفسير.
ج. وقسم يدَّعَى بالإلهام دون أن يتوصل إليه بدليل، فهذا مردود ولا تسمع دعواه ولا سيما إذا خالف الظاهر كما تدعيه الباطنية؛ لأنه لا دليل عليه، ولأن الله أنزل القرآن للناس بلسان العرب ليعقلوه كلهم ولم يخص به شيخاً ولا إماماً كما هو معلوم من دين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يجوز أن يخاطب الله سبحانه عباده بما يفهمونه وهو غير مراد، بل المراد خلافه أو ضده، هذا لا يصدر من حكيم ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ [التين: 8].
4. الدليل على إرادة تحقيق أن الله تعالى أوحى الكتاب كلاماً مؤلفاً من الأحرف أو التعجيز، فإنه يظهر من اقتران الأحرف بما يدل على ذلك في بعض المواضع، مثل قوله تعالى: ﴿حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الشورى: 1 ـ 3] ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [يونس: 1] ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [يوسف: 1] ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ [الرعد: 1] ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 1] ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الشعراء، القصص: 1 ـ 2] ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 1] ﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ [لقمان: 1 ـ 2].
5. اختار الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في (الأساس) أن هذه الأحرف جاءت في أوائل بعض السور للقسم بها، واحتج لذلك بأن القسم مفهوم في مثل قوله تعالى: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس: 1 ـ 3] وقوله تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1] ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم: 1] فجعل القسم بالأحرف وبالقرآن، وقدّر حرف القسم قبل الأحرف وجعل الواو المذكورة عاطفة، وليس بعيداً أن يقسم الله بالأحرف التي أنطق الإنسان بها؛ لأنها من دلائل قدرة الله وعلمه، ومن نعم الله العظمى على الإنسان.
6. ما ذكرته من إرادة التعجيز أو تحقيق وحي القرآن كلاماً مؤلفاً من الحروف، إنما يترجح في بعض المواضع ولا يقاس عليه بقيتها، فالمحقق أنها اسم لمعناها المفهوم عند العرب الذي تبنى منه الكلمات، فأما فوائدها وأسرارها فموكول إلى من علّمه الله، قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (الرّد على ابن المقفّع): (ثم عمد ـ أي ابن المقفع ـ إلى سرّ أسرار القرآن، وأعجب عجائب سر القرآن من الرايات والحواميم وما ذكر فيه من قاف والم وطسم، فعدّ علمها جهلاً، وظن مصون عجيبها مبتذلاً، وأراد ويله علم سر أنبائها، وما طواه الله إلاَّ عن الأصفياء في إيحائها، وكَلاَّ لم يجعله الله لعلمها أهلاً، ولم يجعل قلبه العميّ لها محلاً، بل أخفاه الله وزمّله ولم يعطه إلاَّ أهله) المراد، وفي الأم: إنبائهما وإيحائهما بالتثنية، ولكن من الواضح أنه غلط.. وقال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتاب (مديح القرآن الكبير) من مجموعِهِ عليه السلام في مدح القرآن: (كيف بما في حواميمه من غرائب حكمه، وما في طواسينه [من] عجائب مكنونه، وما في ق، وطه، ويس، من علم جمّ للمتعلمين)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/47.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَلَمْ﴾ كلمات تسرد سردا غير مركبة تركيب الجمل، افتتحت بها هذه السورة، وشقيقتها ثانية الزهراوين من السور المدنية، كما افتتحت بها وبنظائرها من قبل سبع وعشرون سورة مكية، وهي كلمات ذات غرابة طبعا، إذ لم يكن مألوفا أن تسرد هذا السرد في غير التهجي، ومع ذلك لم تكن العرب على معرفة بالقراءة والكتابة إلا قليلا منهم فلا غرو إذا لم يكن جمهورهم بحاجة إلى معرفة هذه المصطلحات في تسمية الحروف التي تتكون منها كلماتهم لأن السليقة كانت هي الينبوع لبيانهم، وبديهي أن تختلف الآراء وتتعدد الأقوال في تحديد مقاصد هذه الكلمات، واستظهار معانيها.
2. مهما يكن فإن هذه الفواتح وأمثالها هي أسماء ومسمياتها الحروف الهجائية التي تتركب منها المفردات، وهذا واضح الانطباق حد الاسم عليها، ولأنها تعتورها علاماته كالتعريف والإسناد، والجمع والإضافة والجر، ووصفها بالحرفية لا يعدو أن يكون مجازا، لأن مدلولاتها ـ وهي حروف الهجاء ـ حروف. وإيضاح ذلك أن الباء ـ مثلا ـ اسم، ومسماه أول حرف من بان وباع، وأوسط حرف من جبن وقبع، وآخر حرف من ضرب وجرب، فإذا أردت النطق بالمسمى وحده وهو الحرف، قلت (به) بإدخال هاء السكت، وقس على ذلك سائرها، ولا يرد على ذلك ما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححاه عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف)
3. الاصطلاح على تقسيم أنواع الكلام إلى اسم وفعل وحرف اصطلاح طارئ لا يحمل عليه الكلام النبوي الشريف، وقد كانوا قبل حدوث هذا الاصطلاح يطلقون الحرف على الحروف البسيطة، التي يتركب منها الكلام، وهي مسميات هذه الكلمات كما قلنا، وربما أطلقوه تجوزا على نفس الكلمات، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد بقوله: (لا أقول ألم حرف...) الخ، دفع ظن التجوز، والظاهر ما حرره بعض المفسرين أن المراد من الحديث بيان أن الحسنات على تلاوة القرآن تكون بحسب حروفه المكتوبة إذ لو كانت بحسب النطق لعدت (ألف) ثلاثة أحرف، ويؤيده ما في رواية الترمذي والدارمي من زيادة: ) والذال حرف والكاف حرف) فأت الذال بمدها تتولد.
4. معانيها في طلائع السور اختلف فيها المفسرون سلفا وخلفا، ونستطيع أن نرد آراءهم إلى موقفين:
أ. موقف الذين تهيبوا من الخوض في معانيها حذرا من الانزلاق، لأنهم عدوه من التقول على الله بغير علم، وليس الموقف بالهين، فالكلام كلام الله، ونسبة ما لم يرده تعالى إليه كنسبة ما لم يقله.
ب. وموقف الذين تجاسروا على القول فيها بحسب ما توحي بها القرائن وترشد إليه الدلائل، ولم نعثر في هذه الفواتح على شيء يعزى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تفسيرها ولو من وجه ضعيف، ولو حصل وثبت لتبخر النزاع، وزال الشقاق لوجوب التسليم له عليه افضل الصلاة والسلام فهو أعلم بالتنزيل ومقاصده، والتأويل وطرائقه، ولكلا الفريقين حجة يستندون إليها.
5. استدلّ من لا يرى الخوض في معانيها من المعقول بأن الله سبحانه تعبدنا بأعمال منها ما نعرف حكمته، ومنها ما لا نعرف، فالصلاة والزكاة والصوم كلها عبادات ذات أثر واضح، ومنفعة بينة في حياة العابد الشخصية والاجتماعية، فإن الصلاة بما فيها من تذكير بالله وقدرته وسلطانه ومنته وإحسانه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تسد بها حاجات الفقراء، وتنتزع من قلوبهم كراهة الأغنياء مع أثرها الطيب في نفس المزكي، عندما تطهرها من رجس شهوة المال، فمنفعتها عائدة على الجانبين، والصوم وسيلة للحد من طغيان الشهوة، وكسر شوكتها، ورد جماحها، مع ما فيه من تذكير الأغنياء بآلام البؤساء الجائعين.. وبجانب هذه العبادات ذات المنافع المقولة، والحكم الواضحة، ثم عبادات أخرى لا سبيل لنا إلى استظهار حكمتها، كرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة، والرَّمل والاضطباع، وكما كان لائقا بحكمة الله أن يأمر عباده بالنوع الأول يليق بحكمته كذلك الأمر بالنوع الثاني من غير خلاف، وقد يكون الامتثال في هذا النوع أدل على الإذعان والطاعة، لأن فاعله لا يدرك له حكمة، ولا يلمس منه منفعة عاجلة، بخلاف النوع الأول، إذ ليس من المستحيل أن يكون إتيانه لمعرفته بمنفعته، وإذا جاز ذلك في التعبد العملي، فلم لا يجوز في التعبد القولي؟ وهو أن يأمرنا الله أن نعبده تارة بما نفهم معناه من الكلام، وتارة بما لا نفهم، ليتجلى الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، هذا بجانب كون غموض المعنى من اللفظ داعيا إلى الالتفات إليه، والتعلق به، والتفكر فيه خصوصا عندما يعلم أنه صادر من أحكم الحاكمين، وهذا التعلق باللفظ هو في حقيقته تعلق بالله عز وجل، الذي أنزله بعلمه، وذلك هو عين الذكر وروح العبادة.
6. استدلّ من لا يرى الخوض في معانيها من المنقول بدلالة القرآن نفسه على انقسامه إلى محكم ومتشابه، وجاء فيه عن المتشابه ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ والوقف هنا ضروري لأسباب:
أ. أحدها: أنه لو عطف الراسخون في العلم على اسم الجلالة للزم إما انقطاع ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ عما قبله وهو غير جائز لعدم إفادته، وإما رجوعه إلى المعطوف والمعطوف عليه، فيترتب عليه أن يكون الحق تعالى قائلا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، واعتقاد ذلك عين الكفر ورأس الضلال.
ب. ثانيها: إن مدح الراسخين في العلم بإيمانهم به دليل على انه يختلف عن المحكم الذي فهموه، ولو كانا سواء في فهمهم لما كان لهذا التخصيص معنى.
ج. ثالثها: نسبة الزيغ إلى الذين يريدون تأويله ولو كان كالمحكم لكان طلب معرفته موجبا للمدح لا للذم.
7. استدلّ من يرى الخوض في معانيها من المعقول من وجوه:
أ. أحدهما: أنه لو تعذرت معرفة شيء من القرآن على إفهام الأمة ما كانت لإنزاله فائدة، وكانت مخاطبة الناس به كمخاطبة العربي بالأعجمية، أو الأعجمي بالعربية
ب. ثانيها: أن الخطاب إنما الخطاب يوجه إلى المخاطبين لأجل الافهام، فإن تعذر فهمه عليهم جميعا فهو عبث وسفه لا يليق بمقام الربوبية.
ج. ثالثها: أن القرآن متحدى به ولا يتحدى إلا بالمعلوم.
8. استدلّ من يرى الخوض في معانيها من المنقول:
أ. بقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ فإن التوبيخ على عدم تدبره لا يكون إلا لأن تدبره مطلوب، وهو دليل إمكان فهمه، إذ لو كان متعذر الفهم ما كانت في تدبره فائدة، وفي معنى ذلك قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾، ومن البديهي أن معرفة سلامته من التناقض تتوقف على فهم جميع معانيه.
ب. وقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾، فإن الإنذار يتوقف على فهم المنذرين بما أنذروا به، وهذه الآيات دالة على أن الإنذار بجميع التنزيل، فليس من المعقول أن يكون منه ما لا يفهم معناه، ويزيد ذلك تأكيدا ووضوحا قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾، ومن المعلوم أن العرب أول من خوطبوا به، وهو بلسانهم المبين، ولو لم تصل أفهامهم إلى شيء منه لكان في ذلك ما يدعوهم إلى رفضه، والطعن في وصفة بالإبانة، فإن هذا الوصف يتنافى مع بقاء شيء منه غامض المعنى.
ج. وقوله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، فإن الاستنباط يتوقف على الإحاطة بالمعنى.
د. وقوله: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾، وقوله: ﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾، وقوله: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾، وقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾، وغير هذه من الآيات الدالة على أن القران ميسر فهمه، واضح معناه، مبشر ومنذر، وهاد إلى طريق مستقيم.
9. أمثال هذه الحجج التي استند إليها كلا الفريقين ليس فيها ما يقطع به صحة أحد الرأيين، فتبقى المسألة مجالا للاجتهاد، ومن تجاسر على الخوض في تفسير هذه الفواتح ليس له أن يقطع بأن ما قاله هو عين المراد بها، فإن غاية ما في أقوال الخائضين في تفسيرها، الاستناد إلى قرائن قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، وإنما يستأنس بجواز فهم معانيها بعدم وجود ما يدل على استنكار العرب الجاهلين لها مع قراءة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن عليهم، بل أثر ما يدل على تأثر بعضهم مع سماع سورة مفتتحة بها، وهو عتبة بن ربيعة، الذي أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعرض عليه عروضا في مقابل تنازله عن دعوته، فأسمعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سورة (فصلت)، فلما وصل إلى قوله عز وجل: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾، وضع يده على في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إشفاقا من نزول العذاب، وانصرف إلى قومه طالبا منهم أن يكفوا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يذكر أنه استنكر شيئا مما سمعه.
10. نسب ابن عطية وأبو حيان والزمخشري جواز تفسيرها إلى الجمهور ونسبه الفخر إلى المتكلمين، وهؤلاء اختلفوا في المراد بها على نحو مائة قول أكثرها ليس له قسط من الدليل، بل مسحة كذب أهل الكتاب ظاهرة على كثير منها، ورد العلامة ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) هذه الأقوال بعد حذف متداخلها وتوحيد مشاكلها، إلى عشرين قولا.
__________
(1) تفسير الخليلي: (2/47) .
الشيرازي
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف ـ كما هو واضح من اسمها ـ لا تشكل كلمة مفهومة.
2. هذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، وأضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.
3. جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن، ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والاستهزاء، وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا جاهلين تماما بأسرار وجود الحروف المقطعة.
4. اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عددا من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال، وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف.
5. أهم هذه التفاسير أن هذه الحروف إشارة إلى أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميّته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع، ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإن ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.. وفي القرآن من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى على أحد، وليس هذا مجرّد ادّعاء، فخالق الكون تحدّى بهذا الكتاب جميع (الجن والإنس)، ليأتوا بمثله ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾، ولكنهم عجزوا جميعا عن ذلك، وتلك دلالة على أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.. وكما إن الله تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص مدهش معجز، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.
أ. الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام حيث يقول: (كذّب قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال الله: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ : أيّ يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها الف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين)
ب. وثم شاهد آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام في قوله: (ثمّ قال إنّ الله تبارك وتعالى انزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثمّ قال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾ .
6. هناك ملاحظة تؤيد هذا، وهي أن هذه الحروف في السور الأربع والعشرين، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، وهذا يدل على الارتباط بين الحروف المقطعة وعظمة القرآن.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/69.
2. الكتاب وصفات المتقين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈2⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 2 ـ 5]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ نور للمتقين(2).
3. روي أنه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ هم المؤمنون(3).
4. روي أنّه قال: الإيمان: التصديق(4).
5. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، أما الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم(5).
6. روي عن الحارث بن قيس، أنه قال لابن مسعود: عند الله نحتسب ما سبقتمونا به ـ يا أصحاب محمد ـ من رؤية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال ابن مسعود: عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم تروه، إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إلى قوله: ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾(6).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٣٢.
(2) ابن جرير: ١/٢٣٤.
(3) ابن جرير: ١/٢٣٨.
(4) ابن جرير: ١/٢٤٠.
(5) ابن جرير: ١/٢٤١.
(6) سعيد بن منصور.
أبو الدرداء:
روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) أنّه قال: الريب: الشك من الكفر(1).
__________
(1) أحمد في الزهد: ص١٤١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ هذا الكتاب(1).
2. روي أنه قال: معناه: ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوحيه إليك(2).
3. روي أن نافع بن الأزرق سأله: أخبرني عن قوله عز وجل: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت ابن الزبعري وهو يقول(3).:
ليس في الحق يا أمامة ريب... إنما الريب ما يقول الكذوب
4. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه(4).
5. روي أنه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ للمؤمنين الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعتي(5).
6. روي أنه قال: أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدقون(6).
7. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ما غاب عنهم من أمر الجنة والنار، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول(7).:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا... يصلون للأوثان قبل محمد
8. روي أنه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يقيمونها بفروضها(8).
9. روي أنه قال: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها(9).
10. روي أنه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ الصلوات الخمس(10).
11. روي أنه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يؤدون الزكاة احتسابا لها(11).
12. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ زكاة أموالهم(12).
13. روي أنه قال: أما ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ : فهم المؤمنون من العرب(13).
14. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ : المؤمنون من أهل الكتاب(14).
15. روي أنّه قال: أما ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ فهم المؤمنون من العرب، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ : المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ الآية(13).
16. روي أنه قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، أي: بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، أي: لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك(11).
17. روي أنه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم(15).
18. روي أنّه قال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا(16).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٢٩.
(2) تفسير الثعلبي: ١/١٤١.
(3) الدرّ المنثور: الطستي في مسائله، الإتقان: ٢/١٠٣.
(4) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٠.
(5) ابن جرير: ١/٢٣٨.
(6) ابن جرير: ١/٢٤٠.
(7) مسائل نافع بن الأزرق.
(8) ابن جرير: ١/٢٤٧.
(9) ابن جرير: ١/٢٤٨.
(10) ابن جرير: ١١/٣٠.
(11) ابن إسحاق ـ كما في سيرة ابن هشام: ١/٥٣٠.
(12) ابن جرير: ١/١١.
(13) ابن جرير: ١/٢٤٤.
(14) ابن جرير: ١/٢٥١.
(15) ابن جرير: ١/٢٥٦ وابن أبي حاتم: ١/٣٩.
(16) ابن جرير: ١/٢٥٦.
زر:
روي عن زر بن حبيش (ت 81 هـ) أنّه قال: الغيب: القرآن(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٦.
الرّياحيّ:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث؛ فهذا غيب كله(1).
2. روي أنه قال: هذه الأربع الآيات من فاتحة السورة في المؤمنين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ تبيان للمتقين(1).
2. روي أنه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ على بينة من ربهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، يعني: الصلاة المفروضة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ كانت النفقات قربانا يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة، هن الناسخات المبينات(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٤٨.
(2) ابن جرير: ١/٢٤٩.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿هُدًى﴾ من الضلالة(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٣٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يؤمنون بالله(1).
2. روي أنّه قال: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين، ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل(2).
3. روي أنّه قال: هؤلاء الآيات الأربع في أول سورة البقرة إلى ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ نزلت في نعت المؤمنين، واثنتان من بعدها إلى ﴿عَظِيمٍ﴾ نزلت في نعت الكافرين، وإلى العشرين نزلت في المنافقين(3).
__________
(1) الحربي في غريب الحديث: ٢/٦١١.
(2) تفسير مجاهد: ص١٩٥.
(3) ابن جرير: ١/٢٤٦.
الحسن:
روي عن الحسن (ت 110 هـ) في قول الله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ : يقيمون الصلوات الخمس بوضوئها، وركوعها، وسجودها، وخشوعها، في مواقيتها(1).
__________
(1) محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة: ص١٣٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٣٧.
قتادة:
روي عن قتادة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ جعله الله هدى وضياء لمن صدق به، ونورا للمتقين(1).
1. روي أنه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ هم من نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(2).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ آمنوا بالبعث بعد الموت، والحساب، والجنة، والنار، وصدقوا بموعود الله الذي وعد في القرآن(3).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وركوعها، وسجودها(4).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أنفقوا في فرائض الله التي افترض الله عليهم في طاعته وسبيله(1).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فأنفقوا مما أعطاكم الله، فإنما هذه الأموال عوار وودائع عندك، يا ابن آدم، أوشكت أن تفارقها(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الكتب التي خلت قبله(5).
7. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ استحقوا الهدى والفلاح بحق، فأحقه الله لهم، وهذا نعت أهل الإيمان، ثم نعت المشركين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآيتين(6).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: ١/١٣٧.
(2) ابن جرير: ١/٢٣٨.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد. ويحيى بن سلّام في تفسيره: ١/٢٣١.
(4) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: ١/١٤٥.
(5) ابن أبي حاتم: ١/٣٨.
(6) ابن أبي حاتم: ١/٤٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ معناه هذا الكتاب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ معناه لا شكّ فيه.. والرّيب أيضا: السّوء(1).
3. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالهدى: البيان.. والمتّقون: المطيعون الخاشعون(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والمفلح: المصيب للخير الظّافر به، والاسم الفلاح، والفلاح: الخير والفلاح: التّقى، والمفلح: المتّقي(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 78.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: وأما ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ نور للمتقين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فهي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، قال: هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب، ثم جمع الفريقين(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٨.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٤٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ : يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾، معناه، ومما علمناهم يبثون(2).
__________
(1) تفسير القمي: 1/30.
(2) مجمع البيان: 1/39.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القران فيها، والتشهد، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهذا إقامتها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ هذا القرآن هدى من الضلالة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ثم نعتهم فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، يعني: يؤمنون بالقرآن أنه من الله تعالى جاء، وهو أنزله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما فيه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ المكتوبة الخمس، يعني: يقيمون ركوعها، وسجودها، في مواقيتها(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ من الأموال ﴿يُنْفِقُونَ﴾ يعني: الزكاة المفروضة، نظيرها في لقمان(1).
5. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني: يصدقون بما أنزل إليك يا محمد من القرآن أنه من الله، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ على الأنبياء، يعني: التوراة، والإنجيل، والزبور(1).
6. روي أنّه قال: لما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات قال لأخيه جدي بن أخطب: لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران، فقال جدي لأخيه: لا تعجل حتى تتثبت في أمره، فعمد أبو ياسر وجدي ابنا أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وحيي بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وأبو لبابة بن عمرو، ورؤساء اليهود، فأتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال جدي للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا أبا القاسم، أخبرني أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفا، فقرأهن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال جدي: صدقتم، أما ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فنحن هم، وأما ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 4] فهو كتابك، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فهو كتابنا، ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فأنتم هم، قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا، وآمنتم بالجنة والنار، فآيتان فينا، وآيتان فيكم، ثم قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أشهد بالله أنها نزلت علي من السماء)، فذلك قوله سبحانه في يونس: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي﴾، يعني: ويستخبرونك أحق هو؟ ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾ يعني: بلى وربي، ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ .. [فآيتان من أول هذه السورة نزلتا في أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المهاجرين والأنصار، والآيتان اللتان تليانهما نزلتا في مشركي العرب، وثلاث عشرة آية في المنافقين من أهل التوراة(2).
7. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ : بمعنى: هذا الكتاب الذي كفرت به اليهود(1).
8. روي أنّه قال: هاتان الآيتان نزلتا في مؤمني أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمهاجرين(1).
9. روي أنّه قال: ثم ذكر مؤمني أهل التوراة؛ عبد الله بن سلام وأصحابه، منهم أسيد بن زيد، وأسد بن كعب، وسلام بن قيس، وثعلبة بن عمر، وابن يامين واسمه سلام، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾(1).
10. روي أنّه قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، يعني: يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٨١.
(2) تفسير مقاتل: ١/٨٤.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنه قال: وصف هؤلاء المؤمنين، الذين هذا الكتاب هدى لهم، فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يعني ما غاب عن حواسهم، من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث، والحساب، والجنة، والنار، وتوحيد الله، وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى عليها كآدم، وحواء، وإدريس، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بهم، بحجج الله تعالى، وإن لم يشاهدوهم، ويؤمنون بالغيب: ﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾(1).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري] 1. روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) عليه السلام: ص67/34.
الناصر:
قال الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ): سألت عن قوله عز وجل: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، فقلت: ما معنى قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾؛ كأنه يشير إلى كتاب غائب لما قال ذلك الكتاب؟ والجواب: إنما عنى تبارك وتعالى هذا الكتاب، ولم يشر إلى كتاب غائب، وذلك مثله موجود في لغة العرب؛ ألم تسمع إلى قول الشاعر:
أقول له والرمح يأطر متنه... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
فقال: (إنني)، فأشار إلى نفسه، ثم قال: (ذلك)، يعني: نفسه أيضا، فجاز ذلك؛ إذ كان القول لا عيب فيه عند العرب المخاطبين(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/16.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ :
أ. قيل: أي هذا الكتاب، إشارة إلى ما عنده، وذلك شائع في اللغة، جائز بمعنى هذا.
ب. وقيل: ذلك بمعنى ذلك، إشارة إلى ما في أيدى السفرة والبررة.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ :
أ. قيل: يؤمنون بالله غيبا، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأمم السالفة، من أنبيائهم؛ كقول بنى إسرائيل لموسى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55].
ب. وقيل: يؤمنون بغيب القرآن، وبما يخبرهم القرآن من الوعد والوعيد، والأمر والنهى، والبعث، والجنة، والنار، والإيمان إنما يكون بالغيب؛ لأنه تصديق، والتصديق والتكذيب إنما يكونان عن الخبر، والخبر يكون عن غيب لا عن مشاهدة.
3. الآية الكريمة تنقض قول من يقول: بأن جميع الطاعات إيمان؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ .
4. قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: الصلاة المعروفة، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها، والخشوع، والخضوع له فيها، وإخلاص القلب في النّية؛ على ما جاء في الخبر (انظر من تناجى)
ب. ويحتمل: الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ، ولا الرفع في الدنيا والآخرة.
5. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي: ما أنزل إليك من القرآن.
ب. ويحتمل: ما أنزل إليك من الأحكام، والشرائع التي ليس ذكرها في القرآن.
6. قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يعنى الكتب التي أنزلت على سائر الأنبياء عليهم السلام.
ب. ويحتمل: الشرائع، والأخبار سوى الكتب، والله أعلم.
7. قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾، بمعنى يؤمنون.. والإيقان بالشيء هو العلم به، والإيمان هو التصديق، لكنه إذا أيقن آمن به وصدق به لعلمه به؛ لأن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث؛ كقوله: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32] فأخبر عزّ وجل عن حال هؤلاء أنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأولئك.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ :
أ. قيل: على صواب، ورشد من ربهم.
ب. وقيل: إنهم على بيان من ربهم، لكن البيان ليس المؤمن أحقّ به من الكافر؛ لأنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع.. فظهر بهذا أن الأول أقرب إلى الاحتمال من الثاني.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ :
أ. قيل: الباقون في نعم الله والخير.
ب. وقيل: الظافرون بحاجاتهم، يقال: أفلح، أي: ظفر بحاجته.
ج. وقيل: ﴿الْمُفْلِحُونَ ﴾ هم السعداء، يقال: أفلح، أي: سعد.
د. وقيل: ﴿الْمُفْلِحُونَ ﴾ الناجون؛ يقال: أفلح، أي: نجا.
وكله يرجع إلى واحد؛ كقوله: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: 185] وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأول.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/374.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني التوراة والإنجيل، ليكون إخبارا عن ماض.
ب. الثاني: يعني به ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة والمدينة، وهذا قول الأصم.
ج. الثالث: يعني هذا الكتاب، وقد يستعمل ذلك في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، قال خفاف بن ندبة:
أقول له والرّمح يأطر متنه... تأمّل خفافا إنّني أنا ذلكا
2. اختلف من ذكروا أن المراد به التوراة والإنجيل في المخاطب به على قولين:
أ. أحدهما: أن المخاطب به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، هو الذي أنزلته عليك يا محمد.
ب. الثاني: أن المخاطب به اليهود والنصارى، وتقديره: أن ذلك الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب، الذي أنزلته على محمد عليه وعلى آله السّلام.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ :
أ. قيل: أن الريب هو الشك، وهو قول ابن عباس، ومنه قول عبد الله بن الزّبعري:
ليس في الحقّ يا أميمة ريب... إنّما الرّيب ما يقول الجهول
ب. وقيل: أن الريب التهمة ومنه قول جميل:
بثينة قالت: يا جميل أربتني... فقلت: كلانا يا بثين مريب
4. قوله عزّ وجلّ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، يعني به هدى من الضلالة، وفي المتقين ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدّوا ما افترض عليهم، وهذا قول الحسن البصري.
ب. الثاني: أنهم الذين يحذرون من الله تعالى عقوبته ويرجون رحمته وهذا قول ابن عباس.
ج. الثالث: أنهم الذين اتقوا الشرك وبرؤوا من النفاق وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق وإنما خص به المتقين، وإن كان هدى لجميع الناس، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه.
5. في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يصدقون بالغيب، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: يخشون بالغيب، وهذا قول الربيع بن أنس.
6. في أصل الإيمان ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن أصله التصديق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي بمصدّق لنا.
ب. الثاني: أن أصله الأمان فالمؤمن يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمن لأوليائه من عقابه.
ج. الثالث: أن أصله الطمأنينة، فقيل للمصدق بالخبر مؤمن، لأنه مطمئن.
7. في الإيمان ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنّ الإيمان اجتناب الكبائر.
ب. الثاني: أن كل خصلة من الفرائض إيمان.
ج. الثالث: أن كل طاعة إيمان.
8. في الغيب ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: ما جاء من عند الله، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه القرآن، وهو قول زر بن حبيش.
ج. الثالث: الإيمان بالجنة والنار والبعث والنشور.
9. في قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يؤدونها بفروضها.
ب. الثاني: أنه إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع فيها، وهذا قول ابن عباس.
10. اختلف لم سمّي فعل الصلاة على هذا الوجه إقامة لها، على قولين:
أ. أحدهما: من تقويم الشيء من قولهم قام بالأمر إذا أحكمه وحافظ عليه.
ب. الثاني: أنه فعل الصلاة سمّي إقامة لها، لما فيها من القيام فلذلك قيل: قد قامت الصلاة.
11. في قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: إيتاء الزكاة احتسابا لها، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: نفقة الرجل على أهله، وهذا قول ابن مسعود.
ج. الثالث: التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى، وهذا قول الضحاك:
12. أصل الإنفاق الإخراج، ومنه قيل: نفقت الدابة إذا خرجت روحها.
13. اختلف المفسرون، فيمن نزلت هاتان الآيتان فيه، على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها نزلت في مؤمني العرب دون غيرهم، لأنه قال بعد هذا: ﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ يعني به أهل الكتاب، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنها مع الآيتين اللتين من بعد أربع آيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها.
ج. الثالث: أن الآيات الأربع من أول السورة، نزلت في جميع المؤمنين، وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (نزلت أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
14. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني القرآن، ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني به التوراة والإنجيل، وما تقدم من كتب الأنبياء، بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى، في إيمانهم ببعضها دون جميعها.
15. في قوله تعالى: ﴿ وبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: يعني الدار الآخرة.
ب. الثاني: يعني النشأة الآخرة، وفي تسميتها بالدار الآخرة قولان:
• أحدهما: لتأخرها عن الدار الأولى.
• الثاني: لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا لدنوّها من الخلق.
16. قوله تعالى: ﴿يُوقِنُونَ ﴾ أي يعلمون، فسمى العلم يقينا لوقوعه عن دليل صار به يقينا.. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني بيان ورشد.
17. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم الفائزون السعداء، ومنه قول لبيد:
لو أنّ حيّا مدرك الفلاح... أدركه ملاعب الرّماح
ب. الثاني: المقطوع لهم بالخير، لأن الفلح في كلامهم القطع، وكذلك قيل للأكار فلاح، لأنه يشق الأرض، وقد قال الشاعر:
لقد علمت يا ابن أمّ صحصح... أن الحديد بالحديد يفلح
18. اختلف فيمن أريد بهم، على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: المؤمنون بالغيب من العرب، والمؤمنون بما أنزل على محمد، وعلى من قبله من سائر الأنبياء من غير العرب.
ب. الثاني: هم مؤمنو العرب وحدهم.
ج. الثالث: جميع المؤمنين.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/68.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ :
أ. قيل: معنى لا ريب فيه، أي لا شك فيه، والريب الشك، وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء والسدي وغيرهم.
ب. وقيل: هو أشد الشك وهو مصدر رابني الشيء يريبني، قال ساعدة بن جوية الهذلي:
وقالوا تركن الحي قد حصروا به... فلا ريب ان قد كان ثم لحيم
أي أطافوا به واللحيم القتيل، يقال لحم إذا قتل.
2. الهاء فيه عائدة على الكتاب، ويحتمل ان يكون لا ريب فيه خبراً، والمعنى انه حق في نفسه، ولا يكون المراد به انه لا يقع فيه ريب لأن من المعلوم أن الريب واقع فيه من الكفار وفي صحته ويجري ذلك مجرى الخبر إذا كان مخبره على ما هو به في أنه يكون صدقا وإن كذبه قوم ولم يصدقوه، ويحتمل أن يكون معناه الأمر أي تيقنوه ولا ترتابوا فيه.
3. قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، معناه نور وضياء ودلالة للمتقين من الضلالة وإنما خص المتقين بذلك وان كان هدى لغيرهم من حيث أنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به كما قال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾، وان كان انذر من لم يتبع الذكر ويقول القائل: في هذا الأمر موعظة لي أو لك وان كان فيه موعظة لغيرهما، ويقال هديت فلانا الطريق إذا أرشدته ودللته عليه، أهديه هداية.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ :
أ. قيل: المتقي هو الذي يتقى بصالح اعماله عذاب الله مأخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله حاجزاً بينه وبينه كما قال ابو حية النميري:
والقت قناعاً دونه الشمس واتقت... بأحسن موصولين كف ومعصم
وقيل: إن المتقين هم الذين اتقوا ما حرم عليهم وفعلوا ما وجب عليهم.
وقيل: ان المتقين هم الذين يرجون رحمة الله ويحذرون عقابه.
وقيل: ان المتقين هم الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق.. وهذا الوجه ضعيف لأنه يلزم عليه وصف الفاسق المتهتك بانه متق إذا كان برياً من الشرك والنفاق.
5. أصل الاتقاء، فقال: هو الحجز بين الشيئين ومنه اتقاه بالترس لأنه جعله حاجزاً بينه وبينه واتقاه بحق كذلك ومنه الوقاية لأنها تحجز بين الرأس والأذى.. ومنه التقية في اظهار خلاف الإبطان، والفرق بينه وبين النفاق: ان المنافق يظهر الخير ويبطن الشر، والمتقي يظهر القبيح ويبطن الحسن، ويقال وقاه يقيه وقاية وتوقاه توقياً.
6. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ الذين في موضع خفض لأنه نعت للمتقين، ويجوز ان يكون رفعاً على الابتداء ﴿وَيُؤْمِنُونَ﴾ رفع لأنه فعل مستقبل والواو والنون في موضع رفع لأنه كناية عن الفاعل، والنون الأخيرة مفتوحة لأنها نون الجمع والصلاة نصب لأنها مفعول به.
7. الايمان:
أ. هو التصديق، ومنه قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ . أي بمصدق لنا، وقال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ وكذلك هو في الشرع عند أكثر المرجئة، والمراد بذلك التصديق بجميع ما أوجب الله او ندبه او اباحة وهو المحكي عن ابن عباس في هذه الآية لأنه قال: الذين يصدقون بالغيب، وحكى الربيع بن انس انه قال: الذين يخشون بالغيب، وقال: معناه يطيعون الله في السر والعلانية.
ب. وقيل: إن الايمان مشتق من الامان، والمؤمن من يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمن لأوليائه من عذابه وذلك مروي في اخبارنا.
ج. وقالت المعتزلة بأجمعها: الايمان هو فعل الطاعة، ومنهم من اعتبر فرائضها ونوافلها، ومنهم من اعتبر الواجب منها لا غير، واعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها.
د. وروي عن الرضا عليه السلام: ان الايمان هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان والقول باللسان.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ :
أ. حكي عن ابن عباس انه قال: ما جاء من عند الله، وقال جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره: ان الغيب ما غاب عن العباد علمه من امر الجنة والنار والأرزاق والاعمال وغير ذلك، وهو الاولى لأنه عام، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان الغيبة ووقت خروج المهدي عليه السلام.
ب. وقال قوم: الغيب هو القرآن، حكي ذلك عن زر بن جيش.
ج. وذكر البلخي ان الغيب كل ما أدرك بالدلائل والآيات مما تلزم معرفته.
د. وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد إلا انه قد كثرت صفة الغائب على البعيد الذي لا يظهر للحس.
9. اصل الغيب من غاب. يقولون: غاب فلان يغيب، وليس الغيب ما غاب عن الإدراك لأن ما هو معلوم وان لم يكن مشاهداً، لا يسمى غيباً.
10. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. الأولى ان تحمل الآية على عمومها في جميع من يؤمن بالغيب.
ب. وقال قوم: انها متناولة لمؤمني العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب، قالوا بدلالة قوله فيما بعد ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ قالوا ولم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله على نبيه تدين بتصديقه، وإنما الكتاب لأهل الكتابين، وهذا غير صحيح، لأنه لا يمنع أن تكون الآية الاولى عامة في جميع المؤمنين المصدقين بالغيب وإن كانت الآية الثانية خاصة في قوم لأن تخصيص الثانية لا يقتضي تخصيص الأولى.
ج. وقال قوم: انهما مع الآيتين اللتين بعدهما أربع آياتٍ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها، وقال قوم: ان الأربع آيات من أول السورة نزلت في جميع المؤمنين، واثنتان نزلتا في نعت الكافرين، وثلاثة عشر في المنافقين وهذا أقوى الوجوه، لأنه حمل على عمومه، وحكي ذلك عن مجاهد.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ :
أ. قيل: اقامتها أداؤها بحدودها وفرائضها وواجباتها، كما فرضت عليهم يقال: أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء، قال الشاعر:
أقمنا لأهل العراقين سوق الضراب... فخاموا وولوا جميعا
ب. وقال أبو مسلم محمد بن بحر: معنى ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يديمون أداء فرضها يقال للشيء الراتب قائم ولفاعله مقيم، ومن ذلك: فلان يقيم أرزاق الجند، وقيل انه مشتق من تقويم الشيء من قولهم: قام بالأمر، إذا أحكمه وحافظ عليه.. وقيل انه مشتق مما فيه من القيام، ولذلك قيل قد قامت الصلاة.
12. الصلاة هي الدعاء في اللغة، قال الشاعر: وقابلها الريح في دنّها.. يعني دعا لها: وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله تصلى ناراً حامية، والمصدر الصلاة ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها، والمصلّى الذي يجيء في اثر السابق للزوم أثره، ويقال للعظم الذي في العجز صلواً، وهما صلوان.
13. اختلف في تعريف الصلاة في الشرع:
أ. في الناس من قال إنها تخصصت بالدعاء والذكر في موضع مخصوص.
ب. ومنهم من قال، وهو الصحيح، انها في الشرع عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأركان واذكار مخصوصة.
14. سميت صلاة لأن المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله ونعمه مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته.
15. الرزق، هو ما للحي الانتفاع به على وجه لا يكون لأحد منعه منه، وهذا لا يطلق إلا فيما هو حلال فأما الحرام فلا يكون رزقاً لأنه ممنوع منه بالنهي، ولصاحبه أيضاً منعه منه، ولأنه أيضاً مدحهم بالإنفاق مما رزقهم، والمغصوب والحرام يستحق الذم على إنفاقه، فلا يجوز أن يكون رزقاً.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ :
أ. حكي عن ابن عباس انها الزكاة المفروضة يؤتيها احتساباً،.
ب. حكي عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة.
ج. وقال الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرّب من الله.
والأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة وتطوع بالخيرات.
17. أصل الرزق الحظ لقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ : أي حظكم، وما جعله حظا لهم فهو رزقهم.
18. الإنفاق أصله الإخراج، ومنه قيل: نفقت الدابة إذا خرجت روحها، والنافقاء، جحر اليربوع، من ذلك لأنه يخرج منها، ومنه النفاق لأنه يخرج إلى المؤمن بالإيمان والى الكافر بالكفر.
19. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أضيف الهدى الى الله لأحد الأمرين:
أ. أحدهما: لما فعل بهم من الدلالة على الهدى والإيضاح له، والدعاء اليه.
ب. الثاني: لأنه يثيب عليه، فعلى هذا يضاف الايمان بأنه هداية من الله.
20. ﴿هُدًى﴾ في موضع خفض بعلى، ومعنى ﴿عَلَى هُدًى﴾ : أي على حق وخير بهداية الله إياهم ودعائه الى ما قالوا به، ومن قال: هم على نور واستقامة أو بيان ورشد، فهو داخل تحت ما قلنا، والاولى أن يكون ذلك عاماً فيمن تقدم ذكره في الآيتين، ومن خص ذلك فقد ترك الظاهر، لأن فيهم من خصها بالمعنيين في الآية الاولى، وفيهم من خصها بالمذكورين في الآية الثانية، والجمع محمول على العموم وحملها على العموم في الفريقين محكي عن ابن عباس وابن مسعود.
21. ﴿الْمُفْلِحُونَ ﴾ هم المنجحون الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم وإيمانهم، والفلاح: النجاح. قال الشاعر:
اعقلي إن كنت لما تعقلي... ولقد أفلح من كان عقل
يعني من ظفر بحاجته وأصاب خيراً، وتقول أفلح يفلح إفلاحا وتقول فلح يفلح فلاحاً وفِلاحا والفلاح البقاء أيضاً.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/54.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال مجاهد: أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين، واثنتان بعدها نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين.
أ. قيل: ذلك يدل على عظم حالهم في الكفر، واستحقاق العقاب.
ب. وقيل: كثرة اختصاص حالهم لا يوجب عظم دينهم، وإنما عظم؛ لأنهم ضموا إلى الكفر وجوها من المعاصي، كالاستهزاء، والخداع، وطلب الغوائل وغيره.
2. شرح مختصر للكلمات:
أ. اللائي واللاتي نظائر، واللائي واللاتي للمؤنث، قال تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ وواحد الَّذِينَ: الذي، وهو من الأسماء التي تتم بصلاتها، ك (مَنْ) و(ما)
ب. الإيمان والإسلام من النظائر، ونقيضهما الكفر والفسق، وأصله التصديق، يقال: آمن أي صدق، ومنه: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي بمصدق، وقد صار في الشرع: اسم لأداء الواجبات.
ج. والغيب: نقيض الشهادة، وهو مصدر وُضِعَ موضع الاسم، يقال للغائب: غيب، ومنه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ما غاب عن الحاسة، أي خفي، ويقال: غاب عني إذا خفي عن الأبصار، وذكر أبو علي أن الغيب على ضربين: منه ما لا دليل عليه، فلا يعلمه إلا الله، ومنه ما عليه دليل، فنعلمه، إلا أن عالِم الغيب لا يطلق إلا على الله تعالى؛ لأنه يوهم العلم بالجميع، وذكر أبو هاشم أن الغيب ما لا طريق إلى معرفته ضرورة واستدلالا، وربما يمر في كلامه ما قدمنا.
د. إقامة الصلاة: مأخوذ من تقويم الشيء وتحقيقه، وقيل: سمي أداؤها إقامة؛ لما فيها من القيام، وأصل الإقامة القيام، وهو الانتصاب، والصلاة في اللغة: الدعاء.. وقيل: أصله اللزوم.. وقيل: أصله رفع الصلا في الركوع والسجود، وهو عظم في العجز، وفي الشرع: اسم لأفعال مخصوصة.
هـ. الرزق: نقيض الحرمان.. وقيل: هو العطاء الجاري.. وقيل: أصله الحظ والنصيب، ومنه: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ والإنفاق: أصله الإخراج، يقال: أنفق ماله إذا أخرجه عن ملكه.
و. ما: ههنا بمعنى الذي.
ز. الإنزال: إفعالٌ من النزول، وهو المصير إلى جهة السفل، وضده الصعود، أنزله إنزالاً، وقبل: نقيض بعد، وهما في الزمان كخلف وأمام في المكان، وقبل لما مضى، وبعد لما يأتي.
ح. الآخِر: نقيض الأول، يقال: أخره تأخيرا، وحقيقة الأول: الموجود قبلُ، والآخر: الموجود بعد، وهما من صفته تعالى: الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وسميت الآخرة بذلك، قيل: لتأخرها عن الدنيا، والدنيا لدنوها.. وقيل: لدناءتها.
ط. اليقين: العلم، غير أن اليقين ما وقع من الثقة بالشيء بعد أن لم يكن.. وقيل: هو العلم المستدرك.
ي. في (أولئك) ثلاث لغات: أولئك لغة قريش، وأولاك، وأولالك.
ك. معنى (على) كمعنى فوق، و(على) قد يكون اسما وحرفا، تقول: عليه دين، فهذه حرف، وقال الشاعر:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ تَنْفُضُ الطَّلَّ بَعْدَمَا.. رَأَتْ حَاجِبَ الَّشمْسِ اسْتَوَى فَتَرَفَّعَا
فهذا اسم لدخول (مِن) عليها، كأنه قال: غدت من فوقه، و(على هدى) ومهتدون واحد، كقولهم: على صلاح ومصلحون، وعلى تقوى ومتقون.
ل. أصل الفلاح:
• قيل: القطع، ومنه: إِنَّ الحَدِيَدِ بالْحَدِيدِ يُفْلَحُ.
أي: يقطع، ومنه الفلاح: الأكَّار؛ لأنه يشق الأرض.
• وقيل: أصله الظفر بالبغية، وهذا أصح؛ لأنه أغلب على الباب وأظهر فيه.
• وقيل: أصله البقاء، وكل مؤمن مفلح؛ لأنه ظافر ببغيته.
3. يرد الهدى على ثلاثة أوجه:
أ. بمعنى الدلالة، وهو عام للمكلفين، لذلك قال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾
ب. بمعنى اللطف كقوله: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ وهو خاص لمن له لطف.
ج. بمعنى الثواب والجنة كقوله: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾ وهذا خاص للمؤمنين.
4. لما وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للمتقين بَيَّنَ صفة المتقين، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ :
أ. قيل: يصدقون بالقيامة والجنة والنار عن الحسن، وعليه أكثر المفسرين.
ب. وقيل: يؤمنون في حال الغيبة، كما يؤمنون إذا كانوا بحضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيوافق ظاهرهم باطنهم، خلاف المنافقين، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي بِاللهِ وملائكته ورسله.
د. وقيل: بالقرآن وما فيه من علم الغيب.
هـ. وقيل: بالوحي، وإنما مُدِحوا بذلك، لأن علم الضرورة فعل الله تعالى، وإنما يتفاضل الناس بالاستدلاليات.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾
أ. قيل: أي يتمونها بركوعها وسجودها وأركانها.
ب. وقيل: يؤدونها بقيامها.
ج. وقيل: يديمونها.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
أ. قيل: مما أعطيناهم ينفقون في الجهاد.
ب. وقيل: من الزكاة.
ج. وقيل: أراد النفقة على نفسه وعياله.
7. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: قوم واحد وصفوا بجميع ذلك، كقول الشاعر:
إِلَى الملِكِ القَرْم وَابْنِ الهُمَامِ.. وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
ب. وقيل: هم قومان، فالَّذِينَ ذكروا في الآية الأولى من آمن من مشركي العرب، والَّذِينَ ذكروا في الآية الأخرى من آمن من أهل الكتاب.
8. بين تعالى تمام صفة المتقين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ :
أ. قيل: يعني: القرآن والإسلام (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب على الأنبياء.
ب. وقيل: ويصدقون بما أنزل إليك من بقاء الآخرة وفناء الدنيا، والبعث والحساب (وَبِالآخِرَةِ) قيل: بالكرة الأخيرة.
ج. وقيل: بالدار الآخرة؛ لأن الآخرة صفة فلا ـ بد من موصوف (هُمْ يُوقِنُونَ) يعني يستيقنون أن الدار الآخرة كائنة لا محالة.
9. لما وصف الله تعالى المتقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ :
أ. قيل: إشارة إلى الموصوفين بجميع ما تقدم من الصفات، وهم جملة المؤمنين.
ب. وقيل: إلى صنفين أحدهما: من آمن من العرب، والثاني: مَنْ آمن مِنْ أهل الكتاب. (عَلَى هُدًى مِن رَبّهِمْ) قيل: من دِينِ ربهم.
ج. وقيل: على دلالة وبيان من ربهم، وإنما قال: (مِن رَبّهِمْ) لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى، إما لأنه فِعْلُهُ، أو لأنه عرض له، (وَأُوْلَئِكَ) كرر تفخيما وتعظيما، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قيل: الظافرون بالبغية.
د. وقيل: الباقون في الجنة؛ لأن. الفلاح البقاء.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن الهدى هو الدلالة؛ لذلك وصف الكتاب به خلاف قول الْمُجْبِرَة: إن الهدى هو الإيمان.
ب. وجوب النظر في القرآن من حيث جعله هدى وطريقا للحق، فيبطل قول من يرى التقليد.
ج. أَنه كان مكتوبا، وعلى تأويل الأصم الكلام ظاهر، فأما على غيره فقيل: كان مكتوبا في اللوح المحفوظ، والفائدة فيه مصلحة الملائكة.
د. على بطلان قول أصحاب المعارف من وجوه:
• إذ لو كانت المعرفة ضرورة لم يكن لنصب الأدلة داعِ، وجعل القرآن هدى معنى.
• أن جميع الأشياء لو كانت معلومة ضرورة لم تكن غيبا، ولأنه لو كان الكافر يعلم كما يعلم المؤمن لما خص المتقين، ولأنه لا يصح المدح بالضرورات.
هـ. أن الإيمان بالغيب من شرط استحقاق الثواب.
و. وجوب الصلاة، وأنها شرط في استحقاق الفلاح، خلاف قول المرجئة.
ز. أن الاسم نقل من اللغة إلى الشرع، لأن الصلاة يفهم منها أفعال مخصوصة.
ح. أن الرزق هو الحلال، لأنه مدحه بالإنفاق.
ط. وجوب الإنفاق؛ لذلك جعله شرطا في الفلاح، ولهذا لا بد من حمله على إنفاق واجب، وحد الرزق: ما له أن ينتفع به، وليس لأحد منعه.
ي. وجوب الإيمان بما أنزل عليه، وعلى الأنبياء قبله؛ لأن الطريقة في الكل واحدة، وهي المعجزة.
ك. وجوب الإيمان بالبعث والحساب.
ل. أن العلمَ واليقينَ فِعْلُهم؛ لذلك مدحهم فيبطل قول أصحاب المعارف.
م. أن الفلاح لا يحصل إلا بهذه الخصال، التي علقها به؛ لأن المعلق به شرط لا يحصل عند عدم الشرط، فيبطل قول المرجئة.
11. مسائل نحوية:
أ. الَّذِينَ: يحتمل أن يكون محله نصبا وجرا ورفعا، أما الجر فعلى أنه صفة للمتقين، وأما النصب فعلى المدح، تقديره: أعني الَّذِينَ يؤمنون، وأما الرفع فعلى معنى هم الَّذِينَ، فيكون خبر ابتداء محذوف.
ب. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ يحتمل:
• الخفض من وجهين:
ـ أحدهما: جمع الأوصاف لموصوف واحد.
ـ الثاني: أن يكون على موصوفين، عطف أحدهما على الآخر.
• ويحتمل الرفع على الاستئناف.
ج. (مما) يكون حرفا، وقد يكون اسما كالتي للاستفهام.
د. (هم) في قوله: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ﴾ عماد عند الكوفيين، وفصل عند البصريين.
هـ. قال: إليك، ولم يقل إِلاكَ كما يقال: إلى زيد للفرق بين ما يضاف إلى الكناية من المتمكنة وغير المتمكنة، فلذلك قالوا: إليه وعليه، وقالوا: أرجاه وهداه، فسووا في المتمكن بين الظاهر والمكني، وفرقوا في الحروف.
و. أولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف للخطاب، وفي رفع (أولئك) أربعة أوجه:
• الأول: أن يكون خبرًا لموصوفين بالصفات الثلاث المتقدمة.
• الثاني: أن يكون خبرًا للفريقين من مؤِمني العرب، ومؤمني أهل الكتاب.
• الثالث: أن يكون خبرًا لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ .
• الرابع: الاستئناف، فيكون الرافع له: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ .
ز. ﴿هُمْ﴾ في قوله ﴿الْمُفْلِحُونَ ﴾ يحتمل وجهين:
• أحدهما: أنه حرف، وهو عماد عند الكوفيين.
• وفَصْلٌ عند البصريين، وإنما يؤتى بها للتوكيد ولا موضع له من الإعراب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/225.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ذلك: لفظة يشار بها إلى ما بعد.. وهذا: إلى ما قرب، والاسم من ذلك: ذا، والكاف: زيدت للخطاب، ولاحظ لها من الإعراب.. واللام: تزاد للتأكيد، وكسرت لالتقاء الساكنين، وتسقط معها هاء، تقول:، ذاك، وذلك، وهذاك، ولا تقول هذا لك.
ب. الكتاب: مصدر وهو بمعنى المكتوب، كالحساب، قال الشاعر:
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة... أتتك من الحجاج يتلى كتابها
أي: مكتوبها، وأصله الجمع من قولهم كتبت القربة: إذا خرزتها.. والكتبة: الخرزة.. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفريها بحلقة.. ومنه قيل للجند: كتيبة، لانضمام بعضهم إلى بعض.
ج. الريب: الشك.. وقيل: هو أسوأ الشك، وهو مصدر رابني الشيء من فلان يريبني: إذا كنت مستيقنا منه بالريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة.. وأراب الرجل: إذا صار صاحب ريبة، كما قيل ألام أي: استحق أن يلام.
د. الهدى: الدلالة مصدر هديته، وفعل قليل في المصادر، قال أبو علي: يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل، وإن لم يكن في المصادر، كما كان كينونة ونحوه لا يكون في الصحيح، والفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى، أو اللام، كقوله ﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾، وقد يحذف منه حرف الجر، فيصل الفعل إلى المفعول نحو ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: دلنا عليه، واسلك بنا فيه، وكأنه استنجاز لما وعدوا به في قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ أي: سبل دار السلام.
هـ. الأصل في المتقين: الموتقين، مفتعلين من الوقاية، فقلبت الواو تاء، وأدغمتها في التاء التي بعدها، وحذفت الكسرة من الياء استثقالا لها، ثم حذفتها لالتقاء الساكنين، فبقي متقين، والتقوى: أصله وقوى، قلبت الواو تاء، كالتراث أصله وراث.. وأصل الاتقاء: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بالترس أي: جعله حاجزا بينه وبينه، قال الشاعر:
فألقت قناعا دونها الشمس، واتقت... بأحسن موصولين كف ومعصم
ومنه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر.
و. الإيمان: قال الأزهري: اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي: ما أنت بمصدق لنا، قال أبو زيد: وقالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي: ما وثقت، فالإيمان: هو الثقة والتصديق، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: صدقوا ووثقوا بها، وقال الشاعر أنشده ابن الأنباري:
ومن قبل آمنا، وقد كان قومنا... يصلون للأوثان قبل محمدا
ومعناه آمنا محمدا أي: صدقناه، ويجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل، تقول أمنته فأمن، مثل كببته فأكب، والأمن: خلاف الخوف، والأمانة: خلاف الخيانة، والأمون: الناقة القوية، كأنها يؤمن عثارها وكلالها، ويجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا أمن على نفسه بإظهار التصديق نحو: أجرب وأعاه وأصح وأسلم: صار ذا سلم أي: خرج عن أن يكون جربا.
ز. الصلاة في اللغة: الدعاء، قال الأعشى:
وأقبلها الريح في ظلها... وصلى على دنها، وارتسم
أي: دعا لها، ومنه الحديث: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل)، أي: فليدع له بالبركة والخير.. وقيل: أصله رفع الصلا في الركوع، وهو عظم في العجز.
ح. الرزق: هو العطاء الجاري، وهو نقيض الحرمان.
ط. الانفاق: اخراج المال، يقال: أنفق ماله أي: أخرجه عن ملكه، ونفقت الدابة: إذا خرج روحها، والنافقاء: جحر اليربوع، لأنه يخرج منها، ومنه النفاق، لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان، وإلى الكافر بالكفر.
ي. أولئك: اسم مبهم، يصلح لكل حاضر، تعرفه الإشارة، وهو جمع ذلك في المعنى.. وأولاء: جمع ذا في المعنى، ومن قصر قال: أولا والاك وأولالك.. وإذا مد لم يجز زيادة اللام، لئلا يجتمع ثقل الزيادة، وثقل الهمزة، قال الشاعر: ألا لك قوم لم يكونوا أشابة... وهل يعظ الضليل إلا أولالكا والمفلحون: المنجحون الفائزون.
ك. الفلاح: النجاح، قال الشاعر:
إعقلي إن كنت لما تعقلي... فلقد أفلح من كان عقل
أي: ظفر بحاجته.. والفلاح أيضا: البقاء، قال لبيد:
نحل بلادا كلها حل قبلنا... ونرجو الفلاح بعد عاد وتبعا
وأصل الفلح: القطع، ومنه قيل الفلاح للأكار (الحراث) لأنه يشق الأرض، وفي المثل: (الحديد بالحديد يفلح) فالمفلح على هذا: كأنه قطع له بالخير.
2. اختلف في المراد بـ ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ :
أ. قيل: المراد بالكتاب القرآن، وقال الأخفش: ذلك بمعنى هذا، لأن الكتاب كان حاضرا، وأنشد لخفاف بن ندبة:
أقول له، والرمح يأطر متنه... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي: إنا هذا وهذا البيت يمكن اجراؤه على ظاهره أي: إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته، وإذا جرى للشيء ذكر يجوز أن يقول السامع: هذا كما قلت، وذلك كما قلت، وتقول: أنفقت ثلاثة وثلاثة، فهذا ستة، أو فذلك ستة، وإنما تقول هذا لقربه بالاخبار عنه، وتقول ذلك لكونه ماضيا.
ب. وقيل: إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك، عن الفراء، وأبي علي الجبائي.
ج. وقيل معناه: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة، عن المبرد.
3. من قال: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، فقوله فاسد، لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه، وأنه هدى، ووصف ما في أيدي اليهود والنصارى بأنه محرف بقوله ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ :
أ. قيل: إنه بيان وهدى وحق ومعجز، فمن ههنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الاخبار بنفي شك الشاكين.
ب. وقيل: إنه على الحذف، كأنه قال لا سبب شك فيه، لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس والتعقيد والتناقض، والدعاوي العارية من البرهان، وهذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى.
ج. وقيل: إن معناه النهي، وإن كان لفظه الخبر أي: لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه، كقوله تعالى: ﴿ لا رفث ولا فسوق ﴾
5. تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم، وإن كان هدى لجميع الناس، فلأنهم هم الذين انتفعوا به، واهتدوا بهداه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ وإن كان صلّى الله عليه وآله وسلّم منذرا لكل مكلف، لأنه إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم، على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين، ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم، وبين في آية أخرى أنه هدى للناس.
6. اختلف في تعريف التقوى:
أ. قيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه، وفعل ما أوجب عليه.
ب. وقيل: هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله، واسأل بعضهم عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ فقال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمرت، فقال: ذلك التقوى، ونظمه بعض الناس، فقال:
خل الذنوب صغيرها... وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض... الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة... إن الجبال من الحصى
وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: جماع التقوى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ الآية، وروي عنه أنه قال: إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس.. وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم كالمجرم في الحرم.. وقال بعضهم: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
7. الإيمان: في الشريعة هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى وأنبيائه، وملائكته، وكتبه، والبعث والنشور، والجنة والنار، وأما قولنا في وصف الله تعالى المؤمن، فإنه يحتمل تأويلين:
أ. أحدهما: أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين، فصار من أمن زيد العذاب، وآمنته العذاب، فمعناه: المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه، ومن هذا وصفه سبحانه بالعدل كقوله ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾، وهذا الوجه مروي في أخبارنا.
ب. والآخر: أن يكون معناه المصدق أي: يصدق الموحدين على توحيدهم إياه، يدل عليه قوله ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لأن الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنه مصدق من يشهد له، فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين.
8. الغيب هو كلما غاب عنك ولم تشهده، واختلف فيه هنا:
أ. قيل: قوله ﴿بِالْغَيْبِ﴾ كأنه إجمال لما فصل في قوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ أي: يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله، وإنزال كتبه، وإرسال رسله، فكل هذا غيب.. فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول به.
ب. وقيل: هو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين، ومثله قوله: ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي: يؤمنون غائبين عن مراءاة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد، ولكن يخلصونه لله.
9. لما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين، بين صفة المتقين، فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ :
أ. قيل: يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى، أو ندب إليه، أو أباحه.
ب. وقيل: يصدقون بالقيامة والجنة والنار، عن الحسن.
ج. وقيل: بما جاء من عند الله، عن ابن عباس.
د. وقيل: بما غاب عن العباد علمه، عن ابن مسعود، وجماعة من الصحابة.. وهذا أولى لعمومه، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي عليه السلام، ووقت خروجه.
هـ. وقيل: الغيب هو القرآن، عن زر بن حبيش.
و. وقال الرماني: الغيب خفاء الشيء عن الحس قرب أو بعد، إلا أنه كثرت صفة غائب على البعيد الذي لا يظهر للحس.
ز. وقال البلخي: الغيب كل ما أدرك بالدلائل والآيات، مما يلزم معرفته.
10. قالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة، ثم اختلفوا، فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل، ومنهم من اعتبر الفرائض حسب واعتبروا اجتناب الكبائر كلها، وقد روى الخاص والعام، عن علي بن موسى الرضا عليه السلام: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، والعمل بالأركان.. وقد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضا: الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول.
11. الصحيح أن أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاءت به رسله، وكل عارف بشيء فهو مصدق به، يدل عليه:
أ. هذه الآية، فإنه تعالى لما ذكر الإيمان، علقه بالغيب، ليعلم أنه تصديق للمخبر به من الغيب على معرفة وثقة، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية، وعطفهما عليه، فقال ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، والشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره.
ب. أنه تعالى حيث ذكر الإيمان، أضافه إلى القلب، فقال: ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، وقال: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: الإيمان سر، وأشار إلى صدره، والإسلام علانية.
12. قد يسمى الإقرار إيمانا كما يسمى تصديقا، إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل، كان إيمانا لفظيا لا حقيقيا.. وقد تسمى أعمال الجوارح أيضا إيمانا استعارة وتلويحا، كما تسمى تصديقا كذلك، فيقال: فلان تصدق أفعاله مقاله، ولا خير في قول لا يصدقه الفعل، والفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة، وإنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه، فقد آل الأمر تسليم صحة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة، ولا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان، والعمل بالأركان مجازا واتساعا.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ :
أ. قيل: يؤدونها بحدودها وفرائضها، يقال أقام القوم سوقهم: إذا لم يعطلوها من البيع والشراء، وقال الشاعر:
أقامت غزالة سوق الضراب... لأهل العراقين حولا قميطا
ب. وقال أبو مسلم: يقيمون الصلاة أي: يديمون أداء فرائضها، يقال للشيء الراتب: قائم، ويقال: فلان يقيم أرزاق الجند.
ج. وقيل: إنه مشتق من القيام في الصلاة، ولذلك قيل: قد قامت الصلاة، وإنما ذكر القيام، لأنه أول أركان الصلاة وأمدها، وإن كان المراد به هو وغيره.
14. الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة، وهذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع.. وقيل: إن هذا ليس بنقل، بل هو تخصيص، لأنه يطلق على الذكر والدعاء في مواضع مخصوصة.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ :
أ. قيل: يريد: ومما أعطيناهم وملكناهم يخرجون على وجه الطاعة.
ب. وحكي عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة، وعن ابن مسعود أنه نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة.
ج. وعن الضحاك هو التطوع بالنفقة.
د. وروى محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام، إن معناه: ومما علمناهم يبثون.
والأولى حمل الآية على عمومها.
16. حقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع، وليس لأحد منعه منه، وهذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقا، لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم، والمنفق من الحرام لا يستحق المدح على الانفاق بالاتفاق، فلا يكون رزقا.
17. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قال بعضهم: هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة، بدلالة قوله فيما بعد ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ الآية، فهذا في مؤمني أهل الكتاب، إذ لم يكن للعرب كتاب قبل القرآن، وهذا غير صحيح، لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين، وإن كانت الثانية خاصة في قوم منهم.
ب. ويجوز أن يكون المراد بالآيات قوما واحدا وصفوا بجميع ذلك، بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف، كقول الشاعر: إلى الملك القرم، وابن الهمام، وليث الكتيبة في المزدحم ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾
18. ثم بين تعالى تمام صفة المتقين، فقال ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني الكتب المتقدمة.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ :
أ. قيل: أي: بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف.
ب. وقيل: أراد به الكرة الآخرة.
20. إنما وصفت بالآخرة:
أ. قيل: لتأخرها عن الدنيا، كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق.
ب. وقيل: لدناءتها.
21. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يعلمون، وسمي العلم يقينا لحصول القطع عليه، وسكون النفس إليه، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الاستدلال والنظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر، ولهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن، لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء، وإنما خصهم بالإيقان بالآخرة، وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها، لما كان من كفر المشركين بها، وجحدهم إياها، في نحو ما حكي عنهم في قوله: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
22. لما وصف الله تعالى المتقين بهذه الصفات، بين ما لهم عنده تعالى فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة، وهم جملة المؤمنين ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ :
أ. قيل: أي: من دين ربهم.
ب. وقيل: على دلالة وبيان من ربهم.
23. إنما قال ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾، لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى، إما لأنه فعله، وإما لأنه عرض له بالدلالة عليه، والدعاء إليه، والإثابة على فعله، وعلى هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى، وإن كان من فعل العبد.
24. ثم كرر تفخيما فقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي: الظافرون بالبغية والباقون في الجنة.
25. مسائل نحوية:
أ. ﴿ذَلِكَ﴾ في موضع رفع من وجوه:
• أحدها: أن تجعله خبرا عن ﴿أَلَمْ﴾ كما مضى القول فيه.
• ثانيها: أن يكون مبتدأ، والكتاب خبره.
• ثالثها: أن يكون مبتدأ، والكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه و ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ جملة في موضع الخبر.
• رابعها: أن يكون مبتدأ، وخبره ﴿هُدًى﴾ ويكون ﴿لَا رَيْبَ﴾ في موضع الحال، والعامل في الحال معنى الإشارة.
• خامسها: أن يكون ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، و ﴿هُدًى﴾ جميعا، خبرا بعد خبر، كقولك هذا حلو حامض أي: جمع الطعمين، ومنه قول الشاعر:
من يك ذابت فهذا بتي... مقيظ، مصيف، مشتي
• سادسها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا ذلك الكتاب، وإن حملت على هذا الوجه، أو على أنه مبتدأ، و ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الخبر، أو على أنه خبر ﴿أَلَمْ﴾، أو على أن ﴿الْكِتَابِ﴾ خبر عنه، كان قوله ﴿هُدًى﴾ في موضع نصب على الحال أي: هاديا للمتقين، والعامل فيه معنى الإشارة والاستقرار الذي يتعلق به فيه.
ب. ﴿لَا رَيْبَ﴾ قال سيبويه: ﴿لَا﴾ تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين.. وقال غيره من حذاق النحويين: جعل ﴿لَا﴾ مع النكرة الشائعة مركبا فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف، لأنه جعل جزءا من الاسم بدلالة أنك تضيف إليه مجموعا، وتدخل عليه حرف الجر، فتقول: جئتك بلا مال ولا زاد، فلما صار كذلك بني على الفتح، وهما جميعا في موضع الرفع على الابتداء، فموضع خبره موضع خبر المبتدأ، وعلى هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر، ويجوز أن تجعله صفة، فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ، وعلى قول أبي الحسن الأخفش: موضعه، رفع، والموضع للظرف نفسه، لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أن الضمير قد صار في الظرف.
ج. ﴿هُدًى﴾ : يجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل، وهو أن يكون خبرا عن ذلك:
• أحدها: أن يكون مبتدأ، وفيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبرا، كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى، والوقف على هذا الوجه يكون على قوله: لا ريب، ويبتدئ فيه هدى للمتقين، وإن شئت جعلت فيه هذه الظاهرة خبرا عن لا ريب، وأضمرت لهدى خبرا كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى، والوقف على هذا الوجه على قوله ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ويبتدئ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾
• الوجه الثاني: أن يكون خبرا عن ﴿أَلَمْ﴾ على قول من جعله اسما للسورة.
• الوجه الثالث: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو هدى.
د. ﴿الَّذِينَ﴾ جمع الذي، واللائي واللاتي: جمع التي، وتثنيتهما اللذان واللتان في حال الرفع، واللذين واللتين في حال الجر والنصب، وهي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما وأي، وصلاتها لا تكون إلا جملا خبرية يصح فيها الصدق والكذب، ولا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول، فإذا استوفت الموصولات صلاتها، كانت في تأويل اسم مفرد، مثل زيد وعمرو، ويحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة، فقوله: الذين: موصول، ويؤمنون صلته، ويحتمل أن يكون محله نصبا وجرا ورفعا، فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون.. وأما الجر فعلى أنه صفة للمتقين.. وأما الرفع فعلى المدح أيضا، كأنه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم؟ قيل: هم الذين يؤمنون بالغيب، فيكون خبر مبتدأ محذوف.
هـ. يؤمنون: الواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين.. والنون علامة الرفع، والأصل في يفعل: يؤفعل، ولكن الهمزة حذفت، لأنك إذا أنبأت عن نفسك، قلت أنا أفعل، فكانت تجتمع همزتان، فاستثقلتا، فحذفت الهمزة الثانية، فقيل: أفعل، ثم حذفت من الصيغ الاخر نفعل وتفعل ويفعل، كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، إذ الأصل يوعد، ثم حذفت في تعد وأعد ونعد، ليجري الباب على سنن واحد.
و. قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ : ما هذه حرف موصول.. و ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾ : صلته، وهما جميعا بمعنى المصدر، تقديره: ومن رزقنا إياهم ينفقون، أو اسم موصول ورزقناهم صلته، والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف، والتقدير: ومن الذي رزقناهموه ينفقون، فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن، والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون.
ز. إليك ولديك وعليك: الأصل فيها إلاك وعلاك ولداك، إلا أن الألف غيرت مع المضمر، فأبدلت ياء، ليفصل بين الألف في آخر الاسم المتمكن، وبينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له.. ألا ترى أن إلى وعلى ولدى لا تنفرد من الإضافة، فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير، لأنها لا تنفرد، ولا تكون كلاما إلا بالإضافة.
ح. ما: موصول.. وأنزل: صلته.. وفيه ضمير يعود إلى ﴿مَا﴾ والموصول مع صلته في موضع جر بالباء، والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول يؤمنون.. ويؤمنون: صلة للذين.. والذين يؤمنون: في موضع جر بالعطف.. والعطف فيه على وجهين أحدهما: أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر.. والآخر: أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد.
ط. موضع ﴿أُولَئِكَ﴾ رفع بالابتداء، والخبر ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وهو اسم مبني، والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين، وكذلك قوله ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
ي. قوله ﴿هُمْ﴾ فيه وجهان:
• أحدهما: إنه فصل يدخل بين المبتدأ والخبر، وما كان في الأصل مبتدأ وخبرا للتأكيد، ولا موضع له من الإعراب، والكوفيون يسمونه عمادا، وإنما يدخل ليؤذن أن الاسم بعده خبر، وليس بصفة، وإنما يدخل أيضا إذا كان الخبر معرفة، أو ما أشبه المعرفة، نحو قوله تعالى: ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا﴾
• الآخر: أن يكون ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ثانيا، و ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبره.. والجملة في موضع رفع بكونها خبر ﴿أُولَئِكَ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/119.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الإيمان في اللغة: التّصديق، والشرع أقرّه على ذلك، وزاد فيه القول والعمل.
2. أصل الغيب: المكان المطمئنّ الذي يستتر فيه لنزوله عمّا حوله، فسمّي كلّ مستتر: غيبا، وفي المراد بالغيب ها هنا ستّة أقوال:
أ. أحدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج.
ب. الثاني: القرآن، قاله أبو رزين العقيليّ، وزرّ بن حبيش.
ج. الثالث: الله عزّ وجلّ، قاله عطاء، وسعيد بن جبير.
د. الرابع: ما غاب عن العباد من أمر الجنّة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السّدّيّ عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة.
هـ. الخامس: أنه قدر الله عزّ وجلّ، قاله الزّهريّ.
و. السادس: أنه الإيمان بالرسول في حقّ من لم يره، قال عمرو بن مرّة: قال أصحاب عبد الله له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مبيّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾
3. الصلاة في اللغة: الدّعاء، وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة، وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّها سمّيت بذلك لرفع الصّلا، وهو مغرز الذّنب من الفرس.
ب. الثاني: أنها من صليت العود، إذا ليّنته، فالمصلّي يلين ويخشع.
ج. الثالث: أنها مبنية على السؤال والدّعاء، والصّلاة في اللغة: الدّعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس.
4. في معنى إقامة الصلاة ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد.
ب. الثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل.
ج. الثالث: أنه إدامتها، والعرب تقول في الشيء الرّاتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان.
5. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ أي: أعطيناهم ﴿يُنْفِقُونَ ﴾ أي: يخرجون، وأصل الإِنفاق الإِخراج، يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها، وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة.
ب. الثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة.
ج. الثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك.
د. الرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرّق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت.
6. الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحجّ والصّوم ونحوهما.
7. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضّحّاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل.
ب. الثاني: أنها نزلت في العرب الذين آمنوا بالنبيّ وبما أنزل من قبله، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس
8. اختلف في الذي أنزل إليه:
أ. قيل: القرآن.
ب. وقال شيخنا عليّ بن عبيد الله: القرآن وغيره مما أوحي إليه.
9. ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني الكتاب المتقدّمة والوحي، فأما (الآخرة) فهي اسم لما بعد الدنيا، وسمّيت آخرة:
أ. قيل: لأن الدنيا قد تقدّمتها.
ب. وقيل: سمّيت آخرة لأنها نهاية الأمر.
10. ﴿يُوقِنُونَ ﴾، اليقين: ما حصلت به الثقة، وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب.
__________
(1) زاد المسير: 1/29.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المشار إليه في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ليس بالضرورة أن يكون حاضرا لوجوه:
أ. أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، قال الله تعالى: ﴿ وإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ [الأعراف: 204]، وقال حاكياً عن الجن ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، وقوله: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: 30]، وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت.
ب. ثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5] وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث.
ج. ثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل.
د. رابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: ﴿ وإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا ﴾ [الزخرف: 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.
هـ. خامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى (ألم) بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد.
و. سادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئاً ـ احتفظ بذلك.
ز. سابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.
2. لفظة ﴿ذَلِكَ﴾ يشار بها في اللغة العربية للقريب والبعيد، وبيانه أن ذلك، وهذا حرفا إشارة، وأصلهما (ذا)، لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: 245] ومعنى (ها) تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على (ذا) للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: (ذلك) فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيد البعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض.
3. بناء على هذا فإن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ يحمل هنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البعد، ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى: ﴿ واذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿ وكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ﴾ [ص: 45 ـ 48] ثم قال: ﴿هَذَا ذِكْرٌ﴾ [الأنبياء: 24] وقال: ﴿ وعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ﴾ [ص: 52، 53] وقال: ﴿ وجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19] وقال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 25، 26] وقال: ﴿ ولَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105] ثم قال: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 106] وقال: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 73] أي هكذا يحيي الله الموتى، وقال: ﴿ وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ﴾ [طه: 17] أي ما هذه التي بيمينك.
4. سؤال وإشكال: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة، والجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث، لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو (ألم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (ألم)، لا الذي هو مؤنث وهو السورة.
5. الكتاب: وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ [ص: 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه:
أ. أحدها: الفرض ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]
ب. ثانيها: الحجة والبرهان ﴿فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الصافات: 157] أي برهانكم.
ج. ثالثها: الأجل ﴿ وما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4] أي أجل.
د. رابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده ﴿ والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ﴾ [النور: 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة.
6. اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.
7. اتصال قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ بقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، إن اعتبرنا ﴿أَلَمْ﴾ اسماً للسورة ففي التأليف وجوه(2).:
أ. أن يكون ﴿أَلَمْ﴾ مبتدأ و ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ثانياً و ﴿الْكِتَابِ﴾ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود.
ب. وأن يكون ﴿أَلَمْ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هذه ﴿أَلَمْ﴾ ويكون ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ خبراً ثانياً أو بدلًا على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك.
ج. وأن تكون هذه ﴿أَلَمْ﴾ جملة و ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جملة أخرى.
8. اتصال قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ بقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، إن اعتبرنا ﴿أَلَمْ﴾ بمنزلة الصوت كان ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ وخبره ﴿الْكِتَابِ﴾ أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [السجدة: 2] وتأليف هذا ظاهر.
9. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ : الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقد يستعمل الريب في قولهم: (ريب الدهر) و(ريب الزمان) أي حوادثه قال الله تعالى: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30] ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر:
قضينا من تهامة كل ريب... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
و هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن.
10. قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً، ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: ﴿ وإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ﴾ [البقرة: 23]
11. سؤال وإشكال: إن عنى بقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه؟ والجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك، لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.
12. سؤال وإشكال: لم قال هاهنا: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ وفي موضع آخر ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: 47]؟ والجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا.
13. سؤال وإشكال: من أين يدل قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ على نفي الريب بالكلية؟ والجواب: قرأ أبو الشعثاء ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ بالرفع، واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: ﴿لَا رَيْبَ﴾ نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: (لا إله إلا الله) نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى، وأما قولنا: (لا ريب فيه) بالرفع فهو نقيض لقولنا: ﴿رَيْبَ فِيهِ﴾ وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.
14. الوقف على ﴿فِيهِ﴾ هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على ﴿لَا رَيْبَ﴾ ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ﴾ [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: (لا ريب فيه فيه هدى)، والقراءة الأولى أولى، لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.
15. اختلف في معنى الهدى هل هو عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، أو أنه الاهتداء والعلم:
أ. قيل: هو الدلالة الموصلة إلى البغية ودليله أمور ثلاثة:
• أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: 16] وقال: ﴿لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]
• ثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد.
• ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الانكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى.
ب. وقيل: هو الاهتداء والعلم، ذلك أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: ﴿ وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ﴾ [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، وقد أجابوا عما ذكره أصحاب القول الأول بما يلي:
• عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع.
• عن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً، وغير منتفع به لا يسمى مهدياً، ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.
• عن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
16. المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، والله تعالى ذكر المتقي هنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات.
17. اختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى أم لا:
أ. قال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد.
ب. وقال آخرون: لا يدخل.
18. لا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)، وعن ابن عباس قال: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه.
19. التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ [النساء: 1] ومثله في أول الحج، وفي الشعراء ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [هود: 106] يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ [نوح: 3] يعني اخشوه، وكذا قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102] ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: 48]
20. حقيقة التقوى وإن كانت هي الخشية إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعاً: والإخلاص خامساً:
أ. أما الإيمان فقوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: 26] أي التوحيد ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات: 3]، وفي الشعراء ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ﴾ [الشعراء: 11] أي ألا يؤمنون.
ب. أما التوبة فقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ [الأعراف: 96] أي تابوا.
ج. أما الطاعة فقوله في النحل: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2] وفيه أيضاً: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ [النحل: 52] وفي المؤمنين ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52]
د. أما ترك المعصية فقوله: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 189] أي فلا تعصوه.
هـ. أما الإخلاص فقوله في الحج: ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32] أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41]
21. مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128] وقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] وعن ابن عباس قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده)، وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة.. ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 185] ثم قال هاهنا في القرآن: إنه هدى للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.
22. سؤال وإشكال: كون الشيء هدى ودليلًا لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلما ذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين، والجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: 45] وقال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11] وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره، أما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلًا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين.
23. سؤال وإشكال: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولًا إلى الخوارج لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فيكف يكون هدى؟ والجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين ـ وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع ـ صار كله هدى.
24. سؤال وإشكال: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟ والجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.
25. قوله: ﴿أَلَمْ﴾ جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جملة ثانية، و ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالثة و ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة، والرابعة.. وبيانه: أنه نبه أولًا على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ الذي هو هدى ـ موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكراً.
26. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ : ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ فإذا كان موصولًا كان الوقف على المتقين حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً.
27. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلًا للحسنات وتاركاً للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب ـ وهو قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ ـ وإما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة، لأن العبادة إما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة، ولهذا سمى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام)، وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين، وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، واللوح يجب تطهيره أولًا عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي.
28. الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى (أقر وأعترف) وأما ما حكى أبو زيد: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت، فحقيقته صرت ذا أمن، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق.
29. في قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني ـ أن قوله: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزءون، ونظيره قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ [يوسف: 52] ويقول الرجل لغيره: نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، واحتج أبو مسلم على قوله بأمور:
• الأول: أن قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وأنه غير جائز.
• الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59] أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور.
• الثالث: لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته، فقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.
ب. الثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة، وأجاب هؤلاء على أصحاب القول الأول بما يلي:
• عن الأول: أن قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة، وهو جائز كما في قوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]
• عن الثاني: أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً.
• عن الثالث: لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته.
30. ينقسم الغيب إلى ما عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم،
31. سؤال وإشكال: أتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ والجواب: الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، ويفيد الكلام فلا يلتبس، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة.
32. قال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: 55] وأما الخبر فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)، واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل.
33. ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً:
أ. أحدها: أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قومه.
ب. ثانيها: أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المعارج: 34] وقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [المعارج: 23] من قامت السوق إذا نفقت، وإقامتها نفاقها، لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه.
ج. ثالثها: أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها، وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط.
د. رابعها: إقامتها عبارة عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبح إذا صلى، لوجود التسبيح فيها، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [الصافات: 143]
34. الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها، ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطى الحقوق من دون بخس ونقص، ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم، لأنه يجب دوام وجوده، ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده.
35. ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً:
أ. أحدها: أنها الدعاء قال الشاعر:
وقابلها الريح في دنها... وصلى على دنها وارتشم
ب. ثانيها: اشتقاقها من الصلى، وهي النار، من قولهم: صليت العصا إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار.
ج. ثالثها: أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية: 4]، ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 3] وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً.
د. رابعها: الصلاة فعلة من (صلى) كالزكاة من (زكى) وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل الداعي مصلي تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد، وهذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب (الكشاف) يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن يقال: مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر، وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة، فلما كان ذلك باطلًا بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
36. الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم، مختتمة بالتحليل، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل، لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة، لأنه الذي يقف الفلاح عليه، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفلح إن صدق)
37. الرزق في كلام العرب هو الحظ، قال تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82] أي حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره:
أ. قال بعضهم: الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [الرعد: 22] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه.
ب. وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل، لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة، ويقول: اللهم ارزقني عقلًا أعيش به وليس العقل بمملوك، وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك.
38. اختلف في معنى الرزق في عرف الشرع:
أ. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله تعالى الأموال، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالًا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به، ولما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقاً.
ب. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: الحرام قد يكون رزقاً، وحجة ذلك من وجهين:
• الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له.
• الثاني: أنه تعالى قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً.
39. استدلّ المعتزلة، ومن وافقهم على أن الحرام لا يكون رزقاً بالكتاب والسنة والمعنى:
أ. أما الكتاب فوجوه:
• أحدها: قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى، فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق.
• ثانيها: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 254] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أنه ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقاً.
• ثالثها: قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً.
ب. أما السنة، فما رواه أبو الحسين في كتاب (الغرر) بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له: يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعاً)
ج. أما المعنى، فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام، وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال إن السلطان قد رزق جنده مالًا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه.
40. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم على ما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم:
أ. عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكلاب والخنازير، وقال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضاً من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً.
ب. أجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه) صريح في أن الرزق قد يكون حراماً.
ج. أجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ.
41. أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 35]
42. في قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ فوائد:
أ. أحدها: أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن: الإسراف والتبذير المنهي عنه.
ب. ثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به.
43. يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح:
أ. الإنفاق الواجب أقسام:
• أحدها: الزكاة وهي قوله في آية الكنز: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34].
• ثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته.
• ثالثها: الإنفاق في الجهاد.
ب. الإنفاق المندوب هو أيضاً إنفاق لقوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ وأراد به الصدقة لقوله بعده: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 10].
44. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3] عام يتناول كل من آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام، أو ما كان مؤمناً بهما، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 2، 3] فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] ثم تخصيص عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام.
45. لا نزاع في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق، فإذا قلنا فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالاتفاق لكن لا بد معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكون كاذباً فهو إلى الذم أقرب.
46. المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلًا، ومنزلًا، ومنزولًا به، أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به، وهذا كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر، والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤدي في سفل، وقوله الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر.
47. سؤال وإشكال: كيف سمع جبريل كلام الله تعالى، وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ والجواب: يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم.
48. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ هذا الإيمان واجب، لأنه قال في آخره: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5] فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل التفصيل، لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملًا إلا إذا علمه على سبيل التفصيل، ولأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل التفصيل غير واجب على العامة.
49. ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ المراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد، والإيمان به واجب على الجملة، لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل، بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل.
50. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ : الآخرة صفة الدار الآخرة، وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة.
51. اليقين: هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه، فلذلك لا يقول القائل: تيقنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي لما أن العلم به غير مستدرك، ويقال ذلك في العلم الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً، فيقول القائل: تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء.
52. مدحهم الله تعالى على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار، روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة)
53. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة:
أ. أحدها: أن ينوي الابتداء ب ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، وذلك لأنه لما قيل: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول: ما السبب في اختصاص المتقين بذلك؟ فوقع قوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ جواباً عن هذا السؤال، كأنه قيل: الذي يكون مشتغلًا بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بد وأن يكون على هدى من ربه.
ب. ثانيها: أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ ثم يقع الابتداء من قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلًا وبالفلاح آجلًا.
ج. ثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة المتقين ويرفع الثاني على الابتداء و ﴿أُولَئِكَ﴾ خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى.
54. معنى الاستعلاء في قوله: ﴿عَلَى هُدًى﴾ بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره (فلان على الحق، أو على الباطل)، وقد صرحوا به في قولهم: (جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل)، وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه عن المطاعن والشبه، فكأنه تعالى مدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولًا، ومدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً، وذلك واجب على المكلف، لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بد من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة، وإنما نكر ﴿هُدًى﴾ ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلًا. قال عون بن عبد الله: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدى بها إلا العلماء.
55. في تكرير ﴿أُولَئِكَ﴾ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين.
56. سؤال وإشكال: لم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، والجواب: اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
57. قوله تعالى: ﴿هُمْ﴾ فصل، وله فائدتان:
أ. إحداهما: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة.
ب. ثانيتهما: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان، أما لو قلت: الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان.
58. معنى التعريف في ﴿الْمُفْلِحُونَ ﴾ الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل زيد التائب، أي هو الذي أخبرت بتوبته، أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم، كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو.
59. المفلح: الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه، والمفلج بالجيم مثله، والتركيب دال على معنى الشق والفتح، ولهذا سمي الزراع فلاحاً، ومشقوق الشفة السفلى أفلح، وفي المثل (الحديد بالحديد يفلح) وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علماً وعملًا بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام، لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات.
60. هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه، والمرجئة من وجه آخر:
أ. أما الوعيدية فمن وجهين:
• الأول: أن قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة والزكاة.
• الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح، فوجب أن لا يحصل الفلاح.
ب. أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً وإن زنى وسرق وشرب الخمر، وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة، إذ لا قائل بالفرق.
61. كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان، ثم:
أ. الجواب عن قول الوعيدية:
• أن قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملًا في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً منه.
• وعن الثاني: أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى.
ب. والجواب عن قول المرجئة: أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن اتقاء المعاصي، واتقاء ترك الواجبات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/259.
(2) الكلام في هذه المسألة كله نسبه للزمخشري، ولم يعقب عليه، تفسير الفخر الرازي: 2/266.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ :
أ. قيل: المعنى هذا الكتاب، و(ذلك) قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾، ومنه قول خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يأطر متنه... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا. فـ (ذلك) أي أنا هذا، فـ ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه، وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ .. ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي هذه، لكنها لما أنقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ بيان ودلالة، كقوله: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ هذا حكم الله، وقد جاء (هذا) بمعنى (ذلك)، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أم حرام: (يركبون ثبج هذا البحر) أي ذلك البحر.
ب. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.
2. اختلف من قال أن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ على بابه إشارة إلى غائب في ذلك الغائب على أقوال عشرة:
أ. قيل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، أي لا مبدل له.
ب. وقيل: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، أي الذي كتبت على نفسي في الأزل (أن رحمتي سبقت غضبي)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي) في رواية: (سبقت)
ج. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان) الحديث.
د. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.
هـ. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2 1] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.
و. وقيل: إن ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل، و ﴿أَلَمْ﴾ اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.
ز. وقيل: إن ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ ﴿ذَلِكَ﴾ عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 68] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر.
ح. وقيل: إن ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى اللوح المحفوظ، وقال الكسائي: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد.
ط. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
ي. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: ﴿أَلَمْ﴾ الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.
3. الكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها، وتكتبت الخيل صارت كتائب، وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير، قال:
لا تأمنن فزاريا حللت به... على قلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة (بضم الكاف): الخرزة، والجمع كتب، والكتب: الخرز. قال ذو الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها... مشلشل ضيعته بينها الكتب
والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:
تؤمل رجعة مني وفيها... كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجعدي:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني... عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
4. قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ﴾ نفي عام، ولذلك نصب الريب به، وفي الريب ثلاثة معان:
أ. أحدها الشك، قال عبد الله بن الزبعري:
ليس في الحق يا أميمة ريب... إنما الريب ما يقول الجهول
ب. ثانيها التهمة، قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني... فقلت كلانا يا بثين مريب
ج. ثالثها: الحاجة، قال:
قضينا من تهامة كل ريب... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
5. كتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى:
أ. قيل: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفه من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار.
ب. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا، وتقول: رابني هذا الامر إذا أدخل عليك شكا وخوفا، وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب، ورابني أمره، وريب الدهر: صروفه.
6. ﴿فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى، والهدى هديان:
أ. هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 7]، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه.
ب. وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي﴾ ﴾ مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56] فالهدى على هذا يجئ بمعنى خلق الايمان في القلب، ومنه قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] وقوله: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: 8]
7. الهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت، قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: ﴿فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ﴾ [محمد: 5 4]، ومنه قوله تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها.
8. الهدى لفظ مؤنث قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة، وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته، الاولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش، وفي التنزيل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، و ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43]، وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لان الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مقبل:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة... يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
9. خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه، وروي عن أبي روق أنه قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم.
10. التقوى: يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس، ومنه الحديث: (التقي ملجم)، والمتقي فوق المؤمن والطائع، وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:
ولم ترد إسقاطه... فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت... بأحسن موصولين كف ومعصم
وعن ابن مسعود قال: قال يوما لابن أخيه: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم، وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله، وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات.. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق، قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق.
11. ﴿يُؤْمِنُونَ ﴾ يصدقون، والايمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ .. ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى﴾ وروى حجاج بن حجاج الأحول ويلقب بزق العسل قال سمعت قتادة يقول: يا بن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السآمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.
﴿بِالْغَيْبِ﴾ الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء، يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة، وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطه من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
12. اختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا:
أ. قالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وضعفه ابن العربي.
ب. وقال آخرون: القضاء والقدر.
ج. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
د. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار.
وقيل: ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن، وقال الشاعر:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا... يصلون للأوثان قبل محمد
13. هذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها، وهذا هو الايمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: فأخبرني عن الايمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت، وذكر الحديث، وقال عبد الله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، وفي التنزيل: ﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾ وقال: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ )، فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ :
أ. قيل: إقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر: وقامت الحرب بنا على ساق.. وقال آخر:
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا... حتى تقيم الخيل سوق طعان
ب. وقيل: ﴿يُقِيمُونَ﴾ يديمون، وأقامه أي أدامه.
15. اختلف في أصل كلمة الصلاة:
أ. قيل: أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل) أي فليدع، وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر، وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال الأعشى أيضا:
وقابلها الريح في دنها... وصلى على دنها وارتسم
ارتسم الرجل: كبر ودعا، قاله في الصحاح،
ب. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لان الراكع تثنى صلواه، والصلاة: مغرز الذنب من الفرس.. والاثنان صلوان، والمصلي: تالي السابق، لان رأسه عند صلاه.
ج. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية: 4]، وقال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم اللَّـ... ه وإني بحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها، وكان المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.
د. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء، والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:
فلا تعجل بأمرك واستدمه... فما صلى عصاك كمستديم
16. الصلاة لفظ مشترك:
أ. الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: (اللهم صل على محمد) الحديث.
ب. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ﴾ [الأنفال: 35] الآية، أي عبادتهم.
ج. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ [طه: 132]
د. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [الصافات: 143] أي من المصلين، ومنه سبحة الضحى، وقد قيل في تأويل ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: 30] نصلي.
هـ. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ﴾ [الاسراء: 110]
و. والصلاة: بيت يصلي فيه، قاله ابن فارس.
17. اختلف الأصوليون هل الصلاة مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الايمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع، والأول أصح، لان الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء.
18. اختلف في المراد بالصلاة هنا:
أ. قيل: الفرائض.
ب. وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لان اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.
19. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى الملك، قالوا: فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوى وصار لصا، ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا، وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا، ولا البهائم التي ترتع في الصحراء، ولا السخال من البهائم، لان لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال، ولما اجتمعت الامة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولان الامة مجمعة على أن العبيد والإماء مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين، فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه، والذي يدل على أنه لا رازق سواه قوله الحق: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 3] وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58] وقال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] وهذا قاطع، فالله تعالى رازق حقيقة وابن آدم رازق تجوزا، لأنه يملك ملكا منتزعا، مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك لها، إلا أن الشيء إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما، وما كان منه غير مأذون له في تناوله فهو حرام حكما، وجميع ذلك رزق، وخرّج بعض النبلاء من قوله تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15] فقال: ذكر المغفرة يشير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.
20. الرزق: مصدر رزق يرزق رزقا ورزقا، فالرزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق، والرزق: العطاء، والرازقية: ثياب كتان بيض]، وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم، والرزقة: المرة الواحدة، هكذا قال أهل اللغة، وقال ابن السكيت: الرزق بلغة أزد شنوءة: الشكر، وهو قوله عز وجل: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82] أي شكركم التكذيب، ويقول: رزقني أي شكرني.
21. ينفقون: يخرجون، والإنفاق: إخراج المال من اليد، ومنه نفق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري، ونفقت الدابة: خرجت روحها، ومنه النافقاء لجحر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى، ومنه المنافق، لأنه يخرج من الايمان أو يخرج الايمان من قلبه، ونيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها، ونفق الزاد: فنى وأنفقه صاحبه، وأنفق القوم: فني زادهم، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾ [الاسراء: 100]
22. اختلف العلماء في المراد بالنفقة هاهنا،
أ. قيل: الزكاة المفروضة، روي عن ابن عباس لمقارنتها الصلاة.
ب. وقيل: نفقة الرجل على أهله روي عن ابن مسعود لان ذلك أفضل النفقة، روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)، وروي عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عز وجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله) قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأى رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
ج. وقيل: المراد صدقة التطوع روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم تكن إلا التطوع، قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر جدتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في براءة.
د. وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الأموال ما عدا الزكاة، لان الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
هـ. وقيل: هو عام وهو الصحيح، لأنه خرج مخرج المدح في الإنفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعن في بعض الأحوال مع ما ندبهم إليه.
و. وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ أي مما علمناهم يعلمون، حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري.
23. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ :
أ. قيل: المراد مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وفية نزلت، ونزلت الاولى في مؤمني العرب.
ب. وقيل: الآيتان جميعا في المؤمنين، وعليه فإعراب ﴿الَّذِينَ﴾ خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين، ومن جعلها في صنفين فإعراب ﴿الَّذِينَ﴾ رفع بالابتداء، وخبره ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ ويحتمل الخفض عطفا.
24. ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعني الكتب السالفة، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 91] الآية، ويقال: لما نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب، فلما قال: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 3] قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ قالوا: نحن ننفق ونتصدق، فلما قال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ نفروا من ذلك، وفي حديث أبي ذر قال قلت: يا رسول الله كم كتابا أنزل الله؟ قال: (مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان)
25. سؤال وإشكال: كيف يمكن الايمان بجميعها مع تنافي أحكامها؟ والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما أن الايمان بأن جميعها نزل من عند الله، وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع.
ب. الثاني أن الايمان بما لم ينسخ منها، وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة.
26. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ أي وبالبعث والنشر هم عالمون، واليقين: العلم دون الشك، يقال منه: يقنت الامر (بالكسر) يقنا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى، وأنا على يقين منه، وإنما صارت الياء واوا في قولك: موقن، للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع، وربما عبروا باليقين عن الظن، ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو: هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شي عليه، قال الشاعر:
تحسب هواس وأيقن أنني... بها مفتد من واحد لا أغامره
يقول: تشمم الأسد ناقتي، يظن أنني مفتد بها منه، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته، فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير.. والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها، كما أن الدنيا مشتقة من الدنو، على ما يأتي.
27. في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ رد على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
28. الفلاح: أصله في اللغة الشق والقطع، قال الشاعر: إن الحديد بالحديد يفلح.. أي يشق، ومنه فلاحه الأرضين إنما هو شقها للحرث، قال أبو عبيد، ولذلك سمي الأكار:
لها رطل تكيل الزيت فيه... وفلاح يسوق لها حمارا
ثم الفلاح في العرف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 160.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذلك الكِتابُ﴾ القرآن الشبيه في علوِّ شأنه بالعالي حِسًّا كالعرشِ، وأصل الإشارة أن تكونَ إلى محسوسٍ، فإذا أشير إلى غير محسوس لاستحالة إحساسه، مثل: ﴿ذَالِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: 102]، أو لعدم حضوره نحو: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ﴾ [مريم: 63] فلِتحَقُّقِه كالمشاهَد، وعبارة البُعد للتعظيم، ولأنَّ كلَّ ما انقضى أو ليس في يدك فهو بعيد.
2. ﴿لَا رَيْبَ فيهِ﴾ ليس أهلا لأَن يَشكَّ فيه عاقل لظهور براهينه، ومن شكَّ فيه أهو من الله فلِقصور نظره، أو عدم استعمال عقله، قيل: أو لا ريب فيه عند الله والمؤمنين والنبيء، ويضعف أن يكون المعنى: لا تشُكُّوا فيه، لِما علمت من ضعف مجيء الجملة الاسميَّة للإنشاء.
3. ﴿هُدًى﴾ من الشرك والمعاصي، ﴿للمُتَّقين﴾ الذين قضى الله أن يرجعوا إلى التوحيد، والعبادة، وترك المعاصي، والحذر منها ومن العقاب عليها؛ أو ذلك ثابت لهم، أو زيادة، أو أراد للمتَّقين وغيرهم فَحُذِفَ، وهذا ضعيف؛ أو خصَّهم لأنَّهم الفائزون كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَنْ يَّخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، وكذا على الحذف.
4. والتقوى: تقوى الشرك وهي تقوى العوامِّ، ولا تنفع في الآخرة بلا أداء فرض واجتناب فسق؛ وتقوى الخواصِّ، وهي: تقوى الشرك والمعاصي مع أداء الواجب والسنن المؤكَّدة؛ وتقوى خَواصِّ الخواصِّ هي: تقوى ما يُشغِل عن الله تعالى ، ويسمِّيه بعض العلماء: ورع الصدِّيقين.
5. و(هدًى): خبر ثان لـ (ذلك)، أو (لا ريب) محذوف الخبر، و(فيه) خبر لـ (هدى).
6. ﴿الَّذِينَ يُومِنُونَ﴾ في قلوبهم وألسنتهم لا فيها فقط، ﴿بِالغَيْبِ﴾ بذي الغيب، أو الغائب وهو الله 2 ، وما أَخبَرَ عنه ممَّا سيكون في الدنيا أو الآخرة، أو كان ولم يشاهدوه، أو آمنوا بذلك وهم في غيب عنه.
7. ﴿وَيُقِيمُونَ اَلصَّلَاةَ﴾ يأتون بها في وقتها المختار لا الضروريِّ ـ إلَّا لعذر ـ بطهارة، وخشوع، وإخلاص، وترك ما يكره؛ حتَّى كأنَّها كجسم مستقيم لا عِوَج فيه، أو كسُوقٍ أقيمت ورُغِب فيها، وذلك مستتبع لإقامة صلاة النفل، إلَّا أنَّه لا عقاب عليها، وقال الجمهور: المراد صلاة الفرض، وعليه ابن عبَّاس، ومثل هذا اللفظ حقيقة شرعيَّة عن معنى لغويٍّ مجازٌ لغويٌّ كما هو المشهور، وقال الباقلَّاني: مجاز، وقال المعتزلة: حقيقة شرعيَّة مخترعة وليست منقولة عن معان لغويَّة.
8. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ طعاما، أو دراهم، أو ثيابا، أو دوابَّ، أو عقارًا، أو غير ذلك من الحلال، إذ لا مدح بإنفاق الحرام؛ لأنَّ التصرُّف فيه وإمساكه كفر نعمةٍ.
9. ﴿يُنفِقُونَ﴾ في طاعة الله، كإنفاق مَن تجب نفقته مِن أهلٍ ورحمٍ، وتنجيةِ مضطرٍّ، وضيف، وإنفاق الزكاة، وكإنفاق تطوُّعٍ، وكإنفاق نفسه بنيَّة أن يتقوَّى على العبادة وأن ينفر عن مال الناس.
10. قيل: إن أُريدَ بالتقوى في قوله: ﴿للمتَّقينَ﴾ اتِّقاء الشرك فـ (الذين..) إلخ صفة مخصِّصة، أو تركَ المعاصي فكاشفة، أو تركَ ما لا بأس به مخافة أن يقع في البأس فمادحة؛ كما في حديث الترمذي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ مِن المتَّقين حتَّى يَدَع ما لا بأسَ به حذرًا ممَّا فيه بأس).
11. ﴿وَالَّذِينَ يُومِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ القرآن وسائر الوحي ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ على الأنبياء من كتب وغيرها، ﴿وَبِالَاخِرَةِ﴾ البعث والموقف، والجنَّة والنار، قدِّم للاهتمام والفاصلة على قوله: ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾
12. وذِكْرُ (الَّذِينَ يُومِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ) تخصيص بعد تعميم، وهو شامل لمن لم يكفر ـ من أهل الكتاب ـ بسيِّدنا موسى أو سيدنا عيسى عليه السلام ، وَلَمَّا بُعث سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يَكفُرْ به ولكنَّه طَلبَ الدليلَ، فآمن به صلّى الله عليه وآله وسلّم كعبد الله بن سلَّام، وكعب الأحبار، ﴿أُوْلَئِكَ يُوتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ [القصص: 54]، وقيل: هم المراد، وفي الآية ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان.
13. وعطف (الَّذِينَ) عطف صفة في وجه العموم، وإن أريدَ مؤمنو أهل الكتاب فمجرَّد عطف، أو مبتدأ خبره (أولئك..) إلخ، ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات، العالون شأنا ومرتبة، وقس على ذلك سائر إشارات البعد في سائر القرآن، وما كان في السوء فإشارة البعد فيه للبعد عن مقام الخير.
14. ﴿عَلَى هُدًى﴾ متمكِّنون من الهدى تمكُّن الراكب من مركوبه القويِّ، المطاوع، الملجَم في يد المستولِي، ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾ آت من ربِّهم، أو ثابت منه دلالة وتوفيقا، ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ كرَّر الإشارة إذ لم يقل: وهم المفلحون، تنبيها على مزيد الاعتناء بشأنهم، وعلى أنَّ اتِّصافهم بتلك الصفات يقتضي أن يحصل لهم الكون على الهدى من ربِّهم، وكونهم مفلحين كما قال: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بالحظِّ الأكمل: النجاة من النار، ودخول الجنَّة؛ وهذا حصر، فمن ترك الصلاة أو الزكاة فليس مفلحا، فهو في النار مخلَّد؛ لأنَّ مقابل الإفلاح الخسارُ والهلاك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/33.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ : أي: هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [السجدة: 1 ـ 2].. قال بعض المحققين: اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة، فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة، ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.
2. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، الريب في الأصل: مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة، وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة، وفي الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وذلك لعلوّ الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى، والأمر كذلك، لأن العرب، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.
3. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي: هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين، والهدى يطلق في القرآن على معنيين:
أ. أحدهما: الإرشاد وإيضاح سبيل الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17]، وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أو لا.
ب. الآخر: خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]
4. إذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا، وعلى الأول، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: 45]، وقال ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11]، وقد كان، صلّى الله عليه وآله وسلّم، منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره، وهذه الآية نظير آية: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44]، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، وكقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، إلى غير ذلك، مما دلّ على أن النفع به لا يناله إلا الإبرار.
5. المراد بالمتقين ـ هنا ـ من نعتهم الله تعالى بقوله: أي يصدقون بِالْغَيْبِ، الغيب في الأصل مصدر غاب، بمعنى استتر واحتجب وخفي. وهو بمعنى الفاعل أطلق عليه مبالغة، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام.. والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم. كذاته تعالى، وملائكته، والجنّة، والنار، والعرش والكرسيّ، واللوح ونحوها.
6. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، أي يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة، كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء.. وإقامة الصلاة توفية حدودها، وإدامتها، وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط، لهذا، لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [هود: 114]، وقوله ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء: 78]، و ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [المائدة: 55]، ولم يقل: المصلي، إلا في المنافقين: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4 ـ 5]، وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل ـ كما قال عمر: الحاجّ قليل والركب كثير ـ ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صلى ركعتين مقبلا بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه)، فذكر مع قوله (صلّى) الإقبال بقلبه على الله تنبيها على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه، وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، نحو ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [المائدة: 66]، ونحو ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ [الرحمن: 9] تنبيها على المحافظة على تعديله.
7. الإقامة من أقام العود إذا قوّمه، و(الصلاة) فعلة من صلّى إذا دعا، ك (الزكاة) من زكى ـ وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم ـ وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.
8. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ والمراد ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ الكتاب المنزل كله، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي ـ وإن كان بعضه مترقبا ـ تغليبا للموجود على ما لم يوجد، كما أن المراد من قوله ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الكتب الإلهية السالفة كلها، وهذا كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النساء: 136] الآية.
9. الإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل، فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزّ وجلّ فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام، ولهذا يقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ، أي تكلم به حقيقة لا مجازا.. قال الإمام أحمد وغيره: وإليه يعود أي لا يبقى له أثر في الوجود أي هو المتكلم به قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 114]، وقال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الزمر: 1].
10. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ الآخرة في الأصل: تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ [القصص: 83]، سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا، وقيل للدنيا: دنيا، لأنها أدنى من الآخرة، وهما من الصفات الغالبة، ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء، إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما، كأنهما ليسا من الصفات.
11. الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه، وفي تقديم الآخرة وبناء ﴿يُوقِنُونَ ﴾ على ﴿هُمْ﴾ تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين!
12. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي: المتصفون بما تقدّم ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي على نور من ربّهم، وبرهان، واستقامة، وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ أي المنجحون، المدركون ما طلبوا عند الله بإيمانهم من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/244.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ الكتاب بمعنى المكتوب: وهو اسم جنس لما يكتب، والمراد بالكتاب هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني، والإشارة تفيد التعيين الشخصي أو النوعي، وليس المراد هنا نوعا من أنواع الكتب، بل المراد كتاب معروف معهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بوصفه، وذلك العهد مبني على صدق الوعد من الله بأنه يؤيده بكتاب تام كامل كافل لطلاب الحق بالهداية والإرشاد في جميع شئون المعاش والمعاد، فأشار بذلك إليه، ولا يضر أنه لم يكن موجودا كله وقت نزول أمثال هذه الإشارة، فقد يكفي في صحتها وجود البعض، وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أول هذه السورة وأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بكتابتها فكتبت وحفظت، فالإشارة إليها إشارة إليه، بل يكفي في صحة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها؛ لأنه يصح فيها وصف ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ والأول أشبه، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإكمال الكتاب كله.
2. من حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب (أي المكتوب المرقوم) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بكتابته دون غيره فهو الكتاب وحده، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل، لأنك تقول: أنا أملي كتابا، أو هلم أمل عليك كتابا، والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال، وعلوه عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي؛ لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء، وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي، وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه.
3. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الريب والريبة: الشك والظنة (التهمة) والمعنى: أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا في كونه هاديا مرشدا، ويصح أن يقال: إنه في قوة آياته ونصوع بيناته، بحيث لا يرتاب عاقل منصف وغير متعنت ولا متعسف في كونه هداية مفاضة من سماء الحق مهداة إلى الخلق، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته، ولا أسلوبه حتى بعد نبوته ـ ولهذا قال فيما يأتي قريبا ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وحاصله: أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية ـ لا يمكن أن توجه إليه الشبهة، أو تحوم الريبة، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته، أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا أم لا.
4. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ خبر بعد خبر والهدى مصدر في الأصل كالتقى والسرى والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد.. لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا ـ دالا ـ لسائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته، واستقامتهم على طريقته.
5. كلمة (المتقين) من الاتقاء والاسم التقوى وأصل المادة: وقى يقي، والوقاية معروفة المعنى، وهو البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله: ﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ـ وَاتَّقُوا اللهَ ﴾، ﴿ واتقون يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقى ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته، ولا الخضوع الفطري لمشيئته.
6. مدافعة عذاب الله تعالى تكون باجتناب ما نهى، واتباع ما أمر، وذلك يحصل بالخوف من العذاب ومن المعذب، فالخوف يكون ابتداء من العذاب وفى الحقيقة من مصدره، فالمتقي هو من يحمى نفسه من العقاب ـ ولا بد في ذلك أن يكون عنده نظر ورشد يعرف بهما أسباب العقاب والآلام فيتقيها.
7. العقاب الإلهي الذى يجب على الناس اتقاؤه قسمان: دنيوي وأخروي: وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهى نوعان: مخالفة دين الله وشرعه.. ومخالفة سننه في نظام خلقه:
أ. فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافى ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول وعلماء الأمصار،
ب. أما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان، وأمثلتها ظاهرة، وسنن الاجتماع البشرى، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها، وإتقان آلاتها وأسلحتها، التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
8. المراد بهؤلاء المتقين فريقان:
أ. كان من الجاهليين من مقت عبادة الأصنام، وأدرك أن فاطر السموات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأن الاله الحق يحب الخير، ويبغض الشر، فكان منهم من اعتزل الناس لذلك، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية، وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم ـ وبعض الخيرات التي يهتدى إليها العقل في معاملات الخلق.
ب. وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، وبقوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾
9. أمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين، ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم، وفى نفوسهم شيء من التشوف إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعدادهم لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى، فالمتقون في هذه الآية إذن هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقى نور الحق يحملهم على توقى سخط الله تعالى والسعي في مرضاته، بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم.
10. الايمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها، وآيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصارف الذى يختلف باختلاف درجات المؤمنين في اليقين، والغيب ما غاب علمه عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة.
11. إقامة الصلاة: الاتيان بهذه العبادة الروحية البدنية على أكمل وجه ممكن، وللصلاة صورة وروح، فصورتها عبادة الأعضاء، وروحها عبادة القلب، كما يعلم مما يأتي، وجمهور المفسرين على أن هذه الآية في المسلمين من العرب أو مطلقا، وما بعدها فيمن أسلم من أهل الكتاب خاصة، وفسرهما محمد عبده تفسيرا هو أقرب إلى مدلول النظم، وان كان أبعد عن الروايات فقال ما مثاله: الناس قسمان مادى لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادى يؤمن بما لا يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ولا شك أن الايمان بالله، وملائكته ـ وهى جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها سبحانه وتعالى ـ وباليوم الآخر: إيمان بالغيب، ومن لا يؤمن بالله لا يمكن أن يهتدى بالقرآن، ومن يتصدى لهدايته لا بد له أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي لا تتحقق الألوهية إلا بها ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من لدنه تعالى، لذلك وصف الله المتقين الذين يهتدون بالقرآن بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾
12. الايمان بالغب هو الاعتقاد بموجود وراء المحسوس، وصاحب هذا الاعتقاد واقف على طريق الرشاد وقائم على أول النهج، لا يحتاج إلا الى من يدله على المسلك، ويأخذ بيده إلى الغاية، فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل، وإن كانت لا يأتي عليها الحس، إذا أقمت له الدليل على وجود فاطر السموات والأرض المستعلى عن المادة ولواحقها، المتصف بما وصف به نفسه على ألسنة رسله، سهل عليه التصديق وخف عليه النظر في جلى المقدمات وخفيها، وإذا جاء الرسول بوصف اليوم الآخر أو بذكر عالم من العوالم التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة مثلا لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر بعد ثبوت النبوة ـ لهذا جعل الله سبحانه هذا الوصف في مقدمة أوصاف المتقين الذين يجدون في القرآن هدى لهم، وأما من لا يعرف من الموجود إلا المحسوس ويظن أن لا شيء وراء المحسوسات وما اشتملت عليه، فنفسه تنفر من ذكر ما وراء مشهوده أو ما يشبه مشهوده، وقلما تجد السبيل إلى قلبه إذا بدأته بدعواك، نعم قد توصلك المجاهدة بعد مرور الزمان في إيراد المقدمات البعيدة، والأخذ به في الطرق المختلفة، إلى تقريبه مما تطلب، ولكن هيهات أن ينصرك الصبر، أو يخضعه القهر، حتى يتم لك منه الأمر، فمثل هذا إذا عرض عليه القرآن نبا عنه سمعه، ولم يجمل من نفسه وقعه فكيف يجد فيه هداية، أو منقذا من غواية؟
13. لما كان الايمان بالغيب يطلق عند الناس على ذلك الاستسلام التقليدي الذى لم يأخذ من النفس إلا ما أخذ اللفظ من اللسان، وليس له أثر في الأفعال، لأنه لم يقع تحت نظر العقل، ولم يلحظه وجدان القلب، بل أغلقت عليه خزانة الوهم، ومثل هذا الذى يسمونه إيمانا لا يفيد في إعداد القلب للاهتداء بالقرآن ـ لما كان هذا شأنهم منّ الله علينا ببيان يشعر بحقيقة ما أراده تعالى من معنى الايمان فذكر علامات المؤمنين بالغيب الذين ينتفعون بهداية القرآن بالجمل الآتية.
14. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، الصلاة اظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل أو كليهما، وهو المراد بقولهم (الصلاة معناها الدعاء) لأن إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم ولو بالفعل فقط التماس للحاجة واستدرار للنعمة، أو طلب لدفع النقمة، أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدى الملوك ناكسي رءوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبلونها، أليس الباعث على هذا العمل إما خوف من عقوبة يطلبون به دفعها، وإما حذر على نعمة يتوقون سلبها ورفعها، فيلتمسون بقاءها، ويرجون زيادتها ونماءها؟
15. هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليين وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب، والصلاة بالمعنى الذى ذكرناه قد ظهرت في الاسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإن هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذى جاءت به السنة المتواترة من أفضل ما يعبر به عن الاحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الانفس بعظمته لو أقامها المصلون وأتوا بها على وجهها.
16. لذلك قال ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ ولم يقل يصلون وفرق بينهما، فان الصلاة متى حددت بكيفية مخصوصة يقال لمن يؤديها بتلك الكيفية: إنه صلى، وإن كان عمله هذا خلوا من معنى الصلاة وقوامها المقصود من الهيئة الظاهرة، فاحتيج إلى لفظ يدل على هذا المعنى الذى به قوام الصلاة، وهو ما عبر عنه القرآن بلفظ الإقامة، وقد قالوا إن اقامة الصلاة عبارة عن الإتيان بجميع حقوقها من كمال الطهارة، واستيفاء الأركان والسنن، وهو لا يعدو وصف الصورة الظاهرة، وإنما قوام الصلاة الذى يحصل بالإقامة: هو التوجه إلى الله تعالى والخشوع الحقيقي له، والإحساس بالحاجة إليه تعالى، فإذا خلت صورة الصلاة من هذا المعنى لم يصدق على المصلى أنه أقام الصلاة فانه قد هدمها بإخلائها من عمادها، وقتلها بسلبها روحها، ومن غريب مزاعم من يسمون أنفسهم بالمسلمين: أن حضور القلب في جميع أجزاء الصلاة واستشعار الخشية من أصعب ما تتجشمة النفس، بل يكاد يكون مستحيلا، لغلبة الخواطر على ذهن المصلى، هذا وأخشى أن يكون هذا جحودا لمعنى الصلاة، وإنما عرض لهم هذا الوهم الباطل من شدة الغفلة، واستحكام العلة، وإني أدلهم على طريقة لو أخذوا بها لشغلوا بمعنى الصلاة حتى عن الصلاة نفسها، تلك الطريقة: هي أن لا ينطق المصلى بلفظ إلا وهو يستورد معناه على ذهنه، فإذا قال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يستحضر معنى الحمد وإضافته إلى ذات الله تعالى، مع وصفه بالربوبية لجميع الأكوان العلوية والسفلية، وإذا قال مثل ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ تصور معنى الملك وتعلقه بذلك اليوم يوم الجزاء، وهكذا ـ فاذا أخذ المصلى على نفسه أن يتصور المعاني من ألفاظها التي ينطق بها فقد أقام الصلاة، أما وهو ينطق ولا يفقه ولا يلحظ بذهنه معنى لفظ ما يقول، فكيف يزعم أنه يصلى، فضلا عن أنه يقيم الصلاة؟
17. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ الرزق في اللغة النصيب والعطاء ويطلق على الحسى والمعنوي، كالمال والولد والعلم والتقوى، ويخص بأمور المعاش بقرينة حالية أو لفظية، وقال علماء أهل السنة: الرزق ما انتفع به، حلالا كان أو حراما، وخصه المعتزلة بالحلال، ونفاق الشيء كنفاده، وأنفقه جعله ينفق بصرفه وإخراجه من يده.
18. قال الجمهور: إن الانفاق هنا يشمل النفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى وصدقه التطوع، إذ الآية نزلت قبل فرض الزكاة المعينة، وقوله تعالى ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ يدل على أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان لا كل ما يملك ـ فهو ركن من أركان الاقتصاد، والانفاق في سبيل الله أظهر آيات الايمان الصحيح.
19. هذا الوصف من أقوى أمارات الايمان بالغيب، لأن كثيرا من الناس يأتون بضروب العبادات البدنية كالصلاة والصوم، ومتى عرض لهم ما يقتضى بذل شيء من المال لله تعالى يمسكون ولا تسمج أنفسهم بالبذل، وليس المراد بالإنفاق هنا ما يكون على الأهل والولد، ولا ما يسمونه بالجود والكرم، كقرى الضيوف ابتغاء عوض كالشهرة والجاه، أو الأنس بالأصحاب، لأن هذا ليس من آثار الإيمان بالغيب، وإنما هو الإنفاق الناشئ عن شعور بأن الله تعالى هو الذى رزقه وأنعم عليه به، وأن الفقير المحروم عبد لله مثله، وأنه حرم من سعة العيش لضعف أو حرمان من الاسباب التي توصل إلى الرزق أو عن إحساس بأن مصلحة من مصالح المسلمين ومنفعة من منافعهم العامة لا تقوم أو لا تصل إليهم الا ببذل المال، وقد أوجب الله على من أوتي المال أن ينفق منه في ذلك السبيل وهو أفضل سبل الله، فمن يجد من نفسه داعية لبذل أحب الأشياء إليهـ وهو ماله ـ ابتغاء مرضاة الله تعالى وقياما بشكره، ورحمة لأهل العوز والبائسين من خلقه، فهو لا شك مستعد لقبول هداية القرآن أتم الاستعداد، حتى إذا ما دعي إليه لبى وأجاب، وأسلم إلى الله تعالى وأناب.
20. هذا بيان حال الفرقة الأولى ممن يهتدى بالقرآن فعلا ويشملها لعظ المتقين بالمعنى السابق، وكان منهم بعض العرب الحنفاء، وبعض أهل الكتاب الصلحاء كما سبق بيانه، والمراد من كون القرآن هدى لهذه الفرقة أنها مستعدة لقبوله، ومهيأة للاسترشاد به، لأن الايمان الإجمالي بالله وبحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفىّ الناس فيها أجورهم بحسب أعمالهم البدنية والنفسية، واتقاء ما يحول دون السعادة في هذه الحياة بحسب الاجتهاد الناقص والتعليم الذى لم يقتنع به العقل، ولم تسكن إليه النفس، قد هيأهم لقبول القرآن وأن يقتبسوا من نوره ما يذهب بظلمات الجهل والحيرة، ويمنح الأرواح ما تتشوف إليه بمقتضى الفطرة.
21. وبعد أن بين حال هذه الفرقة التي يكون الكتاب هدى لها يخرجها من ظلمات الشك إلى نور اليقين، وينكب بها عن مهاب رياح الفكر إلى مستقر السكينة، ومستكن الطمأنينة، بما تتعرفه النفس من جانب القدس ـ] عطف عليها بيان حال الفرقة التي اهتدت به فعلا، وصار إماما لها تتبعه في جميع أعمالها، دون أن تغمض عينها عنه، بعد أن أضاء لها ما أضاء منه، فقال عز من قائل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾، روى عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمن بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب.. واختاره ابن جرير وآخرون، وعن مجاهد وأبى العالية والربيع بن أنس وقتادة أن المؤمنين في الآيتين قسم واحد، وهو كل مؤمن وإنما تعدد ما يؤمنون به، فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين، وثم قول ثالث شاذ، وهو أن الآيتين في مؤمني أهل الكتاب.
22. المراد على كل رأى من قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ الإيمان التفصيلي بكل مأ أنزله الله تعالى في القرآن، وأما قوله ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فيكفى فيه الإيمان الإجمالى.
23. هذه هي الطبقة الثانية من المتقين وأعيد لفظ ﴿الَّذِينَ﴾ لتحقيق التمايز بين الطبقتين، وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى، لأن أوصافها تقتضى الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة، فالقرآن يكون هدى لها بالأولى، ومعنى كونه هدى لها: أنه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها، لا تحيد عن النهج الذى نهجه لها.
24. ما كل من أظهر الايمان بما ذكر مهتد بالقرآن، فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتى، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سئل عن القرآن قال: هو كلام الله ولا شك ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينة له كل المباينة، القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثم من الكذب، القرآن يأمر بالفكر والتدبر، وهو كما وصف القرآن المكذبين بقوله تعالى فيهم: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ﴾ لا يفكر في أمر آخرته، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمته، ولا يتدبر الآيات والنذر، ولا الحوادث والعبر.
25. لفظ (الإنزال) فالمراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الآلهى الأسمى، وسمى إنزالا لما في جانب الألوهية من ذلك العلو، علو الرب على المربوب، والخالق على المخلوقين، الذين لا يخرجون بالتكريم والاصطفاء عن كونهم عبيدا خاضعين، وقد سمى القرآن غير الوحى من إسداء النعم الالهية إنزالا فقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾
26. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ لفظ (الآخرة) ورد في القرآن كثيرا والمراد به الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال، ويتضمن كل ما وردت به النصوص القطعية من الحساب والجزاء على الأعمال..
27. اليقين: هو الاعتقاد المطابق للواقع الذى لا يقبل الشك ولا الزوال، فهو اعتقادان ـ اعتقاد أن الشيء كذا، واعتقاد أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا.. أما اليقين في اللغة فهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما صرحوا به، فالجزم بخبر الصادق والاعتقاد المبني على الادلة والامارات يسمى يقينا إذا كان ثابتا لا شك فيه، وفى لسان العرب: أن اليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وهو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل.. فالإيمان الشرعي يشترط فيه اليقين اللغوي فقط وهو التصديق الجازم الذى لا شك فيه ولا تردد، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح فان هذا هو الظن، واليقين المنطقي أكمل.
28. وصفهم بأنهم موقنون بالآخرة لأنهم مؤمنون بالقرآن، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى لأنها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق مما رزقها الله، فذلك لا ينافى أنها في حيرة من أمر البعث والجزاء، وكذلك كانت قبل الايمان بالقرآن، وكان من هداية القرآن لها: أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة لا يعتدّ بما دون اليقين في الايمان، وقد قال الله تعالى في اعتقاد قوم: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ وإذا لم يكن الظان موقنا وعلى نور من ربه في اعتقاده، فما حال من هو دونه من الشاكين والمرتابين؟ ويعرف اليقين في الايمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الاعمال.
29. اليقين إيمانك بالشيء، والاحساس به من طريق وجدانك كأنك تراه بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكا لنفسك مصرفا لها في أعمالها، ولا يكون العلم محققا للإيمان على هذا الوجه حتى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين:
أ. الأولى: النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل، وذلك بتخليص المقدمات، والوصول بها إلى حد الضروريات، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنك راء ما استقر رأيك عليه
ب. الأخرى: خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك، ولا يكون الخبر طريقا لليقين حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب، وهى طريق التواتر دون سواها، فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة إلا سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها، فالإيقان بالمغيبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه، وصفات الله التي لا يهتدى إليها النظر لا يمكن تحصيله إلا من الكتاب العزيز، وهو الحق الذى جاءنا من الله لا ريب فيه؛ فعلينا أن نقف عندما أنبأ به من غير خلط ولا زيادة ولا قياس.
30. أكد الإيقان بالآخرة بقوله: ﴿هُمْ﴾ اهتماما بشأنه وليبين أن الإيقان بالآخرة خاصة من خواص الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب لا يشركهم فيه سواهم، وقد علمت أنه لا بد أن يكون الموقن به من أحوال الآخرة قطعيا، فهذه الاضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث بل أضافوا إليها أيضا أقوال أهل الكتاب وأشياء أخرى نسبوها إلى السلف، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوف لا تدخل فيما يتعلق به اليقين، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به، فإنما الوصف الذى يمتاز به أهل القرآن هو اليقين، ولا يكون اليقين إلا حيث يكون القطع، وأما الظن فهو وصف من عليهم القرآن وأزرى بهم، فلا علاقة له بأحوالهم.
31. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ههنا إشارتان والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرر الإشارة للأعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون، كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر، وكذا قولهم: إن تنكير هدى هنا للتعظيم، ومحمد عبده قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، حيث ذكر أن:
أ. الإشارة الأولى ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ في هذه الآية للفرقة الأولى، وهم الذين ينتظرون الحق لأنهم على شيء منهـ كما يدل عليه تنكير (هدى) الدال على النوع ـ وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبلوه عندما جاءهم، فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذى سبق، وأنفقوا مما رزقهم الله، وأما الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى؛ لكن على وجه أكمل، لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به، وقوله: ﴿عَلَى هُدًى﴾ تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه، كقولهم (ركب هواه) ولقد كان أفراد تلك الفرقة (أي الأولى) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذى كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوه عندما بلغتهم دعوته.
ب. وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة الثانية ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لا تصاقهم بالإيمان الكامل بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة ـ لا مطلق الايمان بالغيب إجمالا.
32. يرشد إلى التغاير بين مرجع الاشارتين ترك ضمير الفصل (هم) في الأولى وذكره في الثانية، ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى، لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم، ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع، ومثلها مادة الفلج بالجيم والفلخ بالخاء والفلذ والفلع والفلغ والفلق، والفل والفلم، ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بدّ في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل من قبله، وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات، كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من العبادات وحسن المعاملة مع الناس [والسعى في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ماحده الشرع القويم؛ والاستقامة على صراطه المستقيم.
33. جملة القول: أن الايمان بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحدا جهله، فالإيمان به إيمان، والاسلام لله به إسلام، وإنكاره خروج من الاسلام، وهو الذى يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين.
__________
(1) تفسير المنار: 1/125.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكتاب: اسم بمعنى المكتوب وهو النقوش والرقوم الدالة على المعاني، والمراد به الكتاب المعروف المعهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي وعده الله به لتأييد رسالته وكفل به هداية طلاب الحق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم.. وفى التعبير به إيماء إلى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يؤمر بكتابة شيء سواه.. وعدم كتابة القرآن كله بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أن من المستفيض الشائع في التخاطب أن يقول إنسان لآخر: هلمّ أملل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد.
2. الرّيب والريبة: الشك، وحقيقته قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل منها الطمأنينة، وقد جاء في الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة).. والمعنى ـ إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة ـ وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ .. وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدا لسواهم.
3. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى بالنظر إلى المتقين: هو الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة والتوفيق للعمل بأحكامه، إذ هم قد اقتبسوا من أنواره وجنوا من ثماره، وهو لغيرهم هدى ودلالة على الخير وإن لم يأخذوا بهديه وينتفعوا بإرشاده.. وكون بعض الناس لم يهتدوا بهديه لا يخرجه عن كونه هدى، فالشمس شمس وإن لم يرها الأعمى، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه ذو المرّة.
4. والمتقين: واحدهم متق، من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين، ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه ومن يقصده، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ـ حاجزا بينه وبين العقاب الإلهي، والعقاب الذي يتّقى ضربان: دنيوي وأخروي وكل منهما يتّقى باتقاء أسبابه.. فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا يتوقف على معرفة نظم الحرب وفنونها وآلاتها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ كما يتوقف على القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة، والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده.. وعقاب الآخرة يتّقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع.
5. المتقون في هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقى نور الحق، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم.. وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية، كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
6. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الإيمان تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين.. والغيب ما غاب عنهم علمه كذات الله وملائكته والدار الآخرة وما فيها من البعث والنشور والحساب.
7. الإيمان بالغيب هو اعتقاد بموجود وراء المحسّات متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسماوات والأرض منزه عن المادة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله بعلمها كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به، أما من لا يعرف إلا ما يدركه الحس فإنه يصعب إقناعه، وقلما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.
8. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ الصلاة في اللغة الدعاء كما قال تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ ودعاء المعبود بالقول أو بالفعل أو بكليهما يشعر العابد بالحاجة إليه استدرارا للنعمة أو دفعا للنقمة، والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه لو أقيمت على وجهها، أما إذا خلت من الخشوع والخضوع فإنها تكون صلاة لا روح فيها، وإن كانت قد وجدت صورتها وهى الكيفيات المخصوصة؛ ولا يقال للمصلى حينئذ إنه امتثل أمر ربه فأقام الصلاة، لأن الإقامة مأخوذة من أقام العود إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها واستشعار الخشية ومراقبة الخالق كأنك تنظر إليه كما ورد في الحديث (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
9. لما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى أبان الله تعالى عظيم آثارها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وجعلها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عماد الدين، فقال: (الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام)، وقد أمر الله بإقامتها بقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ وبأدائها في أوقاتها بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ وبأدائها في جماعة بقوله: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ وبالخشوع فيها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
10. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ الرزق في اللغة العطاء، ثم شاع استعماله فيما ينتفع به الحيوان وجمهرة المسلمين على أن كل ما ينتفع به حلالا كان أو حراما فهو رزق، وخصه جماعة بالحلال فقط، والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب التام دون الأول، والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل النقمة الواجبة على الأهل والولد وذوى القربى، وصدقة التطوع.
11. في قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ إيماء إلى أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان، لا كل ما يملك، وإلى تعليم الإنسان مبادئ الاقتصاد وحبّ ادّخار المال.. ومن يجد في نفسه ميلا إلى بذل أحب الأشياء إليه، وهو ماله ابتغاء رضوان الله، وقياما بشكره على أنعمه، رحمة لأهل البؤس والعوز ـ كان من المتقين المستعدين لهدى القرآن، وكثير من الناس يصلون ويصومون، ولكن إذا عرض لهم ما يدعو إلى إنفاق شيء من المال في سبيل الله، كأن تدعو الحاجة إلى إنفاقه في مصلحة من مصالح المسلمين أو منفعة عامة لا تقوم إلا بالبذل ـ أعرضوا ونأوا ولم تطاوعهم أنفسهم على بذل شيء منه.
12. إنما كان القرآن هدى للمتقين الذين هذه أوصافهم، لأن الإيمان بالله والإيمان بحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفّى فيها كل عامل جزاء عمله ـ يهيّئ النفوس لقبول هديه والاقتباس من أنواره، وبين ذلك بعضهم بقوله: لأن في الإيمان النجاة، وفى الصلاة المناجاة، وفى لإنفاق زيادة الدرجات، وبعضهم بقوله: لأن في الإيمان البشارة، وفى الصلاة الكفارة، وفى الإنفاق الطهارة.
13. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركي العرب ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ هو القرآن الذي يتلى، والوحى الذي لا يتلى، وهو ما بينه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أعداد الركعات في الصلاة، ومقادير الزكاة، وحدود الجنايات، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾، ولا بد من معرفة ذلك تفصيلا، فلا يسع المؤمن جهل ما علم من الدين بالضرورة.
14. الإنزال هنا بمعنى الوحى، وسمى إنزالا لما في جانب الألوهية من علو الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لتبليغه للخلق كما قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾
15. ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة، فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا.
16. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال ـ والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فبها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار.
17. اليقين: هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها في أعمالها.
18. الإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين:
أ. البحث والتأمل فيما يحتاج إلى ذلك كالعلم بوجود الله ورسالة الرسل.
ب. خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكا وهى طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه، وعلينا أن نقف عند ذلك فلا نزيد فيه شيئا ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص ولا تثبت من صحته، وقد دوّنه المفسرون في كتبهم وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه في شيء.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/41.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا؟.. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب، هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك، هي التي تهيئ لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب.
2. لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم، بقلب خالص، ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا، خائفا، حساسا، مهيأ للتلقي.. ورد أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.
3. التقوى: حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، وعشرات غيرها من الأشواك!
4. ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة، كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾
5. ان السمة الأولى للمتقين هي الشعورية الإيجابية الفعالة، الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا، ولتهيمن على البشرية جميعا، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعر هم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، وشاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام.
6. إذا أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا.
7. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات.
8. الإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس ـ أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس ـ وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير، كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
9. عندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه، إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول، فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.. فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا، فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال، وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال.. ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه ـ احتراما لمنطقه ذاته ـ أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل؛ و، ن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة.. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
10. لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة، ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا (تقدمية) وهو النكسة التي وفى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!
11. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء.
12. يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود، ويحنون جباههم لله لا للعبيد؛ والقلب الذي يسجد لله حقا، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك.
13. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر، وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس، لا بين أظفار ومخالب ونيوب! والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة، وسائر ما ينفق في وجوه البر، وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه، وقد ورد في حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بإسناده لفاطمة بنت قيس: (إن في المال حقا سوى الزكاة).. وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة.
14. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووراثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان، وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها.. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح.. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها.. وهذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد، قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان، وهو ثابت مطرد، كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
15. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ وهذه خاتمة السمات، الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا، وأنه لم يخلق عبثا، ولن يترك سدى؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره، ليطمئن قلبه، وتستقر بلابله، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف.
16. اليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب، بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.
17. كل صفة من هذه الصفات ذات قيمة في الحياة الإنسانية، ومن ثم كانت هي صفات المتقين، وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة، فالتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها اتجاهات وأعمال؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره، وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلّي يشمل عالمي الغيب الشهادة، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول، ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه، ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب، ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء، وشعورا بالإخاء، ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة، ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين.. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما، شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها، ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعا..
18. من ثم كان هذا التقرير: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا، والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/39.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿الْكِتَابُ﴾ هو القرآن، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى أن من شأن هذا الكلام أن يكتب ويوثّق، حتى يحفظ من التبديل والتحريف، وهذا ما فعله الرسول الكريم، في كل ما تلقاه وحيا من القرآن، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه لا يكاد يفرغ من تلقّى ما أوحى إليه من ربّه، حتى يمليه على جماعة عرفوا بأنهم كتاب الوحى.
2. أول ما أوحى إلى الرسول من كلمات الله قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ .. وانظر إلى تلك المفارقات العجيبة البعيدة بين إنسان أمّي، لا يقرأ ولا يكتب، يصطفيه الله للنبوة، ويختاره لرسالة دستورها القرآن الكريم، الذي يتلقاه وحيا من السماء على مدى نيف وعشرين سنة.. ثم تكون: ﴿اقْرَأْ﴾ أول كلمة تفتتح بها هذه الرسالة.. ثم تتبع بكلمتي: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ .. وفى هذا ما يؤذن النبيّ بمحتوى جديد من محتويات رسالته، وهو الدعوة إلى القلم والقراءة والكتابة، فذلك من النعم التي أنعم الله بها على عباده، إذ سرعان ما أقبل العرب الأميون على القراءة والكتابة، على أنها دعوة من دعوة الدين، ولفتة من لفتات الشريعة، فتعلّموا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون.
3. يؤمنون بالغيب.. والغيب ما خرج عن متناول الحواس، وإدراك العقل، والإيمان بما يجيء من عالم الغيب، لا معتبر له إلا إذا كان مستنده إلى جهة لا يتطرق الكذب إليها، وإلا كان التصديق بما يخبر به العرافون والكهنة وغيرهم ممن يدّعون علم الغيب، إيمانا، وهو ليس من الإيمان في شيء، وإنما المراد بالإيمان هنا ما يخبر به رسل الله وأنبياؤه أقوامهم، من أمر البعث، والحساب، والجنة، والنار، ونحو هذا، مما هو من أنباء الغيب، التي لا تقع لعلم الناس، ولا تستجيب لمدركاتهم.
4. أول صفة من صفات المتقين، هي الإيمان بتلك الغيبيات، على الصورة التي يخبر بها الرسل، حيث تلقّوا الأخبار عن تلك الغيبيات، وحيا من الله، وهم الأمناء على ما أوحى إليهم من ربّهم، فلا إيمان لمن لا يؤمن بالله، ولا إيمان بالله لمن لا يؤمن برسل الله، ولا إيمان برسل الله لمن لا يؤمن بما يحمل رسل الله من رسالات، وما يبلغون من أوامر ونواه، وما يلقون من أخبار.
5. ملاك التقوى هو الإيمان، فلا تقوى لمن لا إيمان له، فإذا جاء الإيمان على تلك الصورة، كان داعية لأن يقيم الإنسان على طريق التقوى، وأن يؤهّله لتلك الصفات التي وصف الله سبحانه بها المتقين: الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما نزل على محمد، إيمانا مفصلا، وبما أنزل على الرسل من قبله، إيمانا مجملا، ثم ينتهى بهم ذلك الإيمان إلى الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من حساب، وثواب، وعقاب وجنة ونار.. وعندئذ يصبح المؤمن المستكمل لتلك الصفات مؤهلا لأن يحسب من المتقين، ويدخل في عدادهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/27.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف ﴿أَلَمْ﴾ [البقرة: 1] على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر، وقد جوز صاحب (الكشاف) على احتمال أن تكون حروف ﴿أَلَمْ﴾ مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى ﴿أَلَمْ﴾ باعتباره حرفا مقصودا للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتاب أي منها تراكيبه فما أعجزكم عن معارضته، فيكون ﴿أَلَمْ﴾ جملة مستقلة مسوقة للتعريض، واسم الإشارة مبتدأ و(الكتاب) خبرا، وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ واسم الإشارة مبتدأ و(الكتاب) بدل وخبره ما بعده، فالإشارة إلى (الكتاب) النازل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون (الكتاب) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كتب بالفعل، ويكون قوله (الكتاب) على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله (الكتاب) حينئذ بدلا أو بيانا من ﴿ذَلِكَ﴾ والخبر هو ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ .
2. يجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضي: (وضع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: (والله وذلك قسم عظيم) لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم)، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول.. وابن مالك في (التسهيل) سوّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال: وقد يتعاقبان (أي اسم القريب والبعيد) مشارا بهما إلى ما ولياه أي من الكلام، ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 58] ثم قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ [آل عمران: 62] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد.
3. كلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة، وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا، ففي القرآن: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: 15] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خفاف بن ندبة، وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في (الحماسة):
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة، وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في ﴿أَلَمْ﴾ [البقرة: 1] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم: ﴿افْتَرَاهُ﴾ [يونس: 38] وقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنعام: 25]، ولا يرد على هذا قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ [الأنعام: 92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه، ولعل صاحب (الكشاف) بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعدّ: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ تنبيها على التعظيم أو الاعتبار، فلله در صاحب (المفتاح) إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عزّ وعلا: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ذهابا إلى بعده درجة.
4. قوله تعالى: ﴿الْكِتَابِ﴾ يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، ويجوز أن يكون (الكتاب) خبرا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزءين فهو إذن قصر ادّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال.
5. ﴿الْكِتَابِ﴾ فعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة، فإن المصدر يجيء بمعنى المفعول كالخلق، وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به، واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه، وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
6. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبا، والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك، قال الله تعالى: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق، وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قرّبه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما... أربت وإن عاتبته لان جانبه
وفي الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
7. من المفسرين من فسر قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر (لا) فينظر إلى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبّر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها.
8. هذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت: هذا الكلام صواب تعرض بغيره.
9. بهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على ﴿فِيهِ﴾ ولدي من وقف على ﴿رَيْبَ﴾، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر (الكشاف) أن الظرف وهو قوله: ﴿فِيهِ﴾ لم يقدم على المسند إليه وهو ﴿رَيْبَ﴾ (أي على احتمال أن يكون خبرا عن اسم لا) كما قدم الظرف في قوله: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات: 47] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب.. يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا، وليس الحصر في قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدّين بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يرد عليهم، وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا، نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها، والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها، وقد بنى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفى القصر.
10. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى اسم مصدر الهدي ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى وتقى وبكى ولغى مصدر لغي في لغة قليلة، وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع.. والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل، ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي، وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق الله تعالى في قلب الموفّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية.
11. القرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد، والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل، وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية.
12. محل (هدى) إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف هو ضمير (الكتاب) فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب، وإن كان الوقف على قوله ﴿لَا رَيْبَ﴾ وكان الظرف صدر الجملة الموالية وكان قوله ﴿هُدًى﴾ مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى.
13. المتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.
14. التقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.
15. المراد من الهدى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ [البقرة: 3، 4]
16. في بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة:
أ. الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق، والمتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]
ب. الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب.
ج. الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في ﴿هُدًى﴾ لأن المصدر لا يدل على زمان معين.
17. حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم، وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16] فإن قصّر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.
18. تلتئم الجمل الأربع كمال الالتئام:
أ. فإن جملة ﴿أَلَمْ﴾ [البقرة: 1] تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم.
ب. وجملة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَرَحْمَةً﴾ [الأنعام: 156، 157]، وموجّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه.
ج. وجملة: ﴿لَا رَيْبَ﴾ إن كان الوقف على قوله: ﴿لَا رَيْبَ﴾ تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن (لا ريب) فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله: ﴿فِيهِ﴾ كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذات جزالة: ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ وهو الهدى ـ موضع الوصف وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين ا ه، فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات، قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماما بشأنها(2)..
19. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يتعين أن يكون كلاما متصلا بقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] على أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعرف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين وصنفا كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان: هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفّوا مع المنافقين وظاهروا المشركين، وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان: فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4] إلخ، فالمثنيّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير المتقين، وفريق آخر يجيء ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 4] الآيات.
20. أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدّد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
21. جوز صاحب (الكشاف) كونه كلاما مستأنفا مبتدأ وكون: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ [البقرة: 5] خبره، وهو تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيرا من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن.
22. الغيب: مصدر بمعنى الغيبة: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ [يوسف: 52] ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة: 94] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة... من آل لام بظهر الغيب تأتيني
وفي الحديث: (دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة)، والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، وما استأثر الله بعلمه، فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك، وفي حديث الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه كلها من عوالم الغيب.
23. كان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 7] فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: 6] الآيات، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 8]
24. خص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدّهريين الذين قالوا: ﴿ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك، والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجيء عند قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].
25. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ : الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجعل، والإقامة جعلها قائمة، مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر، قال أيمن ابن خريم الأنطري:
أقامت غزالة سوق الضّراب... لأهل العراقين حولا قميطا
26. أصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسبا لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائما، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل [20]: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وهي ثالثة السور نزولا، وذكر صاحب (الكشاف) وجوها أخر بعيدة عن مساق الآية.
27. عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ ﴾ ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاؤوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغدا، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غدا وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم، وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح.
الصلاة اسم جامد بوزن فعلة محرّك العين (صلاة) ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى:
تقول بنتي وقد يمّمت مرتحلا... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي... جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا
وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى:
يراوح من صلوات الملي... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
وما أيبلىّ على هيكل... بناه وصلّب فيه وصارا
وهذا وإن كان كذا، فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت.. ولا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 37] وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيئة مخصوصة، وسمّوا كنيستهم صلاة، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دفن النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مصلّوه بعين جلية... وغودر بالجولان حزم ونائل
على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان، إذ قد كان منتصرا ومنه البيت السابق، وعرفوا السجود قال النابغة:
أو درة صدفية غوّاصها... بهج متى يرها يهلّ ويسجد
28. تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه فيقال: حينئذ هما صلوان، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أنف من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان، وقولها: (زوجي إذا دخل فهد وإذا خرج أسد) والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفا لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد.. وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء معاقبا للمجلي في خيل الحلبة، لأنه يجيء مزاحما له في السبق واضعا رأسه على صلا سابقه واشتقوا منه المصلّي اسما للفرس الثاني في خيل الحلبة، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك.
29. ما أورده الفخر في (التفسير) أنّ دعوى اشتقاقها من الصلوين يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، فإذا جوزنا أنه خفي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا ه يرده بالاستعمال أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولا من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي: (واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه)، ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل، وأما قول (الكشاف): وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة.
30. نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيئة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد، والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية، وأن الشرع لم يستعمل لفظا إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها، وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات، وقال صاحب (الكشاف): الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان، والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية.
31. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ : صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به، ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك.
32. الرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وينال بها ملائمه، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النساء: 8] أي مما تركه الميت، وقال: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الرعد: 26] وقال في قصة قارون: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ [القصص: 76 ـ 82] مرادا بالرزق كنوز قارون وقال: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 27]
33. أشهر استعماله بحسب ما رأيت من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] وقوله: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] وقوله: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ [يوسف: 37].
34. الرزق شرعا عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم.. وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب.
35. الإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس، وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دعا الدين إلى نفعه.
36. في إسناده فعل ﴿رُزِقْنَا﴾ إلى ضمير الله تعالى وجعل مفعوله ضمير ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقا لصاحبه هو حق خاص له خوّله الله إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مرية في أنها حقه مثل انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجني الثمار والتقاط ما لا ملك لأحد عليه ولا هو كائن في ملك أحد، ومثل خدمته بقوته من حمل ثقل ومشي لقضاء شئون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يملكها وله حق الانتفاع بها كالخبز والنسج والتّجر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالك رزق من هبات وهدايا ووصايا، أو أذن بالتصرف كإحياء الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونه أحقّ الناس به كالإرث، وتملك اللّقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز، فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾
37. ليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: (إن أبا سفيان رجل مسّيك فهل أنفق من الذي له عيالنا فقال لها: (لا إلا بالمعروف)، أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة.
38. تقديم المجرور المعمول على عامله وهو ﴿يُنْفِقُونَ ﴾ لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزّة على النفس كقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8]، مع رعي فواصل الآيات على حرف النون.
39. في الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين، فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء والعبيد، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره.
40. إنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان:
أ. لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب، أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إنه يتبقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة.
ب. ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية.
ج. ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى: وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 21] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.
41. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ عطف على ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ وهما معا قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذكر فريقا آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعض النصارى مثل صهيب الرومي ودحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وصف به المسلمون الأوّلون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص.
42. لما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم، وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم من خيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاء واهتداء إذ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأول هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة، ويكون الموصولان للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضا ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبي.
43. في التعبير بالمضارع من قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من إفادة التجدّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدث جديدا، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء.
44. الإنزال: جعل الشيء نازلا، والنزول الانتقال من علو إلى سفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمل بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ [الأعراف: 26] وقوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: 6] لأن خلق الله وعطاءه يجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو:
أ. إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعا لنزول الملك مبلّغه الذي يتصل بهذا العالم نازلا من العالم العلوي قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 194، 195] فإن الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه.
ب. وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيء وصل من مكان عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاما سمعه الرسول كالقرآن وكما أنزل إلى موسى وكما وصف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله: (وأحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمّى إنزالا.
45. المراد بما أنزل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقدار الذي تحقّق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية، فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقّع إيمانهم بما سينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أنزل يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أمنوا من الارتداد، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولا للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى: ﴿بِمَا أَنْزَلَ﴾ والمراد ما أنزل وما سينزل.
46. عُدّي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمنزل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يعدّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: 3] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: 57] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام.
47. فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال: والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
48. قوله: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ عطف صفة ثانية، وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه ملاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين، فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دهريون، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلا ويسمونها البلية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل.
49. الآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة، فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوما وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علما بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال، فمعنى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت.
50. اليقين:
أ. هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم، واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ [التكاثر: 6، 7] ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية.
ب. وقيل: هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقا عرفيا حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفا للإيمان والعلم.
51. التعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديرا بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثار ﴿يُوقِنُونَ ﴾ هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنبا لإعادة لفظ ﴿يُؤْمِنُونَ ﴾ بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ .
52. في قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ تقديم للمجرور الذي هو معمول ﴿يُوقِنُونَ ﴾ على عامله، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وفي هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصرا إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها، وقد تكلف صاحب (الكشاف) وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر.
53. ﴿هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ جيء بالمسند إليه مقدما على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيرا من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام.
54. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ اسم الإشارة متوجه إلى ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] الذين أجرى عليهم من الصفات ما تقدم، فكانوا فريقين، وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع، فإن السامع إذا وعى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد، فيؤتى بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات، فتكفي الإشارة إليها، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه، ثم إنهم قد يتبعون اسم الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها، فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات، فكقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ بمنزلة أن يقول إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم، ونظيره قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همّه... ويمضى على الأحداث والدّهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة... ولا شبعة إن نالها عدّ مغنما
إلى أن قال:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
55. قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعا لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتازانيّ في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه، وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشئ عنها، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف، فقوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم.
56. الإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيئة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيها ضمنيا دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلا، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه، فيقولون جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل وفي (المقامة): (لما اقتعدت غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال: ركب متن عمياء، تخبط خبط عشواء، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي:
فإن يك عامر قد قال جهلا... فإن مطيّة الجهل الشباب
فتكون كلمة (على) هنا بعض المركب الدال على الهيئة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركّب الدال لا جميعه، هكذا قرر كلام (الكشاف) فيها شارحوه والطيبي، والتحتاني والتفتازانيّ والبيضاوي.
الذي أختاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال راكبين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو ﴿أُولَئِكَ﴾ والهدى، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ (على) الدال على الركوب عرفا كما علمتم، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة: الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا، ومنه تبعية كما في قول الحماسي:
وفارس في غمار الموت منغمس... إذا تألّى على مكروهة صدقا
فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة.
57. إنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عرّف لكان التعريف تعريف الجنس فرجح التنكير تمهيدا لوصفه بأنه من عند ربهم، فهو مغاير للهدى السابق في قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ مغايرة بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلا إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم، فقوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه.
58. إنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه بالقرينة.
59. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.
60. وجه العطف بالواو دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين، وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطين، كذا قرر شراح (الكشاف) ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني، وتعليله أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض.
61. ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الضمير للفصل، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسند إليه معرف أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة، أي تأكيدا للاختصاص، فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالبا لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي، ومفيد شيئا من الاهتمام بالخبر، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثّله عبد القاهر بقولهم: هو البطل الحامي، أي إذا سمعت بالبطل الحامي وأحطت به خبرا فهو فلان، وإليه أشار في (الكشاف) هنا بقوله: (أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم) والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في (المفتاح)
62. الفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة، والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثا قائما بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له، قال في (الكشاف): انظر كيف كرر الله عزّ وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين ﴿أُولَئِكَ﴾ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/220.
(2) الكلام في هذه المسألة نسبه للزمخشري، ولم يعقب عليه، التحرير والتنوير: 1/226.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ الإشارة هنا للبعيد، وموضوعها قريب، لأن الحروف جاء بعدها فورًا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب، كـ (هذا) الكتاب، ولكن لأن (الم) تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب، أو الكتاب نفسه، وقد نزل من الروح الأقدس، فنزل من العلا إلى النبي المرسل، فكان ذلك إشعارًا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى.. أو يقال: إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى!؟ فهو عليٌّ في ذاته، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ .
2. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ثلاثة وقوف:
أ. أولها: الوقوف عند ﴿الْكِتَابِ﴾، وتكون ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأٌ، والكتاب خبر، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو، فلا يعلو علوه كتاب، ولا يُنَاصِى سَمْتَهُ مقروء سواه، إذ هو تنزيل من رب العالمين، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ جملة مستقلة على هذه القراءة، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه، إذ إنه لَا شك في حقائقه، وهي بينة تهتدي إليها العقول، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته، وإدراك العقول لحقائقه، وهذا شرف ذاتي فيه، وهو لَا ريب في أنه من عند الله، إذ تحدى المَقَاوِل من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي.
ب. الثاني: الوقف عند ﴿لَا رَيْبَ﴾، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا، إذ المؤدى أن يكون المعنى: ذلك هو الكتاب بلا ريب، ويكون قوله تعالى: ﴿فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ جملة جديدة مستقلة وتكون لبيان كماله فوق أنه لَا ريب فيه.
ج. الثالث: الوقوف عند كلمة ﴿فِيهِ﴾، ويكون المعنى كالمعنى السابق، ثم يكون قوله ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ جملة مستقلة، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه، وأنه فوق طاقة البشر، وفوق علم الناس، إنه كتاب الله العلي الحكيم.
3. معنى ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أنه لَا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب، وإذا كان قد وقع فيه إنكار، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى، واستيقنتها أنفسهم، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب، ولا موضع له، إذ هو ارتياب حيث اليقين، وإنكار حيث يجب الإيمان، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه.
4. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى مصدر على وزن فعل، كالسّرى، والبكى، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذى لا اعوجاج فيه، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة]، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى، فقد قال تعالت كلماته: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ [آل عمران] والمهتدى من انتفع بما وجد من هداية ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾
5. سؤال وإشكال: الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا، ويسيروا في طريق الحق، ويبتعدوا عن الغواية، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾، والجواب: إن المراد بالمتّقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها، وحاولوا الازدياد من العلم، ولم تكن قلوبهم متحجرة، مبلسة لا تسترشد ولا تهتدى، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم، كأولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا يتّبعها إلا الغاوون.. إن هذه نفوس متقية تبتغى الرشاد، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق، وهذا ما نراه موضعا للتعبير بقوله تعالت كلماته: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ .
6. المتقون مشتق من الوقاية، يقال: وقاه الله تعالى، ووقى نفسه السوء، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، واتقى: افتعل، من وقى، فهي في أصلها: اوتقى، ثم قلبت الواو تاء، فأدغمت في تاء الافتعال، فصارت اتقى، ومنه أخذت التّقى، والتّقاة، كما قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾
7. المتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى، وأعلاها: إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له، ويلتزمونه، وينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح] فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق، وصارت قلوبهم نورا مبصرا، وكانوا أولياء الله تعالى، وينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف] ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله، وإنّ علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب، وينزل على أرض لا تنبت، ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب، وهناك أرض هي قيعان لا تنبت، ولا ينتقل منها إلى غيرها.
8. ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى: ﴿أَلَمْ﴾ جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جملة ثانية، و ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ جملة ثالثة، و ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ رابعة، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة، وموجب حسن النظم؛ حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلمّ جرا إلى الثالثة، والرابعة، وبيان ذلك:
أ. أنّه نبّه أولا على أنه الكلام المتحدي به.
ب. ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضائه.
ج. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله؛ لأنه لا كمال أكمل مما للحقّ واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة، وقيل لبعض العلماء: فيم لذّتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفى شبهة تتضاءل افتضاحا.
د. ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
9. لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا التنظيم السّريّ، من نكتة ذات جزالة:
أ. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه.
ب. وفى الثانية، ما في التعريف من الفخامة.
ج. وفى الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف.
د. وفى الرابعة: الحذف ووضع المصدر الذى هو موضع الوصف الذى هو هاد، وإيراده منكرا، والإيجاز في ذكر المتقين.
10. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتى بأطيب الثمرات، والإيمان: التصديق:
أ. ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان، والخضوع.
ب. ويتعدى باللام ويتضمن حينئذ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾، وقوله: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى﴾ [يونس]، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض، ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران]
11. أول وصف من أوصاف المتقين الذى يميزهم ـ وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم ـ الإيمان بالغيب، والغيب: كل ما يغيب عن الشخص، ويستتر، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفا للمتقين، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها ـ فيما نعلم ـ كلها، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى؛ لأننا نؤمن به ولا نراه، فالبرهان يوجب الإيمان به، وهو لا يرى بالحسّ بل يرى بالقلب، وفسروه بأنه القدر، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة.. وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر، والجنة، والنار، وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مما لا تهتدى العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة.. والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، بل هي متلاقية في جملة معانيها.
12. الإيمان، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيّبها الله تعالى عن عقولنا، وبيان ذلك أن الناس قسمان: ضالون ومتقون:
أ. فالضالون هم الذين لا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يعرفون غيرها، وينكرون ما عداها، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك، ويقول قائلهم: الطبيعة خلقتنا، ونردّ إليها، فلا يؤمنون بإله ولا بروح إلا أن تكون عرضا من أعراض المادة، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان.
ب. والقسم الثاني: أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالما كبيرا، وأن مدبر الكون ومنشئه، هو صاحب السلطان المطلق فيه، فلله تعالى محيانا ومماتنا.
13. فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب، والزنديق لا يؤمن إلا بالمادة، والإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة لا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر، ولقد كان ذلك ل: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق] وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
14. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات، تولد في النفس الخشية، والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسيّر هذا الوجود الإنساني، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، بعد ذكر هذه الصفة النفسية، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس، ولكن لهما مظهر عمليّ، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى.
15. الصلاة أصلها على وزن فعلة، من صلى، فأصل الصلاة صلاة، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها، فصارت صلاة، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة، وركوع وسجود، وتحيات ـ اصطلاح إسلامي.. وقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء، أي الضراعة إلى الله تعالى، والاتجاه الروحي إليه راجيا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾، لكن الأكثرين ـ وهو الظاهر الذى يبدو من القول ـ على أن المراد بها الصلاة المكتوبة، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة، وإن الصلاة قد فرضت في مكة، وصارت متعارفة، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم، ثم خصصها الإسلام.
16. إقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور، واستحضار عظمة الله تعالى فى كل لفظ يذكره، ويعبد الله بهذه العبادة، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى، ويتوالى ذلك في كل صلواته عامة النهار، أو أطرافا من النهار وزلفا من الليل، فإن كانت صلاته كذلك كان محسّا برقابة الله تعالى، ومن أحسّ برقابة الله لا يعصيه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصلاة عماد الدين)
17. بعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾، وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها، ولكن يردّ ذلك ما روى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بأن يمشوا إليها في سكينة ووقار.. والتفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه، أو تقتضيها.
18. بعد أن بين الله تعالى الوصف الذى يترتب على التقوى، والإيمان بالغيب، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات، وصفات للمؤمن، لا ينظر فيها إلى ناحية العمل فقط، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه، والنية التي هي طهارة النفس؛ ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى)، والوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ وفى هذا الوصف بيان أن الخير الذى يكون بالصلاة في الضراعة إليه سبحانه وتعالى ينعطف على التّقىّ نفعا للناس يقصد التقرب به إليه سبحانه وتعالى، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم، وضراعته القائمة، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه، ومد يد المعونة لغيره، وسد حاجتهم ورفع فاقتهم لرضا الله، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
19. الرزق هو: العطاء، وهو من رزق يرزق رزقا، وهو بمعنى اسم المفعول ك (طحن) بمعنى مطحون، و(رعى) بمعنى مرعى، وذبح بمعنى مذبوح كقوله تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ .. والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا، من حيوان ونقود، ومطاعم ومساكن، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير، وتشمل بذلك الزكوات، والإنفاق على من يعولهم، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة، ويقوم بما يجب عليه من طاعات، ومعاونة للضعفاء بقوته، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
20. الإنفاق كالإنفاد، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال، وألا يبقى منه شيء، والإنفاق يبقى، وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾، وابن آدم هو الذى يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسبا طيبا لا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذى أوجد فيه الحلال، وفى الحلال الثواب، وفى الحرام العقاب، ولقد قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾
21. الله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص، ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال: يا رسول الله أراني لا أرزق إلا من دفّى بكفّى فأذن لي بالغناء في غير فاحشة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ الله، والله لقد رزقك الله تعالى حلالا طيبا، فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله)
22. في العبارة السامية: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ إشارتان بلاغيتان:
أ. إحداهما: تقديم ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ على ﴿يُنْفِقُونَ ﴾ وفى ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى، وإن شاء منع، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده، فأنت تعطى من عنده، وتجود على نفسك وعلى عباده من عنده، فالتقديم للقصر أولا، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا.
ب. الثانية: أن الإنفاق لا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير ف (من) في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ للتبعيض؛ أي: ينفقون بعض ما أعطاهم الله، فلا يكونون كالمبذرين، وإن المبذرين إخوان الشياطين، والإنفاق في سبيل الله تعالى لا يستكثر فيه الكثير، فكما قال ابن عباس رضي الله عنه: إنفاق ألف في برّ لا سرف، وإنفاق درهم في غير برّ سرف، وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه، والله تعالى عليم خبير.
23. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ بعد هذه الأوصاف الذاتية التي يؤمنون فيها بالغيب، فتخشع قلوبهم لذكر الله، ويقيمون الصلاة فتتجه قلوبهم إليه، وينفقون مما رزقهم الله تعالى على أنفسهم وعلى عباد الله تعالى إنفاقا في غير تبذير أو إسراف.. بعد ذلك بين الله تعالى أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم من أجلّ صفاتهم أنهم يؤمنون برسالات الله إلى خلقه بالكتب المنزلة التي أنزلها قبل القرآن، وبالقرآن المنزل من عند الله العلى الحكيم، ويؤمنون بالشرائع التي جاءت في القرآن الكريم وفى الكتب التي أنزلت، لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا بين كتاب من كتبه إلا أن يكون قد نسخ الله تعالى بعض أحكام في كتب أنزلها، فقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ هم المتقون الذين يؤمنون ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
24. تكرار (الاسم) الموصول في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ لا يدل على المغايرة فيمن نزلت فيهم الآيات، إنما يدل على المغايرة في الصفات، وإن كان الموصوف واحدا، كما يقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم
25. ادعى بعض المفسرين أن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ إلى آخر الآية، إنما نزلت في اليهود الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: كعبد الله بن سلام وغيره، وينطبق عليهم قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وآمن بي، ورجل مملوك أدّى حقّ الله تعالى وحقّ مواليه، ورجل أدّب جاريته، فأحسن تأديبها، ثمّ أعتقها وتزوّجها)، والحق أن فصل ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ عن سياق ما قبلها من غير دليل ـ مخالفة لظاهر السياق من غير باعث يبعث على ذلك، والسياق واضح متسق على أن ذلك كله وصف للمتقين، فهم لإيمانهم بالحق، وخشوع قلوبهم يتقبلون الهدايات السماوية مذعنين غير معاندين ولا منحرفين، وإن المتقين يشملون من اتصف بتقوى الله تعالى مصغين إلى تكليفه، مؤمنين بغيبه مقرّين بحق عباده، وهم من كل خلق الله، لا فرق بين عربي وكتابي، ولا من كان أصلا وثنيا، أو كان يهوديا أو نصرانيا؛ فمن اتقى الله واستقام على الجادة وآمن بالغيب واتجه إلى ربه، فالآية تشتمل عليه، ولا يخرج عنها، فالعموم أولى وأوفق مع السياق من الخصوص.
26. معنى الذى أنزل في قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ هو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تكليفات وشرائع، وما جاء به من أخبار الماضين، وقصص الغابرين، ولقد قيل إن القرآن لم يكن قد نزل كله، فكيف يكون الإيمان به قبل نزوله كله، وإنه يردّ ذلك القيل بأن بعض القرآن قرآن في دلائل إعجازه، وأن الإيمان بالجزء إيمان بالكل، وأنه يصح أن يطلق سماع القرآن على سماع بعضه، كما قال تعالى عن سماع الجن للقرآن، إذ قال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف] وما سمعوا إلا جزءا منه، وإنه لا وجه للاعتراض بأن القرآن لم يكن قد نزل إلا بعضه؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وقد ابتدأ النزول، فابتداء التنزيل المستمر نزول له كله، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فما نزل فيه إلا أوّله، ولكنه مستمر التنزيل إلى أن كمل الدين.
27. الآية الكريمة تبين أن الإيمان الكامل بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما أنزل عليه من شرائع يتقاضى المؤمن أن يكون مؤمنا بكل النبيين السابقين وشرائعهم كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ [النساء] ولقد روى في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذّبوهم ولا تصدّقوهم، ولكن قولوا آمنّا بالّذي أنزل إلينا، والّذى أنزل إليكم)
28. الإسلام دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، ودين الرسالة الإلهية التي لا تفرق بين نبي ونبي إلا في آيات الله تعالى المثبتة للرسالة التي تخص كل نبي، وكلها يجب الإيمان به وتصديقه، ومن لم يصدّق فقد كفر.
29. قرر الله سبحانه وتعالى أن شأن أولئك المتقين ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ فهذا ما جاءت به الديانات الإلهية كلها، فأساس الإيمان في هذه الأديان، وفى كل دين حق أن يؤمن بأن الحياة الآخرة هي المآل، وأن الحياة الدنيا سبيل إلى الحياة الآخرة، ذلك أن هذه الحياة فيها تنازع الخير والشر، وأنه معتركها، وأن الشر كثيرا ما ينتصر على الخير فيها، فلا بد للخير من أمل يكون فيه الانتصار للخير، وتجزى كل نفس ما كسبت؛ ولذلك كان الإيمان بالآخرة، إيمانا بانتصار الخير على الشر؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾
30. قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾، فيه الإيقان مصدر أيقن، وهو إحكام العلم وإتقانه، بحيث لا يكون شك ولا ريب في أية ناحية من نواحيه، ولا أي حقيقة من حقائقه، وبمقدار قوة الإيمان بالآخرة تكون قوة الإيمان فمن كان مؤمنا بربه حق الإيمان كان مؤمنا بالآخرة كأنها عيان.
31. أكد سبحانه ضرورة الإيمان بها في تقديم الجار والمجرور على الفعل، فإن التقديم فيه مزيد من الاهتمام بهذا اليقين، واختصاص، أي أنه لا يؤمن إلا بالحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونعيم، وبعث وحساب، وجحيم، كأنه رأى العين، وأن الحياة الدنيا ليست موضع إيمان، فالحياة الآخرة وحدها هي الجديرة بالإيمان، وكان التأكيد بكلمة ﴿هُمْ﴾ فهو تصوير لليقين بصورة الجملة الاسمية، والجملة الاسمية تدل على بقاء اليقين واستمراره بحيث لا يضطرب ولا يتزعزع ولا ينسى ذلك اليوم أبدا.
32. سؤال وإشكال: ما موضع ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ من قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ؟ والجواب: إن قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ كما فهمنا، وكما ذكرنا فيه أنهم لا يؤمنون بأن الوجود مادة، ليس فيما وراءه وجود، كأولئك الملاحدة الذين يظنون المادة هي (الموجود) وحدها، بدون أن يكون وراءها ما يؤمنون به، فذكر الله سبحانه وتعالى أن النفس التقية الخاشعة الخاضعة، لا تقول: خلقنا الله عبثا، بل تدرك بالفطرة أن وراء المادة معنى وحياة.. أما قوله تعالى: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ فهي تخصيص من العموم، والله ولى المؤمنين في الدنيا والآخرة.
33. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ذكر الله تعالى ما تحلى به المتقون الذين يؤمنون بما غيّبه الله تعالى عنهم، ودلت عليه الفطرة، والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله تعالى، ويؤمنون بالرسالات الإلهية، ويوقنون بالآخرة، وبعد أن ذكر هذا ذكر سبحانه وتعالى حكمه ـ تعالت كلماته ـ عليهم، مؤكدا ذلك، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وأولئك: إشارة إلى حالهم موصوفين بهذه الصفات قائمين بهذه الصفات، والإشارة إلى الصفات وتعقيب الحكم بعد الإشارة يومئ إلى أن هذه الصفات هي علة الحكم بأنهم على هدى من ربهم، وكررت الإشارة لبيان أن هذه الصفات أيضا هي سبب الفوز بالنعيم المقيم، والبعد عن العذاب الأليم، فالتكرار للتنبيه على أنها سبب للثانية كما هي سبب للأولى.
34. التعبير بـ ﴿عَلَى هُدًى﴾ بالتعدية بعلى إشارة إلى العلو على الهدى والتمكن، كما يقال: ركب فلان متن الغواية أو علا على الهداية، فكأنه صار مستمكنا عليها لا يفارقها، ولا تفارقه، فأصحاب هذه الصفات العالية ينالون الهداية ولا يزايلونها، فهم في هداية دائمة مستمرة.
35. قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ معناها أن هذه الهداية جاءتهم من ربّهم الذى ربّهم وكونهم ووفقهم إلى سبيل الخير والعمل الصالح، والإيمان واليقين باليوم الآخر، فإسناد الهداية إلى أنها من الرب الكريم بيان لشرفها واستمرارها مع تمكنهم منها؛ لأنها من رب هذا الوجود الذى ربّه ونماه وهذبه وأعلاه.
36. الإشارة بالبعيد لوجود اللام، والبعد هنا بعد المنزلة، وعلوها وشرفها، فهؤلاء الأتقياء الأطهار الذين نزهت نفوسهم، وسامتوا أعلى العلاء، يشار إليهم بالبعيد إعلاء وتشريفا وتكريما.
37. تكرار اسم الإشارة أولئك، ففي هذا التكرار بيان تنويع الفضل الذى حكم الله تعالى عليهم، فهو قد حكم سبحانه وتعالى عليهم حكمين كريمين أولهما: الهداية الكاملة الدائمة التي نالوها، وركبوا متنها وعلوا عليها، والحكم الثاني: أنهم ينالون الفوز، والفوز هنا هو الفوز في الدنيا بعلوّ نفوسهم، واستقامتها، والاتجاه إلى معالى الأمور ورضا الله تعالى، وهو أكبر جزاء، فرضوان من الله أكبر، والفوز في الآخرة بالنعيم المقيم.
38. أكد سبحانه وتعالى ذلك الفلاح الذى ينالونه بالجملة الاسمية، فالتعبير بالجملة الاسمية يدل على دوام الفلاح، وأنه دائم بدوام من يعطيه، وهو رب العالمين، وأكده بتعريف الطرفين، وهما اسم الإشارة، وكلمة: (المفلحون)، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنهم هم المفلحون وحدهم دون غيرهم، فهم قد خلصت قلوبهم وعقولهم وكل مداركهم للحق جل جلاله، وفاضوا بخيرهم، وتحملوا المشاق في سبيلهم، وآمنوا بكل الرسالات، ولم يطمعوا بغير أن يعدّوا أنفسهم لحكم ربهم.
39. أكد سبحانه وتعالى الحكم بأنهم المفلحون دون غيرهم بضمير الفصل وهو ﴿هُمْ﴾ فإن في ذكره فضل التأكيد بأنهم المفلحون وحدهم، وأنه لا ينال منالهم إلا من سلك مثل سبيلهم، واختار مثل طريقهم.. اللهم اجعلنا ممن يقتدى برسلك وبهم، فإنهم هم الفائزون.
40. المفلح ـ من الفلح بمعنى الشق والقطع، ويطلق المفلح على الفائز، فكأنه قد شق الطريق، ونالته المتاعب حتى نال مطلوبه، وفاز بمرغوبه، فما وصل إليه إلا بجهد جاهد، وعمل ولغوب حتى نال ما نال، وذلك هو الفلاح، فلا فلاح إلا إذا كان ثمرة لجد وجهاد، وطلب، وسير في الطريق إلى غايته، فالفوز الرخيص بأمر لا يعد فلاحا، وإن الإنسان يعلو على ملائكة الله تعالى بجده ومغالبته للأهواء الإنسانية، حتى ينتصر عليها، ويصل إلى الملكوت الأعلى؛ لأنه وصل بمغالبة وجهاد، والملائكة لا مغالبة فيهم؛ لأن الله خلقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/101.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ذلك اسم اشارة، ومحله الرفع بالابتداء، والكاف للتعظيم، لا للبعد، كقولك: أنا ذلك الرجل.. والمراد بالكتاب القرآن، وبنفي الريب عنه انه كتاب حق وصدق.. وعجزهم عن صياغة مثله يستدعي ان لا يرتابوا فيه إطلاقا لو كانوا طلاب حقيقة.
2. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ فيه دلالة واضحة على ان القرآن لا يلتمس فيه علم التاريخ، ولا الفلسفة، ولا العلوم الطبيعية والرياضية، وما اليها، وإنما يلتمس فيه هداية الإنسان، وإرشاده الى صلاحه وسعادته في الدارين.. وبكلمة ان القرآن كتاب دين وأخلاق وعقيدة وشريعة.
3. سؤال وإشكال: ان المتقين مهتدون، فلا يحتاجون الى من يهديهم، تماما كما لا يحتاج العالم الى من يعلمه؟ والجواب: ان المعلم يلقي دروسه على جميع الطلاب، الأذكياء والبلداء، ولكن الذين ينتفعون بالمعلم هم الأذكياء المجتهدون الذين تكون عاقبتهم الى النجاح، وعليه يصح أن يقال: ان المعلم هو معلم الناجحين، وكذا القرآن الكريم، فانه قد خاطب الجميع دون استثناء، ولكن الذين انتفعوا به هم الذين صاروا من المؤمنين المتقين، ومن أجل هذا خصهم بالذكر، على ان المتقي يستمر ويزداد، تقى بالقرآن: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ .
4. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ قيل: ان عالما كان يجلس في مكان الصدارة، والناس من حوله يستمعون له، ويخشعون، فحسده منافس له في المهنة، فقال له بمسمع من الجميع: ما قولك بكذا؟ وسأله مسألة أشبه بالطلاسم، فقال العالم: لا أعلم، قال السائل: ان المكان الذي أنت فيه لمن يعلم، لا لمن لا يعلم، قال العالم: ويلك، ان هذا المكان لمن يعلم شيئا ولا يعلم أشياء، والذي يعلم كل شيء لا مكان له.. ان الإنسان يستحيل أن يحيط بكل شيء علما: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ .
5. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ قد تحكم السلطة على شخص بالإقامة الجبرية في بلد معين، وتحجر عليه ان يتعداه الى غيره، وتلزمه بالحضور كل يوم في الدائرة المختصة اثباتا لوجوده، فان تخلف كان مسؤولا، واختط الإسلام للمؤمن مخططا خاصا يثبت به ويؤكد كل يوم خمس مرات إيمانه بالله فاطر السموات والأرض، وإخلاصه في جميع أعماله: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ .. ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾، ومن ترك الصلاة جاحدا فهو مرتد عن الإسلام، أو متهاونا فهو فاسق مستحق للعقاب، وبهذا نجد تفسير قول الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (ان رسول الله شبه الصلاة بالحمّة ـ هي عين تنبع بالماء الحار ـ تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن)، أي ان المواظبة على الصلاة تزكي القلب من الارتداد والفسق، تماما كما يطهر الاغتسال الجسم من الاقذار، وأي شيء أقذر من الكفر والفسوق!؟
6. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ : الإنفاق هنا يشمل جميع ما يبذله الإنسان في سبيل الخير زكاة كان، أو غيرها.. وليس من شك ان البذل في سبيل الخير راجح في ذاته، لكن هل: يجب في الأموال شيء غير الزكاة والخمس؟
7. لقد جاء في طريق السنة، كما عن الترمذي، وفي طريق الشيعة كما عن الكافي ان في الأموال حقا آخر، وفسر الإمام جعفر الصادق عليه السلام هذا الحق بأنه الشيء يخرجه الرجل من ماله، ان شاء أكثر، وان شاء أقل على قدر ما يملك، واستدل بقوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ .. غير ان أكثر العلماء حملوا ذلك على الاستحباب دون الوجوب إلا الشيخ الصدوق من الشيعة، حيث نقل عنه القول بأن في الأموال حقا لازما غير الخمس والزكاة، يخرجه المالك حسب ما يملك كثرة وقلة.. ومهما يكن، فان الذي لا شك فيه ان بذل المال في سبيل الخير يطهر من الاقذار، وينجي من عذاب النار، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾
8. ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ : الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ القرآن والسنة معا، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ينطق عن الهوى ان هو إلّا وحي يوحى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، والمراد بما انزل من قبلك الكتب التي نزلت على من سبق من الرسل، كزبور داوود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى عليه السلام.. ولا أثر اليوم للإيمان بهذه الكتب من الوجهة العملية، لأنها في عقيدة المسلمين اما غير موجودة، واما الموجود منها محرّف.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/38.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى(2).: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ المتقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين والكفار والمنافقين خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله سبحانه، والإيمان بما أنزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى.
2. وصف الله تعالى الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، وأن هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعماءين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين.
3. الهداية الثانية لما كانت بالقرآن، فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود، وإنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والأخلاق، وهذا هو الإذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي أصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الأمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإنفاق.
4. من هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وأنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي﴾ ﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.. والأمر في ضلال الكفار والمنافقين كما في المتقين.
5. في الآيات إشارة إلى حياة أخرى للإنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، وهي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار وبعد الموت وحين البعث، قال تعالى: ﴿ أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ﴾
6. ﴿يُؤْمِنُونَ ﴾ الإيمان تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الريب والشك وهو آفة الاعتقاد، والإيمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربما يتعلق بالشيء نفسه فيترتب عليه أثره فقط، وربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، وربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.
7. ﴿بِالْغَيْبِ﴾، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه الحس، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي، وهو الذي أشير إليه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي والإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب.
8. قوله سبحانه: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ العدول في خصوص الإذعان بالآخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرد، فإن الإنسان ربما يؤمن بشيء ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾، فبين تعالى: أن الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب؛ فذكره واليقين به ينتج التقوى.
9. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة إلا على نحو من المجاز.. ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح يدفع عنه كل ضيق وشح، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، عقب سبحانه هاهنا أيضا قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ؛ بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
10. قوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ بيّن سبحانه أوّلا أنّ الكتاب هدى للمتّقين، ثمّ ظهر من السياق أنّ لهم اهتداءا فطريّا إجماليّا، يتعقّبه اهتداء تفصيليّ إلهيّ، وهو الذي يحصل لهم ـ ببيانه سبحانه لهم وجوه خيرهم من شرّهم، بواسطة كتابه المبيّن ـ فيه صلاح معاشهم ومعادهم، فظهر أنّ لهم الاهتداء بسلامة فطرتهم، والاهتداء كرامة من ربّهم، وكان الجميع منه سبحانه؛ إذ كلّ حسنة فمن الله، فجمع بين الهدايتين، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ وقد قال سبحانه: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ فذكر أنّ الهداية بانشراح الصدر وسعته، وقال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ والشحّ: الضيقّ والبخل؛ فتمّ بذلك أنّ هؤلاء أصحاب الفلاح، فقال: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
11. في المعاني، عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام أنه حق.. وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية وهو من الجري.
12. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ قال: ومما علمناهم يبثون.. وفي المعاني، عنه: في الآية: ومما علمناهم يبثون، وما علمناهم من القرآن يتلون.. والروايتان مبنيتان على حمل الإنفاق على الأعم من إنفاق المال كما ذكرناه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/44.
(2) بدأ تفسيره لسورة البقرة بهذا، وقبله قال: (قوله تعالى: الم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتابا)، الميزان في تفسير القرآن: 1/45.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الهدى من أهم المطالب وأعظم النعم؛ لما يترتب عليه من النجاة من النار والفوز بالجنة والسعادة الأبدية، وهذه الآية الكريمة تدلنا على ما به نهتدي، وهو القرآن مع التقوى من حيث أنه الحق الذي لا ريب فيه ولا شك في انه صدق وحق وعدل، وأنه من الله ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42] فلا يتعلق به الريب من أي جهة.
2. الريب: هو القلق في النفس، فهو كناية عن نفي الشك فيه، وفي قوله: ﴿الْكِتَابِ﴾ تعبيراً عن القرآن إشارة إلى أنه نزل ليكتب ويبقى تتوارثه الأجيال ليهتدوا به، والراجح: أن قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ و ﴿الْكِتَابِ﴾ خبر أول.
3. قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبر ثان وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ خبر ثالث، كقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44] وقد تضمن قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ بيان: أن القرآن هدى لمن يهتدي به، وهو بداية الكلام في اختلاف المكلفين بين من يهتدي به ومن يكفر به ومن لا يؤمن به مع دعواه الإيمان، ثم بيان الحجة على أنه من الله نزله على عبده ورسوله، ثم الوعيد لمن كفر والوعد لمن آمن، فأول فرقة هم المتقون الذين يهتدون به.
4. بيّن الله تعالى صفة المتقين التي انفردوا بها عن الكفار والمنافقين، فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يصدقون به ويذعنون له، وتقبله قلوبهم موقنة أنه الحق، و(الغيب) هنا هو ما أخبر الله به من المغيبات، ومن ذلك ما ذكره الله في آخر السورة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية.
5. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ وإقامتها أن يحيوها، فيؤدوها قيّمة، أي خالصة لله كاملة فروضها وشروطها في أوقاتها، وهذه من خواص المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92] وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [التوبة: 71]، وقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 ـ 9] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ [الأنفال: 2 ـ 3] وغير ذلك.. ولعل من إقامتها حضور الذهن فيها بحيث يعلم ما يقول، قال تعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]
6. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ مما رزقناهم مما أعطيناهم من المال، وهذا خاص بالحلال؛ لأن ما أخذه العبد غصباً مثلاً لا يقال فيه رزقه الله إياه، بل هو رزق لأهله، والمراد الإنفاق فيما أمر الله به، مثل ما في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
7. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ هذا عطف على ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ فهو من صفة المتقين، وقوله تعالى: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعم القرآن، وما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من غيره، وقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ يعم التوراة والإنجيل، وكل ما أنزل الله مما ذكر في القرآن خصوصاً أو عموماً، والإيمان بها الإيمان بأنها من الله سبحانه، وأنها حق وصدق، واليقين بالآخرة يبعث على التقوى؛ لأن اليقين بما فيها من الجزاء لتلازمهما كما دل عليه القرآن.
8. من أيقن بصدق الوعد والوعيد خاف من النار ورغب في الجنة، فبعثه ذلك على التقوى؛ ولأن اليقين بالآخرة من تمام الإيمان بالله وقدرته وعلمه وصدق وعده بالآخرة، ومن كان كذلك أيقن بصدق الوعد والوعيد بما في الآخرة، وذلك مع الإيمان به يؤدي إلى التقوى، فظهر بهذا أن هذه الآيات بيان للمتقين، في قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
9. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي أهل هذه الصفات المذكورة على هدىً من ربهم، وهذا الهدى خاص بهم، وهو إعدادهم للاهتداء بالقرآن، فصدورهم له مشروحة، وقلوبهم له مفتوحة، وبصائرهم منوّرة، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الأنعام: 125] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: 2] وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28] وهذا الهدى مسبب عن التقوى، وقد يحتج لذلك بقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17] وقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76].
10. هذا الهدى هو ما يفهمونه من القرآن ويحفظونه، ولكن بسبب الهدى الذي هو إعدادهم لفهم القرآن وحفظه كما يرشد إلى ذلك السياق.. نعم الأَولى أن نفسر قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ بما يعم الأمرين: الهدى الذي هو إعدادهم للاهتداء به، والهدى الذي هو ما يفهمونه ويحفظونه من القرآن، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأنه كله فائدة التقوى، وفائدة الصفات المذكورة.
11. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ بما يصيرون إليه في الآخرة من ثواب الله، بل وبما ينالون من الحياة الطيبة في الدنيا، فهم المفلحون بفوائد الاهتداء بالقرآن كلها، والفلاح: الظفر بالخير، قال في (الكشاف): (والمفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/51.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ ربما يخطر في الذهن أن من المناسب أن تستبدل بكلمة (ذلك) كلمة (هذا)، لأن اسم الإشارة عندما يكون للقريب يعبّر عنه به (هذا)، أمّا كلمة (ذلك) فهي للبعيد، والمفروض أن الكتاب قريب إلى قارئيه وسامعيه؛ لكنّ اللغة العربية تتّسع للتّنزيل، فيمكن فيها تنزيل القريب منزلة البعيد لمناسبة تقتضي ذلك لعلوّ مكانة هذا الشيء، أو بعدها، وإن كان قريب المكان، تنزيلا للمكانة البعيدة عن متناول الأفكار في الوصول إليها منزلة بعد المكان.
2. استعملت الألف واللام في ﴿الْكِتَابِ﴾ للتدليل على النوع، فذلك الكتاب يعني الكامل، تماما كما تقول (ذلك الرجل) أو (ذلك البطل) وتريد الكامل في الرجولة أو البطولة؛ فكأنّ النوع مجسّد فيه، لاجتماع كل خصائص الكمال المتفرقة في الأفراد في هذا الفرد؛ فهو يمثّل النوع بكل صفاته وخصائصه. وعلى هذا الأساس، فالمراد ب (ذلِكَ الْكِتابُ)، الكامل في هدايته، الجامع لجميع الخصائص التي تجعل منه قيمة عظيمة هادية للناس في كل مجالات العصر.
3. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: أنه الكتاب الذي لا يحمل في آياته وفي مفاهيمه أي عنصر من العناصر التي توحي بالرّيب أو تقود إليه، فلا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه إذا دقق في الخصائص الموجودة فيه، وفي المعاني الأصلية الواضحة التي إذا تأمّلها الإنسان، وأمعن النظر فيها، ووعاها وعيا صحيحا، لما ارتاب فيها، ولانكشفت أمامه كل أجواء الرّيب والشكّ والشبهة.. ومن هنا، فليس معناه أنه لم يرتب فيه أحد، لأن كثيرا من الناس أثاروا حوله جوّا من الريبة والشك؛ فقد قالوا عنه إنه ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾، وقالوا عنه أشياء أخرى، إمّا لغفلتهم عن طبيعته الواضحة باستغراقهم في أجواء الإثارة، وإما لخضوعهم لأساليب التضليل المتنوّعة التي تنحرف بالفكر عن وجه الحق.
4. ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ هذه هي الصفة الثالثة من صفات الكتاب الكامل في كل شيء الذي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، فهو ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، إنّه كتاب هداية، وهذا هو دوره الأصيل، وليس دوره أن يكون كتابا يتحدّث عن المخترعات أو عن أي شيء آخر مما ينسب إليه، إنما هو كتاب هدى للإنسان ليوجّهه إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم.. ولا مانع من أن يلتفت القرآن إلى بعض الأسرار الكونية، والظواهر الطبيعية، إذا دعت إليها المعالجة القرآنية لبعض المواضيع، ولكنها لا تأتي على أساس مستقلّ دائما، بل تكتفي بالتركيز على عنصر الهداية في وسائلها وأهدافها، فليس القرآن كتابا علميا يجمع علوم الكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك، بل هو كتاب إرشاد وتوجيه وهداية للإنسان، ليعرف كيف يسير ويصارع وينظّم حياته في كل المجالات.
5. القرآن الكريم يحدّد للإنسان الفكرة في صفاء ونقاء، ويربطه، من خلال ذلك بالمسيرة الإسلامية من بدايتها إلى نهايتها، ويخطّط له مسيرته وحياته من خلال الأحكام الشرعية التي تعرّفه كيف يتحرّك، من موقع المسؤولية، في هدوء واطمئنان، حركة تعرف نفسها جيدا، لأنها تعيش الوضوح في الرؤية، والانسجام مع الهدف.
6. لعل القيمة الكبيرة للهدى القرآني هي أنه لا يتجمّد عند حدود الذات ليملأها بالإشراق والصفاء، وتقف الهداية في الداخل فلا تتجاوزه إلى خارج نطاق الذات في حياة الآخرين، بل هو الهدى الممتدّ من القلب إلى الحياة، كمثل الينبوع المتدفّق الذي ينطلق ويتفجّر ليفيض ويتدفق على الأرض الرحبة الفسيحة ليمنحها الخصب والحياة.
7. طابع الهدى القرآني فريد من نوعه، لأنه لا يقف في منطقة الفكر ليشير إلى العقل أن يتفلسف ويحلّل، ويبدع الفكر من موقع الفلسفة والتحليل، ولكنه يتحرّك في أبعاد النفس الإنسانية ليثير فيها الفكر الممزوج بالعاطفة، والعقل المتحرّك بالوجدان، والروحية المتّصلة بالواقعية، فليس هناك جفاف فكري تشعر معه بأنك تعيش ضمن قوالب جاهزة جامدة تقدم إليك من خارج ذلتك، بل هناك الحيويّة النابضة بالروح التي تنساب في مشاعرك وعواطفك وفكرك ووجدانك، فتشعر معها بأنك تمارس فكرك من موقع النور المتفجّر من أعماقك في رحاب الله، ممّا يجعل من قضية الفكر شيئا يشبه العبادة ويصنع الحياة.
8. المتّقون: هم أولئك الذين انفتحت عقولهم على فكر الحقّ من خلال التأمل والمعاناة الوجدانية، حتى عاش في وجدانهم قناعة واطمئنانا، واندمجت أرواحهم في لقاء الله، حتى شعروا بحضوره معهم في يقظتهم ومنامهم، فلا يواجهون شيئا في الحياة إلا ويواجهون الله معه، باعتبار أن الأشياء تفقد استقلالها وذاتيتها في داخلهم، لأنها المظهر الحي لوجود الله وقدرته وحكمته ورحمته، وهم الذين تحركت حياتهم في الصراط المستقيم حتى لتحسّ بخطواتهم تتنقل في ثبات واتزان، كأنها تعيش وعي الطريق في كل أبعاده واتجاهاته، فلا تغيب عنها أية انعطافة من منعطفات الطريق التي تدعو للانحراف، بل هي الاستقامة الباحثة أبدا عن النور في طريق الله.
9. سؤال وإشكال: كيف يكون القرآن هدى للمتقين ولا يكون هدى لكل الناس؟ وهل يحتاج المتقون الذين يعيشون الهدى في كيانهم إلى هداية ليكون القرآن هاديا لهم؟ والجواب: هو أن المتّقين هم الذين يشعرون بمسؤوليتهم الفكرية والاجتماعية تجاه العقيدة والحياة، فهم الذين يعيشون تقوى الفكر التي توحي بالتأمّل والتفكير العميق، فيطلبون الهداية من موقع المواجهة الحادة للمشاكل الصعبة التي تعترضهم في قضايا الصراع، فيقفون أمامها موقف الجادّ الذي لا يعيش حالة اللامبالاة والاسترخاء الفكري، بل يحاول أن يدخل عملية الصدام الفكري ليفكّر فيما يعرض عليه ليناقشه، فإمّا أن يقتنع به وإمّا أن يرفضه على أساس من الوعي، ثم إن المتّقين هم الذين يخافون الله ويحبونه بإخلاص وإيمان، فيشعرون من خلال ذلك بالمسؤولية التي تتحول إلى مراقبة ومحاسبة في الفكر والعمل، فيندفعون في عملية ملاحقة للأسس التي يرتكز عليها الهدى من أجل أن تكون موضع تفكير ومناقشة.
10. غير المتّقين: لا يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم، وتجاه ربهم، بل وتجاه الحياة كلها، إنهم يواجهون الحياة مواجهة اللامبالاة والهروب من كل شيء يتعب الفكر والوجدان، فلا يحاولون أن يهتدوا، ولا يريدون أن يفكروا بالهدى، فلا يمكن للكتاب أن يكون هدى لهم، لأن الهدى لا بد له من عقل مفتوح ووجدان سليم، ولكنه يظل يطرق أسماعهم منتظرا حالة الوعي الجديدة التي تربطهم بالإرادة الواعية ليهديهم من موقع إرادتهم للهداية، في آفاق الله الرحبة الممتدة بالإيمان.
11. نواجه في هذه الآيات تحديدا لصفات المتقين في إيمانهم وسلوكهم ضمن إطار يحدّد أصول العقيدة، ويشتمل على الجوانب الأساسية من حركة العقيدة في الحياة، وهنا، نحاول استحياء هذه الصفات من حيث طبيعتها ومدلولها ودورها في حياتنا الروحية والعملية.
12. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الإيمان بالغيب صفة أساسية من صفات المتقين.. والإيمان بالغيب هو الإيمان بالأشياء التي لا يصل إليها الحس بشكل مباشر، ومنها الإيمان بالله، فالإنسان يؤمن بالله من خلال آثاره، ومن خلال مخلوقاته فيما تدل عليه من عظمة الخلق، على الرغم من أنه لا يمسّ ولا يرى، لأن الوجدان يفرض ذلك كحقيقة حاسمة ترتكز على الأسس العلميّة والعقليّة؛ وبذلك تتحول التقوى الفكرية إلى حركة في داخل الذات، تثير فيها اليقين وتقودها نحو الإيمان.
13. غير المتقين لا يؤمنون إلا بالحسّ والتجربة من دون أن ينفذوا إلى ما وراءهما من قواعد وركائز؛ فالقيمة الفكرية في القضايا عندهم هي في خضوعها للملاحظة الحسيّة بعيدا عن كل مضمون عقلي أو فكر سابق، لأن الإيمان بالحسّ ـ كما يقول البعض ـ يحمل للإنسان المقاييس الطبيعية، التي يمكنه من خلالها أن يعرف الحق والباطل، إذ من الممكن أن يدرك الإنسان نتائج التجربة في حالتي النجاح والفشل، فإذا نجحت انطلقت الحياة معه في عملية تكرار يكتشف أبعاد النجاح، وإذا فشلت فإنّها تقف عند حدود التجربة في مراحلها المحدودة، فلا تتكرر؛ لأن الخطأ لا يغري بمعاودة التجربة من جديد.. أمّا الأفكار العقلية ـ حسب هذا الرأي ـ فلا يمكن للإنسان أن يلمس بوجدانه مدى الحق والباطل فيها بطريقة حسيّة، لأنه لا يملك الميزان في ذلك، لأنها ليست من الأشياء المرئية التي تخضع للملاحظة والتأمّل ليرتكز الإيمان من خلالها على قاعدة متينة، وربما كانت هذه الشبهة من أقوى الشبهات التي أثارها الحسّيون في مقابل العقليّين الذين يقولون بأن هناك أساسا للمعرفة غير الحس.
14. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ لقد تحدث القرآن عن الإيمان بالغيب الذي يتمثل ب (الإيمان بالله)، ثم ربطه بالجانب العملي ليفهم منه أن الإيمان الذي يراد في الإسلام ليس هو الإيمان النظري الذي يعيش في فكر الإنسان من خلال المعادلات العقلية المجردة، بل هو الذي يعيش في النفس لينطلق في مجال الحياة العملية، ولهذا كانت الشخصية الإسلامية الإيمانية مرتكزة على الجانب الفكري في العقيدة والجانب العملي في الممارسة.
15. طرح القرآن للجانب العملي نموذجين:
أ. أحدهما: يمثل تعبيرا للإنسان عن جانب ممارسته العقدية في حركات تعبيرية، تتجسد فيها معاناته الداخلية للإيمان، وتنسجم فيها روحه مع تطلعاتها وإحساسها الحي بارتباطها العميق بالله، وذلك لحاجة التكامل الإيماني لديه إلى الممارسة العملية، والتعبير المتجسد الذي تنساب فيه الإيحاءات الخفية في النفس، من خلال الكلمة والحركة والموقف والشعور، مما يفسح في المجال للنفس لتواجه الموقف الإيماني من عمق الإحساس الذاتي بالفكرة، لا من خلال الإيحاء والتوجيه الخارجي.. إنه موقف العطاء الذي يتفجر كالينبوع من النفس، لا موقف التلقي والأخذ من عطاء الآخرين، وهذا هو ما تعبر عنه الصلاة في روحيتها المنسابة مع كل كلمة من كلماتها، أو حركة من حركاتها، ليتحسس الإنسان معها العلاقة بالله، كما لو كانت شيئا يتجسد ويحس ويتحول إلى فعل محبة وعبادة وصداقة، واستغراق للروح في وعي القيم الكبيرة المنطلقة من خلال الله، واستشعار لمسؤولياته عن المعاني الكبيرة في الحياة، من خلال الموقف الحق الذي يقفه بين يدي الله في استعادته لعملية الإيمان، وليعيش القوة، أمام نوازع الضعف، وتحديات القوى، لئلا يبقى بعيدا عن مصدر القوة التي تسنده، وتدعم وجوده وموقفه، وترعاه في كل مجالاته، فيستطيع أن يحقق التماسك والانضباط بين يدي الله.
ب. ثانيهما: ما يؤكده قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ من تكامل بين علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالحياة.. فهذه الآية تؤكد بأن على الإنسان أن يعيش العطاء، فيعطي مما رزقه الله، لأن كل ما في الكون هو لله تعالى، وكلّ ما يقع تحت يديه هو لله تعالى، وأن العطاء، وظيفة ومسئولية لا تفضلا ومنّة، فالإنسان مؤتمن على ما ملّكه الله تعالى ومكنه منه، وبالتالي على أن يدبره ويديره ويتصرف به وفق مشيئة مالكه الحق، أي الله سبحانه وتعالى، وبذلك يتصاعد الإيحاء، في لفتة رائعة، تنسب المال إلى مصدره الأساس وهو الله، ليدرك أنه لا ينفق مما يختص به، أو يملكه ملكا ذاتيا حتى يعيش أنانية العطاء، بل ينفق مما رزقه الله.
16. يتسع الإيحاء في ربط الإنفاق بمصدر العطاء الذي هو الله، ليعتبر الإنسان أنه مسئول عن كل ما رزقه الله من رزق ليعطيه وينفق منه على أساس المسؤولية، فليس حرا في أن يفعل به ما يريد كما يريد، وقد نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تستوحي من الآية الفكرة التي تمتد بالإنفاق إلى ما هو أبعد من المال، فتتسع المسؤولية لتشمل كل طاقة يملكها الإنسان مما يحتاج إليه الآخرون، فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في مقام تطبيق الآية: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ قال: (وممّا علمناهم يبثون)، وفي حديث آخر: (وما علمناهم من القرآن يتلون)، ومن الطبيعي أن الإمام الصادق عليه السّلام لا يريد أن يحصر مدلول الآية في إنفاق العلم، لأن مجالها اللغوي أوسع من ذلك، ولأن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في أمثال هذا السياق ظاهرة في المال أو فيما هو أوسع من المال.. ولكن الظاهر أنه يريد الإيحاء، للذين يفهمون منها المال، أنها تشمل العلم كأسلوب من أساليب التوجيه والتنبيه للآخرين الذين يملكون العلم ولا يبثونه في من يحتاج إليه، على اعتبار أن هذه الصفة من السمات البارزة للشخصية الإيمانية، وهذا ما استوحيناه من سعة المدلول القرآني.
17. نستطيع أن نستوحي من الآية الكريمة أيضا، الإنفاق في مجالات أخرى كإنفاق الجاه والجهد والخبرة وغيرها من الطاقات، لنطلب من الآخرين الذين يملكون أمثال ذلك أن لا يحتكروه لأنفسهم، بل أن يبذلوه لمن يحتاجه من الناس، وملخّص الفكرة، أن المؤمن يشعر بأنه مسئول عن الإنفاق من كل ما رزقه الله من مال أو علم أو جهد أو جاه وغيره، من موقع الواجب لا من موقع التفضل.
18. قد يناقش المناقشون في ظهور اللفظ في ذلك، ولكن اللفظ ليس مدلولا لغويا يتجمد المعنى عنده، بل هو إيحاء عميق ممتد في رحاب الحياة، يتسع ويشمل كل ما يتصل به من أجواء ومواقف وأشياء.
19. ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين، وهي صفة الإيمان بالوحي المنزل على النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لينسجموا في إيمانهم مع كل مفهوم من مفاهيم الإسلام، ومع كل حكم من أحكامه، لئلا يبقى هناك أيّ فراغ فكري أو تشريعي أو روحي يواجه به الإنسان حياته، ليبحث في أفكار الآخرين وتشريعاتهم عما يسد هذا الفراغ، بل يعيش الامتلاء الفكري والوجداني والقانوني في كل المجالات.
20. ثم، الإيمان بوحدة الرسالات، فالمؤمنون هم الذين يؤمنون برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على أنها امتداد للرسالات السابقة التي لم تكن رسالات بشرية، بل هي وحي منزل من الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الجو نشعر بأن الإنسان المسلم لا يعيش أية عقدة نفسية إزاء الرسالات الأخرى كالنصرانية واليهودية، ولا يرفض مقدساتها الأصيلة، بل الإنسان المسلم هو الذي يؤمن بالأديان الأخرى وبمقدساتها، ولكن ضمن إطارها الزمني الخاص الذي أراد الله للرسالات أن تعيش فيه، لأن الإسلام يعتبر نفسه امتدادا للأديان الأخرى ومكملا لها، كما كان كل دين مكمّلا للدين الذي سبقه، وقد ورد عن المسيح عليه السّلام قوله: (إنما جئت لأكمل الناموس)، وورد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
21. قد نستطيع أن نفهم من هذا كله أن الإسلام يجمع الخصائص الأساسية في اليهودية والنصرانية، وفي رسالة إبراهيم عليه السّلام والرسل من قبله، ويحوي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ خصائص جديدة اقتضتها طبيعة الحاجات التي استحدثتها الحياة بعد انتهاء دور الرسالات، ولذلك، فإن المسلم ـ كما قلنا ـ لا يعاني أية عقدة من هذه الجهة، بل قد يعاني من عقدة الانحراف العقيدي والتشريعي الذي وصلت إليه هاتان الديانتان، وهذا ما أظهرته النصوص القرآنية الكثيرة التي حدثتنا عن تحريف التوراة والإنجيل من قبل أهل الكتاب.
22. قد نستنتج من ذلك أن المسلم لا يعيش الروح الطائفية المعقدة تجاه الأديان الأخرى، وذلك لارتباطه بالمفاهيم الإسلامية الأصلية، وإذا صدرت أحيانا مواقف سلبية تناقض تلك الروح الإسلامية المتسامحة مع الأديان الأخرى، فإنما مردها إلى تعقيدات وضغوط الواقع السياسي والاجتماعي الذي يفرز مثل هذه المواقف، وبالتالي فإن السلبيات ليست ناتجة من خلال نظرة المسلم تجاه الدين الآخر أو المقدسات الأخرى، وذلك على العكس تماما مما نجده عند الآخرين؛ فاليهود مثلا، ينكرون النصرانية والإسلام كدين، والنصارى ينكرون الإسلام كدين، لذلك نجدهم معقّدين من جهتنا دينيا.
23. على ضوء الانفتاح الإسلامي على اليهود والنصارى باعتبارهم أهل كتاب يؤمن به المسلمون من خلال إسلامهم، أطلق القرآن الكريم الدعوة إلى الحوار معهم وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] باعتبار أن المفاهيم الروحية والأخلاقية ـ بالإضافة إلى المسألة التوحيدية في خطها العام ـ تمثل قاعدة التوافق التي يمكن أن ينطلق معها اللقاء، ويتحرك فيها الحوار، ويرتكز عليها التعايش الذي طرحه الإسلام في علاقة المسلمين بأهل الكتاب.
24. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ الإيقان: هو الاعتقاد، والإيمان بالآخرة هو الصفة الخامسة من صفات المتقين، وهو من أقوى الأسس العقيدية لبناء الشخصية الإسلامية التقيّة، وقيمة الإيمان بالله واليوم الآخر، هي في تعاظم الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان، لأنها تجعل للحياة هدفا، وتمدّ الحياة إلى مجال أبعد من الحياة الحسية التي نمارسها، وبهذا يستطيع الإنسان الارتباط بالمثل العليا ارتباطا أعمق على أساس إيمانه بالله واليوم الآخر، فإذا اجتمعت هذه الصفات في نفس الإنسان وفي عمله، أمكن له أن يطمئن إلى أنه يسير على هدى من ربه فيما يفكر ويعمل، وأنه يتحرك في اتجاه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
25. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هؤلاء، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، يسيرون على طريق الهدى، لأن الإيمان بالله يفتح آفاق الحياة أمام الإنسان، والإيمان بالرسالات يخطط له حياته، أما الإيمان بالآخرة، فيجعل للحياة هدفا كبيرا يمكن للإنسان أن يجاهد من أجله ويسعى إليه.
26. هذه هي الأسس الثلاثة للعقيدة.. ويتبعها المظهران العمليان للعقيدة، وهما: إقامة الصلاة التي تربطه بالله؛ والإنفاق مما رزقه الله الذي يربطه بالحياة.
27. يلاحظ صاحب تفسير الميزان أن كلمة ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ توحي بأن هناك هداية من الله بعد التقوى، تخلف عن الهداية التي صاروا بها متقين، وهي الهداية الأولى(2).، واستدل لذلك بقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، [إبراهيم: 27] وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: 28]، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].. وما يمكن ملاحظته هنا، أن الآيات التي استدلّ بها على وجهة نظره، لا تؤيد ما استفاده، لأن تثبيت الله تعالى للمؤمنين ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾، وإيتاءه لهم ﴿كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾، وجعله لهم (نورا) يمشون به، ومن ثم نصره لهم وتثبيته لأقدامهم، ونحو ذلك، إنما تمثل الآثار اللازمة للتقوى والإيمان بالله وبرسوله ونصرتهم لله، فهي نتيجة لهذه الأمور وليست شيئا منفصلا عنها، وذلك من خلال سببية المقدمات للنتائج في الواقع الكوني للوجود، والواقع العملي للإنسان، وهذا لا يمنع صدق النسبة إلى الله في كل شيء باعتباره مسبّب الأسباب، أو قل السبب الأعمق في وجود كلّ شيء، في المبدأ والتفاصيل.
28. قد نجد أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، من مظاهر سلامة الفطرة، باعتبارهما مظهرا للخضوع لله في ربوبيته؛ ليس واضحا، لأن هذين الأمرين لم ينطلقا من حالة ذاتية للإنسان، بل من التشريعات الإلهية، ومن خلال ذلك، نستطيع التأكيد أنّ كل هذه الأمور كانت من مظاهر الهدى القرآني الذي ينفتح ـ في مفاهيمه ـ على إثارة التفكير بالغيب كوسيلة من وسائل الإيمان به، وتوجيه الإنسان إلى إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله، وإلى الحديث عن الوحي في رسالة النبي وفي رسالات الأنبياء الذين تقدّموه من أجل الوصول إلى الإيمان به، وتركيز القاعدة الفكرية للإيمان باليوم الآخر من خلال مواجهة الشبهات التي تستبعده، وتقريب الأسس التي يرتكز عليها.
29. إن القرآن لم ينزل على المتقين الذين عاشوا التقوى ومارسوا آثارها قبله، بل نزل على الناس الذين انفتحوا على هداه من خلال وعيهم للقاعدة التي ارتكزوا عليها، فاهتدوا به في تفاصيل العقيدة كلها، وربما كان الواقع التاريخي للمجتمع الذي نزل فيه القرآن يؤكد غياب هذه الاعتقادات والأعمال عن حركة الإنسان فيه والله العالم.
30. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ لأن الفلاح والنجاح يتمثلان في أن يعرف الإنسان طريقه جيدا في بدايته ونهايته وفي خطوات الطريق، وهذا هو الذي ينطلق منه الإنسان المسلم فيما يتعلق بشؤون العقيدة، وقد نفهم، من خلال ذلك كله، أن التقوى ليست شيئا آخر غير الإيمان، بل هي الإيمان المتفاعل في الفكر والحياة، لأن الله تحدث عن المتقين بأنهم الذين ينطلقون في الاتجاه الصحيح في العقيدة والعمل.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/105.
(2) سبق ذكر ما ذكره، فلم نعد ذكره هنا.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبب التعبير بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾، أن كلمة (ذلك) إشارة إلى البعيد في لغة العرب، وقرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.. والسبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سموّ القرآن ورفعته، حتى كأنه ـ في عظمته ـ يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود، ومثل هذا الاستعمال شائع في سائر اللغات أيضا حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مثلا، في بعض مواضع القرآن وردت أيضا كلمة (تلك)، وهي اسم إشارة للبعيد أيضا، مثل: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾
2. استعمال كلمة الكتاب للقرآن لا يستلزم أن يكون القرآن كله مكتوبا، لأن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب، وعلى أجزائه أيضا.. أضف إلى ذلك أن (الكتاب) يطلق أحيانا بمعنى أوسع، ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد، وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه. ففي آية أخرى نقرأ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، ومن المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله.. وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في (اللوح المحفوظ)
3. ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ : قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتابا يهتدي به من طلب الحق، ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير، وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن.. وقوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ليس ادعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، هي إنّ القرآن يشهد بذاته على حقّانيته، وبعبارة أخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة والانسجام والاستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك.. فمن المشهود أن مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إن حقائق القرآن، ازدادت وضوحا بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات، وكلما ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعا.
4. ﴿هُدًى﴾ كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساسا إلى معنيين:
أ. الهداية التكوينية: وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود، وواضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون، يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السّلام: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
ب. الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال، وشواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾
5. سؤال وإشكال: واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلما ذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟ والجواب: السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة)، وبعبارة أخرى: الأفراد الفاقدون للإيمان على قسمين:
أ. قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقدارا من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.
ب. وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.
6. من المسلّم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك.. أي أنه كما إنّ (فاعليّة الفاعل) شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك (قابلية القابل) شرط فيهما أيضا.. فالأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر، وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد، ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
7. في بداية هذه السّورة قسم القرآن النّاس حسب ارتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام:
أ. المتقون: وهم الذين تقبّلوا الإسلام في جميع أبعاده.
ب. الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.
ج. المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهرا أمام المسلمين، وكفّار أمام أعداء الدين، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعا وإن تظاهروا بالإسلام.
وهذا لا يختص بالإسلام طبعا، كل المذاهب في العالم لها مؤمنون معتقدون، أو معارضون صريحون، أو منافقون محافظون، كما أنها لا تختص بزمان معين، بل هي سارية في كل العصور.
8. (الغيب والشهود) نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس، لأنّ (الغيب) في الأصل يعني ما بطن وخفي، وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات (غيب) لخفائه عن حواسّنا، التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾
9. الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة، ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.. المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه، بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي، وهذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية!
10. لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: (المؤمنين بالغيب) يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليّ وأبديّ، وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس، ويعتقدون أنّ الإنسان ـ بما يحمله من روح إنسانية ـ يسمو بكثير على سائر الحيوانات، وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.. بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور، والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة أخرى بالمواد الطبيعية، فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية وسلوك ونظام! الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر على ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية، من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطّهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب، ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من (الإيمان بالغيب) نقطة البداية في التقوى.
11. يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى، أم أنه يشمل ـ أيضا ـ الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس ـ كما ذكرنا ـ أول نقطة افتراق المؤمنين عن الكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.
12. بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام الله عليه) والذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار، وهذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، والروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر عليه السّلام ويمكننا القول أنّ الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.
13. الصفة الأخرى للمتقين هي أنهم ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾، و(الصّلاة) باعتبارها رمز الارتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ما وراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم، فهم لا يحنون رؤوسهم إلّا أمام الله، ولا يستسلمون إلّا لرب السماوات والأرض، ولذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الأوثان، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت.. مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الأخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.
14. الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّا أمام الله، يتضرع إليه ويناجيه، ينطبع فكره وعمله وقوله بطابع إلهي، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقا فيه سخط الله (على أن يكون تضرعه لله صادرا عن أعماق قلبه ومنطلقا من تمام وجوده)
15. المتقون ـ إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق ـ لهم ارتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، ويلاحظ أن القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، بل يقول: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية، فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة أخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه.
16. الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، وخاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي، قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن، الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائما من ثمار عملها، والحياة الجماعية ـ أساسا ـ لا مفهوم لها دو نما إنفاق، والارتباط بالنّاس ـ في الحقيقة حصيلة الارتباط بالله، فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نعم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معينة، ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره ويفرحه، لأنه بالإنفاق قسّم مال الله بين عباد الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية، وهذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل والحسد، ويحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسئول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقع من أحد جزاء.
17. في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام بشأن تفسير الآية ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ يقول: (إنّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون)، وبديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصا بالعلم، بل إن الإمام الصادق يريد ـ بذكر هذا اللون من الإنفاق ـ أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصرا على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.. ومن هنا يتضح ضمنيا أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات الواجبة والمستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.
18. الخاصية الرابعة للمتّقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهية؛ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المبادي والاسس، بأنهم جميعا هداة البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم، ويؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للارتباط وعامل للشّد بين أبناء البشر.. والأشخاص الذين يحملون مثل هذه الرّؤية ومثل هذا الإدراك، يسعون تطهير أرواحهم من التعصّب، ويؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر وتكاملهم، ويحترمون كل دعاة وهداة طريق التوحيد.
19. الإيمان برسالات الأنبياء السابقين، لا يمنع طبعا من انتهاج رسالة خاتم الأنبياء في الفكر والعمل، لأن هذه الرّسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان، وعدم انتهاجها يعني التخلف عن المسيرة التكاملية للبشرية.
20. آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ أي إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملا وعبثا، فالخليقة عينت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقا بموته، إذ لو كان الموت نهاية المسير لكانت حياة الإنسان عبثا لا طائل تحته.
21. المتّقون يقرّون بأن عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع، ولا شيء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء، وهذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله يتحمل أعباء المسؤولية ومشاقها بصدر رحب، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمّ، ويرفض الخضوع للظلم، وهذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال ـ صالحها وطالحها ـ لها جزاء وعقاب، وبأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم، يتمتع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.
22. الإيمان بالآخرة يعني شقّ حاجز عالم المادة والدخول إلى عالم أسمى.. ويعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى ومدرسة إعدادية له، وأنّ الحياة في هذا العالم ليست هدفا نهائيّا، بل تمهيد وإعداد للعالم الآخر.
23. الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفا لخلقة الإنسان، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة أخرى، وما لم يولد هذا الجنين سالما خاليا من العيوب، لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة التالية.
24. الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان، يهبه الشجاعة والشهامة، لأن أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم، هو وسام (الشهادة) على طريق هدف مقدس إلهي، والشهادة أحبّ شيء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبديّة.
25. الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذّنوب، بعبارة أخرى، يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا بالله واليوم الآخر تناسبا عكسيا، فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب، يقول الله سبحانه لنبيّه داوود: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾، ونسيان يوم الحساب أساس كل طغيان وظلم وذنب، وبالتالي أساس استحقاق العذاب الشديد.
26. ثم ذكر الله تعالى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات الخمس المذكورة، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾، وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم:
أ. وعبارة ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾ إشارة إلى هذه الحقيقة.
ب. واستعمال حرف (على) في عبارة ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يوحي بأن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح، (لأن حرف ـ على ـ يوحي غلبا معنى الاستعلاء).
ج. واستعمال كلمة (هدى) في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم الله بها.
د. وتعبير ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إن الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين!
27. الآيات المذكورة استعملت الفعل المضارع الذي يشير عادة إلى الاستمرار يؤمنون بالغيب ـ يقيمون الصلاة ـ ينفقون ـ وبالآخرة هم يوقنون، وهذا يعني أن المتقين والمؤمنين الحقيقيين هم الذين يواصلون مسيرتهم الحياتية بثبات واستمرار، دون تعثر أو تلكّؤ أو توقف.. هؤلاء ينطلقون منذ البدء بروح البحث عن الحق، وهذا يؤدي بهم إلى تلبية دعوة القرآن، والقرآن بعد ذلك يوجد فيهم الخصائص الخمس المذكورة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/74.
3. صفات الكافرين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈3⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6 ـ 7]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ فلا يعقلون، ولا يسمعون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ على أعينهم؛ فلا يبصرون(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٧٣.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: وأمّا الكفر المذكور في كتاب الله تعالى فخمسة وجوه: منها كفر الجحود، ومنها كفر فقط، والجحود ينقسم على وجهين، ومنها كفر الترك لما أمر الله تعالى به، ومنها كفر البراءة، ومنها كفر النعم، فأما كفر الجحود فأحد الوجهين منه: جحود الوحدانيّة، وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار ولا بعث ولا نشور وهؤلاء صنف من الزنادقة، وصنف من الدهريّة الّذين يقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24]، وذلك رأي وضعوه لأنفسهم استحسنوه بغير حجّة فقال الله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24] وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، أي لا يؤمنون بتوحيد الله، والوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيقته قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] قال سبحانه: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 89] أي جحدوه بعد أن عرفوه، وأمّا الوجه الثالث من الكفر فهو كفر الترك لما أمر الله به وهو من المعاصي قال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 84 ـ 85]، فكانوا كفّارا لتركهم ما أمر الله تعالى به، فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن، فلم ينفعهم ذلك لقوله تعالى: ﴿فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85]، وأما الوجه الرابع من الكفر فهو ما حكاه تعالى عن قول إبراهيم عليه السّلام: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، فقوله: كفرنا بكم): أي تبرّأنا منكم، وقال سبحانه في قصّة إبليس وتبرّيه من أوليائه من الأنس إلى يوم القيامة: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: 22]، أي تبرّأت منكم، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25]، وأما الوجه الخامس من الكفر وهو كفر النعم قال الله تعالى عن قول سليمان عليه السّلام: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152](1).
2. روي أنّه قال: بني الكفر على أربع دعائم: الفسق والغلوّ والشّكّ والشّبهة، والفسق على أربع شعب: على الجفاء، والعمى، والغفلة، والعتوّ، فمن جفا احتقر الحقّ ومقت الفقهاء، وأصرّ على الحنث العظيم، ومن عمي نسي الذكر، واتّبع الظنّ، وبارز خالقه، وألحّ عليه الشّيطان، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ولا غفلة، ومن غفل جنى على نفسه، وانقلب على ظهره، وحسب غيّه رشدا، وغرّته الأمانيّ، وأخذته الحسرة والنّدامة إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء، وبدا له ما لم يكن يحتسب، ومن عتا عن أمر الله شكّ ومن شكّ تعالى الله عليه فأذلّه بسلطانه وصغّره بجلاله كما اغترّ بربّه الكريم وفرّط في أمره، والغلوّ على أربع شعب: على التّعمّق بالرّأي، والتّنازع فيه، والزّيغ، والشّقاق، فمن تعمّق لم ينب إلى الحقّ ولم يزدد إلّا غرقا في الغمرات، ولم تنحسر عنه فتنة إلّا غشيته أخرى، وانخرق دينه فهو يهوي في أمر مريج، ومن نازع في الرّأي وخاصم شهر بالعثل من طول اللّجاج، ومن زاغ قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة، ومن شاقّ أعورت عليه طرقه واعترض عليه أمره، فضاق عليه مخرجه إذا لم يتّبع سبيل المؤمنين، والشّكّ على أربع شعب: على المرية، والهوى، والتّردّد، والاستسلام وهو قول الله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ [النجم: 55](2).
__________
(1) بحار الأنوار 69/100.
(2) أصول الكافي 2/391.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاء من قبلك، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك!؟(1).
2. روي أنه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ونحو هذا من القرآن: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، [فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول؟](2).
3. روي أن نافع بن الأرزق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ طبع الله عليها، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت الأعشى وهو يقول(3).
4. روي أنه قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، أي: عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك(1).
5. روي أنه قال: ﴿عَذَابٍ﴾ نكال(4).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٣١.
(2) الطبراني في الكبير: ١٢/٢٥٤.
(3) الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/١٠٤.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٤٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه، حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم، قال ابن جريج: الختم: الختم على القلب، والسمع(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٦٦.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ): أنّه قال: أما القادة فليس فيهم نجيب، ولا ناج، ولا مهتد(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٧٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ): أنّه قال: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته كادته اليهود، أشد كيد، وقصدوه، أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها وحججه ليبطلوها، فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه، مالك بن الضيف وكعب بن أشرف وحي بن أخطب وحدي بن أخطب وأبو لبابة بن عبد المنذر وشيعته، فقال مالك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد! تزعم أنك رسول الله؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين)، قال يا محمد! لن نؤمن أنك رسوله، حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي، ولن نشهد لك أنك عن الله جئتنا، حتى يشهد لك هذا البساط.. وقال أبو لبابه بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمد! أنك رسول الله، ولا نشهد لك به، حتى يؤمن لك ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي.. وقال كعب بن أشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله، ولن نصدقك به، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنه ليس للعباد الاقتراح على الله، بل عليهم التسليم لله والانقياد لأمره والاكتفاء بما جعل كافيا، أما كفاكم أن نطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم بنبوتي ودل على صدقي؟.. وأنزل علي هذا القرآن الباهر، للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله، وان تكلفوا شبهه؟ وأما الذي اقترحتموه، فلست أقترحه على ربي تعالى بل أقول: إن ما أعطاني ربي تعالى من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل تعالى ما اقترحتموه، فذاك زائد في تطوله علينا وعليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله، كاف فيما أراده منا)، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من كلامه هذا، أنطق الله البساط، ثم قال الإمام الباقر (ت 114 هـ): أنّه قال: فلما انصرف القوم من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يؤمنوا، أنزل الله: يا محمد! ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ في العظة ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ ووعظتهم وخوفتهم ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لا يصدقون بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا فكيف يؤمنون بك عند قولك ودعائك(1).. فمثل هذا الأثر الوارد في مصدر غير معتبر، وما يذكره من المعجزات العظيمة يحتاج إسنادا لا يقل عن التواتر.
والحديث طويل، مضمونه: أن كلا من البساط والسوط والحمار شهد بالوحدانية والنبوة، وظهر من كل منها آيات عجيبة، ولم يؤمن أحدهم إلا أبو لبابة، فإنه أظهر الإسلام ولم يحسن إسلامه.
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص44.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي غطاء وستر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي شكّ ونفاق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ موجع(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 78.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 79.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ): أنّه قال: (أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد(1).
__________
(1) أصول الكافي ج 2 ص 289.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يعني: طبع الله على قلوبهم؛ فهم لا يعقلون الهدى، ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ يعني: آذانهم؛ فلا يسمعون الهدى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، يعني: وافر، لا انقطاع له(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٨٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ): أنّه قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤]، وقال: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣](1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٧١.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. سئل عن قول الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، فقال: الختم: هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله عز وجل: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(1).
2. روي أنه سئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 7]، فقال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم كما قال عزّ وجلّ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155]، واسأل عن الله عزّ وجلّ: هل يجبر عباده على المعاصي؟ فقال: بل يخيّرهم ويمهلهم حتّى يتوبوا)، قيل: فهل يكلّف عباده ما لا يطيقون؟ فقال: كيف يفعل ذلك؟ وهو يقول: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46](2).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص108/57.
(2) عيون الأخبار ج 1 ص 123.
الرسّي:
روي عن الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): أنّه قال: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: 6 ـ 7] الختم من الله على قلوبهم وعلى سمعهم وما جعل على أبصارهم من الغشاوة: كالران الذي قال الله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]؛ والختم هو: الإقفال، وهو الطبع، فمعنى هذا كله واحد فيهم، وهو بما وجب من لعنة الله عليهم(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/17.
العسكري:
روي عن الإمام العسكري (ت 260 هـ) أنّه قال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، أي: وسمها بسمة يعرف من يشاء من ملائكته، إذا نظروا اليها، بأنهم الذين لا يؤمنون، ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، كذلك بسمات ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، وذلك لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه، وقصروا فيما أريد منهم، وجهلوا ما لزمهم، من الايمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء، لا يبصر ما أمامه، فان الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير الى ما قد صدهم بالقسر عنه، ثم قال ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، يعني: في الآخرة، العذاب المعد للكافر، وفي الدنيا، أيضا، لمن يريد أن يستصلحه بما نزل به، من عذاب الاستصلاح، لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصطلام، ليصيره الى عدله وحكمته(1).
__________
(1) الاحتجاج: 2/260.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. كثيرا ما تسأل المجبرة عن قول الله سبحانه: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، ويعتقدون أن ختم الله على ذلك: منعها من فعل ما أمرها بفعله، والجواب: أن الختم في كلام العرب ينصرف على وجوه:
أ. فمنها: ختم الكتاب، وختم الكيس إذا جعل الرجل خاتمه على الطين أو الشمع يكون عليه.
ب. ومنها: أن العرب تقول: ختم هذا الأمر بالسفه، وبما لا يحسن.
ج. ومنها: التصديق والمتابعة على ما يقول القائل في ذلك، مثل أن يقول قولا فيصدقه الآخر؛ فيقول: أنت تختم على ما يقول، ولا تنكر منه شيئا)
د. ومنها: الشهادة والإقرار على الإنسان بما قد عرف منه، وذلك مثل: أن يعظه الواعظ، ويأمره برشد ويعاتبه؛ فيراه غير قابل النصيحة ولا عتابه؛ فيقول له: ختمت عليك أنك لا تفلح ولا تنجح)، أي: شهدت عليك بذلك.
هـ. وأواخر الأمور: خواتمها، ومن ذلك قيل: لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النبيئين.
2. هذا يكثر تخريجه من اللغة فكان يجب على المجبرة: أن تنسب الله سبحانه إلى ما يليق مما جاءت به اللغة العربية، ولا تنسبه الى الجور وما يشبهه، وما لم يعرف في اللغة، ولا يعرف في اللغة: أن الختم المنع من الشيء.
3. قد عرف الله سبحانه أنه لم يمنع عباده مما أمرهم به:
أ. وذلك في قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾؛ فلو كان هو المانع لهم لقالوا: لأنك منعتنا من ذلك بختمك على قلوبنا وسمعنا، وجعلت على أبصارنا غشاوة.
ب. وكذلك قوله: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾
ج. وكذلك قوله لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾، فلم يقل: لأنك منعتني من ذلك؛ ولكن قال ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾
4. معنى الختم وما كان مثله: الشهادة من الله عليهم؛ لما علم منهم ومن قلوبهم أنها لا تبصر، ومن آذانهم أنها لا تسمع أبدا، ومن الأدلة على تحقيق ذلك:
أ. أول الآية وآخرها؛ فإنه سبحانه قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، إلى قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، فشهد بهذا القول على قلوبهم أنها لا تؤمن أبدا، وعلى أبصارهم أنها لا تبصر أبدا، وعلى أسماعهم مثل ذلك؛ لما عرفه ـ جل ذكره ـ من سوء نياتهم واستكبارهم.
ب. أن ذلك ما شهد به مما علمه من قوم نوح؛ فقال: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾، ولم يقل: إني أنا الذي منعتهم من الإيمان، وفيما بينت كفاية إن شاء الله.
ج. أنه لما علم سبحانه أنهم لا يؤمنون مخلدين أبدا جعل خاتمة أعمالهم قلوبهم، وحكم عليها بأنها لا تفلح ولا تصلح وجعل لهم العذاب الأليم؛ ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ و ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وإنما أخبر سبحانه وشهد عليهم بما عرف من أعمالهم واصرارهم على معاصيه كما خبر عن علمه بقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾، الى قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، فبأعمالهم الردية ختم على قلوبهم وعلى سمعهم أنها لا تؤمن أبدا)
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/17.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف فيمن نزلت على وجهين:
أ. هذا في قوم خاص، علم الله أنهم لا يؤمنون، فأخبر عزّ وجل رسوله بذلك، فكان كما قال وفيه آية النّبوّة.
ب. ويحتمل أيضا: أنهم لا يؤمنون ما داموا في كفرهم؛ كقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258] والكافرون ما داموا كافرين ظالمون)
2. قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ روي عن الحسن: إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد، وعلم الله منه أنه لا يؤمن، طبع على قلبه حتى لا يؤمن، وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين:
أ. أحدهما: أن مذهبهم أن الكافر مكلّف، وإن كان قلبه مطبوعا عليه.
ب. والثاني: أن الله ـ عزّ وجل ـ عالم بكل من يؤمن في آخر عمره، وبكل من لا يؤمن أبدا، بلغ ذلك الحد أو لم يبلغ.. فعلى ما يقوله الحسن إيهام أنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك.
3. المعتزلة يقولون: إن قوله: ﴿خَتَمَ﴾، و ﴿طَبَعَ﴾ يعلم علامة في قلبه أنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل، الأمر معناه هو:
أ. خلق ظلمة الكفر في قلبه.
ب. خلق الختم والطبع على قلبه إذا فعل فعل الكفر؛ لأن فعل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه؛ وهو كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ [الإسراء: 46] أي خلق الأكنة، وغيره من الآيات.
4. الأصل في ذلك: أنه ختم على قلوبهم لما تركوا التأمل، والتفكر في قلوبهم فلم يقع، وعلى سمعهم لما لم يسمعوا قول الحق والعدل، خلق الثقل عليه، وخلق على أبصارهم الغطاء لما لم ينظروا في أنفسهم، ولا في خلق الله ليعرفوا زوالها وفناءها وتغير الأحوال؛ ليعلموا أن الذي خلق هذا دائم لا يزول أبدا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/376.
العياني:
عن الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله عز وجل في أعدائه الكافرين: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، فهذا وما كان مثله من الطبع والران إنما هو ترك الله لهم على عماهم فلما تركهم على ذلك وخلاهم، جاز أن يقول ختم على قلوبهم وأعماهم، ولو كان هو الله الذي جبرهم لما دعاهم ولما وعظهم في الكفر وما نهاهم.
2. لأن من ربط عبده وأذهب قواه، ثم أمره بعد ذلك ونهاه، فقد ظلمه عند كل عاقل، وجار عليه، وعبث وتلعب فيما دعي إليه، ومن وصف باللعب والخساسة فليس بحكيم تعالى عن ذلك ربنا الواحد الكريم.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 270.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآية في عامة المشركين من أهل الكتاب وغيرهم.
2. الختم الطبع، وفي هذا الموضع معناه معنى الحكم، وقيل: إن الختم هو السمة والعلامة تعرف الملائكة بها الكافرين.
3. هذا إخبار من الله عز وجل عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دُعوا إليه من الحق تشبيهاً بمن قد انسد سمعه وختم على قلبه فلا يدخل خير من الله تعالى لقلوبهم.
4. أن ذلك حكم منه تعالى على قلوبهم أنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه.
5. الغشاوة تعاميهم عن الحق كالذي يغشى الناظر من قتام أو ظلام أو غيره، وسمي القلب قلباً لتقلبه بالخواطر، قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه... والرأي يصرف والإنسان أطوار
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/27.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف: فيمن نزلت، على ثلاثة أوجه:
2. أحدها: أنهم اليهود الذين حول المدينة، وبه قال ابن عباس، وكان يسميهم بأعيانهم.
3. والثاني: أنهم مشركو أهل الكتاب كلهم، وهو اختيار الطبري.
4. والثالث: أنها نزلت في قادة الأحزاب، وبه قال الربيع بن أنس.
5. أصل الكفر عند العرب التغطية، ومنه قوله تعالى: ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ يعني الزّرّاع لتغطيتهم البذر في الأرض، قال لبيد: في ليلة كفّر النّجوم غمامها.. أي غطّاها، فسمى به الكافر بالله تعالى لتغطيته نعم الله بجحوده.. وأما الشرك فهو في حكم الكفر، وأصله في الإشراك في العبادة.
6. معنى الختم هو الطبع، ومنه ختم الكتاب، ثم ذكر أن فيه أربعة تأويلات:
أ. أحدها: وهو قول مجاهد: أن القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد ذنبا ضمّ منه كالإصبع، فإذا أذنب ذنبا ثانيا ضم منه كالإصبع الثانية، حتى يضمّ جميعه ثم يطبع عليه بطابع.
ب. والثاني: أنها سمة تكون علامة فيهم، تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
ج. والثالث: أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعوا إليه من الحق، تشبيها بما قد انسدّ وختم عليه، فلا يدخله خير.
د. والرابع: أنها شهادة من الله تعالى على قلوبهم، بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحقّ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغى إليه، والغشاوة: تعاميهم عن الحق.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/72.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف فيمن نزلت، على الوجوه التالية:
أ. نزلت في أبي جهل وفي خمسة من قومه من قادة الأحزاب قتلوا يوم بدر في قول الربيع بن أنس، واختاره البلخي والمغربي.
ب. قال ابن عباس: نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ذكرهم بأعيانهم، من اليهود الذين حول المدينة.
ج. قال قوم: نزلت في مشركي العرب، واختار الطبري قول ابن عباس.
2. الصحيح إنه لا بد أن تكون الآية مخصوصة لأن حملها على العموم غير ممكن، لأنا علمنا أن في الكفار من يؤمن فلا يمكن العموم، وأما القطع على واحد مما قالوه فلا دليل عليه، ويجب تجويز كل واحد من هذه الأقوال، ومن مات منهم على كفره يقطع على أنه مراد بالآية، فعلى هذه قادة الأحزاب مرادون على ما قال ربيع بن انس ومن قتل يوم بدر كذلك، ومن قال ان الآية مخصوصة بكفار اهل الكتاب قال لأن ما تقدمها مختص بمؤمنيهم فيجب ان يكون ما يعقبها مختصاً بكفارهم وقد قلنا إن الآية الاولى حملها على عمومها اولى ولو كانت خاصة بهم لم يجب حمل هذه الآية على الخصوص لما تقدم فيما مضى.
3. ﴿سَوَاءٌ﴾، أي معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو وتقول: هذان الأمران عندي سواء أي معتدلان، ومنه قوله: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ يعني بذلك أعلمهم وآذنهم للحرب ليستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منكم للآخر ومعناه: أي الامرين كان منك اليهم الانذار أم ترك الانذار فإنهم لا يؤمنون.
4. سؤال وإشكال: الذين علم الله منهم انهم لا يؤمنون، هل كانوا قادرين على الايمان أم لا؟ فان قلتم ما كانوا قادرين، وقد كلفهم الله تعالى الايمان، فقد كلفهم ما لا يقدرون عليه، وهذا لا يجوز ـ وان كانوا قادرين ـ فقد قلتم: انهم كانوا قادرين على تجهيل الله، والجواب:
5. الأول، أنه يلزم المخالف مثله، فإنه لا خلاف أنهم مأمورون بالإيمان، فيقال لهم: انه لا يجب ذلك كما لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان، أن يكونوا مأمورين (بابطال ما علم الله) أليس الله قد علم انه لا يقيم القيامة اليوم؟ أيقولون: انه قادر على إقامتها أم لا؟ فان قلتم: انه لا يقدر، فقد عجّزتم الله، وان قلتم: انه يقدر، فقد قلتم: انه يقدر على ان يجهّل نفسه.
6. الثاني، أن العلم يتناول الشيء على ما هو به، ولا يجعله على ما هو به، فليس يمتنع ان يعلم حصول شيء بعينه، وان كان غيره مقدورا ألا ترى أن من خُيّر بين الصدق والكذب وقد علم أن كل واحد منهما يقوم مقام صاحبه في باب الغرض وقد علم قبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار الكذب على الصدق ـ وان كان قادراً على الكذب ـ
7. معنى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، هو:
أ. شهد عليها بأنها لا تقبل الحق، يقول القائل: أراك تختم على كل ما يقول فلان، أي تشهد به وتصدقه، وقد ختمت عليك بأنك لا تعلم، أي شهدت، وذلك استعارة.
ب. وقيل إن ختم بمعنى طبع فيها أثراً للذنوب كالسمة والعلامة لتعرفها الملائكة فيتبرؤوا منهم، ولا يوالوهم، ولا يستغفروا لهم مع استغفارهم للمؤمنين.
ج. وقيل: المعنى في ذلك أنه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في انها لا يدخلها الايمان ولا يخرج عنها الكفر، قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً... ولكن لا حياة لمن تنادي
أي كأنه لا حياة فيه.
د. والختم آخر الشيء ومنه قوله تعالى: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ ومنه: ﴿ خاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ أي آخرهم، ومنه: ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه والختم الطبع والخاتم الطابع.
هـ. وقيل: إن قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾ إخبار عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا اليه من الحق كما يقال: فلان أصم عن هذا الكلام إذا امتنع عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه.
8. ما يختم الله على القلوب من السمة والعلامة ليست بمانعة من الايمان كما أن ختم الكتاب والظرف والوعاء لا يمنع من أخذ ما فيه، وحكى عن مجاهد أن الرّين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الختم ومن الاقفال والقفل أشد من ذلك.
9. الغشاوة: الغطاء وفيها ثلاث لغات: فتح الغين وضمها وكسرها وكذلك غشوة فيها ثلاث لغات، ويقال: تغشاني السهم إذا تجلله وكل ما اشتمل على شيء مبني على فعالة كالعمامة والقلادة والعصابة وكذلك في الصناعة كالخياطة والقصارة والصباغة والنساجة وغير ذلك وكذلك من استولى على شيء كالخلافة والامارة والاجارة وغير ذلك.
10. ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ معناه على أسماعهم ووضع الواحد موضع الجمع لأنه اسم جنس كما قال ﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ يعني أطفالا، ويجوز ان يكون أراد موضع سمعهم فحذف لدلالة الكلام عليه، ويجوز ان يكون أراد المصدر لأنه يدل على القليل والكثير، فمن رفع التاء قال الكلام الأول قد تم عند قوله: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ واستأنف: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ وتقديره: وغشاوة على أبصارهم، ومن نصب قدّره، يعني: جعل على أبصارهم غشاوة، لما دل الكلام الأول عليه، فإذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه، لا يجوز إضماره، ولا يجوز أن ينصب بالفعل الأول الذي هو الختم، لأن الختم لا يطلق على البصر، كما ذكر في قوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ ثم قال ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ فلم يدخل المنصوب في معنى الختم.
11. قال قوم: إن ذلك على وجه الدعاء عليهم، لا للاخبار عنهم، وهذا يمكن في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ وفي قوله ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فيمن نصب غشاوة، فأما من رفع ذلك، فلا يكون دعاء، والأقوى أن ذلك خبر، لأنه خرج مخرج الذم لهم والإزراء عليهم، فكيف يحمل على الدعاء؟
12. يحتمل أن يكون المراد (بختم) أنه سيختم، ويكون الماضي بمعنى المستقبل، كما قال ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ﴾ وعلى هذا يسقط سؤال المخالف والقلب جعل الشيء على خلاف ما كان. يقال: قلبه يقلبه قلباً، والقليب البئر لأن الماء ينقلب اليها، وما به قلبة: أي انقلاب عن صحة، وفلان حوّل قلب: إذا كان يقلب الأمور برأيه ويحتال عليها، والقلوب الذئب لتقلبه في الحيلة على الصيد بخبثه، وسمي القلب قلباً لتقلبه بالخواطر. قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه... والرأي يعزب والإنسان أطوار
13. معنى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ تقديره: ولهم، بما هم عليه من خلافك، عذاب عظيم وحكي ذلك عن ابن عباس، وأصل العذاب الاستمرار بالشيء يقال: عذبه تعذيباً: إذا استمر به الألم، وعذب الماء عذوبة: إذا استمر في الحلق وحمار عاذب وعذوب: إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش، وفرس عذوب مثل ذلك، والعذوب الذي ليس بينه وبين السماء ستر، وأعذبته عن الشيء بمعنى فطمته، وعذبة السوط طرفه والعذاب استمرار الألم.
14. أصل العِظَمِ عِظم الشخص، ومنه عظيم الشأن الغني بالشيء عن غيره وعظمة الله تعالى كبرياؤه والعظام من العِظم لأنه من أكبر ما يركب منه البدن.
15. سؤال وإشكال: إذا قلتم: ان الله ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فكيف يكونون قادرين على الايمان؟ والجواب:
قيل: يكونون عليه لأن الختم والغشاوة ليسا بشيء يفعلهما الله تعالى في القلب والعين يصد بهما عن الايمان، ولكن الختم شهادة على ما فسرناه من الله عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر، ولا تعي الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي الى الحق، وهذا إخبار عمن يُعلم منه أنه لا يؤمن.
وقيل: أن الغشاوة هي (إلفُهم الكفر بحبهم له)، ولم يقل تعالى إنه جعل على قلوبهم، بل أخبر انه كذلك، ومن قرأ بالنصب ـ وإن كان شاذاً ـ يحتمل أن يكون أراد معنى قوله: ان السورة زادتهم رجساً إلى رجسهم والسورة لم تزدهم ولكنهم ازدادوا عندها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/60.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف فيمن نزلت، على الأقوال التالية:
أ. قيل: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، عن الضحاك.
ب. وقيل: في اليهود، عن الكلبي.
ج. وقيل: في قوم من المنافقين من الأوس والخزرج.
د. وقيل: في مشركي العرب عن الأصم.
هـ. وقيل: في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود كفروا عنادا، وكتموا أمره منهم حُيي بن أخطب، عن ابن عباس.
و. وقيل: في قادة الأحزاب.
ز. وقيل: في أهل الختم الَّذِينَ عَلِمَ الله أنهم لا يؤمنون عن أبي علي.
ح. وقيل: هو عام في جميع الكفار، يعني أن جميعهم لا يؤمنون، وإن بذل لهم النصيحة، وإن كان بعضهم يؤمن تسلية له.
2. لما بين الله تعالى حال المؤمنين عقبه بذكر الكافرين، فاتصل بما قبله اتصال النقيض بالنقيض، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
أ. قيل: بجميع ما آمن به المؤمنون.
ب. وقيل: بخصلة من خصال الكفر، أي كفر كان.
ج. وقيل: كفروا بما أنزل اليك، كما قال: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾
د. وقيل: كفروا بالآخرة.
3. ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يستوي حالهم ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ خوفتهم أو لم تخوفهم لا يؤمنون بك، وبما أنزل إليك، و(سواء عليهم) بمعنى يستوي؛ لأن المصدر إذا أقيم مقام الفاعلين كان بمنزلة أسمائهم، يقال: قوم صوم، أي صائمون.
4. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الكفر الستر والتغطية، ومنه قيل للحَرَّاثِ: كَفَّار؛ لأنه يغطي الحب، ومنه: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ ويقال: كفر النعمة أي سترها، ثم نقل في الشرع فصار اسما لمن يستحق عذابا عظيما، كقولنا: مؤمن، نُقِلَ من التصديق، فصار اسما شرعيا، ولذلك لا يطلق على كل مصدق.
ب. الاستواء والاعتدال نظائر، فيقال: استوى استواء، إذا اعتدل، وسَوَّاه تسوية إذا عدله، وسوّى الشيء وسطه لاعتداله إلى النواحي.
ج. الإنذار: التخويف، وهو الإعلام بموضع المخافة ليتقى، وهو إحسان من المنذر، وكلما كان الخوف أشد كانت النعمة بالإنذار أعظم؛ ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعظم الناس منة على أمته.
د. الختم والطبع من النظائر، يقال: ختم الكتاب، والختم: الطبع بالخاتم، وقوله: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي آخره، وختم الكتاب؛ لأنه يكون بعد الفراغ منه، ومنه خاتم النبيين.
هـ. الغشاوة والغطاء والساتر نظائر، يقال: غشيته إذا سترته، ومنه: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ والغاشية: هي الغطاء الشامل، ومنه سميت القيامة غاشية، وفي غشاوة ست لغات: بالألف وتعاقب الحركات الثلاث على العين، وبغير ألف مع تعاقبها، والأجود بالألف وكسر العين.
و. العذاب استمرار الألم، وأصله من الاستمرار، عذبه يعذبه تعذيبا.. والعظيم: الكبير، يقال: هو عظيم الجثة، وعظيم الشأن، ومنه سمي تعالى عظيما، لا من الأول.
5. سؤال وإشكال: علم أنهم لا يؤمنون، فلو قدروا على الإيمان وآمنوا لكان فيه تجهيلٌ؟ والجواب: الله تعالى علم أنهم مع قدرتهم على الإيمان لا يؤمنون، ولم يؤمنوا، ثم هذا باطل بالأمر؛ أليس أمرهم بالإيمان، فأمرهم بتجهيله، ثم إنه تعالى قادر على إيجاد القيامة في هذا الوقت، مع علمه أنه لا يوجدها فيه تجهيل له؟
6. اختلف في معنى الختم على الأقوال التالية:
أ. قيل: نكتة سوداء يجعلها الله في قلب الكافر علامة للملائكة أنه لا يفلح، عن أبي علي وجماعة.
ب. وقيل: إنه ذم لهم بأنها كالمختوم عليها، كقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ قال الشاعر: أَصَمُّ عَمَّا سَاءَه سَمِيعُ، وقال:
لقد أَسْمَعْتَ لو ناديتَ حَيًّا.. ولكنْ لا حياةَ لِمَنْ تُنَادِي
ومعناه أن الكفر تمكن في قلوبهم فصارت كالمختوم عليها، وصارت أسماعهم لا يصل إليها السمع، ثم أكد ذلك بقوله: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشاوةٌ) أي صاروا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم، ولا يبصر في معنى قول الأصم وأبي مسلم وأبي بكر أحمد بن علي.
ج. وقيل: ختم أي حكم الله عليهم، وشهد عليها بأنها لا تقبل الحق، وهو من قولهم: ختمت عليك بأنك لا تفلح، أي شهدت عليك وحكمت، وقيل: المراد به الاستفهام، فحذف ألف الاستفهام، وتقديره: أختم، قال الشاعر: بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ.
7. أضاف الختم إلى نفسه لأن ذلك يختلف باختلاف تأويلها، كما ذكر في الوجوه والمعاني، فـ:
أ. على التأويل الأول؛ أنه جعل ذلك في قلوبهم.
ب. وعلى الثاني أنه كان عند دعائه كقولهم: ما زدتك بموعظتي إلا شرًا، وذلك تَوَسُّعٌ.
ج. وعلى الثالث خَتَمَ بمعنى حَكَمَ أنهم بهذه الصفة.
د. وعلى الرابع هو بمعنى الإنكار أي ما ختم.
8. سر تخصيص هذه الأعضاء بالذكر، هو أنها أنها طريق العلم، فالقلب محل العلم، وطريقه إما السماع أو الرؤية.
9. الختم لا يمنع من الإيمان، لـ:
أ. أنه لو مَنَعَ منه، وقد أمرَ به لكان تكليفا لما لا يطاق.
ب. أنه أخبر أن بعضهم يؤمن، فقال: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فلو منع لمنع الجميع.
ج. أن السمع والبصر لا تعلق لهما بالإيمان.
د. أنهم كانوا يسمعون ويبصرون.
هـ. أن الختم لا يكون منعا إذا قُدِرَ على رفعه كختم الكتاب.
و. أن الختم في اللغة بمعنى المنع غير مسموع ولا موجود.
ز. أن المنع من الإيمان قبيح.
ح. أنه لا يقال: إنه عقوبة لهم؛ لأنه عطف عليه بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فدل أنه غير المعطوف عليه.
ط. ولأنه يكون في كفره أتي من قبل ربه.
ي. ولأنه لا يكون له طريق إلى التخلص مع بقاء التكليف.
ك. لو جاز أن يمنع من الإيمان، ثم يعاقب عليه، لجاز أن يكلف الأعمى النظر، والْمُقْعَدَ القيام، ويعاقب على تركه، وجاز أن يبعث رسولاً يدعو إلى الكفر، ويظهر المعجز على يدي كذاب.
ل. أن الله تعالى تنزه عن الظلم، فلو أنه أمر بالإيمان ومنع منه، ثم يعاقب عليه لما كان ظلم أعظمَ من هذا، تعالى الله عن ذلك.
10. ذكر من لا شبهة في جهله أن قوله: ﴿خَتَمَ﴾ علة لقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا دعوى؛ لأن الآية وردت ذما لهم، ولو أتوا من قبله لما استحقوا الذم، ولأن عندهم أن الكفر خلقه، والإيمان خلقه، والختم هو الكفر، فكأنه قال على تأويلهم الفاسد: إن الَّذِينَ خلقت فيهم الكفر لا ينفعهم الإنذار ولا يؤمنون؛ لأني لم أخلق فيهم الإيمان، وعلى هذا كانت الآية حجة لهم، وعذرا لا عليهم.
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن في المكلفين من لا لطف له؛ إذ لو كان الفعل لآمنوا، فلما أخبر أنهم لا يؤمنون، علم أنه لا لطف لهم، خلاف قول أصحاب اللطف.
ب. على معجزة للرسول؛ لأنه أخبر أنهم لا يؤمنون، فكان كما أخبر.
ج. على أنه يجوز أن يخاطب بالعام ويريد به الخاص؛ لأنا نعلم أن في الكفار من آمن وانتفع بإنذاره، فدل بأن المراد بالآية الخصوص.
د. على أن الكافر أُتي من جهة نفسه، لا من تقصير من جهة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
هـ. على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى؛ إذ لو كانت خلقا له لم يكن للتخويف معنى.
و. أن الآية تدل على أن من لا يسمع الحق ولا يعيه فهو بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا قلب.
ز. أن الآية تدل على أنهم استحقوا العقاب لما سلف من كفرهم.
12. مسائل نحوية:
أ. إن: حرف توكيد، ويكون جوابا للقسم، وعملها نصب الاسم ورفع الخبر؛ لأنها كفِعْلٍ قُدِّمَ مفعوله، وتدخل على الاسم والخبر، بمنزلة كان، وبنيت على الفتح كبناء الماضي على الفتح، واسم (إن) الَّذِينَ، وأما خبرها ففيه وجهان:
• أحدهما: الجملة من قولك: (سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَندرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُندرْهُمْ).
• الثاني: أن يكون خبرها (لا يؤمنون)، ويكون (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) اعتراضا.
ب. (سواء) مبتدأ، وخبره ما بعده، كأنه قيل: سواء عليهم الإنذارُ وتَرْكُهُ.
ج. الألف في أنذرتهم ألف التسوية، وأصلها الاستفهام.
د. (أم) حرف عطف على الاستفهام.
هـ. (لم) حرف جزم لا يليه إلا الفعل؛ لأن الجزم يختص بالأفعال.
و. رفع (غشاوة) على الاستئناف، ويجوز نصبه على إضمار فعل، أي: وجعل، أو العطف على (خَتَمَ) كما بينا.
ز. جمع القلوب، ووحد السمع:
• قيل: لأنه مصدر فلا يثنى ولا يجمع، يقول: يعجبني حمدكم.
• وقيل: معناه وعلى موضع سمعهم، كقولك: أصحابك عَدْلٌ، أي ذوو عدل.
• وقيل: لما أضاف السمع إليهم، دل على معنى الأسماع.
• وقيل: أراد سمع كل واحد منهم، كما تقول: جاءني برأس كبشين، قال الشاعر:
لاَ تُنْكِرُوا القَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا... فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شُجِينَا
ح. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ والوقف على ﴿سَمْعُهُمْ﴾ وَقْف كافٍ، والوقف التام عند قوله: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ والوقوف ثلاثة: تام، وكاف، وناقص، فالأول ما أفاد المعنى ولم يتصل به زيادة، والكافي ما أفاد وزاد، والناقص ما لم يفد ولم يزد المعنى على الصحة.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/235.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الكفر: خلاف الشكر، كما أن الحد خلاف الذم، فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها وكل ما ستر شيئا فقد كفره، قال لبيد (في ليلة كفر النجوم غمامها) أي: سترها.
ب. سواء: مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور وصوم ومعناه مستو، والاستواء: الاعتدال.. والسواء: العدل، قال زهير:
أروني خطة لا خسف فيها... يسوي بيننا فيها السواء
وقالوا: سي بمعنى سواء، كما قالوا قي وقواء: وسيان أي: مثلان.
ج. الإنذار: إعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، ويوصف القديم تعالى بأنه منذر، لأن الإعلام يجوز وصفه به، والتخويف أيضا كذلك، لقوله: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾، فإذا جاز وصفه بالمعنيين، جاز وصفه بما يشتمل عليهما وأنذرت يتعدى إلى مفعولين، كقوله ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾، وقد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قوله ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ .. وقيل: الإنذار: هو التحذير من مخوف يتسع زمانه للاحتراز منه، فإن لم يتسع فهو إشعار.
د. الختم: نظير الطبع، يقال: طبع عليه بمعنى ختم عليه، ويقال: طبعه أيضا بغير حرف، ولا يمتنع في ختم ذلك، قال: كأن قرادى زوره طبعتهما... بطين من الجولان كتاب أعجم وقوله ختامه مسك أي: آخره، ومنه ختم الكتاب، لأنه آخر حال الفراغ منه.
هـ. السمع: مصدر، تقول: يعجبني ضربكم أي: ضروبكم فيوحد لأنه مصدر، ويجوز أن يريد على مواضع سمعهم، فحذفت مواضع، ودل السمع عليها، كما يقال أصحابك عدل أي: ذوو عدل.. ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم، دل على معنى أسماعهم، قال الشاعر:
بها جيف الحسرى، فأما عظامها... فبيض، وأما جلدها فصليب
وقال الآخر: (في حلقكم عظم وقد شجينا) أي: في حلوقكم.
و. الغشاوة: الغطاء وكل ما اشتمل على الشيء بنى على فعالة، نحو العمامة، والقلادة، والعصابة.. وكذلك أسماء الصناعات كالخياطة والقصارة والصياغة، لأن معنى الصناعة: الاشتمال على كل ما فيها، وكذلك كل من استولى على شيء فاسم ما استولى عليه الفعالة: كالإمارة، والخلافة، وغير ذلك.
ز. سمي القلب قلبا: لتقلبه بالخواطر، قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه... والرأي يعزب، والإنسان أطوار
والفؤاد: محل القلب، والصدر: محل الفؤاد، وقد يعبر عن القلب بمحله كقوله: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ وقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ يعني به القلب في الموضعين.
والعذاب: استمرار الألم، يقال: عذبته تعذيبا وعذابا.
ح. يقال عذب الماء: إذا استمر في الحلق، وحمار عاذب وعذوب: إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش، وفرس عذوب مثل ذلك، وأعذبته عن الشيء: بمعنى فطمته.
ط. العظيم: الكبير، يقال: هو عظيم الجثة، وعظيم الشأن، سمي سبحانه عظيما، وعظمته: كبرياؤه.
ي. الناس والبشر والأنس نظائر: وهي الجماعة من الحيوان المتميزة بالصورة الانسانية، وأصله:
• قيل: أناس من الإنس، ووزنه فعال، فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف واللام للتعريف، ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا، والأصل لكن أنا.
• وقيل: الناس مأخوذة من النوس: وهو الحركة، وتصغيره نويس، ووزنه فعل.
• وقيل: أخذ من الظهور، فسمي ناسا وإنسانا، لظهوره، وإدراك البصر إياه، يقال: آنست ببصري شيئا، وقال الله سبحانه ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ والإنسان واحد، والناس جمعه لا من لفظه.
• وقيل: أخذ من النسيان لقوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ .
وأصل الانسان انسيان، ولذلك قيل في تحقيره وتصغيره انيسيان، فرد إلى الأصل.
ك. ﴿الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ : يوم القيامة، وإنما سمي آخرا:
• قيل: لأنه يوم لا يوم بعده سواه، إذ ليس بعده ليلة.
• وقيل: لأنه متأخر عن أيام الدنيا.
ل. أصل الخدع: الاخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير يقال: خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر وخديعة، وقالوا: إنك لأخدع من ضب حرشته.. وخادعت فلانا فخدعته.
م. النفس على ثلاثة أوجه:
• النفس بمعنى الروح، والنفس بمعنى التأكيد، تقول: جاءني زيد نفسه.
• النفس بمعنى الذات وهو الأصل.
• النفس غير الروح، ويقال هما اسمان بمعنى واحد.
ن. يشعرون: يعلمون، وأصل الشعر الإحساس بالشيء من جهة تدق، ومن هذا اشتقاق الشعر، لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى، والوزن، ولا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف والتخيل.
2. اختلف فيمن نزلت:
أ. قيل: نزلت في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر، عن الربيع بن انس، واختاره البلخي.
ب. وقيل: نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنادا وكتم أمره حسدا، عن ابن عباس.
ج. وقيل: نزلت في أهل الختم والطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون، عن أبي علي الجبائي.
د. وقيل: نزلت في مشركي العرب، عن الأصم.
هـ. وقيل: هي عامة في جميع الكفار، أخبر تعالى بان جميعهم لا يؤمنون، ويكون كقول القائل: لا يقدم جميع إخوتك اليوم، فلا ينكر أن يقدم بعضهم.
واختار الشيخ أبو جعفر أن يكون على الاختصاص، وتجويز كل واحد من الأقوال الأخر، وهذا أظهر وأسبق إلى الفهم.
3. لما بين تعالى حال المؤمنين، وصله بذكر الكافرين، والكفر في الشرع: عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده، وعدله، ومعرفة نبيه، وما جاء به من أركان الشرع، فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا.
4. سؤال وإشكال: إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون، وكانوا قادرين على الإيمان عندكم، فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون؟ والجواب:
أ. لا يجب ذلك، كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله، كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة، أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة.
ب. والصحيح أن نقول: إن العلم يتناول الشيء على ما هو به، ولا يجعله على ما هو به، فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه، وإن كان غيره مقدورا.
5. قيل في معنى الختم وجوه:
أ. قيل: إن المراد بالختم العلامة، وإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن، فإنه يعلم على قلبه علامة.
ب. وقيل: هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة، فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها، فيذمونه ويدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان، ويعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه، ويستغفرون له.. وكما طبع على قلب الكافر، وختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره، فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها، وقد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين والشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة، والمناول بالشمال من أهل النار.
6. قوله تعالى ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: إنه طبع عليها جزاء للكفر، وعقوبة عليه.
ب. والآخر: إنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع.
7. المراد بالختم على القلوب:
أ. أن الله شهد عليها، وحكم بأنها لا تقبل الحق، كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي: تشهد به وتصدقه، وقد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت، وذلك استعارة.
ب. أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان، ولا يخرج عنها الكفر، كقوله ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ وكقول الشاعر: (أصم عما ساءه سميع)، وقول الآخر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي
والمعنى: إن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها، وصاروا بمنزلة من لا يفهم ولا يبصر ولا يسمع، عن الأصم وأبي مسلم الإصفهاني.
ج. إن الله وصف من ذمه بهذا الكلام، بأن قلبه ضاق عن النظر والاستدلال، فلم ينشرح له، فهو خلاف من ذكره في قوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ ومثل قوله ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وقوله: ﴿ وقالوا قلوبنا غلف وقلوبنا في أكنة ﴾، ويقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقال: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ويبين ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع والبصر، فدل هذا على أن الختم على القلب، هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنما يكون ضيقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحق والباطل، وهذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن، لأن الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة، لو كانت، فأن لا تكون الشجاعة أولى، قال طرفة:
فالهبيت لا فؤاد له... والثبيت قلبه قيمه
وكما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له، وأنه يراعة، وأنه مجوف، كذلك وصف من بعد عن قبول الاسلام بعد الدعاء إليه، وإقامة الحجة عليه، بأنه مختوم على قلبه، ومطبوع عليه، وضيق صدره وقلبه في كنان وفي غلاف، وهذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي، وإنما قال: ختم الله وطبع الله، لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ كما يقال: أهلكته فلانة: إذا أعجب بها، وهي لا تفعل به شيئا، لأنه هلك في اتباعها.
8. سؤال وإشكال: لم خص هذه الأعضاء بالذكر؟ والجواب: إنها طرق العلم، فالقلب محل العلم، وطريقه إما السماع أو الرؤية.
9. بين الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله، وما أنزل على رسوله من ذكر البعث، فيظهرون كلمة الإيمان، وكان قصدهم أن يطلعوا على أسرار المسلمين فينقلوها إلى الكفار، أو تقريب الرسول إياهم، كما كان يقرب المؤمنين، ثم نفى عنهم الإيمان، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ وفي هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم، وهذا يدل على فساد قول من يقول: الإيمان مجرد القول.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن في المكلفين من لا لطف له، لأنه لو كان لفعل ولآمنوا فلما أخبر أنهم لا يؤمنون، علم أنهم لا لطف لهم.
ب. على صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون، فكان كما أخبر.
ج. على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام، والمراد به الخاص في قول من قال الآية عامة، لأنا نعلم أن في الكفار من آمن، وانتفع بالإنذار.
11. مسائل نحوية:
أ. ﴿إِنَّ﴾ حرف توكيد، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر، وإنما نصبت ورفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه ولأنها توكيد، والتوكيد من معاني الفعل، وتشبهه في اتصال ضمير المتكلم، نحو إنني، وهي مبنية على الفتح كالفعل الماضي، وإنما ألزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه، فجعلت كفعل قدم مفعوله على فاعله.
ب. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : في موضع نصب، لكونه اسم إن، و ﴿كَفَرُوا﴾ : صلة الذين، وأما خبرها ففيه وجهان:
• أحدهما: أن يكون الجملة التي هي ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فعلى هذا يكون ﴿سَوَاءٌ﴾ يرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، والجملة في موضع رفع بأنها خبر إن.. ويكون قوله ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ حالا من الضمير المنصوب على حد معه صقر صائدا به وبالغ الكعبة.. ويستقيم أن يكون أيضا استئنافا.
• الثاني: أن يكون ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبر إن، ويكون قوله ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ اعتراضا بين الخبر والاسم، فلا يكون له موضع من الإعراب، كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول..
ج. إذا قدرت هذا الكلام على ما عليه المعنى، فقلت سواء عليهم الإنذار وتركه، كان ﴿سَوَاءٌ﴾ خبر المبتدأ، لأنه يكون تقديره الإنذار وتركه مستويان عليهم.. وإنما قلنا إنه مرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة، لأنه لا يجوز أن يكون خبرا، فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه، وإذا لم يكن مخبر عنه، بطل أن يكون خبرا، فإذا فسد ذلك، ثبت أنه مبتدأ.. وأيضا فإنه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام، فلا يجوز إذا أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام، ونظير ما في الآية، من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ، ولا له فيه ذكر، ما أنشده أبو زيد:
فإن حراما لا أرى الدهر باكيا... على شجوة إلا بكيت على عمرو
د. ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ لفظه الاستفهام ومعناه الخبر.. وهذه الهمزة تسمى ألف التسوية، والتسوية آلتها همزة الاستفهام، وأم، تقول: أزيد عندك أم عمرو؟ تريد أيهما عندك.. ولا يجوز في مكانها أو لأن أو لا يكون معادلة الهمزة، وتفسير المعادلة: أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو، كان معناه أحد هذين عندك، ويدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين، ومع أزيد أو عمرو يقع بنعم أو لا، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام، وإن كان خبرا، لأن فيه التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت: سواء علي أقمت أم قعدت، فقد سويت الأمرين عليك، كما أنك إذا استفهمت فقلت: أقام زيد أم قعد، فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام، فكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
هـ. قال النحويون: إن نظير ﴿سَوَاءٌ﴾ في هذا قولك: ما أبالي أقبلت أم أدبرت، لأنه وقع موقع أي، فكأنك قلت: ما أبالي أي هذين كان منك، وما أدري أحسنت أم أسأت، وليت شعري أقام أم قعد، وقال حسان:
ما أبالي أنب بالحزن تيس... أم لحاني بظهر غيب لئيم
ومثله في أنه في صورة الاستفهام، وهو خبر، قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح
ولو كان استفهاما لم يكن مدحا، وقول الآخر:
سواء عليه أي حين أتيته... أساعة نحس تتقى، أم بأسعد
و. ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ : موصول وصلة، وهو مرفوع بالابتداء، أو بالظرف.
ز. قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ حديث يتعلق بقوله ﴿يَقُولُ﴾ وما: حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ والخبر، كما يدخل ليس عليهما، وفيه نفي الحال، كما في ليس فأجري مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل.
ح. ﴿هُمْ﴾ مرفوع لأنه اسم ﴿مَا﴾ والباء في قوله ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ : مزيدة، دخلت توكيدا للنفي، وهو حرف جار، ومؤمنين: مجرور به.
ط. ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ : في موضع نصب بكونه خبر ﴿مَا﴾ ولفظة ﴿مِنَ﴾ تقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، ولذلك عاد الذكر إليه مجموعا على المعنى، ومنه قول الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فثني الضمير العائد إلى من على المعنى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/129.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية.
ب. وقيل: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضّحّاك.
ج. وقيل: نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حييّ بن أخطب، قاله ابن السّائب.
د. وقيل: نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم، قاله مقاتل.
2. هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
3. الكفر في اللغة: التغطية، تقول: كفرت الشيء إذا غطّيته، فسمّي الكافر كافرا، لأنه يغطي الحق.
4. ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾، أي: متعادل عندهم الإنذار وتركه.
5. الإنذار: إعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوّفه بعضهم بعضا.
__________
(1) زاد المسير: 1/30.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره، ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر، لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن اللّه تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص، إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود، ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء، فإذا قال: (إن الناس يؤذونني) فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين، وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب.
2. اختلف في المراد من ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ :
أ. قيل: إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم اللّه تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهو قول ابن عباس.
ب. وقيل: المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وهم الذين جحدوا بعد البينة، وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال اللّه تعالى: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: 4، 5] وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال اللّه تعالى له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6] وقال: ﴿ أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99] ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك، فإن اليأس إحدى الراحتين.
3. ﴿سَوَاءٌ﴾ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: 64] ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 10] بمعنى مستوية، فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.
4. الإنذار هو التخويف من عقاب اللّه بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة، لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى.
5. إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه:
أ. أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: كلوا في بعض بطنكمو تعيشوا) يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه.
ب. أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله: ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: 5]
ج. أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم.
د. قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً، قال تعالى: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257] ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ﴾ [المعارج: 37] قال الراعي:
بها جيف الحيدى فأما عظامها... فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها.
6. ذكر أدلة من ذكر أن السمع أفضل من البصر، وهي:
أ. أن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على التفضيل.
ب. أن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله رسولًا أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلى بالعمى.
ج. أن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات.
د. أن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر.
هـ. أن السمع متى بطل بطل النطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النطق.
ومن قدّم البصر استدلّ بأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح.
7. قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يدل على أن محل العلم هو القلب، ومثله قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: 193]
8. لما بين الله تعالى في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم.. والختم والكتم أخوان، لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
9. من قال بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، الكلام على مذهبهم ظاهر، وهو محمول على ظاهرة، ولهم قولان:
أ. منهم من قال الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار.
ب. منهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر، وتقريره:
• أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء.
• إما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلًا عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أو لا يتوقف، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، وتجويزه يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال.
• وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أو لا من فعل الله ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد، لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع.
• فثبت بذلك أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى.
10. من ذكروا أنه لا يجوز إجراء هذه الآية على المنع من الإيمان، وهو قول المعتزلة ومن قال بقولهم فيها، ومن أدلتهم التي ذكرها لذلك أن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾، وقال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقال: ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾، وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان، ولأجل ذلك لا بد من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر، ومنها:
أ. أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالإلف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقراً حتى لا يخلص إليها الذكر، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي، ولهذا قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: 155] ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14] ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ . [التوبة: 77]
ب. أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب.
ج. أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى، لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 125] أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم.
د. أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي.
هـ. أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5] ونظيره في الحكاية والتهكم قوله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 1]
و. الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنهم لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم.
ز. هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: 65] وقال: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 26] ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعباده والصلاح لهم، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين.
ح. يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلًا بينهم وبين الإيمان، بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه، والقذى في عينيه، والطنين في أذنه، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا، ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد.
ط. يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ [الإسراء: 97] وقال: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: 102] وقال: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ [يس: 65] وقال: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: 100]
ي. أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً(2).، فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22]، وحينئذ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه، ثم ذكر الفائدة في تلك العلامة، وهي:
• إما مصلحة عائدة إلى الملائكة، لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كفاراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر.
• أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان، وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر.
ثم ذكروا أن الختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر.
11. سبب تخصيص القلب والسمع بذلك، وهو أن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب، ولهذا خصهما بالذكر.
12. المعتزلة، ومن وافقهم لا يحملون الغشاوة في البصر على معنى العلامة، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته، أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلف ذلك فلا بد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية.
13. الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي: الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة، فمنها:
أ. آيات وردت دلالة على حصول هذه الأشياء، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [المطففين: 14] ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ [الأنعام: 25] ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 87] ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155] ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت: 4] ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ [يس: 70] ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ [النمل: 80] ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ [النحل: 21] ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10]
ب. آيات وردت دلالة على أنه لا مانع ألبتة ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ [الإسراء: 94] ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29] ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 28] ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [آل عمران: 71]
__________
(1) التفسير الكبير، ج2، ص: 284.
(2) ذكر أن هذا ما حكوه عن الحسن البصري، وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره، أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا.
ب. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما.
ج. قال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب.
والأول أصح، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية.
2. الإنذار الإبلاغ والاعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا، قال الشاعر:
أنذرت عمرا وهو في مهل... قبل الصباح فقد عصى عمرو
وتناذر بنو فلان هذا الامر إذا خوفه بعضهم بعضا.
3. الكفر ضد الايمان وهو المراد في الآية، وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في النساء في حديث الكسوف: (ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء) قيل: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن)، قيل أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط) أخرجه البخاري وغيره.
4. أصل الكفر في كلام العرب:
أ. الستر والتغطية، ومنه قول الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها، ومنه سمي الليل كافرا، لأنه يغطي كل شي بسواده، قال الشاعر:
فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما... ألقت ذكاء يمينها في كافر
ذكاء (بضم الذال والمد): اسم للشمس، ومنه قول الآخر:
فوردت قبل انبلاج الفجر... وابن ذكاء كامن في كفر
أي في ليل.
ب. أن الكافر يطلق على: البحر والنهر العظيم، والكافر: الزارع، والجمع كفار، قال الله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ ) [الحديد: 20]. يعني الزراع لأنهم يغطون الحب، ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب، والكافر من الأرض: ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور، ويقال الكفور: القرى. قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه، أي سواء عليهم هذا، وجيء بالاستفهام من أجل التسوية، ومثله قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ ) [الشعراء: 136]، وقال الشاعر:
وليل يقول الناس من ظلماته... سواء صحيحات العيون وعورها
5. بين سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الايمان بقوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ﴾، والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شي، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه.
6. الختم يكون محسوسا، ومعنى كما في هذه الآية، فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق سبحانه مفهوم مخاطباته والفكر في آياته، وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته، وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.
7. الختم على القلوب والاسماع، والغشاوة على الأبصار، والغشاء: الغطاء، ومنه غاشية السرج، وغشيت الشيء أغشية. قال النابغة:
هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
8. قال بعض المفسرين: الغشاوة على الاسماع والأبصار، والوقف على ﴿قُلُوبِهِمْ﴾، وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الختم، فالوقف على هذا على ﴿غِشَاوَةً﴾
9. قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ﴾ أي للكافرين المكذبين ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ نعته، والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان، وفي التنزيل: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ﴾ ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2]
10. العذاب: مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعذبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت، واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، ومنه قول علي رضي الله عنه: أعذبوا نساءكم عن الخروج، أي احبسوهن، وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء [أنفسكم] فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته، وفي المثل: لألجمنك لجاما معذبا) أي مانعا عن ركوب الناس، ويقال: أعذب أي امتنع، وأعذب غيره، فهو لازم ومتعد، فسمي العذاب عذابا لان صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.
11. في قوله تعالى: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح، والقلب للإنسان وغيره، وخالص كل شي وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر، وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإناء: رددته على وجهه، ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل:
ما سمي القلب إلا من تقلبه... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وقد روى ابن ماجة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة)، ولهذا المعنى كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك). فإذا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24]
12. الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب وإن كان رئيسها وملكها بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن، ومن الأدلة على ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه)، وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: (أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه)، قال: وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى﴾ ﴾ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع، وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) دليل على أن الختم يكون حقيقيا، والله أعلم، وقد قيل: إن القلب يشبه الصنوبرة، وهو يعضد قول مجاهد.
13. القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ ) [الفرقان: 32] وقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ) [الشرح: 1] يعني في الموضعين قلبك، وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى﴾ ﴾ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: 37] أي عقل، لان القلب محل العقل في قول الأكثرين، والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد.
14. استدلّ بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ ﴾ وأَبْصارَكُمْ ﴾ [الانعام: 46]، وقال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [السجدة: 9].. والسمع يدرك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع.
15. قال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع، لان السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها.. فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست.
16. سبب جمع الأبصار وتوحيد السمع:
أ. إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير يقال: سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا، فالسمع مصدر سمعت، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر.
ب. إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة، كما قال الشاعر في مثله:
لا تنكر القتل وقد سبينا... في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم، ومثله قول الآخر:
كأنه وجه تركيّين قد غضبا... مستهدف لطعان غير تذبيب
ج. وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا.
د. أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم، لان السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
هـ. قد يكون السمع بمعنى الاستماع، يقال: سمعك حديثي أي استماعك إلى حديثي يعجبني، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
وقد توجس ركزا مقفر ندس... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب، أي هو صادق الاستماع.
17. وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف، بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار:
أ. قال في الإنكار: ﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾
ب. قال في الحمية: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾
ج. قال في الانصراف: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾
د. قال في القساوة: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾
هـ. قال في الموت: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾
و. قال في الرين: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
ز. قال في المرض: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
ح. قال في الضيق: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾
ط. قال في الطبع: ﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾، وقال: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾
ي. قال في الختم: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾
18. هذه الآية، وأمثالها أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والايمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الايمان ولو جهدوا، لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
19. معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والاخبار بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل، وهذا فاسد لما يلي:
أ. أن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما، لا التسمية والحكم، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة.
ب. أن الامة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155]
ج. أن الامة أجمعت على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك.
20. لهذا ثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الايمان به، دليله قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [الحجر: 12]، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ ) [الانعام: 25] أي لئلا يفقهوه، وما كان مثله(2)..
__________
(1) تفسير القرطبي: 185.
(2) تفسير القرطبي: 188.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لمّا بيّن الله تعالى نعوت المؤمنين قبل، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم: تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ﴾ [يونس: 96 ـ 97]، وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145] الآية.
2. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ : استئناف معلّل لما سبق من الحكم، أو بيان وتأكيد له، والختم على الشيء: الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه، والمراد: إحداث حالة تجعلها ـ بسبب تماديهم في الغيّ، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح ـ بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ فيها الحق أصلا.
3. إسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى، لاستناد جميع الحوادث عندنا ـ من حيث الخلق ـ إليه سبحانه، ورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم، ووخامة عاقبتهم، لكون أفعالهم ـ من حيث الكسب ـ مستندة إليهم. فإنّ خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر، بل بطريق الترتيب ـ على ما اقترفوه من القبائح ـ كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: 155] ونحو ذلك، يعني كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: 110].
4. سلك المعتزلة، ومن وافقهم مسلك التأويل، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل:
أ. أنّ القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكّن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه.
ب. أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. كما في: سال به الوادي ـ إذا هلك ـ وطارت به العنقاء ـ إذا طالت غيبته ـ.
ج. أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف، عبرّ عن ذلك بالختم، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية، وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغيّ والعناد.
د. أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه. مثل قولهم: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: 5] تهكّما بهم.
هـ. أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه، ويعضده قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا﴾ [الإسراء: 97]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/247.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ من سبقت له الشقاوة كأبي جهل وأبي لهب، ممَّن نزل فيه الوحي أو لم ينزل، ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمُ ءَآنذَرْتَهُمُ﴾ أعلَمْتهُم بما أنزل إليك من تخويف في وقت إمكان أن يتحرَّزوا بالإيمان عن الوعيد، ﴿أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ لسبق القضاء بأنَّهم ﴿لَا يُومِنُونَ﴾، أخبره الله بذلك، لئلَّا يتأسَّف على من أعلمه الله بشقاوته، وليقلَّ تأسُّفه على من أبى من الإيمان ولم يعلم أهو شقيٌّ، إذ يقول: لعلَّه شقيٌّ فكيف أُكثِرُ التأسُّف عليه، وعلى كلِّ حال لا يترك الإنذار والتبليغ إليه.
2. ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ لم يوفِّقهم، سُمِّيَ القلب قلبًا لتقلُّبه، روى البيهقي عن أبي عبيدة بن الجرَّاح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (قلبُ ابن آدم مثلُ العصفور، يتقلَّب في اليوم سبع مرَّاتٍ)، وليس المعنى في الآية الإخبار ـ جلَّ الله ـ شبِّه الخِذلان بالربط أو الإغلاق على شيء حتَّى لا يدخله غيره، فقلوبهم ـ من حيث عدم نفوذ الحقِّ إليها واستقراره فيها ـ كالخابية والخريطة المختوم عليهما؛ وهذا تصوير للمعقول بصورة المحسوس للإيضاح، وكذا الختم في قوله: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أي آلات سمعهم؛ فلذلك لا ينتفعون بما سمعوا من الحقِّ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إذا أذنب العبدُ ضُمَّ من قلبه هكذا ـ فضمَّ خنصره ـ ؛ وإذا أَذْنب ضُمَّ من قلبه هكذا، فضَمَّ التي تليها، وهكذا إلى الإبهام).
3. والمراد بالقلوب هنا: الجسم اللطيف القائم بالقلب الكثيف الصنوبري الشكل، قيام العَرَض بالجسم، وقيام الحرارة في الوقود، والبرودة بالماء، وبهذا اللطيف يحصل الإدراك، وترتسم المعرفة، وكذا الأسماع يقوم بصماخها جسم لطيف يدرك الأصوات.
4. ﴿وَعَلَى أَبْصَارهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ غطاء عظيم كأنَّهم لا يرون بها، فيستدلُّون بما يرَونَ على قدرة الله؛ لَمَّا لَمْ ينتفعوا في الدين بالنظر بها كانوا كمن جعل على بصره غشاوة.
5. وفي (خَتَم) استعارة تصريحيَّة تبعيَّة، وفي (غشاوة) تصريحيَّة أصليَّة، أو الاستعارة تمثيليَّة، شبَّه قلوبَهم، وأسماعَهم، وأبصارَهم، وأحوالَهم المانعة من الانتفاع بأشياء معدَّة للانتفاع منع مانع من الانتفاع بها.
6. ﴿وَلَهُمْ﴾ على كفرهم ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عِظمَ شِدَّة وأنواع ودوام؛ ولم يعطف ﴿إنَّ الذين كفروا﴾ لأنَّ المراد ـ والله أعلم ـ استئناف بيان أنَّ عدم اهتداء الأشقياء لسبق شِقوتهم، وبيان مقابلتهم بإصرارهم لمن اتَّصف بالكمال ومضادَّتهم، لا لقصور في القرآن عن البيان فإنَّه غاية في البيان، وإنَّما ضلُّوا باختيارهم للسوء، كما قال قائل:
çوالنجمُ تستصغِرُ الأبصارُ رؤيتَه...والذَّنب للطَّرف لا للنَّجمِ في الصِّغَرِé
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/37.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الذي تقدّم كان بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث (الأول من الصنفين) أولئك الذين ببلغهم لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفى أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم (والثاني) أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل من قبله، وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقى إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله، أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفى بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين.
2. هذه أقسام أربعة ينقسم اليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الايمان به والاخذ يهديه، وبين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها، كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشرى، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو وهمه؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الالهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها، انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشى في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الاحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له.. ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو تسلية له أولا، وبالأولى قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ .
3. هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله مما قبله، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فان لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا.
4. الإنذار هو الاخبار والاعلام بالشيء المقترن بالتخويف مما يترتب عليه من فعل يتضمن ذمه وطلب تركه أو ترك لأمر يتضمن مدحه وطلب فعله، نصا أو اقتضاء، والسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء.
5. المعنى: أن الذين كفروا ولم يدخلوا في قسم المستعدين للإيمان لرسوخهم في الكفر، يستوى الانذار وعدمه بالنسبة إليهم في الواقع، فالذي يعرض عن النور مع العلم به ويغمض عينيه كيلا يراه بغضا له لذاته أو تأذيا به، أو عنادا وعدواة لمن دعاه إليهـ ماذا يفيده النور، وما ذا يعيب النور من إعراضه؟
6. الذى لا يعرف النور ولا يحب أن يعرفه لأن فساد طبيعته وخبث تربيته أنآه عنه وأبعده، وجعله يألف الظلمة كالخفاش، أو أفسد الجهل وجدانه فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضار، ولا بين لذيذ ومؤلم، ماذا عساه يفيده النور مهما سطع، أو يؤثر فيه الضوء مهما ارتفع؟
7. قوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هذه جملة مفسرة لتساوى الانذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلّى الله عليه وآله وسلّم وحق دعاة دينه، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له، إذا هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى.
8. الكفر في اللغة: ستر الشيء وتغطيته وإخفاؤه، ولذلك وصف به الليل والبحر والزراع في قوله تعالى (57: 20 ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ لأنهم يغطون الحب بالتراب ـ وفعله من باب نصر وقال الفارابي وتبعه الجوهري من باب ضرب وهو خطأ كما في المصباح ـ ومن المجاز: كفر النعمة بعدم شكرها وذكرها تنويها بها.
9. الكفر بالله أو بوحدانيته وصفاته، أو كتبه ورسله وما جاؤوا به عن الله تعالى، أي إنكاره وعدم التصديق به والاذعان له ولا سيما الشرك في عبادته كل ذلك من ضروب الستر والتغطية السلبية في الأمور المعنوية، فهو مجاز لغة، وحقيقة شرعية في معناه الشرعي المشار إليه آنفا، والمراد بالذين كفروا هنا من علم الله تعالى أن الكفر رسخ في قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد للإيمان.
10. الكفر في الآية الكريمة هو عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه، أو النبيّ الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاءا، نعنى بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن، ولم نسمع أن أحدا من الصحابة كفر أحدا بما وراء هذا.. وما عداه من الافاعيل والاقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة ـ أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب ـ فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد بالإنكار تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند اليه فلا يكفر، وإن ضعفت شبهته في الاستناد اليه مادام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات، أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه، أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم، حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات، وإن كانت من البدع المحظورات، ثم هم على عقائد الكافرين، وأخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين.
12. أقسام الكافرين، هي:
أ. من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الاقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جماعة من المشركين واليهود ولم يلبثوا أن انقرضوا، قال الاستاذ: كنت قلت في هذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ وهى (إن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس)
ب. من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه وهم الذي قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا، وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق ولكنهم يجدون فيها زلزلة، كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم، وسبب ذلك: أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا، ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.
ج. من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا تجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على دينهم وعقولهم، وهى ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة، في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية، أو قضاء شهوة وهمية، فعمى عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فاذا عرض عليهم حق أو ناداهم إليه مناد، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي ولا يميزون بين ما يدعو إليه، وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فاذا وعدهم أو أوعدهم النذير، قالوا لا نصدق ولا نكذب، حتى ننتهى إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتتضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة، لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم، أو يداعب أوهامهم.
ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين، والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين.
13. معنى الختم على القلوب، وانطباق الكلام على الطائفة التي عاندت الحق وهى تعرفه ظاهر:
أ. لأنهم لما عاندوا الحق لأنه لم يأت على أيديهم فقد طبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه، فإنه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا، وشقاء وخلود في نكال الآخرة، ثم هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع] ذلك الحق من المعارف والحقائق الأخرى؛ فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه.
ب. وأما الختم على سمعهم فلأنهم صموا عن سماع الحق واستماع القول لفهمه، فمن أعرض عن فهم الحق فهو لم يسمع إلا صوتا لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقي منه، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به
ج. وأما الأبصار فإنما كانت عليها غشاوات عند هؤلاء الجاحدين، لأن فائدة البصر، هي التوقي من الخطر، والعبرة بما يبصر، فمن لم ينظر في الآيات الكونية التي تقع تحت بصره كل يوم كأنه لم يبصر شيئا منها، فقد ضرب على بصره بغشاوة.
14. وبالنسبة إلى المعرضين الجاحدين الجاهلين فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر لأنهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتى في فهم ما يعرض عليهم، ورؤية ما يقع تحت حواسهم.
15. لما كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية: مواهب العقل والسمع والأبصار ـ كان إسناده إلى الله تأكيدا لمعنى الحرمان، وتقديرا لمصيبة الخسران، لأن ما ختم بيد الله لا تفضه يد سواه.
16. النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، والغشاوة مع البصر؛ هي أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور، وهكذا موضع حس السمع، وموضع الإدراك من العقل، والاسماع في ظاهر الخلقة، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة (قال) ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص (ولكل كلمة مع صاحبتها مقام)
17. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ العذاب اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ، واختلف في أصله:
أ. قال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجل إذا ترك المأكل (زاد غيره من شدة العطش) والنوم فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل هو حمل الانسان أن يعذب، أي بجوع وبسهر.
ب. وقيل: أصله من العذب، فعذبته: أزلت عذب حياته. على بناء: مرّضته وقذيته.
ج. وقيل أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه.
18. تنكير العذاب هنا للإشارة إلى أنه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا، بناء على أن المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب، والتنكير فيه للتعظيم والتهويل ووصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حد العظمة كمّا وكيفا، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان.
19. قال تعالى في آية أخرى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فيؤخذ من هذه الآية ومن آيات أخرى أن الاعراض عن هدى الإسلام، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد، جزاؤه الضنك والضيق وفقد العزة والسلطة في الدنيا، والعذاب العظيم في العقبى.
الختم والطبع والرين، ألفاظ تجرى على شيء واحد، وهو: تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والقلوب مراد بها العقول، والمراد بالسمع الأسماع، وإفراده لأن أصله مصدر ومن شأن المصادر أن لا تجمع، وقد لوحظ هنا الأصل، والأبصار العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان.
20. سؤال وإشكال: في مسألة هذا الجمع والافراد، إذ لو صح ما قيل فان البصر أيضا مصدر فلماذا جمعه؟ والجواب:
أ. أن العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات، فليس الناس فيه سواء؛ فجمع لاختلاف الناس فيه، وأنواع تصرفهم في وجوهه، بخلاف السمع فان أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات فلا تتشعب تشعب العقول في إدراك المعقولات، وأما الأبصار فهي مثل العقول في التشعب، وأعظم معين للعقول في إدراكها، لأن أنواع المبصرات كثيرة فتعطى للعقل مواد كثيرة، والسمع لا يدرك إلا الصوت.
ب. أن العقول والأبصار تتصرف في مدركات كثيرة، فكأنها صارت بذلك كثيرة فجمعت، وأما السمع فلا يدرك إلا شيئا واحدا فأفرد، ذلك أنه ليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقيني إلا التواتر بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر، فهو كثير، فالأوليات كالحكم بأن الجزء أصغر من الكل وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، والقضايا التي قياساتها معها ـ من المعقولات المحضة، والتجربيات والحدسيات اشترك فيها العقل والبصر، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر، فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كل منها عيون للعلم مختلفة، بخلاف السمع فإنه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه.
ج. المشاهدة قاضية بأن العقل لا منتهى لتصرفه، وبأن أقل ما قيل في البصر أنه يدرك الألوان، والاشكال، والمقادير؛ والسمع لا يدرك إلا الأصوات فقط، كما أن الذوق لا يحس إلا بالمذوقات وحدها، وان كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمن حكاية عن معقول أو مبصر، ولكن وروده على الحكاية لا يغير من حقيقته، فهو معقول أو مبصر، فمن ذكر لك برهانا على حقيقة علمية فإنما تسمع منه الأصوات والحروف، وأما فهمك المقدمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك.
وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبق معه محل لغيره بهذا التعبير البليغ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، والختم والطبع يقال على وجهين:
أ. مصدر ختمت وطبعت، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع.
ب. الأثر الحاصل عن النقش، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وختم على قلبه وسمعه.
21. قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الانسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور ـ ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق ـ يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي وكأنما يختم بذلك على قلبه، وعلى ذلك ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾
22. هذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الايمان ومحاسنه، ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غير ما رسخ فيها، وعلى أسماعهم فلا يسمعون آيات الله المنزلة سماع تأمل وتفقه.
أسندت الآية الكريمة الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه.
لا يدل ذلك على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره، ومن الأدلة على ذلك:
أ. قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وقوله في اليهود: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم، وتلك المعاصي التي أسندها إليهم.
ب. قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ فقد ذكر من فعله المسند إليه أنه اتخذ الهه هواه ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء، وقد صرح هنا بأن الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى، ولم يصرح بذلك في آية البقرة التي نفسرها، والمعنى واحد.
__________
(1) تفسير المنار: 1/139.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بيّن سبحانه حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال ألا يجدى فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوىّ ناكبون، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ.
2. المراد بالذين كفروا: من علم الله أن الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدين للإيمان، بجحودهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء، وسبب كفرهم يرجع إلى:
أ. إما عناد للحق بعد معرفته؛ وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود.
ب. وإما إعراض عن معرفته واستكبار عن النظر فيه.
3. المعرضون عن الحق يوجدون في كل زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائف الحق لوّوا رؤوسهم واستكبروا وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
4. جرت سنة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقى فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لما لم ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنهم لا يبصرون شيئا، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
5. حكم الله عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ .
6. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ ضرب الله مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شيء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه ـ بحال بيوت معدة لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمة للناس، لكنه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينها وبين ما أعدّت لأجله ـ فقد حدث في كل منهما امتناع دخول شيء بسبب مانع قوى؛ وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمل وتدبر، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان؛ ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/47.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصورة الثانية هي صورة الكافرين، وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وهنا نجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين.. فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين.
2. النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر.. هذه النوافذ المفتحة كلها هناك، مغلقة كلها هنا، وإن الوشائج الموصولة كلها هناك، مقطوعة كلها هنا.
3. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى.. ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فلا نور يوصوص لها ولا هدى.. وقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار، حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار.. إنها صورة صلدة، مظلمة، جامدة، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة.. حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار.
4. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد، الذي لا يستجيب للنذير؛ والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار؛ كما علم الله من طبعهم المطموس العنيد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/42.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الناس ثلاثة: مؤمنون، وقد بدأت السورة بذكرهم، وكافرون، وهم المذكورون في هاتين الآيتين، ومنافقون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، سيجيء ذكرهم بعد هذا.
2. يلاحظ أن القرآن ذكر هنا كلمة (المتقين) في مقابل الكافرين، ولم يقل (المؤمنين)، وذلك أن من شأن الإيمان الصحيح أن يبلغ بصاحبه منازل المتقين.
3. الذين كفروا المذكورون في هذه الآية، ليسوا مطلق الكافرين، بل هم كفار مكة، الذين حادّوا الله ورسوله، وأشربوا في قلوبهم الكفر، وعلم الله أنهم لن يستجيبوا للرسول، كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة؛ وغيرهما ممن مات على الكفر في غزوة بدر وأحد، من قتلى قريش، وحكم الله عليهم هذا الحكم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة يس: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
4. لو كان المراد بالذين كفروا في هذه الآية مطلق الكافرين، لما كان لدعوة الرسل حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم، لأنّ تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، بعيد عن حكمة الله في ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾
5. قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام في كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، فقد ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾
6. الختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شيء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
7. ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ أي وختم على سمعهم، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ والختم على السمع: الضرب عليه بحجاب، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل، فهم أشبه بالنائم المستغرق في نومه، حواسه كلها سليمة، ولكنها معطلة لا تعمل في تلك الحال.. كما يقول سبحانه وتعالى في أصحاب الكهف: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ .
8. ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة، تضطرب في مجال الرؤية، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى.
9. هذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين، إنما هي تجسيم لطبائعهم النكدة، وعقولهم المظلمة! وإلا فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم حديدة، ولكنهم لا يحصّلون بها خيرا، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى.
10. سؤال وإشكال: ما لهؤلاء الكافرين إذ لم يهتدوا إلى الإيمان؛ وقد عطل الله مداخل الإيمان إلى كيانهم؟ والجواب: هذه مسألة كثر فيها الرأي واختلف عليها العلماء، حتى صار المسلمون فيها فرقا، من سنية، ومعتزلة، وشيعة، وخوارج، وهو أن يفوّض الأمر كله لله.. فالخلق خلقه، والناس عبيده، يقضى فيهم بحكمه كيف اقتضت إرادته:
أ. كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾
ب. ما يروى في الحديث الشريف عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾، فقال عمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، سئل عنها فقال: إن الله عزّ وجل لمّا خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره بشماله، فاستخرج منه ذريته، فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول الله: ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله عزّ وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار)
11. هكذا قضى الله في عباده، فريق في الجنة، وفريق في السعير.. ومن حكمة الله ولطفه بعباده أنه لم ينكشف الأمر لأىّ من الفريقين، فلا أحد من أصحاب الجنة يعلم أنه من أصحاب الجنة، ولا أحد من أهل النار يعرف أنه من أهل النار، بل الجميع مدعوّون من عند الله إلى أن يعملوا على مرضاته، ليفوزوا بالجنة.. وهنا يبدو مجال العمل للجنة فسيحا يسع الناس جميعا، فيسعى كلّ سعيه، فمن كان من أهل الجنة عمل عمل أهل الجنة حتى يبلغها، ومن كان من أهل النار عمل عمل أهل النار حتى يدخلها (وكلّ ميسّر لما خلق له.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/29.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلّديه ووصف هديه، وأثر ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب، لمّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقدّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم.
2. قرنت الآيات فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا﴾ [البقرة: 8]
3. إنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة.
4. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ المذكورون هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول:
أ. إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركا في أيام نزول هذه الآية، ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح.
ب. وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فيكون عاما مخصوصا بالحس لمشاهدة من آمن منهم، أو يكون عاما مرادا به الخصوص بالقرينة.
وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيّن أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر.
5. من المفسرين من تأوّل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على معنى الذين قضى عليهم بالكفر والشقاء ونظره بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 96] وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره.
6. من المفسرين من حمل ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين، وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به.
7. أيّا ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقا خاصا من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وروى ذلك عن ابن عباس، والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه.
8. تصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون ردّ الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللأمة وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء (إن) للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير، وقد تكون (إن) هنا لرد الشك تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك، وقد نقل عن المبرد أن (إنّ) لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك.
9. قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ يشير إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين، وبهذا تنتفي جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب (سواء) خبرا والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجردا عن الزمان، وككون الفعل مرادا منه مجرد الحدث، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازا بعلاقة اللزوم، وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكرارا خاليا من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب (الكشاف) أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتازانيّ في (شرح الكشاف)
10. الكفر بالضم: إخفاء النعمة، وبالفتح: الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر.. ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى.
11. الكفر في الشرع هو إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده، ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفارا.
12. والكفر إنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب.
13. يلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر.. وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك، ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/245.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكفر بالضم: إخفاء النعمة، وبالفتح: الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر.. ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى.
2. الكفر في الشرع هو إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده، ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفارا.
3. والكفر إنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب.
4. يلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر.. وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك، ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.
5. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم، ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا علم أن على قلوبهم ختما وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب.
6. الجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها.
7. الختم حقيقته السد على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش، وقد اتخذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتما لذلك، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها، وتسمية البلوغ لآخر الشيء ختما لأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وضع الختم فيسمى به مجازا.. والخاتم ـ بفتح التاء ـ الطين الموضوع على المكان المختوم، وأطلق على القالب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به، وكان نقش خاتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: محمد رسول الله، وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوي الشد لا يقلع بسهولة وهو يكون قطعا صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة.
8. الغشاوة فعالة من غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء مثل العمامة والعلاوة واللّفافة، وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخياطة لما فيها من معنى الاشتمال المجازي ومعنى الغشاوة الغطاء.
9. ليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ ختم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلا لا حسا.
10. يمكن اعتبار الختم والغشاوة:
أ. تمثيلا بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة ـ كما تقدم ـ بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة، وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس.
ب. مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس.
11. الختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة، ومثله الطبع، والأكنة.
12. الظاهر أن قوله: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله ﴿غِشَاوَةً﴾ فيكون: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾ معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد، فإن العرب تقول: استكّ سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.
13. المراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة، ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك(2).
14. من أسرار إفراد السمع ولم يجمع كما جمع (قلوبهم) و(أبصارهم):
أ. إمّا لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ [البقرة: 19] وقوله: ﴿وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: 5] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر.. وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم.
ب. وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت، وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.
ج. إطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح، قال الجاحظ في (البيان): قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا يكون، فقال: إذا فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة) وفي (الكشاف) أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس، كقول الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا... فإنّ زمانكم زمن خميص
15. في تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر، فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.
16. بعد كون الختم مجازا في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم، وكون ذلك مسببا لا محالة عن إعراضهم ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدّر له على طريقة إسناد نظائر مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل: 108] وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف: 28] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة، تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها واردة على اعتبار أن كل واقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضا، وأضل وخذل بعضا في التقدير والتكوين.
17. ذلك لا ينافي ورود الآية ونظائرها في معنى النعي على الموصوفين بذلك، والتشنيع بحالهم، لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب،، وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق.
18. قدّر الله تعالى الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها، ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضا، وبذلك:
أ. لا تعارض بين القدر والتكليف إذ كلّ راجع إلى جهة خلاف ما توهمته القدرية، فنفوا القدر وهو التقدير والعلم.
ب. وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات أفعالهم، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى تنزيها له عن إيجاد الفساد، وتأويل ما ورد من ذلك: على أن ذلك لم يغن عنهم شيئا لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القدر منهم فبتركه إياهم على تلك القدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو قبيح.
والتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فعلها هو من العبد لا من الله، وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين.
19. إسناد الختم المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خلقة في فلان، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.
20. وصف العذاب بالعظيم دليل على أن تنكير عذاب للنوعية، وذلك اهتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن كان صالحا للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه، ولا يجوز أن يكون ﴿عَظِيمٍ﴾ تأكيدا لما يفيده التنكير من التعظيم، لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية، والمدلولات غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعا فلا يعد تأكيدا، والعذاب في الآية، إما عذاب النار في الآخر، وإما عذاب القتل والمسغبة في الدنيا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/245.
(2) التحرير والتنوير: 1/253.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بيّن الله تعالى الذين يتقبلون هداية القرآن، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة، فتنبت أطيب النبات، وتثمر خير الثمر، وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم، والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين.. إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة، ولم يستغرقهم سلطانها، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة، وسيطرت عليهم، فلا يفكرون إلا فيها، وفيما تحيط به، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس، وهداها، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق، وإن عميت واعوجّت ابتداء، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوى، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل]. فالله تعالى خلق الخلق، وأودع كل نفس طريق العلم، فأعطاه أدوات المعرفة كلها، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها، والقلوب يدركون بها، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر، فيكون من المتقين، ومن أحاطت به مادة الدنيا، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها، فإنه لا بد سائر في طريق الغواية، مبتعد عن طريق الهداية، وكل إنسان وما يسّر له، فإن غلبت عليه السعادة اتقى، وإن غلبت عليه الشقوة كفر.
2. ذكر الله تعالى أعلى صنف في الوجود الإنساني وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوى الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلال، يرون نور الحق ويبصرونه، ثم يتركونه، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه، ويتجهون إلى الظلام، وقد أشرق نوره، ولمعت في الوجود شمسه، وأولئك هم المنافقون، وقد روى عن مجاهد أنه قال أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين.
3. ذكر الله تعالى الكفر من غير متعلّق فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ للدلالة على جحود كل خير، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده، بل يكفرون بكل نعمة، وينكرون كل خير، وتغلب عليهم مادية شرسة لا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها، وتسد عنهم مسامع الخير، فلا يصلون إليه، ولا يتجهون نحوه، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون.
4. إذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم، فهم لا يؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه، وقالوا: إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا.
5. معنى ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾، أنه يستوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك، فالاستفهام هنا للمعادلة، أي أنه يستوى الإنذار وعدمه، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام، أو من غير أداة مصدر، كقولك: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه أي سماعك بالمعيديّ خير من أن تراه.
6. معنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود؛ لأن الشر قد استغرق نفوسهم، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعى الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه)، وروى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه)، فإن هو تاب صقل قلبه، وقال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة، وأطفئوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم، واستمراء جحودهم، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى ب (إنّ) الدالة على توكيد حكم ما بعدها.
7. الكفر في أصل معناه اللغوي السّتر، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد]، أي أعجب الزراع نباته، ثم أطلق بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق؛ لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله؛ فطر الناس عليها تتجه إلى الحق، وتدرك نوره، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة، كما يطلق الكفر على جحود النعمة، وإنكارها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم]
8. شرح الله تعالى حالتهم النفسية، وانطباعها على الشر، وعدم تقبل الهداية، فقال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، والختم مصدر ختمت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لا يدخله شيء من خارجه.
9. الختم يكون محسوسا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية.
10. شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان، وكان على القلوب، فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم.
11. إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالى جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
12. عبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب، وإفراد السمع؛ لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة، بتعدد أصناف الهوى، فكأن كل واحدة تسكن قلبا، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء، وتتضافر هذه الأهواء، وأفرد السمع؛ لأنه طريق واحد، وجارحة واحدة، ونور الحق واحد، وصوته واحد، ولكن لا يسمع.
13. الوقف على قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فإن ختم القلوب يكون على القلب، وعلى السمع، أما الأبصار، فإن عليها غشاوة، وتكرار ﴿عَلَى﴾ في قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ للدلالة على تقوية الختم، وتأكيده بحيث لا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعي.
14. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات أوتاد، وماء ينزل من السماء، ومرسلات حاملات للرياح، وخلق مجدد مستمر، وحياة وموت، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية] وهكذا تتعدد المبصرات، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء، القاهر فوق عباده، فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لا بالمفرد، والله بكل شيء محيط.
15. بين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب، فقال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، والعذاب كالنكال، وقد ذكر الزمخشري المعنى اللغوي له، فقال في كشافه: العذاب مثل النكال بناء ومعنى؛ لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه)، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وفراتا لأنه يرفته على القلب، ثم اتسع فيه فسمى كل ألم فادح عذابا، وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
16. هذا تحليل لغوى كتبه الزمخشري ونقلناه، والذى نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة، وأنه يلتقى مع العذاب، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابا يمنع الجريمة.
17. قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص وملك، عذابا عظيما، كبيرا ليس بصغير، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم، والطمس على قلوبهم، عذابا كبيرا، لا يكتنه كنهه، ولا يعرف قدره.
18. في الحقيقة، إنهم ينالهم عقابان:
أ. أحدهما ـ ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزولا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
ب. العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة، والتنكير في غِشاوَةٌ فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالي على الحق.
19. ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لا تجدى معهم النذر، ولا يجدى معهم بيان الحق في ذاته، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول بينهم وبين معرفة الآيات البينات.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/116.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكن الجحود من قلوبهم، ويدل عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم.. ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش وكبراء مكة الذين عاندوا ولجوا في أمر الدين، ولم يألوا جهدا في ذلك، ولم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيده أن هذا التعبير وهو قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار وإلا انسد باب الهداية والقرآن ينادي على خلافه.
2. هذا التعبير إنما وقع في سورة يس، (وهي مكية) وفي هذه السورة، وهي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد.
3. الأشبه أن يكون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا، هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في أول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب تشريفا.
4. قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ يشعر تغيير السياق، حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم وحجابا من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين: من ذاتهم ومن الله تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/53.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الكفر يستعمل في الجحود وفي كفر النعمة، وهاتان الآيتان في كفار معينين كافرين، الكفر الذي هو ضد الإيمان، والكفر الذي هو ضد الشكر.
2. ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فالإنذار لا يحدث لهم خوفاً يبعث على النظر في صدق الوعد والوعيد؛ لأنهم معرضون عنه كارهون له، فوجوده وعدمه سواء عليهم، ولذلك لا يؤمنون بما أمِروا بالإيمان به.
3. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ هذا تمثيل لها بالمسدودة التي هي غير مفتوحة للإيمان، فلا سبيل للإيمان ليدخلها، والختم: ما يجعل على فم القارورة أو نحوها من شمع أو طين أو نحو ذلك لإحكام سدّ فمها، فشبهت قلوبهم بذلك.
4. كفرهم هو الذي سبّب لهم الخذلان وإرسال الشياطين عليهم كما قال تعالى: ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم: 83] وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 3 ـ 4]، فصاروا بإرسال الشياطين عليهم يزينون لهم الباطل، ويثقلون عليهم الحق، ويكرِّهون إليهم الإيمان، كارهين للإيمان كراهة شديدة تحول بينهم وبينه، فكأنها ختم على قلوبهم يمنع دخول الإيمان فيها.
5. ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أي وختم على سمعهم، فكأن آذانهم مسدودة سداً محكماً يمنع سماع الإنذار والآيات، وهذا كقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ [هود: 20] وهو تشبيه في المعنى بمن لا يستطيع أن يسمع كما صرح به في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ [الجاثية: 7 ـ 8] ومثل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ [لقمان: 7] وهذا لأنهم لأجل كراهتهم لآيات الله وإنذار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وإصرارهم على رفضه والتكذيب يكون سماعهم لها لا يؤدي إلى ثمرة السماع التي تكون لطالب الحق السليم من الخذلان وإرسال الشياطين، فكأن سماعهم ليس سماعاً ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ فكأن إثبات الختم على سمعهم مجاز بهذا المعنى؛ لأن بينهم وبين الانتفاع بالسمع حائل وسد من كراهيتهم للسماع وإصرارهم على الكفر والتكذيب واستكبارهم.
6. ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ هذا مجاز كأنهم لا يبصرون؛ لأنهم لا ينتفعون بما يرونه من آيات الله التي تأتي على يدي رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل كأنهم لا يرون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ينذرهم ويتلو عليهم آيات الله، فكأن على أبصارهم غطاء.
7. تعظيم هذا الختم والدلالة على قوته:
أ. لأن الله غالب على أمره.
ب. للدلالة على أن الله قد غضب عليهم، وعاقبهم بهذا الختم الذي هم معه لا يصيرون إلى خير.
ج. للدلالة على أن الله تعالى غني عنهم لا يبالي بهلاكهم ولا بامتناعهم من الإيمان وكفرهم.
د. أن يتسلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم ولا يتعب نفسه في محاولة إيمانهم كما قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6] والتسلية هي من حيث الإشعار بأن الله خذلهم وشاء تركهم على كفرهم.
هـ. تشريف كلام الله العزيز المقتدر عن أن يكون ذكره لتمردهم يشبه الشكوى منهم.
8. وجه صحة النسبة للمانع من الإيمان إلى الله، ولذلك وجهان:
أ. أن الله فطر القلوب على أن تميل إلى ما عُوِّدت وتألف ما أُلِّفت كما فطرها على الشهوة والالتذاذ بلذات الدنيا، فالقلب من هذه الجهة طوع لصاحبه، إما أن يوجهه إلى خير الآخرة وسعادتها والنجاة من النار فتكون رغبته في ذلك، وفيما يصرف عنه النار، وإما أن يوجهه إلى لذات الدنيا وأغراضها والسلامة من مشاق التكليف والراحة من العناء والانقياد للكبر وكراهية الانقياد لداعي الحق، فيتوجه القلب إلى ذلك ويكره ما صرف عنه في اعتقاده ورأيه وفيما يوسوس له الشيطان، فصحت نسبة المانع إليه سبحانه بهذا المعنى؛ لأنه هيّأ القلب وأعده لذلك بما فطره عليه وحسنت هذه النسبة لما ترتب عليها من الفوائد الخمس وغيرها، كالابتلاء بالمتشابه.
ب. أن يعتبر إرسال الشياطين والخذلان كالتسبيب لوجود المانع من دخول الإيمان في القلب، كما يقال: أفسد ولده، لمن أهمله ووفّر له ما يشتهي، فجعل ترك تأديبه وتعليمه مع توفير ما يشتهي إفساداً له منسوباً إلى أبيه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/54.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ واختاروا الكفر من خلال الغفلة المطبقة على عقولهم، أو العقدة المتحكمة في ذاتهم، أو الأهواء المسيطرة على مواقفهم وانتماءاتهم، وقرّروا الالتزام به، والوقوف عنده، بحيث لا يتحولون عنه مهما كانت الظروف والأوضاع والمؤثرات.
2. ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، لأن مسألة حركية الإنذار في انفتاح العقل على الإيمان لا ترتبط بمضمون الإنذار، بل بإرادة الإنسان في سماعه، وفي التفكير به، واستعداده النفسي للانفعال بمعانيه وإيحاءاته، أما الإنسان الذي يفقد هذه الإرادة، وذلك الاستعداد، فإن الإنذار وعدمه سواء عنده، لأن قراره عدم الإيمان، بعيدا عمّا إذا كان ذلك حقا أو باطلا، لأنها مسألة عصبية لا مسألة اختيار عقلي منفتح على المعرفة الواسعة.
3. الظاهر أن الآية لا تتعرض لهذا النموذج في طبيعته الشاملة، بل تتعرض له من خلال الفئة التي واجهت الدعوة الإسلامية في بداياتها، فلم تفتح قلوبها للإسلام لتفكر فيه، وتناقشه لتتبعه عن قناعة، أو لترفضه عن دليل، وإنما وقفت موقف المعاند الذي يصرّ على موقفه، ولا يسمح لنفسه أو للآخرين بأية تجربة فكرية أو عملية للحوار حول خطأ الموقف أو صوابه.
4. إن هذه الفئة هي التي لا ينفع معها الترغيب ولا الترهيب، ويستوي في حالتها الإنذار وعدمه، لأنها غير مستعدة لسماع آيات الله، وللتفكير فيما تدعو إليه، وغير مستعدة لا لاستعمال أبصارها فيما يحيط بها من دلائل عظمة الله سبحانه في الكون العظيم، لتحصل، من ذلك، على وسائل القناعة والإيمان.
5. من الطبيعي أن تكون التجربة المستمرة في الدعوة منطلقة في حياة أولئك الذين يشعرون بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ربّهم في قضية الإيمان والكفر، على أساس أنها تمثل قضية المصير في الدنيا والآخرة، مما يدفعهم إلى مزيد من التفكير والاهتمام، بينما النموذج الذي تشير إليه الآية تبدو دعوته نوعا من الجهد الضائع، لأن أفراده هم الذين لا يسمحون للعيون بأن تحدّق في الكون، وللأسماع بأن تستلهم قضايا الفكر والإيمان، وللقلوب بأن تفكر وتحاكم وتناقش، وبالتالي أقفلت كل منافذ الإيمان والوعي.
6. نحن نعلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جرّب هداية هذه الفئة أكثر من مرّة بمختلف الوسائل والأساليب، ولم يتراجع عن تجربته أمام حالات الكفران والجحود والضغط النفسي والمعنوي الذي وجّهوه إليه، انطلاقا من القاعدة الإسلامية الأساسية التي تحكم عمل الدعوة، في سلوك كل الطرق الممكنة للوصول إلى عقل الإنسان وتفكيره وشعوره للحصول على قناعته الإيمانية.
7. القضية مع المعاندين أصبحت تمثل جهدا ضائعا لا يصل إلى أية نتيجة ملموسة، لأن القوم قد حدّدوا موقفهم على أساس العناد والمكابرة، لا على أساس الفكر والإيمان، ولذلك جاءت هذه الآية لتحدد للرسول الموقف الحاسم من هؤلاء، ولتدعوه إلى عدم مواصلة التجربة التي أثبتت عقمها، لينطلق بجهوده إلى مجال آخر، تنفتح فيه الدعوة على جماعة آخرين يفتحون قلوبهم للإيمان، وعيونهم للصراط المستقيم، وأسماعهم للكلمات النافعة.
8. جاءت الآية الثانية لتؤكد الفكرة بشكل ملموس، فقد ختم الله على قلوبهم، فهي مغلقة النوافذ من جميع الجهات، وختم الله على أسماعهم حتى سدّت منافذها عن كل كلمة، وأما أبصارهم فتعلوها الغشاوة التي تحجب عنها الرؤية، وبذلك حكموا على مصيرهم بالعذاب الأليم في الآخرة.
9. أصناف الناس في الواقع الدعوي، لا تختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة النماذج العامة لجماعات الكفر، حيث تتمثل تلك الأصناف في:
أ. من يعيش حالة القلق النفسي، والتطلع الروحي للمعرفة التي تدفعه إلى الموقف الثابت المطمئن في قضية الكفر والإيمان، لكن الأخطاء الفكرية، والانحرافات العقيدية، تحوّل الكفر إلى قناعة ذاتية تحت عنوان (العلم) أو (العقل)، أو نحو ذلك، في غفلة عن العناصر الأخرى في فكر الإيمان التي يمكن أن تفتح للعقل آفاقا جديدة تطلّ على معرفة الله؛ وهؤلاء هم الكافرون الغافلون الذين يطّلعون على مواقع المعرفة من زاوية واحدة.
ب. من يعيش حالة العناد والمكابرة والإصرار على الانحراف انطلاقا من التركيب الداخلي الذي يحكم وجوده. فهو يواجه الحياة بعقلية المصالح والأطماع والشهوات الذاتية، بحيث تكون هي التي تحدد له خطوط سيره الملتوية أو المستقيمة، بعيدا عن مسئوليته تجاه ربّه ونفسه وحياته.
ج. من يخضع أفكاره لمزاجه ولعاطفته، فيحدد طريقه على أساس ما يدفعه إليه مزاجه، أو توحي به عاطفته من قضايا الحياة، وعلى ضوء ذلك، يحكم على قضايا الكفر والإيمان، من دون أن يسمح بالمناقشة فيها مباشرة، مما يجعله ينظر إليها فرعا من أصل، لا أصلا لفرع كما هو الواقع.. وهذا النموذج يتمثل في الفئات التي تنطلق في حركتها من خلال القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشهوانية.. فتتبنى المواقف العقائدية التي تكمن وراء التيارات التي تدفع الحياة في اتجاه معالجة هذه القضايا العامة والخاصة.
10. انطلاقا من هذا لا بد للإنسان المسلم من دراسة المجتمعات التي تحيط به دراسة واعية، يحدد فيها نوعية الأفراد الذين يعيشون فيها في إطار ما حدّدناه من نماذج، ليتخذ الموقف القرآني الذي يعتبر الحوار جهدا ضائعا مع الفئات التي تنطلق من موقف العناد في مواقعها الفكرية والعملية، أو الفئات التي ليست مستعدة لفتح حوار مباشر في قضايا العقيدة من خلال الفكر، بل من خلال قضايا الحياة، وبذلك، يفتش عن وسيلة أخرى يحطم فيها الحاجز النفسي الذي وضعوه بينهم وبين الإيمان، لينفذ بعد ذلك من جديد إلى قضية الحوار، بعد إزالة كل الحواجز التي تقف بين الإنسان وبين التفكير.
11. ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ فقد أغلقوا قلوبهم عن الحق فلم يسمحوا لها بالتفكير فيه وإدارة الحوار حوله، وأعرضوا عن الإقبال عليه أو قبوله، عنادا واستكبارا وتمرّدا، فلم تبق هناك وسيلة لنفاذ الحق إلى داخلهم، كما أنهم أغلقوا أسماعهم عن سماع كلماته، تعقيدا واستنكارا، فلم ينفذ إليها شيء منها.
12. ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فهم لا ينظرون إلى آيات الله في الكون، ولا ينفتحون على مظاهر العظمة والإبداع فيه، ليكتشفوا بذلك توحيده، تماما كما لو كان هناك غطاء يغطي أبصارهم ويحجب عنهم وضوح الرؤية للأشياء.. وهكذا تلتقي الإرادة الإنسانية السلبية تجاه الحق، والإيجابية تجاه الباطل، لتتحول إلى حالة انغلاق فكري للعقل، وحسي للسمع والبصر، بحيث ينفصل الإنسان عن الحقيقة في جميع مجالاتها.
13. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لأن الله أقام الحجة عليهم بدلائله وبراهينه، فلم ينفتحوا عليها أو يلتزموا بها، فكان كفرهم حركة تمرد وعصبية وجحود، فاستحقوا به العذاب العظيم الذي انطلقت عظمته من خطورة الانحراف الأعظم الذي يتصل بالاستكبار على الله، والكفر به، وإنكار وحدانيته.
14. سؤال وإشكال: كيف نفسر إسناد الفعل إلى الله في قوله سبحانه وتعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؟ وهل يتّفق هذا مع فكرة الاختيار التي نؤمن بها في مقابل فكرة الجبر التي يقول أصحابها: إن العباد مجبورون على الكفر والإيمان وعلى نتائجهما في الطاعة والعصيان؟ والجواب: هناك اتجاهان في تفسير الآية:
أ. الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يجعل القضية واردة مورد التشبيه المجازي، ومن أدلتهم على هذا بعض ما جاء في الكشّاف للزمخشري، وهو:
• أن الله، يتعالى عن فعل القبيح علوّا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه، وقد نص على تنزيه ذاته بقوله: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28] ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل، وبذلك فإن القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها.
• أن إسناد الختم إلى الله عز وجل، هو للتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشيء الخلقي غير العرضي، ألا ترى إلى قولهم: فلان مجبول على كذا ومفطور عليه: يريدون أنه بليغ في الثبات عليه.
• أنه يجوز أن تضرب الجملة كما هي، وهي ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ مثلا، كقولهم: سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما هو تمثيل مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، فكذلك مثلت حال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الأغنام (الغنم: العجمة، والأغنم: الأعجم الذي لا يفصح شيئا) التي هي في خلوّها عن الفطن كقلوب البهائم، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو بحال قلوب مقدر ختم الله عليها حتى لا تعي شيئا ولا تفقه، وليس له عز وجل فعل في تجافيها عن الحق ونبوّها عن قبوله، وهو متعال عن ذلك)
ب. الثاني: وهو الذي يرتكز على الفكرة الإسلامية التي أوضحها أئمة أهل البيت عليهم السّلام في القول المأثور عنهم: لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين بين)، وهو الذي يجعل أفعال العباد منسوبة إليهم من جهة، باعتبار صدورها منهم بالمباشرة والإرادة والاختيار، ومنسوبة إلى الله من جهة، باعتبار أن الله هو السبب الأعمق في كل شيء لأنه هو الذي يهب العباد القدرة، ويستطيع أن يمنعها عنهم، وهو الذي سخر لهم كل ما لديهم وما حولهم مما يستخدمونه في المعصية أو في الطاعة من دون أن يتدخل في عملية الاختيار.. وبذلك تصح نسبة الفعل إلى الله، لأن له مدخلية في حصوله ولو بلحاظ كثير من مقدماته، ففي مثل هذا المورد، يمكن أن يقال إن الله قد ركّب الإنسان على وضع معين، بحيث إذا اختار الإنسان الكفر وأصرّ عليه، أغلق قلبه وسمعه عن سماع أية كلمة للإيمان، وأغشى بصره عن الرؤية، فالفعل يبدأ من اختيار الإنسان وينتهي إلى هذه النتيجة من موقع الاختيار.. لكن عملية التسبب خاضعة للقوانين التي أودعها الله في وجود الإنسان الذي ترتبط فيها النتائج بمقدماتها.
15. من الطبيعي، أن مثل هذه النسبة لا تدخلنا في دائرة الجبر، ولا تسلبنا عملية الاختيار، لأنها تنطلق من موقع حرية الإرادة التي تتحرك ضمن القوانين الطبيعية للحياة والإنسان، وبالتالي، لا تستلزم نسبة القبح إلى الله من قريب أو من بعيد.
16. سبب استعمال القرآن الكريم لهذا الأسلوب الذي ينسب كل شيء إلى الله، مما يدخل الإنسان في كثير من الأوهام والشبهات التي تبحث عن جواب وعن تحليل، وخلاصة ما ذكره في هذا:
أ. أن القرآن الكريم قد انطلق ليعالج قضية التوحيد بطريقة جذرية حاسمة، في مقابل فكرة الشرك التي ترتكز على تعدد الآلهة انطلاقا من القدرات التي تتخيلها لهم، سواء في ذلك الآلهة الذين يتحركون في الحياة بصورة بشر، أو الذين يتمثلون في بعض الظواهر الكونية العظيمة كالشمس والقمر والكواكب، أو الأصنام الجامدة التي يصنعها الناس من الحجر وغيره، وبذلك، كانت فكرة الشرك خاضعة لهذا التصور المنحرف الخيالي.
ب. أن القرآن الكريم أراد أن يعزل كل موجود في الكون عن أية قدرة من القدرات التي تتمثل في حركة الكون نفسها أو في حركة الإنسان في الكون، ليجعل القدرة بيد الله وحده، باعتبار أنه خالق كل شيء ومسبّب كل سبب، وليوحي لنا، بأن هذه القوى التي نشاهدها، لا تمثل إلا حركة موجّهة في إطار القوة الأساسية التي تحكم هذه القوى بوسائلها وقوانينها المودعة فيها.
ج. أن نسبة الأفعال إلى الله هي للإيحاء الدائم بوجوده خلف كل شيء، ومع كل شيء، ولكن لا على أساس مباشر يلغي عملية الاختيار للإنسان أو يسلبه حرية الإرادة، بل إنها النسبة التي تحتفظ لله بالإطار العام للقوة في كل ما في الكون من مظاهر الوجود، ولكنها لا تسلب الإنسان القدرة الذاتية التي تتحرك داخل الإطار العام.
د. أنه بهذا نفهم كيف ينطلق القرآن لينسب الضلال والهدى والخير والشر والرزق والحياة والمرض والصحة وغيرها إلى الله مع أنها تتحرك من خلال الأسباب الطبيعية في وجودها العملي بطريقة مباشرة.
17. لعل هذا الاتجاه هو الاتجاه السليم في طريقة التعبير في الآية الكريمة، وربما علّل إسناد الختم إلى الله بأنه عقوبة لهم على كفرهم كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، لكن الآيتين تدلان على أن المسألة تنطلق من أن زيغ القلب ناشئ من إرادتهم الانحراف، من خلال علاقة الانفعال بالفعل، كما أن الضلال نتيجة للفسق أو مظهر له.
18. لعلّ هذا هو ما جاء في تفسير الآية عن الإمام الرضا عليه السّلام، فقد سئل عن معنى قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155]، فإن الظاهر أن المقصود بالعقوبة، النتيجة التكوينية للكفر، باعتبار أنه يغلق القلب عن وحي الحقيقة الإيمانية، فكأن الله يجعل انغلاق القلب عقوبة له، والشاهد على ما قلناه هو الاستشهاد بالآية حيث يشير ظاهرها إلى أن الطبع كان بسبب الكفر من خلال تأثيره في عدم الإيمان إلا بدرجة ضعيفة جدا.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/134.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر القرآن الكريم المجموعة الثّانية، هم الكفّار المعاندون، وهذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماما للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء.. الآية الاولى تقول إن الإنذار لا يجدي نفعا مع هؤلاء، فهم متعنتون في كفرهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أول ومضة.. وهذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الانصياع للحق حتى لو اتضح لديها، من هنا كان القرآن غير مؤثر في هؤلاء، وهكذا الوعد والوعيد، لأنهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.
2. سبب إصرار الأنبياء عليهم السلام على هداية هؤلاء، مع أنهم لا يهتدون، هو معرفة الأنبياء عليهم السلام أن العقاب الإلهي يرتبط بمواقف الإنسان العملية وسلوكه الفعلي، لا بما يكنّه في قلبه من زيغ وضلال فقط، من هنا كان لا بدّ من توجيه الدعوة حتى إلى هؤلاء الذين لا يهتدون، بعد ذلك يستحق الفرد العقاب تبعا لموقفه من الدعوة.. وبعبارة أخرى لا بدّ من (إتمام الحجّة) قبل العقاب.. وبعبارة موجزة: الثّواب والعقاب يتوقفان حتما على العمل بعد إنجازه، لا على المحتوى الفكري والروحي للفرد.
3. الأنبياء بعثوا للناس جميعا، وهؤلاء الذين ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قليلون في المجتمع، أما الأكثرية فهم التائهون الذين يتقبّلون الهداية ضمن برنامج تعليمي تربوي صحيح.
4. عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل (ختم)، وأحيانا بالفعل (طبع) و(ران)، وفي اللغة (ختم) الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب والأبواب كي لا تفتح، والختم اليوم مستعمل في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة، وهناك شواهد من التأريخ تدلّ على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقا يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص ويبعثون بها إلى المنظورين للاطمئنان على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها، والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضا.
5. استعمل القرآن كلمة (الختم) هنا للتعبير عن حال الأشخاص المعاندين الذين تراكمت الذنوب والآثام على قلوبهم حتى منعت كلمة الحق من النفوذ إليها وأمست كالختم لا سبيل إلى فتحه.
6. (طبع) بمعنى ختم أيضا.. أما (ران) فمن (الرين) وهو صدأ يعلو الشيء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
7. على الإنسان أن يكون حذرا لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب، وفي حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام: ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السّواد، فإن تمادى في الذّنوب زاد ذلك السّواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
8. الآية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، ولذلك استحقوا أن يكون ﴿لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، فأجهزة استقبال الحقائق معطوبة عند هؤلاء.. العين التي يرى المتقون فيها آيات الله، والاذن التي يسمعون بها نداء الحق، والقلب الذي يدركون به الحقائق، كلها قد تعطّلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين. هؤلاء لهم عيون وآذان وعقول، لكنهم يفتقدون قدرة (الرؤية) و(الإدراك) و(السمع)، لأن انغماسهم في الانحراف وعنادهم ولجاجهم، كلها عناصر تشكل حجابا أمام أجهزة المعرفة.
9. الإنسان قابل للهداية طبعا ـ إن لم يصل إلى هذه المرحلة ـ مهما بلغ به الضلال أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص (فلات حين نجاة) لأنه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في انتظاره عذاب عظيم.
10. سؤال وإشكال: لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن!؟ والجواب:
أ. أن القلب في القرآن له معان متعددة منها:
بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ .
بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ .
بمعنى مركز العواطف، كقوله: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ وقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ .
ب. في وجود الإنسان مركزان قويّان هما:
مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب. لذلك نشعر أننا نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتمّ تحليلها وتفسيرها. (وإن كان الدماغ والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).
مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر، والمسائل العاطفية تؤثر أول ما تؤثر على هذا المركز حيث تنقدح الشرارة الاولى.
ج. حينما نواجه مصيبة فإننا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فإننا نحسّ بالسرور والانشراح في هذا المركز.
د. صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة.. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر أولا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.
ممّا تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).. أضف إلى ما تقدم أنّ عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه، وتوقفه لحظه يؤدي إلى الموت، فماذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية والعاطفية إليه!؟
11. سؤال وإشكال: يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع: قلوب وأبصار، بينما يستعمل السمع دائما بصيغة المفرد، فما السرّ في ذلك؟ والجواب: القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة المفرد أيضا كقوله تعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾، وسبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين:
أ. أوّلا: إن كلمة (السمع) قد تستعمل باعتبارها اسم جمع، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها.
ب. ثانيا: إن كلمة (السمع) لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير والقليل، فلا حاجة إلى جمعه.
ج. يمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليلا ذوقيا وعلميا هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على (المسموعات)، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين.
12. سؤال وإشكال: هل هذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجبارا، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبرا فلما ذا العقاب؟ والجواب:
أ. هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر. يقول تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ ويقول: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ ويقول أيضا: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ .
ب. كل هذه الآيات تقرر أنّ السبب في سلب قدرة التشخيص، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق، هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي في الحقيقة ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.
ج. من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أن الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال (حالة) ثمّ يتحول إلى (عادة) وبعدها يصبح (ملكة) وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحيانا درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبدا.
د. الإنسان اختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر. تماما مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمدا، كي لا يسمع ولا يرى.
هـ. لو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله، فذلك لأن الله هو الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية.
و. عكس هذه الظاهرة مشهود أيضا في قوانين الطبيعة، أي إن الفرد السائر على طريق الطهر والتقوى والاستقامة تمتد يد الله عز وجل إليه لتقوّي حاسّة تشخيصه وإدراكه ورؤيته، هذه الحقيقة توضحها الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ .
ز. في حياتنا اليومية صور عديدة لأفراد ارتكبوا عملا محرّما، فتألموا في البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم، لكنهم استأنسوا تدريجيا بفعلهم، وزالت من نفوسهم حساسيتهم السابقة تجاه الذنب، ووصل أمرهم إلى حدّ يجدون اللذة والانشراح في الانحراف، وقد يضفون عليه صفة الواجب الإنساني، أو الواجب الديني.
ح. في تاريخنا الإسلامي ظهر مجرمون سفّاكون مولعون بإزهاق الأرواح والتنكيل بالمسلمين كما ذكر في حالات (الحجاج بن يوسف الثقفي) أنه كان يضع لأعماله الإجرامية تبريرات دينية، ويقول مثلا: إن الله سلّطنا على هؤلاء النّاس المذنبين لنظلمهم، فهم مستحقون لذلك، وكذلك قيل إن أحد جنود المغول خطب في أحد مدن ايران الحدودية وقال: ألستم تعتقدون أن عذاب الله يصيب المذنبين؟ فنحن عذاب الله عليكم، فلا ينبغي لكم المقاومة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/86.
4. صفات المنافقين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈4⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 8 ـ 16]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هم المنافقون(1).
2. روي أنّه قال: في قلوبهم شك(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أما ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فإن الفساد: هو الكفر، والعمل بالمعصية(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٧٦.
(2) ابن جرير: ١/٢٨٨. والدرّ المنثور: إليه مقتصرًا على ابن مسعود.
(3) ابن جرير: ١/٢٩٧.
حذيفة:
قال أبو يحيى: سأل رجل حذيفة (ت 36 هـ) وأنا عنده، فقال: ما النفاق؟ قال أن تتكلم بالإسلام ولا تعمل به(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن سعد: ١/١٥٨.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شك(1).
2. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، قال النفاق، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(2).
3. روي أنّه قال: كل شيء في القرآن ﴿أَلِيمٍ﴾ فهو الموجع(3).
4. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال الأليم: الوجيع، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(4).
5. روي أنّه قال: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ يبدلون ويحرفون(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد، قولوا: إنه نبي ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، وصدقوا بالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الموت(6).
7. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾، يقولون: أنقول كما يقول السفهاء؟ يعنون: أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لخلافهم لدينهم(7).
8. روي أنّه قال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ يقول: الجهال، ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يقول: لا يعقلون(8).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٣١.
(2) الدرّ المنثور: الطستي. وينظر: الإتقان: ٢/٧٧.
(3) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢١.
(4) الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/٧٧.
(5) ابن أبي حاتم: ١/٤٤.
(6) ابن جرير: ١/٣٠١.
(7) ابن جرير: ١/٣٠٤.
(8) ابن جرير: ١/٣٠٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الأليم: الموجع في القرآن كله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٤٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَلِيمٍ﴾ هو العذاب الموجع، وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بتبديل الملة، وتغيير السنة، وتحريف كتاب الله(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٩٣. وابن أبي حاتم: ١/٤٤.
(2) تفسير الثعلبي: ١/١٥٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا كذا، قالوا: إنما نحن على الهدى(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٠٠.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: لم يكن عندهم أخوف من هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾(1).
2. قال يحيى بن عتيق: كان محمد بن سيرين يتلو هذه الآية عند ذكر الحجاج، ويقول: إنا لغير ذلك أخوف: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر: ١/١٥٧.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: ١/١٥٨.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال في التفسير بالمصاديق: ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بإظهار نكث البيعة، لعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم، وتحيرونهم في مذاهبهم، ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد، ونحن في الدين، متحيرون، فنحن نرضى في الظاهر محمدا، بإظهار قبول دينه وشريعته ونفضي في الباطن الى شهواتنا، فنمتنع ونتركه، ونعتق أنفسنا من رق محمد ونفكها من طاعة ابن عمه علي، لكي لا نذل في الدنيا، كنا قد توجهنا عنده، وان اضمحل أمره: كنا قد سلمنا على أعدائه)(1).
__________
(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري: ص57.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية: هذا نعت المنافقين؛ نعت عبدا خائن السريرة، كثير خنع الأخلاق، يعرف بلسانه وينكر بقلبه، ويصدق بلسانه ويخالف بعمله، ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة، كلما هبت ريح هب فيها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ريبة وشك في أمر الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ إياكم والكذب؛ فإنه باب النفاق، وإنا ـ والله ـ ما رأينا عملا قط أسرع في فساد قلب عبد من كبر أو كذب(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: ١/١٥٧.
(2) ابن جرير: ١/٢٨٩.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: ١/١٦١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أما ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فإن الفساد هو: الكفر، والعمل بالمعصية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٤٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هؤلاء أهل النفاق، والمرض الذي في قلوبهم الشك في أمر الله، ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ قال شكا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يقول: لا تعصوا في الأرض ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ قال فكان فسادهم ذلك معصية الله ـ جل ثناؤه ـ؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض؛ لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٨٩.
(2) ابن جرير: ١/٢٩٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: المنافق قد رضي ببعده من رحمة الله تعالى لأنّه يأتي بأعماله الظاهرة شبيها بالشريعة، وهو لاغ باغ لاه بالقلب عن حقّها مستهزئ فيها، وعلامة النفاق قلّة المبالاة بالكذب والخيانة والوقاحة، والدعوى بلا معنى، وسخنة العين والسفه والغلط، وقلة الحياء واستصغار المعاصي واستضياع أرباب الدين، واستخفاف المصائب في الدين، والكبر، وحبّ المدح والحسد، وإيثار الدنيا على الآخرة والشرّ على الخير، والحثّ على النميمة، وحبّ اللهو، ومعونة أهل الفسق والبغي والتخلّف عن الخيرات، وتنقّص أهلها واستحسان ما يفعله من سوء واستقباح ما يفعله غيره من حسن، وأمثال ذلك كثيرة، وقد وصف الله تعالى المنافقين في غير موضع فقال عزّ من قائل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]، وقال عزّ وجلّ في صفتهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 8 ـ 10](1).
2. روي أنّه قال: واعلم أنك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه، وتصير مخدوعا بنفسك، قال الله تعالى ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ ورسوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾(2).
__________
(1) مصباح الشريعة ص 25.
(2) مصباح الشريعة: ص281.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، يعني: صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، وصدقنا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن(1).
2. روي أنّه قال: كذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، يعني: بمصدقين بالتوحيد، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ حين أظهروا الإيمان بمحمد، وأسروا التكذيب(2).
4. روي أنه قال: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .. فخدعهم الله في الآخرة حين يقول في سورة الحديد: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾، فقال لهم استهزاء بهم كما استهزأوا في الدنيا بالمؤمنين حين قالوا: آمنا، وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] أيضا على الصراط حين يقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾(2).
5. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، يعني: الشك بالله وبمحمد، نظيرها في سورة محمد: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [محمد: ٢٩]، يعنى: الشك(2).
6. روي أنّه قال: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ لقولهم: آمنا بالله، وباليوم الآخر(2).
7. روي أنّه قال: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ يعني: العاصين، ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بأنهم مفسدون(3).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٨٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/٨٩.
(3) تفسير مقاتل: ١/٩٠.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هذا المنافق، يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٧٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هذا مرض في الدين، وليس مرضا في الأجساد، وهم المنافقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ زادهم رجسا، وقرأ قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ٢٤ ـ ٢٥]، قال شرا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ طغيانهم: كفرهم وضلالتهم(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٨٩.
(2) ابن جرير: ١/٢٩١.
(3) ابن جرير: ١/٣٢٢.
الكاظم:
روي عن محمّد بن الفضيل قال كتبت إلى الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أسأله عن مسألة فكتب إليّ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 142 ـ 143] ليسوا من الكافرين وليسوا من المسلمين، يظهرون الإيمان ويصيرون إلى الكفر والتّكذيب، لعنهم الله(1).
__________
(1) أصول الكافي ج 2 ص 395.
ابن وهب:
روي عن عبد الله بن وهب (ت 197 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سألت ابن زيد عن قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم يؤمنون بما أظهروه(1).
2. روي أنّه قال: سألت ابن زيد عن قوله: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ قال ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم بما أسروا من الكفر والنفاق، ثم قرأ: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ [المجادلة: ٦]، قال هم المنافقون، حتى بلغ قوله: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [المجادلة: ١٨](2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٢٨١.
(2) ابن جرير: ١/٢٨٦.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بالطبع على قلوبهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: أن ذلك يرجع عليهم عذابه، وثواب كفره، ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أن ذلك راجع عليهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بالطبع على قلوبهم(1).
4. روي أنّه قال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بالطبع على قلوبهم(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٢٢.
الرضا:
سئل الإمام الرضا (ت 203 هـ) عن قول الله تعالى: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾، وعن قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، وعن قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، وعن قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، فقال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا(1).
__________
(1) التوحيد: ص163.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ هم المنافقون الذين كانوا يحتجرون من الرسول ومن المؤمنين بانتحال الإيمان، وتلاوة ما أنزل الله من القرآن، وقلوبهم لذلك منكرة، وفي دين الله فاجرة، وبه سبحانه كافرة، فهم يراءون بألسنتهم الرسول مخافة القتل والتنكيل، وهم عن الله بضمائرهم حائدون، وللحق بينهم وفي سرائرهم معاندون:
أ. ألا تسمع كيف يقول سبحانه فيهم، ويدل بصفاتهم عليهم، حين يقول: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]!؟
ب. وقال سبحانه يخبر عنهم بما هم فيه، وما يجتمعون في خلواتهم من المشاقة عليه: ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 76]
ج. ومن ذلك ما قال سبحانه في الأعراب: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 14]
د. ومن قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ما يقول الله سبحانه: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 11]، فأخبر الله عنهم بما كان من كذبهم فيما ذكروا أنه شغلهم، وأخبر بنفاقهم وتوهيمهم ما أوهموا نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من إحقاقهم فيما طلبوا منه، من الاستغفار لهم، والصفح في ذلك عنهم.
2. أمره الله سبحانه أن يخبرهم أن استغفاره لهم غير دافع عقوبة الله عنهم إذا أراد الله الانتقام في ذلك منهم؛ فقال سبحانه: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: 11]
3. ثم أخبر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمورهم: بما كانوا يتوهمون أنه قد غبي عليه علمه، مما كانوا ظنوه وأجنوه في صدورهم؛ فقال ذو المعارج والجلال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12]، فأخبرهم سبحانه بما ظنوا من الظن القبيح في الرسول والمؤمنين وتوهموا، وما زين في قلوبهم الشيطان من ذلك وأملى، وأنهم كانوا في ذلك قوما بورا.
4. إن قوله جل جلاله، وتقدس عن أن يحويه قول ويشبهه شيء أو يناله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ فقد يخرج على معنيين، وكلاهما ـ إن شاء الله ـ للحق مضاف، وهما:
أ. أن يكون المرض الذي في قلوبهم هو الشك الذي هم فيه يلعبون، من جحدانهم لما يرون من آيات ربهم، فقلوبهم لذلك مريضة، فلا يؤدون لله سبحانه من فرائضه فريضة، فهم في شكهم ولعبهم يترددون، وفي خطيئاتهم وطخياء حيرتهم يعمهون، كما قال سبحانه: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ [الدخان 9]، وزيادة الله لهم من المرض الذي ذكر أنه في قلوبهم؛ لشكهم وضلالهم هو بما يزيد نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوحي والبرهان، وتنزيل ما نزل من القرآن، الذي به مرضت قلوبهم، ومنه دويت صدورهم؛ فكلما زاد الله منه نبيه تبيانا وعلما، وخيرا وفضلا وحكما ـ ازداد لذلك مرض قلوبهم تراكما، وزادهم الله بتنزيل الحق غيظا وغما.
ب. قد يكون ذلك المرض حل في قلوبهم؛ لشدة الحسد منهم لنبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم على:
• ما جعل الله من البركات واليمن في كل الحالات لديه، ولما خصه الله به دونهم، وآثره به سبحانه عليهم، من هبوط الملائكة نحوه، وما عظم به الله له خطره وقدره، فجعله الله صفيا يوحى إليه، وينزل إليه وحيه بفرائضه عليه، وما خصه به من أن جعل طاعته ـ له طاعة، ومعصيته ـ له معصية؛ فقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 8]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: 59، ومحمد: 33]، وقال سبحانه: ﴿ ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [الفتح: 17]
• لما أن رأت قريش هذه الكرامات البينات النيرات، التي لا يقدرون على دفعها، ولا يأتون أبدا بمثلها ـ اشتد لذلك حسدها لرسول رب العالمين، وعهدوا عليه وعلى من تبعه من المؤمنين، فمنعه الله منهم، ورد حسدهم وبغيهم في نحورهم، فنصبوا له المحاربة، وطالبوه أشد المطالبة، فردهم الله بغيظهم، كما قال سبحانه: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25]، وذلك حين تحزبت قريش والعرب، وطلبوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غاية الطلب، فكفاه الله في ذلك اليوم والمسلمين القتال بأخيه ووصيه، الإمام علي، أفضل المستشهدين، فقتل عمرو بن عبد ود اللعين، وكان عماد المشركين وفارس المتحزبين، فانهزم بقتله جميع الكافرين، وفل الله حد المبطلين، وأظهر دعوة المحقين، ونصر رسوله خاتم النبيين، وكبت أعداءه المحادين؛ قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [المجادلة: 5]
• فلما أن أذلهم وهزمهم، وكبتهم كما كبت الذين من قبلهم، تدارك الكبت في قلوبهم، وترادفت الحسرات في صدورهم، ومرضت لذلك وبه منهم القلوب، وأحاطت بهم منهم الذنوب، فهم في كل يوم يرون من نصر الله لنبيه ويسمعون عنه ما يزيدهم حسدا، ويحدث لهم به في قلوبهم مرضا، حتى صدق الله رسوله الرؤيا بالحق التي كانت في غزوة الحديبية، أراه وأكمل له من دخول مكة آمنا لا يخاف إرصادا، فنزل بالمشركين من ذلك ما كانوا يخافون، وحقق الله لرسوله ما كانوا يحذرون، ﴿ ومن بغي عليه لينصرنه الله إن الله لقوي عزيز ﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/19.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ظن المجبرة السوء، التي ظنت بربها في قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، فتأويل ذلك أن الله جل ذكره أخبر عن المنافقين أن في قلوبهم كفرا وكبرا، وأنهم في شك مريب، فكانوا كلما أنزل الله على نبيئه صلّى الله عليه وآله وسلّم سورة فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وقصصه وأمثاله ـ كذبوا بها وازدادوا بذلك كفرا الى متقدم كفرهم ومرض قلوب الى مرض قلوبهم؛ فجاز في كلام العرب أن يقال: زادهم الله فيما أنزل على نبيه مرضا الى مرضهم.
2. نسب الله ذلك الى نفسه؛ لأنه الذي أنزل السورة التي ازدادت قلوبهم بها مرضا، ونظير ذلك: أن يقول الإنسان: (قد وعظت فلانا، فما زاده وعظي إياه إلا بعدا من الخير)، ويقول: (قد زدت فلانا غضبا بما أخبرته عن فلان)، و(زاده بما تلى عليه من القرآن كفرا الى كفره)؛ قال سبحانه عن نوح: ﴿ قال ربي إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ﴾، إلى قوله: ﴿وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾؛ فهم الذين فعلوا من الخلاف بما دعاهم اليه نوح؛ فجاز أن يقول نوح إن دعاءه إياهم الذي زادهم فرارا وكفرا وانكارا، ويحقق ذلك قوله سبحانه في آخر الآية: ﴿ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكسبون ﴾، هذا تأويل هذه الآية وكل ما في القرآن يشبهها.
3. مما تضل به المجبرة من قول الله سبحانه: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، فيرون أن ذلك كاستهزاء العباد بعضهم ببعض، وإنما ذلك الاستهزاء من الله بهم: أنه ممهل لهم، وغير معاجل لأخذهم، وأنه عالم بما سينالهم من عقابه، وأليم عذابه على سوء أفعالهم.
4. ذلك مثل ما يعرفه العرب من تصرف معاني الكلام فيما بينهم؛ فلو أن رجلا استهزأ برجل وسخر منه، واحتمل الآخر منه، ووكله الى عقاب الله، وأخذه له منه بظلمه إياه ـ لجاز أن يقول قائل للمستهزئ: لا تظن أنك تستهزئ بفلان؛ فإنه هو المستهزئ والساخر منك؛ لاحتماله وتغافله عليك، وأخذه له بحقه منك، بما أعده الله للمستهزئين الظالمين، من العقوبة والنكال وسوء العاقبة)
5. وكذلك لو كان لرجل عبد يستهزئ ويخالف أمره، فينهاه مولاه عن ذلك، فلا ينتهي ـ لجاز أن يقول له مولاه: أمهلتك لأعاقبك على فعلك بما تستحقه، وإنما حلمي عنك؛ لأني لا أخاف أن تفوتني بجرمك)
6. على هذا المعنى الاستهزاء من الله سبحانه في جميع ما ذكره من كتابه.. وكذلك المخادعة والمكر والكيد، وكل ما أشبه ذلك في كتاب الله، والحمد لله رب العالمين كما هو أهله.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/22.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا، وأظهروا خلاف ما في قلوبهم؛ فأخبر عزّ وجل نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهم ليسوا بمؤمنين، أي بمصدقين بقلوبهم.. وكذلك قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41].. وكذلك قوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الآية [النساء: 65].
2. هذه الآيات تنقض على الكراميّة؛ لأنهم يقولون: الإيمان قول باللسان دون التصديق، فأخبر الله ـ عزّ وجل ـ عن جملة المنافقين أنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأتوا بالتصديق، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب، ومما ورد في القرآن الكريم مما يدل على ذلك:
أ. قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
ب. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾
ج. قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾
د. قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾
هـ. قوله تعالى: ﴿ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ ﴾
و. قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾
ز. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وذلِكَ ﴾
ح. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾
ط. قوله تعالى: ﴿ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ﴾
ي. قوله تعالى: ﴿ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾
ك. قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
ل. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
م. قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾
ن. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ﴾
س. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾
ع. قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾
والكراميّة يقولون: بل هم مؤمنون.
3. قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ : لا يقصد أحد مخادعة الله، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين، وأولياء الله، فأضاف الله عزّ وجل ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدرهم، وارتفاع منزلتهم عند الله؛ وهو كقوله: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: 7]، والله لا يحتاج أن ينصر، ولكن كأنه قال إن تنصروا أولياء الله ينصركم؛ وهو كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10] والله لا يبايع، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدر نبيه، وعلو منزلته عند الله تعالى، فكذلك الأول أضاف مخادعتهم أولياءه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه.
4. المخادعة هو فعل اثنين؛ لخداع هؤلاء بحضور المؤمنين؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ :
أ. الأول: أي حاصل خداعهم، ووباله يرجع إليهم.
ب. والثاني: أنهم يظهرون لهم الموافقة ليأمنوا، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع في الدنيا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ على قولين:
أ. الأول: أي ما يشعرون أن حاصل الخداع يرجع إليهم في الآخرة.
ب. الثاني: ما يشعرون أن الله يظهر، ويطلع نبيه على ما أضمروا هم في قلوبهم.
6. معنى قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، يقال: شك ونفاق؛ سمّى عزّ وجل المنافقين مرضى؛ لاضطرابهم في الدين؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب؛ فكان حالهم كحال المريض الذي هو مضطرب بين الموت والحياة؛ إذ المريض يشرف ـ ربما ـ على الموت، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيا؛ فهو مضطرب بين ذلك، فكذلك هم، لما كانوا مضطربين في دينهم سماهم مرضى.. أما سائر الكفرة فإنهم لم يضطربوا في الدين، بل أظهروا بالقول على ما أضمروا بالقلب؛ فسماهم موتى، لما لم ينتفعوا بحياتهم، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة، وسمى المؤمنين أحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، واكتسبوا الحياة الدائمة، لموافقتهم باللسان والقلب جميعا لدين الله عزّ وجل.
7. في قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ تأويلان:
أ. التخلية بينهم وبين ما اختاروا، وهو قول المعتزلة.
ب. خلق أفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم، لما زادوا هم في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، خلق الله عزّ وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم، وهو ما اختاره.
8. قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، لأن عذاب الدنيا قد يكون ولا ألم فيه؛ فأخبر الله عزّ وجل أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم، ليس كعذاب الدنيا.
9. قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بالمخادعة للمؤمنين، وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم، وعبادة غير الله، وأيّ فساد أكبر من هذا.
10. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ على قولين:
أ. أي لا يشعرون أن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.
ب. لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفساد، وإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول: بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس؛ لأنه عزّ وجل أخبر بفساد صنيعهم، وإن لم يشعروا به، وهو كقوله أيضا: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]: أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون.
11. الآية تحتمل أن تكون في المنافقين، وتحتمل في أهل الكتاب:
أ. فإن كانت في المنافقين فكأن قوله: آمنوا يا أهل النفاق في السر والعلانية، كما آمن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في السر والعلانية جميعا، وهو كقوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: 137].
ب. وإن كان في أهل الكتاب ففيه الأمر بالإيمان الذي هو إيمان، وهو التصديق، والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب؛ دليله قول جميع أهل التأويل والأدب أنهم فسروا آمَنُوا: صدقوا في جميع القرآن.
12. اختلف في معنى السفه:
أ. قيل: هو ضد الحكمة، وهو العمل بالجهل على العلم أنه يبطل، والجهل هو ضد العلم.
ب. وقيل: هو السفه هو الشتم؛ يقول الرجل لآخر: يا سفيه.
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ :
14. قيل: إن هذا شتم من الله لهم، جوابا على المؤمنين، ويستجيزون ذلك على الجواب، وإن لم يجز على الابتداء، كالمكر، والكيد، والاستهزاء، والخداع ونحوه، فعلى ذلك هذا.
15. وقيل: أنه غير جائز؛ وهو الصحيح، لأن من يشتم آخر يذم عليه، وهو عمل السفهاء. فأخبر عزّ وجل: أنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أن دينهم الذي يدينون به باطل، وأن الدين الذي يدين به المؤمنون حق.
في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
ب. والثاني: لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك، والله أعلم.
16. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعنى: أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقوله: ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويضمرون لهم الخلاف في السر.
17. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ قيل فيه بأوجه:
أ. قيل: إن شياطينهم؛ يعنى الكهنة؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق، يقال: شطن، أي بعد.
ب. وقيل: إن كلّ عات ومتمرد يسمى شيطانا لعتوه وتمرده؛ كقوله: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112] سموا بذلك لعتوهم وتمردهم؛ إذ من قولهم: إن الشياطين أصلهم من الجن.
ج. وقيل: سموا شياطين؛ لأنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأمره، فسموا بأسمائهم؛ وذلك جائز في اللغة جار.
18. قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ قيل: فيه وجهان:
أ. الأول: أي معكم في القصد والمعونة.
ب. والثاني: إنا معكم، أي على دينكم لا على دين أولئك، والله أعلم.
19. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ بإظهار الموافقة لهم في العلانية، وإظهار الخلاف لهم في السر.
20. اختلف في قوله تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ على وجوه:
أ. قيل: يجزيهم جزاء الاستهزاء، وكذلك قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142] أي يجزيهم جزاء المخادعة، وكذلك قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54] أي يجزيهم جزاء المكر، يحمل على الجزاء؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاء مبتدأ إلى الله؛ لأنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة، فكيف من الله عزّ وجل!؟
ب. وقيل: يجوز إضافة الاستهزاء إلى الله، وإن كان لا يجوز من الخلق أن يستهزئ بعضهم من بعض، كالتكبر، يجوز لله ولا يجوز للخلق؛ لأن الخلق أشكال بعضهم لبعض وأمثال، والله عزّ وجل لا شكل له ولا مثل، وكذلك الاستهزاء يجوز له، ولا يجوز لغيره؛ لأن الاستهزاء هو الاستخفاف، فلا يجوز أن يستخف ممن هو مثله في الخلقة، وما خلق له من الأحداث والغير، والله تعالى يتعالى عن ذلك، والأول أقرب.
ج. أضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا في المخادعة.
21. اختلف في كيفية الاستهزاء:
أ. قيل: هو أن يفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه، ثم يغلق دونهم، قاله الكلبى، فإن ثبت ذا فهو كما قال.
ب. وقيل: إنه يرفع لأهل الجنة نور يمضون به، فيقصد أولئك المضى معهم بذلك النور، ثم يطفأ ذلك النور؛ فيتحيرون وهو قولهم: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13].
ج. وقيل: أن يعطى لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرا على ما أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويحرم لهم ذلك في الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم في السر.
22. اختلف في إضافة لفظ (الاستهزاء) إلى الله تعالى على قولين:
أ. أجازه قوم، وإن كان ذلك قبيحا من الخلق؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأحد ـ إما لجهله، أو لقبح في الخلقة، أو لزيادة في الخلق ـ إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام الله عليه الذي قد أغفل عنه، أو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش، وأقبح من حال المستهزأ به.. ولذلك قال عزّ وجل: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ الآية [الحجرات: 11].. وذلك نحو التكبر: أنه قبيح من الخلق، بما لهم أشكال في الحدث، وآثار الصنعة، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.. وجائز إضافته إلى الله تعالى، لتعاليه عن الأشباه والأشكال، وإحالة احتمال ما احتمل غيره، وبه يقول حسين النجار.
ب. أبى قوم ذلك إلا على أثر أحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاء، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء؛ فيفهم منه جزاء الاستهزاء كذكر السيئة في الجزاء، والمكر ونحو ذلك.
23. قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون؛ كقوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6] غير أن هذه في المنافقين والأولى في الكفرة.
24. الآية الكريمة تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يقدر أن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار، فأخبر عزّ وجل: أنه يستنقذهم على فعل الطغيان.
25. اختلف في قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾، فقيل:
أ. يخلق فعل الطغيان فيهم.
ب. أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.
ج. أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.
26. في هذا إضافة المد إلى الله، وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح، والمدح يكون بالأوجه الثلاثة التي بينا، وفى هذا أنه إذا كان هو الذي يمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان؛ فدل أن الله خالق فعل العباد؛ إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده.
27. اختلف فيمن نزلت:
أ. قيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأنها على أثر ذكر المنافقين، وهو قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية [البقرة: 14].
ب. وقيل: إنها نزلت في اليهود؛ لأنه سبق ذكر اليهود، وهو قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية [البقرة: 6].
ج. ويحتمل: نزولها في الفريقين جميعا.
د. وروى عن ابن عباس أنه قال: إن هذا من المكتوم)، فلا يحتمل ما قال لأنه مثل ضربه الله، والأمثال إنما تضرب لتفهم وتقرّب إلى الفهم ما بعد منه؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرّب إلى الفهم شيئا، إلا أن يريد من المكتوم: أنه لم يعلم فيمن نزل، فهو محتمل.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/378.
العياني:
روي عن الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي يتأولون في كفرهم من العذر ما لا يقبل، وما لا حجة فيه لهم عند كل من يعقل، فصارت تأويلهم في معاصي الله كالمخادعة لبعض الآدميين، مثل مخادعة أهل السبت لله في صيدهم، وذلك أن الله حرم عليهم الصيد في يوم السبت، فضربوا الشباك يوم الجمعة، وأخرجوا الحيتان يوم الأحد، وإنما وقعت في يوم السبت.
2. هذا ومثله لا يجوز على رب العالمين، بل ذلك لا يجوز على جهلة الآدميين، فكيف بالله أحكم الحاكمين.
3. ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ : أي أنهم لا يخدعون بذلك إلا أنفسهم ويلعبون بها بجهلهم، فأما ذلك فلا ينفعهم من عذاب ربهم.
4. معنى قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ : أي وما يعلمون بما لهم في ذلك من العذاب، والنكال والنصب والعقاب، وكذلك قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المعنى واحد لا فرق بينه.
5. قوله عزوجل: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ : يعني شياطين الإنس من كبرائهم.
6. معنى قوله عزوجل: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ : أي يمكر بهم، ومكره: هو أخذه لهم من حيث لا يشعرون، حتى يدهاهم بالنقم وهم آمنون.
7. معنى قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ : أي يملي لهم في ضلالهم ويطيل لهم الأمل.
8. معنى ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي يخبطون في الجهل والعمى، قال الشاعر:
ومهمهٍ أطرافه في مهمَهِ... أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه
9. معنى قوله عز وجل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي تبدلوا الضلالة بالهدى، قال الشاعر:
عجبت لمن يشري الضلالة بالهدى... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وهو مثل مضروب بالبيع والشراء.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 270.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ يعني المنافقين يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما يبطنون له من الكفر لأن أصل الخديعة الإخفاء ومنه مخدع البيت الذي يَخفى منه.
2. جعل خداعهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خداعاً له لأنه دعاهم برسالته وما يخادعون إلا أنفسهم ورجوع وباله عليهم.
3. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني وما يفطنون، ومنه سمي الشاعر لفطنته لما لا يفطن غيره ومنه قولهم: ليت شعري.
4. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ : أي شك ونفاق وغم ومنه قول الشاعر:
أجامل أقواماً حياءً وقد أرى... صدورهم تغلي علي مراضها
5. أصل المرض الضعف، يقال: مرّض في قوله أي ضعفه: وإنما غمهم بظهور النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أعدائه.
6. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي بما ينزله على رسوله من الفرائض والحدود والأحكام، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ يعني مؤلماً.
7. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والفساد في هذا الموضع فعل ما نهى الله عز وجل عنه وتضييع ما أمر بحفظه والإعراض عن ممالاة الكفار، والفساد هو العدول عن الاستقامة وهذه الآية نزلت في المنافقين.
8. ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وذلك أنهم ظنوا أن في ممالاة الكفار صلاحاً لهم وليس كما ظنوا لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم فلذلك قال ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .
9. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ والناس هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، والسفهاء جمع سفيه وأصل السفه الخفة مأخوذ من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج فسمى خفة الحلم سفهاً قال السموأل: نخاف أن يسفه أحلامنا... فنخمل الدهر مع الخامل.
10. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما أنهم رؤساء اليهود.
ب. الثاني رؤساؤهم في الكفر الذين يأمرونهم بالتكذيب برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
11. قوله: ﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي مع شياطينهم كما قال ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 52]، أي مع الله.
12. أما الشيطان ففي اشتقاقه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه (فيعال) من شطن أي بَعُد ومنه قولهم: نوى شطون أي بعيدة، وشطنت داره أي بعدت وسمي شيطاناً لبعده من الخير، وإما لبعد مذهبه في الشر فعلى هذا النون فيه أصلية.
ب. القول الثاني: إنه مشتق من شاط يشيط إذا هلك كما قال الشاعر: وقد يشيط على أرماحنا البطل.. أي يهلك فهذا تكون النون زائدة.
ج. القول الثالث: أنه (فعلان) من الشيط وهو الاحتراق كأنه سمي بما تؤول إليه حاله.
13. قالوا: إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب والعداوة ﴿إِنَّمَا نَحْنُ﴾ مستهزئون أي ساخرون بما نظهره من التصديق والموافقة.
14. ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ معناه يجازيهم على استهزائهم فسمي الجزاء على اسم المجازى عليه كما قال ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، وليس الجزاء اعتداء.
15. قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ فيه تأويلان أحدهما: يملي لهم، والثاني: يزيدهم يقال: مددت وأمددت، وقيل: مددت فيما كان من الشر وأمددت فيما كان من الخير، وقيل: مددت فيما كان زيادته منه، وأمددت فيما كان زيادته من غيره كقوله: أمددت الجيش بمدد، وأمد الجرح لأن المدة من غيره، و ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الطغيان مجاوزة القدر يقال: طغى الماء إذا تجاوز قدره قال الله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾
16. ﴿يَعْمَهُونَ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: يترددون ومنه قول الشاعر:
حيران يعمه في ضلالته... متردداً لشرائع الظلم
ب. الثاني: معناه يتحيرون قال رؤبة بن العجاج:
ومهمه أطرافه في مهمه... أعيى الهدى بالجاهلين العمه
ج. الثالث: يَعْمَهُونَ عن رشدهم قال الأعشى:
أراني قد عمهت وشاب رأسي... وهذا الشيب شين للكبير
17. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي استحبوا الكفر على الإيمان فعبر عنه بالشراء لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه، فإما أن يكون على شراء المعاوضة فلا لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا فيبيعوا إيمانهم.
18. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى التجارة التي اهتدى إليها المؤمنون، وقيل إن التاجر قد لا يربح وقد يكون على هدى في تجارته نفى الله تعالى عنهم الأمرين جميعاً من الربح والاهتداء مبالغة في ذمهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/28.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: شك، وبه قال ابن عباس.
ب. الثاني: نفاق، وهو قول مقاتل، ومنه قول الشاعر:
أجامل أقواما حياء وقد أرى... صدورهم تغلي عليّ مراضها
ج. الثالث: أن المرض الغمّ بظهور أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أعدائه، وأصل المرض الضعف، يقال: مرّض في القول إذا ضعّفه.
2. في قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنه دعاء عليهم بذلك.
ب. والثاني: أنه إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم عند نزول الفرائض، والحدود.
3. اختلف فيمن أريد بقوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ :
أ. قيل: أنها نزلت في قوم لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وإنما يجيئون بعد، وهو قول سليمان.
ب. وقيل: أنها نزلت في المنافقين، الذين كانوا موجودين، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
4. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنه الكفر.
ب. الثاني: فعل ما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر بحفظه.
ج. والثالث: أنه ممالأة الكفار.
وكل هذه الثلاثة، فساد في الأرض، لأن الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ على أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم، وليس كما ظنوا، لأن الكفار لو يظفرون بهم، لم يبقوا عليهم، فلذلك قال ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
ب. والثاني: أنهم أنكروا بذلك، أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا إنما نحن مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه.
ج. والثالث: معناه أن ممالأتنا الكفار، إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين، وهذا قول ابن عباس.
د. والرابع: أنهم أرادوا أن ممالأة الكفار صلاح وهدى، وليست بفساد وهذا قول مجاهد.
6. يصح نفاقهم مع مجاهرتهم بهذا القول:
أ. لأنهم عرّضوا بهذا القول، وكنّوا عنه من غير تصريح به.
ب. لأنهم قالوا سرا لمن خلوا بهم من المسلمين، ولم يجهروا به، فبقوا على نفاقهم.
7. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ يعني أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. السفهاء جمع سفيه، وأصل السّفه الخفّة، مأخوذ من قولهم ثوب سفيه، إذا كان خفيف النسيج، فسمّى خفة الحلم سفها، قال السموأل:
نخاف أن تسفه أحلامنا... فنخمل الدّهر مع الخامل
9. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ وجهان:
أ. أنهم عنوا بالسفهاء أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. أنهم أرادوا مؤمني أهل الكتاب.
10. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ في شياطينهم قولان:
أ. أحدهما: أنهم اليهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب، وهو قول ابن عباس.
ب. والثاني: رؤوسهم في الكفر، وهذا قول ابن مسعود.
11. في قوله: ﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: معناه مع شياطينهم، فجعل (إلى) موضع (مع)، كما قال تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 52] أي مع الله.
ب. والثاني: وهو قول بعض البصريين: أنه يقال خلوت إلى فلان، إذا جعلته غايتك في حاجتك، وخلوت به يحتمل معنيين: أحدهما: هذا.. والآخر: السخرية والاستهزاء منه فعلى هذا يكون قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أفصح، وهو على حقيقته مستعمل.
ج. الثالث: وهو قول بعض الكوفيين: أن معناه إذا انصرفوا إلى شياطينهم فيكون قوله: ﴿إِلَى﴾ مستعملا في موضع لا يصح الكلام إلا به.
12. أما الشيطان ففي اشتقاقه ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه فيعال من شطن، أي بعد، ومنه قولهم: نوى شطون أي
نأت بسعاد عنك نوى شطون... فبانت والفؤاد بها رهين
بعيدة، وشطنت داره، أي بعدت، فسمي شيطانا، إما لبعده عن الخير، وإما لبعد مذهبه في الشر، فعلى هذا النون أصلية.
ب. القول الثاني: أنه مشتق من شاط يشيط، أي هلك يهلك كما قال الشاعر: وقد يشيط على أرماحنا البطل.. أي يهلك، فعلى هذا يكون النون فيه زائدة.
أ. القول الثالث: أنه فعلان من الشيط وهو الاحتراق، كأنه سمّي بما يؤول إليه حاله.
13. ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي على ما أنتم عليه من التكذيب والعداوة.
﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي ساخرون بما نظهره من التصديق والموافقة.
قوله تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ فيه خمسة أوجه:
أ. أحدها، قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ب. الثاني: أن معناه أنه يجازيهم جزاء المستهزئين.
ج. الثالث: أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا، خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة، وكانوا فيه اغترار به، صار كالاستهزاء بهم.
د. الرابع: أنه لما حسن أن يقال للمنافق: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: 49]، صار القول كالاستهزاء به.
هـ. الخامس: ما حكي: أنهم يفتح لهم باب الجحيم، فيرون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة، بمقامع النيران، حتى يرجعوا، وهذا نوع من العذاب، وإن كان كالاستهزاء.
14. في قوله تعالى: ﴿ يَمُدُّهُمْ ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يملي لهم، وهو قول ابن مسعود.
ب. والثاني: يزيدهم، وهو قول مجاهد.
15. يقال مددت وأمددت، فحكي عن يونس أنه قال مددت فيما كان من الشر، وأمددت فيما كان من الخير، وقال بعض الكوفيين: يقال: مددت فيما كانت زيادته منه، كما يقال مدّ النصر، وأمدّه نهر آخر، وأمددت فيما حدثت زيادته من غيره، كقولك أمددت الجيش بمدد، وأمد الجرح، لأن المدة من غيره.
16. قوله تعالى: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ يعني تجاوزهم في الكفر، والطغيان مجاوزة القدر، يقال طغى الماء، إذا جاوز قدره، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11].
17. في قوله تعالى: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: يترددون، ومنه قول الشاعر:
حيران يعمه في ضلالته... مستورد بشرائع
ب. الثاني: معناه يتحيرون، قال رؤبة بن العجاج:
ومهمه أطرافه في مهمه... أعمى الهدى بالجاهلين العمّه
ج. الثالث: يَعْمَهُونَ عن رشدهم، فلا يبصرونه، لأن من عمه عن الشيء كمن كمه عنه، قال الأعشى:
أراني قد عمهت وشاب رأسي... وهذا اللّعب شين للكبير
18. الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان، وفي قوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه على حقيقة الشراء فكأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
ب. الثاني: أنه بمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه، فإما أن يكون على معنى شراء المعاوضة فعلا، لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا، فيبيعوا إيمانهم.
ج. الثالث: أنه بمعنى أخذوا الكفر وتركوا الإيمان، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
19. في قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: وما كانوا مُهْتَدِينَ، في اشتراء الضلالة.
ب. الثاني: وما كانوا مُهْتَدِينَ إلى التجارة التي اهتدى إليها المؤمنون.
ج. الثالث: أنه لما كان التاجر قد لا يربح، ويكون على هدى في تجارته نفى الله عنهم الأمرين من الربح والاهتداء، مبالغة في ذمهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/74.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا خلاف بين المفسرين ان هذه الآية وما بعدها نزلت في قوم من المنافقين من الأوس والخزرج وغيرهم، روي ذلك عن ابن عباس وذكر أسماءهم ولا فائدة في ذكرها، وكذلك ما بعدها.
2. اختلف في أصل كلمة ﴿النَّاسِ ﴾ :
أ. أن يكون جمعاً لا واحد له من لفظه واحدهم إنسان والأنثى انسانة.
ب. أن أصله: أناس فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف واللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل: لكنا هو الله) وأصله: لكن أنا.
ج. ان الناس لغة غير أناس، وإلا لقيل في التصغير: أنيس رداً الى أصله.
د. أن اشتقاقه من النوْس: وهو الحركة ناس ينوس نوساً: إذا تحرك والنوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الاذن لكثرة حركته.
3. المنافق هو الذي يظهر الإسلام بلسانه وينكره بقلبه.. وانما قال ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ مع قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ تكذيباً لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الايمان والإقرار بالبعث والنبوة، فبين ان ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم، وذلك يدل على أن الايمان لا يكون مجرد القول على ما قالته الكرامية.
4. الخداع: قال ابو زيد: خدعت الرجل أخدعه خِدعاً بكسر الخاء وخديعة ويقال في المثل: إنك لأخدع من ضب حرشته، وقال ابن الاعرابي: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كل شيء وانشد:
ابيض اللون لذيذاً طعمه... طيب الريق إذا الريق خدع
اي تغير وفسد، وقال ابو عبيدة: يخادعون بمعنى يخدعون قال الشاعر:
وخادعت المنية عنك سراً... فلا جزع الأوان ولا رواعا
5. خداع المنافق إظهاره بلسانه من القول أو التصديق خلاف ما في قلبه من الشك والتكذيب.
6. ليس لأحد ان يقول: كيف يكون المنافق لله ولرسوله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية، وذلك ان العرب تسمي من أظهر بلسانه غير ما في قلبه لينجو مما يخافه مخادعاً لمن تخلص منه بما اظهر له من التقية فلذلك سمي المنافق مخادعاً من حيث انه نجا من اجراء حكم الكفر عليه بما أظهره بلسانه، فهو وان كان مخادعاً للمؤمنين فهو لنفسه مخادع لأنه يظهر لها بذلك أنه يعطيها أمنيتها، وهو يوردها بذلك أليم العذاب وشديد الوبال، فلذلك قال ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾
7. المفاعلة، وإن كانت تكون من اثنين، من كل واحد منهما لصاحبه، مثل ضاربت وقاتلت وغير ذلك، فقد ورد من هذا الوزن (فاعَلَ) بمعنى (فَعلَ) مثل: قاتله الله، وطابقت النعل، وعافاه الله، وغير ذلك، وقد حكينا أن معناه: يخدعون، كما قال في البيت المقدّم وقيل: إنه لم يخرج بذلك عن الباب ومعناه: ان المنافق يخادع الله بكذبه بلسانه على ما تقدم، والله يخادعه بخلافه بما فيه نجاة نفسه كما قال ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ :
أ. حكي عن الحسن ان معنى يخادعون الله انهم يخدعون نبيه لأن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله كما قال ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾
ب. وقيل معناه: انهم يعملون عمل المخادع كما يقال فلان يسخر من نفسه، ومن قرأ (وما يخادعون) بألف طلب المشاكلة والازدواج كما قال ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾ وكما قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وكما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن احد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ ومثله كثير.
9. إنما دعاهم الى المخادعة أمور:
أ. أحدها ـ التقية وخوف القتل.
ب. الثاني ـ ليكرموهم إكرام المؤمنين.
ج. الثالث ـ ليأنسوا اليهم في أسرارهم فينقلوها الى أعدائهم.
سؤال وإشكال: أليس الكفار قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم حتى حقنوا بذلك دماءهم وأموالهم ـ وان كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ـ والجواب: لا نقول خدعوا المؤمنين لأن اطلاق ذلك يوجب حقيقة الخديعة لكن نقول: خادعوهم وما خدعوهم، بل خدعوا أنفسهم، كما قال في الآية، ولو أن إنساناً قاتل غيره، فقتل نفسه جاز أن يقال: انه قاتل فلاناً، فلم يقتل إلا نفسه، فيوجب مقاتلة صاحبه، وينفي عنه قتله.
10. قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني وما يعلمون، يقال ما شعر فلان بهذا الأمر وهو لا يشعر به إذ لم يدر، شعراً وشعوراً ومشعوراً قال الشاعر:
عقوا بسهم فلم يشعر به احد... ثم استفاؤوا وقالوا حبذا الوضح
يعني: لم يعلم به أحد، واصل الشعر: الدقة شعر به يشعر: إذا اعلمه بأمر يدق ومنه الشعيرة والشعير، لأن في رأسهما كالشعر في الدقة، والمشاعر: العلامات في مناسك الحج كالموقف والطواف، وغيرهما، وأشعرت البدنة، إذا أعلمتها على انها هدي، والشعار ما يلي الجسد، لأنه يلي شعر البدن.
11. قوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يدل على بطلان قول من قال إن الله لا يعذب إلا من كفر عناداً بعد علمه بوحدانيته ضرورة، لأنه أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم لا يعلمون ذلك.
12. سؤال وإشكال: إذا كان معنى قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي شك ونفاق، ثم قال ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ ثبت ان الله يفعل الكفر بخلاف ما تذهبون اليه، والجواب: الأمر ليس على ما ذكرتم، بل معناه:
أ. إن المنافقين كانوا كلما أنزل الله آية أو سورة كفروا بها، فازدادوا بذلك كفراً الى كفرهم، وشكاً الى شكهم، فجاز لذلك أن يقال: فزادهم الله مرضاً لما ازدادوا هم مرضاً عند نزول الآيات.
ب. مثل ذلك قوله حكاية عن نوح: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾، وهم الذين ازدادوا فراراً عند دعائه.
ج. ومثل قوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾، وإنما أراد انهم ازدادوا عند نزول الآية.
د. وكقوله: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ والمؤمنون ما أنسوهم ذكر الله، بل كانوا يدعونهم اليه تعالى، لكن لما نسوا ذكر الله عند ضحكهم من المؤمنين واتخاذهم إياهم سخرياً، جاز أن يقال: إن المؤمنين انسوهم.
هـ. ويقول القائل لغيره إذا وعظه فلم يقبل نصيحته: قد كنت شريراً فزادتك نصيحتي شرا، وإنما يريد أنه ازداد عنده.
و. فلما كان المنافقون فقد مرضت قلوبهم بما فيها من الشك، ثم ازدادوا شكا وكفرا عندما كان تجدد من امر الله ونهيه، وما ينزل من آياته، جاز أن يقال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾
13. سؤال وإشكال: على هذا ينبغي أن يكون انزال الآيات مفسدة، لأنهم يزدادون عند ذلك الكفر، والجواب:
أ. ليس أحد المفسدة ما وقع عنده الفساد، وإنما المفسدة ما وقع عندها الفساد، ولولاها لم يقع، ولم يكن تمكيناً، وهذا تمكين لهم من النظر في معجزاته ودلائله، فلم يكن استفساداً.
ب. لو كان الأمر على ما قالته المجبرة: إن الله يخلق فيهم الكفر لقالت الكفار ما ذنبنا، والله تعالى يخلق فينا الكفر، ويمنعنا من الايمان. فلم تلوموننا على ما فعله الله؟ فتكون الحجة لهم لا عليهم، وذلك باطل.
ج. التقدير في الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بنبيه مرض، وحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه، قال الشاعر:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك... ان كنت جاهلة بما لم تعلمي
يعني أصحاب الخيل كما قال: (يا خيل الله اركبي)، يعني يا اصحاب خيل الله، وكما قال تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ وإنما أراد أهلها.
14. الكذب ضد الصدق، وهو الاخبار عن الشيء لا على ما هو به، يقال كذب يكذب كذبا وكذابا ـ خفيف وثقيل ـ مصدران، والكذب كالضحك والكذاب كالكتاب والإكذاب: جعل الفاعل على صفة الكذب، والتكذب: التحلي بالكذب.
15. اختلف فيمن أريد بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ :
أ. روي عن سلمان أنه قال لم يجئ هؤلاء.
ب. قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في المنافقين الذين فيهم الآيات المتقدمة، وهو الأقوى.
ج. ويجوز أن يراد بها من صورتهم صورتهم، فيحمل قول سلمان على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية.
16. الإفساد مأخوذ من الفساد: وهو كلما يغير عن استقامة الحال. تقول: فسد يفسد فسادا، والإفساد: إحداث الفساد، والمفاسدة: المعاملة بالفساد، والتفاسد: تعاطي الفساد بين اثنين، والاستفساد: المطاوعة على الفساد.
17. الإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه كما قال تعالى حاكياً عن الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾؟ يعنون من يعصيك، ويخالف أمرك، وهذه صفة المنافقين.
18. سؤال وإشكال: هؤلاء إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض فيقولون انما نحن مصلحون، ويقال لهم: آمنوا كما آمن الناس فيقولون أنؤمن كما آمن السفهاء؟ فليس هؤلاء منافقين، بل مظهرون لكفرهم، والآية في المنافقين، والجواب: المنافقون وإن كانوا يظهرون الايمان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنهم كانوا لا يألون المسلمين خبالا، وكانوا يثبطون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويدعون الى ترك نصرته من يثقون باستماعهم منهم، ومن يظنون ذلك به، فربما صادفوا من المؤمنين التقي فيجيبهم بما ذكر الله، فإذا أخبر أولئك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم ذكروا له، ومن قرأ الاخبار تبين صحة هذا.
19. معنى قولهم له: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أن يقول: إن هذا الذي عندكم فساد، هو صلاح عندنا، لأنا إذا قابلناهم استدعيناهم الى الحق في الدين.
ب. والثاني ـ أن يجحدوا ذلك البلاغ.
20. أن الصلاح هو: استقامة الحال، فالإصلاح: جعل الحال على الاستقامة، والاصطلاح الاجتماع، والتصالح: التمالي على الصلاح، ومنه المصالحة والاستصلاح، والصالح: المستقيم الحال، والمصلح: المقوم للشيء على الاستقامة.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ :
أ. قيل: انما يريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين واهل الكتاب.
ب. حكي عن مجاهد انهم إذا ركبوا معصية الله، قيل لهم: لا تفعلوا هذا. قالوا: إنما نحن مصلحون أي: انما نحن على الهدى.
ج. كلا الأمرين محتمل لأنهما جميعاً عندهم أنه إصلاح في الدين وإن كان ذلك إفساداً عند الله، ومن حيث أنه خلاف لما أمرهم به، وإنما جاز تكليف ما لا يشعر أنه على ظلال، لأن له طريقاً الى العلم.
22. المعني بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ هم الذين وصفهم تعالى بأنهم يقولون: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ والمعنى إذا قيل لهم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء من عند الله، كما آمن به الناس يعني المؤمنين حقاً.
23. الألف واللام في ﴿النَّاسِ ﴾ ليسا للاستغراق، بل دخلا للعهد، فكأنه قيل: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم باليقين والتصديق بالله ونبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به من عند الله.
24. السفهاء جمع سفيه، مثل: علماء وعليم، وحكماء وحكيم، والسفيه: الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار ولذلك سمى الله الصبيان سفهاء بقوله: ﴿ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ﴾ قال عامه اهل التأويل هم النساء والصبيان لضعف آرائهم.. وأصل السفه: خفة الحلم وكثرة الجهل، يقال: ثوب سفيه إذا كان رقيقاً بالياً، وسفهته الريح: إذا طيرته كل مطيّر، وفي اخبارنا أن شارب الخمر سفيه.
25. أمر الله تعالى أن يؤمنوا كما آمن المؤمنين المستبصرون فقالوا: أنؤمن كما آمن الجهال، ومن لا رأي له ومن لا عقل له كالصبيان والنساء، فحكم الله عليهم حينئذ بأنهم السفهاء باخباره عنهم بذلك، وهو من تقدم ذكره من المنافقين.
26. السفيه إنما سمي مفسداً من حيث انه يفسد من حيث يظن انه يصلح، ويضيّع من حيث يرى أنه يحفظ وكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن انه يطيع ويكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به، والألف واللام في السفهاء للعهد كما قلناه في الناس.
27. هذه الآية ايضاً فيها دلالة على من قال إن الكافر لا يكون إلا معانداً، لأنه قال ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
28. حكي عن ابن عباس أنه قال هذه في صفة المنافقين فكان الواحد منهم إذا لقي اصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنا معكم ـ أي على دينكم.
29. يقال خلوت اليه، وخلوت معه، ويقال خلوت به على ضربين: أحدهما ـ بمعنى خلوت معه، والآخر ـ بمعنى سخرت منه، وخلوت اليه في قضاء الحاجة لا غير.
30. وخلوت به له معنيان: أحدهما ـ هذا، والآخر ـ سخرت منه. قال الأخفش: وقد تكون (الى) في موضع الباء، (وعلى) في موضع عن، وانشد:
إذا رضيت عليّ بنو قشير... لَعمر الله أعجبني رضاها
وعلى هذا يحتمل أن تكون الآية: خلوا مع..)
31. قال الرماني: الفرق بين اللقاء والاجتماع، أن اللقاء لا يكون إلا على وجه المجاورة، والاجتماع قد يكون كاجتماع العزمين في محل.
32. الاستهزاء: طلب الهزء بايهام أمر ليس له حقيقة في من يظن فيه الغفلة.. والهزء: ضد الجد يقال هزئ به هزء والتهزي: طلب الهزء: بالشيء، وغرضهم كان بالاستهزاء مع علمهم بقبحه حقن دمائهم بإظهار الايمان ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ الى شياطينهم كشفوا ما في نفوسهم.
33. الله تعالى لا يجوز عليه حقيقة الاستهزاء، لأنها السخرية على ما بيناه، ومعناها من الله:
أ. قيل: هو الجزاء عليها وقد يسمى الشيء باسم جزائه، كما يسمى الجزاء باسم ما يستحق به كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقال: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، وقال: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾، والأول ليس بعقوبة. والعرب تقول: الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء (والبيت الاول شاهد بذلك)
ب. وقيل: إن استهزاءهم لما رجع عليهم جاز أن يقول عقيب ذلك: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يراد به ان استهزاءهم لم يضر سواهم، وانه (دبر) عليهم واهلكهم، يقول القائل: أراد فلان أن يخدعني فخدعته: أي دبر علي امراً فرجع ضرره عليه، وحكي عن بعض من تقدم أنه قال: إذا تخادع لك انسان ليخدعك فقد خدعته.
ج. وقيل: إن الاستهزاء من الله: الاملاء الذي يظنونه إغفالا.
د. وقيل: إنه لما كان ما أظهره من اجراء حكم الإسلام عليهم في الدنيا بخلاف ما أجراه عليهم في الآخرة من العقاب وكانوا فيه على اغترار به كان كالاستهزاء، وروي في الاخبار أنه يفتح لهم باب جهنم، فيظنون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا الى الباب، ردتهم الملائكة حتى يرجعوا، فهذا نوع من العقاب، وكان الاستهزاء، كما قال الله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾
34. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ يَمُدُّهُمْ ﴾:
أ. حكي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: معناه يملي لهم بأن يطوّل أعمارهم.
ب. وقال مجاهد: يزيدهم.
ج. وقال بعض النحويين: يمدهم كما يقولون نلعب الكعاب: أي بالكعاب.
35. حكي أن مد وأمدَّ لغتان، وقيل مددت له وأمددت له يقال مد البحر فهو ماد، وأمد الجرح فهو ممد قال الجرمي: ما كان من الشر فهو مددت وما كان من الخير فهو أمددت، فعلى هذا:
أ. إن أراد تركهم، فهو من مددت.
ب. وإذا أراد اعطاءهم يقال أمدهم.
36. قال بعض الكوفيين: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه، فهو مددت ـ بغير ألف ـ كما يقولون مد النهر ومده نهر آخر، فصار منه إذا اتصل به، وكل زيادة حدثت في الشيء من غيره فهو أمددت ـ بألف ـ كما يقال أمد الجرح لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش.
37. أقوى الأقوال أن يكون المراد به نمدهم على وجه الاملاء والترك لهم في خيرهم، كما قال ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾، وكما قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يعني يتركهم فيه.
38. الطغيان: الفعلان من قولك طغى فلان يطغى طغياناً، إذا تجاوز حده، ومنه قوله: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ أي يتجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد، وقال أمية بن أبي الصلت:
ودعا الله دعوة لات هنا... بعد طغيانه فظل العُمه
39. سؤال وإشكال: كيف يخبر الله أنه ﴿ يمدهم في طغيانهم يَعْمَهُونَ ﴾، وأنتم تقولون: إنما أبقاهم ليؤمنوا لا ليكفروا، وانه أراد منهم الايمان دون الكفر؟ والجواب: معناه: أنه يتركهم وما هم فيه لا يحول بينهم وبين ما يفعلونه، ولا يفعل بهم من الألطاف التي يؤتيها المؤمنين، فيكون ذلك عقوبة لهم واستصلاحاً، ونظير ذلك قول القائل لأخيه، إذا هجره أخوه متجنياً عليه، إذا استعتبه فلم يراجعه: سأمد لك في الهجران مداً، يريد سأتركك، وما صرت اليه تركا ينبهك على قبح فعلك، لا أنه يريد بذلك أن يهجره أخوه، ولكن على وجه الغضب والاستصلاح والتنبيه.
40. هذه الآية الاشارة بها الى من تقدم ذكره من المنافقين، وقال ابن عباس اشتروا الكفر بالإيمان، وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وقال ابن مسعود: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا، وهذه الأقوال متقاربة المعاني.
41. سؤال وإشكال: ما سر التعبير عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم ايمان، والمفهوم من الشراء اعتياض شيء يبذل شيء مكانه عوضاً منه، وهؤلاء ما كانوا قط على الهدى، والجواب: من وجوه:
أ. من ارتكب الضلالة وترك الهدى، جاز ان يقال ذلك فيه ويكون معناه: كان الهدى الذي تركه هو الثمن الذي جعله عوضاً عن الضلالة التي أخذها فيكون المشتري أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به كما قال الشاعر:
أخذت بالجمة رأساً أزعرا... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدرا... كما اشترى المسلم إذ تنصرا
ب. منهم من قال: استحبوا الضلالة على الهدى انما قال ذلك لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فحمل هذه الآية عليه.
ج. من حملها على انهم اختاروا الضلالة على الهدى، فان ذلك مستعمل في اللغة يقولون اشتريت كذا على كذا، واشتريته يعنون اخترته. قال اعشى بني ثعلبة.
فقد اخرج الكاعب المسترا... ة من خدرها واشيع القمارا
يعني: المختارة. قال ذو الرمة في معنى الاختيار:
يذب القصايا عن شراة كأنها... جماهير تحت المدجنات الهواضب
وقال آخر:
إن الشراة روُقة الأموال... وحزرة القلب خيار المال
42. الربح ـ وان اضافه الى التجارة ـ فالمراد به التاجر لأنهم يقولون ربح: بيعك وخسر بيعك وذلك يحسن في البيع والتجارة، لأن الربح والخسران يكون فيهما، ومتى التبس فلا يجوز إطلاقه، لا يقال: ربح عبدك إذا أراد ربح في عبده، لأن العبد نفسه قد يربح ويخسر، فلما أوهم لم يطلق ذلك فيه.
43. قيل: إن المراد، فما ربحوا في تجارتهم، كما يقال: خاب سعيك: أي خبت في سعيك، وإنما قال ذلك لأن المنافقين بشرائهم الضلالة خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من استبدل سلعة بما هو أرفع منها، فأما إذا استبدلها بما هو أدون منها فإنما يقال خسر فلما كان المنافق استبدل بالهدى الضلالة وبالرشاد الخيبة عاجلا وفي الآخرة الثواب بالعقاب كان خاسراً غير رابح.
44. إنما قال: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾، لأنه يخسر التاجر ولا يربح ويكون على هدى، فأراد الله تعالى أن ينفي عنهم الربح والهداية فقال: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ باستبدالهم الكفر بالإيمان، واشترائهم النفاق بالتصديق، والإقرار بها.
45. سؤال وإشكال: لم قال فما رَبِحَتْ تجارتهم في موضع ذهبت رؤوس أموالهم؟ والجواب: لأنه قد ذكر الضلالة بالهدى، فكأنه قال طلبوا الربح فما ربحوا، لما هلكوا، وفيه معنى ذهبت رؤوس أموالهم ويحتمل ان يكون ذلك على وجه التقابل: وهو ان الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا، كما ان الذين اشتروا الهدى بالضلالة، ربحوا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/68.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح الكلمات:
أ. الناس والإنس والبشر نظائر، واختلفوا مما أُخِذَ الناس:
• قيل: من الحركة، يقال: نَاسَ يَنُوسَ نَوْسًا: إذا تحرك فسمي بذلك لحركته، ولذلك قال في تصغيره: نُوَيْس، ووزنه فَعَل.
• وقيل: أصله من الأنس، وهو أُناس على فُعال بضم الفاء، فحذفت الهمزة، فصار ناسا، وتصغيره أنيس، سمي به لأنه يستأنس به.
• وقيل: لأن آدم لما خُلِقَ آنسَهُ بزوجته، فسمي إنسانا.
• وقيل: هو من الظهور، فسمي إنسانا وناسا لظهوره، وإدراك البصر إياه، فقال: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾
• وقيل: أخذ من النسيان، قال ابن عباس: لأنه نسي عهد الله، وقال الشاعر: وسُمِّيَت إنسانًا لأنك ناسي
ب. الناس: الجماعة من الحيوان المتميزة بالصور الإنسانية، واحدها إنسان، وأصل إنسان إنسيان، وكذلك يقال في تصغيره: أنيسيان، فيرد إلى الأصل، ثم حذفت الياء، ونقلت حوكته إلى السيق فصار إنسانًا.
ج. القول والنطق والكلام نظائر، قال قولاً، والكلام مقول.
د. الآخرة: القيامة، سمي آخرا لتأخره عن الدنيا.. وقيل: لأنه آخر يوم ليس بعده ليلة.
هـ. الخديعة والغرور والتمويه نظائر، وخلاف الخديعة النصيحة، فأصله الإخفاء، ومنه الخِدْعُ؛ لأنه يخفى فيه الأشياء، وحقيقته الإيهام بخلاف الحق بالتمويه والتزوير، ويُقال: الحرب خَدْعَة بفتح الخاء لغة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والضم لغةٌ، والأول أفصح، والخداع: الفساد، والخادع: الفاسد من الطعام، قال الشاعر:
أَبْيضَ اللَّوْنِ لَذيذًا طَعْمُهُ.. طَيّبَ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
أي فسد.
و. نفس الشيء وذاته سواء، والنفس تستعمل بمعنى الروح، وبمعنى الذات، وبمعنى التأكيد، يقال: خرجت نفسه، وجاءني زيد نفسه، ويُقال: السواد نفسه، وأصله من النفاسة، وهو الشيء النفيس، وحد النفس ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.
ز. الشعور بالشيء والإحساس به والفطنة له نظائر، وأصله الدقة، وشعرته، وشعرت به: إذا علمت ابتداء من وجه يدق، ومنه الشاعر؛ لأنه يفطن لما يدق في المعنى والوزن، والشعار: العلامة فيه، ومنه المشاعر.
ح. اختلف في تعريف المرض:
• قيل: العلة في البدن، ونقيضه الصحة، ونظيره السقم.
• وقيل: أصله الضعف.
ط. الزيادة خلاف النقصان، ويُقال: زاده زيادة، والزيادة الإلحاق بالمقدار ما ليس منه.
ي. الألم: الوجع، والألم والمؤلم كالوجيع والموجع، قيل: فعيل بمعنى مفعل، كبديع بمعنى مبدع، وسميع بمعنى مسمع، غير أن في الأليم مبالغة ليست في المؤلم، والألم كل ألم إذا صغر أو كبر.
ك. الكذب نقيض الصدق، وهو الخبر عن الشيء بخلاف ما هو به.
ل. إذا: حرف توقيت لمعنى حينئذ ومتى، تؤذن بوقوع الفعل المنتظر.
م. قيل: فعل ماض مجهول، وأصله من قَالَ يَقُول قَوْلاً، وقيل في المجهول.
ن. الفساد: نقيض الصلاح، فسد فسادًا، وأفسده إفسادًا، وكل فساد في الدين معصية وقبيح.
س. الأرض: معروف، وفيه اشتراك، يقال لقوائم البعير: أرض، وللرِّعْدَ: أرض.
ع. الصلاح والاستقامة نظيران، صلح صلاحًا، وأصلحه غيره، والأصلح نقيض الأفسد، والصلاح: التغيير إلى استقامة الحال، وكل صلاح في الدين حسن وعبادة.
ف. السفه: نقيض الحكمة، وهو النَّزَقُ والطيش، وأصله الخفة، ويقال لخفيف الحلم: سفيه، وجمعه سفهاء، قال الشاعر:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سفهاءكم.. إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وكل معصية فهي سفه:
• وقيل: السفيه الكذاب، عن المؤرج.
• وقيل: السفيه الظلوم العجول القائل بخلاف الحق، عن قطرب.
• وقيل: السفيه الجاهل.
ص. العلم: مصدر علم يعلم علمًا، وَحَدُّهُ: اعتقاد يوجب سكون النفس إلى معتقده.. وقيل: إثبات الشيء على ما هو به.
ق. اللقاء: نقيض الحجاب، قال الخليل: كل شيء استقبل شيئًا وصادفه فقد لقيه، وأصل اللقاء اجتماع مع الشيء على طريق المقابلة، يقال: لاقيت بين طرفي القضيب حتى تلاقيا واجتمعا.
ر. الخلا: نقيض المَلاَ، يقال: خلا خلاء، وأخلاه إخلاء، وخلاه تخلية، والخلاء: المكان الخالي، وفي العالم خلأ وملأ عندنا، خلاف أبي القاسم أنه ملأ.
ش. الهُزْءُ والسخرية بمعنى، ونظيره الهزل، ونقيضه الجِدُّ.
ت. الشيطان: كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب، عن أبي عبيدة، وقال غيره: المتمرد من كل جنس، وأصله من، (شطن) إذا بعد، كأنه بعد عن الخير، ووزنه فَيْعَال، وقيل: هو من الشَّيْطِ، وهو الاحتراق، كأنه يسمى بما يؤول إليه حاله، ووزنه فعلان، يقال: شطن الرجل، وتشيطن، إذا صار كالشيطان.
ث. الاستهزاء: استفعال من الهزء، والهزء والسخرية بمعنىً، وهو إظهار خلاف الإبطان على جهة العبث لمن يظهر له ذلك.. وقيل: حقيقته الإيهام بما يجب في الظاهر، والأمر بخلافه في الباطن على جهة الاغترار، كمن يسمع شعرًا رديئًا فيقول: سبحان الله موهمًا استحسانه، فإذا سئل قال: كنت مستهزئا.
خ. المد: أصله الزيادة في الشيء، يقال: مد الحبل يمده: مَطَلَهُ، والمد: الجَذْبُ؛ لأنه سبب الزيادة في الطول، والمادة: كل شيء يكون مدًّا لغيره، ومنه (مد الله في عمرك).
ذ. طغى وعتى وبغى نظائر، طغا طغيانًا، والطغيان: مجاوزة الحد، والطاغية: الجبار العنيد، فكل طاغ ضالٌّ.
ض. العَمَهُ: التحير، عَمَهَ يَعْمَهُ فهو عَمِهٌ، حائر.. وقيل: هو المتحير المتردد في أمره، لا يجد مخرجًا يؤديه إلى بغيته.
ظ. أصل الشراء: الاستبدال، يقال: اشترى إذا ابتاع، وشرى إذا باع، ويجوز اشتريت بمعنى بعت، على أنه افتعلت، من شريت، ومنه الشراة، أخذوا ذلك من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ وحقيقة الشراء الاستبدال بالثمن، وهو عقد معاوضة، وله شرائط في الشرع.
غ. الربح: الزيادة على رأس المال، ربح يربح، ومنه: وَمَنْ نَجَا بِرَأْسِهِ فَقَدْ رَبِحْ.
غ. التجارة: التعرض للربح في البيع، ويُقال: تَجْرُ جمع تاجر.
غ. الضلال: أصله الهلاك، ثم يستعمل في معانٍ منها: الإضلال عن الدين؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك، ومنها: الحكم بالضلال؛ لأنه حكم بهلاكه، ومنها: وجدانه ضالًّا هالكًا، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ ومنها: الضلال عن الثواب وطريق الجنة، وجميع ذلك تجوز إضافته إلى الله تعالى غير الإضلال عن الدين؛ لأنه قبيح، وقد أمر بالحق، فلا يُضِلُّ عنه، ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾
2. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: نزلت الآية في المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وجدّ بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهم، قالوا: تعالوا إلى خُلَّةٍ نسلم من محمد وأصحابه، ونتمسك بديننا، فأجمعوا على إظهار كلمة الإسلام والإيمان بألسنتهم، واعتقدوا خلافها، وأكثرهم في اليهود.
ب. قيل: نزل قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ في المنافقين، وذكر الأصم عن بعضهم أن علماء اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال بعضهم لبعض يخص به: إنا لنعرف نعته، وإنه رسول الله، فلما رجعوا إلى أصحابهم، قالوا: إنا نستهزئ به، فأنزل الله تعالى ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾
3. بَيَّنَ تعالى حال المنافقين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ جماعة صفتهم أن يقولوا: ﴿آمَنَّا﴾ صدقنا بِاللهِ وما أنزل على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذكر البعث، ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ بمصدِّقين، أي ليسوا كما يصفون أنفسهم.
4. ثم ذكر تعالى صفة المنافقين فقال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ :
أ. قيل: يخادعون أولياءه، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ أي أولياءه، عن الحسن.
ب. وقيل: يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبي علي، فأضاف خداعه إلى نفسه تعظيمًا له وتشريفًا.
ج. وقيل: يعملون عمل المخادع، وإن كان الله لا يخادع، كما يقال للمرائي: ما أجهله، يخادع الله، وهو أعلم به من نفسه، قال الشاعر:
سَأَلَتْنِي عَنْ أُناٍس هَلَكُوا.. شَرِبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ وَأَكَلْ
يعني كأنه شرب، وقد تذكر المفاعلة، ويراد به الفعل من واحد، يقال: قاتله، وعافاه الله، وعاقبت اللص، قال الله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ كذلك يخادعهم إنما هو من واحد.
د. وقيل: معناه يخادعون الله على ظنهم، وذلك أنهم لما ظنوا أن خداعهم يفيد عند الله كما يفيد عند المؤمنين، كقوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾ يعني: على زعمك وظنك.
5. كان الغرض في خداعهم:
أ. قيل: ليسلموا من الفئتين.
ب. وقيل: رجاء أن يعلموا أسرار المؤمنين، فيبلغوا ذلك أعداءهم، ويطلبوا الغوائل.
ج. وقيل: رجاء أن يكرمهم الرسول والمؤمنون كما أكرموا غيرهم، عن أبي علي.
د. وقيل: معناه يفسدون بنفاقهم ما أظهروا من الإيمان، فأفسد الله عليهم حالهم بأن صيرهم إلى النار ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأن عقابه ينزل بهم.
هـ. وقيل: يعملون في دين الله تعالى ما هو خداع فيما بينهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يعني لا يعلمون أن وباله عليهم.
و. وقيل: لا يعلمون أن ذلك لا ينفعهم عند الله تعالى، كما ينفع في الدنيا.
6. ثم وصف الله تعالى المنافقين بصفة أخرى، فقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ قيل: شَكّ، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وجماعة، واختلف لم سمي الشك مرضا:
أ. قيل: سمي به لأنه يُضْعِف البدن، ومرّض في القول: ضعّف، والمرض: الشك،
ب. قيل: سمي به لأنه يصد عن إدراك الحق، كالمرض في البصر يصد عن الإدراك للمبصر.
ج. وقيل: لما كان الشك والتحير كالسبب للألم في القلب، والمرض هو الوجع سمي به كما يسمى السبب باسم مسببه، كما يقال لأسباب الموت: الموت.
د. وقيل: لأن المرض يؤدي إلى الهلاك، والشك يؤدي إلى الهلاك بالعذاب.
7. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ :
أ. قيل: بما أنزل الله من الفرائض والحدود.
ب. وقيل: بما أنزل من الآيات والحجج، فشكوا عندها، فأضاف، ذلك إليه، وإن كان الشك منهم؛ لأنه وجد عند نزول الآيات، وما زاده من الحجج، ونظيره قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ والآيات لم تزدهم رجسًا، ولكن ازدادوا عندها، كقوله: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴾، وكقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ وقيل: في قلوبهم غم بتمكين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزوله بالمدينة، وما فتح الله عليه، وظهور المسلمين، وكثرة الفتوح، فزادهم غمًّا بما زاده من القوة والتمكين، وبما أخذ من النصر والتأييد، عن أبي علي، وأنكر الوجه الأول، وذكر أنه تعالى لا يجوز أن يزيدهم شَكًّا في الدين، وقد بينا أن له وجهًا صحيحًا، فلا معنى لإنكاره، مع أنه مَرِوْيّ عن جماعة من السلف.
ج. وقيل: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي شك ونفاق ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ يعني عاقبهم على ذلك وزادهم عقوبة على عقوبة غيرهم بسببه فسمي جزاء المرض مرضًا كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ قال الشاعر:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا.. فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهلينا
أي: نكافئهم على الجهل؛ إذ الجهل لا يُتَمَدَّحُ به، ومثله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ ونظائره كثيرة.
د. وقيل: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي حزن بنزول القرآن بفضائحهم ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بأن زاد في إظهار مخازيهم، ويخبر عن ضمائرهم، فيزدادون غمًّا ومرضًا، وسمي الغم مرضًا لأنه يُضَيِّقُ الصدرَ كما يضيقه المرض، فقيل: فزاده الله مرضًا على جهة الدعاء عليهم، كقولهم: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ كأنه دعاء عليهم بأن يخليهم وما اختاروه، ولا يعطيهم من زيادة الهدى والألطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلانًا لهم، فحقيقة اللفظ ـ وإن خرج مخرج الدعاء ـ إخبار عن خذلان الله تعالى إياهم، عن أبي مسلم.
8. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ موجع، وهو عذاب النار ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ :
أ. قيل: بكذبهم، في قولهم: آمنا.
ب. وقيل: بكذبهم، بأن باطننا كَظاهرنا، هذا على قراءة من قرأ بالتخفيف، فأما بالتشديد ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ يعني بتكذيب الله ورسوله فيما جاء به من الدين، وما أودعهم به من البعث والعذاب.
9. ثم ذكر تعالى خصلة أخرى من خصال المنافقين، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ :
أ. قيل: للمنافقين.
ب. وقيل: لليهود ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قيل: بِمُمَالأَةِ الكفار؟ فإن فيه توهين الإسلام، وجرأة الكفار، عن أبي علي.
ج. وقيل: بالكفر والعمل بالمعصية وصد الناس عن الإيمان، عن ابن عباس.
د. وقيل: بتبديل الملة، وتغيير السنة، وتحريف الكتاب، عن الضحاك.
هـ. وقيل: لا تفسدوا باستدراج العامة إلى الباطل، وصدهم عن قبول الحق، ودعائهم إلى الكفر، عن الأصم.
و. وقيل: بالتضريب بين ضعفة المسلمين.
ز. وقيل: بنصرة الكافرين، ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ على جهة الإظهار، والانطواء على خلافه.
ح. وقيل: يعني أن الذي تسمونه فسادًا هو عندنا صلاح، وقائل هذا هو عبد الله بن أبي، كان يتعصب لليهود، فإذا غويت قال: أخشى الدوائر، فكان يوهم أن فعله صلاح، لما يخاف من العاقبة، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ أي العاصون، سميت المعصية فسادًا لأنها توجب الهلاك.
ط. وقيل: لأنه يوجب إمساك المطر والنبات والرحمة، وفيه فساد الأرض.
ي. وقيل: هم المفسدون وإن أوهِمُوا أنهم مصلحون.
10. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ وقد يفسد غيرهم؟ والجواب: لأنه عظم فسادهم، فلا يعتد بفساد غيرهم مع إفسادهم.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ :
أ. قيل: لا يعلمون أنهم المفسدون، ولو علموا لَرُجِيَ صلاحهم.
ب. وقيل: لا يعلمون ما لهم فيه من العقاب.
ج. وقيل: هم جهال لا يعرفون حقًّا من باطل، عن الأصم.
د. وقيل: لا يعلمون أن ما هم عليه هو السفه؛ لأنهم لا يتدبرون، ولو تدبروا لعلموا، عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: هم منافقون بممالأة الكفار خوفًا من الدوائر، ولو غلبوا المسلمين ما أبقوا عليهم وهم لا يعلمون ذلك، عن أبي علي.
12. بَينَ تعالى جواب المنافقين عند دعائهم إلى الإيمان، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا﴾ يعني الرسول والمؤمنين ﴿لَهُمْ﴾ يعني اليهود.. وقيل: المنافقين ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ :
أ. قيل: صدقوا بمحمد وما أنزل عليه كما صدق الناس، وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره.
ج. وقيل: صدقوا مع مجانبة الكفار، وإظهار عداوتهم، كما فعله المؤمنون، عن أبي علي.
13. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ والجواب: الألف واللام تدخل للجنس وللعهد، وهاهنا للعهد، وهم المؤمنون.. وقيل: هو عموم أريد به الخصوص.
14. ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ الجهال في الحقيقة ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أنهم كذلك.. وقيل: لا يعلمون ما عليهم فيه.
15. ثم بَيَّنَ تعالى صفة النفاق فقال: ﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ يعني المنافقين إذا رأوا المؤمنين، والتقوا معهم ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أي صدقنا بما نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم استدفاعًا عن دمائهم وأموالهم.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ :
أ. قيل: رؤسائهم من الكفار، عن ابن عباس.
ب. وقيل: شياطين الجن، عن الكلبي، والأول أوجه؛ لأن عليه أكثر أهل العلم، وهو أسبق إلى النفس، ولأنه ليس في الكهنة.
ج. وقيل: كبرائهم وكهنتهم.
د. وقيل: هم خمسة نفر من اليهود: كعب بن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة بن أبي أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام، عن ابن عباس.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ :
أ. قيل: أي على دينكم.
ب. وقيل: أنصاركم.
18. غرضهم بهذا:
أ. قيل: استمالتهم لرؤسائهم، عن أبي علي.
ب. وقيل: استهزاء بالمؤمنين في قوله: ﴿آمَنَّا﴾
19. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ بمحمد وأصحابه في قولنا آمنا.
20. ثم بَيَّنَ تعالى جواب قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ فقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ قيل: يجازيهم على استهزائهم، والعرب تسمي الجزاء على الشيء باسم الشيء، يقولون: الجزاء بالجزاء، ومنه: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، ومنه قول الشاعر:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنَاَ.. فَنَجْهلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِليِنَا
21. إنما جاز ذلك:
أ. قيل: لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة.
ب. وقيل: إنه على طريق التشبيه، ثم اختلفوا في وجه التشبيه، فقيل: لما عابهم على الاستهزاء، وكان وبال استهزائهم يعود عليهم صار كأنه استهزأ بهم.
ج. وقيل: لما أظهر لهم في الدنيا من الأحكام التي ينتفعون بها خلاف ما لهم في الآخرة من العذاب كان كأنه استهزأ بهم، عن الأصم.
د. وقيل: لما قيل لهم في الآخرة: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ و ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ صار كأنه استهزأ بهم.
هـ. وقيل: يظهر المؤمنين على نفاقهم، عن الحسن.
و. وقيل: يطلع المؤمنون عليهم وهم في النار فيضحكون منهم، عن ابن عباس، كقوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ وحقيقة الاستهزاء لا يطلق على صفاته تعالى كالسخرية واللعب ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ أي يملي لهم، ويطول عمرهم، وإن كانوا متتابعين في الطغيان.
ز. وقيل: يمدهم في العمر لكي يرجعوا عن الطغيان، وهم يتحيرون في الطغيان، يعني في طغيانهم، وهو كفرهم وضلالهم ﴿يَعْمَهُونَ ﴾ يتحيرون؛ لأنهم أعرضوا عن الحق فتحيروا وضلوا.
22. سؤال وإشكال: إذا كان معنى ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يجازيهم فكيف يتصل بقوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾؟ والجواب:
أ. قيل: لما كانوا في الإملاء معتزين بالسلامة، لا يشعرون بما يؤول إليه خالهم كأنه استهزأ بهم.
ب. وقيل: كأنه قال: يعاقبهم إلا أنه من غير معاجلة.
23. ثم بَيَّنَ تعالى ما هم عليه من الضلالة والخسران، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني المنافقين، الَّذِينَ تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ استبدلوا الكفر بالإيمان، واختلف لما قال ذلك وهم لم يكونوا على هدى قط على وجوه:
أ. أولها: أن المراد ب ﴿اشْتَرَوْا﴾ اختاروا واستحبوا؛ لأن كُلَّ مُشْتَرٍ مُخْتَارٌ لِمَا اشتراه على ما بذله، وليس بالظاهر في كلام العرب اشتروا بمعنى اختاروا.
ب. ثانيها: أنهم آمنوا ثم كفروا، فهو عموم أريد به الخصوص، عن مجاهد، وليس بالجيد؛ لأنه صرف الكلام عن ظاهره من غير حجة، ولأن سياق الصفة على خلاف ما قال.
ج. ثالثها: تركوا الإيمان إلى الكفر، واستبدلوه به، عن ابن عباس وابن مسعود وأبي علي وجماعة، وهو الأولى.
د. رابعها: أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر، فتركوا ذلك إلى الكفر، فكأنهم استبدلوا الكفر.
هـ. خامسها: استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة؛ لأنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويبشرون به، فلما بعث كفروا به، فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان، عن مقاتل والكلبي.
و. سادسها: أنه لما كان الكافر مُتَمَكِّنًا منهما فاختار الكفر على الإيمان، فقد ترك الإيمان إليه، وصار كالمستبدل.
ز. سابعها: أنهم آمنوا ظاهرًا، ثم تركوا الإيمان باطنًا.
24. اختلفوا في اشتراء الضلالة بالهدى:
أ. قيل: الكفر بالإيمان، عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: اشتروا: اختاروا العذاب والهلاك على الهدى، يعني: طريق الجنة والثواب، كقوله: ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ الآية، عن أبي مسلم.
﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أي لم ينتفعوا بذلك، وقال: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، ولَم يقل: ما ربحوا في تجارتهم، والرابح هو التاجر، لان ذلك فصاحة في كلام العرب، يقال: لَيْلُكَ قَائِم، ونهارك صائم، قال الشاعر:
حَارِثُ قَدْ فَرَّجْتَ عّنِّي غَمِّي.. فَنَامَ لَيْلِي وَتَجلَّى هَمِّي
وقال آخر:
وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَاَن أَمَّا نَهَارُهُ.. فأعْمَى وَأَمَّاَ لَيلُهُ فبصيرُ
فأضاف إلى الوقت، والمراد النبهاني.
25. سؤال وإشكال: هلا قال: ذهبت رؤوس أموالهم؟ والجواب: لأنه لما ذكر أنهم اشتروا الضلالة بالهدى تضمن ذلك خسران رأس المال، فإذا قال: ما ربحوا، دل على المعنيين.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ :
أ. قيل: تأكيد لما تقدم، ومعناه: ما اهتدوا، وإنما اهتدى إليه المؤمنون.
ب. وقيل: ما أصابوا في فعلهم.
27. تدل الآية الكريمة على:
أ. فساد قول من قال: الإيمان باللسان؛ لأنهم مع إقرارهم كذبهم الله تعالى، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
ب. أنه لا ينبغي الاغترار بظاهر أحوال الناس.
ج. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنهم لو أقروا عن معرفةٍ كان إيمانا.
د. أن ذلك القول فعلهم.
هـ. بطلان قول أصحاب المعارف أنه لا كافر إلا معاند؛ لأنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون.
و. أن ما فعلوا من الخداع فِعْلُهُم، وليس بخلق لله؛ لذلك ذمهم به وأضافه إليهم.
ز. على قبح الخداع في الدين.
ح. أن الشك في الدين كفر وضلال.
ط. قبح الكذب، وأنه كبيرة يستحق عليه العذاب، وكذلك التكذيب والكذب هو خبر بخلاف مخبره، ولا يشترط فيه العلم عندنا، وعند الجاحظ يشترط.
ك. بطلان قول أصحاب المعارف بقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ وتدل على عظيم جرمهم بالفساد في الأرض والنفاق في الدين.
ل. حسن الدعاء إلى الإسلام بذكره المسلمين وما هم عليه وما يرجون.
م. عظم جهل القوم حيث تجاسروا على مثل هذا القول.
ن. بطلان قول أصحاب المعارف حيث وصفهم بالسفه، وهو الجهل، وبأنهم لا يعلمون.
س. قبح النفاق في الدين، والتحذير من ذلك، وكذلك الرياء.
ع. قبح الاستهزاء بأهل الحق.
ف. عظيم الجرم في موافقة أهل الكفر.
ص. أنه يجازي كل أحد بفعله.
ق. عظم حال المتحير في الدين تحذيرًا من مثل حالهم، وتحث على التباعد عما يؤدي إليه.
ر. أن العاقل إذا عرض له طريقان، ينبغي أن يختار طريق النجاة، ويجتنب طريق الهلاك، خلاف ما فعله هَؤُلَاءِ.
ش. أن من ترك الهدى والحق واتبع الضلال فقد خسر.
ت. التحذير من مثل حال هَؤُلَاءِ المنافقين.
28. مسائل نحوية:
أ. جاز ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ بالفتح، ولم يجز مثل ذلك في ﴿عَنْ﴾ لأن (مِنْ) كره الكسر فيها لالتقاء الساكنين استثقالاً لتوالي الكسرتين، فأما (عن) فأجريت على الأصل.
ب. الباء في قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ مؤكدة للنفي.
ج. وَحَّدَ ﴿يَقُولُ﴾، وجمع ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ :
• لأن لفظها على التوحيد.
• ويحتمل لإيهامها أن تقع على الجمع، قال الفرزدق:
تَعَالَ فَإِنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخُوُننِي.. نكُنْ مثلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يصطحِبَانِ
وقال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ﴾ ثم قال: ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ فأجراه مرة على اللفظ، ومرة على المعنى.
ج. ﴿مَا﴾ في قوله ﴿بِمَا كَانُوا﴾ :
• قيل: ما المصدرية، كأنه قيل: بكونهم مكذبين، وهو أحسن في التقدير.
• وقيل: إنها بمعنى الذي، كأنه قال: بالذي كانوا يكذبون.
د. ﴿كَانَ﴾ قيل: زائدة، فالمعنى بتكذيبهم، كقولهم: ما أحسن ما كان زيد، وهذا لا يصح؛ لأن الكلام إذا صح على ظاهره فلا معنى لحمله على الزيادة، وههنا الكلام على ظاهره صحيح.
هـ. ﴿إِلَّا﴾ : تنبيه يدخل على كل كلام مكتف بنفسه، تقول: ألا إنه زيد منطلق، قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴾، وأصله (لا) دخل عليه ألف الاستفهام، والألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير والتحقيق، كقوله: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ ثم كثر (ألا) في الكلام حتى صار تنبيهًا ليتحقق السامع ما بعده، فمعنى الأصل فيه موجود.
و. ﴿هُمْ﴾ في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ فإن كانت فصلا فلا موضع لها من الإعراب، ويحتمل أن تجعل في (أَلاَ إِنَّهم هُمُ) فصلا واسمًا، فإن جعلناه اسمًا كانت رفعا بالابتداء، والجملة خبر (إنَّ)، وفي الفصل يكون المفسدون خبر إن، وضم الميم في (هُمُ) لالتقاء الساكنين بالرد إلى الأصل، وأجاز الفراء الكسر.
ز. موضع ﴿إِذَا﴾ من الإعراب نصب، كأنك قلت: يوم الجمعة قالوا، و(إذا) اسم للوقت إلا أنه يشبه حرف الجزاء، وموضع الجملة المحكية بعد قيل الرفع، على تقدير: قيل لهم خير، فالجملة اسم ما لم يسم فاعله، والجملة الثانية في موضع نصب، تقديره كأنه قيل: قالوا شرًّا.
ح. تكسر (إن) في ثلاثة مواضع: في الحكاية بعد القول على الاستئناف، وفي الابتداء، وفي دخول اللام على خبرها، في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ وكسرت (إن) في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ﴾ لأنه يستأنف الكلام بعده، قال امرؤ القيس:
أَلاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْوَةً.. وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَملْبَسَا
ط. الألف في قوله: ﴿أَنُؤْمِنُ﴾ ألف إنكار، أصلها الاستفهام، كقوله: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ .
ي. ﴿لَكِنِ﴾ كلمة جمع وحذف واشتراك، أما الجمع فلأنها مبنية من (لا) على النفي، وكاف الخطاب، و(إن) الإثبات، وأما الحذف فلأنه حذف عنها الهمزة، وتقلب كسرة (إن) إلى الكاف فصار لكن، وأما الاشتراك فلأنه اجتمع فيه النفي والإثبات؛ لأنها تنفي ما قبلها، وتثبت ما بعدها، وهي تخفف وتثقل، فإذا ثقلت نصب ما بعدها، كما تنصب (أنْ) المشددة، فإذا خففت رفعت كما ترفع (أنْ) المخففة، ولا تجيء هذه الكلمة إلا بعد نفي سابق، إما مضمر، وإما مظهر، كقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ وتجيء بغير واو في ابتداء الكلام، قال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وإذا جاء في ابتداء الكلام كان بمعنى الواو، كأنه قيل: والراسخون في العلم منهم.
ك. ﴿لَقُوا﴾ أصله: لَقِيُوا فاستثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى القاف، وسكنت الياء، والواو ساكنة فحذفت، لاجتماعها.
ل. اختلف في معنى ﴿إِلَى﴾ :
• قيل: بمعنى (مع)، كقوله تعالى: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي مع الله تعالى، وقيل: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ، عن النضر بن شميل.
• وقيل: هو بمعنى الغاية، يعني إذا انصرفوا من لقاء المؤمنين إلى شياطينهم، ويقال: خلوت به يحتمل معنيين هزئت به وسخرت، وانفردت به، فأما خلوت إليه فلا يحتمل إلا أنك جعلته غايتك في حاجتك، فلهذا قال: ﴿خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾
م. الأصل في (إنا): إننا، حذفت النون استثقالاً للتضعيف، والمحذوف هو النون الثانية؛ لأنها هي التي حذفت في ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ وقد جاء على الأصل في قوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾
ن. الوجه في واو الجمع عند التقاء الساكنين بالضم في قوله: ﴿اشْتَرَوْا﴾ ولم يكن كذلك في: ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ :
• قيل: لما كانت الواو من علامة الجمع كان الضم أدل عليها، وأشكل بها؛ لأنها زيدت بمعنى الجمع، فزيد بما هو أدل على الجمع.
• وقيل: لما كانت تلزمها الضمة قبلها ـ ما لم يعترض عليه ـ ثم احتيج إلى تحريكها حركت بالضم ليدل الضم فيها على الضم قبلها، فأما ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ فهو، على أصل الحركة في التقاء الساكنين.
س. دخلت الفاء في قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ لأن في الكلام معنى الجزاء وجوابه، كأنه قال: إذا اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجاوتهم، فحمل الكلام على المعنى.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/242.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المرض: العلة في البدن، ونقيضه الصحة، قال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا.. ومرضته: قمت عليه ووليته.
ب. زاد فعل يتعدى إلى مفعولين، قال الله تعالى ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً﴾ ومصدره الزيادة والزيد، قال: (كذلك زيد المرء بعد انتقاصه)
ج. الأليم: الموجع فعيل بمعنى مفعل كالسميع بمعنى السميع، والنذير بمعنى المنذر، والبديع بمعنى المبدع، قال ذو الرمة: (يصك وجوهها وهج أليم)
د. الكذب: ضد الصدق، وهو الإخبار عن الشيء لا على ما هو به، والكذب: ضرب من القول وهو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قوله (قد قالت الأنساع للبطن الحقي)، جاز أيضا في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله: وذبيانية وصت بنيها... بأن كذب القراطف، والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنه إذا أخبر عن الشيء بخلاف ما هو به، كان فيه انتفاء للصدق أي: كذب القراطف، فأوجدوها بالغارة.
هـ. الإفساد: إحداث الفساد، وهو كل ما تغير عن استقامة الحال.
و. الصلاح: نقيض الفساد.
ز. الأرض: مستقر الحيوان، ويقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها.
ح. السفهاء: جمع سفيه، والسفيه: الضعيف الرأي الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار، ولذلك سمى الله الصبيان والنساء سفهاء بقوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ .. وقال قطرب: السفيه العجول الظلوم، القائل خلاف الحق.. وقال مؤرج: السفيه الكذاب البهات، المتعمد بخلاف ما يعلم.. وقيل: السفه خفة الحلم، وكثرة الجهل، يقال: ثوب سفيه: إذا كان رقيقا باليا.. وسفهته الرياح أي: طيرته.. وقد جاء في الأخبار: إن شارب الخمر سفيه.
ط. اللقاء: نقيض الحجاب، قال الخليل: كل شيء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه.. وأصل اللقاء: الاجتماع مع الشيء على طريق المقاربة، والاجتماع قد يكون لا على طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل.
ي. الخلاء: نقيض الملاء، ويقال: خلوت إليه، وخلوت معه، ويقال: خلوت به على ضربين أحدهما: بمعنى خلوت معه، والآخر: بمعنى سخرت منه.
ك. يستهزئون أي: يهزؤون، ومثله يستسخرون أي: يسخرون.
ل. المد: أصله الزيادة في الشيء، والمد: الجذب، لأنه سبب الزيادة في الطول.. والمادة: كل شيء يكون مددا لغيره.. وقال بعضهم: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه: فهو مددت بغير ألف، كما تقول مد النهر، ومده نهر آخر، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو: أمددت بالألف، كما يقال: أمد الجرح، لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش.
م. الطغيان: من قولك طغى الماء يطغى: إذا تجاوز الحد.. والطاغية: الجبار العنيد.
ن. العمه: التحير، يقال: عمه يعمه فهو عمه وعامه.
قال رؤبة:
ومهمه أطرافه في مهمه... أعمى الهدى بالحائرين العمه
س. حقيقة الاشتراء: الاستبدال، والعرب تقول لمن تمسك بشيء، وترك غيره: قد اشتراه، وليس ثم شراء ولا بيع، قال الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا إزعرا... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيدرا... كما اشترى المسلم إذ تنصرا
ع. الربح: الزيادة على رأس المال، ومنه (ومن نجا برأسه فقد ربح)
ف. التجارة: التعرض للربح في البيع وقوله (فما ربحت تجارتهم) أي: فما ربحوا في تجارتهم، والعرب تقول: ربح بيعك وخسر بيعك وخاب بيعك على معنى ربحت في بيعك، وإنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها.
2. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة.. وهو يقتضيه نظم الكلام.
ب. وقيل: وروي عن سلمان، أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد.
ج. ويجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء، فيكون قول سلمان محمولا على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ :
أ. قيل: أي: يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه، ويعلم أنه لا يخفى عليه خافية، وهذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته: ما أجهله يخادع الله، وهو أعلم به من نفسه أي: يعمل عمل المخادع، وهذا يكون من العارف، وغير العارف.
ب. وقيل: المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾ والمفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، فكذلك يخادعون، إنما هو من واحد فمعنى يخادعون: يظهرون غير ما في نفوسهم.
4. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا، وهم غير مؤمنين، أو بمجالستهم ومخالطتهم إياهم، حتى يفشوا إليهم أسرارهم، فينقلوها إلى أعدائهم.. والتقية أيضا تسمى خداعا، فكأنهم لما أظهروا الاسلام، وأبطنوا الكفر، صارت تقيتهم خداعا من حيث إنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم.
5. ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ إنهم وإن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر، فهم يخادعون أنفسهم، لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت، وهم يوردونها به العذاب الشديد، فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم.
6. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب، فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم، كما لو قاتل انسان غيره فقتل نفسه، جاز أن يقال إنه قاتل فلانا ولم يقتل إلا نفسه، وقوله ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ : يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق، وبأنهم لا يعلمون ذلك.
7. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ المراد بالمرض في الآية الشك والنفاق بلا خلاف، وإنما سمي الشك في الدين مرضا:
أ. لأن المرض: هو الخروج عن حد الاعتدال، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا، وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا.
ب. وقيل: أصل المرض الفتور، فهو في القلب فتوره عن الحق، كما أنه في البدن فتور الأعضاء.
8. تقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله ورسوله مرض أي: شك، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ :
أ. قيل: إن معناه ازدادوا شكا عندما زاد الله من البيان بالآيات والحجج، إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله، نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: ﴿ لم يزدهم دعائي إلا فرارا ﴾ لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح عليه السلام نسب إليه، وكذلك قوله ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ الآيات لم تزدهم رجسا، وإنما ازدادوا رجسا عندها.
ب. وقيل: ما قاله أبو علي الجبائي: إنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، المدينة، وبتمكنه فيها، وظهور المسلمين وقوتهم، فزادهم الله غما بما زاده من التمكن والقوة، وأمده به من التأييد والنصرة.
ج. وقيل: ما قاله السدي: إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا، وهذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أي من ترك ذكر الله.
د. وقيل: إن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم، فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم، والإخبار عن خبث سرائرهم، وسوء ضمائرهم، وسمي الغم مرضا: لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض.
هـ. قيل: ما قاله أبو مسلم الإصفهاني: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فكأنه دعاء عليهم، بأن يخليهم الله وما اختاروه، ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والالطاف ما يعطي المؤمنين، فيكون خذلانا لهم، وهو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم، وإن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم.
10. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ : وهو عذاب النار ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي: بتكذيبهم الله ورسوله فيما جاء به من الدين، أو بكذبهم في قولهم ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
11. ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ للمنافقين ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بعمل المعاصي، وصد الناس عن الإيمان، على ما روي عن ابن عباس، أو بممالأة الكفار، فإن فيه توهين الاسلام على ما قاله أبو علي، أو بتغيير الملة، وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك.
12. ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: إن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح، لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين.
ب. والآخر: إنهم جحدوا ذلك، وقالوا: إنا لا نعمل بالمعاصي، ولا نمالئ الكفار، ولا نحرف الكتاب، وكان ذلك نفاقا منهم، كما قالوا ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ ولم يؤمنوا.
13. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ﴾ أي: اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا ﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ وهذا تكذيب من الله تعالى لهم.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ :
أ. قيل: أي: لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد، وليس بصلاح، ولو علموا ذلك لرجي صلاحهم.
ب. وقيل: لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب.
15. هذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف، لقوله ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ وإنما جاز تكليفهم، وإن لم يشعروا أنهم على ضلال، لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك.
16. ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ وإذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما أنزل عليه:
أ. قيل: كما صدقه أصحابه.
ب. وقيل: كما صدق عبد الله بن سلام، ومن آمن معه من اليهود، قالوا أنصدق كما صدق الجهال.
17. ثم كذبهم الله تعالى، وحكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة، لأن الجاهل إنما يسمى سفيها، لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق، يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به.
18. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني إن المنافقين إذا رأوا المؤمنين ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أي: صدقنا نحن بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما صدقتم أنتم.
19. ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾،
أ. قيل: رؤساؤهم من الكفار، عن ابن عباس.
ب. وقيل: هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب.
ج. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: إنهم كهانهم ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي: على دينكم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: نستهزئ بأصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونسخر بهم في قولنا آمنا.
20. قيل في معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن يكون معنى ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يجازيهم على استهزائهم، والعرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه، وفي التنزيل ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾، وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وإنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة.
ب. ثانيها: أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم: تخطئته إياهم، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر، وإصرارهم على الضلال، والعرب تقيم الشيء مقام ما يقاربه في معناه، قال الشاعر:
إن دهرا يلف شملي بجمل... لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر:
كم أناس في نعيم عمروا... في ذرى ملك تعالى فبسق
سكت الدهر زمانا عنهم... ثم أبكاهم دما حين نطق
والدهر لا يوصف بالسكوت والنطق والهم، وإنما ذكر ذلك على الاستعارة والتشبيه.
ج. ثالثها: أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى، أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج: إنهم كلما أحدثوا خطيئة، جدد الله لهم نعمة.. وإنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة، والمراد به استدراجهم إلى الهلاك والعقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم.
د. رابعها: إن معنى استهزائه بهم: إنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة والمناكحة والمدافنة وغير ذلك من الأحكام، وإن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق، فهو سبحانه كالمستهزئ بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا، ثم ميزهم منهم في الآخرة.
هـ. خامسها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة، فيقبلون من النار إليه مسرعين، حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم، وفتح لهم باب آخر في موضع آخر، فيقبلون من النار إليه مسرعين، حتى إذا انتهوا إليه، سد عليهم، فيضحك المؤمنون منهم، فلذلك قال الله عز وجل: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾
وهذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى: ﴿ ويمكرون ويمكر الله ويخادعون الله وهو خادعهم ﴾
21. في قوله تعالى: ﴿ يمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا، وهم مع ذلك متمسكون بطغيانهم، وعمههم.
ب. والآخر: إنه يريد أن يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم، ويمنعها الكافرين عقابا لهم، كشرح الصدر وتنوير القلب، فهم في طغيانهم أي: كفرهم وضلالهم، يعمهون أي: يتحيرون، لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا وترددوا.
22. أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه: استبدلوا الكفر بالإيمان.
23. سؤال وإشكال: كيف قال ذلك وإنما كانوا منافقين، ولم يتقدم نفاقهم إيمانا؟ والجواب: للعلماء فيه وجوه:
أ. أحدها: إن المراد باشتروا استحبوا واختاروا، لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، عن قتادة.
ب. ثانيها: إنهم ولدوا على الفطرة، كما جاء في الخبر، فتركوا ذلك إلى الكفر، فكأنهم استبدلوه به.
ج. ثالثها: إنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا، لأنهم كانوا يبشرون بمحمد، ويؤمنون به صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما بعث كفروا به، فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان، عن الكلبي، ومقاتل.
24. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أي: خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان، والعذاب بالثواب، وقوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أي: مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وقيل: أراد سبحانه أن ينفي عنهم الربح والهداية، فإن التاجر قد يخسر ولا يربح، ويكون على هدى.
25. سؤال وإشكال: كيف قال فما ربحت تجارتهم في موضع ذهبت فيه رؤوس أموالهم؟ والجواب:
أ. إنه ذكر الضلالة والهدى، فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا وهلكوا، والمعنى فيه: إنه ذهبت رؤوس أموالهم.
ب. ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل، وهو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا، كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا.
26. مسائل نحوية:
أ. ﴿يُخَادِعُونَ﴾ : فعل وفاعل، والنون علامة الرفع، والجملة في موضع نصب بكونها حالا، وذو الحال الضمير الذي في قوله ﴿آمَنَّا﴾ العائد إلى من و ﴿اللَّهُ﴾ نصب ب ﴿يُخَادِعُونَ﴾ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ : عطف، وما: نفي.
ب. وإلا: إيجاب.. وأنفسهم: نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية.. وما: نفي.. ويشعرون: فعل وفاعل.
ج. كل موضع يأتي فيه ﴿إِلَّا﴾ بعد نفي فهو إيجاب، ونقض للنفي.
د. ﴿إِذَا﴾ : لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفا زمانيا، وفيها معنى الشرط، وإنما يعمل فيها جوابها.. ففي هذه الآية إذا: في محل نصب، لأنه ظرف، قالوا: لأنه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيه ﴿قِيلَ لَهُمُ﴾ لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وكذلك قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ .. وإذا: مبني وإنما بني لتضمنه معنى في، ولزومه إياه.. وقد يكون ﴿إِذَا﴾ ظرفا مكانيا في نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوف أي: ففي المكان الناس وقوف، ويجوز أن ينصب وقوفا على الحال، لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبرا عن الجثة.. وقيل: مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح.
هـ. ﴿لَا﴾ : حرف نهي، وهي تعمل الجزم في الفعل: و ﴿تُفْسِدُوا﴾ : مجزوم بلا، وعلامة الجزم فيه سقوط النون، والواو: ضمير الفاعلين.
و. ما في قوله ﴿إِنَّمَا﴾ : كافة كفت إن عن العمل، فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأ وخبرا، وهو قوله ﴿نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ : فنحن: مبتدأ، ومصلحون: خبره.
ز. موضع الجملة نصب ب ﴿قَالُوا﴾، كما تقول: قلت حقا أو باطلا.
ح. ﴿نَحْنُ﴾ : مبنية لمشابهتها للحروف، وبنيت على الضم، لأنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع، والضمة بعض الواو، والواو علامة الجمع في نحو ضاربون ويضربون.
ط. ﴿تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ : جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شيء، فهي اسم ما لم يسم.
ي. ﴿ألَا﴾ : كلمة تنبيه وافتتاح للكلام، تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قوله ﴿أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ﴾ وأصله ﴿لَا﴾ دخل عليه ألف الاستفهام، والألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير والتحقيق، كقوله: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾، لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى.
ك. هم: في ﴿إِنَّهُمْ﴾ في موضع نصب بأن.. و ﴿هُمْ﴾ الآخر: يجوز أن يكون فصلا، ويجوز أن يكون مبتدأ.
ل. ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ خبره، والجملة خبر إن.
م. ضم الميم من ﴿هُمْ﴾ لالتقاء الساكنين ردوه إلى الأصل.
ن. ﴿كَمَا آمَنَ﴾ : الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف، وما مع صلته بمعنى المصدر أي: آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه.
س. الهمزة في ﴿أَنُؤْمِنُ﴾ للإنكار، وأصلها الاستفهام، ومثله: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ .
ع. إذا: ظرف لقوله ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ﴾ وقد مض الكلام فيه.
ف. الألف واللام في الناس، وفي السفهاء، للعهد، لا للجنس، والمراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم.
ص. ﴿أَنَا﴾ : أصله إننا، لكن النون حذفت لكثرة النونات، والمحذوفة النون الثانية من إن، لأنها التي تحذف في نحو: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ﴾ وقد جاء على الأصل في قوله: (إنني معكما ومعكم) انتصب انتصاب الظروف نحو: إنا خلفكم أي: إنا مستقرون معكم.
ق. ﴿يَعْمَهُونَ﴾ جملة في موضع الحال.
ر. ﴿أُولَئِكَ﴾ : موضعه رفع بالابتداء، وخبره ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ .
ش. ﴿مَا﴾ : حرف نفي، وكان صورته صورة الفعل، ويستعمل على نحوين أحدهما: أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد، مثل كان زيد قائما، فإذا استعمل على هذا، فلا بد له من خبر، لأن الجملة غير مكتفية بنفسها، فيزاد خبر حديثا عن الاسم، ويكون اسمه وخبره في الأصل مبتدأ وخبرا، فيجب لذلك أن يكون خبره هو الاسم، أو فيه ذكر منه، كما أن في الآية الواو في موضع الرفع، لأنه اسم كان.
ت. ﴿مُهْتَدِينَ﴾ : منصوب بأنه خبره، والياء فيه علامة النصب والجمع، وحرف الإعراب والنون عوض من الحركة، والتنوين في الواحد.. وكان في الأصل مهتديين سكنت الياء الأولى التي هي لام الفعل، استثقالا للحركة عليها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وفتحت النون فرقا بينها وبين نون التثنية.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/133.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلفوا فيمن نزلت على الأقوال التالية:
أ. أنها في المنافقين، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد.
ب. أنها في منافقي أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. قال ابن سيرين: كانوا يتخوّفون من هذه الآية، وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدّق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيرها، ويتكفّأ تكفّؤ السّفينة، كلما هبّت ريح هبّ معها.
د. عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أبيّ، ومعتّب بن قشير، والجدّ بن القيس؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنّا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فإذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية.
2. الخديعة: الحيلة والمكر، وسمّيت خديعة، لأنها تكون في خفاء، والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فإذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع، وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمّد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمّي الدّهر خدّاعا، لتلوّنه بما يخفيه من خير وشرّ.
3. في معنى خداعهم الله خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس؛ واختاره ابن قتيبة.
ب. الثاني: أنهم كانوا يخادعون نبيّ الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾، قاله الزّجّاج.
ج. الثالث: أن الخادع عند العرب: الفاسد، وأنشدوا... طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع.. أي: فسد. رواه محمّد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ. قال ابن القاسم: فتأويل: يخادعون الله: يفسدون ما يظهرون من الإيمان بما يضمرون من الكفر.
د. الرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين الله ما لو فعلوه بينهم كان خداعا.
هـ. الخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به.
4. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وما يخادعون) وقرأ الكوفيون، وابن عامر: (يخدعون)، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم.
5. متى يعود وبال خداعهم عليهم، فيه قولان:
أ. أحدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين:
• أحدهما: بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذابا.
• الثاني: باطلاع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين على أحوالهم التي أسرّوها.
ب. الثاني: أن عود الخداع عليهم في الآخرة، وفي ذلك قولان:
• أحدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ الآية.
• الثاني: أنه يعود عليهم عند اطّلاع أهل الجنّة عليهم، فإذا رأوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾، فيجيبونهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
6. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي: وما يعلمون، وفي الذي لم يشعروا به قولان:
أ. أحدهما: أنه إطلاع الله نبيّه على كذبهم، قاله ابن عبّاس.
ب. الثاني: أنه إسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد.
7. اختلف فيمن أريد بهذا القول على وجهين:
أ. قيل: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد.
ب. وقيل: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسيّ.
8. المراد بالفساد هنا خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل.
ج. الثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدّيّ عن أشياخه.
د. الرابع: أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد.
هـ. الخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله.
9. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ خمسة أقوال:
أ. أن معناه إنكار ما عرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئا يوجب الفساد.
ب. أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس.
ج. أنهم أرادوا: في مصافاة الكفار صلاح لا فساد، قاله مجاهد وقتادة.
د. أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمّد هو الفساد، قاله السّدّيّ
هـ. أنهم ظنّوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدّولة إن كانت للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد أمنوه بمتابعته، وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ :
أ. قيل: لا يشعرون أن الله يطلع نبيّه على فسادهم.
ب. وقيل: لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح.
11. اختلف في المقول لهم:
أ. قيل: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل.
ب. وقيل: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد.
12. اختلف في القائلين لهم:
أ. قيل: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عبّاس، ولم يعيّن أحدا من أصحابه.
ب. وقيل: أنهم معيّنون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة وأسيد، ذكره مقاتل.
13. في الإيمان الذي دعوا إليه قولان:
أ. أحدهما: أنه التصديق بالنّبيّ، وهو قول من قال هم اليهود.
ب. الثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال هم المنافقون.
14. في المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل.
ج. الثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدّهم الكلبيّ.
15. فيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبّاس.
ب. الثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن.
ج. الثالث: ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل.
16. فيما عنوه بالغيب من إيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم أرادوا دين الإسلام، قاله ابن عباس، والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد.
ج. الثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة.
وهذا الوجه والذي قبله يخرّج على أنهم المنافقون، والأول يخرّج على أنهم اليهود.
17. الشّياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرّد عند العرب شيطان، وفي هذا الاسم قولان:
أ. أحدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليّة. قال أميّة بن أبي الصّلت في صفة سليمان عليه السلام:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثمّ يلقى في السّجن والأغلال
عكاه: أوثقه، وقال النّابغة:
نأت بسعاد عنك نوى شطون... فبانت والفؤاد بها رهين
ب. والثاني: أنه من شاط يشيط: إذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة، وأنشدوا: وقد يشيط على أرماحنا البطل.. أي: يهلك.
18. في المراد: بشياطينهم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عبّاس، والحسن، والسّدّيّ.
ب. الثاني: إخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد.
ج. الثالث: كهنتهم، قاله الضّحّاك، والكلبيّ.
19. قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: أنّهم أرادوا: إنا معكم على دينكم.
ب. الثاني: إنا معكم على النّصرة والمعاضدة، والهزء: السّخرية.
20. اختلف في معنى استهزاء الله بهم على تسعة أقوال:
أ. أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنّة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس0
ب. الثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النّار لهم كما تجمد الإهالة في القدر، فيمشون فتنخسف بهم، روي عن الحسن البصريّ.
ج. الثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾، قاله مقاتل.
د. الرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظا وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أراد: فنعاقبه بأغلظ من عقوبته.
هـ. الخامس: أن الاستهزاء من الله تعالى التّخطئة لهم، والتّجهيل، فمعناه: الله يخطّئ فعلهم، ويجهّلهم في الإقامة على كفرهم.
و. السادس: أن استهزاءه: استدراجه إيّاهم.
ز. السابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم، ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباريّ.
ح. الثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذّل: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾
ط. التاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: يمكّن لهم، قاله ابن مسعود.
ب. الثاني: يملي لهم، قاله ابن عباس.
ج. الثالث: يزيدهم، قاله مجاهد.
د. الرابع: يمهلهم، قاله الزّجّاج.
الطّغيان: هو الزيادة على القدر، والخروج عن حيّز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السّيل: إذا جاء بماء كثير، وفي المراد بطغيانهم قولان:
أ. أحدهما: أنه كفرهم، قاله الجمهور.
ب. الثاني: أنه عتوّهم وتكبّرهم، قاله ابن قتيبة.
22. ﴿اشْتَرَوْا﴾ : بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئا على شيء مشتريا له، وبائعا للآخر.
23. الضلالة والضلال بمعنى واحد، وفيهما للمفسّرين ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن المراد بها ها هنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين.
ج. الثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم.
24. قيل في كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد.
ب. الثاني: أن اليهود آمنوا بالنّبيّ قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الهدى فردّوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء.
25. قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ . من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، يريد: بل مكرهم في الليل والنهار، ومثله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾، أي: عزم عليه، وأنشدوا:
حارث قد فرّجت عنّي همّي... فنام ليلي وتجلّى غمّي
والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال ويعلم مقصود قائله، فأمّا إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن يقول: ربح عبدك، وتريد: رَبِحَتْ في عبدك، وإلى هذا المعنى ذهب الفرّاء وابن قتيبة والزّجّاج.
26. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ فيه خمسة أقوال:
أ. أحدها: وما كانوا في العلم بالله مُهْتَدِينَ.
ب. الثاني: وما كانوا مُهْتَدِينَ من الضلالة.
ج. الثالث: وما كانوا مُهْتَدِينَ إلى تجارة المؤمنين.
د. الرابع: وما كانوا مُهْتَدِينَ في اشتراء الضلالة.
هـ. الخامس: أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدى من تجارته غير مستحقّ للذّم فيما اعتمده، فنفى الله عزّ وجلّ عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم.
__________
(1) زاد المسير: 1/31.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أجمع المفسّرون على أن ذلك في وصف المنافقين، قالوا: وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين، فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك.
2. قول مجاهد: إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً، وهو بعيد، لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم:
أ. لا توجب كون جرمهم أعظم، فإن عظم فلغير ذلك، وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء، وطلب الغوائل إلى غير ذلك.
ب. ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار.
3. اختلف في اشتقاق لفظ الإنسان:
أ. يروى عن ابن عباس أنه قال سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، وقال الشاعر. سميت إنساناً لأنك ناسي، وقال أبو الفتح البستي:
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس... وأكثر الناس إفضالًا على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر... فاغفر فأول ناس أول الناس
ب. سمي إنساناً لاستئناسه بمثله.
ج. إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29] كما سمي الجن لاجتنانهم.
ولا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر.
4. هذه الآية دالة على أمرين:
أ. أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقرّ به فإنه لا يكون مؤمناً، لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وقالت الكرامية: إنه يكون مؤمناً.
ب. أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله، ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً:
• أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً، لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بد وأن يكون مؤمناً.
• وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان، فبطل قول من قال من المتكلمين: إن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً.
5. سؤال وإشكال: المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر، ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام، فلم كذبهم في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر؟ والجواب: إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور، وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لأنهم يعتقدونه جسماً، وقالوا عزير ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه.
6. سؤال وإشكال: كيف طابق قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ والجواب: أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تكذيبه، يعني أنه ليس من هذا الجنس، فكيف يظن به ذلك؟ فكذا هاهنا لما قالوا آمنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ كان ذلك مبالغة في تكذيبهم، ونظيره قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ هو أبلغ من قولهم: وما يخرجون منها.
7. سبب تسميته باليوم الآخر:
أ. يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم، الذي لا ينقطع له أمد.
ب. ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة، وما بعده فلا حد له.
8. لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان، وقالوا: خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلًا، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع.
9. حد الخديعة هو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين، لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع، وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس.
10. مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً، فإذا كان الله تعالى لا يخفى عليه البواطن لم يصح أن يخادع.
ب. الثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى.
11. بناء على أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره، بل لا بد من التأويل، وهو من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى ذكر نفسه، وأراد به رسوله على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10]، وقال في عكسه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: 41] أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه، فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى.
ب. الثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم.
12. الغرض من ذلك الخداع وجوه:
أ. الأول: أنهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا.
ب. الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم أسراره، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار.
ج. الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).
د. الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم، فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كيفية مكرهم وخداعهم، فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم؟ قلنا: إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو الحكمة لا يطلع عليها إلا هو.
13. وبال ذلك راجع للمنافقين في الدنيا، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَخادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142] وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: 14، 15]، وقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13]، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ [النمل: 50]، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: 15، 16]، وقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: 33]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: 57]
14. النفس ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: 116]، والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لا يعدوهم إلى غيرهم.
15. الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس، ومشاعر الإنسان حواسه، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس.
16. المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب.
17. سؤال وإشكال: الزيادة من جنس المزيد عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الكفر والجهل لكان قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ محمولًا على الكفر والجهل، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلًا للكفر والجهل، والجواب: بناء على ما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم بأنه لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل،، ولذلك فإن الجواب من وجوه:
أ. أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمرنا بالإيمان؟
ب. أنه تعالى لو كان فاعلًا للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره.
ج. أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم.
د. قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم؟
هـ. أنه تعالى أضافه إليهم بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض، وأنهم هم السفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم.
18. بناء على هذا لا بد من التأويل، وهو من وجوه:
أ. يحمل المرض على الغم، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبت أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك كان يؤثر في زوال رئاستهم، كما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه، فقال له بعض الأنصار: اعذره يا رسول الله، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا، فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعظيم شأنه.
ب. أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 125]، والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك، وكقوله تعالى حكاية عن نوح ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: 5، 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: 49] والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن لم يأذن له لم يفتنه، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: 64]، وقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: 42]، وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده: ما زادتك موعظتي إلا شرًّا، وما زادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله.
ج. المراد من قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ المنع من زيادة الألطاف، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلًا لهم وهو كقوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4]
د. أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض، فيقولون: جارية مريضة الطرف. قال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والانكسار، فقال تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حقق الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: 2]
هـ. أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه.
19. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله: تحية بينهم ضرب وجيع، وهذا على طريقة قولهم: جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد.
20. الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به، والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر، وهذا الآية حجة عليه.
21. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً، فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.
22. في هذه الآية قراءتان. إحداهما: ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ والمراد بكذبهم قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، والثانية: (يكذبون) من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق.
23. اختلف فيمن القائل ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾، قيل: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، والأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك:
أ. فإما أن يكون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك، فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين.
ب. وإما أن يقال: إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلًا لهم: ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾
24. المنافقون كانوا يخبرون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، وأنهم كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم، وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 74] وقال: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ [التوبة: 96]
25. الفساد هو خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح، وأن كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً، واختلف فيه على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [محمد: 22] نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به.
ب. ثانيها: أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرئ الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض.
ج. ثالثها: قال الأصم: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه.
26. الذين قالوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان:
أ. أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد.
ب. أنا إذا فسرنا ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾ بمداراة المنافقين للكفار فقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 62] فقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي نحن نصلح أمور أنفسنا.
27. استدلّ العلماء بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة.
28. قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ لأن الكفر فساد في الأرض، إذ فيه كفران نعمة الله، وإقدام كل أحد على ما يهواه، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد، ولهذا قال: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾
29. لما نهاهم الله تعالى في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم بعدها بالإيمان، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، والقائل: ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ إما الرسول، أو المؤمنون، ثم كان بعضهم يقول لبعض: أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ .
30. معنى قوله تعالى: ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق.
31. سؤال وإشكال: قوله: ﴿آمَنُوا﴾ كاف في تحصيل المطلوب، وذكر قوله: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ لغو، والجواب: الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ .
32. للام في ﴿النَّاسِ﴾ وجهان:
أ. أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه، وهم ناس معهودون، أو عبد الله بن سلام وأشياعه. لأنهم من أبناء جنسهم.
ب. أنها للجنس ثم ها هنا أيضاً وجهان:
• أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا، منهم وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر.
• أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي.
33. السفه الخفة يقال: سفهت الريح الشيء إذا حركته، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رياح تسفهت... أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي:
سفيه الرمح جاهله إذا ما... بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه، لأنه خفيف لا رزانة له، وقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (شارب الخمر سفيه) لقلة عقله.
34. إنما سمى المنافقون المسلمين بالسفهاء، لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم باطل، والباطل لا يقبله إلا السفيه، فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة.
قلب الله تعالى عليهم هذا اللقب ـ وقوله الحق ـ لوجوه:
أ. أحدها: أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه.
ب. وثانيها: أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه.
ج. وثالثها: أن من عادى محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.
إنما قال في آخر هذه الآية: ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ وفيما قبلها: ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾ لوجهين:
أ. الأول: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس.
ب. الثاني: أنه ذكر السفه وهو جهل، فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له.
35. اختلف في سبب قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ :
أ. الأول: أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك.
ب. الثاني: أن قولهم للمؤمنين ﴿آمَنَّا﴾ يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب.
36. يقال خلوت بفلان وإليه، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من (خلا) بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، ومن (خلوت به) إذا سخرت منه، من قولك: خلا فلان بعرض فلان) أي: يعبث به.. ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك.. وشياطينهم: هم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم.
37. ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ اختلف في القائل لهذا، أهم كل المنافقين أو بعضهم:
أ. من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم، وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا، وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم، لئلا يتوهموا فيهم المباينة.
ب. من يقول في الشياطين: المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين.
ج. ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض، وأما أصاغرهم فلا.
38. كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الاسمية محققة (بأن) لأن:
أ. ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة، وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين.
ب. أما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جرم كان التأكيد لائقاً به.
39. أصل الاستهزاء الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحده أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم.
40. تعلق قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ بقوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ من باب التوكيد له، لأن قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ معناه الثبات على الكفر، وقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا: إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ﴾ مستهزئون.
41. سؤال وإشكال: كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: ﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67] والجهل على الله محال، والجواب: في التأويل خمسة أوجه:
أ. أحدها: أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، وقال: ﴿ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَخادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، وقال: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني)، أي أجزه جزاء هجائه، وقال: تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)
ب. ثانيها: أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم.
ج. ثالثها: أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب.
د. رابعها: إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا.
هـ. خامسها: أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ إلى قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: 29 ـ 34] فهذا هو الاستهزاء بهم.
42. ابتدأ قوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ ولم يعطف على الكلام الذي قبله، وهو استئناف في غاية الجزالة والخفامة، وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
43. لم يقل: إن الله مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، لأن (يستهزئ) يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت، وهذا كانت نكايات الله فيهم: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: 126]، وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 64]، وقال: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ [التوبة: 55 ـ 57]، وقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المنافقون: 4 ـ 6]
44. قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ إنه من مدّ الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها، ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد، ومده الشيطان في الغي، وأمده إذا واصله بالوسواس، ومد وأمد بمعنى واحد.. قال بعضهم: مد يستعمل في الشر، وأمد في الخير قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ [المؤمنين: 55]
45. من الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال، وهذا خطأ لوجهين:
أ. الأول: أن قراءة ابن كثير، وابن محيصن (ونمدهم) وقراءة نافع (وإخوانهم يمدونهم في الغي) يدل على أنه من المدد دون المد.
ب. الثاني: أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له، كأملي له.
3. قالت المعتزلة ومن وافقهم: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه:
أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾ أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى.
ب. ثانيها: أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلًا لله تعالى فكيف يذمهم عليه.
ج. ثالثها: لو كان فعلًا لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً.
د. رابعها: أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾ [الأعراف: 202]
46. بناء على هذا أولو المد من وجوه:
أ. أحدها: وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم.
ب. ثانيها: أن يحمل على منع القسر والإلجاء، كما قيل: إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور.
ج. ثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
د. رابعاً: ما قاله الجبائي فإنه قال ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾
47. ذكر أن تأويل ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أي يمد عمرهم ضعيف من وجهين:
أ. الأول: لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ بالمد في العمر.
ب. الثاني: هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ وذلك يفيد الإشكال.
6. ذكر جواب المعتزلة على هذا بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا.
48. الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ [الحاقة: 11] أي جاوز قدره، وقال: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: 24] أي أسرف وتجاوز الحد.
49. العمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه.
50. اشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به.
51. سؤال وإشكال: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى، والجواب: جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به.
52. الضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
53. معنى قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أنهم ما ربحوا في تجارتهم، أسند الخسران إلى التجارة، وهو لأصحابها، وهو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري.. وذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة مما يقوي أمر المجاز ويحسنه، كما قال الشاعر:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية... وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا هاهنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه، تمثيلًا لخسارتهم وتصويراً لحقيقته.
54. معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسبية مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة، وقال قتادة: انتقلوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/300.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في كلمة ﴿النَّاسِ ﴾ :
أ. هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانه، على غير اللفظ، وتصغيره نويس، فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع: أناس من حلي أذني)
ب. وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الالف واللام فقيل: الناس.
ج. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا، وقال عليه السلام: نسي آدم فنسيت ذريته)، وفي التنزيل: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: 115]، وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:
لا تنسين تلك العهود فإنما... سميت إنسانا لأنك ناسي
وقال آخر:
فإن نسيت عهودا منك سالفة... فاغفر فأول ناس أول الناس
د. وقيل: سمي إنسانا لأنسه بحواء.
هـ. وقيل: لأنسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه... ولا القلب إلا أنه يتقلب
2. إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر.
3. لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والايمان طرفان، ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الايمان عنهم بقوله الحق: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، ففي هذا رد على الكرامية حيث قالوا: إن الايمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، والذين احتجوا بـ:
أ. قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة: 85]، ولم يقل: بما قالوا وأضمروا.
ب. قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم)
وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان)، أخرجه ابن ماجة في سننه، فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد.
4. المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راضي عنه، وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به.
5. الكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب:
أ. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له.
ب. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به.
6. لا يجوز أن يطلق القول بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: إن الله راضي عن المؤمنين في الوقت الذي كان يعبدون الأصنام، ومريد لثوابهم ودخولهم الجنة، لا لعبادتهم الصنم، لكن لإيمانهم الموافين به، وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به.
7. خالف القدرية في هذا وقالوا: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن المؤمنين وقت عبادتهم للأصنام، وقد رد عليهم بـ:
أ. أن هذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به المؤمنون فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا للمؤمنين.
ب. يدل عليه إجماع الامة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وإنما الأعمال بالخواتيم)
ج. ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الايمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا، لكن الايمان جرى السعادة في سوابق الأزل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عاريا، وربما يكون حقيقة.
د. يدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
هـ. أن ما روي عن أبي رزين العقيلي قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لأشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه) قال قلت: كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة) قلت: بلى. قال: (كذلك النشور) قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: ليس أحد من هذه الامة ـ أو قال من أمتي ـ عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو يغفرها إلا مؤمن).. هذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي، فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وإنما الأعمال بالخواتيم)، وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال.
8. اختلفوا في معنى ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ :
أ. قيل: يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم.
ب. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع.
ج. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الحسن وغيره، وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله، ومخادعتهم: ما أظهروه من الايمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين.
9. اختلف أهل اللغة في أصل كلمة الخداع، فقيل:
أ. أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الاعرابي، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه... طيب الريق إذا الريق خدع
فمعنى ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء، وكذا جاء مفسرا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما يأتي، وفي التنزيل: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ ). [النساء: 142]
ب. وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره، وتقول العرب: انخدع الضب في جحره.
10. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم، ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه، وهذا صحيح، لان الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه، ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد قال روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر) قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره)،(2).
11. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13]
12. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء أي فطنت له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني، ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت.
13. المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم، وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا، والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد.
14. المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، والقراء مجمعون على فتح الراء من ﴿مَرَضٌ﴾ إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء.
15. في تأويل قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ وجوه:
أ. معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ هو دعاء عليهم، ومعنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر:
يا مرسل الريح جنوبا وصبا... إذ غضبت زيد فزدها غضبا
أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه، وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله.
ب. هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 125]
ج. قال أرباب المعاني: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها، وقوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بما يفنى عما يبقى، وقال الجنيد: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن.
16. قوله تعالى: ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾ لا نهى، والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد.
17. اختلف في نوع فسادهم:
18. قيل: أن المعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الايمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن.
19. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ارتفع الفساد وصلحت الأرض، فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ ) [الأعراف: 56]
20. قوله عز وجل: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ رد عليهم وتكذيب لقولهم، قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ وهذا صحيح.
21. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أي صدقوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون) (3).
22. قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ مثل ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه (بالضم في المستقبل) غلبته بالعلم.
23. اختلف في وصل (خلوا بـ (إلى) وعرفها أن توصل بالباء على الأقوال التالية:
أ. قيل: (خلوا) هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق:
كيف تراني قالبا مجني... أضرب أمري ظهره لبطن
ب. قال قوم: (إلى) بمعنى مع، وفيه ضعف.
ج. قال قوم: (إلى) بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه.
د. قيل: المعنى ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ (إلى) على بابها.
24. الشياطين جمع شيطان على التكسير، واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا:
أ. قال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر.
ب. قال الكلبي: هم شياطين الجن.
ج. قال جمع من المفسرين: هم الكهان.
د. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الايمان والخير يعم جميع من ذكر.
25. قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي مكذبون بما ندعى إليه، وقيل: ساخرون.
26. اختلف في معنى الهزء على قولين:
27. السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسله... قالت أراه معدما لا مال له
28. وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر:
قد استهزؤوا منهم بألفي مدجج... سراتهم وسط الصحاصح جثم
29. قوله تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما، وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة، وقال:
تهزأ مني أخت آل طيسله... قالت أراه مبلطا لا شي له
30. ورد في القرآن الكريم الكثير مما يدل على هذا، ومنه:
أ. قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب.
ب. ومثله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54]، و ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: 16 15]، و ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ .. ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم.
ج. وكذلك ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142]، ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا)، قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا، وقيل المعنى وأنتم تملون، وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل.
31. قال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم.
32. قال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج)، ثم نزع بهذه الآية: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الانعام: 45 44]، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ : [الأعراف: 182] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة.
33. قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال ﴿أَنَّمَا نُمْلِي﴾ ﴾ لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ﴾ [آل عمران: 178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ ). [الاسراء: 6]، وقال: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ ﴾ ولَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [الطور: 22]
34. حكى عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته، وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهر النهر، وفي التنزيل: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ [لقمان: 27]، وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ ﴾ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ﴾. [آل عمران: 125]، وأمد الجرح، لان المدة من غيره، أي صارت فيه مدة.
35. قوله تعالى: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ كفرهم وضلالهم، واصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان، وقوله في فرعون: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.
36. قوله تعالى: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يعمون، وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر، وحكى أهل اللغة: عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عمه، وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر أين ذهبت، والعمى في العين، والعمه في القلب وفي التنزيل: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ) [الحج: 46]
37. اشتروا: من الشراء، والشراء هنا مستعار، والمعنى استحبوا الكفر على الايمان، كما قال ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17] فعبر عنه بالشراء، لان الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه.. أما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لان المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم.. قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الايمان، وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لان الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
38. أصل الضلالة: الحيرة، ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال عز وجل: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 20] أي الناسين، ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ ) [السجدة: 10]
39. في قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: رَبِحَتْ وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم، وقال الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
40. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ في اشترائهم الضلالة، وقيل: في سابق علم الله، والاهتداء ضد الضلال.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/193.
(2) تفسير القرطبي: 1/197.
(3) تفسير القرطبي: 1/206.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخداع في أصل اللغة: الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد:
أبيض اللّون رقيق طعمه... طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع
وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره.
2. المراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع.
3. صيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم.
4. المراد بالمخادعة من الله؛ أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنّه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه.
5. المراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهرا وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر.
6. المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين أنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال من خادعته فانخدع لك فقد خدعك.
7. المراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة وهي كذلك تمنيهم.
8. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت.. والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار، ومشاعر الإنسان: حواسه، والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له، والمراد بالأنفس هنا ذواتهم، لا سائر المعاني التي تدخل في مسمّى النفس، كالروح والدم والقلب.
9. المرض: كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصّحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، وقيل: هو الألم، فيكون على هذا مستعارا للفساد الذي في عقائدهم إما شكا ونفاقا، أو جحدا وتكذيبا.
10. تقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها، مبالغة في تعلّق هذا الداء بتلك القلوب لما كانوا عليه من شدّة الحسد وفرط العداوة.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ :
12. الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من النعم، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية.
13. أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق.
14. قول سلمان: لم يجيء أهل هذه الآية بعد، معناه على وجهين:
أ. يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد.
ب. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين؛ كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.
15. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض، حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، ردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ.
16. لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّا مؤكدا مبالغا فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما.
17. نفي الشعور عنهم يحتمل:
أ. أنهم لمّا كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد.
ب. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام.
18. إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاء واستخفافا، فتسبّبوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول.
19. حصر السفاهة وهي رقّة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعملون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازا، تنزيلا لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، وأنهم متصفون به؛ ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلّا جاهل.
20. خلوت بفلان وإليه: إذا انفردت به، وإنما عدّي بإلى وهو يتعدّى بالباء فيقال: خلوت به لا خلوت إليه، لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا.
21. الشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شطّ: أي بعد. أو شاط: أي بطل، وشاط: أي احترق، وأشاط: إذا هلك قال: وقد يشيط على أرماحنا البطل، أي يهلك، وقال آخر:
وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا... لمعترك بين الفوارس أقتما
أي أهلكت، وحكى سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثم يلقى في السّجن والأغلال
22. قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه.
23. ردّ الله ذلك عليهم بقوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين.
24. إنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة، وقد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفا له في معناه، وورد ذلك في القرآن كثيرا، ومنه: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ والجزاء لا يكون سيئة، والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ و ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾، و ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، و﴿ يُخادِعُونَ اللهَ وهُوَخادِعُهُمْ ﴾، و ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾، وهو في السنة كثير كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا)
25. إنما قال ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ لأنه يفيد التجدّد وقتا بعد وقت، وهو أشدّ عليهم، وأنكأ لقلوبهم، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت، والمتجددة حينا بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ لأنه يألفه ويوطّن نفسه عليه.
26. المدّ: الزيادة قال يونس بن حبيب: يقال مدّ في الشرّ وأمدّ في الخير، ومنه: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ﴾، وقال الأخفش: مددت له: إذا تركته، وأمددته: إذا أعطيته، وقال الفرّاء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النهر، ومنه: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه: ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ والطغيان مجاوزة الحدّ والغلوّ في الكفر ومنه: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ أي تجاوز المقدار الذي قدّرته الخزان، وقوله في فرعون: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ أي أسرف في الدعوى حيث قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ .
27. العمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله العمّهى: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى. إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة.
28. المراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم، كما قال ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ . قال ابن جرير: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلّالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا.
29. أصل الربح الفضل، والتجارة: صناعة التاجر، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك وخسرت صفقتك، وهو من الإسناد المجازي، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرّر في علم المعاني، والمراد: ربحوا وخسروا.. والاهتداء: أي وما كانوا مُهْتَدِينَ في شرائهم الضلالة؛ وقيل في سابق علم الله.
30. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ عطف على الصلة داخل في حيزها، والفاء للدلالة على ترتّب مضمونه عليها، والتجارة صناعة التجار، وهو التصدّي للبيع والشراء، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال، وإسناد عدمه ـ الذي هو عبارة عن الخسران ـ إليها، وهو لأصحابها، من الإسناد المجازيّ وهو: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ـ كما تلبست التجارة بالمشترين ـ وفائدته: المبالغة في تخسيرهم، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار، وعمومه المستتبع، لسرايته إلى ما يلابسهم.
31. ذكر الربح، والتجارة من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفّى بأشكال لها، وأخوات ـ إذا تلاحقن ـ لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشّح، فإيرادهما ـ إثر الاشتراء ـ تصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة ـ الذي يتحاشى عنه كل أحد ـ للإشباع في التخسير والتحسير، وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به... كأنه علم في رأسه نار
لمّا شبّهته ـ في الاهتداء به ـ بالعلم المرتفع، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحقّقه، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر، باشتعال النار في رأسه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/49.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أصله النَّوس، بفتح الواو، قلبت ألفًا لتحرُّكها بعد فتح؛ من ناس ينوس بمعنى: تحرَّك، ولا يخلو بنو آدم من تحرُّك، ووجه التسمية لا يوجبها، فلا يلزم أن يسمَّى (ناسًا) كلُّ ما يتحرَّك، أو أصله (أناس)، حذفت الهمزة وعوِّضت بـ (ال)، وهو من الأُنس ضدُّ الوحشة، فالألف زائدة، والناس يُستأنس بهم، قال بعض:
çوما سُمِّي الإنسان إلَّا لأُنسه...ولا القلب إلَّا أنَّه يتقلَّبé
أو الأصل: نَيِسَ بكسر الياء، قلبت ألفًا لتحرُّكها بعد فتح، ووزنه على هذا: (فَلِعَ) من النسيان، إذ لا يخلو من نسيان، قال الله تعالى في آدم: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115] ويطلق على الجنِّ مجازًا، وقيل: حقيقةً.
2. ﴿مَنْ يَّقُولُ ءَامَنَّا﴾ في قلوبنا وألسنتنا إيمانًا مستمرًّا ﴿بِاللهِ﴾ وجودًا وألوهيَّة، ومخالفة لصفات الخلق ﴿وبِاليَوْمِ الَاخِرِ﴾ الوقت الآخر، وهو وقت البعث إلى ما لا نهاية له، والوقت الأوَّل وقت الدنيا؛ ولا يقال: الوقت الآخر وقت دخول الجنَّة والنار وقبله وقت، وهو البعث، وما بعده إلى الدخول؛ لأنَّ الإيمان بالبعث والموقف والحساب أيضًا واجب، ﴿وَمَا هُمْ بِمُومِنِينَ﴾ ذلك الإيمان الذي ادَّعوه، بل الإيمان في ألسنتهم، والكفر في قلوبهم، والخروج عن مقتضاه في جوارحهم.
3. ﴿يُخَادِعُونَ﴾ أي يخْدَعون بفتح الياء وإسكان الخاء، فالمفاعلة ليست على بابها، بل بمعنى الفعل، وهو إظهار ما يوهم السلامة، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلُّص منه، أو هو أن توهم صاحبك خلاف ما تريد به من المكروه وتصيبه به، ودخل في المكروه جلب نفع منه لا يسمح به لك أو لغيرك.
4. ﴿اللهَ والذِينَ ءَامَنُوا﴾ يظهرون خلاف ما أبطنوا، ويظنُّون أنَّ الله لا يعلم ذلك منهم، فأخبرنا الله تعالى أنَّهم عامَلوا الله والمؤمنين بالمكر، والله لا يخفى عليه شيء، أو يخادعون الله مخادعة مجاز، على أنَّهم معتقدون لكون الله عالمًا بما في قلوبهم، وذلك أنَّ تلفُّظَهم بالإيمان وإظهار مقتضياته، مع مخالفته في الأعمال والقلوب، شبيه بالخداع؛ ويقدَّر محذوف، أي: ويخادعون المؤمنين خداعًا حقيقيًّا، إذ يدفعون ـ بإظهار الإيمان وشأنه ـ القتلَ والسبي وما يُصنع بالمشركين، ويجلبون الإكرام والمعاملة بمعاملة المؤمنين، وإنَّما قدَّرتُ محذوفًا لئلَّا يكون لفظ (يخادع) في مجازه وحقيقته معًا، أو أراد: يخادعون الذين آمنوا، وذُكِر الله معهم إكرامًا وتعظيمًا لهم بأنَّه من خانهم فقد خان الله، أو يخادعون نبيء الله، قال الله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعونَكَ إِنَّمَا يُبايِعُونَ اللهَ﴾ [الفتح: 10]، ﴿مَن يُّطِعِ الرَّسُولَ فقدَ اَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، والحاصل أنَّ لفظ المفاعلة مبالغة، ويجوز إبقاؤُها على معناها مجازًا، وذلك أنَّهم أظهَروا الإيمان وهم كافرون، والله تعالى أجرى عليهم أحكام المؤمنين، وهم عنده غير مؤمنين، ولهم عنده الدرك الأسفل من النار.
5. وإجراء المؤمنين تلك الأحكام تشبه صورة المكر بهم، إذ ليس لهم ما لمن تحقَّق إيمانُه في الآخرة، وذلك استعارة تمثيليَّة في الكلام، أو مفردة تبعيَّة في (يخادعون) والله تعالى لا يكون خادعًا إذ لا يَخاف أحدًا، ولا ينقص فعلَه أحدٌ إذا أجهره، ولا مخدوعًا لأنَّه لا يخفى عليه شيء، ولا يناله مكروه، ولا ينتفع بشيء، وإذا قدَّرنا: (يخادعون نبيء الله) تقدير معنًى ففيه إيقاع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة، وذلك مجاز عقليٌّ في النسبة الإيقاعيَّة لا الوقوعيَّة.
6. ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّآ أَنْفُسَهُمْ﴾ ما يُعاملون بمضرَّة الخداع إلَّا أنفسهم وهي الافتضاح بإخبار الله تعالى نبيئه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أخفوه، والعقابُ في الآخرة ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ لا يعلمون أنَّ وبال العقاب راجع إليهم، وإنَّما فسَّرتُ (يُخادِعُ) بـ (يخدع) لأنَّ الله والمؤمنين لا يخدعونهم.
7. ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ كفر بالقرآن والنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعداوته وعداوة المؤمنين وسوء الاعتقاد والجهل، وذلك شبيه بمرض الجسم في الإيصال إلى مطلق الضرِّ، فإنَّ المرض موجع وقاتل ومانع من التصرُّف في المصالح، وما في قلوبهم مؤدٍّ إلى النار مانع من التصرُّف بأعمال الإسلام.
8. أو يُشَبَّهُ تألُّمُ قلوبهم بقوَّةِ الإسلام وانتظامِ أمرِهِ بتألُّمهم بمرض البدن، فسمَّى التألُّم مرضًا، وحقيقة المرض حالة خارجة عن الطبع ضارَّة بالفعل لا بالقوَّة خاصَّة، والقرينة المشروطة في المجاز تمنع الحقيقة، ولا يلزم أن تمنع احتمال مجاز آخر فلك حمل الآية على هذا التألُّم وعلى ما ذكرت قبل.
9. ﴿فَزَادَهُم﴾ بسبب ذلك المرض ﴿اللهُ مَرَضًا﴾ بما أنزل من القرآن بعدما كفروا بما أُنزِل منه قبلُ، والله يجازي المذنبَ بالإيقاع في ذنب آخر، كما يجازي المطيعَ بالتوفيق إلى طاعة أخرى، وكلَّما نزلت آية أو وحيٌ كفروا به لأنَّه طُبِعَ على قلوبهم، وذلك زيادة مرض.
10. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ موجَع بفتح الجيم، والموجَعُ ـ بفتحها ـ حقيقةً هُمْ، لا العذاب، لكن أكَّد شدَّة العذاب حتَّى كأنَّه معذَّب بفتح الذال، وهذا بليغ، ولا بلاغة في قولك: (عذاب موجِع) بكسر الجيم، فـ (أليم)، فعيل، بمعنى مُفعَل، بضمِّ الميم وفتح العين، ولك إبقاؤه على ظاهره، أي متوجِّع بكسر الجيم، ففيه البلاغة.
11. ﴿بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ﴾ أي بتكذيبهم النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، و(ما) مصدريَّة، وجرت عادتهم بالاكتفاء بالمصدر من خبر كان الذي بعدها، والأصل أن يقال: بكونهم يكذبون، ولا حاجة إلى قولك: بالتكذيب الذي كانوا يكذبونه النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو بتكذيب يكذبونه النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، على أنَّ (ما) اسم موصول أو نكرة موصوفة، والهاء مفعول مطلق.
12. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ المعنى: مِن الناس مَن يقول: آمنَّا بالله وباليوم الآخر وهو كاذب، ويقول: إنَّما نحن مصلِحون إذا قيل لهم لا تفسدوا، ويقول: أنؤمن كما آمن السفهاء إذا قيل لهم: آمنوا، ويقول للمؤمنين: آمنَّا، ويقول لأصحابه: إنَّا كافرون.
13. ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الَارْضِ﴾ بالكفر وأعماله، والمعاصي، وبمنع الناس عن التوحيد وأعماله، فإنَّ الإسلام صلاح للأرض والكفر فساد، وليس من صفات الله ولا أفعاله، فإذا أزال الله الثمار أو نورَ البصر أو نحو ذلك فلا تقل: أفسدها، والأرض أرض المدينة، أو جنس الأرض، وليست للاستغراق، ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ للأرض من مكارم الأخلاق، كالصدقة وقرِي الضيف، وهذا جواب بالإعراض عمَّا نُهُوا عنه من الكفر والمعاصي، والأَوْلى أن يكون الجواب له، فيكون المعنى: مصلحون الأرض بما نفعل من الكفر وأعماله، والمنعِ عن التوحيد، والإفسادُ هو ما عليه المؤمنون من التوحيدِ والدعاءِ إليه، والعملِ بمقتضاه، وعطف الجملة على (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) أو على (كَانُوا يُكَذِّبُونَ) فينسحب عليها معنى الباء، والأصل في التعليل أو السببيَّة في غير مقامِ مجرَّدِ الإخبارِ أن يكون بوصف معلوم عند المخاطب ولو بالالتزام، وهذه الشرطيَّة غير معلومة الانتساب، لكن لا مانع من التعليل أو التسبُّب بما ليس عنده إخبارا بالواقع، وأنَّه أحقُّ، ولو لم يعرف، وأنَّه كيف لا يعرف!.
14. ﴿أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ انتبهوا أيُّها الناس، قد تأكَّد أنَّ هؤلاء مفسدون دون المؤمنين، فالحصر إضافيٌّ، وإن فسَّرنا الفساد بالنفاق كان حقيقيًّا؛ لأنَّه لا نفاق إلَّا فيهم، بخلاف مطلق الفساد ففي غيرهم من المشركين أيضًا، والوجهان في أنَّهم هم السفهاء.
15. ﴿وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ بأنَّهم المفسدون، أو بوبال كفرهم، أو لا شعور لهم البتَّة هكذا، ولو استعملوا عقولهم لشعروا، ذكر هنا الشعور لأنَّ الفساد يُعرف بلا تأمُّل، والسَّفَه يُعرف بالتأمُّل، فذكر معه العلم، كما قيل:
çيُقضَى على المرءِ في أيَّامِ مِحْنَتِهِ...حتَّى يرَى حسنًا ما ليس بالحَسَنِé
ولم يَذكر (لَكِنْ) في المخادعة لأنَّه لم يتقدَّم عليها ما يُتوهَّم منه الشعور.
16. ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ أي قال النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بعضُ أصحابه ﴿لَهُمُ ءَامِنُوا﴾ بما يقول النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ﴿كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ﴾ المعهودون الكاملون، أصحابُ النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن آمن به ولم يَحْضُرْهُ بعدَ إيمانه، وهو من التابعين لا من الصحابة ولو كان في عصره.
17. ﴿قَالُواْ﴾ فيما بينهم، أو بحضرة من أمرهم بالإيمان بحيث يجدون السبيل إلى إنكار القول، أو عند المؤمنين بحيث لا يسمعون، قيل: أو عند من لم يُفشِ سرَّهم من المؤمنين لقرابة أو مصلحة، وهو قول ضعيف، والأصل أنَّ المؤمن لا يستر عليهم، وعلى كلٍّ كَشَفَهُم الله تعالى ، ولو جهروا مطلقًا لم يسمُّوا منافقين.
18. ﴿أَنُومِنُ﴾ توبيخ لمن أمرهم بالإيمان ولو غاب، أو إنكار لأن يكون الإيمان حقًّا يؤمر به ﴿كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ﴾ الصحابة ومن آمن ولو لم يكن صحابيًّا، نسبوا من آمن إلى السَّفَه، وهو الجهلُ ووضعُ الشيء في غير وجهه، ويطلق على نقصان العقل والرأي، أو أرادوا من يُحتَقَر من المسلمين لفقره أو ضعفه أو عبوديَّته كصهيب وبلال، وأكثر المسلمين فقراء، أو أرادوا بالسفه مطلق الخسَّة بالجهل أو الفقر أو غيره، والحاصل أنَّهم قالوا: لا نفعل فعل السفهاء وهو الإيمان، وذَكَر الله تعالى نهي الناهي لهم عن الفساد ثمَّ أمر الآمر لهم بالإيمان؛ لأنَّ التخلِّي قبل التحلِّي.
19. ﴿أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ﴾ الجهلاء المحتَقَرون لكفرهم، ردَّ عليهم بأنَّ السفه بالكفر ومساوئِ الأخلاق لا بالفقر، فلا يلزم أن يكون هذا معيِّـنًا للتفسير الأوَّل في السفهاء.
20. ﴿وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ﴾ مَنِ السفيه وما السفه، ذكر هنا العلم وهناك الشعور لأنَّ الإفساد يدرك بأدنى تأمُّل، بخلاف السفه والأمر بالإيمان، وأيضًا السفه: خفَّةُ العقل والجهلُ بالأمور، فناسب نفيَ العلم أتمَّ مناسبة.
21. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالوُا ءَامَنَّا﴾ أي ذَكروا ما يفيد أنَّهم آمنوا من سائر الأقوال والأفعال، وذلك أنَّ الإيمان قد علم منهم في الظاهر قبل ذلك، وذلك دفعٌ للمؤمنين عن أنفسهم واستهزاءٌ، ولا يتكرَّر مع ما مرَّ لأنَّه إبداء لخبثهم وخوفهم، وادِّعاء أنَّهم أخلصوا الإيمان، ولأنَّه بيان لكونهم يقولون ذلك خداعًا واستهزاءً وأنَّهم يقولون ذلك عند الحاجة إليه فقط، وذلك عند لقاء المؤمنين.
22. ﴿وَإِذَا خَلَوا﴾ عن المؤمنين راجعين ﴿اِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أو خلوا مع شياطينهم، يقال: خلوت إليه أي معه، وشياطينهم: رؤساؤهم، كعب بن الأشرف من اليهود في (المدينة)، وأبو بردة في (أسلم)، وعبد الدار في (جهينة)، وعوف بن عامر في (أسد)، وعبد الله بن الأسود في (الشام)، وغيرهم مِمَّن يخافونه من كبار المشركين والمنافقين، سمَّاهم شياطين تشبيهًا لمزيد فسادهم وإغوائهم، وذكر بعضٌ أنَّ هؤلاء المذكورين كهنة، وقيل: الشيطان حقيقةٌ في كلِّ متمرِّد من الجنِّ أو من الإنس، وليس المراد الكهنة خلافًا للضحَّاك، ولو كان مع كلِّ كاهن شيطان؛ لأنَّهم أهون من أن يتملَّقوا إليهم بقولهم: (إنَّا معكم) كما قال الله عنهم: ﴿قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ﴾ في الدين اليهوديِّ إن أُريدَ بشياطينهم اليهود، وإن أريد به مشركو العرب فالمراد: معكم في الإشراك.
23. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ بالمؤمنين في قولنا: آمنَّا لا مؤمنون حقيقة، بل قلنا ذلك لنكفَّ عنَّا القتل والشرَّ والسبي، ونجلب الخير كالأخذ من الصدقة والغنيمة مع الاحتقار والتهكُّم بهم، ولا تظنُّوا أنَّنا تبعناهم، والاستهزاء بمعنى الهزء كالاستعجاب بمعنى العُجب، وهو الاستخفاف والسخرية، وأصله: الخفَّة، يقال: هزأت به الناقة: أسرعت به.
24. والجملة مستأنفة في كلامهم بلا تقدير سؤال هكذا: ما لكم توافقون المؤمنين؟ لقول عبد القاهر: موضوع (إنَّما) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحَّته، إلَّا أنَّه قد يصوِّر السؤال في صورة لا تحتاج إليه فيجوز التقدير المذكور؛ وقد لا نسلِّم قول عبد القاهر إلَّا إن ادَّعى أنَّ ذلك أصل (إنَّما) وأنَّ مدخولها معلوم، وجيء بها لإفادة الحصر، وليس كذلك أيضًا، فإنَّك تقول: إنَّما قام زيد، لمن لا شعور له بقيامه وحده لا مع غيره ولا بقيام غيره دونه.
25. ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يجازيهم على استهزائهم مرَّة بعد أخرى، فإنَّ نكاية الله فيهم متعدِّدة في الدنيا ولا تنقطع في الآخرة، فذلك استعارة تبعيَّة أو مجاز مرسل؛ لأنَّ بين الفعل وجزائه مشابهة في القدر ونوع تسبُّب مع وجود المشاكلة، أو يراد إنزال الحقارة من إطلاق السبب على المسبَّب، ومن الاستهزاء بهم في الآخرة أنَّه يفتح باب إلى الجنَّة فيجيء في كربه حتَّى إذا وصله أغلق، أو يكرَّر له ذلك حتَّى يفتح له ولا يجيئه، كما ورد في الحديث، ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يطيل أعمارهم، أو يزيدهم طغيانًا ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ مجاوزتهم الحدَّ بالكفر ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتردَّدون هل يبقون عليه أو يتركونه، أو هل يعكفون فيه ويلازمونه.
26. ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اَشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ تركوا الهدى الذي في وسعهم وطاقتهم، جعل الهدى الذي لم يوجد لهم كالموجود؛ لأنَّه في طاقتهم ويولدون عليه، ولظهور حججه حتَّى كأنَّهم قبلوه، وجعل الإعراض عنه والتلبُّس بضدِّه الذي لا يجتمع معه كالشراء فسمَّاه شراء، والإشارة إلى المنافقين المذكورين في تلك الآيات بتلك الأوصاف لا إلى أهل الكتاب كما قيل، ولا إلى الكفَّار مطلقًا كما قيل؛ لأنَّ النزول في غيرهم لا فيهم، ولو وجد المعنى فيهم فضلاً عن أن تفسَّر بهم.
27. ﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ﴾ انتفى عنهم الربح في تجارتهم المعهودة التي هي شراء الضلالة بالهدى، بل خسروا أبدانهم وأوقاتهم وأموالهم إذ لم ينالوا بها الجنَّة، وأضاعوا منازلهم وأزواجهم في الجنَّة، وصاروا للنار بتلك الضلالة، والهدى هنا هو اسم مصدر بمعنى الاهتداء، أو اسم للمعنى الحاصل من الهداية، كأنَّه قيل: اشتروا الضلالة بالاستقامة، وإسناد الربح إلى التجارة إسناد إلى السبب أو الملزوم أو المحلِّ.
28. ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق التجر والربح، إذ أضاعوا رأس المال والربح، والآية كناية عن انتفاء مقصد التجر وهو الربح مع حصول ضدِّه وهو الخسارة، وذلك شأن الدِّين إمَّا الربح أو الخسارة، بخلاف تجارة المال، فقد لا تربح ولا تخسر، أو كناية عن إضاعة رأس المال، فإنَّ من لم يهتد بطرق التجر تكثر الآفات على ماله، أو المراد أنَّهم لم يتَّجروا فلا ربح، كقوله: (على لَاحِبٍ لا يَهْتدي بمنارةٍ) أي لا منار فيه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/39.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. نبه الله سبحانه على صفات المنافقين، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض ـ من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفّار في نفس الأمر ـ وهذا من المحذورات: أن يظنّ بأهل الفجور خير.
2. ثم إن قول من قال كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلم أعيان بعض المنافقين ـ إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا ـ في غزوة تبوك ـ الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفّروا به الناقة، ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة.
3. أما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: 101] الآية، وقال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 30]، وقد كان من أشهرهم بالنفاق، عبد الله بن أبيّ بن سلول.
4. استند ـ غير واحد من الأئمة ـ في الحكمة عن كفّه صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعمر (أكره أن يتحدّث العرب أنّ محمدا يقتل أصحابه)، ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم ـ بأنّه لأجل كفرهم ـ فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه.
5. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن المنكر ـ إتماما للنّصح، وإكمالا للإرشاد ـ ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أي: الكاملون في الإنسانية، فإنّ المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يعدّ من خواصّ الإنسان وفضائله.
6. الاستفهام في معنى الإنكار، و(السفه) خفّة وسخافة رأي يورثهما: قصور العقل، وقلّة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5].
7. إنما سفّهوهم ـ مع أنهم العقلاء المراجيح ـ لأنهم: لجهلهم، وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أنّ ما هم فيه هو الحقّ، وأنّ ما عداه باطل ـ ومن ركب متن الباطل كان سفيها ـ ولأنهم كانوا في رئاسة في قومهم، ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء، ومنهم موال ـ كصهيب، وبلال، وخبّاب ـ فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم.
8. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير، واستبطان الشر، ومخادعة الله مخادعة رسوله، لقوله ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأمول وغير ذلك، وادّخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبّة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم.
9. الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلّا في أنفسهم بإهلاكها، وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال ـ بازدياد الظلمة، والكفر، والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها ـ وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]، وهم ـ من غاية تعمّقهم في جهلهم ـ لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
10. المرض: السقم، وهو نقيض الصحة، بسبب ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفاعيله، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم، وضعف دينهم.. وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين، وعدم ضعفه، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89] أي: غير مريض بما ذكرنا ـ أو استعير لشكّهم، لأن الشك تردّد بين الأمرين، والمنافق متردّد، كما في الحديث (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين)، والمريض متردّد بين الحياة والموت.
11. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بأن طبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار.. أي مرضا آخر ـ حقدا وحسدا وغلا ـ بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين، والرذائل كلها أمراض القلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة.
12. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم ـ بكسر اللام ـ فعيل بمعنى فاعل ـ كسميع ـ وبصير ـ قال في المحكم: الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ، ومنه. يعلم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجعرانة، منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقبض منها. يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل. قال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت، إن لم أكن أعدل) فقال عمر بن الخطاب: دعني، يا رسول الله، فأقتل، هذا المنافق. فقال: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة)، ووجه إيثاره في عذاب المنافقين على (العظم) المتقدم في وصف عذاب الكافرين ويؤيده: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145]
13. ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ الباء للسببيّة أو للمقابلة ـ أي بسبب كذبهم أو بمقابلته ـ وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين.. وفيه رمز إلى قبح الكذب، وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم ـ مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى ـ ونحوه قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ [نوح: 25] ـ والقوم كفرة ـ وإنما خصّت الخطيئات استعظاما لها، وتنفيرا عن ارتكابها.
14. (الفساد) خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه (الصلاح) وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]، وقال: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد ـ.
15. كان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يدعون في السرّ إلى: تكذيب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونصب الحرب له، وطمعهم في الغلبة، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد ـ بتهييج الفتن بينهم ـ قيل لهم: لا تفسدوا ـ كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته ـ وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، فأخبر أن موالاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد.
16. قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي: بين المؤمنين وأهل الكتاب. نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 62]. أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
17. تصوّروا إفسادهم بصورة الإصلاح ـ لما في قلوبهم من المرض ـ كما قال ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8] وقوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43] وقوله: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 104].
18. كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا ـ لأنفسهم خاصة ـ لتوغّلهم في محبّة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم ـ بالمنافع الجزئية، والملاذّ الحسية ـ عن المصالح العامة الكلّية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحسّ.
19. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ أي: أظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة ـ نفاقا، ومصانعة، وتقيّة وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم.
20. يقال: خلوت بفلان وإليه أي: انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى: مضى، ومنه: القرون الخالية.
21. المراد بـ ﴿شَيَاطِينِهِمْ﴾ : أصحابهم أولو التمرّد والعناد، والشيطان يكون من الإنس والجنّ، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، واشتقاق شيطان من شطن، إذا بعد، لبعده من الصلاح والخير.
22. معنى ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أي في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه.
23. ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم في عتوّهم وتمرّدهم، كما قال تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110]، و(الطغيان) المراد به هنا: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ، وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11]
24. العمه مثل العمى ـ إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة ـ وهو التحيّر والتردد، لا يدري أين يتوجه.. أي في ضلالهم وكفرهم ـ الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه ـ يتردّدون حيارى، ضلالا، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا.
25. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز، بحيث صاروا كأنّهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ وسوء الحال.
26. ﴿الضَّلَالَةِ﴾ الجور عن القصد، و ﴿بِالْهُدَى﴾ التوجّه إليه، وقد استعير الأول: للعدول عن الصواب في الدين، والثاني: للاستقامة عليه، و(الاشتراء) استبدال السلعة بالثمن ـ أي أخذها به ـ فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه.
27. سر التعبير عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم ايمان، لأنهم جعلوا لتمكّنهم منه ـ بتيسير أسبابه ـ كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة قد عطّلوه، واستبدلوها به، فاستعير ثبوته لتمكّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة ـ من التمكّن ـ كانت حاصلة لهم بما شاهدوه ـ من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة ـ من جهة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
28. قوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ أي: لزوال استعدادهم، وتكدير قلوبهم بالرّين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ.
29. عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم، ورتّبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى، لأن رأس مالهم هو الهدى، فلمّا استبدلوا به ما يضادّه ـ ولا يجامعه أصلا ـ انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد ـ أعنى الضلالة ـ وصفوا بانتفاء الربح والخسارة.. لأنّ الضالّ في دينه خاسر هالك ـ وإن أصاب فوائد دنيوية ـ ولأنّ من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالريح، بل بانتفائه، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.
30. قوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ليس معناه عدم اهتدائهم في الدين ـ فيكون تكرارا لما سبق ـ بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة ـ كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر ـ فهذا راجع إلى الترشيح.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/250.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكرت أول السورة أقسام الناس بإزائه، ومنهم ثلاث فرق:
أ. فرقتان لهما فيه هدى (إحداهما) المتقون وبين حالهم بقوله ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ الخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به.
ب. (والثانية) هي المذكورة في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ الخ وهم كل من آمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.
ج. يوجد بإزاء هاتين الطائفتين طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن، الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الخ وهى تنقسم إلى قسمين جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون.
2. هذه الآيات هي المبينة لحال الفرقة الرابعة وهى فرقة من الناس توجد في كل آن وفى كل عصر، وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، ولذلك قال تعالى في بيان حالهم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ولم يقل عنهم: إنهم يقولون مع ذلك (وآمنا بك يا محمد) وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس.
3. نعم إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوليا، وتصف حالهم وصفا مطابقا، وهى مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعى إنها على دين، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة ـ مع أن منهم الذين يدعون ذلك ـ لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الاعجاز.
4. سؤال وإشكال: كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر كمنافقي اليهود، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر (ما) فقال ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين ألبتة، وهو أبلغ من نفى فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله وباليوم الآخر؟ والجواب:
أ. أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصّل ما في صدورهم، ومحص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس، وحب السمعة.
ب. أنهم من وراء ذلك منغسمون في الشرور، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه، لأنه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه.
ج. أنهم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك.
5. صورت الآيات ذلك الجهل والغرور في الفريقين بصورة أخرى أشد تشويها مما قبلها، لأن تلك صورتهم في عملهم، وهذه صورتهم في جوهر إيمانهم، وهى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ الذين تعتقدون كمالهم وترون تعظيمهم وإجلالهم، كإبراهيم وموسى وعيسى وأتباعهم، الذين كان الايمان راسخا في جنانهم، ومؤثرا في وجدانهم، ومصرفا لأبدانهم، أو كعبد الله بن سلام وأمثاله من علمائكم.
6. المراد بالسفه الطيش وخفة العقل وضعف الرأي ومن لوازمه سوء التصرف، ومنه قيل: زمام سفيه: كثير الاضطراب لمرح الناقة ومنازعتها إياه وثوب سفيه: رديء النسج، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل، وفى الأمور الدنيوية والأخروية، فقيل سفه نفسه.
7. يعنون بالسفهاء أتباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الواقفين عندما كان عليه، المعرضين عن غير ما أنزل إليه، لما تضمنه الأمر من الشهادة لهم بانهم في إيمانهم كأتباع أولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، وهم سلف اليهود الذين كان الكلام معهم، وكانوا يفتخرون بما يتناقلونه من سيرتهم.
8. رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ أي وحدهم دون من عرّضوا بهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، زعما أن المتأخر، لا يمكن أن يكون على هدى المتقدم لأنه يصعب أو يتعذر عليه اللحاق به، واحتذاء عمله، لعلوه في الدرجة، وبعده في المنزلة، وأن حظهم من سلفهم انتظار شفاعتهم، وإن لم يسيروا على سنتهم.
9. أي الفريقين أجدر بلقب السفيه، أهم أولئك اليهود الذين لهم أسوة صالحة، ولكنهم لا يهتدون بها وهذه حالهم من سوء العقيدة وقبح العمل أم من لا سلف له إلا عبدة الأوثان، وقلبه مع ذلك مطمئن بالإيمان، وأعماله تشهد له بالإحسان كالصحابة الذين هداهم الله بنور الاسلام، فكانوا كأتباع أولئك الأنبياء الكرام، بل ربما سبقوهم بالفضائل، وزادوا عليهم في الفواضل؟ لا شك أن أولئك المفسدين بعد ما تقدم لهم من سلف صالح، ودين قيم، هم السفهاء، دون هؤلاء العقلاء.
10. ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن السفه محصور فيهم، ومقصور عليهم، وإنما عندهم شعور ما بأنهم ركبوا هواهم، ولم يتبعوا هدى سلفهم ولا هداهم، ينتحلون له العلل الضعيفة، ويتمحلون له الاعذار السخيفة، فهو لم يصل إلى حد العلم الذي تتكيف به النفس.
11. يكفى في إثبات سفههم أنهم يعرفون حسن حال سلفهم، ويعترفون به، ولكن لا يقتدون بهم، ولا يقتفون أثرهم، وإنما يعتمدون في نجاتهم وسعادتهم على تلك الأماني والتعلات، كقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وشعبه وأصفياؤه.
12. لا يصح نفى الشعور عنهم في هذا المقام مع ذلك الاعتراف، وانما هو نفى العلم الكامل الذي يزيل الشبه ويذهب بالعلل، ويبعث على الاقتداء بالعمل.
13. هذا أيضا حجة على كثير من اللابسين لباس الاسلام، وهم من هذا الصنف يعتقدون كمال سلفهم، ولا يقتدون بهم، وإنما يطمعون في سعادة الدنيا والآخرة بانتسابهم إلى أولئك السلف العظام، ولكونهم من أمة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهى خير الامم بشهادة الله في القدم، ولكنهم لا يعلمون أنها فضلت سواها بكونها أمة وسطا تقوم على جادة الاعتدال، في العقائد والأخلاق والأعمال، وتسعى في إصلاح البشر، بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. كما قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وليس عند هؤلاء السفهاء شيء من هذه الصفات، إلا الأماني والتعلات.
14. وهؤلاء المرضى القلوب من المسلمين، هم الذين اتبعوا سنن من قبلهم في هذا كما اتبعوهم في غيره (شبرا بشبر وذراعا بذراع) كما ورد في حديث الصحيحين.. وكما قال تعالى في أهل الكتاب الآتي في هذه السورة: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾
15. إن جريان هذا السؤال والجواب في منافقي العرب أظهر مما قبله، فعبد الله بن أبىّ ابن سلول وأصحابه من منافقي المدينة كانوا أبعد عن الإيمان وأدنى إلى مخادعة الله ورسوله والمؤمنين من منافقي اليهود في أنفسهم وقومهم ومع المؤمنين.
16. لا شك أنهم كانوا يعدون المؤمنين الصادقين سفهاء الأحلام، في اتباعهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا وطنهم وتركوا ديارهم ليكونوا تابعين له، وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم، وكون هذا من السفه عند غير المؤمن بهذا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به ظاهر جلىّ، ولذلك نفى عنهم الشعور يأنهم هم السفهاء دون المؤمنين، ويؤيد ما قلته: ما حكاه الله تعالى عنهم في سورتهم بقوله: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾
17. من نكت نفي العلم هنا ما ينبه الأذهان، إلى دقة التعبير في القرآن، وهو أن أمر الإيمان لا يتحقق إلا بالعلم اليقيني، فموضوعه علمي، ثم إن ثمرته السعادة في الدنيا والآخرة، ولا يدرك ذلك إلا من علم حقيقته، فنفى عنهم العلم بأنهم هم السفهاء فيما رموا به المؤمنين بالسفاه، بشبهة أنهم أخطأوا مصلحتهم ومصلحة قومهم الأنصار ومصلحة أمتهم العربية في اتباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن عدم العلم بذلك سببه عدم العلم بكنه الإيمان وعاقبته، ومن جهل الملزوم كان بلوازمه أجهل، فكأنه قال ولكن لا يعلمون ما الايمان، حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء غاوون، أو عقلاء راشدون، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهم جاهلون به ويجهلون أنهم جاهلون.
18. الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه له لتنزله عما هو بصدده من قولهم: خدع الضب إذا توارى في جحره، وضب خادع ـ إذا أوهم الصائد إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وأصله الإخفاء، وهذا ما حرره البيضاوي، وقد جعله الراغب أعم، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروها، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين وهو ما تدل عليه صيغة المشاركة (يخادعون)
19. من أوّل معنى الخداع في حق الله تعالى، ذكروا أن الخداع محال على الله وغير لائق بالمؤمنين بل يستقبح لأنه عمل المنافقين، وقد جاء في سورة النساء: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ ولما كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا فسروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنه خداع في الصورة لا في الحقيقة وذلك أنه شرع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنهم لا يجزون جزاءهم في الآخرة، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار ـ فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيب عنهم في الآخرة، كما أن عملهم الظاهر غير كفرهم الخفى في أنفسهم، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عملهم خداع ـ ومقابله حق صورته صورة الخداع، ولكنه لا غش فيه لأن النصوص صريحة في كفر المنافقين.
20. فعل المشاركة هنا خاص بالفاعل المسند إليه فعله وهم المنافقون، وصيغة (فاعل) لا تطرد فيها المشاركة بالفعل كعاقبت اللص، وقد تكون مقدرة أو باعتبار الشأن أو القصد، ومن التكلف قول بعضهم إنه عبر عن مخادعتهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمخادعة الله تعالى.
21. العمل الظاهر الذي لا يصدقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر يسمى في اللغة مداجاة ومداراة ومخادعة، فان كان يقصد به المخادعة فظاهر، وإلا فيكفى لصحة الاطلاق أن العمل عمل المخادع، لا عمل الطائع الخاضع، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب المؤمنين بالله ايمانا ناقصا، لم يقدروا الله فيه حق قدره، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته، ولكنهم لجهلهم بالله ظنوا به ما سوغ وصفهم بما ذكر عنهم.
22. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو دليل على ما في صيغة (فاعل) والمشاركة هنا للإشارة إلى أنهم هم الخادعون المخدوعون، وقراءة الجمهور (يخدعون) نص في أن مخادعتهم لله وللمؤمنين لا تأثير لها فيهما، فهي بالنسبة إليهما صورية وفى الحقيقة أن القوم يخدعون أنفسهم لأن ضرر عملهم خاص بهم، وعاقبته وبال عليهم وحدهم.
23. إذا رجع الانسان إلى نفسه؛ وأصغى لمناجاة سره، يجد عندما يهم بعمل شيء أن في قلبه طريقين، وفى نفسه خصمين مختصمين، أحدهما يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج، وآخر ينهاه عن العوج، ويأمره بالاستقامة على المنهج، ولا يترجح عنده باعث الشر، ولا يجيب داعى السوء، إلا إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطوية فيها، وصرفها عن الحق، وزين لها الباطل، وهذه الشؤون النفسية في غاية الخفاء، تكون المنازعة ثم المخادعة ثم الترجيح ويمر ذلك كله كلمح البصر، وربما لا يلتفت إليه الانسان بفكره، ولذلك قال ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ فان الشعور هو إدراك ما خفى.
24. شعرت ـ في اللغة ـ أصبت الشّعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشّعر، ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعرى، وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام.. ويناسب هذا الشعار ـ بالكسر ـ للكساء الباطن الذي يمس شعر الانسان.. والمعروف في كتب اللغة أن شعر به كنصر وكرم ـ يشعر شعرا ـ بالكسر والفتح ـ وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه، والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة.
25. أطلق بعض المفسرين: أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق أنه إدراك مادق من حسي وعقلي، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل وبصوت الصاعقة وبألم كية النار، وإنما تقول: أشعر بحرارة ما في بدنى، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة ـ وبهينمة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى أي إدراك ما فيه دقة وخفاء.
26. معنى نفى الشعور عن المنافقين في مخادعتهم لله تعالى أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه، ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يتربّ على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك.
27. معنى نفى الشعور عن المنافقين في مخادعتهم للمؤمنين ظاهرة لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء.. فهؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره من أمل في الغفران، أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب، وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء، المغشاة بصور من العقائد الملونة بما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا، وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمى عليهم من أمر أنفسهم، لا يشعرون، لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
28. فرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات، بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الإرادة، باعثة لها على العمل، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال، وهى ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوهما فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره وبين وجوده وتحققه في نفسه.
29. من العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يشربه القلب ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول، كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الإسلامي مثلا، وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق والنظار في كتب الأواخر والأوائل لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدني أثر في عمل من أعمال صاحبه، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام (صورة من الشيء حاضرة عند النفس) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر.
30. هؤلاء ـ الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى ـ عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم، من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به وجعله رسما مخزونا في الخيال، لا أثر له في الأفعال، يدعونه بألسنتهم، وتكذبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له.
31. من هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرؤه على أنه قصة تاريخية مات من يحكى عنها، واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر ومع ذلك يصدر في عمله عن شهواته، ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده انما هو خيال، لا يعلو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فاذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه، مخادع لربه يظن أن علام الغيوب، لا ينظر إلى ما في القلوب.
32. عُهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب، والمرض هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعقلها وإدراكها، والشك والوهم من أعراض هذا المرض، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم، وهذا النفوذ هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهرا وباطنا.
33. عبّر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾، وربما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام، لأن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال، يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند اشتداد الخوف أو اشتداد الفرح، فانك تحس بزيادة ضرباته وشدة نبضاته،] فصورة الاعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم، فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ، لم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير، لا يعتد الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه كما تقدم آنفا.
34. من لم يطرق الايمان قلبه بقوة البرهان، ولم يحل مذاقه منه في الوجدان، بحيث يكون هو المصرف له في أعماله لا ينفعه إيمانه، إلا اذا تمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلبه الوجدان الصالح، فأهل اليقين يبعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم.
35. هذا الفريق الذي تحكى عنه الآيات، وتصفه بالكذب والخداع، قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلب إلا بهما، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله.
36. لضعف العقل أسباب. منها:
أ. ما هو فطرى كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام.
ب. ما يكون من فساد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السيئات، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب، للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان وشموس الايمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ حتى يجيء اليوم الذي يقولون فيه: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾
37. المرض في أصل اللغة: خروج البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه فيختل به بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الآلام لها، ويطلق مجازا على اختلال مزاج النفس، وما يخل بكمالها من نفاق وجهل، وارتياب وشك، وغير ذلك من فساد الاعتقاد الحق، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق، والمرض هنا من النوع الثاني. .
38. كان في قلوبهم مرض قبل مجيء النذير، وبيان الرشد من الغى، عندما كانوا في فترة حظهم من الكتب قراءة ألفاظها، ومن الأعمال إقامة صورها؛ ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بعد ما جاءهم البرهان المنير ببعثة البشير النذير، ووجدوا منه زعزعة في أنفسهم؛ ولكن أخذتهم العزة بالإثم فأبوا الايمان؛ ونبوا عن القرآن؛ وزاد تمسكهم بما كانوا عليه واشتد حرصهم عليه فكان شعاع النور الذي جاء به الرسول عمى في أعينهم؛ ومرضا على مرضهم.
39. ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ في دعواهم الايمان بالله واليوم الآخر؛ فانهم لم يصدقوا بأعمالهم؛ ما يزعمونه من حالهم.. جعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر، لأن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه، وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته، وينتهى إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة، لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه.
40. إذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمة، فليحاسب بها نفسه كل مسلم يعتقد أن القرآن إمامه، وأن فيه هدى له فإنها حجة على كثير ممن يدعون الاسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به، ويتبعون غير سبيله.
41. منافقو اليهود، ولا سيما فقهائهم الذين كانوا مجاورين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة، وشدة الشبه بينهم وبين فقهاء السوء، ولا سيما فقهاء عصرنا هذا ـ ولذلك نبه لعموم الآيات وشمولها لهم لها عودا على بدء، وإنما مراده بنفي الرياء عنهم أنهم يعتقدون ما قالوا هنا، وهو لا ينفى رياءهم في غيره من أقوالهم وأفعالهم، وقد كان لأولئك الأحبار والرؤساء من الإفساد غير ما ذكر، ومنه إغراء المشركين بقتال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين ووعدهم بمساعدتهم عليه، وهذا إفساد كبير في الأرض، وكانوا يستبيحونه بأنه توسل إلى حفظ سلطتهم ورياستهم المهددة باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
42. إن ما تقدم مبنى على أن السؤال والجواب في بيان حال منافقي اليهود، وهو المختار عند محمد عبده، وقد ورد في التفسير المأثور جعله في بيان حال منافقي المدينة من العرب كعبد الله بن أبىّ ابن سلول وحزبه. فانهم كانوا يفسدون في الأرض بالتشكيك في الدين، وبتفريق كلمة المؤمنين، كما فعلوا في غزوة أحد ثم في غزوة تبوك، فكان هذا شأنهم وإن كانت الغزوتان بعد نزول هذه السورة.
43. روى تفسير إفسادهم بالكفر والمعاصي، وما قلناه منه ولكنه أخص وهو المتبادر.. ودعواهم أن هذا إصلاح كدعواهم الإيمان، وكل مفسد وضال يسمى إفساده وضلاله بأسماء حسنة.. وعن ابن عباس أنهم كانوا يقولون: إنما نريد الاصلاح بين الفريين من المؤمنين وأهل الكتاب.
44. من الاحتمالات أن يكون بعضهم سأل بعضا لما كانوا عليه من اختلاف الحال وتباين الآراء، كما قال تعالى فيهم: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ فأي مانع لنهى بعضم لبعض عن نكث ما عاهدهم عليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من إقرارهم على دينهم وحفظ أموالهم وأنفسهم بأن لا يؤلبوا عليه المشركين ولا يساعدوهم عليه ـ وأن يقولوا للناكثين المفسدين: إن الحرب فساد عظيم لا يؤمن أن يتعدى إلينا شرها فيطير من شررها ما نحترق به، فدعوا تأليب قوم محمد عليه؟ ـ ثم أي مانع يمنع أن يجيبهم أولئك المفسدون ككعب بن الاشرف: إنما نحن مصلحون بمساعدة قومه عليه، لأننا نخشى منه ما لا نخشى منهم، فقد عشنا معهم أجيالا لم ينازعنا منهم أحد في صحة ديننا، لأنهم لا يدعون إلى شركهم ولا يحتقرون ما نحن عليه من الدين، بل يروننا فوقهم في العلم، ومنهم من يعطينا أولاده لتربيهم ولا يكرهون أن نلقنهم ديننا، وأما محمد فيقول إننا ضللنا عن ديننا نفسه ويعيبنا بتحريف سلفنا وخلفنا لكتابنا، وبما كان من مخازي تاريخنا، كقتل الانبياء، ونكث العهود، وأكل السحت. فاذا كان له الغلب على مشركي قومه لا نأمن أن يبقى لنا ديننا ومكانتنا السامية في بلاد العرب، وإن هو حفظ عهده لنا، ولم يغدر فيقاتلنا، فكيف إذا هو غدر بنا وقاتلنا بعد الفراغ من قومه؟.. ثم ذكر أن هذا أقرب إلى المعقول مما قاله المفسرون في السؤال والسائل.
45. فيه وجه آخر لعله أقوى، وهو أن السؤال والجواب مفروضان فرضا، والمراد بيان حالهم في هذا الامر وما تنطوي عليه جوانحهم بصيغة السؤال والجواب التي هي أقوى أساليب الكلام تنبيها للأذهان، وتوجيها لها الى الاحاطة بمعاني الكلام، ولذلك يستعملها العلماء في بيان مهمات المسائل وحل عويص المشاكل، يقولون: إذا قيل كذا قلنا كذا، وإن سئلنا عن هذا أجبنا بكذا، وأما الفرق بين الشرطين في مثل هذا الأسلوب فالبلاغة تقتضى أن يكون السؤال باذا عما كان سببه قويا من شأنه ألا يسكت عنه، ويصدر بأنّ إذا كان سببه ضعيفا ولكنه محتمل، فيجاب عنه احتياطا.
46. تنطق هذه الآيات بأن ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد قد سول له الباطل وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وشوه في نظره كل حق لم يأته على لسان رؤسائه ومقلديه بنصه التفصيلي، فهو يراه قبيحا.
47. صورت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بما تصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجاء، وتنفرون الناس عن اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والأخذ بما جاء به من الاصلاح، الذي يجتث أصول الفساد، ويصطلم جراثيم الأداد، ويحيى ما أماتته البدع من إرشاد الدين، ويقيم ما قوضته التقاليد من سنن المرسلين.
48. ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ بالتمسك بما استنبطه الرؤساء، وما كان عليه الأحبار والعرفاء، من تعاليم الانبياء، فانهم أعرف بسنتهم، وأدرى بطريقتهم، فكيف ندع ما تلقيناه منهم، ونذر ما يؤثره آباؤنا وشيوخنا عنهم، ونأخذ بشيء جديد، وطارف ليس له تليد؟
49. هكذا شأن كل مفسد: يدعى أنه مصلح في نفس إفساده، فان كان على بينة من إفساده عارفا أنه مضل ـ وإنما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له ـ فإنما يدعى ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الافساد بالتمويه والمواربة، وإن كان مسوقا الى الافساد بسوء التقليد الاعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الاصلاح من الافساد الا الثقة بالرؤساء المقلدين، فهو يدعيه عن اعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقاه عنهم: وإن كان أثر تقليدهم، والسير على طريقتهم، مفسدا للأمة في الواقع ونفس الامر، لأن الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلدين، بل هم لا يعرفون منا شيء الفساد ومصادر الخلل، ولا مزالق الزلل، لأنهم عطلوا نظرهم الذي يميز ذلك، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك، بصدهم عن سبيل الاسلام، الداعي الى الوحدة والالتئام، فكان ذلك منهم دعاء الى الفرقة والانفصام، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الاصنام، وأى إفساد في الارض أعظم من التنفير عن اتباع الحق، وعن الاعتصام بدين فيه سعادة الدارين، والارض إنما تفسد وتصلح بأهلها؟
50. ابتدأ الكلام المؤكد لاثبات إفسادهم بكلمة (ألا) التي يراد بها التنبيه والايقاظ وتوجيه النظر، وتدل على اهتمام المتكلم بما يحكيه بعدها ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بأن هذا إفساد غرز في طبائعهم، بما تمكن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أشربوا عظمتهم، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين، وأنهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل(2).
51. الآيات التي تقدمت في وصف هذا الصنف من الناس الذي قلنا إنه يوجد في كل أمة وملة وفى كل عصر، كانت عامة تصور حال أفراده في كل زمان ومكان وكان أسلوبها ظاهرا في العموم كقوله ﴿يُخَادِعُونَ﴾، وقوله: وإذا قيل لهم كذا ـ قالوا كيت وكيت.
52. أما قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية، فهو وصف قد يختص ببعض أفراد هذا الصنف ممن كان في عصر التنزيل، جاء بعد الأوصاف العامة، وحكى بصيغة الماضي ليكون كالتصريح بتوبيخ تلك الفئة من هذا الصنف، التي بلغت من التهتك في النفاق، والفساد في الأخلاق؛ أن تظهر بوجهين، وتتكلم بلسانين، وما بلغ كل أفراد الصنف هذا المبلغ من الفساد والضعف.
53. هذه الفئة أيضا توجد في كل عصر وزمان، يكون فيه لأهل الحق قوة وسلطان، والحكاية عنها بصيغة الماضي الواقع لا تنافى ذلك، لأن (إذا) تدل على المستقبل، فمعنى الفعل مستقبل، وإنما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد وإيذانهم بأن بضاعة النفاق والمداجاة، لا تروج في سوق المؤمنين لأنها مزجاة، وأن استهزاءهم مردود إليهم، وو باله عائد عليهم.
54. كان أولئك النفر يدهنون في دينهم، فاذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ من دعاة الفتنة وعمال الإفساد وأنصار الباطل، الذين يصدون عن سبيل الحق بما يقيمون أمامه من عقبات الوساوس والأوهام، وما يلقون فيه من أشواك المعايب وتضاريس المذام.
55. قال المفسرون إنهم الرؤساء، والصواب ما قلنا، وكم من رئيس مغمول، لما في نفسه من الضعف والخمول، لا ينصر اعتقاده، وإن كان معترفا بأن فيه رشاده، وفى عزته عزه وإسعاده، وكم من مرؤوس شديد العزيمة؛ قوى الشكيمة، يكون له في نصر ملته، والمدافعة عن أمته، ما يعجز عنه الرؤساء، ولا يأتي على أيدى الأمراء.
وللذبابة في الجرح الممدّ يد... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي إنا معكم على عقيدتكم وعملكم، وإنما نستهزىء بالمسلمين ودينهم.
56. كشف القرآن عن هذا التلون وهذه الذبذبة، وقابلهم عليها بما هدم بنيانهم، وفضح بهتانهم، فقال ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، وأصل الاستهزاء الاستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس، وإن أظهر المستخف الاستحسان والرضا تهكما.
57. هذا المعنى محال على الله تعالى، والمحال بذاته يصح إطلاق لازمه، والمستهزىء باللسان في نحو مدح لعلمه واستحسان لعمله مع اعتقاد قبحه، غير مبال به ولا معتن بعلمه ولا بعمله، حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه، ويلزمه استرسال المستهزأ به في عمله القبيح. فمعنى: الله يستهزىء بهم أنه يمهلهم فتطول عليهم نعمته، وتبطىء عنهم نقمته، ثم يسقط من أقدارهم ويستدرجهم بما كابوا يعملون.
58. الاستهزاء من الله في الحقيقة لا يصح كما لا يصح من الله اللهو واللعب تعالى الله عنه، وقوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي يجازيهم جزاء الهزؤ، ومعناه: أنه أمهلهم مدة ثم أخذهم مغافصة (أي مفاجأة على غرة) فسمى إمهاله إياهم استهزاء من حيث إنهم اغتروا به اغترارهم بالهزؤ فيكون ذلك كالاستدراج من حيث لا يعلمون.
59. أشهر الاقوال في تفسير استهزاء الله بهم: أن معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزىء بهم: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ إلى قوله ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ .. وقيل: إن استهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا .
60. الطغيان مجاوزة الحد في العصيان، مأخوذ من طغيان الماء وهو تجاوز فيضانه الحد المألوف.
61. المدّ: الزيادة في الشيء متصلة به، يقال: مد البحر زاد وارتفع ماؤه وانبسط ومده الله قال تعالى: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ ومد البحر يقابله الجزر، وهو انحسار مائه عن الساحل ونقصان امتداده، ويسمى السيل مدا من قبيل التسمية بالمصدر، ومنه المدة من الزمان، والمدد ـ بالتحريك ـ للجيش، يقال مده وأمده. قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ والمعنى: أن سنة الله تعالى في الذين وصلوا إلى هذه الغاية من فساد الفطرة هو ما بينه بقوله فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾
62. العمه عمى القلب وظلمة البصيرة، وأثره الحيرة والاضطراب، وعدم الاهتداء للصواب... والعمه التردد في الامر من التحير: يقال: عمه فهو عمه وعامه وجمعه عمه (بالتشديد) ا ه والاستهزاء فعل الهزء ـ بسكون الزاى وضمها ـ وقصده بالعمل، وهو اسم من هزئت به ومنه، وفى لغة هزأت ـ فهو من بابى تعب ونفع ـ واستهزأت به أي استخفت به وسخرت منه.
63. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ في الدنيا، إذ لم تثمر لهم ثمرة حقيقية، بل خسروا وخابوا باهمالهم النظر الصحيح الذي لا تقوم المصالح ولا تحفظ المنافع إلا به.
64. إسناد الربح إلى التجارة عربي في غاية الفصاحة لأن الربح هو النماء في التجر، وهذه المعاوضة هي التي من شأنها أن تثمر الربح، فاسناده إليها نفيا أو إثباتا إسناد صحيح لا يحتاج إلى التأويل، كأنه قيل فلم يكن نماء في تجارتهم، على أن ذلك التأويل المعروف من أن إسناد الربح إلى التجارة لأنها سببه والوسيلة إليه وأن العبارة من المجاز العقلي ـ تأويل يتفق مع البلاغة ولا ينافيها، ولا زال المجاز العقلي من أفضل ما يزين البلغاء به كلامهم، ويبلغون به ما يشاءون من تفخيم معانيهم.
65. ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ :
أ. في دينهم لأنهم لم يأخذوه على وجهه ولم يفهموه حق فهمه.
ب. أو ما كانوا مُهْتَدِينَ في هذه التجارة لأنهم باعوا فيها ما وهبهم الله من الهدى والنور بظلمات التقاليد وضلالات الاهواء والبدع التي زجوا أنفسهم فيها.
ج. أو ما كانوا مُهْتَدِينَ في طور من الاطوار ولا مس الرشد قلوبهم في وقت من الأوقات لأنهم نشاء على التقليد الاعمى من أول وهلة ولم يستعملوا عقولهم قط في فهم أسراره، واقتباس أنواره.
66. لا يذهبن الوهم إلى أن اشتراء الضلالة بالهدى يفيد أنهم كانوا مُهْتَدِينَ ثم تركوا الهدى للضلالة، فيتناقض أول الآية مع آخرها، إذ ليس لكل من منح الهدى يأخذ به فيكون مهتديا، وهؤلاء حمّلوه، فباعوه ولم يحملوه، وينظر إلى هذا الاشتراء، ويشبهه الاستحباب في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/149.
(2) تفسير المنار: 1/158.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر سبحانه أوّلا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ وقوله: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ .
2. وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
3. عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدى إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل واتباع ذوى الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم.
4. نعى عليهم خبثهم في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله: يخادعون الله والذين آمنوا: وفضحهم في قوله: وما هم بمؤمنين، وفي قوله، وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله: في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله: وما يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يعلمون، وتهكّم بفعلهم في قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله: صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلخ وفي قوله: أو كصيب من السماء.
5. أرادوا بالسفهاء أتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم، ليتّبعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويسيروا على هديه، وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم.
6. لا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية، وممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا وظن الضلال هدى أن يسمى الهدى سفها وضلالا.
7. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ وحدهم دون من عرّضوا بهم ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم واكتفوا بانتظار شفاعتهم، وإن لم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك الذين لا سلف لهم إلا عابدو أصنام، وقد هداهم الله وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
8. ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء أو عقلاء.. وختمت هذه الآية بلا يعلمون، وسابقتها بلا يشعرون، لأن الإيمان لا يتم إلا بالعلم اليقيني، والفائدة المرجوّة منه وهى السعادة في المعاش والمعاد لا يدركها إلا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطئوا في إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم، وأن نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة، التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حس لهم حتى يدركوه.
9. اليوم الآخر ـ هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وخصّوا بالذكر الإيمان بهما، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهم لم يكونوا كذلك، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله، وجاحدين باليوم الآخر، إذ قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
10. حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم.
11. معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون تعظيم سلطان الله، ويعلمون أنه مطّلع على سرهم ونجواهم، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات، ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغشّ، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون.
12. الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد، وأصله من قولهم: خدع الضبّ إذا توارى في جحره، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.
13. الخدع هنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلا من مخادع، لا من تائب خاشع.
14. خداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، للاطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
15. ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذ ضرر عملهم لا حقّ بهم، فهم يغرّون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوى الهلاك والردى.
16. ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ يقال شعر به يشعر شعورا: علم به وفطن، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دقّ وخفى من شيء حسى أو عقلي.
17. نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون ـ وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره، إما بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السوىّ ناكبون.
18. المشاهد أن الإنسان إذا همّ بعمل وناجى نفسه، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن اتباع النفس والهوى، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد (فلان يشاور نفسيه)، ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق، وزين لها اتباع الباطل، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس في النفس، ربما لا يلتفت إليها الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
19. القلوب هنا العقول، وهو تعبير معروف عند العرب، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرا به حين الخوف أو اشتداد الفرح.
20. مرض القلوب ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾
21. من أسباب مرض القلوب الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق، ويجعل أحكام العقل في اضطراب.
22. وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل، فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه في الدين.
23. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرئاسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يوما بعد يوم.
24. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أليم، من ألم يألم فهو أليم بمعنى مؤلم (بفتح اللام) إذ يصل ألمه إلى القلوب، وصف به العذاب نفسه لبيان أن الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب (بفتح اللام) إلى العذاب المتعلق به.
25. ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم.. جعل العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى كالكفر وغيره من أعمال السوء، للتحذير منه وبيان فظاعته وعظم جرمه، وللإشعار بأن الكفر من محتوياته، وإليه ينتهى في حدوده وغاياته، ومن ثمّ حذّر منه القرآن أتمّ التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة، ومنشأ كل كبيرة، وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان)
26. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ المنهي عنه هنا الأسباب المؤدية إلى الفساد من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والأخذ بما جاء به من الإصلاح، إلى نحو أولئك من فنون الشر وصنوف الفتن، كما يقول إنسان لآخر: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق بيديك إلى التهلكة، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
27. ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي لا شأن لنا إلا الإصلاح، فنحن بعيدون عن شوائب الإفساد باتباعنا رؤساءنا الذين استنبطوا تعاليمهم من الأنبياء، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونعتنق دينا جديدا لا عهد لنا به من قبل؟
28. هكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه، فإن كانوا على بينة من إفسادهم وضلالهم، فهم يدّعون ذلك ليبرئوا أنفسهم من وصمة الإفساد بالتمويه والخداع، وإن كانوا مسوقين إليه تقليدا للرؤساء، فهم يدّعونه عن اعتقاد، وإن كان السير على منهاجه مفسدا للأمة في الحقيقة والواقع، إذ هم عطّلوا وسائل البحث التي تميز الإصلاح من الإفساد، فهم بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي إلى الوحدة والالتئام، يدعون إلى الفرقة والانفصام، وأيّ إفساد في الأرض أعظم من التنفير من اتباع الحق، والسير على منهاج الباطل ومؤازرة أهله ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ أي هم وحدهم هم المفسدون دون من أومئوا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، وفي هذا الأسلوب مبالغة في الرد عليهم، ودلالة على السخط العظيم.
29. ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بهذا الإفساد لأنه أصبح غريزة في طباعهم بما تمكن فيها من الشبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم والثقة بآرائهم.
30. وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمرّدهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وَإِذَا خَلَوْا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم.
31. وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم؛ ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء.
32. أي: وإذا رأى المنافقون المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم ونطلع على أسرارهم.
﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم، وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة، ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين مترددين في الضلال عقوبة لهم على استهزائهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/49.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ننتقل ـ مع السياق ـ إلى الصورة الثالثة. أو إلى النموذج الثالث.. إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها، وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها، ولكنها تتلوى في الحس، وتروغ من البصر، وتخفى وتبين.. إنها صورة المنافقين.. لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا.. ونجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح، وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس، وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل، وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل.
2. إنهم يدّعون الإيمان بالله واليوم الآخر، وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.
3. من صفتهم التطاول والتعالي على عامة الناس، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .. وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء.. إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة، وأسلموا وجوههم لله، وفتحوا صدورهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين.. هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم.
4. وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام! ومن ثم قالوا قولتهم هذه: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ .. ومن ثم جاءهم الرد الحاسم، والتقرير الجازم: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .. ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم!؟
5. المنافقون يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم، فهم لا يخادعون المؤمنين، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ .
6. في هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من الله كريم.. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين، إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره، وشأنهم شأنه.. يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه ـ سبحانه ـ وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوي السامق؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله ـ جل شأنه ـ يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير!؟
7. هو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم.. تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار، وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
8. هذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين، ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين.
9. هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء.. ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .. إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور.
10. إن الله بخداعهم عليم؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم. أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها.. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين، وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه، والنفاق الذي يظهرونه، وينتهون بها إلى شر مصير.
معنى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ : في طبيعتهم آفة، وفي قلوبهم علة، وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم، ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه.. والمرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرا، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد. سنة لا تتخلف.. سنة الله في الأشياء والأوضاع، وفي المشاعر والسلوك، فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم، المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
11. صفة أخرى من صفاتهم ـ وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورئاسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول ـ صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .
12. إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ .. لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ .
13. الذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.
14. الذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية.
15. تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين.. إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، والسفه والادعاء، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ .
16. وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيئ براعة، وهو في حقيقته ضعف وخسة، فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا، ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا، وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين، ليتقوا الأذى، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.. هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم ـ وهم غالبا ـ اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا.. هؤلاء المنافقون كانوا ﴿ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مستهزئون ﴾ ـ أي بالمؤمنين ـ بما نظهره من الإيمان والتصديق!
17. ما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ .. وما أبأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض وما أشقاه! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب، وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب.
18. هنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها. حقيقة تولي الله ـ سبحانه ـ للمعركة التي يراد بها المؤمنون، وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله، ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين، المتروكين في عماهم يخبطون، المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم، والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك، وهم غافلون يعمهون!
19. لعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية.. ذلك أن كلّا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء، وفيه بساطة على معنى من المعاني.. الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقة، وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات، ومزيد من الخطوط كما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة.
20. على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.
21. والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم، ومدى خسرانهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ .. فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا.. كان الهدى مبذولا لهم.. كان في أيديهم، ولكنهم ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، كأغفل ما يكون المتجرون.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/44.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السّفه ـ مع أنه انحراف حاد عن طريق الحق والخير ـ لا يقع في علم هؤلاء السفهاء، ولا يرون فيه ما يرى الراشدون من الناس من حماقة ومنقصة!: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
2. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ يمكن أن تكون الفاء هنا للسببية، ويكون المعنى أن ما أرسل الله من هدى على يد النبيّ قد استقبلوه بتلك القلوب المريضة فهيج علّتها، وأيقظ نائم دائها.. كما يمكن أن تكون (الفاء) للتفريغ، وتكون الجملة بعدها دعائية، والمعنى أن هؤلاء المنافقين ـ بما استبطنوا من نفاق لا يرجى شفاؤه ـ استحقوا أن يدعى عليهم بما يزيد مرض قلوبهم مرضا.
3. النفاق شر من الكفر الصّراح، لأن الكافر على بينة من أمره مع نفسه، وعلى حال يعرف الناس منها وجهه.. وليس الكافر بالميئوس منه أن يتحول في أية لحظة من الكفر إلى الإيمان.. أما المنافق فأمره مختلط، وشأنه مضطرب، يدور حول نفسه التي تحمل الكفر والإيمان معا، فلا هو في الكافرين، ولا في المؤمنين، ولهذا توعد الله سبحانه المنافقين بما لم يتوعد به الكافرين، من عذاب ونكال، حيث يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾
4. توعد الله سبحانه المنافقين هنا بالعذاب الأليم، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ على حين توعد الكافرين في الآية قبلها بالعذاب العظيم، فقال سبحانه: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ والأليم أشد هولا ونكالا من العظيم، فقد يكون العظيم عظيما في شخصه وهيئته، وليس عظيما في أفاعيله وسطوته.. أما الأليم فهو البالغ الغابة في الإيلام، ولو ضؤل شخصه ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾
5. آفة الكافرين في كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة في كيانهم، هي القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى.. أما المنافقون فإن آفة نفاقهم في القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام.
6. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ هكذا ينافق المنافق حتى مع نفسه، فيرى أنه على طريق الحق، على حين أنه غارق في الضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، فلقد غلبت عليهم شقوتهم، ونظروا إلى أنفسهم في مرايا النفاق، فرأوا أنهم أحسن الناس حالا، وأكملهم كمالا.
7. إنهم هم المنافقون! لقد فضح الله باطنهم الخبيث، وما انطوى عليه من سوء، فدمغهم بهذا الحكم القاطع المؤكد أوثق التوكيد (بجملة أدوات): ألا (الاستفتاحية) وإنّ (المؤكدة) وهم (ضمير الفصل) وال (المعرّفة للخبر بما يدل على قصر الفساد عليهم وحدهم.
8. في إسناد مقول القول (آمنوا) إلى المبنى للمجهول، ما يشعر بأن ضلالهم ـ قد أصبح من الانكشاف والوضوح بحيث أنطق كل موجود في محيطهم، بدعوتهم إلى الاستقامة، والانتظام في موكب (الناس)، الذين صانوا إنسانيتهم عن هذا الانحراف السفيه، الذي يعيش فيه المنافقون.
9. ولهذا جاء قول الله تعالى: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ ولم يجيء: (كما آمن المؤمنون) وفيه ما يدل على أن الإيمان أقرب شيء إلى الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من شأن الناس أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن من استجاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هم الناس، ولا اعتبار لغيرهم.
10. جاءت فاصلة الآية هنا: ﴿لَا يَعْلَمُونَ ﴾ على حين أنها جاءت في الآية السابقة عليها: ﴿لَا يَشْعُرُونَ ﴾ وذلك لاختلاف المقام هنا وهناك، ﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
11. الإفساد في الأرض ـ مع أنه مما يجابه الحواس، ويقع في محيط إحساسها ـ لا يشعر به أولئك المنافقون، لكثرة ما ألحقوا على هذه الحواس من خداع وتضليل، ولكثرة ما تعالوا معها بالتعمية والتمويه: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾
12. هذه حال المنافقين دائما.. يلقون الناس بوجهين، وجه يظهر الحب والمودة، ووجه يضمر السوء والشر.. إنهم مع أهوائهم الضالة، ونفوسهم المريضة، فحيث كان لهذه الأهواء منتجع، وكان لتلك النفوس مستراح ـ فهم هناك.. يتقلبون مع كل ريح، ويطعمون من كل مائدة! و(شياطينهم) هم رؤوس النفاق فيهم، وأصحاب الأمر والتدبير عندهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/33.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحة وهم المشركون، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3] فلم يكن السامع سائلا عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيره وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14]، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب أن يذكر أمره للسامعين.
2. لذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين، بخلاف جملة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 6] ترك عطفها على التي قبلها، لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقبا للسامع، فكان السامع كالسائل عنه، فجاء الفصل للاستئناف البياني.
3. الآية أشارت إلى طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من أهل يثرب وبعضهم من اليهود الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم.. أما اليهود فلأنهم أهل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز.. أما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ [الأعراف: 97] الآية، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة.
4. كل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لا حق بهم فيما نعى الله عليهم، وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية: لم يجيء هؤلاء بعد)، قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان، يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم.
5. المذكور بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين للتمايز بين الجميع بأشهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه، وجه جعل المنافقين قسيما للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات المخصصة.
6. هذا فريق آخر وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر، وهو لا يعدو أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا التمسك باليهودية، ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا، وورد في القرآن الكريم من تحقير شأن النفاق ومذمته، حيث وردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور، إذ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفن الرأي، والبله، وسوء السلوك، والطمع، وإضاعة العمر، وزوال الثقة، وعداوة الأصحاب، واضمحلال الفضيلة:
أ. الجبن، فلولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن.
ب. المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن.
ج. أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك.
د. البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به.
هـ. سوء السلوك فلأنّ طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة، إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها.
و. الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع.
ز. إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك، وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي.
ح. زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا.
ط. عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته.
ي. اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.
ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى هذه الصفات وغيرها، ومنها:
أ. قوله تعالى: ﴿ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ إلى الكذب ﴾، وقوله: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ [البقرة: 9] يشير إلى المكيدة والجبن.
ب. وقوله: ﴿ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 9] إلى أفن الرأي.
ج. وقوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9] إلى البله.
د. وقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: 10] إلى سوء السلوك.
هـ. وقوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 10] إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان.
و. وقوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11] إلى إضاعة العمر في غير المقصود.
ز. وقوله: ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14] مؤكّدا بإنّ إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم.
ح. وقوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: 16] إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم.
ط. وقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 18] إلى اضمحلال الفضيلة منهم.
7. نفي الإيمان عنهم مع قولهم ﴿آمَنَّا﴾ دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق، وأن النطق بما يدل على الإيمان قد يكون كاذبا فلا يكون ذلك النطق إيمانا.
8. الإيمان في الشرع هو الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علما ضروريا بحيث يكون ثابتا بدليل قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل مسلم اشتهارا بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه، فقد نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص، وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عمر أن جبريل جاء فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإيمان فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)
9. إنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إيجازا لأن:
أ. الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها، لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول، إذ الإيمان بالله هو الأصل، وبه يصلح الاعتقاد، وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها، وفيه صلاح الحال العملي.
ب. أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استثقالا لهذا الاعتراف، فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاما للاكتفاء ظاهرا ومحافظة على كفرهم باطنا لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود.
10. في التعبير بيقول في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك قول غير مطابق للواقع، لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ يقول أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده، أو أن المتكلم يكذبه في ذلك، ففيه تمهيد لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
11. الناس اسم جمع إنسيّ بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أناسيّ الذي هو الجمع القياسي لإنس وقد عوضوا عن أناسي أناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب، دلّ على هذا التعويض ظهور ذلك في قول عبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب امرئ القيس: إنّ المنايا يطّلعن على الأناس الآمنينا، ثم حذفوا همزته تخفيفا، وحذف الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لوقة في ألوقة وهي الزّبدة، وقد التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالبا بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفها شائع فيه.
12. التعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 6] أو الناس الذين يعهدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون في هذا الشأن، و(من) موصولة والمراد بها فريق وجماعة بقرينة قوله وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وما بعده من صيغ الجمع.
13. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضا طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كلفه ومتّقياته، وكلّت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل.
14. حذف مفعول ﴿آمَنُوا﴾ استغناء عنه بالتشبيه في قوله: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أو لأنه معلوم للسامعين.. وقوله: ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل.. واللام في (الناس) للجنس أو للاستغراق العرفي.
15. المراد بالناس من عدا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء، قال عمرو ابن البرّاقة النّهمي:
وننصر مولانا ونعلم أنّه... كما الناس مجزوم عليه وجارم
16. في قوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ استفهام للإنكار، قصدوا منه التبري من الإيمان على أبلغ وجه، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أنه يعني بالناس المسلمين.
17. السفهاء جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل:
نخاف أن تسفه أحلامنا... فنخمل الدهر مع الخامل
18. العرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه، وتطلقها على سوء التدبير للمال، قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: 5] وقال: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا﴾ [البقرة: 282] الآية لأن ذلك إنما يجيء من ضعف الرأي.
19. وصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار، وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص... فهي الشهادة لي بأني كامل
20. ليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا، ولا نفيا لأن القائلين لهم ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين الذين لم يفشوا أمرهم، فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد، ولكنه شيء أطلع عليه نبيئه، وكانت المصلحة في ستره، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة.
21. أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين، ولولا جفاء قولهم: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين، ولكنهم كانوا مضرب المثل: قلت فأوجبت)
22. لأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة، أعلن ذلك:
أ. بكلمة ﴿إِلَّا﴾ المؤذنة بالتنبيه للخبر، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: 12] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة، وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.
ب. و(إنّ) هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفا، و(ألا) كأختها المتقدمة في: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾
23. قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ دون يشعرون خلافا للآيتين السابقتين، لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا، ويكون الجهل به نفي شعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى.
24. لقاؤهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلّتين، وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك، كاف في النداء بسفاهة أحلامهم، فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى، وقد قالت العرب: السفاهة كاسمها، قال النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها... يهدى إليّ غرائب الأشعار
وقال جزء بن كلاب الفقعسي:
تبغّى ابن كوز والسّفاهة كاسمها... ليستاد منّا أن شتونا لياليا
25. ظنهم أن ما هم عليه من الكفر رشد، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم عنهم، فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.
26. جملة: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ بدل اشتمال من جملة: ﴿يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ وما معها، لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة، والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره، وهو إنما يريد خلاف ذلك، ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله، تقول العرب: خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة، ثم يخرج الضب من النافقاء.
27. الخداع فعل مذموم إلا في الحرب، والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع، وهو مذموم أيضا لأنه من البله، وإظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع... إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وفي حديث (المؤمن غر كريم)، أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر، ولذلك عقبه بكريم، لدفع الغرية المؤذنة بالبله، فإن الإيمان يزيد الفطنة، لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله: والسعيد من وعظ بغيره)، مع قوله: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى (المؤمن غر كريم)، فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا... إنّ الحليم وذا الإسلام يختلب
فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.
28. معنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة ﴿يُخَادِعُونَ﴾ أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به.
29. يمكن تأويل ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ على أن مفعول خادع لا يلزم أن يكون مقصودا للمخادع ـ بالكسر ـ إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكّله، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله، فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدّين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين.
30. تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين، فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها، كل بما يلائمه.
31. يمكن اعتبار ﴿يُخَادِعُونَ﴾ استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعين.
32. يمكن أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة: يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة، كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بدّ من حيث إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل.. وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين على وجه التبعية، وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.
33. تأويل فاعل ﴿يُخَادِعُونَ﴾ المقدّر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله، وإما مجاز بالحذف للمضاف، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق.
34. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ عطف على جملة وما يخادعون والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية، ومنه سمي الشاعر شاعرا لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة، ولا يحسن لذلك كل أحد، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن.
35. فقولهم: هو لا يشعر، وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس، وهو أبلغ في الذم، لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه، فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة.
36. على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه، واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 12] لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي.
37. اختير في قوله ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13] نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته، لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير، ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح، فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
38. أن قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ استئناف محض لعدّ مساويهم.
39. ويجوز أن يكون بيانيا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوما عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لا حق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ بيانا وهو أن في قلوبهم خللا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن.
40. ولهذا قدم الظرف وهو ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب، وتنوين ﴿مَرَضٌ﴾ للتعظيم، وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: 7]
41. المرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجا غير تام، وبمقدار الخروج يشتد الألم، فإن تم الخروج فهو الموت، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضا يخرجها عن كمالها.
42. إطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني... خبير بأدواء النساء طبيب
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.
43. المراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة، لأنه هو الذي اتصف به المنافقون، وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.
44. معنى ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات، كما قال المعلوط القريعي:
ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته... على السّنّ خيرا لا يزال يزيد
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل: من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل:
فإنك سوف تحلم أو تناهى... إذا ما شبت أو شاب الغراب
45. إنما كان النفاق موجبا لازدياد ما يقارنه من سيئ الأخلاق، لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين، وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد، فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب.
46. النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي: الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف، لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقة بالنفس وبحسن السلوك.
47. كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنوات أخرى:
أ. فالكذب ينشأ عن شيء من البله، لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس، وهذا من قلة الذكاء، لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيرا منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فكر صاحبه بالحقائق المحرّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعا، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
ب. أما نشأة العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفه فظاهرة.. وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف.
ج. أما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة، فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هزأة للناس أجمعين.
48. هذا يدل على أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه.
49. لعل تنكير (مرض) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويع أو تكثير، وتنكير الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادة النكرة نكرة.
50. إنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلق هذا التولّد وأسبابه وكان أمرا خفيا نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.
51. جملة: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ خبرية معطوفة على قوله: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ واقعة موقع الاستئناف للبيان، داخلة في دفع التعجب، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا ينال لأن في قلوبهم مرضا ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايدا مجعولا من الله فلا طمع في زواله.
52. قال بعض المفسرين: هي دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط:
تباعد عني فطحل إذ دعوته... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء، ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)
53. قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ إكمالا للفائدة فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة، وتقديم الجار والمجرور وهو ﴿لَهُمْ﴾ للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه.
54. الأليم فعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مفعل وأصله عذاب مؤلم بصيغة اسم المفعول أي مؤلم من يعذّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جدّ جدّه، أو هو فعيل بمعنى فاعل من ألم بمعنى صار ذا ألم، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم بكسر اللام، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحكيم والسميع بمعنى المسمع كقول عمرو بن معديكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل... تحية بينهم ضرب وجيع
أي موجع، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
55. قرأ الجمهور (يكذّبون) بضم أوله وتشديد الذال، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخباره بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح.. أما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 8] وعلى كذبهم العام في قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.
56. القائل لهم ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شئونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلما بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يغضي عن زلاتهم.
57. في جوابهم بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ما يفيد أن الذين قالوا لهم ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما، ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 8]
58. لا يصح أن يكون القائل لهم الله ـ والرسول ـ إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾
59. في بيان إيقاعهم الفساد مراتب:
أ. أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.
ب. الثانية: إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 27].
ج. الثالث: إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
60. الإفساد فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض، والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعد أن كان صالحا.
61. يقال فاسدا:
أ. إذا وجد فاسدا من أول وهلة.
ب. ويقال أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه.
ج. ويقال أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر.
62. الأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه:
أ. فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة.
ب. ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبرآء.
ج. ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور.
د. ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين.
والمنافقون قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق ﴿تُفْسِدُوا﴾ تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع في حيز النفي.
63. سبب ذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه ـ وهو الأرض ـ وذلك لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها، والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 200]
64. قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحا، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسدا، ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا.
65. جاؤوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير، ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك، وأفاد ﴿إِنَّمَا﴾ هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا، فردوا عليهم بقصر القلب، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في (دلائل الإعجاز)
66. اختير في كلامهم حرف (إنما) لأنه يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في (دلائل الإعجاز) وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدّوام.
67. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه، لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيد قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في غيرهم، وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس.
68. إن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر، إلا أنه قصر ليفيد ادعاء نفي الإفساد عن غيرهم، وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفا أن لا يكون مصلحا إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرء عنه الوازع وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأبا لا يكاد يفارق موصوفه.
69. وحرف (ألا) للتنبيه إعلانا لوصفهم بالإفساد، وأكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضا ـ كما أكد به القصر في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5]
70. ودخول (إنّ) على الجملة وقرنها بألا المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالة على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأما لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما، ويدل ذلك أيضا على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب، لأن الكلام دفع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.
71. التقييد بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تمهيد لقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ فبذلك كان مفيدا فائدة زائدة على ما في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 8] الآية فليس ما هنا تكرارا مع ما هناك.
72. المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون.
73. معنى قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم ﴿آمَنَّا﴾ الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تقلب بها المؤمنون وعرفوا بها على حد قوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 156] أي كنا على دين اليهودية، فلا متعلق بقوله ﴿آمَنَّا﴾ حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره، أو أريد آمنا بما آمنتم به، والأول أظهر.
74. لقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومجالس المؤمنين، ومعنى ﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان.
75. قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فتمهيد له كما علمت، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13] إنكارا لذلك.
76. واو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق، وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم.
77. إنما لم يجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ على الحال، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحا لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ مناد وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا﴾ الدال على أن ذلك في وقت مخصوص، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظا.. ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال.
78. الشياطين جمع شيطان، جمع تكسير، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ﴾ [الأنعام: 112]
79. اختلف البصريون والكوفيون في وزن شيطان:
أ. قال البصريون: هو فيعال من شطن بمعنى بعد؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية.
ب. قال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر.
ج. لا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول، وهل إن نونه أصل أو زائد، وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر: 17]، وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط، وفي (الكشاف): جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة.. والوجه أن تشيطن لما كان وصفا مشتقا من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقا مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحا لأحد القولين.
80. ذكر أن الشيطان ـ كما اختاره ـ اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة، ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، وقد كان العرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في أكثر اللغات القديمة.
81. (خلوا) بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر، ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم: افعل كذا وخلاك ذم) أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك.. وقد عدي هنا بإلى المشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم، وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة، أفاد ذلك كله قوله: ﴿لَقُوا﴾ و ﴿خَلَوْا﴾، وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها.
82. حكي خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر، فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك، وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر.
83. قولهم لقومهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ بالتأكيد لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم، وكذلك قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاؤوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق.
84. وجّه صاحب (الكشاف) العدول عن التأكيد في قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ والتأكيد في قولهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر، لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك، ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين، فاقتصروا على اللازم من الكلام، فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر، وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.
85. قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب، أي مؤمنون مخلصون، وجملة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ تقرير لقوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه، فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر، لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ ويدعي عكس ذلك.
86. قد تكون الجملة بدلا من ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه ـ وهو مقتضى ﴿مَعَكُمْ﴾ أي في تصلبكم ـ فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم.
87. الوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية.
88. الاستهزاء السخرية يقال: هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب، أي عامله فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه.
89. الباء فيه للسببية قيل: لا يتعدى بغير الباء وقيل: يتعدى بمن، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة.
90. لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين ﴿آمَنَّا﴾ [البقرة: 14]، وقولهم لشياطينهم ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ [البقرة: 14]، يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ غاية الفخامة والجزالة، وهو أيضا واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف، وذكر ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم.
91. لأجل اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي، ولم يقل يستهزئ الله بهم، لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم، فأعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم، وهم المؤمنون، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة، ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه، فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في (الكشاف) عند قوله تعالى: ﴿فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم.
92. كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم، فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم، ولذلك قال عبد الله بن أبيّ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: 8] فقال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون: 8] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له.
93. فعل: ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته، لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾، ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا، فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما بشبه فعل المستهزئ بهم، وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم، فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم.
94. لا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة، لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة.
95. يجوز أن يكون ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ للاستقبال، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية.
96. يجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير، والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم.
97. هذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في (الكشاف) وهو مبني على المتعارف بين الناس.
98. جيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه.
99. جيء في قوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زمانا إلى أن يأخذهم العذاب، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: 196]
100. قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يتعين أنه معطوف على ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾
101. (يمد) فعل مشتق من المدد وهو الزيادة، يقال مدّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد في الزيادة في ذات المفعول نحو مدّ له في عمره ومدّ الأرض أي مططها وأطالها، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش: ﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾ [الشعراء: 133]، وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ [النمل: 36] ﴿أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ﴾ [المؤمنون: 55]، ويختص مد بغير الخير.
102. الطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في الشر والكبر.
103. تعليق فعل ﴿ يَمُدُّهُمْ ﴾ هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد.
104. العمه انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عمه فهو عامه وأعمه، وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها، فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة، وذلك بخلق خاص بهم مباشرة، ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة، وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو: يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر: إنه من المجاز الذي لا حقيقة له.
105. إنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾ إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم.
106. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ لإشارة إلى من يقول ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 8] وما عطف على صلته من صفاتهم.
107. جيء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق (من) هو فريق من الناس.. وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى: ﴿ و﴿ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15] فمضمونها بمنزلة التوكيد، وذلك مما يقتضي الفصل، ولتفيد تعليل مضمون جملة ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ فتكون استئنافا بيانيا لسائل عن العلة، وهي أيضا فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل، وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] ومقابل موقع جملة ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: 7] الآية.
108. اسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم، وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ.
109. ليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيرا ناشئا عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 2]، ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان، فإن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم، وعكس هذا قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فإن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به.
110. الاشتراء افتعال من الشرى وفعله شرى الذي هو بمعنى باع، كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد، أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه، فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئا لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضيا آخذين وباذلين كان كل منهما بائعا ومبتاعا باختلاف الاعتبار، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل، والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ، فإن اعتبره المتكلم آخذا لما صار بيده عبّر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلا لما خرج من يده من العوض، عبّر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سنن واحد.
111. ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: 20] فتوهموا الضمير عائدا إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ [يوسف: 19] أي باعوه، وحسبك شاهدا على ذلك قوله: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ [يوسف: 21]
112. إطلاق الاشتراء هاهنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حرصوا على الضلالة، وزهدوا في الهدى إذ ليس فيما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مُهْتَدِينَ.
113. يجوز أن يكون الاشتراء مستعملا في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور. قال بشامة بن حزن:
إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
أي يبيعنا أي يبدلنا، وقال عنترة بن الأخرس المعني من شعراء (الحماسة):
ومن إن بعت منزلة بأخرى... حللت بأمره وبه تسير
أي إذا استبدلت دارا بأخرى، وهذا بخلاف قول أبي النجم:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا... وبالطويل العمر عمرا جيدرا
فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالة تشبه حال المهتدي تلبّسوا بها، فإذا خلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال، وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضا أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تينك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في (الكشاف).
114. الموصول في قوله ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ بمعنى المعرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بال مُهْتَدِينَ.
115. رتّبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مُهْتَدِينَ فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية، ولهذا عبر بـ ﴿ ما كانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع.
116. الربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر، ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله.
117. معنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله، ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع.
118. نفي الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان.
119. إنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفي عنها لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي، وذلك أنه لولا الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير: ونمت وما ليل المطي بنائم) بخلاف قولك ما ليله بطويل، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز، وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت.
120. أفاد قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ ترشيحا للاستعارة في ﴿اشْتَرَوْا﴾ فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول: له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن، أم كان التشريح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به ﴿اشْتَرَوْا﴾، ومثله قول الشاعر:
ولما رأيت النّسر عزّ ابن داية... وعشّش في وكريه جاش له صدري
فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فتّاك العرب في أمه:
وما أمّ الرّدين وإن أدلّت... بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصّع في قفاها... تنفّقناه بالحبل التّوأم
فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعا للأولى، والآية ليست من هذا القبيل.
121. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قد علم من قوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ إلى: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾، فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود، وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعلوم أنه لم يبق فيهم هدى.
122. معنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين، وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح، فيقع في الخسران. فقوله: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/256.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل، وبين العداوة وإظهار المودة، وهم المنافقون، وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية، لتنوع أعمالهم، وتغير أحوالهم، بسبب حيرتهم، ونفاقهم، وأوهامهم المضلة.
2. لم يذكرهم الله تعالى في الذين لا يجدى فيهم إنذار نذير، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، لم يذكرهم الله فى أولئك، وإن كانوا داخلين فيهم؛ لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى، فكانوا أشد عند الله مقتا، وأبعد في الفساد والأذى، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين، وبث روح الفشل فيهم، وموهوا، وعادوهم أشد من عداء الآخرين، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يسرّونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام، وبإشاعة المآثم والمفاسد في الذين آمنوا.
3. الناس أصلها الأناس، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس، فلا يقال متقون، ولا يقال مؤمنون، ويقال كافرون فقط؛ لأن لهم لونا اختصوا به، وهو أنهم كافرون.. وهؤلاء المنافقون حائرون، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس، لا دين لهم ولا خلق، وليس معنى ذلك أنهم خير حالا من الكافرين، بل هم أشد كفرا، وأبعد إيغالا في الشر، وأكثر فسادا، وإذا كان في الكافر وضوح، فهو يعلنه، فأولئك كافرون يبهمون ويجبنون، ولا يصارحون.
4. سؤال وإشكال: كيف ينفى عنهم وصف الإيمان، وقد كانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يعرفون أبناءهم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه، وأدركهم زمانه، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾، وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبيّ فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر، ليس فيه إيمان، ومنفى بقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾؟ والجواب:
أ. الإيمان ليس هو المعرفة المجردة، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وكانوا من اليهود، فلم يذعنوا ولم يسلموا، ولم تصل المعرفة إلى تصديق؛ ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي ليسوا مؤمنين، واليوم الآخر وهو يوم القيامة، وما يجرى فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب.
ب. فالله سبحانه وتعالى أكد نفى إيمانهم بالجملة الاسمية، أي أنه سبحانه نفى الإيمان وأصله عن ذواتهم، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله، وباليوم الآخر، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر.
ج. وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضى الإذعان والتصديق والتسليم، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة، والمنافق قلبه غير مستقر، ولا مطمئن إلى شيء، هو قلب خاو، والحقائق تتردد فلا تسكن، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمأن، فلا يؤمن بشيء، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، لا تدرى إلى أيهما تذهب)، وقال تعالى في وصفهم: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثا ومقتا عند الله ورسوله، وعند الناس أجمعين.
5. قد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم، فيظنون أنهم يخادعون الله، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم؛ ولذلك قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، والخدع: أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفى إرادته الحقيقية، ومقصده، ومن ذلك ضبّ خادع إذا أخفى نفسه في جحره، وقد أراد أن يضلل من يراقبه، فأظهر الخروج من باب ويختفى في غيره، وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه، وهم يبطنون الكفر، ولا يريدون غيره، بل يريدون تضليل المؤمنين، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى.
6. النص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان، وإبطانهم الكفر، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، وفى آية أخرى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾
7. الآية الكريمة وصف لحالهم ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، فهي وصف لحالهم وما يرتكبون، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين.
8. المخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر، وكيف يخادعون الله، وهو علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته، وكل من في السموات والأرض في قبضته يوم القيامة؟ وقد أجاب العلماء على ذلك بما يلي:
أ. أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين، فيتزوجون، ويرثون، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان، فهم يخادعون بإظهار ما لا يبطنون، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون، ولا يعاملهم بما يبطنون.
ب. أو يقال: إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم، وإيهامهم بأنهم آمنوا، وما هم بمؤمنين.
ج. أو يقال إن المخادعة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم، وإن كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلم من لحن قولهم خفىّ أمرهم كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾
9. المعنى في الجملة بعد أن خرّجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوليائه من المؤمنين، وفى التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبيّ إنما يخادعون الله تعالى، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنهم إذ يضارونه، ويخفون عليه أمورهم، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لا يبدون وهو من ورائهم محيط.
10. إن المنافقين إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر، إنما يخدعون أنفسهم، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور، وحالهم معروف، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم، وهو معروف لغيرهم، فهم المخدوعون أنفسهم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين، فهم المخدوعون؛ لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم، ولكنهم لا يشعرون، أي لا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بيّن، والله من ورائهم محيط.
11. إن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم، وتضل أفهامهم، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي، وتأخذهم عزة النفاق، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لا يشعرون.
12. الآفات الاجتماعية والنفسية أمراض تصاب بها النفس الإنسانية، وهو ضعف يرد إلى النفوس، وأفحش هذه الأمراض النفاق، فهو ضعف يصيب النفوس يبتدئ من أحقر الأفراد إلى أن يصل إلى أعلاها، ولا يُظن أن النفاق يكون فقط لجلب نفع آثم، أو لدفع ضرر جاثم، بل هو ضعف نفسي يحيط بالإنسان ويتغلغل في نفسه.
13. إطلاق كلمة ﴿مَرَضٌ﴾ هنا، يصح أن يكون من قبل الحقيقة؛ لأن المرض هو ما يؤذى النفس، ويلقى بها في الضعف، وليس ذلك مقصورا على المرض الذي يصيب الجسم، بل هو يشمل ما يصيبه في أعصابه، كالجنون الذي يستر العقل، وكالعته الذي يمنع الإدراك، وكالسفه الذي لا يدرى النفع من الضرر، فهذه كلها أمراض، وتعد في اللغة أمراضا.
14. كذلك مرض النفاق الذي يصيب النفوس بالوهن والحيرة، والحقد والبغض لخير الناس، وأن يكون صاحب هذا المرض غير مستقر، بل هو في بلبال مستمر، تزداد حاله كلما تمكن فيه هذا الداء، وهو ساكن في النفس لا تخرج مظاهره، وكلما استتر واستكن ازداد قوة وإيغالا في النفس حتى يصعب علاجه، فإذا كان الكذب المجرد قد يعالج، فالنفاق مرض لا علاج له.
15. كان يراد المجاز بتشبيه النفاق بالمرض العضال الذي لا يشفى، ومرض النفاق فساد القلب، وقد صور ذلك الزمخشري في قوله: والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد، والغل والحسد، والميل إلى المعاصي والعزم عليها والبغضاء؛ لأن صدورهم كانت تغلى على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، غلا وحنقا، ويبغضونهم البغضاء التي وصفها الله تعالى في قوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾
16. من التفسير المأثور أن المرض هو النفاق، وهو مرض إذا أصاب القلب فقد الإيمان بأي شيء من شئون الأخلاق أو الاتصال بالناس، فإنه يصبح في غربة عن أهل الحق وأهل المعرفة، والاتصال بهم، فيكون في جو معتم، تسوده الكآبة ولا يظله نور الحق، وذلك شر ما يقع فيه الإنسان.
17. إن المنافق إذا أوغل في قلبه النفاق انتقل به من دركة إلى دركة أسفل منها، فيزيد خسرانا بإيغاله، كالسائر في متاهة، كلما أوغل فيها ازداد ضلالا وبعدا عن الطريق الجدد، حيث الأعلام، وهذا معنى: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ أي أنهم بسيرهم في هذا الطريق الضال يزدادون إيغالا فيه، فيزيد مرضهم بتقدير الله تعالى؛ لأنهم قد أوغلوا مختارين فيه.
18. وهكذا كل المعاصي والذنوب التي هي أمراض القلب، من اختارها، فقد اختار الضلالة كلما سار فيها ازداد بعدا عن الحق وعن الطريق القويم فيوغل في المعاصي لا يعود ولا يتوب.
19. بين الله تعالى عاقبتهم، فقال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب مؤلم شديد، فأليم هنا بمعنى مؤلم، يصيب أجسادهم يوم القيامة كقوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي مبدع السموات والأرض يعنى منشئها على غير مثال سبق، فيكون لهم جزاءان:
أ. أحدهما دنيوي وهو متولد من النفاق نفسه إذ يكونون في اضطراب لا يستقرون على قرار، ولا يطمئنون؛ إذ الغل والحقد والحسد يقتل نفوسهم قتلا، ويستمرون على ذلك، حتى يكون هذا مرضا خبيثا يسكن نفوسهم، حتى ينغص عليهم كل حياتهم، وتكون كل نعمة تنزل بأهل الإيمان والحق نقمة عليهم.
ب. الجزاء الثاني هو العذاب الشديد المؤلم الذي ينالهم يوم القيامة، وهو ينتظرهم، وهم واردون عليه بلا ريب.
20. بين الله سبحانه وتعالى سبب ذلك العذاب الذي هو الجزاء الثاني، فقال تعالت كلماته: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ فالباء هنا باء السببية، أي بسبب الكذب المستمر الذي كانوا يقومون به، ف (كانوا) هنا دالة على الاستقرار والدوام، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وكما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.
21. معنى ﴿ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ﴾، بسبب كذبهم المستمر الذي لا ينقطع، وقد اتصفوا بالكذب:
أ. فكذبوا على أنفسهم، فكلما بدا لهم ضوء الحق طمسوه، وغروها الغرور، وخدعوها بأنهم أهل الحق، وموهوا عليها، كما موهوا على الناس، فصارت في عماء، وغلبت عليها شقوتها.
ب. وكذبوا على الرسول وأصحابه، وقالوا آمنا بالحق وباليوم الآخر.
ج. وكانوا لا يصدقون في حديث مع الناس، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في وصف المنافق: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)
22. ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العقام الذي لا يزايل المريض حتى يقضى عليه.
23. في هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغيانهم أنهم يصلحونها، وأنهم فوق الناس، ويمارون في القول، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم، يحسبون أنهم يستهزءون بالمؤمنين.
24. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم، وأن الناس جميعا يتساءلون: لماذا كان ذلك الفساد؟ وأى مأرب لهم فيه؟، ولسان الخير يقول لهم: ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فهم في حال من الإفساد، يستنكرها كل إنسان، ولا يرتضيه رجل للأخلاق عنده مكانة، وللخير عنده منزع.
25. تجهيل اللائم لهم بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ لعموم المستنكرين لحالهم، وأنهم في واد والناس في واد آخر، فلا تجد أحدا يوالى منافقا إلا إذا كان على شاكلته.
26. كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام.
27. المنافقون في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد، ومن كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد وضح فسادهم، واستشرى شرهم، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين، وقد عرفوه، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس، وكلما أطفأ الله نارا للحرب أوقدوها، ومالئوا المشركين على المؤمنين، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها، كما قال تعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾
28. نقل عن ابن جرير ما ذكره في تفسيره في بيان إفسادهم، وهو: أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، مقيمون على الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين، ويتفقون معهم، ويدلون على عورات المؤمنين، ومقاتلهم، وهكذا.
29. سبب ذكر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ لبيان عموم فسادهم، وأنه يتناول المدينة وما حولها، وأن الأرض موطن فسادهم، يثيرون الحروب فيها، ويشيعون الشر في ربوعها.
30. إن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله، ويزعم أنه ليس بفاسد، فهو معكوس النفس مركوس، قد انقلبت الحقائق في عقله، فلا يعرف الخير من الشر، ولا الفساد من الصلاح، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور، فجميعها منكوس.
31. لذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي قصروا نفوسهم على الإصلاح، وذلك أن (إنما) تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لا يكون منهم فساد قط، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا، ولا يعدونه فسادا، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وذلك الغرور لا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته، فأصبح لا يرى إلا ما يكون في دائرتها، وقد سدت عنه كل منافذ الخير.
32. حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات:
أ. التعبير ب (ألا) لأن لا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي فهي نفى مؤكّد لصلاحهم، وتأكيد لفسادهم.
ب. التأكيد ب (إن) المؤكدة لفسادهم.
ج. ضمير الفصل، وهو (هم).
د. تعريف الطرفين وهو دال على القصر، أي أنهم مقصورون على الفساد، لا يتجاوزونه، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، فهم يسارعون فيه، ولا يخرجون عنه.
33. الشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطإ ما يفعلون، فالشر قد استغرقهم، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر.
34. إذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكرى ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته، فيستنقذهم منهم.
35. بنى الفعل ﴿قِيلَ﴾ للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لا ريب فيه، وباطل لا ريب في بطلانه، فهم يعلنون الإيمان، ولم يعلنوا الكفر، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب، ويتساءل عنه كل أهل العقل والمنطق؛ ولذلك كان التعميم فى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾(2).
36. قال المخلصون: آمنوا أي صدقوا واعتقدوا الوحدانية، وأن تؤمنوا بالله ورسوله والملائكة والرسل جميعا، ﴿كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾، و(أل) في الناس للعهد أي الناس المعهودين المعروفين، وهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه المجاهدون الذين أخلصوا دينهم لله.
37. عبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم، وعظم مداركهم، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه.
38. لكن مع جلال ما آمنوا به، وصدقه، استعلى المنافقون بالباطل، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل، وما عليه غيره هو عين السفه.
39. السفهاء جمع (سفيه)، وهو الأحمق الذي لا يتخير الأمور، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة، فقالوا: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ وهم في زعمهم محمد وأصحابه.
40. الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا نؤمن، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق، كما صدق محمد وأتباعه، ومن ساروا على منهاجه، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد، وغرهم ما كانوا يفترون، ويكذبون به، وتكرر كذبهم، حتى ظنوها الأعلى، وهو الدرك الأسفل.
41. حكم الله تعالى، وهو الحكم العدل، وهو خير الفاصلين، فقال تعالت كلماته: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه، فهم يخرجون من سفه إلى سفه، ويسارعون في السفاهة، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها.
42. أكدت السفاهة بقوله: ﴿إِلَّا﴾ التي هي استفهام داخل على النفي فكان تأكيدا للنفي مع التنبيه، وقد أكد أيضا ب (إن)، وهى تجيء بعد قوله تعالى: ﴿إِلَّا﴾ كما يجيء القسم بعدها.. وأكد بضمير الفصل، في قوله تعالى: ﴿هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ .. وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه، بحيث لا يكون منهم إلا ما هو سفه، ولا يجيء منهم حكمة قط؛ لأن الحكمة لا تكون إلا من قلب سليم.
43. ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ مقدار ما أوتوا من سفه الرأي، وما أوتى غيرهم من حكمة الإيمان.
44. هنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد، قال: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾؛ لأن الفساد والصلاح حسيان، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسى، أما حكم السفه فأمر فكرى فناسبه نفى العلم لا نفى الحس.
45. ذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدّعون الإيمان ويبطنون الكفر، وأن النفاق والإيمان نقيضان لا يجتمعان، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون ـ وهم المفسدون الفاسدون ـ وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء.
46. بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم، وكيف يمارونهم، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ .
47. كان أولئك المنافقون يشيعون في مجالسهم أن المؤمنين سفهاء، وأنهم هم المدركون وحدهم، العارفون بحقيقة العقائد، وأنهم الأعلون؛ لأن في المؤمنين موالى كصهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم.
48. لكنهم كانوا إذا لقوا كبار المؤمنين رفئوهم بأحسن القول كأنهم معهم في الإيمان، بل يدخلون المسجد، كما يدخلون ليوهموهم بأنهم مؤمنون.
49. لقى معناه قاربه، أو استقبله عن قرب، أو جمعهما مكان، وقرئ ﴿لَقُوا﴾ من لقى، كما قرأ أبو حنيفة وغيره (لاقوا)، والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا، أو من غير إرادة، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقى المقصود.
50. الآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سواء ألقوهم عفوا، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم: آمنا، فهم يسترون كفرهم دائما، ويعلنون إيمانهم دائما في عوج، وقد يحرفون الكلم عن مواضعه ويلوون ألسنتهم بما ظاهره يدل على أنهم آمنوا، وباطنه كفر وطغيان.
51. عبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ فكانت كلمة ﴿خَلَوْا﴾ متعدية بإلى، وأصلها بالباء، يقال: خلا به، ولا يقال: خلا إليه، وإنما عدل عن الباء إلى التعدية بإلى للدلالة على معنى الانصراف، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك، والمعنى:
أ. خلوا منصرفين إليهم، تاركين المؤمنين.
ب. أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم، فلا مجاز في التعدي.
ج. مهما يكن التخريج، فإن معنى خلوا بهم لا يراد، لأن معناه الانفراد، والتستر، وهم لا يتسترون فيما بينهم، يقولون جهرا بينهم، وفى أوساطهم، فلم تكن خلوة بهم، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم.
52. الشيطان فعلان من شطن بمعنى بعد، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق، وتجافيهم عنه، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم، وكلهم شياطين بعداء عن الحق لا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه، وقد بعدوا عن كل معنى من معانى الحق، والقصد المستقيم.
53. إذا انصرفوا إلى شياطينهم، وخلّوا أهل الإيمان ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم.
54. أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف النفاق إلى صفوف المؤمنين في قولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ ب (إنّ) التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها، وبقولهم: معكم، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم، فلم نفارقكم بهذا القول، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا.
55. لم يؤكدوا للمؤمنين ادعاءهم الإيمان؛ لأنهم قالوا قولا لم يصدر عن قلوبهم، وإن تلوّت به ألسنتهم، ولم يسكن الإيمان قلوبهم، فهو قول باللسان، ولم يذكروا تفصيل الإيمان، فلم يقولوا آمنا بالله ورسوله، والكتاب الذي جاء به وباليوم الآخر، إلى آخر ما يشتمل عليه الإيمان، لأنهم لا يريدون حقيقة الإيمان، ولكن يريدون أن يثيروا قولا يسترون به كفرهم المستكن في قلوبهم.
56. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ ليس تكرارا لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة] لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي وأهل الكفر، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة، وكيف يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، ف الأولى حكم عام، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم.
57. إن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لا يذكرون المعوية فقط بقولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين، وقولهم: آمنا، وكأن سائلا منهم سأل: لماذا قلتم ما قلتم فقالوا: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، والاستهزاء السخرية والتعابث، يقال: هزئ به واستهزأ، أي سخر منه، وتعابث بالقول معه.
58. أكدوا الحكم بأنهم يستهزءون ـ بالجملة الاسمية، وبـ (إنّ) الدالة على التوكيد، وبذكر (نحن) لتأكيد الحكم باستهزائهم، وذكر بـ (إنما) الدالة على القصر، والمعنى: إننا في عملنا هذا نستهزئ، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا.
59. الحكم بأنهم مستهزءون يتضمن الحكم بأنهم لا يؤمنون؛ لأن من يؤمن بشيء لا يستهزئ به؛ فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، وأصل الباب الهزء، بمعنى الخفة.
60. بين الله تعالى أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم، وسفه أحلامهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم، ويسخر بهم، وينتقم من قولهم يوم القيامة.
61. ليس المراد معنى الاستهزاء الاستخفاف، فإن ذلك لا يليق بذات الله تعالى، وإنما المراد إنزال الهوان، وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين، وهم معهم، ويدهنون بالقول مع المؤمنين، ولا تخفى على أحد حال من أحوالهم، فهم أرادوا ستر كفرهم فكشف، وأراد إظهار إيمانهم.
62. يذكر الله تعالى أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون، مثل قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم، وليس إلا دفعا وقصاصا، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ وهكذا.
63. ذكر الله حالهم بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ باسم الفاعل الدال على الدوام، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ بفعل المضارع، لأن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنا بعد آن، فالاستهزاء متجدد مستمر، لا يبقى على حال، بل يتجدد وقتا بعد وقت، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، وأفعالهم تجدد الاستهزاء، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم، والمؤمنون يحذرون، وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم، والبراءة منهم، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في قتله، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم، حتى برموا من أعمالهم، وإن كانوا قد استمروا في غيهم.
64. لم ينزل بهم عقابهم في الدنيا، لحكمة أرادها، ولمصلحة تغياها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهى ألا يقتلهم حتى لا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه.
65. ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ المدّ هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز، كما قال تعالى: ﴿نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ والطغيان: الكفر والضلال، وأصله تجاوز الحد، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر.
66. الزمخشري يفسر (مدّ) لا بمعنى زيادة المدة، بل بمعنى زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾، ولقد قرئ: وَيَمُدُّهُمْ) بضم الياء، وهى من المدد لا محالة.. وقول الزمخشري في ذلك حجة ونرجحه على غيره.. والمعنى على ذلك، أنهم مغرورون مخدوعون، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد.
67. ﴿يَعْمَهُونَ﴾، والعمه مثل العمى، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة، فمعنى ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتحيرون، فهم في حيرة دائمة مستمرة.. زاد الله المنافقين في كل العصور عمى، وزادهم عمها.
68. رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوى الاستعارة بذكر أوصاف للمشبّه، فقال: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر، وأى كسب فيها!؟
69. نسب الربح إلى التجارة، وهى محل التصرف، وذلك تعبير بليغ كقولك: نهار صائم وليل قائم، وذلك من قبل المبالغة في الصوم والمبالغة في الصلاة، وإنما قوله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ مبالغة في نفى الربح وثبوت الخسارة، لمن ترك الهداية وأخذ الضلال.
70. أكد سبحانه ضلالهم، ونفى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال: ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس، وفسدت ذلك الفساد، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا، فنفى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدى أبدا، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادّت بالضلالة حتى إنه لا منفذ لنور يدخلها أبدا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/122.
(2) زهرة التفاسير: 1/133.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر سبحانه المؤمنين أولا، وهم الذين أخلصوا للحق قلبا وقالبا، وثنّى بالكافرين الذين محضوا الكفر باطنا وظاهرا، والآن جاء دور المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان، وما هم بمؤمنين، وكفر هؤلاء أخبث الكفر، وأبغضه إلى الله، ولذا أطنب بأوصافهم، وما يؤول اليه حالهم بثلاث عشرة آية بينما اقتصر في وصف الكافرين على آيتين، بل أنزل سورة خاصة بالمنافقين.
2. كل من يؤثر الاستخفاء من الناس، ويتظاهر بما ليس فيه، ويخشى أن ينكشف الستر عن حقيقته فهو كذاب منافق، ومراء مخادع، حتى ولو حاز على ثقة الناس أجمعين، بل إن هذه الثقة تضاعف من جريمته، وتكون وبالا عليه عند الله، والناس أيضا إذا انكشفت عنه حجب الخداع..
3. هذه الآية الكريمة من سورة البقرة تحدثت عن المنافقين الذين قامت الحجة عليهم بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، واثبات الحق، ومع ذلك أصروا على الإنكار عنادا وتمردا، كما قامت على المشركين الذين عاندوا وحاربوا، والفرق ان المشركين أعلنوا معاندتهم للحق، وقالوا بجرأة وصراحة: لا نتبع الحق لأن الفقراء اتبعوه واعتنقوه: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾، أما المنافقون فإنهم رفضوا الحق لهذا السبب أو لمثيله، ولكنهم آثروا العناد، وأظهروا التسليم جبنا وخداعا فكانوا أسوأ حالا من الكافرين، حيث لاءم هؤلاء بين ظاهرهم وباطنهم، وصدّقوا في إعلان الكفر والعناد، تماما كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق، وخالف المنافقون بين ما أضمروا وأظهروا، كالسفاح يلبس مسوح القديسين.
4. لا دلالة لهذا الخداع إلا أن المنافق لا وازع له من دين أو عقل، ولا من حق أو عدل، ولا يتحرك ضميره لشيء ما دام بعيدا عن أعين الناس، ومن كان هذا شأنه فمن الصعب أن يؤوب الى خير، ولذا نعت الله المنافقين في هذه الآيات بالخديعة والغفلة ومرض القلب والسفه والغرور ومتابعة الهوى والخبث والإصرار على الضلالة، ونعتهم الناس بالطابور الخامس، وبالعملاء الأدنياء، وبالمفسدين والمراءين، وهم موجودون في هذا العصر، كما وجدوا في عهد الرسول وقبله، وسيوجدون في الأجيال الآتية، ولكنهم ملعونون أينما وجدوا، حتى وهم في قبورهم، وان نجحوا فإلى حين، أما نجاح الصادقين المخلصين فإلى آخر يوم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/55.
الحوثي:
مما ذكره بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هؤلاء قوم من المنافقين أشبهوا الكفار المذكورين قبلهم في تمردهم عن قبول الحق، بل كانوا أشد منهم كفراً لمحاربتهم الدين من بين المسلمين ومخادعتهم لهم، وغير ذلك مما ذكر في الآيات التي جاءت فيهم لبيان تمردهم وإفسادهم ووقوفهم من الكتاب الذي لا ريب فيه موقف المحاربين، ولم تأت لتفسير النفاق والتعريف بحقيقة المنافق كما لم تأت الآيتان في الكفار لبيان حقيقة الكافر.
2. المنافق هو الذي يتولى الكفار من دون المؤمنين سرّاً وهو مظهر للإسلام، واحتج الإمام القاسم عليه السلام والإمام الناصر في (البساط) له بما فيه الكفاية.
3. أوضح دليل على اتساع مفهوم النفاق، وكون المنافق هو الذي يتولى الكفار من دون المؤمنين سرّاً وهو مظهر للإسلام:
أ. قوله تعالى في بعض المنافقين: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران: 167]
ب. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 144 ـ 145]
ج. وقوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 138 ـ 139]
د. وقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ الآيات [الحشر: من آية 11]
4. المنافقون يختلفون في الجرائم ودرجاتها، فهذه الآيات في بعض:
أ. في (سورة النساء) في بعضهم: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ [آية: 88]
ب. وفي (سورة التوبة) ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ [آية: 61] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ [آية: 75] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ [آية: 49].
ج. وفي (سورة المنافقين) كلام في بعضهم: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [آية: 8] ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [آية: 7]
5. سبب النفاق مرض القلب، أي التردد والارتياب في صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد سماع الآيات الدالة عليه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 45]
6. ثم الخوف من غلبة الكفار، ثم يكون تولي الكفار سراً عن المؤمنين، قال تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: 52]
7. ليس المراد: أنه لا يلزمهم حكم الكفر بتولي الكفار، وإنما المراد: أنه لا يشترط في المنافق أن يضمر في نفسه الكفر الذي هو الجحود بالقرآن والرسول، بل قد يكون المنافق كذلك، وقد يكون شاكاً متردداً في ريبه متولياً للكفار.
8. قد يكون المنافق مرتداً كالمذكورين في (سورة النساء) في قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، وقال تعالى في بعضهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ [التوبة: 74]
9. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، هذه منهم كلمة إنشاء للإقرار بالله واليوم الآخر توهم مطابقة القلب للسان، والإنشاء أشد في الخداع من الخبر الذي يقبل التصديق والتكذيب؛ لأن من أنشأ كلمة الإيمان يقبل، كما أفاده قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 61] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] فمن أنشأ كلمة الإيمان قبل عملاً بالظاهر وامتثالاً لأمر الله تعالى، فلهذا يقولون: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ ليُقبَلوا.
10. تعليقهم الإيمان بقولهم ﴿بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يشير إلى أن الإيمان من هذه الناحية هو الباعث على طاعة الله وتقواه؛ لأن الإيمان بالله إذا صدق كان باعثاً على الخوف من الله ومراقبته والإيمان باليوم الآخر إذا صدق كان باعثاً على الخوف من النار والرغبة في الجنة، وذلك يبعث على الطاعة والتقوى.
11. المؤمن بالله واليوم الآخر لا بد أن يكون كامل الإيمان؛ لأن في نفسه الباعث القوي على ذلك، فقد لزم من دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر دعواهم الإيمان المطلق، ولذلك كان إبطال قولهم بقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾
12. نظير هذا قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 47] وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ الآية [النساء: 60 ـ 65] وهذا لأن الإيمان بالله والرسول والإيمان بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله كله إذا صدق يستلزم الإيمان الكامل ويكون مدعيه مدعياً للإيمان المطلق.
13. مرض القلب: هو التردد والارتياب، وأسباب ذلك من الكبر أو الحسد أو نحو ذلك مما يكره الإيمان من أغراض النفس الأمارة بالسوء وكراهية الإيمان لبعض هذه الأسباب أو كلها، وذلك مشبّه بالمرض.
14. ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ من جنس مرضهم؛ لتمردهم عن الإيمان، وتكذيبهم بآيات الله، بسبب ذلك المرض الأول، وهذا شبه الختم في الكفار.
15. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وصف العذاب بأنه ﴿أَلِيمٍ﴾ يدل على شدته، أي أنه عذاب شديد؛ لأن من شأن العذاب أن يؤلم ألماً شديداً، فإذا وصف بأنه أليم دل على زيادة ألمه عن المعنى الذي تفيده كلمة عذاب(2).
16. ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ تعليل لتعذيبهم بذلك العذاب، ويصلح مع ذلك تعليلاً لقوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾
17. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بما تكيدون به الإسلام، وإذا ذكر الفساد مع زيادة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ فهو عبارة عما شأنه أنه يعم ضرورة وينتشر إذا لم يدفع، كمحاربة الدين بالدعايات أو الشبه أو غيرها، وكمحاربة اقتصاد المسلمين أو إضعاف جمهورهم بأي وسيلة.
18. ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ فنحن أبعد عن الفساد في الأرض بالغوا في تنزيه أنفسهم، وهذا العطف هو عطف لصفتهم، هذه على صفتهم في الآية التي قبلها، قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا﴾ أعني على الصلة، والآيتان اللتان بعدها: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا﴾ ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
19. كذلك يذكر سبحانه قولهم، ويرده رداً شافياً، ففي الأولى قولهم: ﴿آمَنَّا﴾ وفي الثانية: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وفي الثالثة: ﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ وفي الرابعة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ والآيات المتضمنة لذلك متعاطفة بشكل واضح في سياق ذمهم وتقبيح طريقتهم.
20. ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾، عن (الكشاف): ردّ الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدلّه على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما في كلتا الكلمتين، (أَلا) و(إن) من التأكيد، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل)
21. ابتداء الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ألا﴾ التي هي حرف تنبيه، كأن الآية تعلن بهذا التصريح وتنادي به في المسلمين، وفي ذلك فوائد:
أ. إبطال قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وتحقيق أن الواقع ضده على غاية المضادة.
ب. الدلالة على أن القائل: ﴿لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هو المصيب، وأنهم المخطئون بالرد عليه.
ج. تحذير المسلمين منهم لئلا يفسدوهم، أو يفسدوا ما بينهم من الألفة والإخاء.
22. قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فيه دلالة على أنهم في ضلال بعيد، حيث لا يشعرون أن ما يفعلونه من كيد الإسلام والمسلمين إفساد(3).
23. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ الذين هم الصادقون في إيمانهم فهم الناس هنا؛ لأنهم الصالحون الكاملون في الإنسانية، ولأنهم أهل القوة بألفتهم والعزة بإيمانهم، فإيمانهم هو الإيمان الذي يبعث على العمل الصالح والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين ومباينة الكفار، خلاف ما عليه المنافقون الذين يتولون الكفار ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 54] ﴿ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ﴾ [المجادلة: 8] ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾
24. ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ استخفافاً بأهل الدين واستضعافاً لعقولهم، وزعماً أن أهل الدين فاقدون لحسن الرأي ورجاحة العقول، وزعماً أن ما يصدر عن المنافقين إنما هو مقتضى الرأي وتوخي المصلحة وإرادة استمالة الكفار إلى الإسلام وترغيبهم فيه باللين والمصانعة والمجالسة، فعدّوا مخالفة طريقة المؤمنين لطريقتهم إنما هي من ضعف الرأي ونقص العقول.
25. ﴿ألا﴾ حرف تنبيه وتأكيد لما بعدها، وفي هذا الرد عليهم من التأكيد مثل ما في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ ويبين أنهم هم السفهاء، كما أخبر الله أصدق القائلين أنهم سلكوا في نفاقهم طريقة توجب لهم الدرك الأسفل من النار، فهم في الآخرة أبداً معذبون، وفي الدنيا في فرقٍ وقلق مذبذبون لم يستفيدوا بالنفاق أمناً، ولا عزة، ولا راحة، بل على العكس من ذلك كما تفيده الآيات الكريمة في (سورة البقرة) و(سورة النساء) و(سورة التوبة) و(سورة المنافقين)
26. العقل لا يدعو إلى ذلك، بل يدعو إلى طريق الأمن والسلامة والكرامة، فدل تصرفهم الخاطئ على أنهم ضعاف العقول؛ لأنهم أهملوا عقولهم واتبعوا أهواءهم فضعفت عقولهم بالغفلة وترك النظر، وبقوة هوى النفس في خلاف العقل فصح أنهم هم السفهاء، قال في (الكشاف): والسفه: سخافة العقل، وخفة الحلم)
27. ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لأن علمهم بذلك يتوقف على الإيمان الصادق الذي يعرف به صواب الرأي وطريق الفلاح وأسباب النجاة وأسباب التوكل على الله، وبينهم وبين ذلك مسافات ومراحل، نسأل الله الثبات.
28. قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ ومقابلته بقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ يظهر منه أن المنافقين إنما يقولون للمؤمنين عند ملاقاتهم في طريق أو نحوها لا يقصدونهم إلى محلهم، وأما شياطينهم فيتوجهون إليهم ويقصدون الخلوة معهم ميلاً إليهم، وقولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ يريدون لم نتحول عنكم بما قلناه للمؤمنين، بل ما زلنا معكم.
29. ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ عن المسلمين، أو عن المسلمين وغيرهم ﴿إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ الذين يغوونهم من اليهود مثلاً ﴿قَالُوا﴾ لشياطينهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ مشاركون لكم في قضاياكم ضد الإسلام، وهذه عبارة اتخاذهم أولياء، فالمعيّة والولاء متفقان في المعنى، فسواء قولهم: نحن معكم في الأمور المهمة، أو نحن أولياؤكم.
30. ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ إذ قلنا كلمة الإيمان فنحن إنما قلناها استهزاء بالمؤمنين أي سخريّة بالمؤمنين واستخفافاً بهم، ليس جداً، فالهزوء كلام غير جد لغرض الاستخفاف بمن يقال له، ألا ترى إلى قول بني إسرائيل: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ كأنهم استبعدوا أن يكون جادّاً في أمرهم بذبح بقرة، وجوّزوا أنه في ذلك يستهزئُ بهم.
31. قوله تعالى: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ بمعنى: أنه يفعل لهم فعل المستهزئ يملي لهم ولا يعاجلهم بالعقاب، لا لأنه راضٍ عنهم، ولا لأنه غير معاقب لهم، بل هو معدّ لهم العذاب.
32. عبر سبحانه بالعبارة المشاكلة لكلمتهم، وهو سبحانه لا يستهزئ، ولكن هذه مشاكلة لفظية، كقول الشاعر:
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه.. قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
أي خيطوا لي جبةً وقميصاً، وأتى بالفعل الدال على التجدد لتكرار أعمالهم التي يستحقون بها العذاب، فكلما أجرموا أمهل.
33. ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ حيث يخذلهم ويتركهم يعاودون الطغيان، يبسط لهم نعمته فيزدادون طغياناً ويزيدهم رجساً إلى رجسهم بما ينزل من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82] ونسبة الإمداد إليه سبحانه مجاز كالختم.
34. معنى ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتردّدون في الباطل، لا يهتدون للصواب كالأعمى يتردد في غير طريق لا يهتدي إلى الطريق.
35. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ لأن الذي ينبغي للمتجر أن يطلب الربح لا أن يطلب الخسران المبين.
36. ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ لأنهم قد باعوا الهدى، فرأس المال قد فات ولم يحصل لهم بتفويته فائدة كما يحصل للمشتري في بعض الأحوال مع أن نفي الفائدة تهكم بهم كما قلنا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/57.
(2) التيسير في التفسير: 1/61.
(3) التيسير في التفسير: 1/62.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو النموذج الثالث من نماذج الناس في مواقفهم الفكرية والعملية أمام قضية الإيمان والكفر، وقد عايش الإسلام هذا النموذج في عصره الأول، وعانى الكثير من دسه وتضليله ولفّه ودورانه، مما كان يربك الحياة الإسلامية في حركة المجتمع الإسلامي الداخلية والخارجية.
2. نلاحظ ـ ونحن نواجه هذه الآيات الكريمة التي تحدثت عن المنافقين ـ أن الحديث عنهم يأخذ مساحة واسعة في تحليل شخصياتهم، وإبراز ملامحهم، أكثر من المساحة التي أخذها الحديث عن الكافرين، والسبب في ذلك، أن قضية الكفر كقضية الإيمان، تمثل موقفا حاسما في حياة الإنسان، باعتبارها تحديدا واضحا للموقف إزاء ما يطرح من قضايا العقيدة والحياة، فلا تعقيد في مواجهة الواقع، ولا التواء في التعبير عنه، وبذلك يسهل التعرّف على المؤمنين والكافرين من خلال حركتهم في الحياة، لكل من يعرف طبيعة الإيمان والكفر، أمّا المنافقون، فهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يضمرونه في داخل أنفسهم وما يظهرونه أمام الناس، ممّا يجعل من اكتشافهم ومعرفتهم عملية معقّدة، لأنها تحتاج إلى رصد دقيق لأقوالهم وأفعالهم لمواجهة العوامل القلقة التي تتحرك في سلوكهم الحياتي العام والخاص.
3. قد يكون هذا هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يواجه هذا المنوذج القلق بعدّة آيات تلاحق مظاهر النفاق في كلماتهم التي يواجهون بها الناس، وشعاراتهم التي يطرحونها، ومواقفهم الاجتماعية العملية والحياتية، ليسهل على الناس كشف واقعهم من أجل التخلص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.
4. عندما نريد أن نواجه هذه النماذج من الناس من خلال الآيات القرآنية، نشعر بالحاجة إلى ملاحقة أمثالها في حياتنا العامة، في صراعنا المرير في قضية الكفر والإيمان، لأن قيمة القراءة القرآنية وطبيعة الوعي القرآني، لا تتمثل في الفهم الحرفي والتاريخي لآياته فقط، بل في معرفتنا للجانب التطبيقي الذي يمثل حركة الوعي القرآني في حياة الناس المستقبلية التي تتنوع مظاهرها وأشكالها ونماذجها في إطار وحدة القضايا الأساسية التي تبقى وتعيش في جميع المراحل، لأننا نريد أن نتحرك مع القرآن، والقرآن يتحرك مع الحياة في اتجاه الأهداف الكبيرة التي أراد الله من الإنسان بلوغها وتحقيقها، وهذا ما يجب أن يحكم قراءتنا للقرآن وفهمنا له، ليكون القرآن هو المرآة الصافية التي نكتشف فيها أنفسنا وحياتنا، انطلاقا من آياته التي نعتبرها نورا ورحمة للعالمين، ومن الأحاديث الشريفة المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، عندما قالوا ـ في أكثر من حديث ـ: إن القرآن حيّ لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، فإن الحياة تتجدد، ولكن الليل والنهار يبقيان فيحكمان حركة الحياة. كما أن الكون يتجدد، ولكن الشمس والقمر يظلان في مدد دائم للحياة بالنور والإشعاع والدفء(2)..
5. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، هذه هي إحدى صفات المنافقين، فهم يعلنون كلمة الإيمان وشعاره أمام الناس، فيسجّلون على أنفسهم الاعتراف به والالتزام بأحكامه، ليحصلوا على ثقة الناس بهم، فيثق الناس بمنطلقاتهم، ويحسون بالأمن إزاءهم، مما يفسح لهم المجال الواسع للتحرك بحرية كبيرة في مجالات الدسّ والتضليل، ولكنهم لا يلتزمون بالإيمان في قناعاتهم الفكرية من خلال مؤثراتهم الذاتية المعقّدة، فهم يعيشون ازدواجية الموقف بين الظاهر المؤمن الذي يتحرك في دائرة العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، والباطن الكافر الذي يعيش في داخل الذات وفي المجتمع الكافر.
6. قد نواجه مثل هؤلاء في بعض أتباع المبادئ الكافرة، الذين يرفعون شعار الإيمان والإسلام في كلماتهم، مع أن مبادئهم ترتكز على قاعدة الكفر والإلحاد، بشكل مباشر أو غير مباشر، ليحس المجتمع المؤمن بالأمن من ناحيتهم، فيسهل عليهم النفاذ إلى حياته.
7. هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين، وهي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء والعظمة التي تدفعهم إلى احتقار الناس في مستوى تفكيرهم وطبيعة إيمانهم وطريقة حياتهم، لأنهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري والعقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين، ولا سيما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا ويناقشوا، ويحركوا ألسنتهم بتحليل الأمور وتفسيرها ومحاكمتها، على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولا علميا.
8. نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبناها الناس من خلال طبيعتها الأساسية، بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثله هؤلاء الناس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة، فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم بالله وتقودهم إلى الإيمان، قالوا لك: إن هذا كلام غير علمي، وإن هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من الناس الذين يعيشون سذاجة الفكر والعقيدة، وليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم والفلسفة.
9. لعل هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يدعون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية وبساطة، باعتبار أن طبيعة الأسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقّد، بل إلى الوجدان الذي يتحرك في إطار الفكرة بهدوء وصفاء، فكانوا يجيبون: إننا لا نؤمن بمثل هذا الإيمان البسيط، لأنه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة.
10. توحي الآية الكريمة بأنهم كانوا يركزون على نوعية الإيمان لا على أصله، لأن المفروض ـ في أجواء هذه الآيات ـ قبولهم بمبدإ الإيمان ظاهرا، ولكن الله، سبحانه، يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف والكبرياء الكاذب، ويؤكد، من خلال أوضاعهم ومنطلقاتهم وحركاتهم، أنهم يرمون الناس بصفة هي أقرب إلى واقعهم الفكري والعملي من واقع الناس الآخرين.
11. قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أغراضه بطريقة خفية لا يشعر بها المخدوع، يحاولون أن يظهروا بغير ما هم فيه ليحصلوا على الثقة والاطمئنان بإيمانهم وصلاحهم، ولكن جهودهم تذهب هباء، فإنهم لا يخدعون إلا أنفسهم عندما يوحون إليها أنهم ينجحون في هذه الأساليب الملتوية، ولا يلتفتون إلى أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه يكشف واقعهم للمؤمنين ليحذروا منهم.
12. الخداع هو شأن الضال الباحث عن أطماعه وشهواته عندما تتحكم به الفكرة المنحرفة، وتتعمق في داخله، فتصرفه عن الالتفات إلى حقائق الأمور، وطبيعة المواقف، فينطلق بأصحابه إلى المواقع التي يظنون أنهم ينجحون فيها، من دون شعور بالنتائج السيئة التي تترتب على السير في هذا السبيل، وذلك كهؤلاء المنافقين الذين لا يشعرون بأنهم مكشوفون للمؤمنين، فيخيل لهم أن مواقفهم تعيش خلف الضباب، ولكن شمس الإيمان تشرق على أوضاعهم الداخلية والخارجية، فتكشفهم من حيث لا يشعرون.
13. قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ تفسير لظاهرة النفاق وتعليل لأسبابها، بكونها عقدة تتحكم في داخل الإنسان ومرضا نفسيا أو روحيا يعاني منه، ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يؤمن بالشيء وإمّا أن لا يؤمن به، وعلى كلتا الحالتين، فإن الوضع الطبيعي الصحي، هو أن يسير على ما يوحي به موقفه، فإذا كان مؤمنا، انطلقت سيرته، في خط إيمانه، وتحركت حياته في هذا الاتجاه.. أما إذا كان كافرا، فإن الكفر يفرض عليه أن يحدد لحياته الخطوط التي لا تلتقي بالإيمان من قريب أو من بعيد، سواء في ذلك، مشاعره الداخلية أو خطواته العملية، لكن أن يرفض الإنسان الإيمان ويعمل عمل المؤمن، فهذا موقف غير طبيعي في حياته، لأن الموقف الطبيعي، هو أن ينبع عمله من إيمانه وتفكيره.
14. قد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنعرف أن أيّة حالة غير طبيعية تعتبر ظاهرة مرضية في حياة الإنسان، سواء أكانت موجودة في جسده، أم في روحه، أم في تفكيره، ولهذا اعتبر الله النفاق مرضا ينطلق من عقدة نفسية، تحمل في داخلها طبيعة الشخصية المزدوجة التي تتمثل في الداخل بصورة وحركة تختلفان عن الصورة والحركة الموجودتين في الخارج.
15. قد لا تكون هذه العقدة، أو هذا المرض، من الأشياء الأصلية في ذات الإنسان، بل قد ينشأ ذلك من:
أ. حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه.
ب. حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده.
ج. حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحيرة والتردد في كل موقف من مواقف الحياة.
16. سؤال وإشكال: قد يتساءل المرء عن هذه الزيادة التي ينسبها الله إلى نفسه ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾، فهل أراد الله لهذا المرض أن يزيد بشكل مباشر؟ وكيف تتعلق إرادة الله بتعاظم النفاق في داخل هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يلعن فيه الله النفاق والمنافقين؟ والجواب:
أ. أن هذا التعبير ينسجم مع التعابير القرآنية الكثيرة التي ينسب فيها الفعل إلى الله، باعتبار أن القوانين الطبيعية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، فيما أودعه فيها من علاقة السببية، تستتبع هذا الفعل، وتقتضيه، مما يبرز نسبته إلى الله باعتباره مسبّب الأسباب، ومكوّن القوانين التي تحكم الأشياء، من دون أن ينافي ذلك نسبته إلى الإنسان، باعتباره الأداة المحركة للفعل بشكل مباشر، من خلال الإرادة المنطلقة من حركة العقل والفكر.
ب. على ضوء هذا نفهم الآيات؛ فإن هذه العقدة انطلقت في حياة المنافقين على أساس لا يبتعد عن حالة الإرادة والاختيار، واستمرت معهم بدون علاج، بل كان الأمر بالعكس؛ زيادة في ممارسة النفاق، وإمعانا في تأكيد طبيعته في الداخل والخارج، مما أوجب تعقيدا في المرض، واتساعا لدوائره، تماما كالمريض الذي يهمل مرضه، فلا يعالجه، بل يبقى ـ زيادة على ذلك ـ في تعامل مستمر مع أسبابه، مما يوجب تطوّره إلى الأسوأ، من خلال السنن الطبيعية التي أودعها الله في الكون، في مسائل الصحة والمرض، سواء أكانت جسدية أم روحية.
17. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ فهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن هذا الوضع الذي يعيشونه ويمارسون فيه الكذب كلمة، وموقفا وعملا، عن عمد وسبق إصرار، ومهما كانت الظاهرة مرضية، فإنها لا تبرر ما يؤدّونه من أعمال، لأن المرض اختياري في بداياته، وقد كانوا قادرين على أن لا يقعوا في نهاياته، لأنهم يستطيعون أن يتخلصوا منه إذا شاءوا.
18. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ يوحي بأن المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال، أو يطرحون بعض الشعارات، في داخل الحياة الإسلامية، ممّا كان يسيء إلى خط الإيمان، ويفسح في المجال لحركة فساد في العقيدة والسلوك والعلاقات.
19. قد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي، وصدّ الناس عن الإيمان بالأساليب الملتوية ـ على ما روي عن ابن عباس ـ أو بممالأة الكفار، فإن فيه توهين الإسلام، على ما قاله أبو علي، أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك، وقد يتمثل في غير ذلك مما ذكره المفسرون، والظاهر أن مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكنها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مما لا يبّرر لنا حصره في نطاق خاص، لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به، بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلقة بالأفكار الإسلامية العامة.
20. على ضوء ذلك، يمكن لهذه الآية أن تتحرك في كل مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع، مما قد يوحي ظاهره بالصلاح، ولكنه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه.. ولعلنا نواجه مثل هذه الحالات في:
أ. سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره.
ب. كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود، وتحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي، وتحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع.
ج. كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ، بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كل العقد الداخلية، ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى، أن القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها، وليست مجرد تقصير للثياب، فكلما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب، أو أي مقدار من الثياب، استطعنا أن نمزق حاجزا نفسيا، وحاجبا روحيا للمرأة، مما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم، من دون مراعاة للأسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها، هذه القيم التي يدعو إليها الدين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته.
21. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾، أي إذا نهوا عن الفساد البيّن، فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح، ويمنحون أنفسهم، من خلال ذلك، صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم.
22. تعطينا الآية الكريمة ـ من خلال أسلوبها ـ انطباعا، بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه، ولكنهم يريدون تنفيذ مآربهم، وبهذا لا تمثل القضية موقفا حقيقيا لهم، لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقة الحاسمة في الحياة، بل تمثل محاولة للفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع، كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.
23. يأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء، وقيمته في حساب الإصلاح، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ فيما تفرزه أعمالهم وشعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد والمجتمعات(3).
24. ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ لأنهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقيم، ولذلك، لا يشعرون بالنتائج السيئة المرتبطة بأعمالهم، على أساس المقاييس الواقعية للأشياء، بل يظلّون في ارتباط مجنون بالأطماع والشهوات، مما يجعل الموازين تتحرك في اتجاه القيم الشريرة في تقييم الواقع وتحليله.
25. المنافقون هم السفهاء، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لأن السفيه يعبر ـ في مفهومه ـ عن ضعيف الرأي، الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ، والذي يتحول إلى إنسان ضائع متخبط لا يملك إدارة شؤونه بنفسه من خلال فقدانه وضوح الرؤية للأشياء، مما يبعده عن الاستقامة في عالم التطبيق العملي.
26. في مقابله الرشيد الذي يملك وعي المعرفة للأشياء على مستوى التصوّر، وعلى صعيد الواقع، بحيث يملك إدارة حركة النظرية في الوجدان، وحركة التطبيق في الواقع، الأمر الذي يؤدي إلى التوازن في مواجهة القضايا، والاستفادة من كل الفرص النافعة الموجودة لديه.
27. هذا ما يؤكده التزامهم الداخلي بالكفر الذي يجسد الضعف الفكري والجهل بالأسس المتينة التي ترتكز عليها عقيدة الإيمان، وحركتهم العملية التي تؤدي بهم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، ولا سيما في هذا الموقف المتأرجح الذي يعيش معه الإنسان في عذاب داخليّ مستمر من خلال خوفه من انكشاف موقفه الداخلي الذي يغطيه بنفاقه العملي. ف ﴿هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ في أفكارهم وأفعالهم.
28. ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، لأنهم لا ينفتحون على الآفاق الرحبة للمعرفة ليصلوا إلى النتائج الحقيقة للأمور، وليعرفوا أن قيمة العلم في التقائه بالحقيقة تكمن في ارتكاز نتائجه على الفكرة السليمة، والوجدان السليم، في نهاية المطاف.
29. إن أيّة نتيجة برهانية لا ترجع إلى أساس وجداني، لا تمثل أيّة قيمة حقيقة في مجال المعرفة، وبهذا كان الإيمان الفطري يمثل العقيدة الصافية المنطلقة من أساس صحيح ثابت، أكثر من الإيمان الذي لا يلتقي بالفطرة إلا من بعيد، مما يجعلنا نحترم إيمان الفطريين من حيث ما يمثل الإيمان من صفاء ونقاء، وإن لم يعرفوا طريق الجدال والنقاش العلمي.
30. الفرق بين ما ورد في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فنفى عنهم الشعور بصفة الإفساد، وبين قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فنفى عنهم العلم بالسفه، ولماذا لم يستعمل العكس، أو يوحّد بين الآيتين في طبيعة الكلمة:
أ. أن قضية اكتشاف الفساد ليست قضية فكرية، بل هي من القضايا التي تواجه الإحساس والشعور عندما تفرض نفسها في الحياة تماما كالألم واللذة في مواجهة مصادر الألم واللذة، لأن الفساد يمثل اختلال مسيرة الحياة العملية في أوضاعها العامة والخاصة، فلا يحتاج اكتشافه إلا إلى الوعي الشعوري بالموضوع، أمّا الذين تبلدت أحاسيسهم، وغرقوا في أجواء الفساد، فإنهم لا يشعرون بذلك، تماما كما هو الإنسان الذي لا يعيش الإحساس بالألم عندما تتجمد مواطن الحس في جسده.
ب. أمّا قضية السفه، فهي من القضايا المرتبطة بوعينا الفكري بطبيعة المصلحة والمفسدة فيما نواجه من قضايا أو نمارس من معاملات أو علاقات. فلا بد لاكتشافها من المعرفة للآفاق العملية التي تتحرك فيها حياة الناس في موازينها المستقيمة. أمّا الذين يجهلون طبيعة التوازن في ذلك، فإنهم يجهلون ـ بطبيعة الحال ـ موقعهم من ذلك كله.
31. الآية نسبت الاستهزاء إلى الله، من باب المحاكاة لتعبير الآخرين من دون أن يكون حاملا لمعناه، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، فإن رد الاعتداء بمثله لا يعتبر عدوانا على المعتدي، لأن مفهوم العدوان يعني الممارسة التي لا تملك فيها جانب الحق.
32. المشاكلة في التعبير للإيحاء بأن هذا الفعل من نوع ذلك الفعل، من حيث طبيعته العنيفة وإيلامه للنفس.. وربما كانت القضية في كلمة الاستهزاء كذلك، باعتبار ما تمثله كلمة الاستهزاء من الاحتقار وعدم المبالاة، فكأن الله يستهزئ بهم فيما يظهر لهم من الإمداد بطغيانهم، كالذي يتكلم مع الشخص بأسلوب الاحترام وهو يقصد السخرية.
33. قد يكون المراد من استهزاء الله بهم، مجازاته لهم على استهزائهم، على هدى قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، ويحتمل أن يكون معناها، تخطئته إياهم، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال، ويمكن أن يكون المراد منه استدراجهم وإهلاكهم من حيث لا يعلمون، كما جاء في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة، وهكذا تتنوع الاحتمالات لتلتقي عند الواقع العملي الذي يجريه الله عليهم.
34. قد يلفت نظرنا نسبة الإمداد بالطغيان لله عز وجل، ولكن لهذا التعبير جانبين في مظهرين: سلبي وإيجابي، فقد يتمثل الإمداد بالطغيان في تشجيع الشخص على الإمعان فيه بالأساليب التي ترغّبه فيه وتدفعه إليه بطريقة إيجابية، وقد يتمثل في الامتناع عن ممارسة الضغوط القوية ضده من أجل منعه من العمل وشلّ قدرته على المضيّ فيه، ولعل هذا هو المقصود بالآية، فقد كان الله قادرا على أن يعطل قدرتهم على الامتداد بالموت أو بغيره من وسائل التعطيل، ولكنه لم يفعل ذلك، بل تركهم وأنفسهم ليمارسوا عملية المواجهة للواقع من موقع الحرية والاختيار، فكان من نتائج ذلك، أنهم امتدوا في طغيانهم من خلال الوسائل الموجودة لديهم، وهذا لا يتنافى مع إيماننا بحرية الإنسان في كفره وإيمانه وضلاله وهداه.
35. معنى ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي لا يعاجلهم بالعذاب مما يشعرهم بالامتداد الآمن، ويعيشون مطمئنين فيما يخططون ويدبرون، ويبقون على هذا التردد والتخبط بين الشخصية الداخلية والشخصية الخارجية، الأمر الذي يوحي بالضحك والاستهزاء، وأيّ موقف أدعى للهزء والسخرية من موقف المنافق الذي يتحرك في المجتمع كحركة الفأر المذعور الذي يخاف من أية حركة يسمعها، أو أي شيء يشاهده، حذرا من الخطر!؟ والمنافق حاله حال هذا الفأر، حيث يخاف من انكشاف حقيقة موقفه للآخرين، فيقف موقف الخائف من نتائجه ومترتّباته.
36. ﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، وذلك من خلال اختيارهم الضلال، الذي أصرّوا عليه وساروا فيه، على الهدى الذي قدمه لهم الرسول، ووعاه العقل من خلال الحق الكامن فيه والخير المنفتح عليه اشتروا الضلالة في سلوكهم وخططهم النافية، فتاهوا في منعطفات الطرق، ومتاهات الرمال المتحركة التي تضيع عندها الخطوط وتتلاشى فيها العلامات، وتركوا الهدى الذي يحدد للإنسان بداية الطريق التي تشير إلى نهايته في خط مستقيم ثابت لا التواء فيه ولا انحراف.
37. على ضوء ذلك، نعرف طبيعة تجارة هؤلاء المنافقين، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة، والذي يضعهم في تيه لا نهاية له من الحيرة والتمزق، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق، مما جعلهم في ضياع دائم وتخبّط مستمر، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبدا في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من روح الله.
38. ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ مما يوحي به هذا النوع من المواقف القائم على أسلوب التبادل التجاري وما يستهدف من تحقيق الربح المادي، في الوقت الذي تنطلق فيه النتائج الحاسمة على خلاف ذلك خسرانا وسقوطا وضياعا.
39. ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ في اختيارهم العملي، لأنهم واجهوا متاهات الأوضاع القلقة على مستوى المصير.
40. نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن القرآن الكريم يركز في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، على كلمة (الشراء) في كل عمل يقوم به الإنسان في حياته، على أساس النتائج السيئة والحسنة التي تنتج عنه، مما يجعل من مجموعة الأعمال الإنسانية في الحياة عملا تجاريا يخضع للربح وللخسارة في طبيعته العامة والخاصة، فهناك عوض ومعوّض في كل حركة يتحركها، وفي كل كلمة يتكلمها، فقد تشتري ببعض الأعمال نفسك ومصيرك وحياتك عندما يكون للعمل نتائج إيجابية على قضية الحياة والمصير، سواء في ذلك على المستوى المادي أو المستوى المعنوي، حتى في مجال التضحية بالنفس أو بالمال مما يدخل في عملية العطاء بلا مقابل، فإن القضية لا تخلو من العوض، ولكنه العوض الأخروي للمؤمنين، والعوض النفسي بشكل عام.
41. بعض الآيات الكريمة كمثال على ذلك، ومنها:
أ. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ والْإِنْجِيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وذلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]
ب. قوله تعالى: ﴿ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ ﴾ [البقرة: 207]
ج. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: 10 ـ 11].
42. هذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئا، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما.
43. من هنا، ينبغي للدعاة إلى الله أن يتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملهم الدعوتي إلى الله، فقد يلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة، فيحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خط الله أو ابتعادهم عنه، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا، ثم الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرك فيها حسابات الربح والخسارة، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك.
44. حدثنا الله عن ذلك في بعض آياته الكريمة، عند الحديث عن جانب الخسارة:
أ. ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].
ب. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 36 ـ 37].
45. في المقابل حدثنا الله عن الفوز في الآخرة كمقياس للفوز في قوله تعالى:
أ. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]
ب. ﴿ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ومَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ورِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72]
46. لا بد للداعية من أن يتوفر على إيجاد الأجواء النفسية التي تهيئ للالتقاء بالفكرة القرآنية التي تريد للإنسان أن يعيش الشعور بالربح والخسارة في الآخرة بالقوة نفسها التي يستشعر فيها القضية في الدنيا إن لم يكن بنحو أقوى وأشد.
47. ربما كان هذا الأسلوب من أكثر الأساليب ارتباطا بالهدف القرآني الذي يعمل له العاملون، وهو أن يعيش الناس أجواء الدار الآخرة في جميع مجالات الحياة الدنيا، ليكون السلوك العملي للإنسان خاضعا للتأثيرات الروحية التي يعيشها من خلال فيوضات العيش في رحاب الله تعالى.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/138.
(2) من وحي القرآن: 1/140.
(3) من وحي القرآن: 1/147.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو ديدن المنافقين، ومسالك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة، ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.
2. ليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الإسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. هذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالإنسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جليت للناس في ثوب مهلهل براق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فقد عرت عقول الناس بسبب ذلك موجة من الضلال الفكري، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وجهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغرورهم، الغارقين في ضلالهم، بآيات الله البينات ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.
4. من أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت ـ الذين طواهم الزمن ـ عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله) كأنما شرع الله الذي وسع السموات والأرض والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.
5. مما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]
6. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اعتبروا المحافظة على الدين من العيوب التي يستحيي منها الفرد الكيّس، ويترفع عنها المجتمع الواعي، فلم يتورعوا أن يصفوا التمسك بالمبادئ الحقة تارة بالجمود، وتارة بالتحجر، ومرة بالرجعية، وأخرى بالتطرف.
7. لا أزال أذكر جواب أحد المغرورين عندما وجه إليه أحد دعاة الخير نصيحة بالكف عن مفسدة فقال له ساخرا منه ومن نصيحته: ما أغلى نصحك وأحلى كلامك غير أنهما لم يأتيا في زمنهما المناسب، فقد تأخرا عن وقتهما قرنا من الزمن، وعجلة الأيام لا تعود إلى الخلف)، وهو كلام يدل على أن صاحبه يعتقد بأن الدين طواه الزمن وأبلاه الدهر، فلا يصح اليوم لما كان يصلح له بالأمس.
8. لكن ـ بحمد الله ـ أصيب الذين يسودهم هذا التفكير بخيبة أمل عندما أثبتت الأيام أن الدين وحده هو القوة الغيبية التي تتلاشى بين يديها جميع القوى، وأنه ـ رغم محاربته والتآمر عليه بشتى المكائد ـ لا يزال في إقبال ونمو كما شرع أول مرة، فهذه الصحوة الإسلامية ـ والحمد لله ـ أخذت تقض على الجاهلية الحديثة مضجعها، وتثير في أعماق نفسها الخوف والرعب، وسوف يأتي اليوم الذي يسود فيه هذا الدين إن شاء الله، ويهد أركان هذه الجاهلية، ويجتث بنيانها كما فعل بسالفتها الجاهلية القديمة؛ عندما طوى ظلامها بإشراق نوره وسطوع هداه.
9. كثيرا ما يتردد على ألسنة منافقي العصر الحديث التشدق بالإسلام، ودعوى الانتماء إليه، والاعتزاز به، ليواروا بذلك ما ينطوون عليه من الكفر والشر والفساد، غير أن طبيعتهم المنحرفة تجعلهم أحيانا تفيض ألسنتهم بما تطفح به صدورهم من الحقد الدفين والكراهية للإسلام والمسلمين.
10. الله تعالى يبين لنا هنا نمطا من أنماط معاملتهم لغيرهم، وأسلوبا من أساليب الخداع التي يلجؤون إليها هروبا من الفضيحة، وركونا إلى السلامة مما يترتب على انتهاك سترهم وظهور أمرهم، فهم يلقون الناس بوجهين، ويتحدثون إليهم بلسانين لأجل إرضاء كل طائفة والتوقي من كل فريق، وهو شر ما يكون في الإنسان، ولذلك يترتب عليه أعظم الوعيد، كما جاء في الحديث: من كان له وجهان في الدنيا كان له وجهان من النار يوم القيامة، ومن كان له لسانان كان له لسانان من النار يوم القيامة.
11. هذه الطريقة متبعة عند منافقي جميع العصور على اختلافها، فهم عندما يحسون بقوة الحق، وظهور المحقين لجأوا إلى هذا المسلك فلقوا المحقين بوجه، والمبطلين بآخر، متصورين أن هذه براعة وفطنة وذكاء، وما هي إلا غباوة ونذالة وانحطاط وسفاهة، لا يرضاها إلا الأدنياء، فلذلك عدوا أسوا حالا ممن أعلن باطله وجاهر بكفره، فإنهم مع ما اشتركوا فيه مع الكفار من عقيدة الكفر، تميزوا بهذا الأسلوب الذي يسخرون به من المؤمنين ويستخفون به بما أنزل الله من الحق، وتلك هي الحقيقة التي يبدونها لشياطينهم حتى يطمئنوا إليهم ويثقوا فيهم.
12. إنما قلت إن هذا هو ديدن أهل النفاق عندما يشعرون بسلطان الحق، ويرون آثار مده، لأن استشراء النفاق إنما بدأ بعد ما أخذ الإسلام يهز قواعد الكفر ويزلزل أركان الجاهلية.
13. من المعلوم أن النفاق إنما عهد بعد غزوة بدر التي جعلت شياطين الكفر يحسبون كل حساب لهذا الدين، ولم يكن الذين لجأوا إلى النفاق من الشهامة والرجولة بحيث يتمكنون من المنابذة الصريحة والمقاومة المكشوفة، فلم يجدوا أمامهم إلا هذه الطريقة الملتوية فصاروا مذبذبين بين الطائفتين.
14. ذكر كثير من المفسرين في سبب نزول هاتين الآيتين قصة أخرجها الثعلبي والواحدي في أسباب النزول من رواية السدي الصغير، ومحمد بن مروان عن أبي صالح عن ابن عباس وملخصها أن عبدالله بن أبيّ وأصحابه خرجوا يوما فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال عبدالله: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر.. إلى آخر القصة، وإسنادها من الضعف بمكان، فقد ذكر الحافظ في تخريجه أحاديث الكشاف أن محمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث، وقال عن هذا الحديث أنه في غاية النكارة، وذكر الألوسي أن سلسلة هذه الرواية سلسلة الكذب وليست بسلسلة الذهب.
15. إذا نظرنا إلى سياق الآيات رأيناها متناسقة آخذا بعضها بحجزة بعض، كل آية منها كاشفة عن جانب مهم من مساوئ أهل النفاق، وذلك يقتضي عدم انفصال بعضها عن بعض بالاستقلال بالسببية وإنما مجموع أعمال المنافقين في مجملها سبب رئيسي لنزول جميع هذه الآيات.
16. ولقاؤهم الذين آمنوا الذي يترتب عليه قولهم آمنا هو عند اجتماعهم بهم في مجالس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرها، وخلوهم إلى شياطينهم عودهم إليهم في مجامعهم التي هي محل استقرارهم ومظان طمأنينتهم.
17. الشياطين جمع شيطان وهو جنس من المخلوقات، ذو روح شريرة، طبعه الحرارة النارية لأن النار عنصر تكوينه، بدليل قوله تعالى ـ حكاية عن إبليس لعنه الله ـ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، وقوله: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾، وهم من جنس الجن لقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾، وأطلقت العرب اسم الشيطان على كل عات متمرد من أي جنس كان، فقد جاء في القاموس واللسان: الشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب) وهذا لأن طبيعة الشياطين التمرد والعتو، فأطلق اسمهم على كل ما شابههم في وصفهم على طريق الاستعارة ومن هذا الباب قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾، وفي الحديث (الكلب الأسود شيطان)
18. أطال علماء العربية وتبعهم المفسرون في بيان اشتقاق هذه الكلمة، وقد ذهبوا فيها مذاهب؛ منهم من عدها من شطن بمعنى بعد، ومنهم من قال هي من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل، ولا أجد داعيا إلى حشو التفسير بمثل هذه الأمور التي هي أخص بفنون أخرى، وذهب ابن عاشور إلى أن الشيطان اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة، ودخل في العربية من لغة سابقة، لأنه من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، ولم يأت بدليل يقضي بصحة قوله.
19. اختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا.. والأظهر أنهم قادة اليهود، فإنهم الذين ديدنهم تأجيج الفتنة، وتمزيق الشمل، والتشكيك في الحق، وقد كانوا يستغلون المنافقين لهذا الغرض على أن كثيرا من أهل النفاق كانوا من العنصر اليهودي.
20. المراد بمعيتهم في قوله ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ مجامعتهم لهم على الكفر بالإسلام، ومناوأة المسلمين، وعدم تأثر نفوسهم بالإيمان، وهو معنى ما روي عن ابن عباس (إنا معكم على مثل ما أنتم عليه)، وفي مثل هذا الموقف قد تثور خواطر الشكوك في نفوس أولئك الشياطين؛ لما يعرفونه عن أهل النفاق من التملق للمسلمين وإبداعهم في مجاملتهم، ومحاولة التنصل أمامهم من كل العقائد المغايرة للإسلام.
21. قد تؤدي هذه الشكوك إلى مساءلتهم؛ ما بالكم تتملقون لدى المسلمين وتتوددون إليهم بالكلمات الطيبة والعبارات المليئة بالتقدير والاحترام؟ فيدفع المنافقون عن أنفسهم التهم، ويتنصلون إلى شياطينهم بقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ليستأصلوا منهم الشك، وليغرسوا في أنفسهم الثقة بهم والطمأنينة إليهم، أي إنما نأتي الذي نأتيه مع المؤمنين استخفافا بهم وسخرية منهم.
22. بحث المفسرون في وجه تأكيدهم لخطاب الشياطين دون خطاب المؤمنين، مع أن المتبادر أنهم أحوج إلى التأكيد في خطاب أولي الإيمان ليدرأوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وأجيب عنه بجوابين:
أ. أولهما: أن خطابهم لأهل الإيمان لم يصدر عن باعث في نفوسهم فلذلك اختصروا؛ لأن ألسنتهم لا تطاوعهم على التأكيد لما وقر في قلوبهم من الكراهة المتأصلة للحق ولأهل الحق، على أنهم لا يدعون عندهم أنهم على ذروة الإيمان لعدم رجائهم رواج ذلك بين من يخاطبونهم، كيف وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل، وإنما يقنعون بإدعاء أنهم منتظمون في سلك عامة أهل الإيمان، وبعكس ذلك خطابهم للشياطين، فإنه خطاب ناشئ من أعماق نفوسهم وصادر عن أقصى رغبتهم، وتأكيد الخطاب يراعى فيه تارة جانب المتكلم، وتارة جانب المخاطب وأخرى جانبهما معا.
ب. ثانيهما: أن العدول عن مقتضى الظاهر في خطابهم للمؤمنين ولشياطينهم؛ لأنهم لا يريدون أن يضعوا أنفسهم موضع من يتطرق ساحته الشك في صدقه، إذ لو خاطبوا المؤمنين بالتأكيد لكان من خطابهم ما يشكك المؤمنين فيما يقولون، وهذا من إتقان نفاقهم، على أن المؤمنين قد يكونون أخليا الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم، فتبريهم عن إيمانهم جدير بأن يكون تعبيرا عاديا خاليا من المؤكدات، وذلك بخلاف مخاطبتهم لقومهم، فإن إبداعهم في النفاق واختراع أساليب الخداع عند لقائهم بالمؤمنين قد يثير شكوك كبرائهم في بقائهم على دينهم، فلذلك احتاجوا إلى التأكيد في مخاطبتهم ليتقرر في نفوسهم بقاؤهم على الكفر.
23. إذا أمعنا النظر فيما ورد من آي الكتاب حاكيا أقوال المنافقين، أدركنا أن خطابهم للمؤمنين كان يتلون بحسب المقامات، فتارة يكون مؤكدا، وتارة خاليا من التأكيد، وكثيرا ما يقترن بتغليظ الأيمان، وهذا يرجع إلى اختلاف أحوال المؤمنين المخاطبين أو أحوال المنافقين المتكلمين، فخطابهم للذين يتفطنون لأحوالهم ويتنبهون لغاياتهم ليس كخطاب غيرهم ممن يكون خالي الذهن من تصور عمق النفاق وإدراك ملامح أهله، ولذا عندما يحكى خطابهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلقاه مقرونا بمؤكدات أكثر مما إذا حكي خطابهم لغيره، كما تجد ذلك في نحو ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، ولذلك لما يعرفونه عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من عمق إدراكه وسرعة تفطنه لمكائدهم، كيف وهو الذي يتلقى عن الله تعالى وحيه الكاشف لخفايا الأمور، وكذا يستدعي حال الذين شُهروا بالنفاق عند المؤمنين أن يكون كلامهم أكثر تأكيدا من كلام غيرهم، محاولة منهم لتبرئة ساحتهم وتغطية مساوئهم.
24. الفرق بين خطابهم للمؤمنين الذي جاء جملة فعلية، وخطابهم لغيرهم الذي صيغ من الجملة الاسمية، لأنهم عند المؤمنين يدّعون حدوث الإيمان في نفوسهم بعد أن كانوا على ملة الكفر، والجملة الفعلية من شأنها الدلالة على الحدوث والتجدد، بينما يؤكدون لشياطينهم بقاؤهم على ما كانوا عليه من عقيدة الكفر، وذلك يستفاد من كون الجملة الدالة عليه اسمية، فإنها من شأنها الدلالة على الثبوت والدوام.
25. جملة ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لتساؤل شياطينهم عما يكون منهم في خطابهم للمؤمنين من دعوى الإيمان مع أنهم على مثل ما كانوا عليه من الكفر، فيجيبونهم بأن ذلك ناشئ عن استهزائهم بهم ليس غير وقال بعض أهل التفسير هو بدل من ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾، واختلفوا هل هو بدل اشتمال أو كل أو بعض، وذهب الفخر إلى أنه تأكيد له، والصحيح ما أسلفناه.
26. الاستهزاء: الاستخفاف، ومادته دالة عليه فإنهم يقولون تهزأ به ناقته إذا أسرعت وخفت، وذكر الإمام الغزالي أنه الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه، وذكر الفخر أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، وأتبع ذلك بقوله: فعلى هذا قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم، ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم، ورده الألوسي بأنه مخالف للغة والعرف.
27. بعد أن حكى الله سبحانه عن أولئك السفهاء ما حكاه من استخفافهم بأولي الحلوم الراجحة، والإيمان الراسخ، رد على مقالتهم السيئة بقوله: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ليكون في هذا الرد الصريح تسلية للمؤمنين في ذلك العصر وفيما يتبعه من العصور؛ بأن الله تعالى كافيهم مكائد خصومهم الذين يلقونهم بوجوه الخير ويخفون وراءها قلوبا طافحة بالشر، غاصة بالأحقاد، ومثله قوله لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾، وفي هذا تثبيت لعزائم أهل الحق وبعث لهم لأن يشقوا طريقهم لا يلوون على أحد من مناوئيهم، ما دام الله سبحانه هو المتكفل بأن يجزيهم جزاء من جنس عملهم.
28. الآية الكريمة وإن نزلت في المنافقين الذين كانوا في عهد الرسالة فمدلولها يشمل كل من كان على شاكلتهم، وما أكثر أولي الاستخفاف بالحق والاستهزاء بأهله الذين يلقون المؤمنين بالألسنة الكاذبة والقلوب الحاقدة والنوايا السيئة، وإنما سلي المؤمنين في هذه الكفاية الربانية، ﴿ وكفى بالله وليا وكفى بالله نصير ﴾.
29. قطع هذه الجملة عما قبلها:
أ. لأن عطفها قد يوهم أنها من مقول المنافقين، وأنهم يدعون أن الله تعالى يؤيدهم ويعزز جانبهم، إذ يستهزئ بالمؤمنين كما يستهزئون، فكان فصلها دالا على استقلالها عن كلامهم، وأنها من كلام الله تعالى تبكيتا لهم وانتصارا لعباده المؤمنين.
ب. لأن حكاية ما كان من المنافقين في معاملتهم أهل الإيمان، ومصارحتهم قومهم بأنهم يستهزئون بهم بما يلقونهم به من الكلم الطيب، يجعل الأعناق تشرئب، والعيون تتطلع إلى ما يحدث من رد فعل من جانب المؤمنين، فرب قائل: يقول ماذا عسى أن يفعل الذين آمنوا وقد اصطبغوا بخديعة أهل النفاق، ووقعوا في فخ كيدهم، وشراك مكرهم؟ فجاء هذا الرد من قبل الله بأن ذلك موكولا إليهم، وإنما الله الذي هداهم إلى الحق هو المتكفل بخصوصهم، وفي القطع في هذا المقام من الجزالة ما لا يخفى.
30. العطف يقتضي أن يكون استهزاؤهم مما يعتد به، وتركه يشعر أنه لا شيء بجانب استهزاء الله بهم، فهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى شيء من مرادهم في الذين آمنوا لأن الله بهم محيط وبكيدهم خبير.
31. مما يؤكد اعتبار الاستئناف تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي الذي وليه، إذ لم يقل: يستهزئ الله بهم، لأنه مما يجول في خواطر السامعين السؤال عن من يتولى جزاء صنيعهم، وفي هذا الجواب تنبيه على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى ذلك، وفيه مالا يخفى من رفعة قدر المؤمنين عنده، ونحوه قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، على أن بعض أهل البلاغة يرى أن تقديم المسند إليه هنا قاض بقصر المسند عليه.
32. قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: الله مستهزئ بهم ليوافق قولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ غير أنه عدل عن الاسم إلى الفعل للدلالة على تجدد الاستهزاء من الله بهم، حتى لا يغتر أحد بما يراهم فيه من نعمة ظاهرة، فإن البلاء بهم متلاحق والجزاء فيهم متنوع والمحن عليهم مسترسلة، ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾، وكان الخوف يساورهم يحذرون دائما من تهتك أستارهم، وانتشار أسرارهم، وبدو أمرهم، وكانوا وجلين من كل ما ينزل من الآيات، ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾
33. الاستهزاء في حقيقته لا ينشأ إلا عن الجهل، ولذلك أجاب موسى ـ عليه السلام ـ عندما قيل له: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ بقوله: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، وبهذا نعلم أن حقيقته مستحيلة على الله عز وجل، ولذا اختلف المفسرون فيما يراد به هنا، كما يلي:
أ. أنه بمعنى الانتقام، وقد ورد نحوه في كلام العرب، وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى ذلك: يسخر بهم للنقمة منهم.
ب. أطلق الاستهزاء على جزائه لما عُرف من إطلاق اسم الشيء على ما يترتب عليه، نحو قوله تعالى: ﴿ وجزاء سيئة مثلها ﴾، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم والعنه عدد ما هجاني)، أي اجزه جزاء هجائه، وهذا من باب ما يسمى بالمشاكلة اللفظية، وهي أسلوب من أساليب كلام العرب، وعزا ابن عطية هذا القول إلى جمهور العلماء.. وأرى أنه لا يختلف عما قبله، فإن إطلاق الاستهزاء على الانتقام لا يعني إلا العقوبة على ما صدر من المنتقم منه من الاستهزاء والاستخفاف.
ج. إسناد الاستهزاء هنا إلى الله إنما هو من حيث كونه سبحانه يصرف عن عباده المؤمنين ضرر استهزاء خصومهم، وينزله بالمستهزئين، وفي هذا ما يشبه الاستهزاء بهم، فلذلك استعير له اسمه.
د. لما كان الاستهزاء من لازمه حقارة المستهزأ به وهوانه، والمنافقون من الحقارة والهوان بمكان، أطلق اسم الملزوم على اللازم على طريقة المجاز الإرسالي.
هـ. إن الاستهزاء هنا عبارة عما شرعه الله من أحكام في الدنيا تجعل المنافقين يطمئنون إلى أنهم لا يختلفون عن الذين آمنوا، مع أنه تعالى أعد لهم في الآخرة عذاب الهون، كما أظهروا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين أمرا يبطنون ضده، وضعف الفخر الرازي هذا القول؛ لأنه تعالى عندما شرع لهم هذه الأحكام في الدنيا لم يكتم عنهم مصيرهم في الآخرة.
و. إن الله سبحانه عاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمن حيث أظهر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما كانوا يخفونه، وأما في الآخرة فقد روي أنه يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال هلم هلم فما يأتيه، عُزي ذلك إلى ابن عباس والحسن.
ز. إن النار تجمد كما تجمد الإهالة، فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم،، وحمل ابن جرير هذا الاستهزاء على ما أخبر الله تعالى به في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾
ح. مهما يكن فإن حقيقة الاستهزاء منتفية عن الله سبحانه، ولا معنى لما يقوله البعض من امتناع التأويل، وحمل هذا اللفظ على حقيقته مع مراعاة التنزيه في جانب الله تعالى، فإن من لازم الحمل على الحقيقة التشبيه وهو لا يمكن أن يجامع التنزيه، على أن المتأولين هم أرسخ قدما في العربية، كما أنهم أعمق فهما لمقاصد القرآن وإن أطال ابن جرير في الانتصار للفريق الآخر، ولم يبعد الألوسي رأيهم عن الصواب.
34. لا إشكال في إسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى لما علمته من أن العقيدة الحقة أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، وأن كل ما يحدث إنما هو بإرادته.
35. من حيث إن المعتزلة ينفون عن الله سبحانه خلق أفعال العباد حملوا المد هنا على خذلانهم، ومنعهم الألطاف التي يهبها تعالى عباده المؤمنين، أو على عدم قسرهم وإلجائهم إلى الطاعة، أو على أنه سبحانه خلى بينهم وبين الشيطان فتمكن من إغوائهم.
36. تعريف الطغيان بالإضافة إلى الضمير العائد إليهم، إما للإشعار بأنه حاصل بسبب إخلادهم إلى النفاق من تلقاء أنفسهم من غير أن يجبروا عليه، وإما للإشعار بأنه نوع غريب من الطغيان اختصوا به ولم يشاركهم فيه غيرهم.
37. هذا الكلام يفيد تقرير ما تقدم من أوصاف أهل النفاق وما يترتب عليها، ومن حيث إن التقرير في مضمونه التأكيد قُطع عما قبله، وقد يقتضي الحال أن يسأل السامع لأوصافهم المتلوة فيما تقدم عن منشأ تلك العجرفة وسبب ذلك الغرور، فيجاب ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾
38. هذا يعني أنه استؤنف استئنافا بيانيا، وهو من دواعي عدم العطف أيضا، ومن ناحية أخرى فإن هذه فذلكة لما سبق ومن عادة الفذلكة أن تكون مقطوعة كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾
39. الأصل في الإشارة أن تكون إلى متعين إما بحضور شخصه، أو بتعين وصفه، كما تقدم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ والمشار إليهم هنا ليست شخوصهم كلها معلومة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾، وثم الكثير من الأحاديث الدالة على أن جمهرة من المنافقين لم يكونوا متعينين بشخوصهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين، وإنما جازت الإشارة إليهم لما تقدم من الآيات الكاشفة لأحوالهم، المحددة لأوصافهم، التي جعلتهم كأنما يشاهدون رأي العين.
40. الإشارة هنا لا تفيد قربا ولا بعدا لعدم الإشارة إلى مكان المشار إليه.
41. الاشتراء هو أخذ المثمن ودفع الثمن فهو كالابتياع، وذهب بعض أئمة اللغة إلى أن فعل وافتعل يتعاقبان في مادة الشراء ولعلهم يستدلون لذلك بقول الشاعر: فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
42. انتقد ابن عاشور التسوية وذكر أن الذي جرأهم عليه سوء التأمل في قوله تعالى: ﴿ وشروه بثمن بخس دارهم معدودة ﴾، فتوهموا أن الضمير عائد إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾، أي باعوه ثم قال: وحسبك شاهد على ذلك قوله: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى قوله لامرأته ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾
43. حمل جماعة من المفسرين الاشتراء هنا على هذا المعنى، ورأى آخرون أن إطلاق الاشتراء على اختيارهم الضلالة على الهدى، لأن من اشترى شيئا لا يشتريه إلا وهو فيه راغب، وفي ثمنه زاهد، ومن حيث إن هؤلاء زهدوا في الهدى ورغبوا في الضلالة أطلق على فعلهم الاشتراء، وهو من المجاز المرسل بعلاقة اللزوم.
44. انتقد محمد عبده تفسير الاشتراء بالاستبدال لما بين اللفظين من فارق، والقرآن الكريم لا يؤثر لفظا على لفظ إلا لمزية فيه، ولخص الفارق بينهما في وجهين:
أ. أحدهما: أن الشراء لا يكون إلا لفائدة يطلبها كل من البائع والمشتري، سواء كانت حقيقية أو وهمية، والاستبدال أعم من ذلك.
ب. ثانيهما: أن الشراء يكون بين طرفين ولا يلزم ذلك في الاستبدال فقد يستبدل أحد ثوبا من ثيابه بثوب من غير أن يكون في مقابله أحد، ولا يصدق على ذلك أنه بيع أو شراء، وفي هذا ما يدل على أن معنى الآية أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة يتوهمونها، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح.
45. كلام محمد عبده مبني على ما تقدم ذكره عنه أنه يرى أن المنافقين المعنيين في الآيات كانوا من اليهود وحدهم، ولغيره أن يتعقب تفسيره للاشتراء بأن المعاوضة التي تكون بين طرفي المبايعة اللغوية غير موجودة هنا، إذ لم يكن فريق آخر دفعوا إليه ما كان عندهم من الهدى وأخذوا ما عنده من الضلال، على أن العرب يطلقون هذا اللفظ أحيانا على مطلق الاستبدال من غير مراعاة للقيود التي ذكرها، كالشاهد المتقدم: فإني شريت الحلم بعدك بالجهل.
46. سر التعبير عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم ايمان، وأجاب عنه بما يلي:
أ. أنهم كانوا متمكنين من الهدى، إذ لم يكونوا مكرهين على الضلالة، وقد لاحت لهم أعلام الحق، وأشرقت بين أيديهم أنوار الحقيقة، وإنما رفضوه من تلقاء أنفسهم على أن الدين القويم هو نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما من أحد إلا هو مفطور عليه، غير أن البيئات الفاسدة، والتربيات المنحرفة وإيثار العاجلة على الآجلة هي السبب في انتزاع هداية الدين، والحاجز بين النفس والانتفاع بهذه الهداية.
ب. من المفسرين من يحمل هذا الوصف على قوم آمنوا من قبل ثم ارتدوا في سريرتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾، وقوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾، وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد ومجاهد، قال: ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾، وهو مقتضى قول قتادة: قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلال ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة.
ج. انتقد ابن جرير من قال إن هذا الوصف فيمن آمن ثم كفر، لأن السياق يأبى ذلك، فإن كل ما في سورة البقرة من وصف المنافقين دال على أن الإيمان لم يصل إلى سويداء قلوبهم في وقت من الأوقات وإن ادعوه بأطراف ألسنتهم، وهذا يعني أن فريق المنافقين المذكور هنا غير الذين ذكروا في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾، وقوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾
47. لما كان كل من المتبايعين يسعى إلى الربح، إذ هي ثمرة التجارة ومطمح التجار، عقب ما تقدم ببيان أن هؤلاء المنافقين فشلوا في سعيهم، وخابوا في أملهم، ومن المعلوم قطعا أن من آثر الضلال على الهدى، واختار الكفر على الإيمان، فقد بذل ما ينفع في مقابل ما يضر، وتلك هي الخسارة العظمى.
48. إنما عدل عن التنصيص على خسرانهم إلى نفي ربحهم للتنبيه على أنهم كانوا بصنيعهم يهدفون إلى مكاسب يبتغونها، ومنافع يتصورونها أجدى لهم من هداية الدين، ولما كانت تلك المنافع لا توازي شيئا بجانب ما افتقدوه من الهدى مع ما كان ينغصها عليهم من الخوف والحذر، نُفي عنهم الربح لعدم الاعتداد بها، ومن المعلوم أنهم أضاعوا رأسمالهم بهذا العسف، ففقدوا الطلبتين بقاء رأس المال وحصول الربح ولما كان انتفاء الربح مترتبا على الاشتراء عطف عليه بالفاء.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/305.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات تبين ـ باختصار وعمق ـ الخصائص الروحية للمنافقين وأعمالهم، فالإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.
2. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغلت في أعماق المسلمين، وشكّلت خطرا كبيرا على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعبا لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.
3. الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ .
4. هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعا من الشطارة والدهاء ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلّا الخسران والعذاب الإلهي. ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ .
5. في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض، فالإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحد هما الآخر. إذا كان الفرد مؤمنا فالإيمان يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفا فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.
6. وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية، إنه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ .
7. بما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق، وبعبارة أخرى: إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الانغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ .
8. بما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ .
9. ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلا أنهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ .
10. الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزء من طبيعته، والمنافقون أيضا بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
11. علامتهم الأخرى: اعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ .
12. وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الانصياع للحق وإتباع الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقّلا ودراية! غير أن الحقيقة عكس ما يرون: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .
13. العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعا لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه الاستهزاء.
14. وبلهجة قويّة حاسمة يردّ القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ .
15. الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾
16. النفاق في مفهومه الخاص صفة أولئك الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، لكن النفاق له معنى عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل، ومن هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه (خيوط النفاق)، وفي الحديث النّبوي: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف)، فالحديث لا يدور هنا طبعا عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام: الرّياء شجرة لا تثمر إلّا الشّرك الخفيّ، وأصلها النّفاق)، وفي نهج البلاغة نصّ رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول فيه: أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، والزّالّون المزلّون، ويعمدونكم بكلّ عماد، ويرصدونكم بكلّ مرصاد، قلوبهم دويّة، وإن عذلوا كشفوا)
17. المنافقون يشكلون مشكلة كبرى للمسلمين، ذلك لأن المسلمين مكلفون ـ من جهة ـ باحتضان كلّ من يظهر الإسلام وبالامتناع عن تفتيش عقائد الأفراد، ومسئولون ـ من جهة أخرى ـ عن الحذر من مؤامرات المنافقين وتحركاتهم المشبوهة التي يستهدفون منها الوقوف بوجه الرسالة، وإن اتخذت هذه التحركات صفة إسلامية ظاهرية.
18. المنافقون يظنون أنهم بعملهم هذا يستطيعون أن يخدعوا المسلمين ويمرروا عليهم مؤامراتهم، بينما هؤلاء يخدعون أنفسهم.
19. التعبير القرآني ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ يوضّح مفهوما دقيقا، فكلمة يخادعون تعني الخداع المشترك من الطرفين، وتبين أن هؤلاء المنافقين كانوا يعتقدون ـ لعمى بصيرتهم ـ أنّ النّبي خدّاع توسّل بالدين والنبوّة وجمع حوله السذّج من النّاس ليكون له حكم وسلطان، ومن هنا راح المنافقين يتوسلون بخدعة لمقابلة خدعة النّبي.. فالتعبير القرآني المذكور يوضّح إذن لجوء المنافقين إلى الخدعة، ويبين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النّبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
20. تردّ الآية الكريمة على هؤلاء، وتقول: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، فالفعل (يخدعون) يوضّح أنّ الخداع من جانب المنافقين فقط، وتؤكد الآية أيضا أنهم يخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، لأنهم يبددون بأفعالهم هذه طاقاتهم العظيمة على طريق الانحراف، ويحرمون أنفسهم من السعادة التي رسم الله طريقها لهم، ويغادرون الدنيا وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام.
21. لا يمكن لأحد أن يخدع الله طبعا لأنه سبحانه عالم بالجهر وما يخفى، وتعبير (يخادعون الله) إمّا أن يكون المقصود به يخادعون الرّسول والمؤمنين، لأن من يخدع الرّسول والمؤمنين فكأنه خدع الله، وفي القرآن مواضع كثيرة عظم فيها الله رسوله والمؤمنين إذ قرن اسمهم باسمه، وإمّا أن يكون نقص العقل وسوء الفهم قد بلغ بالمنافقين حدا تصوروا معه أنهم قادرون على أن يخفوا على الله شيئا من أعمالهم، شبيه ذلك ما ورد في آيات أخرى من كتاب الله العزيز.
22. على أيّ حال، الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأن الإنسان المنحرف الملوث كثيرا ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعا بأن قبائحه ليست عملا انحرافيا، بل هي أعمال إصلاحية ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، وبذلك يخدعون أنفسهم، ويستمرون في غيّهم.
23. ذكر أنّ أحد القادة الأمريكيين وجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين ممّا أدّى إلى مقتل مائتي ألف إنسان بريء أو أصابتهم بالعاهات، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام، ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى.. المنافقون في كل عصر وفي عصرنا هذا يتشبثون بمثل هذه الأقاويل لخداع النّاس وخداع أنفسهم، فهذا الزعيم الأمريكي يضع أمامه طريقين فقط هما: استمرار الحرب أو القصف الذري للمدن الآمنة، متناسيا طريقا ثالثا واضحا وهو الكف عن الاعتداء على الشعوب وترك النّاس أحرارا مع ثرواتهم.
24. النفاق وسيلة لخداع الضمير وشلّ مفعوله، وما أخطر عملية شلّ الضمير الإنساني، الذي يعتبر الواعظ الداخلي والرقيب اليقظ الأمين والمندوب الإلهي في نفس الإنسان.
25. حين تندلع الثورة في منطقة معينة، فإن مصالح الفئة الظالمة الناهبة المستبدة تتعرض للخطر حتما، خاصة إذا كانت الثورة مثل ثورة الإسلام تقوم على أساس الحقّ والعدالة.. هذه الفئة تسعى للإطاحة بالثورة عن طريق السخريّة والاستهزاء أوّلا، ثمّ بالاستفادة من القوة المسلحة والضغوط الاقتصادية، والتضليل الاجتماعي، وحين تبدو في الأفق علامات انتصار الثورة، تعمد فئة من المعارضين إلى تغيير موقفها، فتستسلم ظاهريا، وتتحول في الواقع إلى مجموعة معارضة سريّة.
26. هؤلاء يسمّون (منافقين) لانطوائهم على شخصيتين مختلفتين (المنافق مشتقة من النفق: وهو الطريق النافذ في الأرض المحفور فيها للاستتار أو الفرار)، وهم أخطر أعداء الثورة، لأن مواقفهم غير واضحة، والأمّة الثائرة لا تستطيع أن تعرفهم وتطردهم من صفوفها، لذلك يتغلغلون في صفوف النّاس المخلصين الطيبين، ويتسلمون أحيانا المناصب الحساسة في المجتمع.
27. بعد الهجرة المباركة وضعت أول لبنة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وازداد الكيان الإسلامي الوليد قوة بعد انتصار المسلمين في غزوة (بدر)، وهذه الانتصارات عرضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصة اليهود منهم، لأن اليهود كانوا يتمتعون في المدينة بمكانة ثقافية واقتصادية مرموقة، وهؤلاء أنفسهم كانوا يبشّرون قبل البعثة النّبوية المباركة بظهور النّبي، كما كان في المدينة أفراد مرشحون للزعامة والملكية، لكن الهجرة النّبوية بدّدت آمال هؤلاء المتضررون من الدعوة رأوا أن الجماهير تندفع نحو الإسلام، وتنقاد إلى النّبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى عمّت الدعوة ذويهم وأقاربهم.
28. بعد مدّة من الدين الجديد، لم يروا بدّا من الاستسلام والتظاهر بالإسلام، تجنبا لمزيد من الأخطار الاقتصادية والاجتماعية وحذرا من الإبادة، خاصة وأن قوّة العربي تتمثل في قبيلته، والقبائل أسلمت للدين الجديد لكن هؤلاء راحوا يخططون خفية للإطاحة بالإسلام.
ظاهرة (النفاق) في المجتمع، تعود إلى عاملين:
أ. انتصار الثورة وسيطرة الرسالة الثورية على المجتمع.
ب. انهزام المعارضين نفسيا، وفقدانهم للشجاعة الكافية لمواجهة المد الجديد، واضطرارهم إلى الاستسلام الظاهري أمام الدعوة.
29. ظاهرة النفاق والمنافقين لا تختص ـ دون شك ـ بعصر الرسالة الأول، بل هي ظاهرة عامة تظهر بشكل وآخر في كل المجتمعات، ومن هنا لا بدّ للجماعة المسلمة أن تعرف أوصافهم كما جاء في القرآن، كي تحبط مؤامراتهم وتقف بوجههم، ولهذا اعتنى القرآن الكريم بالتعريف بهم، وبصفاتهم، ومنها:
أ. كثرة الضجيج والادعاءات الفارغة، أو بعبارة أخرى كثرة القول وقلّة العمل المفيد المتزن.
ب. التلوّن والتذبذب، فمن المؤمنين يقولون (آمنا) ومع المعارضين يقولون (إنّا معكم).
ج. الانفصال عن الامّة، وتشكيل الجمعيات السرية وفق خطط مبيّتة.
د. المكر والخداع والكذب والتملق والنكول والخيانة.
هـ. التعالي على النّاس، وتحقيرهم، واعتبارهم بلهاء سفهاء، إلى جانب الاعتداد بالنفس.
و. ازدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.
30. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، وأيّ مرض أسوأ من ازدواجية الظاهر والباطن، ومن التعالي على النّاس، هذا المرض مثل سائر الأمراض الخفية التي تصيب القلب لا يمكن إخفاؤه تماما، بل تظهر علائمه بوضوح على جميع أعضاء الإنسان.
31. ذكر القرآن الكريم استهانة المنافقين بشخصية المؤمنين، وبما يقدمه المؤمنون على قدر طاقتهم من صدقات فيقول: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
32. ذكر القرآن الكريم أنّهم يتخذون أحيانا في اجتماعاتهم السريّة قرارات بشأن قطع مساعدتهم المالية لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كي يتفرقوا عن الرسالة والرّسول: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ .
33. ذكر القرآن الكريم أنّهم يتخذون القرارات بإخراج المؤمنين من المدينة بعد انتهاء الحرب والعودة إلى المدينة: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ .
34. ذكر القرآن الكريم أنّهم كانوا يتخلفون عن الجهاد بمبررات مختلفة من قبيل الانشغال بالحصاد مثلا، ويتركون الرّسول في ساعات الشدّة، وهم مع ذلك خائفين من انفضاح أمرهم وانكشاف سرّهم.
35. بسبب هذه المواقف العدائية التآمرية ركز القرآن على التنديد بالمنافقين في مواضع عديدة، واحتوت سورة المنافقين عرضا مفصّلا لوضعهم، كما تضمنت سورة التوبة والحشر وسور أخرى حملات شديدة على المنافقين، وتحدثت ثلاث عشرة آية من سورة البقرة عن صفاتهم وعواقب مكرهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/94.