...

📥 للتعريف بالكتاب وتحميله

📥 للبحث في الآيات القرآنية وعناوينها

اختر جزءا من الكتاب:

اختر عنوانا من الكتاب:

86. قضاء المناسك والذكر والدعاء

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈86⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: 200 ـ 202]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾: امرأة صالحة، ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾: الحور العين، ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾: المرأة السوء(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١١٥.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُم﴾ حجكم(1).

2. روي أنّه قال: ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ مما عملوا من الخير(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٥٥.

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٠.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم؛ فأنزل الله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾(1).

2. روي أنّه قال: كان المشركون يجلسون في الحج، فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع؛ فأنزل الله على رسوله في الإسلام: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾(2).

3. روي أنّه قال: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم﴾ كما يذكر الأبناء الآباء(3).

4. روي أنّه قيل له: قول الله: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم﴾، إن الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه قال إنه ليس بذاك، ولكن يقول: تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك إذا ذكر والدك بسوء(4).

5. روي أنّه قال: معناه: فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وهو قول الصبي أول ما يفصح ويفقه الكلام: أبه أمه، ثم يلهج بأبيه وأمه(5).

6. روي أنّ رجلا قال له: إني آجرت نفسي من قومي على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم، أفيجزئ ذلك عني؟ قال: أنت من الذين قال الله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(6).

7. روي أنّه قال: أن ملكا موكلا بالركن اليماني منذ خلق الله السماوات والأرض يقول: آمين آمين فقولوا: ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار(7).

__________

(1) الضياء في المختارة: ١٠/١١١ ـ: ١١٢.

(2) البيهقي في شعب الإيمان: ٥/٣١٧.

(3) ابن جرير: ٣/٥٣٩.

(4) ابن أبي حاتم: ٢/٣٥٥.

(5) تفسير الثعلبي: ٢/١١٤.

(6) الشافعي في الأم: ٢/١١٦.

(7) ابن أبي شيبة: ١٠/٣٦٨.

ابن الزبير:

روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا إذا فرغوا من حجهم تفاخروا بالآباء؛ فأنزل الله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم﴾(1).

2. روي أنّه قال: كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا؛ فقال أحدهم: اللهم ارزقني إبلا، وقال الآخر: اللهم ارزقني غنما، فأنزل الله: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ إلى قوله: ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(2).

__________

(1) الطبراني ـ كما في المجمع: ٣/٢٤٩.

(2) الطبراني في الدعاء: ص٢٧٥.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا في الجاهلية يذكرون آباءهم، فيقول أحدهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول الآخر: كان أبي يضرب بالسيف، ويقول الآخر: كان أبي يجز النواصي، فنزلت: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم﴾(1).

2. روي أنّه قال: غادر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (هل كنت تدعو الله بشيء؟)، قال نعم، كنت أقول: اللهم، ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (سبحان الله! إذن لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، ودعا له، فشفاه الله(2).

3. روي أنّ ثابتا قال له: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم، فقال: اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، فأعاد عليه، فقال: تريدون أن أشقق لكم الأمور!؟ إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار؛ فقد آتاكم الخير كله(3).

__________

(1) الفاكهي في أخبار مكة: ٤/١١٩.

(2) مسلم: ٤/٢٠٦٨.

(3) ابن أبي شيبة: ١٠/٣٥٦.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم﴾ تفاخرت العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون؛ فأمروا بذكر الله مكان ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ سريع الإحصاء(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٣٧.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٠.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كان الناس في الجاهلية إذا أتوا المعرف قام الرجل فوق جبل، فقال: أنا فلان بن فلان، فعلت كذا، وفعل أبي كذا، وفعل جدي كذا، فأنزل الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُم﴾ كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين نزلت هذه الآية: (يا أيها الناس، إن الله قد رفع عنكم هذه النخوة والتفاخر في الآباء، فنحن ولد آدم، وخلق آدم من تراب)، وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ إلى قوله: ﴿أَتْقَاكُم﴾ [الحجرات: ١٣](1).

2. روي أنّه قال: أسرع من لمح البصر(2).

3. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة(3).

4. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ الرزق الطيب، والعلم النافع في الدنيا، ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ إلى الجنة(4).

__________

(1) ابن إسحاق في السيرة: ص٩٨.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/٧٥.

(3) ابن أبي شيبة: ١٣/٥٢٩.

(4) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٥.

العوفي:

روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ العلم، والعمل، ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ تيسير الحساب، ودخول الجنة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/٦٢.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً، قال كان الرجل في الجاهلية يقول: كان أبي، وكان أبي، فأنزلت هذه الآية في ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾، فقال: إن أهل الجاهلية كان من قولهم: كلا وأبيك، بلى وأبيك، فأمروا أن يقولوا: لا والله، وبلى والله(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/98.

عطاء:

روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنه سئل عن الركن اليماني وهو في الطواف، فقال: حدثني أبو هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (وكل به سبعون ملكا، فمن قال اللهم، إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال آمين)(1).

__________

(1) ابن ماجه: ٤/١٨٢.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ هذا عبد نوى الدنيا، لها أنفق، ولها شخص، ولها عمل، ولها نصب، فيها همه، ونيته، وسدمه، وطلبته(1).

2. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ عافية، ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ عافية(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٥٧.

(2) عبد الرزاق: ١/٨٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ معناه عبادة ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ معناه الجنة.. وقال في الدّنيا صحة الجسم، وسعة في المال وفي الآخرة خفّة الحساب، ودخول الجنة، ويقال: عافية في الدّنيا وعافية في الآخرة(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 97.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: يعني: إذا فرغتم من مناسككم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ كانت العرب إذا قضت مناسكها، وأقاموا بمنى؛ يقوم الرجل، فيسأل الله، ويقول: اللهم، إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت أبي، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يعطى في الدنيا(2).

3. روي أنّه قال: حسنة الدنيا: المال، وحسنة الآخرة: الجنة(3).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١١.

(2) ابن جرير: ٣/٥٣٩.

(3) ابن جرير: ٣/٥٤٦ ـ ٥٤٧.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]: رضوان الله والجنة في الآخرة، والمعاش وحسن الخلق في الدنيا(1).

2. روي أنّه قال: سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف فقال: أترى الله يجيب هذا الخلق كله؟ فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له مؤمنا كان أو كافرا، إلا أنهم في مغفرتهم على ثلاث منازل: مؤمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعتقه من النار، وذلك قوله عز وجل: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، ومنهم من غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وقيل له: أحسن فيما بقي من عمرك وذلك قوله عز وجل: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعنى من مات قبل أن يمضي فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الكبائر، وأما العامة، فيقولون: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني في النفر، والأول: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني لمن اتقى الصيد، أفترى أن الصيد يحرمه الله بعد ما أحله في قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ وفي تفسير العامة معناه: فإذا حللتم فاتقوا الصيد، وكافر وقف هذا الموقف يريد زينة الحياة الدنيا، فغفر الله له ما تقدم من ذنبه إن تاب من الشرك فيما بقي من عمره، وإن لم يتب وافاه أجره ولم يحرمه أجر هذا الموقف وذلك قوله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).

__________

(1) الكافي: 5/71.

(2) الكافي: 4/521.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾: رزقا حلالا، وعملا صالحا، ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾: المغفرة، والثواب(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١١٥.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم قالوا: اللهم، أكثر أموالنا، وأبناءنا، ومواشينا، وأطل بقاءنا، وأنزل علينا الغيث، وأنبت لنا المرعى، واصحبنا في سفرنا، وأعطنا الظفر على عدونا، ولا يسألون ربهم عن أمر آخرتهم شيئا؛ فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ كأنه قد كان(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، أي: دعوا ربهم أن يؤتيهم في الدنيا حسنة، يعني: الرزق الواسع، وأن يؤتيهم في الآخرة حسنة، فيجعل ثوابهم الجنة، وأن يقيهم عذاب النار(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٦.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: بلغني: أنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف: اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١١٦.

عوف:

روي عن عوف بن مالك الأشجعي(ت 173 هـ) أنّه قال في هذه الآية: من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١١٦.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: كانوا أصنافا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ؛ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، وأهل الكفر، وأهل النفاق، ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، والصنف الثالث: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: ٢٠٤](1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٤٣.

ابن سلام:

روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، يعني: بل أشد ذكرا(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١١.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ قيل فيه بوجهين:

أ. قيل‏: إنهم في الجاهلية كانوا إذا قضوا المناسك يجتمعون في مكان ويذكرون آباءهم ومناقبهم ويفتخرون بذلك، فلما أن أسلموا أمرهم أن يذكروا ربهم في الإسلام كذكرهم آباءهم في الجاهلية أو أشد ذكرا، فإنه أولى بذلك من الآباء.

ب. وقيل: أن يكونوا يذكرون آباءهم ـ ما أنعم عليهم وأحسن إليهم ـ

2. فقال الله تعالى لهم: اذكروا لى‏ فيما تذكرون آباءكم مكان آبائكم فإني أنا خيرات الدنيا، ولم يطلبوا الخيرات في الآخرة، فأعطوا ما سألوا من حسنات الدنيا، وهو كقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، فأعطوا ما سألوا من نصيب؛ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: 20]، أي يؤتى حرث الدنيا والآخرة، فمن كان ركونهم إلى الدنيا وميلهم إليها لم يركنوا إلى دعاء غيرها، وأما من آمن بالبعث والإحياء بعد الموت فإنهم سألوا خيرات الدنيا والآخرة جميعا بقوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ طلبوا حسنات الدنيا؛ لأن الدنيا جعلها محل الزاد للآخرة، لأنه جعلها لهم، إنما خلقهم للآخرة؛ كقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197]

3. اختلف فى‏ ﴿حَسَنَةٌ﴾ في الدنيا، و﴿حَسَنَةٌ﴾ في الآخرة:

أ. قيل‏: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وحسنة الآخرة: الجنة والمغفرة.

ب. وقيل‏: حسنة الدنيا: النصر والرزق، وحسنة الآخرة: الرحمة والرضوان، وكله واحد.

4. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: (إن لله عبادا يحيون في عافية، ويموتون في عافية، ويدخلون الجنة في عافية، قيل: يا رسول الله، بم؟ قال بكثرة قولهم: ﴿رَبِّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

5. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وجوه:

أ. قيل: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال حسابه سريع.

ب. وقيل‏: ﴿سَرِيعُ﴾ كما أن الإبطاء في الحساب يكون للتفكر فيه والاستذكار وحفظ عقد الأصابع أو لشغل شغله، فالله ـ تعالى ـ يتعالى عن ذلك أن يوصف به أو يشغله شيء.

ج. وقيل: ﴿سَرِيعُ﴾ أي قريب، كأن قد جاء، كقوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ [القمر: 1]، وكقوله: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ [الأنبياء: 97]، وكقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: 1]، أي قرب.

د. وقيل: كناية عن عذاب شديد، أي شديد العقاب والعذاب، وهو كقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: 1]] وهو كقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من نوقش الحساب عذب)

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/97.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾: يريد وأشد ذكراً، ولكن أو تقوم مقام الواو، فأراد عز وجل أن يُمدح ويُشكر بأكثر من شكر الآباء، لأنه أحق بالشكر منهم، ولولا رحمته لعدمت رحمتهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 283.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ أي متعبداتكم من المناسك وسائر ما أمر بفعله في الحج.

2. ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ معناه أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم جلسوا في منى حلقاً وكانوا يذكرون مناقب آبائهم ويفتخرون بها فنهوا عن ذلك وأمروا بذكر الله عز وجل والدعاء إليه، وقيل: إن الواحد منهم كان يقول: اللهم إن أبي كان كبير الجفنة عظيم الفئة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه.

3. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ والحسنة تحتمل معاني منها العافية ومنها نعم الدنيا ونعم الآخرة، ومنها العلم والعبادة.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/101.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ المناسك هي المتعبدات، وفيها هاهنا تأويلان:

أ. أحدهما: أنها الذبائح، وهذا قول مجاهد.

ب. الثاني: ما أمروا بفعله في الحج، وهذا قول الحسن البصري.

2. في قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: أن هذا الذكر هو التكبير في أيام منى.

ب. الثاني: أنه جميع ما سنّ من الأدعية في مواطن الحج كلها.

3. في قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم في الجاهلية جلسوا في منى حلقا وافتخروا بمناقب آبائهم، فأنزل الله تعالى ذكره‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، وهذا قول مجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أن معناه، فاذكروا الله كذكركم الأبناء الصغار للآباء، إذا قالوا: أبه أمّه، وهذا قول عطاء، والضحاك.

ج. الثالث: أنهم كانوا يدعون، فيقول الواحد منهم: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبّة، كثير المال، فاعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فأمروا بذكر الله، كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكرا، وهو قول السدي.

4. في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة.

ب. الثاني: أنها نعم الدنيا ونعم الآخرة، وهو قول أكثر أهل العلم.

ج. الثالث: أن الحسنة في الدنيا العلم، والعبادة، وفي الآخرة الجنة، وهو قول الحسن، والثوري.

د. الرابع: أن الحسنة في الدنيا المال، وفي الآخرة الجنة، وهو قول ابن زيد، والسدي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/263.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ﴾ معناه فرغتم منها، وأصل القضاء: فصل الأمر على أحكام، وقد يفصل بالفراغ منه كقضاء المناسك وقد يفصل بالعمل له على تمام كقوله:‏ ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وقد يفصل بالأخبار على القطع كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وقد يفصل بالحكم كقضاء القاضي على وجه الإلزام بالقهر.

2. المناسك المأمور بها هاهنا جميع أفعال الحج المتعبد بها في قول الحسن وغيره من أهل العلم ـ وهو الصحيح ـ وقال مجاهد: هي الذبائح.

3. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، اختلف في معنى الذكر:

أ. قيل: هو العلم.

ب. وقيل: هو حضور المعنى للنفس بالقول أو غيره مما هو كالعلة، لحضوره بها.

ج. وقيل: المراد به هاهنا التكبير أيام منى لأنه الذكر الذي يختصه بالترغيب فيه على غيره من الأوقات.

د. وقيل: إنه سائر الدعاء لله تعالى في ذلك الموطن، لأنه أفضل من غيره ـ وهو الأقوى ـ لأنه أعم.

4. ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ معناه‏ ما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنهم كانوا يجتمعون، يتفاخرون بالآباء، وبمآثرهم، ويبالغون فيه.

5. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ إنما شبه الأوجب بما هو دونه في الوجوب، لأمرين:

أ. أحدهما: أنه خرج على حال لأهل الجاهلية كانت معتادة: أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر على وجه التفاخر، فقيل: اذكروا الله كالذكر الذي كنتم تذكرون به آباءكم في المبالغة، أو أشد ذكراً بما له عليكم من النعمة، هذا قول أنس، وأبي وائل، والحسن، وقتادة.. وهو المعتمد.

ب. الثاني:قال عطا: أذكروه بالاستعانة به، كذكركم آباءكم: الصبي لأبيه إذا قال يا أباه.

6. إنما نصب ﴿ذِكْرًا﴾ ولم يخفض كما يخفض في قولهم هذا الذكر أشد ذكر، لأن فيه ضميراً منهم نظير قولك: هم أشد ذكراً، وفي أشد ضميرهم، ولو قلت مررت به أشد ذكراً لكان منصوباً على الحال فأما الذكر، فعلى التمييز.

7. سؤال وإشكال: الأمر بالذكر هاهنا بعد قضاء المناسك أو معه؟ والجواب: أجاز أبو علي الوجهين، واستشهد بقولهم: إذا وقفت بعرفات فادع الله، وإذا حججت، فطف بالبيت.

8. الخلاق: النصيب من الخير، وأصله التقدير، فهو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق.

9. ﴿رَبِّنَا﴾ منصوب، لأنه منادى وتقديره: يا ربّنا، وإنما حذف حرف النداء، لما كان أصله تنبيه المنادى، ليقبل عليك، وكان الله عزّ وجل لا يغيب عنه شيء ـ تعالى عن ذلك ـ، سقط حرف النداء للاستغناء عنه، فأما يا الله اغفر لي، فيجوز أن يخرج مخرج التنبيه للتأكيد: أن يقبل عليك برحمته، ولأنك تسأله سؤال المحتاج أن ينبه على حالة، لأن ذلك أبلغ في الدعاء، وأحسن في المعنى.

10. الفرق بين القول والكلام: أن القول يدلّ على الحكاية، وليس كذلك الكلام، نحو قال الحمد لله، فإذا أخبرت عنه بالكلام قلت تكلم بالحق، والحكاية تكون على ثلاثة أوجه: حكاية على اللفظ والمعنى، وحكاية على اللفظ فقط، وحكاية على المعنى فقط:

أ. الأول نحو ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ إذا حكاه من يعرف لفظه ومعناه.

ب. الثاني:إذا حكاه من يعرف لفظه دون معناه.

ج. الثالث: نحو أن يقول: أتوني أفرغ عليه نحاساً، فيكون حكاه على معناه دون لفظه.

11. ﴿آتِنَا﴾ معناه: أعطنا، فالإتيان الإعطاء، وأصله الآتي، والمجيء، فأتى إذا كان منه المجيء، فآتى إذا حمل غيره على المجيء، كما يقال: أتاه ما يجب، وآتاه غيره ما يحب.

12. الحسنة التي سألوها قيل في معناها قولان:

أ. أحدهما: قال قتادة، والجبائي، وأكثر المفسرين: إنه نعم الدّنيا، ونعم الآخرة.

ب. الثاني:قال الحسن: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، وسميت نعمة الله حسنة، لأنها مما تدعو إليه الحكمة، وقيل: الطاعة والعبادة حسنة، لأنها مما يدعو إليه العقل.

13. ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ الوقاء: الحاجز الذي يسلم به من الضرر، يقال وقاه يقيه وقاء، ووقاية، وتوقى هو توقية وأصل الوقاء الحجز بين الشيئين، وأصل (قنا): أوقنا مثل احملنا، فذهبت الواو لسقوطها في يقي، لوقوعها بين ياء وكسرة ثم أتبع سائر تصاريف الفعل ما لزمته العلة، وسقط ألف الوصل للاستغناء عنها بتحرك ما بعدها، وحذفت الياء، للوقف الذي هو نظير الجزم.

14. الفائدة في الاخبار عنهم بهذا الدعاء، الاقتداء بهم فيه، لأنه لما حذّر من الدعاء الأول رغّب في الثاني.

15. ﴿أُولَئِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ رفع بالابتداء وخبره لهم نصيب، ومعناه أولئك لهم نصيب من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه.

16. النصيب: الحظ، وجمعه أنصباء وأنصبة، وحدّ النصيب الجزء الذي يختص به البعض من خير أو شر، والكسب: الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وتقول: نصب ينصب نصباً، ونصب نصباً من التعب، وأنصبني هذا إنصاباً، وانتصب الشيء انتصاباً، وناصبه العداوة مناصبة، والنصب إقامتك الشيء، والنصب: الرفع، نصب القوم السير: إذا رفعوه، وكل شيء رفعته، فقد نصبته، ومنه نصب الحرف، لأن الصوت يرفع فيه الى الغار الأعلى، والنصب بتغير الحال من مرض أو تعب، والنصب: جمع أنصاب وهي حجارة كانت تنصب في الجاهلية، ويطاف بها، ويتقرب عندها وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ وقال: ﴿وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ﴾، وأنصاب الحرم حدوده، وهي حجارة تنصب، ليعرف بها الحرم، ونصاب السكين، وغيره معروف، وفلان في نصاب صدق: في حسب ثابت، والنصبة: السارية، والمنصب الذي ينصب عليه القدور، وكل شيء استقبلت به شيئاً، فقد نصبته، وأصل الباب القيام.

17. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يعنى في العدل من غير حاجة الى خط ولا عقد، لأنه عز وجل عالم به، وإنما يحاسب العبد مظاهرة في العدل، وإحالة على ما يوجبه الفعل من خير أو شر، والسرعة هو العمل القصير المدة، تقول: سرع سرعة، وأسرع في المشي إسراعاً، وسارع اليه مسارعة، وتسرّع تسرّعاً، وتسارع تسارعاً، وأقبل فلان في سرعان قومه أي في أوائلهم المتسرعين، واليسروع: دويبة تكون في الرمل، وأصل الباب: السرعة، وتقول من الحساب: حسب الحساب يحسبه حسباً، وحسب الشيء حسباناً، وحاسبه محاسبة، وحساباً، وتحاسبوا تحاسباً، واحتسب احتساباً، وأحسبني من العطاء إحساباً، أي كفاني، و﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي كافياً، والحسبان سهام صغار، وقيل منه‏ ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾، وقيل عذاباً، والمحسبة وسادة من أدم، والمحسبة غبرة مثل كدرة، وحسب الرجل مآثر آبائه، وأفعل ذلك بحسب ما أوليتني، وحسبي أي يكفيني‏ ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير تضييق، و﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ أي قدّر لهما مواقيت معلومة لا يعدونها، والتحسيب: دفن الميت يجب الحجارة وأصل الباب: الحساب، والحسبان: الظن، لأنه كالحساب في الاعتداد به، والعمل به على بعض الوجوه: وروي عن علي عليه السلام أنّه قال معناه إنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/171.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الخلاق: النصيب من الخير على تقدير الاستحقاق.

ب. القضاء: فصل الأمر على إحكام، ومنه: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ ومنه سمي القاضي.

ج. قِ: أصله من الوقاية يقال: وقى يقي وقاية، والأمر: ﴿ق﴾ والنهي: لا تَق، وأصل: ﴿ق﴾: أوق، ذهبت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وقنا أصله اوقينا، مثل احملنا، سقطت الواو لما ذكرنا، وسقطت ألف الوصل للاستغناء عنها لتحرك ما بعدها، وحذف الياء للوقف الذي هو نظير الجزم.

د. الإيتاء: الإعطاء، وأصله الإتيان، بمعنى المجيء.

هـ. النصيب والحظ من النظائر.

2. لما بين الله تعالى المناسك أمر بالدعاء عند الفراغ منها، فقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾:

أ. قيل: حجكم، وما أمرتم به في التعبدات، عن الحسن وجماعة.

ب. وقيل: الذبائح، عن مجاهد.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا الله﴾:

أ. قيل: هذا يجب بعد قضاء المناسك.

ب. وقيل: مع قضاء المناسك، وتقديره: فإذا أخذتم في قضاء المناسك.

4. اختلفوا في الذكر:

أ. قيل: التكبير أيام منى؛ لأنه الذكر المختص في هذه الأيام.

ب. وقيل: سائر الأدعية، وخص تلك المواطن؛ لأن الدعاء فيها أفضل منه في غيرها.

ج. وقيل: بالتوحيد والتمجيد، عن أبي مسلم.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾:

أ. قيل: كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم بأبلغ الذكر، فقيل: اذكروا الله كالذكر الذي تذكرون به آباءكم في المبالغة ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ لما له عليكم من النعمة، عن أنس والحسن وقتادة.

ب. وقيل: اذكروه بالاستغاثة، كذكر الصبي لأبيه، إذ قال: يا أبت في قول عطاء والربيع والضحاك.

ج. وقيل: لا تنسوا المنعم في الأحوال كما لا تنسوا الآباء، عن أبي مسلم.

د. وقيل: كانوا يلهجون بذكر الآباء فأمر بذكره على هذا الحد، عن أبي علي.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾:

أ. قيل: يعني وأشد ذكرًا، ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو.

ب. وقيل: أكثر ذكرًا.

ج. وقيل: أحسن ذكرًا.

7. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ أعطنا من أموال الدنيا إبلاً وغنمًا وعبيدًا ونحو ذلك: ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ﴾ يعني في الدار الآخرة ﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي من حظ ونصيب.

8. قال أكثر المفسرين: كانت العرب إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت فذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم، ويقول: إن أبي كان يفعل كذا، فأمرهم الله تعالى بذكره، وأنه المنعم فيجب له الذكر والشكر.

9. سؤال وإشكال: لم يذم هذا السؤال؟ والجواب: لأن من كان قصده الدنيا دون الدين فهو مذموم، لا يجيب الله دعاءه، فينبغي له أن يجعل عمدته أمور الدين، ثم يسأل من أمور الدنيا تبعًا، وينقطع في جميع ذلك إليه تعالى.

10. لما تقدم ذكر ما سأله الكفار من أمور الدنيا بيّن ما سأله المؤمنون في تلك المشاهد الشريفة، فقال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا﴾ أعطنا.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾:

أ. قيل: نعم الدنيا ونعم الآخرة، عن أنس وقتادة وأبي علي.

ب. وقيل: رزقًا حلالاً في الدنيا، ومغفرة في الآخرة، عن السدي.

ج. وقيل: العلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، عن الحسن وعطية.

12. ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي احفظنا من عذاب النار ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ﴾:

أ. قيل: حظ ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ من طاعاتهم التي لم يحبطوها بمعاصيهم.

ب. وقيل: لهم نصيب من جزاء كسبهم.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قيل: يسرع حساب أهل الموقف، لا يشغله حساب واحد عن حساب آخر.

ب. وقيَل: أراد بالحساب الثواب والجزاء، أي يسرع ثوابهم.

ج. وقيل: الحساب بيان ما للمكلف وما عليه بكلام يقرر عليهم، وروي عن ابن عباس أنها فيمن يحج عن غيره، أن للميت الثواب، وللحاج الأجر.

14. تدل الآيات الكريمة على:

أ. وجوب هذا الذكر، وتدل على وجوب الانقطاع إليه تعالى.

ب. أنه من يفعل العبادة لأجل الدنيا لا خلاق له في الآخرة.

ج. إثبات الحساب، وتدل على سرعة محاسبته، وفي الخبر أنه يحاسب الكل بقدر لمح البصر، وروي بقدر حلب شاة.

د. بطلان التشبيه؛ إذ لو كان جسمًا ذا آلة لاحتاج في المحاسبة إلى أوقات ممتدة.

هـ. بطلان مذهب الكلابية في قولهم: إن كلامه قديم من وجوه:

منها: أنه وصف نفسه بأنه يحاسب، وذلك لا يكون إلا بكلام محدث.

ومنها: أن ذلك لا يكون إلا بأقسام من الكلام، فيبطل قولهم: إنه متكلم بمعنى واحد.

ومنها: أنه لا يصح أن يحاسب أهل اللغات إلا بما عرفوه، فيوجب محاسبتهم بلغات مختلفة، فكيف يكون كلامه واحدًا.

و. بطلان مذهب الجبر؛ لأنه كيف يحاسبهم ولا فعل لهم، وجميع أفعالهم خلق له، وذلك ظاهر.

15. مسائل نحوية:

أ. عامل الإعراب في قوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ فيه وجهان: أحدهما: الكاف فيكون موضعه جرًّا، والآخر الفعل في: ﴿اذْكُرُوا﴾ فيكون موضعه نصبًا.

ب. حذف حرف النداء من ﴿رَبِّنَا﴾ لأن أصله للتنبيه، والله تعالى لا يغيب عنه شيء، فيسقط حرف التنبيه للاستغناء، فأما يا الله، فيذكر للتأكيد ليقبل عليه برحمته.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/826.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أصل القضاء: فصل الأمر على إحكام، وقد يفصل بالفراغ منه كقضاء المناسك، وقد يفصل بأن يعمل على تمام كقوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وقد يفصل بالإخبار به على القطع، كقوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وقد يفصل بالحكم كقضاء القاضي على وجه الإلزام.

ب. الخلاق: النصيب من الخير، وأصله التقدير فهو النصيب من الخير على وجه الاستحقاق، وقيل: إنه من الخلق فهو نصيب مما يوجبه الخلق الكريم

ج. الفرق بين القول والكلام أن القول يدل على الحكاية، وليس كذلك الكلام نحو: قال الحمد لله، فإذا أخبرت عنه بالكلام قلت تكلم بالحق، والحكاية على ثلاثة أوجه:

أحدها: حكاية على اللفظ والمعنى نحو: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ إذا حكاه من يعرف لفظه ومعناه.

وحكاية على اللفظ نحوها إذا حكاه من يعرف لفظه دون معناه.

وحكاية على المعنى نحو أن تقول نحاسا بدل قوله قطرا.

د. الإيتاء: الإعطاء، وأصله الآتي بمعنى المجئ فأتي إذا كان منه المجئ، وآتى غيره: حمله على المجئ، فيقال: آتاه ما يحب، وآتى غيره ما يحب.

هـ. ق: أصله من وقى يقي وقاية ووقاء، والوقاء: أصله الحجز بين الشيئين، والوقاء: الحاجز الذي يسلم به من الضرر.

و. النصيب: الحظ، وجمعه أنصباء وأنصبة، وحد النصيب: الجزء الذي يختص به البعض من خير أو شر.

ز. الكسب: الفعل الذي يجتلب به نفع، أو يدفع به ضرر.

ح. السريع من العمل هو القصير المدة، يقال: سرع سرعة وسرعا فهو سريع، وأقبل فلان في سرعان قومه أي: في أوائلهم المسرعين، والحساب: مصدر كالمحاسبة.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾:

أ. قيل: معناه: فإذا أديتم مناسككم.

ب. وقيل: فإذا فرغتم من مناسككم.

3. المناسك: جمع المنسك، والمنسك، يجوز أن يكون موضع النسك، ويجوز أن يكون مصدرا:

أ. فإن كان موضعا فالمعنى: فإذا قضيتم ما وجب عليكم إيقاعه في متعبداتكم.

ب. وإن كان بمعنى المصدر، فإنما جمع لأنه يشتمل على أفعال وأذكار، فجاز جمعه كالأصوات أي: فإذا قضيتم أفعال الحج.

4. اختلف في الذكر في قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: إن المراد به التكبير المختص بأيام منى، لأنه الذكر المرغب فيه، المندوب إليه في هذه الأيام.

ب. الآخر: إن المراد به سائر الأدعية في تلك المواطن، لأن الدعاء فيها أفضل منه في غيرها.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾:

أ. قيل: معناه: ما روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنهم كانوا إذا فرغوا من الحج، يجتمعون هناك، ويعدون مفاخر آبائهم ومآثرهم، ويذكرون أيامهم القديمة، وأياديهم الجسيمة، فأمرهم الله سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع، وهو الأصح.

ب. وقيل: معناه واستغيثوا بالله، وافزعوا إليه كما يفزع الصبي إلى أبيه في جميع أموره، ويلهج بذكره فيقول: يا أبت عن عطاء.

6. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ أو: يزيدوا على ذلك بأن يذكروا نعم الله، ويعدوا آلاءه، ويشكروا نعماءه، لأن آباءهم وإن كانت لهم عليهم أياد ونعم، فنعم الله عليهم أعظم، وأياديه عندهم أفخم، ولأنه المنعم بتلك المآثر والمفاخر على آبائهم وعليهم، وهذا هو الوجه في تشبيهه هذا الذكر الواجب بذلك الذكر الذي هو دونه في الوجوب، وهو قول الحسن وقتادة.

7. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ بين سبحانه أن الناس في تلك المواطن أصناف، فمنهم من يسأل نعيم الدنيا، ولا يسأل نعيم الآخرة، لأنه غير مؤمن بالبعث والنشور ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي: نصيب من الخير موفور.

8. ثم لما ذكر سبحانه دعاء من سأله من أمور الدنيا في تلك المواقف الشريفة ما لا يرتضيه، عقبه بما يسأله المؤمنون فيها من الدعاء الذي يرغب فيه، فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا﴾ أي: أعطنا ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾:

أ. قيل: أي: نعيم الدنيا، ونعيم الآخرة، عن أنس وقتادة.

ب. وروي عن أبي عبد الله أنها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا، ورضوان الله، والجنة في الآخرة.

ج. وقيل: العلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، عن الحسن وقتادة.

د. وقيل: هي المال في الدنيا، وفي الآخرة الجنة، عن ابن زيد والسدي.

هـ. وقيل: هي المرأة الصالحة في الدنيا، وفي الآخرة الجنة، عن علي عليه السلام.

و. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أوتي قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار )

9. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أي: حظ من كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه.

10. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: إن معناه سريع المجازاة للعباد على أعمالهم، وأن وقت الجزاء قريب، ويجري مجراه قوله: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ وعبر عن الجزاء بالحساب، لأن الجزاء كفاء للعمل وبمقداره فهو حساب له يقال: أحسبني الشيء: كفاني.

ب. ثانيها: أن يكون المراد به أنه يحاسب أهل الموقف في أوقات يسيرة لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، كما لا يشغله شأن عن شأن، وورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر، وروي بقدر حلب شاة، وهذا أحد ما يدل على أنه ليس بجسم، وأنه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين، ولكان يشغله خطاب بعض الخلق عن خطاب غيره، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة، وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: معناه أنه يحاسب الخلق دفعة، كما يرزقهم دفعة.

ج. ثالثها: إن معناه أنه تعالى سريع القبول لدعاء هؤلاء، والإجابة لهم من غير احتباس فيه، وبحث عن المقدار الذي يستحقه كل داع كما يحتبس المخلوقون للإحصاء والاحتساب، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس أنه قال: يريد أنه لا حساب على هؤلاء، إنما يعطون كتبهم بأيمانهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت بها عنكم، وهذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.

11. مسائل نحوية:

أ. ﴿أَشَدُّ﴾: في موضع جر، ولكنه لا ينصرف لأنه على وزن الفعل، وهو صفة، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر: واذكروه أشد ذكرا، وذكرا: منصوب على التمييز.

ب. ﴿فِي الآخرةِ﴾: الجار والمجرور يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله ﴿لَهُ﴾ وله: في موضع خبر للمبتدأ الذي هو ﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾، فإن ﴿مِنَ﴾ مزيدة، والجار والمجرور في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون ﴿فِي الآخرةِ﴾ في موضع نصب على الحال، والعامل فيه ما في له من الفعل.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/529.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما روي في سبب نزول الآيات الكريمة:

أ. أحدها: أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيّامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك؛ فنزلت هذه الآية، وهذا المعنى مرويّ عن الحسن، وعطاء، ومجاهد.

ب. الثاني: أنّ العرب كانوا إذا حدّثوا أو تكلّموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا؛ فنزلت هذه الآية، وهذا مرويّ عن الحسن أيضا.

ج. الثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرّجل بمنى، فقال: اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه؛ فنزلت هذه الآية، وهذا قول السّدّي.

2. المناسك: المتعبّدات، وفي المراد بها هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنها أفعال الحجّ، قاله الحسن.

ب. الثاني: أنها إراقة الدّماء، قاله مجاهد.

3. في ذكرهم آبائهم أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه إقرارهم بهم.

ب. الثاني: أنه حلفهم بهم.

ج. الثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فإنّهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم.

د. الرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أوّل نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضّحّاك.

4. في ﴿أَوْ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها بمعنى (بل)

ب. الثاني: بمعنى الواو.

5. في حسنة الدّنيا سبعة أقوال:

أ. أحدها: أنها المرأة الصّالحة، قاله عليّ عليه السّلام.

ب. الثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن.

ج. الثالث: أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن.

د. الرابع: المال، قاله أبو وائل، والسّدّي، وابن زيد.

هـ. الخامس: العافية، قاله قتادة.

و. السادس: الرّزق الواسع، قاله مقاتل.

ز. السابع: النّعمة، قاله ابن قتيبة.

6. في حسنة الآخرة ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها الحور العين، قاله عليّ عليه السلام.

ب. الثاني: الجنّة، قاله الحسن، والسّدّي، ومقاتل.

ج. الثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثّوريّ.

7. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾، قال الزجّاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدّعاء، وهذه الآية متعلّقة بما قبلها، إلّا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها، فروى الضّحّاك عن ابن عباس أنّ رجلا قال يا رسول الله، مات أبي ولم يحجّ، أفأحجّ عنه؟ فقال: (لو كان على أبيك دين قضيته، أفكان ذلك يجزئ عنه؟) قال نعم، قال (فدين الله أحقّ أن يقضى)! قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.

8. في معنى سرعة الحساب خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنه قلّته، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: أنه قرب مجيئه، قاله مقاتل.

ج. الثالث: أنه لمّا علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك.

د. الرابع: أنّ المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجّاج.

هـ. الخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر ورويّة كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

__________

(1) زاد المسير: 1/168.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. روي ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الأشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه، فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم، وروى القفال في (تفسيره) عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ [الحجرات: 13] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم)، وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القدر، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

2. القضاء إذا علق بفعل النفس، فالمراد به الإتمام والفراغ، وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الإلزام:

أ. نظير الأول قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: 12]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ [الجمعة: 10] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (وما فاتكم فاقضوا)، ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضى بينهما.

ب. نظير الثاني قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: 23] وإذا استعمل في الإعلام، فالمراد أيضا ذلك كقوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ [الإسراء: 4] يعني أعلمناهم.

3. قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصا، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد: اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه، وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ مشعر بالفراغ والإتمام من الكل، وهذا مفارق لقول القائل: إذا حججت فقف بعرفات، لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ، وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج.

4. المناسك: جمع منسك الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلنها جمع منسك الذي هو موضع العبادة، كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم، فيكون من باب حذف المضاف:

أ. قال بعض المفسرين: المراد من المناسك هاهنا ما أمر الله تعالى به الناس في الحج من العبادات.

ب. وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء.

5. الفاء في قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ يدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر، فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو:

أ. فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة.

ب. ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشويق، على حسب اختلافهم في وقته أولا وآخرا، لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات.

ج. ومنهم من قال: بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة، فكأنه تعالى قال: فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء.

د. ومنهم من قال: بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء، والاستغفار، وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال، والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والانقطاع إلى الله تعالى، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة.

هـ. وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهذه العبادة: قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصودا بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله، والتقدير: فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية، وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله، فالأول نفي و الثاني إثبات و الأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار و الثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار.

6. في قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ وجوه:

أ. أحدها: وهو قول جمهور المفسرين: أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقا فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور، وكل ذلك من أمهات المهلكات، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي.

ب. ثانيها: قال الضحاك والربيع: اذكروا الله كذكركم آبائكم وأمهاتكم، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: 81] قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه، أمه أمه، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبا على ذكر أبيه وأمه.

ج. ثالثها: قال أبو مسلم: جرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله.

د. رابعها: قال ابن الأنباري في هذه الآية: إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم، فقال تعالى: عظموا الله كتعظيمكم آبائكم.

هـ. خامسها: قال بعض المذكورين: المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم: اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية، بل المبالغة في التوحيد هاهنا أولى من هناك، وهذا هو المراد بقوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾

و. سادسها: أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذكرا له بالتعظيم، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك.

ز. سابعها: يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكرهم إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أن يحلفوا بآبائهم‏، فقال: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره.

ح. ثامنها: روي عن ابن عباس أنّه قال في تفسير هذه الآية: هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء.

7. هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين.

8. اختلف في عامل الإعراب في‏ ﴿أَشَدُّ﴾:

أ. قيل: الكاف، فيكون موضعه جرا.

ب. وقيل: ﴿فَاذْكُرُوا﴾ فيكون موضعه نصبا، والتقدير: اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم، واذكروه‏ ﴿أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ من آبائكم.

9. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ معناه: بل أشد ذكرا، وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة، أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية، فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم، قال القفال: ومجاز اللغة في مثل هذا معروف، يقول الرجل لغيره: افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه، لا يريد به التشكيك، إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه.

10. بين الله تعالى:

أ. أولا تفصيل مناسك الحج.

ب. ثم أمر بعدها بالذكر، فقال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 198]

ج. ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره، وأن يقتصر على ذكره فقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾

د. ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾

11. ما أحسن هذا الترتيب:

أ. فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها.

ب. ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله.

ج. ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقا بالذكر كما حكي عن‏ إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَيَهْدِينِ‏﴾ [الشعراء: 78] ثم قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ فقدم الذكر على الدعاء.

12. ثم بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان:

أ. أحدهما: أن يكون دعاؤهم مقصورا على طلب الدنيا.

ب. الثاني: الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة.

13. قد كان في التقسيم قسم ثالث، وهو من يكون دعاؤه مقصورا على طلب الآخرة، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا؟ والأكثرون على أنه غير مشروع، وذلك أن الإنسان خلق محتاجا ضعيفا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة، وروى القفال في (تفسيره) عن أنس‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض، فقال: ما كنت تدعوا الله به قبل هذا قال كنت أقول، اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا، فقال النبي عليه السلام: (سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت‏ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [الشعراء: 83]) قال فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فشفي، واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن، أو على منبت شعرة واحدة، لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محروما عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه، فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين، وأهمل هذا القسم الثالث.

14. اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم:

أ. فقال قوم: هم الكفار، روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة، وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد، وعن أنس كانوا يقولون: اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر، فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة، أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب، نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق أنّه قال: أهل النار يستغيثون ثم يقولون: أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله في الدنيا، طلبا للمأكول والمشروب، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة.

ب. وقال آخرون: هؤلاء قد يكونون مؤمنين، ولكنهم يسألون الله لدنياهم، لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف، وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة، وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة، وإن كان الفاعل مسلما، كما روى في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخرةِ﴾ [آل عمران: 77] أنها نزلت فيمن أخذ مالا بيمين فاجرة، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، (إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم

15. معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ على وجوه:

أ. أحدها: أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب.

ب. الثاني: لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه.

ج. الثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالا بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم.

16. ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ حذف مفعول‏ ﴿آتِنَا﴾ من الكلام لأنه كالمعلوم.

17. مراتب السعادات ثلاث: روحانية، وبدنية، وخارجية:

أ. أما الروحانية فاثنان: تكميل القوة النظرية بالعلم، وتكميل القوة العلمية بالأخلاق الفاضلة.

ب. وأما البدنية فاثنان: الصحة والجمال.

ج. وأما الخارجية فاثنان: المال، والجاه.

18. قوله تعالى: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ يتناول كل هذه الأقسام، فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا، والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا، وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا.

19. ثم قال تعالى في حق هذا الفريق‏ ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]

20. لم يذكر الله تعالى في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا؟

أ. قال بعضهم: إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان وليا لله تعالى مستحقا للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفا حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6]

ب. وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجابا، لكن تلك الإجابة قد تكون مكرا واستدراجا.

21. في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ وجوه.

أ. أحدها: أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة، والأمن، والكفاية والولد الصالح، والزوجة الصالحة، والنصرة على الأعداء، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق، وما أشبهه (حسنة) فقال: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [التوبة: 50] وقيل في قوله: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: 52] أنهما الظفر والنصرة والشهادة، وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثوب، والخلاص من العقاب، وبالجملة فقوله: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قالوا: زدنا فأعادها قالوا زدنا قال: ما تريدون؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه.

ب. ثانيها: أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس‏ أن رجلا دعا ربه فقال في دعائه: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئا من أمر الدنيا، فقال بعض الصحابة: بلى يا رسول الله إنه قال (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، إنه يقول: آتنا في الدنيا عملا صالحا، وهذا متأكد بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: 74] وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية.

ج. ثالثها: قال قتادة: الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين، وعن الحسن: الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى، وفي الآخرة الجنة.

22. منشأ البحث في الآية أنه لو قيل: (آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة) لكان ذلك متناولا لكل الحسنات، ولكنه قال: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة.

23. سؤال وإشكال: أليس أنه لو قيل: (آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة) لكان ذلك متناولا لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير؟ والجواب: الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول: اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول: اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقا لقضائك وقدرك فأعطني ذلك، فلو قال اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما، وقد بينا أنه غير جائز، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين.

24. في ﴿أُولَئِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ قولان:

أ. أحدهما: إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين سألوا الدنيا والآخرة، والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾

ب. الثاني: أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه، فمن أنكر البحث وحج التماسا لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه، أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]

25. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه؟ والجواب: المراد: لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله: (من) في قوله: ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ لابتداء الغاية لا للتبعيض.

26. سؤال وإشكال: هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل؟ والجواب: نعم، ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي.

27. سؤال وإشكال: ما الكسب؟ والجواب: الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه، بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة، وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح: إنها كسب فلان، وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لا يراد إلا الربح، فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام.

28. ﴿سَرِيعُ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فاعل من السرعة، قال ابن السكيت: سرع يسرع سرعا وسرعة فهو سريع.

29. ﴿الْحِسَابِ﴾ مصدر كالمحاسبة، ومعنى الحساب في اللغة العد يقال: حسب يحسب حسابا وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت، والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره، والاحتساب الاعتداد بالشيء، وقال الزجاج: الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم: حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حسابا لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.

30. اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسبا لخلقه على وجوه:

أ. أحدها: أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم، بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها، وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب، قالوا: ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقا لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور، ونقل عن ابن عباس أنّه قال إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال: هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.

ب. الثاني: أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق: 8] ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز، فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة.

ج. الثالث: أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب، فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت، قال: إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعا يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال: إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاما يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به، فهذا هو المراد من كونه تعالى محاسبا لخلقه.

31. ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوها:

أ. أحدها: أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوما ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه، أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعا في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم، أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتا دالا على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسبا إلى أنه تعالى يخلق شيئا، ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات، ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادرا على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر، ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة.

ب. ثانيها: أن معنى كونه تعالى: ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم، وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب، فأعلم الله تعالى أنه‏ ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين، لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد، ولا إلى فكرة وروية، وهذا معنى‏ الدعاء المأثور (يا من لا يشغله شأن عن شأن)، وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى‏ ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ كونه تعالى عالما بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشيء فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب.

ج. ثالثها: أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/334.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء، وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف، وكذلك ﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ لأنهما مثلان.

2. ﴿قَضَيْتُمُ﴾ هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ﴾ [الجمعة: 10] أي أديتم الجمعة، وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾:

أ. قيل: كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين.

ب. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم.

ج. وقالت طائفة: معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم، وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية؟ قال ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى‏ إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما.

4. الكاف من قوله تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾ في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم، ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ قال الزجاج: ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾ في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى: أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لأنه أفعل صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد، و﴿ذِكْرًا﴾ نصب على البيان.

5. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ من في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالصفة يقول ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ صلة من المراد المشركون، قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم، ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا فـ ﴿مَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي كخلاق الذي يسأل الآخرة والخلاق النصيب، و(من) زائدة وقد تقدم.

6. ﴿وَمِنْهُمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والآخرة، واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة:

أ. فروى عن علي بن أبي طالب أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الآخرة الحور العين، ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾: المرأة السوء، وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لان النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز.

ب. وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال.

ج. وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة.

7. وقيل غير هذا، والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والآخرة، وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن ﴿حَسَنَة﴾ نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع، وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم.

8. ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أصل قنا أو قنا، حذفت الواو كما حذفت في يقي ويشي، لأنها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين، وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي، قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لان العرب تقول: ورم يرم، فيحذفون الواو.

9. المراد بالآية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة، ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافني من النار، ولا أدرى ما دندنتك‏ غيرها، ذكره أبو عبيد، وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين فقولوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين الحديث، خرجه ابن ماجة في السنن.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾:

أ. قيل: هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة.

ب. وقيل: يرجع ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الانعام: 132]

11. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ من سرع يسرع ـ مثل عظم يعظم ـ سرعا وسرعة، فهو سريع، الحساب مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا، والحساب العد: يقال: حسب يحسب حسابا وحسابه وحسبانا وحسبانا وحسبا، أي عد، وأنشد ابن الاعرابي:

يا جمل أسقاك بلا حسابه... سقيا مليك حسن الربابه

قتلتني بالدل والخلابة، والحسب: ما عد من مفاخر المرء، ويقال: حسبه دينه، ويقال: ماله، ومنه الحديث: (الحسب المال والكرم التقوى رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجة، وهو في الشهاب أيضا، والرجل حسيب، وقد حسب حسابه (بالضم) مثل خطب خطابة.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. قيل: المعنى في الآية: أن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق: ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب) الحديث، فالله عز وجل عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وعليه، لان الفائدة في الحساب علم حقيقته.

ب. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم.

ج. وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفى الخبر (إن الله يحاسب في قدر حلب شاة)

د. وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق، وقيل لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم!

هـ. وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.

13. الكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا.

14. معنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾،

15. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ قال ابن عباس فيها: هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب، وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي)، قال: نعم، قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ يعني من حج‏ عن منيت كان الأجر بينه وبين الميت، قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لان تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج، لان الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا، ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏2/432.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ أي: فرغتم من أعمال الحجّ ونفرتم‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ أي: فأكثروا ذكر الله، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه وشرح آلائه ونعمائه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل هذه الآية، وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه، وحث على إفراد ذكره جل شأنه.

2. ثم أرشد تعالى إلى دعائه ـ بعد كثرة ذكره ـ فإنه مظنة الإجابة، وذمّ من لا يسأله إلّا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه، فقال‏ ﴿فَمِنَ النَّاسِ﴾ أي: الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همّهم‏ ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ أي: في ذكره‏ ﴿رَبَّنَا آتِنَا﴾ أي: مرغوباتنا ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ لا نطلب غيرها ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي: نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به، فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة؛ أو المعنى: ما له في الآخرة من طلب خلاق، فهو بيان لحاله في الدنيا وتصريح بما علم ضمنا من قوله: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾؛ أو تأكيد لكون همه مقصورا على الدنيا، وقوله‏ ﴿فِي الآخرةِ﴾ حينئذ متعلّق بـ ﴿خَلَاقَ﴾ حال منه؛ وتضمن هذا الذمّ والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك.

3. هؤلاء الذين حكى الله عنهم ـ أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا ـ

أ. قال قوم: هو مشركو العرب، وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر، إذ لا نصيب لهم فيها من كرامة ونعيم وثواب.

ب. وقال قوم: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون‏ الله لدنياهم لا لأخراهم، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب، حيث سألوا الله تعالى ـ في أعظم المواقف وأشرف المشاهد ـ حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة، ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة، أي: إلّا أن يتوبوا، أو إلّا أن يعفو الله عنه، أو لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل المولى لآخرته، والله أعلم، كذا يستفاد من الرازيّ.

4. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ جمعت هذه الدعوة كلّ خير في الدنيا والآخرة، وصرفت كلّ شرّ:

أ. فإن الحسنة في الدنيا، تشمل كلّ مطلوب دنيويّ ـ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هيّن، وثناء جميل.. إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ـ ولا منافاة بينها ـ فإنها كلّها مندرجة في الحسنة في الدنيا.

ب. وأمّا الحسنة في الآخرة: فأعلى ذلك رضوان الله تعالى ودخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب.. وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأمّا النجاة من النار: فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام.

5. ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء:

أ. فقد كان يقول صلّى الله عليه وآله وسلم كما رواه البخاريّ‏ عن أنس، وروى أحمد: يسأل قتادة أنسا: أيّ دعوة كان يدعو بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر؟ قال كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: (اللهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه! ورواه مسلم‏.

ب. وروى الشافعي عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ الآية.

6. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة، وما فيه من معنى البعد لما مرّ مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم، وبعد منزلتهم في الفضل‏ ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ [نوح: 25]، أو لهم نصيب مما دعوا به نعطيهم منه في الدنيا والآخرة، وسمّي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال وهي موصوفة بالكسب.

7. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾:

أ. إمّا بمعنى سريع في الحساب كسريع في السير، فالجملة تذييل لقوله‏ ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: أنه يجازيهم على قدر أعمالهم وكسبهم ولا يشغله شأن عن شأن لأنه سريع في المحاسبة.

ب. أو بمعنى: سريع حسابه كحسن الوجه، فالجملة تذييل لقوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ إلخ يعني: يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد، فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة باكتساب الطاعات والحسنات.

8. قال الراغب: لما كان الحساب يكشف عن جمل الشيء وتفصيله، نبّه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها، وذكر السريع تنبيها أن ذلك منه لا في زمان ولا بفكرة، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/78.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ﴾ عباداتكم الحَجِّـيَّة من وقوف بعرفات والمزدلفة والذكر فيهما ورمي العقبة والحلق وطواف الزيارة والسعي، واستقررتم بمنًى، ويجوز تأخير الطواف والسعي عن أيَّام منًى.

2. ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ﴾ بالتكبير والثناء، وبالغوا في الذكر بالكيفيَّة، ولو أمروا بالإكثار أيضًا، ﴿كَذِكْرِكُمُ ءَابَآءَكُم﴾ كما تبالغون في كيفيَّة ذكر آبائكم عند المفاخرة في منًى بين الجبل والمسجد، كانوا يعتادون ذلك في جميع يومهم، ويذكرون محاسن حروبهم، رواه ابن جرير وغيره، والآية تلويح إلى جعل ذكر الله مكان ذكر الآباء والحروب، وإلى ترك ذكرها.

3. ﴿أَوَ اَشدَّ ذِكْرًا﴾ أو كونوا أشدَّ ذكرًا لله منكم لآبائكم، أو عطف على الكاف، أو على (ثابتًا)، أي: فاذكروا الله ذكرًا مثل ذكر آبائكم، أو ذكرًا ثابتًا كذكركم آباءكم، فيكون ذكرهم ذاكرًا، كقولهم: (شعرٌ شاعر) (بتنوين شعر) وصومه صائم، من المجاز العقليِّ، والفتح نصب، ويجوز عطفه على (ذِكْرِ) فالفتح جرٌّ، وإذا جعلنا (ذِكْرًا) مصدرًا من المبنيِّ للمفعول لم يكن من المجاز العقليِّ، أو (ذِكْرًا) بدل من (أَشَدَّ) أو معطوف، و(أشدَّ) حال منه بخلاف: (وَأَشَدَّ) فإنَّه على كلِّ حال من فعل مبنيٍّ للفاعل، ولا تَهِمْ، ويجوز تقدير: (أو كذكر قوم أشدَّ ذكرًا منكم)، واختار أبو حيَّان أنَّ (أَشَدَّ) حال من (ذِكْرًا) بعده، ووجهه أنَّ قوله: اذكروا الله ذكرًا كذكركم آباءكم، أو ذكرًا أشدَّ منه، أبلغ من قوله: اذكروا الله ذكرًا كذكركم آباءكم أو أشدَّ، وليس في إعراب أبي حيَّان طلب حالية الذكر، بل فيه طلب الذكر بقيد أن يكون أشدَّ.

4. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ﴾ تفريع على قوله: ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ﴾، وهذا تفصيل بالجملة بعد الفاء لا بالفاء، فقد تكون الفاء تعليلا لقوله: ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ﴾، أي: لأنَّ الناس بين مقلٍّ ومكثر، ومصيب في ذكره ومخطئ في منى، فكونوا من المكثرين المصيبين فيها؛ لأنَّ مِنَ الذاكرين مَن يقلِّل ويخطئ، وهو من يقتصر على الدنيا في دعائه.

5. ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ مالاً وولدًا، أو جاهًا ونحو ذلك، أو بعض ذلك، ومتاع الدنيا كلُّه قليل، ولا يدعو لآخرته، فقد يؤتى ما يدعو به وقد لا يؤتاه.

6. ﴿وَمَا لَهُ فِي الَاخِرَةِ﴾ بعد الموت من الجنَّة ﴿مِنْ خَلَاقٍ﴾ نصيب؛ لأنَّه لم يتعرَّض له في الدنيا، ولا يطلق (خَلَاق) إلَّا على نصيب الخير، وسمِّي خلاقًا لأنَّه خلق له، كما سمِّي نصيب لأنَّه نُصب له، أو ما له في ذكره ودعائه نصيب يدعو به لآخرته، أي: وما له في شأن آخرته نصيب من دعائه.

7. ﴿وَمِنْهُم مَّنْ يَّقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ أشياء حسنة، كالإيمان والاعتقاد الحقِّ، والعمل الصالح، والتقوى والعلم، والتوفيق والنصر، والولد الصالح والزوجة الصالحة، والرزق الحلال، وصحَّة البدن، وصحبة الصالحين.

8. ﴿وَفِي الَاخِرَةِ حَسَنَةً﴾ أشياء حسنة كالمغفرة والجنَّة، وتخفيف الحساب، والسلامة من هول الموقف، وإيتاء الكتاب بالأيمان، والشرب من الحوض، والحور والأزواج والأجنَّة والقصور، وعن عليٍّ: (الحسنة: الزوج الصالحة)، وكأنَّه أراد الآدميَّة لأنَّه ليس للرجل منهنَّ إلَّا واحدة، وهو قول مشهور، وإلَّا فالأزواج الحور للرجل كثيرة، وهمَّني ذلك حتَّى اطَّلعت أنَّه يكون للرجل الواحدة من الآدميَّات واثنتان وأكثر.

9. ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ في الآخرة بأن لا ندخلها بأن توفِّقنا في الدنيا للهدى، والتوبة من الذنوب، وعن عليٍّ: (النار: المرأة السوء)، أي: دَعَوا الله أن يمنعهم عنها في الدنيا، وهو تمثيل لجميع الأسواء، ﴿أُوْلَئِكَ﴾ القائلون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الَاخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

10. ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ عظيم في الآخرة ثبت لهم، ﴿مِّمَّا كَسَبُواْ﴾ في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة والتقوى، أي: تولَّد ونتج من كسبهم، أو نصيب عظيم في الآخرة هو ما عملوه في الدنيا، أي: ثوابه فكأنَّه هو لأنَّه عوضه، أو نصيب ممَّا دعوا به دنيا وأخرًى، والباقي نكفِّر به سيِّئاتهم أو نعطيهم فيه ما هو خير منه، أو نكفي عنهم المصائب، أو أولئك القائلون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ والقائلون: ﴿ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الَاخِرَةِ حَسَنَةً﴾، ونصيبُ الفريقِ الأوَّلِ: ما ذكر له من متاع الدنيا، وما له في الآخرة من العذاب؛ لأنَّ النصيب يطلق على الخير وعلى الشرِّ، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لرجل كالفرخ المنتوف: (هل كنت تدعو بشيء؟) فقال: كنت أقول: (اللهمَّ عجِّل عقابي في الدنيا)، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تطيق ذلك، قل: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الَاخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾) فقال: فشُفي.

11. ﴿وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ جاء الحديث: (يحاسب الله الخلق في قدر نصف نهار من أيَّام الدنيا)، وهو تمثيل للقلَّة، كما روي أنَّه يحاسبهم في قدر حلب شاة أو ناقة، فهو قادر أن يحاسبهم في أقلّ من لمحة، يخلق في قلوبهم معرفة أعمالهم وجزاءها، أو سرعة الحساب قرب يوم الحساب أو المجازاة، كما قيل في قوله تعالى: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ [الطلاق: 8]، فبادروا لطلب الآخرة، وأعرضوا عن الدنيا.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/366.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ كان للعرب في الجاهلية مجامع في الموسم يفاخرون فيها بآبائهم ويذكرون أنسابهم وفعالهم، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله هذه الآية، ولابن جرير عن مجاهد: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا آباءهم إلخ، وروي أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون ويتناشدون، فأمرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قضاء المناسك وهي أعمال الحج كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم، وقد كان في حجة الوداع أن خطب النبي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات، وروى أحمد من حديث أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق فقال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟) قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ معناه ظاهر وهو بل اذكروه أشد من ذكركم آباءكم وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه، قال محمد عبده: وقد تعسف في إعرابه الذين حكموا النحو الذي وضعوه في القرآن، ويعجبني قول بعض الأئمة، وأظن أنه أبو بكر بن العربي: (من العجيب أن النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحا به ويجعله قاعدة، ثم يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتخذها قاعدة، بل يتكلف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به كأن كلامهم هو الأصل الثابت)، ويعجبني أيضا ما قاله أبو البقاء وهو أن للقرآن إيجازا واختصارا في بعض المواضع المفهومة من المقام، وهو أن المعنى هنا أو كونوا أشد ذكرا، ومثل هذا شائع في اللغة، وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكررها في مثل هذا المقام وهي أنه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية، وقد ذكرناها من قبل.

3. ثم بين تعالى أن الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ الخلاق النصيب والحظ، ذكر تعالى أن هذا الفريق يطلب حظ الدنيا مطلقا ولم يقل إنه يطلب حسنة فيها؛ لأن من كانت الدنيا كل همه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيئة، فهو يطلب الدنيا من كل باب، ويسلك إليها كل طريق، لا يميز بين نافع لغيره ولا ضار، فباستيلاء حب الدنيا عليه لم يكن للآخرة وما أعده الله فيها للمتقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعو الله فيه، كما أنه لا يخاف ما توعد الله به المجرمين فيها فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شره، فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة هو أثر كسبه وسوء اختياره، وتفضيله حظوظ الدنيا الفانية على سعادة الآخرة الباقية؛ لأنه يعمل للأولى كل ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام، حتى إنه لا يسأل ربه إلا المزيد من حظوظها وشهواتها، وقد ينالها كثير من الناس بدون هم كبير في العمل لها، ولا يعمل للآخرة وقد اشترط لسعادتها خير العمل، فقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾

4. بالله ما أبلغ حذف مفعول ﴿آتِنَا﴾ في هذا المقام فهو من دقائق الإيجاز التي تحار فيها الأفهام، وتعجز عنها قرائح الأنام، فإنه بدلالته على العموم يشمل كل ما يعنى به أفراد هؤلاء الناس المتفاوتي الهمم المختلفي الأهواء من الحظوظ والشهوات، حسنها وقبيحها، خيرها وشرها، كبيرها وخسيسها، وما لا يليق ذكره منها.

5. اختلف المفسرون في تعيين هذا الفريق:

أ. فقيل: هم الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، واستدلوا بما روي عن ابن عباس وأنس من دعاء المشركين في ذلك المقام بحظوظ الدنيا.

ب. وقيل: هم المسلمون الذين لم تمس أسرار الدين وحكمه قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، بل اكتفوا بالتقليد في رسومه الظاهرة، فكان همهم في الدنيا دون الآخرة، وذكروا هنا ما روي في المرفوع من أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بمن لا خلاق لهم، واستدلوا على صحة رأيهم بالسياق، ولا شك أن هذا القسم موجود في المسلمين كما وجد في كل أمة، ومن بلا الناس وفلاهم عرف ذلك.

6. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ أي: ومنهم من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعا، لا حظوظ الدنيا وحدها كيفما كانت كالفريق الأول:

أ. وقد اختلف المفسرون في تعيين الحسنة هل هي العافية أو الكفاف أو المرأة الصالحة أو الأولاد الأبرار أو المال الصالح أو العلم والمعرفة أو العبادة والطاعة، وروي بعض هذه الأقوال عن بعض السلف، ولعل كل ذي قول يطلقها على المهم عنده، والظاهر أن ﴿حَسَنَةٌ﴾ وصف لمحذوف أي حياة حسنة، وانظر بم تكون حياة المرء حسنة فيكون سعيدا في الدنيا، فمن دعا الله تعالى دعاء إجماليا فليدعه بسعادة الدنيا والآخرة والحياة الطيبة فيهما يكن مهتديا بالآية، ومن كانت له حاجة خاصة فدعاه لها من حيث هي حسنة فهو مهتد بها.

ب. على أنهم اختلفوا في حسنة الآخرة أيضا فقيل: الجنة، وقيل: الرؤية.

7. اختلفوا في عذاب النار، ورووا عن علي كرم الله وجهه أنه المرأة السوء.

8. علم مما تقدم في تفسير ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أن الطلب من الله تعالى إنما يكون باتباع سنته في الأسباب والمسببات والتوجه إليه تعالى واستمداد المعونة والتوفيق منه، للهداية إلى ما يعجز العبد عنه، وعلى هذا يتخرج تفسير الحسن لقوله تعالى: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ بقوله: أي احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إليها:

أ. فطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها المجربة في الكسب والنظام في المعيشة، وحسن معاشرة الناس بآداب الشريعة والعرف، وقصد الخير في الأعمال كلها، وتوقي الشرور كلها، وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص ومكارم الأخلاق والعمل الصالح بقدر الاستطاعة.

ب. وطلب الوقاية من النار يكون بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بالفرائض المحتمة.

9. هذا هو الطلب بلسان القلب والعمل، وأما الطلب بلسان المقال فهو يصدق بما يذكر القلب بأن هذه الأسباب من الله، فالسعي لها مع الإيمان هو عين الطلب من فيضه وإحسانه، مضت سنته بأن يعطي بها فضلا منه ورحمة، لا بخوارق العادات التي لا يعلم محلها وحكمتها غيره، وأنه لا يرجع إلى سواه في الهداية إلى ما خفي والمعونة على ما عسر.

10. لم يذكر في التقسيم من لا يطلب إلا حسنة الآخرة؛ لأن التقسيم لبيان ما عليه الناس في الواقع ونفس الأمر بحسب داعي الجبلة وتأثير التربية وهدي الدين، ولا يكاد يوجد في البشر من لا تتوجه نفسه إلى حسن الحال في الدنيا مهما يكن غالبا في العمل للآخرة؛ لأن الإحساس بالجوع والبرد والتعب يحمله كرها على التماس تخفيف ألم ذلك الإحساس، والشرع يكلفه ذلك بما يقدر عليه من أسبابه، وقد جعل عليه حقوقا لبدنه ولأهله وولده ولرحمه ولزائريه وإخوانه وأمته لا تصح عبوديته إلا بدعاء الله تعالى فيها، وفي الآية إشعار بأن هذا الغلو مذموم خارج من سنن الفطرة وصراط الدين معا، وما نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وذمهم على التشدد فيه إلا عبرة لنا، وقد نهانا عنه نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له: (هل كنت تدعو الله بشيء؟) قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ودعا له فشفاه الله تعالى.

11. أبعد من هذا في الغلو أن بعض الصوفية سمع قارئا يتلو قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾، فصاح أواه فأين من يريد الله؟ وهو قول حسن الظاهر قبيح الباطن، فالآية خطاب لخيار الصحابة وهو وشيخه من الصوفية لم يبلغوا مد أحدهم ولا نصيفه، فإرادة الدنيا والآخرة بالحق إرادة لمرضاة الله وعمل بسنته وشرعه، والمراد بالدنيا فيها الغنيمة في الحرب، وبالآخرة الشهادة في سبيل الله، فهل يظن بجهله أن من شهد الله تعالى لهم بأنهم بذلوا أنفسهم في سبيله ونصر رسوله وآثروا الشهادة في القتال على الغنيمة أنهم لا يريدون الله؟ وقد ورد في الصحيح أن الآية كانت أكثر دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهل يدعي ذلك الصوفي وأمثاله من الغلاة أنهم أشد حبا منه لله وطلبا له عز وجل؟.. كلا إنما هي فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معا فجعلوها أعلى مراتب العبودية، وتأولوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وما إرادة وجهه تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا وتحري هداية دينه فيه، لا ما تخيلوه من أن إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والأخرة جميعا، فإن الاتصال بتلك الذات العلية القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام، مما لم يتعلق به تكليف، ولم يرد به شرع، بل إدراك كنه الذوات المخلوقة له تعالى فوق استطاعة خلقه، وإنما أعلى مراتب معرفة الله تعالى في الدنيا هي معرفة كل شيء به، ومعرفته في كل شيء وبكل شيء، ودعاؤه بكل اسم من أسمائه بما يناسب تعلقه بشئون عباده، وبهذا فضّل جمهور أهل السنة خيار البشر على الملائكة الذين يعبد كل منهم ربه عبادة خاصة، والمؤمن الكامل من يعرف حق ربه على عباده وما شرعه من حقوق بعضهم على بعض، والقيام في كل ذلك بذكره وشكره وحبه والتوكل عليه والإخلاص له، وأعلى مراتب معرفته في الآخرة هو مقام الرؤية بتجليه الأعلى في جنات عدن، والاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه جهل لا علم ولا معرفة.

12. ثم قال تعالى بيانا لمن يسأل عن حظ هؤلاء: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ الإشارة بـ ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين؛ لأن حكم الفريق الذي يطلب الدنيا وحدها قد علم من قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ فإن العطف يشعر بمحذوف كأنه قال: هذا الفريق له حظه من الدنيا وما له في الآخرة من حظ سواه، ومجموع الكلام في الفريقين بمعنى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، وقد بينت الآية صريحا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم، وهذا نص فيما تقدم من معنى الدعاء وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت سنة الله تعالى؛ ولهذا قال: ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ ولم يقل: لهم ما طلبوا، والمعنى أنهم لما كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها، كان لهم حظ من كسبهم هذا في الدارين على قدره.

﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يوفي كل كاسب أجره عقب عمله بحسبه؛ لأن سنته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال، فهو يوفي كل عامل عمله بلا إبطاء، وكما يكون الجزاء سريعا في الدنيا كذلك يكون في الآخرة، فإن أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أول قدم يضعها في باب عالم الآخرة، وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ من أنه إجابة الدعاء، والأكثرون على أن المراد حساب الآخرة، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصور أن سرعة الحساب عبارة عن إطلاع كل عامل على عمله أو إعلامه بما له مما كسب، وما عليه مما اكتسب وذلك يتم في لحظة، وقد ورد أن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وورد: في قدر فواق الناقة، وورد: بمقدار لمحة البصر.

13. هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرره محمد عبده من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معا، وطبع في حياته، ثم فكرت في التعبير عنه بمن التبعيضية ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ والحال أن جزاء الآخرة يضاعف، وأن الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كل ما يطلبون بكسبهم ولا دعائهم وفاقا لاستشهادي عليه آنفا بآيات سورة الإسراء ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ فرجح عندي أن المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا، وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره، وهو ما حكيته عن الجمهور.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/235.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية، ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم، وخطب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام‏ التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال: أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجمىّ، ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت، قالوا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.

3. ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين:

أ. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جلّ اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جلّ اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد ينالونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾

ب. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ أي ومنهم فريق يقول: ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة.

4. طلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها في الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات، وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.

5. ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدى إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض.

6. وفي الآية إيماء إلى أن الغلوّ في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، روى البخاري عن أنس ‏ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له: هل كنت تدعو الله بشيء؟ قال نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ودعا له فشفاه الله.

7. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم، فهم قد طلبوا الدنيا بأسبابها، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره، وبمعنى الآية قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾

8. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فيوفى كل كاسب أجره عقب عمله، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله، ويتم ذلك في لحظة، وقد روى‏ أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروي‏ بمقدار لمحة البصر.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/105.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز.. وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب؛ إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء، ومعاظمات بالأنساب.. ذلك حين لم يكن للعرب من الاهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل، فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام، فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء.. ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة، في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء.. فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة، وأنشأ لهم الإسلام تصورا جديدا، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة.. أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج، بدلا من ذكر الآباء: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾

2. ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله، ولكنه يحمل طابع التنديد، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر و الأولى.. يقول لهم: إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله، فاستبدلوا هذا بذاك، بل كونوا أشد ذكرا لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب، فتجردوا كذلك من الأنساب.. ويقول لهم: إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقا، وليس هو التفاخر بالآباء، فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى، ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه.

3. ثم يزن لهم بهذا الميزان، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.. إن هناك فريقين:

أ. فريقا همه الدنيا، فهو حريص عليها، مشغول بها، وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا.. وورد عن ابن عباس ـ ـ أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس.. ولكن مدلول الآية أعم وأدوم.. فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع، النموذج الذي همه الدنيا وحدها، يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه.. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا ـ إذا قدر العطاء ـ ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق!

ب. وفريقا أفسح أفقا، وأكبر نفسا، لأنه موصول بالله، يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.. إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون نوع الحسنة ـ بل يدعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون.. وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم، فالله سريع الحساب.

4. إن هذا التعليم الإلهي يحدد: لمن يكون الاتجاه، ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك لله الخيرة، ورضي بما يختاره له الله، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة، ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب، و الأول رابح حتى بالحساب الظاهر، وهو في ميزان الله أربح وأرجح.

5. تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال، وفي استقامة على التصور الهادئ المتزن الذي ينشئه الإسلام، إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعو أمر الدنيا، فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا، ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها، وألا يضيقوا من آفاقهم، فيجعلوا من الدنيا سورا يحصرهم فيها.. إنه يريد أن يطلق (الإنسان) من أسوار هذه الأرض الصغيرة؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها؛ ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى.. ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/201.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ ملفتا إلى تلك المشاعر التي تترصد الإنسان على نهاية الطريق، بعد التحلل من الإحرام، واسترداد الجسد ملابس الحلّ، وعندها يجد الإنسان ذاته التي كان عليها قبل أن يحج، فكان قوله تعالى هنا تنبيها إلى هذا الخطر الذي يقدم عليه الحاج، وأنه لن تنقطع صلته بالله بعد أداء هذه الفريضة، بل إن هذه الفريضة ستزيد تلك الصلة قوة وعمقا.

2. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ أي ليكن ذكركم الله، والتفاتكم إليه، ورجاؤكم فيه كذكر الابن أبويه، والتفاته إليهما ورجائه فيهما، بل وأكثر من هذا ذكرا والتفاتا ورجاء.. فالله سبحانه هو الذي يرعى الولد والوالدين جميعا! ثم إن الناس في لجئهم إلى الله، وضرعهم إليه، فريقان: فريق يطلب الدنيا، ويقيم علاقته مع الله على طلب المزيد من أشياء الحياة الدنيا، دون أن يقيم وزنا للحياة الآخرة، وما ينبغي أن يعدّه لها من صالح الأعمال! فهذا فريق شغلته دنياه عن آخرته، إذ غلبت عليه شهوة المال وزينة الحياة، فلم تتسع نفسه لشيء غيرهما.. وفريق آخر، هدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.. فأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب، يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

3. فى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ إشارة إلى هؤلاء الذين هدوا إلى الحق، وأن ما كسبت أيديهم ليس لهم منه إلا هذا الذي كان لحساب الآخرة، فهو الباقي الذي يجدونه عند الله، وما سواه مما كان للدنيا فهو إلى زوال وإلى عدم، فإن قوله تعالى: ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ يدل على أن ما كسبوه للدنيا لا معتبر له، وأن لهم بعض ما كسبوا، وهو ما كان للآخرة، لا كل ما كسبوا مما هو للدنيا وللآخرة، قال الله تعالى: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/225.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ تفريع على قوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك، وقضيت مناسكه، وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلّا جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلّا قربان النساء.

2. المناسك جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: 128] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان و الأول هو المناسب لقوله: ﴿قَضَيْتُمُ﴾؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.

3. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر، فإنه يجر إلى المراء والجدال، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا.

4. ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ بيان لصفة الذكر، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكرا كذكركم إلخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل (أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة) فيفعلون ذلك، وفي (تفسير ابن جرير) عن السدي: كان الرجل يقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالا نحوا من ذلك.

5. المراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء.

6. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ أضل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت (أو) معنى من التدرج إلى أعلى، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرا، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر، ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى: إن (أو) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفيا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل، وعليه خرج قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147]، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.

7. ﴿أَشَدُّ﴾ لا يخلو عن أن يكون معطوفا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ تقديره: ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ فتكون فتحة ﴿أَشَدُّ﴾ التي في آخره فتحة نصب، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله‏ ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾ والتقدير: ذكرا كذكركم آباءكم، وعلى هذا الوجه فنصب‏ ﴿ذِكْرًا﴾ يظهر أنه تمييز لأشد، وإذ قد كان (أشد) وصفا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام، إلّا أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين، مع إفادة التمييز حينئذ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون: هو أشح الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين، وهذا ما درج عليه الزجاج في (تفسيره)، وقريب منه استعمال تمييز (نعم) توكيدا في قوله جرير:

تزوّد مثل زاد أبيك فينا...فنعم الزاد زاد أبيك زادا

8. يجوز أن يكون نصب‏ ﴿أَشَدُّ﴾ على الحال من (ذكر) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام: أو ذكرا أشد، فقدم النعت فصار حالا، والداعي إلى تقديم النعت حينئذ هو الاهتمام بوصف كونه أشد، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان، أو أن يكون‏ (أشد) معطوفا على (ذكر) المجرور بالكاف من قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾ ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى: ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ في [سورة النساء: 77] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في (إيضاح المفصل)، وعليه ففتحة ﴿أَشَدُّ﴾ نائبة عن الكسرة، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب‏ ﴿ذِكْرًا﴾ على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.

9. للزمخشري تخريجان آخران لإعراب‏ ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز، ولابن جني تبعا لشيخه أبي علي تخريج آخر، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفا ذكره عنه ابن المنير في (الانتصاف)، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.

10. هذه الآية من غرائب الاستعمال العربي، ونظيرتها آية سورة النساء، قال ابن عرفة في (تفسيره): (وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلّا ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [سورة النساء: 77] ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال في‏ ﴿أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها)

11. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلخ، الفاء للتفصيل؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ إلخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلّا تيمنا ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل: فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وادعوه، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلّا على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى‏ تفصيله تفصيلا ينبه إلى ما ليس بمحمود، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة.

12. ﴿آتِنَا﴾ ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله: ﴿حَسَنَةٌ﴾ فيما بعد، أي‏ ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾

13. الخلاق: بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديرا به، ولما كان معنى الجدارة مستلزما نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما يلبس هذه من خلاق له)، أي من الخير وقول البعيث بن حريث:

ولست وإن قرّبت يوما ببائع‏...خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبّب‏

14. جملة ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ معطوفة على جملة ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ فهي ابتدائية مثلها، والمقصود: إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة، لأن المراد من هذا الفريق الكفار، فقد قال ابن عطية: كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعو إلّا بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، ويجوز أن تكون الواو للحال، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب.

15. ﴿حَسَنَةٌ﴾ أصلها صفة لفعلة أو خصلة، فحذف الموصوف ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة:

كيف الهجاء وما تنفك صالحة...من آل لأم بظهر الغيب تأتيني‏

ووقعت حسنة في سياق الدعاء فيفيد العموم، لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري: (يا أهل ذا المغني وقيتم ضرّا)، وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين.

16. إنما زاد في الدعاء ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.

17. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ إشارة إلى الفريق الثاني، والنصيب: الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلا كان أو كثيرا ووزنه على صيغة فعيل، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ويظهر ويشخص، وهذا ظاهر كلام الزمخشري في (الأساس) والراغب في (مفردات القرآن) أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم نصيب الشفيع مجاز ب الأول، واعلم أنه وقع في (لسان العرب) في مادة (كفل) أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعد لغيره فإذا كان مفردا فلا يقال نصيب وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن ابن المظفر عند قوله تعالى: ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ في [سورة النساء: 85]، ووقع في كلام الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾ [الأنعام: 136] قال الزجاج تقدير الكلام جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا، وقال ابن عطية قولهم جعل من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول.

18. هذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلّا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر ﴿نَصِيبٍ﴾ ليصدق بالقليل والكثير وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن، وكسبوا بمعنى طلبوا، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه، ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل وبالنصيب نصيب الثواب فتكون (من) ابتدائية، واسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة، أي إن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دعاء الكافرين في ضلال.

19. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه.

20. الحساب في الأصل العد، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي﴾ [الشعراء: 113] وقال‏ ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: 36] أي وفاقا لأعمالهم، وهاهنا أيضا أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وعدهم فيدخل في ذلك العموم.

21. المعنى: فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة، ولا تشتغلوا بالتفاخر، فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام وكما يذكرهم المشركون الآن، ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلّا بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيبا مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة إن الله يعجل باستجابة دعائكم.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/240.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ المناسك: جمع منسك وهو العبادة؛ أي إذا أديتم عباداتكم التي بينها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم على وجهها، وكما شرعها ربكم، فاملؤوا قلوبكم بثمرتها، وهى ذكر الله دائما وعمران القلوب به، فهو غاية العبادة ومرماها؛ وذكر الله دائما في كل الأعمال والأقوال هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر؛ فإن المرء إذا عمر قلبه بذكر ربه آناء الليل وأطراف النهار ـ ما أقدم على معصية، وما آذى مخلوقا، وما أفسد مجتمعا، وما ظلم وما بغى؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت‏]

2. لذلك طالب سبحانه الحجاج بأن يذكروا الله كذكرهم آباءهم، فإن المرء لا ينسى أباه، وإذا كان لا ينسى أباه لأنه كان السبيل الذي وصل به إلى هذا الوجود، فليذكر خالق أبيه وخالقه وخالق كل من في هذا الوجود.

3. ذكر الله سبحانه يقتضى أن يغضب المؤمن لعصيان الله في الأرض؛ لأن ذلك اعتداء على محارم الله؛ ومن اعتدى على محارم الآباء قوتل فمن اعتدى على محارم خالق الآباء أولى أن يقاتل ويحارب؛ وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ فقيل له: قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر أباه فقال ابن عباس: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما، ففسر ابن عباس الآية بلازمها ونتيجتها وغايتها؛ إذ إن نتيجة ذكر الله دائما الغضب عندما تنتهك محارم الله سبحانه وتعالى، وإن الله طالب بأن نذكره كذكر آبائنا أو أشد ذكرا أي اذكروه سبحانه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا من آبائكم.

4. ﴿أَوْ﴾ في معنى الإضراب والترقي، أي أنه يطالبهم سبحانه بأن يذكروه كما يذكرون آباءهم، ثم يترقى في معانى التقرب منه، فيطالبهم بأن يكونوا أشد ذكرا له من آبائهم؛ وكأن لطالب الهداية درجتين: أولاهما، أن يكون ذكره لله كذكره الآباء، فيغضب لمحارمه كما يغضب لشتم أبويه، ثم تترقى حاله في مراتب التهذيب الروحي والنفسي، فيكون أشد ذكرا لله فيغضب لمحارمه أكثر مما يغضب لشتم الآباء.

5. فى الآية فوق هذه المعاني السامية تعريض بما كان يفعله أهل الجاهلية من قيامهم بعد يوم النحر في الأسواق يتفاخرون بالأنساب والآباء؛ كما تروى كتب‏ الأدب عما كان يجرى من المسابقات الشعرية في الفخر والغزل في سوق عكاظ، ولقد استبدل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بهذه المفاخرة خطبة استعرض فيها أمر الإسلام وذكر بعض أحكامه ليقتدي من بعده الأمراء فقد روى الإمام أحمد من حديث أبى نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق، فقال: (يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم)

6. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ بعد أن بين سبحانه وتعالى ما يجب على الناس أن يذكروه عقب القيام بمناسك الحج، وهو أن يذكروه هو وحده، وينسوا أهواءهم وشهواتهم ويغضبوا لمحارم ربهم، بين ما يقع من الناس؛ فذكر أنهم طائفتان: طائفة تذكر الدنيا، ولا يدعون الله بعد مناسك الحج إلا بما يشبع رغباتهم وأهواءهم، ولا يذكرون الآخرة، كأن العبادة في نظرهم ليست إلا ذريعة لطلب الشهوات أو الرغبات، أو مصالحهم الشخصية في الدنيا؛ وفريق يذكر الدنيا والآخرة.

7. ذكر الله تعالى الفريق الأول بقوله: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان ذلك أمر الله فالناس ليسوا جميعا سواء في طاعته، فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا، وقد حذف المفعول للفعل آتنا للدلالة على تعميم المطلوب، فهم يطلبون كل ما يمكن أن يصل إليهم؛ ومن طلب الدنيا لا يفرق بين هوى يرديه، وصالح يقيمه.

8. ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ أي لا نصيب لهم، وخلاصة المعنى: أن هؤلاء يلجئون إلى ربهم لينيلهم حظهم من الدنيا، راغبين في كل ما فيها لأنها همهم، ولا شيء سواها في نفوسهم، ولا غاية عندهم غيرها، وليس لهم أي نصيب في الآخرة.

9. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ هذا هو الفريق الثاني؛ ليس همه الدنيا وليست مطالبه مقصورة عليها؛ بل مطالبه ثلاثة:

أ. أولها: حسنة في الدنيا، أي حال حسنة في الدنيا، فلا يذل للئيم، ولا يرام بضيم، ولا تكرثه كوارث الحياة، ولا يبتلى في دينه ومروءته وخلقه، ولا يسلط عليه حاكم ظالم أو متسلط غاشم؛ وهكذا يعيش آمنا في سربه عنده قوت يومه، ينفع الناس ويصل رحمه؛ فكل ما يؤدى إلى الاطمئنان والبعد عن الحرام فهو حال حسنة في الدنيا.

ب. والمطلب الثاني: حسنة في الآخرة، أي حال حسنة في الآخرة، بأن يكون من المرضىّ عنهم من رب العالمين، فلا تلحقه آثام من آثام الدنيا، والمطالبة بالحال الحسنة في الآخرة هي مطالبة بأن يجنبه السيئات في الدنيا، ويوفقه للطاعات فيها؛ لأن حال الآخرة مبنية على حال الدنيا، فإن كان قائما بالطاعات نافعا للناس فيها غير ظالم ولا متكبر، لا يعيث في الأرض فسادا، فحاله في الآخرة حسنة؛ وإن انهوى في الشر وركبته الآثام في الدنيا، وأحاطت به خطيئته، فليست حاله في الآخرة حسنة.

ج. والمطلب الثالث: أن يقيه عذاب النار؛ وقد ذكر ذلك مطلبا قائما بذاته مع أنه داخل في حسنة الآخرة؛ إذ إن حسنة الآخرة تقتضى ألا يكون في النار؛ لأن المؤمن الخاشع الخاضع يغلّب الخوف على الرجاء؛ فكلما ازداد قربا من الله ازدادت خشيته ورهبته، وكلما أكثر من الطاعات استصغر ما صنع في جانب ما أنعم عليه الكبير المتعال؛ ولذلك كان الصديقون والنبيون أخوف لله من غيرهم لأنهم أقرب إليه، وأدنى منه، ومراتب الناس في الخوف من العقاب هي كمراتبهم في الطاعات لا كدركاتهم في المعاصي لأن أهل المعاصي في لهو شاغل، أما أهل الطاعات فهم في ذكر لله دائم، وقد وصف الله الطائعين بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال‏]، ولقد وصف القاسم بن عبد الرحمن ذلك القسم الذي يطلب حسنة الدنيا والآخرة، فقال: من أعطى قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا صابرا، فقد أوتى في الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، ووقى عذاب النار، ولقد كان أكثر دعاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)

10. لم يُذكر قسم ثالث وهو الذي يطلب الآخرة فقط، ولا يطلب الدنيا؛ لأن الإسلام لا يرضى أن ينسى المسلم حظه من الدنيا؛ ولأن من يطلب الآخرة يطلب الأعمال الحسنة في الدنيا؛ لأنها قنطرة الآخرة، ولأن الإسلام لا يقر الانقطاع عن طيبات الدنيا لحظ الآخرة لأنه لا يرضى بتعذيب الجسم لتهذيب الروح كما يزعم الذين يسلكون ذلك المسلك، ولقد روى البخاري ومسلم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عاد رجلا من المسلمين صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟) قال نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (سبحان الله! لا تطيقه، أفلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)

11. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ في هذا بيان لجزاء الذين يتجهون إلى ربهم داعين أن يوفقهم لما فيه حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، ويقيهم عذاب النار، والإشارة للبعيد لبيان علو منزلتهم؛ وقد بين أن الجزاء هو نصيبهم مما كسبوه من عمل الخير والقيام بالحق الواجب عليهم، وفى هذا التعبير الذي يفيد أن النصيب مأخوذ مما كسبوه من أعمال إشارة إلى أمور ثلاثة:

أ. أولها: إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لا بد أن يقرن دعاؤهم بإرادة قوية عاملة متجهة إلى تحقيق ما يبغون وما يدعون الله سبحانه وتعالى في التوفيق له، وإن لم يكن عمل فالدعاء أماني وأحلام، ولا يتحقق فيها القصد الكامل والضراعة الخاشعة لرب العالمين؛ لأن الدعاء مخ العبادة؛ فإن كان صادقا فالإرادة تتجه نحوه.

ب. الثاني: الذي يشير إليه التعبير الكريم: أن الجزاء ليس على الدعاء، وإنما الجزاء على العمل، فيجب أن يعملوا؛ فليس الدعاء وحده بمستحق جزاء إن كان العمل ينافيه.

ج. الثالث: أن كسب العبد لعمل الخير يطوى في ثناياه جزاءه، وكذلك كل عمل للإنسان جزاؤه مشتق من منهاجه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر؛ فمن أسدى إلى الناس معروفا، فقد قدم بهذا الإسداء لنفسه؛ ومن أعان مكروبا، فقد كسب الجزاء ساعة عمل، وكذلك من قتل نفسا، فقد قتل نفسه إذ استحق ذلك الجزاء، ومن سرق فقد قطع يده، ومن زنى فقد رجم نفسه، وهكذا ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور]

12. ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله الكريم:‏ ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وسرعة حسابه سبحانه وتعالى كناية عن تحقيقه، وتحقق يوم القيامة وقربه، وعلمه سبحانه وتعالى بإحسان المحسن وإساءة المسيء؛ لأن تطويل الحساب يكون من جهل المحاسب، فيبطئ ليعرف؛ فإذا كان المحاسب هو العليم الحكيم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإن حسابه يكون سريعا؛ إذ لا تخفى عليه سبحانه خافية، وفى هذا إشارة إلى عقاب الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق على ما يرتكبون من موبقات ما داموا قد جعلوا الدنيا كل همهم، وغاية أمرهم، ومقصد وجودهم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/626.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، جاء عن الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليه السلام: انهم كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك، ويذكرون مفاخر آبائهم ومآثرهم، فأمرهم الله سبحانه أن يتركوا ذلك، ويذكروا الله ونعمه عليهم، لأنه هو المنعم الأول عليهم وعلى آبائهم.

2. الناس في حجهم نوعان: نوع لا يطلب إلا متاع الدنيا، ولا همّ له إلا همها، وإذا عبد الله فإنما يعبده من أجلها، وهذا النوع محروم من نعيم الآخرة، ونوع يطلب خير الدارين، ويعمل لدنياه وآخرته، ولهذا حظ وافر عند الله غدا جزاء على صالح أعماله، ونقل صاحب تفسير روح البيان عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ان (الحسنة في الدنيا هي المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، أما عذاب النار فالمراد به المرأة السوء)، وسواء أصح هذا النقل عن الإمام، أم لم يصح فاني أعرف إنسانا يشعر من أعماق نفسه انه لو كان في جهنم، ثم خيّر بين الخروج منها على أن يعود الى زوجته التي عاشرها في الدنيا، وبين البقاء في جهنم لاختار البقاء في جهنم على معاشرة تلك الزوجة التي أبدله الله بخير منها.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/307.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ذِكْرًا﴾، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آباءه وأشد منه لأن نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر، فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم.

2. (أو) في قوله أو أشد ذكرا، للإضراب فتفيد معنى بل.

3. وصف الذكر بالشدة وهو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية قال تعالى: ﴿واذكروا الله ذكرا كثيرا﴾، وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾، وأن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.

4. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ تفريع على قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آباءه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد إلا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.

5. من هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة.

6. المقابلة بين قوله: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾، وقال تعالى: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا﴾

7. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ اسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا.

8. المحصل من معنى قوله: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آيسين.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ أتممتموها بالطواف بالبيت، والبقاء في منى، ورمي الجمار، وغير ذلك كما بينه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ بعد الحج والفراغ منه؛ لأنكم لم تفرغوا من ذكر الله، فلا تزالوا ذاكرين لله غير غافلين عنه، كما أنكم لا تزالون ذاكرين لآبائكم لطول تربيتهم لكم ونشأتكم في إحسانهم، وعيشكم معهم في عطفهم عليكم، فالله أحق أن لا تزالوا ذاكرين له؛ لأنه المنعم عليكم بخلقكم وإنعامُه عليكم من حين أحياكم مستمرٌ ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل:53]، وقد قيل: إنها في الذين كانوا يتفاخرون بآبائهم فيمدحونهم ويشيدون بذكرهم افتخاراً بهم، وهذا عندي ضعيف؛ لأن أكثر آبائهم كانوا مشركين، ولم يكن افتخارهم بهم مرضياً؛ لأنهم حمم جهنم، وأعمالهم في الشرك كسراب بقيعة، وقد روي النهي عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فلو كان المراد لقيل: فاذكروا الله كما كنتم تذكرون آباءكم، أي في زمان الجاهلية، فلما قال تعالى: ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾ كان ظاهره أنه ذكر غير ذاك الذكر المهجور، وأنه الذكر المعتاد لكل الناس.

2. ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ ينبه على أن ليس المراد الاقتصار على مثل ذكرهم لآبائهم، وإنما المراد التنبيه على أن النعمة سبب الذكر، فقد كانت نعمة آبائهم عليهم سبباً لذكرهم، فينبغي أن يذكروا الله لنعمته عليهم، وليس المراد التحديد.

3. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ لأن الدنيا أكبر همه، فما له في الآخرة من نصيب، وإنما يبعث للحساب والعقاب والخلود في النار، ليس له أي فائدة في الآخرة، وهذا كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء:18] وليس من شرط هذا أن لا يطلب الآخرة بلسانه، فكثير من عبيد الدنيا إذا ذكرت لهم الآخرة وعذاب النار قالوا: الله يرحمنا، ويقولون في (القنوت): ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ولكن همهم الدنيا وطلبهم الجاد هو طلب الدنيا، وأما طلبهم للآخرة فهو بألسنتهم ولا يعملون لها ولا يتقون عذاب النار، وهذا لأن قوله تعالى في هذه الآية لم يذكر فيه الاقتصار على طلب الدنيا بألسنتهم، وإنما أفاد أنها الأهم عندهم، فهم لا يطلبون الآخرة، وإن طلبوها فالطلب بألسنتهم مع الغفلة وترك السعي لها، فهو كلا طلب لأنهم غير مؤمنين بالآخرة، وما وقع منهم من دعاء أو نحوه فهو جري على العادة الموروثة.

4. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ وهي التي نحتاجها في الدنيا ولا تفسد علينا في ديننا، فهي نعمة حسنة كقوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97] وقوله: ﴿حَسَنَةٌ﴾ صفة لمحذوف تقديره، إما مفرد مؤنث مثل: عطية ونعمة، وأما جمع يؤنث وصفُه مثل أرزاق، وإما جمع مؤنث مثل: نعم وعطايا ومنافع، وحذف الموصوف لعله وقع اهتماماً بالصفة لكونها مهمة عندهم، فهو كما لو قالوا: ربنا آتنا في الدنيا ما ليس فيه محق لديننا، فليس المهم كثرة المسؤول ولا عموم أنواع الهبات، وإنما المراد المحتاج إليه الذي يدل عليه الطلب.

5. ﴿وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ وهي الجنة؛ لأن من لم يكن من أهلها لا يؤتى أيَّ حسنة ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ طلب الوقاية يشعر بعظم الخطر فيها كأنها طالبة للإنسان أو محيطة به إذا لم يكن له وقاية منها لفَحَتْهُ واستشعار هذا من تمام الإيمان الباعث على طلب الوقاية، والوقاية هي الهداية والتوفيق ثم العصمة عن المعاصي بحيث يختم للإنسان بتوبة نصوح، والوقاية هذه سبب للوقاية في الآخرة، فأي الوقايتين فهي كناية عن الآخرى للتلازم بينهما.

6. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أولئك الذين يريدون الآخرة ويحذرون ويدعون الله، كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ في الآخرة، بخلاف الأولين الذين ما لهم في الآخرة من نصيب، وهذا النصيب مما كسبوا في الدنيا؛ لأن كسبهم بعضه مباح وبعضه معاصي في حق أكثرهم قد تابوا منها، والذي منه النصيب في الآخرة هو الإيمان والعمل الصالح والتقوى.

7. ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فحسابه لما كسبوا لا يضيع شيئاً؛ لأنه عالم الغيب لا ينسى ولا يغلط في الحساب.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/295.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ يقال: إن الناس كانوا إذا قضوا مناسك حجهم، جلسوا يسمرون، ويمتد بهم الأمر إلى أن يثيروا أحاديث آبائهم، فيتذكروا مواقفهم وأوضاعهم وأمجادهم.. وبذلك ينفصلون عن الجو الروحي الذي كانوا يعيشونه من‏ خلال الحج، ولكن الله يريد منهم أن لا يجعلوا الحج مجرد موسم أو مناسبة يذكرون فيها اسم الله، ثم تقف القضية عند هذا الحد فلا يبقى لله أي حضور في نفوسهم أو ألسنتهم، بل يكون دوره أن يفتح قلوبهم على الله في امتداد روحيّ مستمرّ، لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، حتى يصبح ذكر الله ـ بعد الحج ـ ملحّا بالمستوى الذي لا يدانيه ذكر أي إنسان آخر حتى في مستوى الآباء.

2. نقف ـ في هذا المجال ـ على نموذجين من الناس:

أ. أحدهما: الذي يصدق عليه قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ النموذج الذي إذا ذكر الله وأراد أن يدعوه في موقفه هذا، لم يذكر إلا حياته الدنيا، وشهواته فيها، ومطامعه، ومطامحه.. من دون أن يفكر في الآخرة من قريب أو من بعيد، فهو يطلب من الله أن يؤتيه الدنيا ويقف عندها جامد الإحساس، جائع الأحلام، ظامئ المشاعر.. ولا نصيب لهذا في الآخرة لأنها ليست واردة في حسابه على كل حال، ولذلك فإن الله لا يحسب حسابه في ثوابه ورضوانه.

ب. ثانيهما: هو مصداق قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ النموذج الذي يتمسك بالخط الإسلامي المتوازن الذي يجمع بين الدنيا والآخرة، فهو يعتبر الدنيا حقلا من حقول العمل التي أراد الله للإنسان أن يعيش فيها حياة طيبة، يمارس فيها الطيبات ويقبل فيها على ما أحله الله له من شهوات وملذات؛ ولهذا فهو يطلب من الله أن يؤتيه في الدنيا حسنة، ثم يرى أن الآخرة هي نهاية المطاف، فهي دار المصير الذي يجد فيه كل إنسان دار خلوده في الجنة أو في النار، ولذلك فهو يطلب من الله أن يؤتيه فيها حسنة، ومثل هذا النموذج قريب إلى الله.

3. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ ولذلك فإن له نصيبا مما كسبه من عمله الصالح في الدنيا، فيجد أمامه الجزاء الكبير في دنياه وآخرته، والله ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، يعلم ما يستحقه عباده نتيجة أعمالهم، فيعطي كلّا منهم الجزاء العادل في جانب الخير أو في جانب الشر.

4. في هذا الجو الذي تثيره الآيتان، نستوحي الجانب التربوي في الدعاء، حيث ينبغي أن يعيش الإنسان فيه كل قضاياه الملحة التي يعيشها في فكره ووجدانه وحياته، بحيث يكون الدعاء صورة حية لكل منطلقاته في الحياة، فيلتفت إلى شؤون الآخرة كما يلتفت إلى شؤون الدنيا، ليطلع الله على قلبه فيجد فيه صدق التوجه إلى الإسلام في أمور حياته من خلال وعيه لكل الجوانب التي تحكم شؤون الحياة؛ فيطلبها منه كما يطلب الإنسان الأشياء الضرورية التي لا غنى له عنها، وفي ضوء ذلك يزداد إحساسه بالآخرة كما لو كانت حاجة مهمة من حاجاته الذاتية، بحيث يتفجر الشعور بها في دعاء خاشع متضرع بين يدي الله.

5. هذا ما نجده في الأدعية القرآنية، وأدعية النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السّلام، ولا سيما أدعية الإمام زين العابدين عليه السّلام في الصحيفة السجادية وفي غيرها.. فإنها جامعة لمطالب الدنيا والآخرة في جو واحد، كتدليل على وحدة الانطلاقة فيهما معا، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/111.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في حديث الإمام الباقر عليه السّلام: إنّ الجاهليّين كانوا يعقدون الاجتماعات بعد موسم الحجّ يذكرون فيها مفاخرهم الموهومة الموروثة من آبائهم ويمجّدون أسلافهم، والقرآن الكريم يؤكّد في هذه الآيات الكريمة أنّ على المسلمين أن يذكروا الله تعالى ونعمه السّابغة بدل الخوض في تلك الأباطيل والأوهام والافتخارات الوهميّة.

2. مثله ما أورده سائر المفسّرين عن ابن عبّاس وغيره أنّ أهل الجاهلية كانوا يعقدون مجالسا بعد الحجّ للتّفاخر بآبائهم وذكر مفاخرهم أو أنّهم يجتمعون في الأسواق كسوق (عكاظ، ذي المجاز، مجنّة) لم تكن هذه الأسواق مراكزا تجاريّة فحسب، بل أماكن لتلك المجالس الباطلة التي يجتمع فيها النّاس ويذكرون مفاخر أسلافهم‏.

3. هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلّقة بالحجّ في الآيات السابقة، فالبرغم من أنّ أعراب الجاهلية ورثوا مناسك الحجّ بوسائط عديدة من إبراهيم الخليل عليه السّلام ولكنّهم خلطوا هذه العبادة العظيمة والبناءة والّتي تعتبر ولادة ثانية لحجّاج بيت الله الحرام بالخرافات الكثيرة بحيث إنها خرجت من شكلها الأصلي ونسخت وتحوّلت إلى وسيلة للتفرقة والنّفاق.

4. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾، إنّ العزّة والعظمة يكملان بالارتباط بالله تعالى لا بالارتباط الوهمي بالأسلاف، وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اذكروا أسلافكم واذكروا الله كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلما ذا لا تذكرون الله تعالى ربّ السموات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات‏ وصفات الجلال والجمال.

5. هناك أقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من (ذكر الله) في هذه الآية، لكنّ الظاهر أنّها تشمل جميع الأذكار الإلهيّة بعد أداء مناسك الحجّ، وفي الحقيقة أنّه يجب شكر الله تعالى على جميع نعمه وخاصّة نعمة الإيمان والهداية إلى هذه العبادة العظيمة، فتكتمل الآثار التربويّة للحجّ بذكر الله.

6. بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم:

أ. مجموعة لا تفكّر إلّا بمصالحها الماديّة ولا تتجّه في الدعاء إلى الله إلّا من هذه المنطلقات الماديّة فتقول‏ ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾

ب. والمجموعة الثانية تتحدّث عنهم الآية بقولها ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

7. هذه الآيات الكريمة تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين، فبعض لا يفكر إلّا بالمنافع الماديّة الدنيويّة ولا يريد من الله سواها، فمن البديهي أنّه يبقى له شيء في الآخرة، لكنّ الطائفة الثانية اتسعت آفاقهم الفكريّة فاتجّهوا إلى طلب السّعادة في الدنيا باعتبارها مقدّمة لتكاملهم المعنوي وطلب السّعادة في الآخرة، فهذه الآية الكريمة توضّح في الحقيقة منطق الإسلام في المسائل الماديّة والمعنويّة وتدين الغارقين في الماديّات كما تدين المنعزلين عن الحياة.

8. المراد من (الحسنة) هناك تفاسير مختلفه لها: فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير الحسنة: (إنّها السّعة في الرّزق والمعاش وحس الخلق‏ في الدنيا ورضوان الله والجنّة في الآخرة)، لكنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّها تتضمّن معنى العلم والعبادة في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو المال في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو الزوجة الصالحة في الدنيا والجنّة في الآخرة، وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هذه المعاني‏ (من أوتي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار)

9. واضح أنّ تفسير الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب الماديّة والمعنويّة، وما ورد في الرواية أو في كلمات المفسّرين فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق، فما تصوّره بعض المفسّرين من أنّ الحسنة الواردة في الآية بصورة المفرد النكرة لا تشمل على كلّ خير، ولهذا وقع الاختلاف في مصداقها بين المفسّرين‏، إنّما هو اشتباه محض، لأنّ المفرد النكرة تارة يأتي بمعنى الجنس ومورد الآية ظاهرا من هذا القبيل، فالمؤمنون ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ يطلبون من الله تعالى أصل الحسنة بدون أن ينتخبوا لها مصداقا من المصاديق، بل يوكلون هذا الأمر إلى مشيئته وإرادته وفضله تعالى‏.

10. في آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الّذين طلبوا من الله الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول‏ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾

11. احتمل البعض أنّها تتعلّق بكلا الطائفتين، فالطائفة الاولى يتمتّعون بالنعم والمواهب الدنيويّة، والطائفة الثانية يتمتّعون بخير الدنيا والآخرة كما ورد ما يشبه هذه الآيات في سورة الإسراء: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، لكنّ التفسير الأوّل منسجم مع الآيات مورد البحث أكثر.

12. عبارة (نصيب) مع أنّها جاءت بصورة نكرة، ولكنّ القرائن تدلّ على أنّ النكرة هنا لبيان العظمة، والتعبير بقوله‏ ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ ليست إشارة إلى قلّة النصيب والثواب والجزاء، لأنّه من الممكن أن تكون (من) ابتدائيّة لا تبعيضيّة.

13. التعبير بقوله (كسب) في جملة (ممّا كسبوا) فتعني ـ كما ذهب إليه كثير من المفسّرين ـ الدّعاء لطلب خير الدنيا والآخرة، فاختيار هذا التعبير قد يكون إشارة إلى نكتة لطيفة وهو أنّ الدعاء بذاته يعتبر من أفضل العبادات والأعمال، ومن خلال التحقيق في عشرات الآيات الواردة في القرآن المجيد في مادّة (كسب) ومشتقاتها يستفاد جيّدا أنّ هذه المفردة تستعمل أيضا لغير الأعمال الجسميّة أيضا، أي الأعمال القلبيّة والروحيّة كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، فلا عجب أن يكون الدّعاء إذا نوع من الكسب والاكتساب وخاصّة إذا لم يكن الدعاء باللّسان فقط بل مقترن بجميع وجود الإنسان.

14. جملة ﴿وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ الواردة في الفقرة الأخيرة من الآية تشير إلى سرعة حساب الله تعالى لعباده، فإنّه يجازي بالثواب والعقاب نقدا وبدون تأخير، فقد ورد في الحديث الشريف‏ (إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم‏ في مقدار لمح البصر)، وهذا لأنّ علم الله ليس كعلم المخلوقات المحدود حيث يشغلها موضوع عن موضوع آخر، إضافة إلى ذلك أنّ محاسبة الله لا ينبغي أن تستلزم زمانا، لأنّ أعمالنا ذات آثار باقية في جسم وروح الموجودات المحيطة بنا وفي الأرض وأمواج الهواء، فالإنسان يشبه من هذه الجهة السّيارات المجهّزة بقياس السرعة والمسافة حيث تقرأ فيها كلّ لحظة مقدار عملها وسيرها ولا يحتاج بعدها إلى كتاب لحساب المسافات الّتي طوتها السيّارة طيلة عمرها.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/60.

87. الذكر والأيام المعدودات

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈87⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قد غفرت ذنوبه، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال قد غفر الله له ذنوبه(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦١.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ غفر له، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ غفر له(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٦٢.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تعجيله، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تأخيره(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فلا ذنب عليه، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فلا حرج عليه، ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ يقول: اتقى معاصي الله(2).

3. روي أنّه قال: الأيام المعدودات أربعة أيام؛ يوم النحر، وثلاثة أيام بعده(2).

4. روي أنّه قال: الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق(3).

5. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، يعني: الأيام المعدودات: أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر(4).

6. روي أنّه قال: المعلومات: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق(5).

7. روي عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن عباس يكبر يوم النحر، ويتلو: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾(4).

8. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير تأويلها، إن العمرة لتكفر ما معها من الذنوب، فكيف بالحج!؟(6).

9. روي أنّه قال: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ لمن اتقى الصيد وهو محرم(7).

10. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، ولا يحل له أن يقتل صيدا حتى تخلو أيام التشريق(8).

11. روي أنّه قال: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ عبادة الأوثان(9).

__________

(1) ابن أبي شيبة: ٤/٦٠.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦١.

(3) ابن جرير: ٣/٥٤٩ ـ: ٥٥٠.

(4) ابن جرير: ٣/٥٥٠.

(5) تفسير البغوي: ١/٢٣٤.

(6) ابن جرير: ٣/٥٦٢.

(7) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٣.

(8) ابن جرير: ٣/٥٦٥.

(9) تفسير الثعلبي: ٢/١١٩.

ابن الزبير:

روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هن أيام التشريق، يذكر الله فيهن بتسبيح، وتهليل، وتكبير، وتحميد(1).

__________

(1) الطبراني ـ كما في مجمع الزوائد: ٣/٢٤٩.

ابن عمر:

روي عن عبد الله بن عمر (ت 73 هـ):

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ رجع مغفورا له(1).

2. روي أنّه كان يكبر تلك الأيام بمنى، ويقول: التكبير واجب، ويتأول هذه الآية: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾(2).

3. روي أنّه كان يكبر ثلاثا ثلاثا وراء الصلوات بمنى، ويقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٦١.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٠.

(3) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ ذهب إثمه كله؛ إن اتقى فيما بقي من عمره(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٦٣.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: لا، والذي نفس الضحاك بيده، إن نزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في الإقامة والظعن، ولكنه برئ من الذنوب(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦١.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ غفر له(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٦١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ يوم النفر، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لا حرج عليه، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لا حرج عليه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال إلى قابل، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال إلى قابل(2).

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣١.

(2) ابن أبي شيبة: ٤/٦٠.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ التكبير أيام التشريق؛ يقول في دبر كل صلاة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٠.

سالم:

روي عن سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ) أنه رمى الجمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة: الله أكبر، الله أكبر، اللهم، اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وعملا مشكورا، وقال: حدثني أبي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان كلما رمى بحصاة يقول مثل ما قلت(1).

__________

(1) البيهقي في الكبرى: ٥/٢١١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾: هي أيام التّشريق.. والأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة من أولها(1).

2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال هي مغفرة لهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 97.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يكبر أيام التشريق كلها(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: المروزي.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾: لا جناح عليه، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ إلى اليوم الثالث: ﴿فلا جناح عليه لمن اتقى﴾، وكان [ابن عباس] ابن عباس (ت 68 هـ) يقول: وددت أني من هؤلاء ممن يصيبه اسم التقوى(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٦٤.

أبو كثير:

روي عن يحيى بن أبي كثير (ت 132 هـ) أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هو التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: المروزي.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ المعلومات: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، والأيام المعدودات: أيام التشريق(1).

__________

(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/٩٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾: هي أيام التشريق، وكانوا إذا قاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جل ثناؤه: ﴿فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾: والتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، التكبير في أيام التشريق، من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار عشر صلوات، فإذا نفر بعد الاولى أمسك أهل الأمصار، ومن أقام بمنى فصلى بها الظهر والعصر فليكبر(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾: هي أيام التشريق.. والتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام(1).

4. روي أنّه سئل: إنا نريد أن نتعجل السير ـ وكانت ليلة النفر حين سئل ـ فأي ساعة ننفر؟ فقال: أما اليوم الثاني، فلا تنفر حتى تزول الشمس، وكانت ليلة النفر، وأما اليوم الثالث، فإذا ابيضت الشمس فانفر على بركة الله فإن الله جل ثناؤه يقول: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجل، ولكنه قال ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾(2).

5. روي عن عن إسماعيل بن نجيح الرماح، قال: كنا عند الإمام الصادق بمنى ليلة من الليالي، فقال: ما يقول هؤلاء في: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾؟، قلنا: ما ندري، قال بلى، يقولون: فمن تعجل من أهل البادية فلا إثم عليه، ومن تأخر من أهل الحضر فلا إثم عليه وليس كما يقولون، قال الله جل ثناؤه: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ألا لا إثم عليه لمن اتقى، إنما هي لكم، والناس سواد، وأنتم الحاج(3).

6. روي أنّه قال: إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك حتى تزول الشمس، فإن تأخرت إلى آخر أيام التشريق ـ وهو يوم النفر الأخير ـ فلا عليك أي ساعة نفرت، ورميت قبل الزوال أو بعده(4).

7. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، وإن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا إثم عليه ولا ذنب له(5).

__________

(1) الكافي: 4/516.

(2) الكافي: 4/519.

(3) الكافي: 4/523.

(4) من لا يحضره الفقيه: 2/287 و1415.

(5) من لا يحضره الفقيه: 2/289.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ يعني: بعد يوم النحر بيومين، يقول: من تعجل فنفر قبل غروب الشمس ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يقول: فلا ذنب عليه، يقول: ذنوبه مغفورة، فمن لم ينفر حتى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث، فيرمي الجمار، ثم ينفر مع الناس، قال ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ إلى يوم الثالث حتى ينفر الناس ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يقول: لا ذنب عليه، يقول: ذنوبه مغفورة، ثم قال ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قتل الصيد، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ولا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام، ﴿وَاعْلَمُوا﴾ يخوفهم ﴿أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ في الآخرة؛ فيجزيكم بأعمالكم، نظيرها في المائدة: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٧.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفر الأول؟ قال نعم؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، فهي للناس أجمعين(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٥٩.

المرتضى:

سئل الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) عن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، وما معنى ذكر الإثم في ما قد أباح؟، فقال: إن الله عز وجل لما أطلق للحاج النفر في اليومين الذي ذكر حين يقول: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ـ كان هذا وقتا قد أباح الله عز وجل فيه النفر وأجازه، ثم قال ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، يريد: من تأخر عن النفر الأول الذي قد أطلق له فيه النفر، والتأخر هو: النفر الثاني، فصار هاهنا: نفران، قد أطلق فيهما النفر، فلما أن كانا وقتين قد أباح الله عز وجل النفر فيهما ـ قال فمن تعجل في هذين اليومين قد أبحت ذلك له، وهو مصيب، فلما أن أجاز النفر في هذين اليومين، وهو النفر الأول كان أمرا منه لهم بذلك وإطلاقا، ولو لم يكن ذكر النفر المتأخر لجعل النفر الأول الواجب الذي لا يجوز التخلف عنه، ولو ذكر النفر الآخر ولم يذكر الأول لم يجز لأحد أن ينفر دونه، فلما أن كان له سبحانه في النفر حكمان، أول وآخر ـ قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ من قبل النفر الآخر فهو جائز له وغير مأثوم، ومن تأخر عن هذا الأمر الأول، ونفر في النفر الآخر فهو مباح في ذلك، غير محظور عليه؛ فلما أمر عز وجل بالنفرين ـ جعلهما نفرين، أول وثاني، فلو ذكر الثاني ولم يذكر الأول لحرم على الناس النفر في الأول، ولو ذكر الأول وأغفل الثاني لوجب النفر في الأول، فلما أن ذكرهما عز وجل، وأمر بهما ـ صار حدا للنفر، وأبيحوا فيهما المضي، فقال سبحانه: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ فقد أبحت ذلك له، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ من بعد ما أطلقت من النفر الأول فغير محظور عليه، فصار الأمر فيهما مباحا لا محظورا؛ إذ جعلهما وقتا، ولم يحظر في أحدهما أمرا دون الآخر، ولو كان حظر لوجب النفر فيه بحظر الله له؛ فهذا معنى ما سألتم عنه(1).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/94.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ يحتمل وجهين:

أ. قيل: إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح، أي اذكروا الله بالنحر والذبح في أيامكم، فهو عند أبى حنفية، تعالى، يوم النحر ويومان بعده.

ب. وقيل‏: أراد بالأيام المعدودات أيام رمى الجمار، دليله قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ وهى أيام التشريق، وهى ثلاثة أيام بعد النحر، وروى عن على أنّه قال: الأيام المعدودات: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها، وكذلك روى عن عمر.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾:

أ. قيل‏: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي بعد يوم النحر بيومين، يقول: من نفر من منى قبل غروب الشمس في اليوم الثاني فلا إثم عليه، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس وأقام إلى الغد ـ اليوم الثالث: فيرمى الجمار، ثم ينفر فلا إثم عليه.

ب. وقيل: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ من أيام التشريق فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.

3. لا يحتمل قوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أن يكونا جميعا على الرخصة، التعجيل والتأخير جميعا، فلا يلحقه الإثم بكليهما؛ لأنه إذا كان التعجل هو الرخصة فالتأخر لا يكون رخصة، وإذا كان التأخر هو الرخصة فالتعجل ليس برخصة، لكن الوجه فيه ما روى عن ابن عباس‏،، أنّه قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ غفر له، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ غفر له ما كان له من الإثم والذنب في اليوم الذي أخر، ويحتمل: أنه خيره، أي إن فعل ذا أو ذا فلا إثم عليه.

4. عن ابن مسعود،، أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ رجع مغفورا له.

5. في قوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ وجوه:

أ. قيل‏: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قتل الصيد في الإحرام، وعلى ذلك قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي فلا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام.

ب. وقال‏ ابن عباس: من اتقى معاصي الله جملة.

ج. وقيل: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ جميع ما يحرم عليه الإحرام من الرفث، والفسوق، والجدال وغيره.

6. على ذلك قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ خوفهم عزّ وجل ليتقوا الله في كل وقت كل معصية، خرج الخطاب في الظاهر للمؤمنين، ويحتمل أن يكون للكفار أيضا، يأمرهم أن يتقوا الشرك وإشراك غيره في أفعالهم، لما أوعدهم بالحشر والجزاء لأعمالهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/99.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾: أي من نفر في النفر الأول بعد يومين من النحر فلا أثم عليه في ذلك، ومن تأخر إلى النفر الثاني وهو يوم الرابع من يوم النحر فذلك له(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 283.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ الذي روينا عن أمير المؤمنين أنها بعد الإحرام وقبل النحر ويجوز لمن فاتته في ذلك الزمان أن يصوم أيام التشريق، ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ إلى أهاليكم وأمصاركم.

2. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أن تكون على التأكيد، ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وحاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم.

3. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ والإفاضة الدفع من الاجتماع بإفاضة الماء عن الامتلاء، وقيل إن عرفات واحد وإن كان بلفظ الجمع، وإنما يسمى بذلك لعلو الناس على جباله، والعرب تسمي ما علا عَرَفة ومنه عرف الديك، وقيل إن إبراهيم لما وصله عرف ما كان قد تقدم له من الصفة.

4. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ﴾ هي أيام منى، ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني تعجل النفر الأول في أيام منى ومن تعجل فلا إثم عليه في تعجيله ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره.. وأما الذكر المأمور به فهو التكبير في أعقاب الصلاة والذي صح عندنا عن أمير المؤمنين في التكبير أنه من بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/100.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هي أيام منى قول جميع المفسرين، وإن خالف بعض الفقهاء في أن أشرك بين بعضها وبين الأيام المعلومات.

2. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يعني تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ يعني إلى النفر الثاني، وهو الثالث من أيام منى.

3. في الإثم في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ خمسة تأويلات:

أ. أحدها: أن من تعجل فلا إثم عليه في تعجله، ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره، وهذا قول عطاء.

ب. الثاني: أن من تعجل في يومين، فمغفور له، لا إثم عليه، ومن تأخر فمغفور له، لا إثم عليه، وهذا قول ابن مسعود.

ج. الثالث: فلا إثم عليه، إن اتّقى فيما بقي من عمره، وهذا قول أبي العالية، والسدي.

د. الرابع: فلا إثم عليه، إن اتقى في قتل الصيد في اليوم الثالث، حتى يحلّوا أيام التشريق، وهذا قول ابن عباس.

هـ. الخامس: فلا إثم عليه، إن اتقى إصابة ما نهي عنه، فيغفر له ما سلف من ذنبه، وهذا قول قتادة.

4. المراد بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات هو التكبير فيها عقب الصلوات المفروضات، واختلف فيه على أربعة مذاهب:

أ. أحدها: أنه تكبير من بعد صلاة الصبح، يوم عرفة، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول علي، وبه قال من الفقهاء أبو يوسف، ومحمد.

ب. الثاني: أنه تكبير من صلاة الفجر، من يوم عرفة، إلى صلاة العصر، من يوم النحر، وهذا قول ابن مسعود، وبه قال من الفقهاء أبو حنيفة.

ج. الثالث: أنه يكبر بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول زيد بن ثابت.

د. الرابع: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى آخر صلاة الصبح، من آخر التشريق، وهذا قول عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وبه قال من الفقهاء الشافعي.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/264.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هذا أمر من الله تعالى للمكلفين أن يذكروا الله في الأيام المعدودات: وهي أيام التشريق: ثلاثة أيام بعد النحر، وهو قول ابن عباس، والحسن ومالك، والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، وهو قول ابن عباس أيضاً، وذكر الفراء: أن المعلومات: هي أيام التشريق، والمعدودات العشر، وفيه خلاف ذكرناه في اختلاف الفقهاء.

2. سميت معدودات لأنها قلائل، كما قال ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ أي قليلة، والجمع بالألف والتاء يصلح للقليل والكثير، والقليل أغلب عليه، وأنكر الزجاج ما يروي في قول حسان:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى‏...وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

من أنه عيب عليه، وزعم أن الخبر موضوع، وقال الألف والتاء يصلح للكثير قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ وقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ وإنما احتمل هذا الجمع القليل والكثير، لأن جمع السلامة على طريقة واحدة لا يتميز فيه قليل من كثير، وكان القليل أغلب عليه، لشبهه بالتثنية.

3. الآية تدل على وجوب التكبير في هذه الأيام، وهو أن يقولوا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وبه قال الحسن والجبائي، وزاد أصحابنا(2) على هذا القدر: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، ورزقنا من بهيمة الانعام، وأول التكبير ـ عندنا ـ لمن كان بمنى، عقيب الظهر من يوم النحر الى الفجر يوم الرابع من النحر: عقيب خمسة عشرة صلاة، وفي الأمصار عقيب الظهر من يوم النحر الى عقيب الفجر يوم الثاني من التشريق: عقيب عشر صلوات، واختار الجبائي من صلاة الغداة من يوم عرفة الى صلاة العصر آخر يوم التشريق، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

4. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، المعني في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق وإن أقام الى النفر الأخير، وهو اليوم الثالث من التشريق، كان أفضل، فان نفر في الأول، نفر بعد الزوال الى الغروب، فان غربت فليس له أن ينفر، وقال الحسن: إنما له أن ينفر بعد الزوال الى وقت العصر، فان أدركته صلاة العصر، فليس له أن ينفر إلا يوم الثالث وليس للإمام أن ينفر في النفر الأول، وبه قال الحسن.

5. في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: لا إثم عليه لتكفير سيئاته بما كان من حجه المبرور وهو معنى قول ابن مسعود.

ب. الثاني:قال الحسن: لا إثم عليه في تعجّله ولا تأخره، وإنما نفى الإثم، لئلا يتوهم ذلك متوهم في التعجّل، وجاء في التأخر على مزاوجة الكلام كما تقول: إن أظهرت الصدقة، فجائز، وإن أسررتها، فجائز، والاسرار أفضل.

6. في قوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: لما قال‏ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ دّل على وعده بالثواب، فقيد ذلك بالتقوى لله تعالى، لئلا يتوهم أنه بالطاعة في النفر فقط.

ب. الثاني:أنه لا إثم عليه في تعجّله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد، ولكن لاتباع إذن الله فيه، وقالوا: معنى تجديد الأمر بالتقوى هاهنا التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال البرّ في الحج، فبين أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى، ومجانبة المعاصي.

ج. وروى أصحابنا: أن قوله‏ ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ متعلق بالتعجّل في اليومين، وتقديره‏: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى‏﴾ الصيّد الى انقضاء النفر الأخير وما بقي من إحرامه، ومن لم يتقها، فلا يجوز له النفر في الأول، وهو اختيار الفراء، والمروي عن ابن عباس.

د. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى‏: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي من مات في هذين اليومين، فقد كفّر عنه كل ذنب، ومن تأخر أي أنسئ أجله، فلا إثم عليه بعدها إذا اتقى الكبائر.

7. في العامل في اللام في قوله‏ ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: ذلك (من اتقى) فحذف ذلك لأن الكلام الأول دلّ على وعدٍ للعامل.

ب. الثاني:أن يكون العامل معنى‏ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، لأنه قد تضمن معنى جعلناه‏ ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾

8. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ معناه اجتنبوا معاصي الله، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي تحققوا أنكم بعد موتكم تردون الى الله، فيجازيكم على أعمالكم، تقول: حشر يحشر حشراً، فالحشر: جمع القوم من كل ناحية الى مكان، والمحشر: مجتمعهم: وهو المكان الذي يحشرون فيه، وحشرتهم السّنة: إذا أجحفت بهم، لأنها تضمهم من النواحي الى المصر، وسهم حشر: خفيف لطيف، لأنه ضامر باجتماعه، ومنه أذن حشره: لطيفة ضامرة، وحشرات الأرض: دوابها الصغار، والواحدة حشرة، لاجتماعها من كل ناحية، ودابّة حشور: إذا كان ملزّزة الحلق شديدة، ورجل حشور: إذا كان عظيم البطن، وحشرت السنان، فهو محشور: إذا رفقته وألطفته، وأصل الباب الاجتماع.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/175.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المعدودات: جمع معدود، قال الزجاج: ويستعمل ذلك في القليل، كقوله تعالى: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ أي قليلة، وإنما كان كذلك؛ لأنه كقبض ما لا يحصى كثرة.

ب. الحشر: جمع القوم من كل ناحية، والمحشر مجمعهم، وهو المكان الذي يحشرون فيه.

2. عاد الكلام إلى بيان الحج، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا الله﴾:

أ. قيل: هو التكبير في أيام التشريق أيام منى، عن أبي علي.

ب. وقيل: هو ما تقدم من الثناء والشكر والدعاء.

3. ﴿وَاذْكُرُوا الله﴾ الأوْلى أن يحمل على تكبير أيام التشريق؛ لأنه المختص بهذه الأيام، واختلفوا في وقته:

أ. ثلاثة اتفقوا في الابتداء، واختلفوا في الانتهاء: عمر وعلي وابن مسعود، واتفقوا أنه من صلاة الفجر يوم عرفة، ثم اختلفوا فقال علي: إلى العصر من آخر أيام التشريق، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعليه فعل المسلمين في الأمصار، وهو اختيار أبي علي، وقال ابن مسعود: إلى صلاة العصر من يوم النحر، وهو قول أبي حنيفة، وعن عمر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، وروي عنه مثل قول علي.

ب. وثلاثة أخر اتفقوا في الابتداء: ابن عباس وابن عمر وزيد، اتفقوا أنها من صلاة الظهر يوم النحر، ثم اختلفوا في الانتهاء فقال زيد: إلى العصر من آخر أيام التشريق، وهو قول عطاء، وروي عن أبي يوسف مثله، وقال ابن عمر: إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، وهو قول الشافعي، وقال ابن عباس: إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق.

4. ﴿وَاذْكُرُوا الله﴾ اختلفوا في كيفيته:

أ. فقيل: الله أكبر مرتين، عن ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.

ب. وقال سعيد بن جبير: ثلاث مرات، وهو قول الشافعي.

ج. وكان مالك بن أنس يقول: الله أكبر، ثم يقطع، ثم يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله.

د. وعن قتادة: الله أكبر كبيرًا، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر ولله الحمد.

5. ﴿وَاذْكُرُوا الله﴾ اختلفوا على من يجب عليه، فعند أبي حنيفة يجب بخمس شرائط على الرجال المكلفين الأحرار المقيمين إذ صلوا المكتوبة بجماعة مستحبة في مِصْرٍ جامع، وقال أبو يوسف ومحمد: كل من صلى فرضًا كَبَّرَ.

6. ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ قيل: أيام منى، وهي أيام التشريق، والمعلومات الأيام العشر، عن ابن عباس والحسن وأكثر أهل العلم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾:

أ. قيل: في النفر والسير في اليوم الثاني من أيام التشريق.

ب. وقيل: في الرمي بأن يرمي في اليوم الثاني ويرجع.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾:

أ. قيل: لتكفير سيئاته بما كان من حجه المبرور، عن ابن مسعود.

ب. وقيل: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تعجيله، عن الحسن.

9. ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ أي السير إلى النفر الثالث، وهو آخر أيام التشريق فرمى وسار، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي في تأخره.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾:

أ. قيل: اتقى الصيد ومحظورات الإحرام.

ب. وقيل: اتقى ما نهاه الله عنه في الحج، عن ابن مسعود.

ج. وقيل: اتقى الصيد وعبادة الوثن، عن ابن عباس.

د. وقيل: اتقى المعاصي، وهو الأوجه لعمومه.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾:

أ. قيل: يعني اتقوا معاصيه باجتنابها.

ب. وقيل: اتقوا عذابه بامتثال أمره.

12. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تجمعون إلى الموضع الذي يحكم فيه بينكم، لا حكم لأحد هناك غيره.

13. تدل الآية الكريمة على:

أ. يدل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ الآية على بقاء شيء عليه ليصح فيه التعجيل والتأخير، وما ذلك إلا رمي الجمار؛ لأنها تختص بهذه الأيام.

ب. على جواز التعجيل والتأخير، وأنه لا حرج في واحد منهما.

ج. يدل قوله: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أن المعارف ليست بضرورة وإنما هي مكتسبة.

د. يدل قوله: ﴿تُحْشَرُونَ﴾ على الحشر والبعث، وفي ذلك تحذير عن المعاصي؛ لأن من تصور الحشر دعاه إلى التشدد في التقوى، وكرر ذكر التقوى؛ لأن المراد: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ في ماضي أيامه، واتقوا في المستقبل.

14. في عامل الإعراب في: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قولان:

أ. الأول: ذلك لمن اتقى فحذف: ﴿ذَلِكَ﴾؛ لأن الكلام الأول دل على هذا العامل.

ب. الثاني: أن يكون العامل معنى ﴿لَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾؛ لأنه يتضمن جعلناه لمن اتقى.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/830.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. المعدودات: تستعمل كثيرا في اللغة للشئ القليل، وكل عدد قل أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدل على القلة، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء.

ب. الحشر: جمع القوم من كل ناحية إلى مكان، والمحشر: المكان الذي يحشرون فيه، وحشرتهم السنة: إذا أجحفت بهم، لأنها تضمهم من النواحي إلى المصر، وسهم حشر: خفيف لطيف لأنه ضامر باجتماعه، وأذن حشرة: لطيفة وضامرة، وحشرات الأرض: دوابها الصغار لاجتماعها من كل ناحية، فأصل الباب: الاجتماع.

2. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه في أيام معدودات، وهي أيام التشريق ثلاثة بعد النحر، والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، عن ابن عباس والحسن وأكثر أهل العلم، وهو المروي عن أئمتنا، وذكر الفراء أن المعلومات: أيام التشريق، والمعدودات: العشر.

3. الذكر المأمور به هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام)، وأول التكبير عندنا(2) عقيب الظهر من يوم النحر، وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر، هذا لمن كان بمنى، ومن كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولها صلاة الظهر من يوم النحر أيضا، هذا هو المروي عن الصادق عليه السلام، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء ووافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس وابن عمر.

4. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، والأفضل أن يقيم إلى النفر الأخير، وهو الثالث من التشريق، وإذا نفر في الأول، نفر بعد الزوال إلى غروب الشمس فإن غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث.

5. في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن معناه لا إثم عليه، لأن سيئاته صارت مكفرة بما كان من حجه المبرور، وهو قول ابن مسعود.

ب. الثاني: إن معناه لا إثم عليه في التعجيل والتأخير، وإنما نفي الإثم لئلا يتوهم متوهم ان في التعجيل إثما، وإنما قال ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في التأخير على جهة المزاوجة، كما يقال إن أعلنت الصدقة فحسن، وإن أسررت فحسن، وإن كان الإسرار أحسن وأفضل، عن الحسن.

6. في قوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن الحج يقع مبرورا مكفرا للسيئات إذا اتقى ما نهى الله عنه.

ب. الآخر: ما رواه أصحابنا أن قوله ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ متعلق بالتعجيل في اليومين، وتقديره فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه لمن اتقى الصيد إلى انقضاء النفر الأخير، وما بقي من إحرامه، ومن لم يتقها فلا يجوز النفر في الأول، وهو المروي عن ابن عباس، واختاره الفراء.

ج. روي أيضا عن أبي عبد الله في قوله ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي من مات في هذين اليومين، فقد كفر عنه كل ذنب، ومن تأخر أي: من أجله، فلا إثم عليه إذا اتقى الكبائر.

7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: اجتنبوا معاصي الله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: تحققوا أنكم بعد موتكم تجمعون إلى الموضع الذي يحكم الله فيه بينكم، ويجازيكم على أعمالكم

8. في العامل في اللام من قوله ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: إن تقديره ذلك ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ فيكون الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ، وإنما حذف ذلك، لأن الكلام الأول دل على وعد للعامل.

ب. الثاني: أن يكون العامل فيه معنى لا إثم عليه، لأنه قد تضمن معنى جعلناه لمن اتقى.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/532.

(2) يقصد الإمامية.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الذّكر في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه التّكبير عند الجمرات، وأدبار الصّلوات، وغير ذلك من أوقات الحجّ.

ب. الثاني: أنه التّكبير عقيب الصّلوات المفروضات، واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتّكبير ويقطع على ستة أقوال:

أحدها: أنه يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق، قاله عليّ عليه السلام، وأبو يوسف، ومحمّد.

الثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النّحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة.

الثالث: من بعد صلاة الظّهر يوم النّحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التّشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت وابن عباس، وعطاء.

الرابع: أنه يكبّر من صلاة الظّهر يوم النّحر إلى ما بعد صلاة الظّهر من يوم النّفر، وهو الثاني من أيام التّشريق، قاله الحسن.

الخامس: أنه يكبّر من الظّهر يوم النّحر إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشّافعيّ.

السادس: أنه يكبّر من صلاة المغرب ليلة النّحر إلى صلاة الصّبح من آخر أيام التّشريق، هذا قول للشّافعيّ، ومذهب إمامنا أحمد أنّه إن كان محلّا، كبّر عقيب ثلاث وعشرين صلاة؛ أوّلها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التّشريق، وإن كان محرما كبّر عقيب سبعة عشر؛ أوّلها الظّهر من يوم النّحر، وآخرها العصر من آخر أيام التّشريق، وهل يختصّ هذا التّكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: يختصّ بمن صلّاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة، والثانية: يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشّافعيّ.

2. في الأيام المعدودات ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها أيام التّشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين.

ب. الثاني: أنها يوم النّحر ويومان بعده، روي عن عليّ، وابن عمر.

ج. الثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنّخعيّ.

3. قال الزجّاج: ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ يستعمل كثيرا للشيء القليل، كما يقال: دريهمات وحمّامات.

﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾، أي: فمن تعجّل النّفر الأوّل في اليوم الثاني من أيّام منى، فلا إثم عليه، ومن تأخّر إلى النّفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه.

4. سؤال وإشكال: إنّما يخاف الإثم المتعجّل، فما بال المتأخّر ألحق به، والذي أتى به أفضل!؟ والجواب: عنه أربعة أجوبة:

أ. أحدها: أنّ المعنى: لا إثم على المتعجّل، والمتأخّر مأجور، فقال: لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾

ب. الثاني: أنّ المعنى: فلا إثم على المتأخّر في ترك استعمال الرّخصة.

ج. الثالث: أنّ المعنى: قد زالت آثام المتعجّل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجّهما.

د. الرابع: أنّ المعنى: طرح المأثم عن المتعجّل والمتأخّر إنما يكون بشرط التّقوى.

5. في معنى ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: لمن اتّقى قتل الصّيد، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: لمن اتّقى المعاصي في حجّه، قاله قتادة، وقال ابن مسعود: إنّما مغفرة الله لمن اتّقى الله في حجّه.

ج. الثالث: لمن اتّقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم.

__________

(1) زاد المسير: 1/169.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين:

أ. أحدهما: أن ذلك كان أمرا مشهورا فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك، إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه.

ب. الثاني: لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيام دليلا عليه، إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة منها.

2. ذكر الله تعالى في مناسك الحج الأيام المعدودات، والأيام المعلومات فقال هنا: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، وقال في سورة الحج: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28] فمذهب الشافعي أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات، والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة، ثم قال بعده: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ وهذا يقتضي أن يكون المراد ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ من هذه الأيام المعدودات، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، والقفال أكد هذا بما روى في (تفسيره) عن عبد الرحمن بن نعمان الديلمي، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا فنادى: (الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)، وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، قال الواحدي: أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها: يوم النفر، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى، الثاني: يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى، الثالث: يوم النفر الثاني، وهذه الأيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر، وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير إدبار الصلوات على ما سنشرح مذاهب الناس فيه.

3. المراد بالذكر في هذه الأيام: الذكر عند الجمرات، فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك، إلا أنهم اختلفوا في مواضع.

4. أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى، ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف:

أ. الأول: أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك والشافعي في أحد أقواله، والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ [البقرة: 200]، ثم قال ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ وهذا إنما يحصل في حق‏ الحاج، فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج، وسائر الناس تبع لهم في ذلك، ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى، فإنهم يلبون قبل ذلك، وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان.

ب. الثاني: للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر، إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة.

ج. الثالث: للشافعي أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة.

د. الرابع: أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق، فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة، كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس، ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح، وعليه عمل الناس بالبلدان، ويدل عليه وجوه:

الأول: ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق‏.

الثاني: أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل، وهذا القول أخذ بالأكثر، والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41]

الثالث: أن هذا هو الأحوط، لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها.

الرابع: أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق، فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق.

5. سؤال وإشكال: هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق، فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة، والجواب: هذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع، وأيضا لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق، صح أن يضاف التكبير إليها الموضع.

6. اختلف في عدد التكبيرات:

أ. قال الشافعي: المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثا نسقا أي متتابعا، وهو قول مالك، حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قال رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثا، ولأنه زيادة في التكبير، فكان أولى لقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ ثم قال الشافعي: ويقول بعد الثلاث: (لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد) ثم قال: وما زاد من ذكر الله فهو حسن، وقال في التلبية: وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها، وهاهنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت، وأما التكبير على الجمار فقد روي‏ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يكبر مع كل حصاة، فينبغي أن يفعل ذلك.

ب. وقال أبو حنيفة وأحمد: يكبر مرتين.

7. سؤال وإشكال: لم قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾ ولم يقل فمن عجل؟ والجواب: قال الزمخشري: تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل، يقال: تعجل في‏ الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب واستعجله.

8. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ إشكال، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج، فما معنى قوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل، والجواب: من وجوه:

أ. أحدها: أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم، ألا ترى أن أبا حنيفة يقول: القصر عزيمة، والإتمام غير جائز، فلما كان هذا الاحتمال قائما، لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة، ولا إثم عليه في الأمرين جميعا.

ب. ثانيها: قال بعض المفسرين: إن منهم من كان يتعجل، ومنهم من كان يتأخر، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل.

ج. ثالثها: أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث، فكأنه قيل: إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه.

د. رابعها: أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق، فالطبيب يقول له: الآن إن تناولت السم فلا ضرر، وإن لم تتناول فلا ضرر، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحد، فكذا هاهنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفرا لكل الذنوب، لا بيان أن التعجل وتركه سيان، ومما يدل على كونه الحج سببا قويا في تكفير الذنوب‏ قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)

هـ. خامسها: أن كثيرا من العلماء قالوا: الجوار مكروه، لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه، وإذا كان غائبا ازداد شوقه إليه، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل، وأيضا من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى، ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الاستعجال في الطواف فلهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر؟ فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما.

و. سادسها: قال الواحدي إنما قال: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية، كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194] ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى، لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه.

9. سؤال وإشكال: هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة؟ والجواب: نعم، كما كان في قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾ [البقرة: 198] دليل على وقوفهم بها.

10. اختلف في التعجل:

أ. قيل: إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي، وقول كثير من فقهاء التابعين.

ب. وقال أبو حنيفة: يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر، لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد.

11. في قوله تعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن الحاج يرجع مغفورا له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق.. وفي هذا الوجه إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل.

ب. ثانيها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا قبل حجه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27] وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجة وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر.

ج. ثالثها: أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج، كما روي في الخبر من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق)

12. قال بعض المفسرين المراد بقوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره، لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوما، وربما صار عمله محبطا، وهذا ضعيف من وجهين:

أ. الأول: أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل.

ب. الثاني: أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم، لكن ذاك ليس للإحرام، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام، فسقط هذا الوجه.

13. قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ هو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار، وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات.

14. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تأكيد للأمر بالتقوى، وبعث على التشديد فيه، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى.

15. الحشر هو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور.

16. المراد بقوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه، ولا يستطيع أحد دفعا عن نفسه، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19]

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/341.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال الكوفيون: الالف والتاء في ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ لأقل العدد، وقال البصريون: هما للقليل والكثير، بدليل قوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ والغرفات كثيرة.

2. لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهى أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمى الجمار، وهى واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر، فقف على ذلك، وقال الثعلبي‏ بعد النحر، وفى ذلك بعد.

3. أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكره في الأيام المعدودات، وهى الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات، خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما عن عبد الرحمن ابن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو بعرفة فسألوه، فأمر مناديا فنادى: (الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع‏ قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، أي من تعجل من الحاج في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، ويسقط عنه رمى يوم الثالث، ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام من أجل يوم النحر، واستوفى العدد في الرمي، ومن الدليل على أن أيام منى ثلاثة ـ مع ما ذكرناه ـ قول العرجي:

ما نلتقي إلا ثلاث منى‏...حتى يفرق بيننا النفر

فأيام الرمي معدودات، وأيام النحر معلومات.

4. اختلف في الأيام المعدودات والأيام المعلومات:

أ. روى نافع عن ابن عمر أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم، وهذا مذهب مالك وغيره، وإنما كان كذلك لان الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ ولا من التي عين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أيام منى ثلاثة) فكان معلوما، لان الله تعالى قال ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، ولا خلاف أن المراد به النحر، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى: ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه، فصار معدودا لأجل الرمي، غير معلوم لعدم النحر فيه، قال ابن العربي: والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾

ب. قال أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس، وروى الطحاوي عن أبى يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال أبو يوسف: روى ذلك عن عمر وعلى، وإليه أذهب، لأنه تعالى قال ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾

ج. حكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى ويومان بعده، قال الكيا الطبري: فعلى قول أبى يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لان المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، لان الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث.

د. روي عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور.

هـ. وقال ابن زيد: الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق، وفيه بعد، لما ذكرناه، وظاهر الآية يدفعه، وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله، فلا معنى للاشتغال به.

5. لا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمى الحمار، وعلى ما رزق من بهيمة الانعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا؟ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد ـ وخصوصا في أوقات الصلوات ـ فيكبر عند انقضاء كل صلاة ـ كان المصلى وحده أو في جماعة ـ تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضى الله عنهم، وفى المختصر: ولا يكبر النساء دبر الصلوات، والأول أشهر، لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل، قاله في المدونة.

6. من نسى التكبير بأثر صلاة كبر إن كان قريبا، وإن تباعد فلا شي عليه، قاله ابن الجلاب، وقال مالك في المختصر: يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام من مجلسه فلا شي عليه، وفى المدونة من قول مالك: إنسي الامام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر، وإن تباعد فلا شي عليه، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا.

7. اختلف العلماء في طرفي مدة التكبير، فقال عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن عباس: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقال ابن مسعود وأبو حنيفة: يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، وخالفاه صاحباه فقالا بالقول الأول، قول عمر وعلى وابن عباس، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء، وقال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا، وقال زيد بن ثابت: يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.

8. قال ابن العربي: فأما من قال يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر، لان الله تعالى قال ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ وأيامها ثلاثة، وقد قال هؤلاء: يكبر في يومين، فتركوا الظاهر لغير دليل، وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق، فقال: إنه قال ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام، هذا كان يصح لو كان قال يكبر من المغرب يوم عرفة، لان وقت الإفاضة حينئذ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى.

9. اختلفوا في لفظ التكبير، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات، رواه زياد بن زياد عن مالك، وفى المذهب رواية: يقال بعد التكبيرات الثلاث: لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وفى المختصر عن مالك: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

10. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾ التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث، لان الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال، وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال، وكذلك أجمعوا أن وقت رمى الجمرات في أيام‏ التشريق بعد الزوال إلى الغروب، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس:

أ. فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رخص لاحد برمي قبل أن يطلع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز رميها، وبه قال أحمد وإسحاق،

ب. ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر، روى عن أسماء بنت أبى بكر أنها كانت ترمى بالليل وتقول: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أخرجه أبو داوود، وروى هذا القول عن عطاء وابن أبى مليكة وعكرمة بن خالد، وبه قال الشافعي إذا كان الرمي بعد نصف الليل.

ج. وقالت طائفة: لا يرمى حتى تطلع الشمس، قاله مجاهد والنخعي والثوري، وقال أبو ثور: إن رماها قبل طلوع الشمس فإن اختلفوا فيه لم يجزه، وإن أجمعوا، أو كانت‏ فيه سنة أجزأه.

11. قال أبو عمر: أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال: (خذوا عنى مناسككم)، وقال ابن المنذر: السنة ألا ترمى إلا بعد طلوع الشمس، ولا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر، فإن رمى أعاد، إذ فاعله مخالف لما سنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لامته، ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه.

12. ذكر هنا(2) بعض المباحث التفصيلية المرتبطة بمواقيت الرمي ونحوها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

13. (من) في قوله ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾ رفع بالابتداء، والخبر ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم، لان معنى من جماعة، كما قال عز وجل: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ وكذا ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾

14. اللام من قوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ متعلقة بالغفران، التقدير المغفرة لمن اتقى، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلى، قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي، وقال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى، وقال بعضهم: لمن اتقى يعنى قتل الصيد في الإحرام وفى الحرم، وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى، روى هذا عن ابن عمر، وقيل: السلامة لمن اتقى، وقيل: هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا﴾ أي الذكر لمن اتقى، وقرا سالم بن عبد الله فلا أثم عليه بوصل الالف تخفيفا، والعرب قد تستعمله، قال الشاعر: (إن لم أقاتل فألبسوني برقعا)

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/2.

(2) تفسير القرطبي: ‏3/6.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المراد بالمناسك: أعمال الحج، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (خذوا عنّي مناسككم) أي: فإذا فرغتم من أعمال الحجّ فاذكروا الله؛ وقيل: المراد بالمناسك: الذبائح، وإنما قال سبحانه‏ ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكرا مثل ذكرهم لآبائهم، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم.

2. قال الزجاج: إن قوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ﴾: في موضع خفض عطفا على ذكركم، والمعنى: أو كأشدّ ذكرا؛ ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: اذكروه أشدّ ذكرا، وقال في الكشاف: إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: ﴿كَذِكْرِكُمْ﴾ كما تقول: كذكر قريش آباءهم، أو قوم أشدّ منهم ذكرا.

3. ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ الآية، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره، وكان الدعاء نوعا من أنواع الذكر؛ جعل من يدعوه منقسما إلى قسمين: أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا يلتفت إلى حظ الآخرة، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعا؛ ومفعول الفعل، أعني قوله: ﴿آتِنَا﴾ محذوف، أي: ما نريد أو ما نطلب، والواو في قوله: ﴿وَمَا لَهُ﴾ واو الحال، والجملة بعدها حالية.

4. الخلاق: النصيب، أي: وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب، لأن همه مقصور على الدنيا، لا يريد غيرها، ولا يطلب سواها، وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته، ومعظم مقصوده.

5. اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية، فقيل: هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية، وما لا بدّ منه من الرزق، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا؛ وقيل: المراد بحسنة الدنيا: الزوجة الحسناء، وحسنة الآخرة: الحور العين؛ وقيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة؛ وقيل: غير ذلك، قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل العلم؛ أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة، قال: وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء؛ فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع.

6. ﴿وَقِنَا﴾ أصله: أوقنا، حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد، هذا قول البصريين، وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي.

7. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الفريق الثاني‏ ﴿لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ من جنس ما ﴿كَسَبُوا﴾ من الأعمال، أي: من ثوابها، ومن جملة أعمالهم الدعاء، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا؛ وقيل: إن معنى قوله: ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ التعليل، أي: من أجل ما كسبوا، وهو بعيد؛ وقيل: إن قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الفريقين جميعا، أي: للأوّلين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة.

8. سريع: من سرع يسرع، كعظم يعظم، سرعا وسرعة، والحساب: مصدر كالمحاسبة، وأصله العدد، يقال: حسب يحسب حسابا، وحسابة وحسبانا وحسبا، والمراد هنا: المحسوب، سمي: حسابا، تسمية للمفعول بالمصدر؛ والمعنى: أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه، فبادروا ذلك بأعمال الخير، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾

9. ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية: هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وهي أيام رمي الجمار، وقال الثعلبي: قال إبراهيم: الأيام المعدودات أيام العشر، والأيام المعلومات أيام النحر، وكذا روي عن مكي والمهدوي(2).

10. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾ الآية، اليومان هما: يوم ثاني النحر؛ ويوم ثالثه، وقال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والنخعي: من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج؛ فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا، لأن من العرب من كان يذمّ التأخر، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك، وقال علي، وابن مسعود: معنى الآية: من تعجل فقد غفر له، ومن تأخر فقد غفر له، والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان.

11. ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى، لأن صاحب التقوى يتحرّز عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم، قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى؛ وقيل: لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي؛ وقيل: لمن اتقى قتل الصيد، وقيل: معناه: السلامة لمن اتقى؛ وقيل هو متعلق بالذكر، أي: الذكر لمن اتقى، لأن صاحب التقوى يتحرّز عن كل ما يريبه، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم، قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى؛ وقيل: لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي؛ وقيل: لمن اتقى قتل الصيد، وقيل: معناه: السلامة لمن اتقى؛ وقيل هو متعلق بالذكر، أي: الذكر لمن اتقى.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/235.

(2) ثم ذكر ما ذكرناه سابقا من كلام القرطبي.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هي أيام التشريق، قاله ابن عباس، وروى مسلم‏ عن نبيشة الهذليّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله‏، وقال عكرمة: معنى هذه الآية: التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر! الله أكبر، وروى البخاريّ‏ عن ابن عمر: أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه، وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا، وفي رواية: أنه كان يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى ـ أخرجه البخاري تعليقا.

2. من الذكر في هذه الأيام التكبير مع كلّ حصاة من حصى الجمار كلّ يوم من أيام التشريق، فقد ورد في (الصحيح): أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم كبّر مع كلّ حصاة، وقد جاء في الحديث‏ الذي رواه أبو داوود وغيره: إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عزّ وجلّ، وروى مالك‏ عن يحيى بن سعيد أنّه بلغه أنّ عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفاع النهار شيئا، فكبّر، فكبّر الناس بتكبيره، ثم خرج الثانية من يومه ذلك بعد ارتفاع النهار فكبّر، فكبّر الناس بتكبيره، ثم خرج الثالثة حين زاغت الشمس فكبّر، فكبّر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعلم أنّ عمر قد خرج يرمي، ثم قال مالك: والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء ـ من كان في جماعة أو وحده بمنى أو بالآفاق كلّها واجب، ثمّ قال الأيام المعدودات أيام التشريق.

3. التشريق: تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأنّ لحوم الأضاحي تشرق فيها أي: تشرّر في الشمس ـ حكاه يعقوب، وقيل: سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير؛ أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس ـ قاله ابن الأعرابيّ، قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.

4. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: فمن تعجل النفر الأول من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة، فلا يأثم بهذا التعجيل، وإيضاحه: أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمي كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، يرمي عند كلّ جمرة سبع حصيات، ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها، فذلك واسع له‏ ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ أي: حتى رمى في اليوم الثالث وهو النفر الثاني‏ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تأخّره.

5. السنة هو التأخر، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يتعجل في يومين بل تأخّر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ولا يقال هذا اللفظ ـ أعني‏ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ـ إنما يقال في حقّ المقصر لا في حقّ من أتى بتمام العمل، لأنّا نقول: أتى به لمشاكلة اللفظ الأول كقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، ونحن نعلم أنّ جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ـ فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى، لأنّ المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه ـ قاله الواحديّ، وقال الراغب: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة ـ أي كناية عنها ـ وقيل: رفع الإثم أنه حط ذنوبهما بإقامتهما الحجّ ـ تعجّل أو تأخّر ـ بشرط أن يكون مقياسهما الاعتبار بالتقوى، وعلى ذلك دلّ‏ حديث‏: من حجّ ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه!

6. ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي: الذي ذكر ـ من‏ التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر، أو من الأحكام ـ لمن اتقى، لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به، على حد: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: 38] وقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ـ في مجامع أموركم ـ

7. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي للجزاء على أعمالكم، وهو تأكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه، لأنّ من تصور أنه لا بدّ من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأنّ بعد الموت لا دار إلّا الجنة أو النار ـ صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى، و(الحشر) اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/81.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُواْ اللهَ﴾ بالتكبير وغيره أدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغير ذلك.. قال مسلم عن نبيشة الهذلي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أيَّام التشريق أيَّام أكل وشرب وذكر الله تعالى) وقال البخاري عن ابن عمر أنَّه كان يكبِّر بمنًى تلك الأيَّام خلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيَّام جميعًا، يعني يوم النحر وثلاثة الأيَّام بعده المرادة هنا في قوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾

2. ﴿فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ جمع يوم معدود مع أنَّه مذكَّر لأنَّ لفظ معدود أكثر من ثلاثة أحرف لغير عاقل، فجاز جمعه بألف وتاء، وذلك التكبير وسائر الذكر في تلك الأيَّام مستحبَّان عندنا وعند أبي حنيفة، إلَّا عند ذبح القرابين فعنده وجب التكبير، وعندنا يستحبُّ، ويحتاج إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز في الأمر، أو عموم المجاز، والمراد بالأيَّام ما يشمل الليالي، وعن ابن أبي ليلى: (الأيَّام يوم النحر ويومان بعده)؛ قيل: وهو وهمٌ، ونُسب لعمر وعليٍّ، والمشهور عنهما وهو قول ابن عبَّاس أنَّ الأيَّام يوم النحر وثلاثة بعده، وعن ابن عبَّاس وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة: (الثلاثة بعد النحر)، قلت: لا يلزم الوهم، ولعلَّه خصَّ مزيدًا للتأكيد في ذلك بالحجِّ، والواجب ما عدا اليوم الرابع بالعيد، ولا يخفى استحباب الذكر في الأيَّام الثلاثة ويوم النحر قبلها في الحجِّ وغير الحجِّ.

3. ﴿فَمَن تَعَجَّلَ﴾ النفْرَ، أو بالنفر، أو عن منًى، ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ يوم القرِّ واليوم بعده، والقرُّ: القرار، وهو عدم النفرِ، ولا بدَّ منه في اليوم بعد العيد، فأضيف للقرِّ، وَأَمَّا النَّفْر بفاء ساكنة فهو الذهاب، يضاف إليه اليوم الثاني والثالث، فنقول: يوم النفر الأوَّل ويوم النفر الثاني، لجواز أن ينفر في اليوم الثاني أو في الثالث، ولا قـرَّ بعد الثالث، ويسمَّى اليوم بعد العيد يوم الرؤوس لأنَّه تؤكل فيه رؤوس الضحايا، ونسب التعجُّل لليومين مع أنَّه في الثاني فقط تنزيلاً لهما منزلة اليوم الواحد؛ لأنَّه لا بدَّ منهما، وهو حكمٌ على المجموع، أو يقدَّر مضاف، أي: تعجَّل في ثاني يومين، والتعجُّل فيهما صالح للتعجُّل قبل تمام اليوم الثاني وهو المراد، والظرفيَّة لا تصلح لهما في ليلة الثالث، فمن دخلت عليه ليلة الثالث لزمه البقاء إلى الزوال فيرمي قبله أو بعده، وذلك أنَّه مَن نفر في ليلة الثالث لا يصدق عليه أنَّه نفر في اليومين؛ وذلك مذهبنا ومذهب الشافعيَّة، وقال أبو حنيفة: له النفر ما لم يطلع فجر الثالث، وإن طلع فيه لزمه اللبث إلى الزوال فيرمي، وعن أبي حنيفة: له الرمي فبل الزوال فيه وفي اليومين قبله، وعنه لا يجوز إلَّا بعد الزوال، وكذا عند الشافعيِّ؛ وقيل: من لم ينفر قبل زوال اليوم الثاني لزمه اللبث إلى الثالث فيرمي، ﴿فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ كما يزعم بعض الجاهليَّة.

4. ﴿وَمَن تَأَخَّرَ﴾ عن النفر فيهما حتَّى رمى في الثالث، ﴿فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ كما يزعم بعض الجاهليَّة، ويجوز الوجهان بلا إثم، والثاني أعظم أجرًا لزيادة الرمي والذكر، ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ أي: ذلك لمن اتَّقى الله في حجِّه، وهو الذي ينتفع بحجِّه ولو كان أيضًا لغيره، أو ذلك لأجل المتَّقي ليُصان عن ترك الواجب لو وجب الثلاثة.

5. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ في الحجِّ وغيره، ﴿وَاعْلَمُواْ أنَّكُمُ إِلَيْهِ﴾ لا إلى غيره، ولو كان إلى غيره لأمكنكم الإنكار والإخفاء ونَفَعكم، ﴿تُحْشَرُونَ﴾ للجزاء على مثاقيل الذرِّ.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/370.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم قال تعالى بعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وبذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ حكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم قال: (إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي: (الحج عرفة، من جاء ليلة جمع ـ أي مزدلفة ـ قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) وأردف رجلا ينادي بهن: أي أركب رجلا وراءه ينادي بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل؛ لأنه الأصل، وفيه زيادة في العبادة، فالحديث مفسر للأيام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم، كما قال الترمذي في جامعه.

2. إنما أمر سبحانه بالذكر في هذه الأيام ولم يأمر برمي الجمار؛ لأنه من الأعمال التي كانوا يعرفونها ويعملون بها، وقد أقرهم عليها، وذكر المهم الذي هو روح الدين وهو ذكر الله تعالى عند كل عمل من تلك الأعمال، وتلك سنة القرآن يذكر إقامة الصلاة والخشوع فيها، وذكر الله تعالى ودعاءه، وتأثير ذلك في إصلاح النفوس، ولا يذكر صفة القيام والركوع والسجود، وكون الركوع يفعل مرة في كل ركعة، والسجود يفعل مرتين، وإنما يترك ذلك لبيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم له بالعمل، وبينت السنة أيضا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال، فقد روى الجماعة عن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من جمع (مزدلفة) إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر (أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يرمي الجمرة يكبر مع كل حصاة) وورد في التكبير في أيام التشريق أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر في الصحيح (أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام وعلى فراشه، وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا)

3. أما الذكر في يوم عرفة ويوم النحر فهو التكبير لغير الحاج وهو أعم، ففي حديث أحمد والشيخين أن محمد بن أبي بكر بن عوف قال: (سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم؟ قال كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) وفي حديث أسامة عند النسائي (أنه صلّى الله عليه وآله وسلم رفع يديه يوم عرفة يدعو) وفي روايات ضعيفة السند (أن أكثر دعائه يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وقد ذكرنا ذكره صلّى الله عليه وآله وسلم عند المشعر الحرام، وقد قالوا: إن التلبية أفضل الذكر للحاج ويليها التكبير في يوم عرفة والأضحى وأيام التشريق، ولفظ التلبية المأثور (لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لك، لا شريك لك) هذا هو المرفوع وله أن يزيد من الذكر والثناء والدعاء ما شاء، والتكبير المرفوع صحيحا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا، ويزيدون.

4. جعل الله تعالى التخيير في التعجيل والتأخير مشروطا بالتقوى فقال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ أي: من استعجل في تأدية الذكر عند هذه الأعمال التعبدية المعلومة، وهي رمي الجمرات في يومين من تلك الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن أتمها كذلك، إذا اتقى كل منهما الله تعالى ووقف عند حدوده، فإن تحصيل ملكة التقوى هي الغرض من الحج ومن كل عبادة، والوسيلة الكبرى إليها كثيرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان، حتى يغلب على مراقبته في جميع الأحوال، فيكون عبدا له لا للأهواء والشهوات، وإنما تلك الأعمال مذكرات للناسي.

5. الجمار ثلاث، وهي كالجمرات جمع جمرة، ومعناها هنا مجتمع الحصى، من جمره بمعنى جمعه، ورميها من ذكريات النسك المأثورة عن سيدنا إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلم كذبح القرابين هنالك، وعامة أعمال الحج ذكريات لنشأة الإسلام الأولى في عهد الخليل صلّى الله عليه وآله وسلم وكل جمرة ترمى بسبع حصيات صغيرة كل يوم من الأيام الثلاثة أو الاثنين، وتمتاز جمرة العقبة منها بأنها ترمى قبل ذلك يوم النحر أيضا.

6. ثم أمر الله تعالى بالتقوى بعد الإعلام بمكانتها فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي: اتقوه في حال أداء المناسك وفي جميع أحوالكم، وكونوا على علم يقين بأنكم تجمعون وتساقون إليه في يوم القيامة فيريكم جزاء أعمالكم والعاقبة للمتقين ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ فإن العلم بذلك هو الذي يؤثر في النفس فيبعثها على العمل، وأما من كان على ظن أو شك فإنه يعمل تارة ويترك أخرى لتنازع الشكوك قلبه، ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها ـ كل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح، حتى تتوجه إلى الخير وتتقي الشرور والمعاصي، فيكون صاحبها من المتقين، ثم يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربانيين.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/242.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وأمر بذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، أمر بذكره في أيام منى فقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ الأيام المعدودات هي أيام منى، وهى أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر من ذي الحجة إلى ثالث عشر، وقد روى أرباب السنن عن عبد الرّحمن بن يعمر قال إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديا ينادى (الحج عرفة، من جاء ليلة جمع ـ مزدلفة ـ قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)، وأردف رجلا ينادى بهن، أي أركب معه رجلا ينادى بهذه الكلمات، ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهى الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة، وهى التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل لأنه الأصل.

2. بينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمى الجمار، روى عن الفضل بن العباس قال كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من جمع (مزدلفة) إلى منى، فلم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة، وروى عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.

3. الذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير، وللحاج هذا وغيره، والمأثور من التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، ومن التلبية، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك.

4. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ أي من‏ تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه بهذا التعجيل، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات (والجمرة جمعها جمار وجمرات وهى مجتمع الحصى) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج.

5. من لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر ولا إثم عليه بترك الترخيص، وهذا التخيير ونفى الإثم عن المستعجل والمتأخر، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهى عنه، لأنه هو الحاج على الحقيقة، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته.

6. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾

7. من علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها، كان ذلك باعثا له على العمل، وداعيا له إلى ملازمة التقوى، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى.

8. كرر الله تعالى الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير، ويبعدها عن الشرور والمعاصي، فيكون فاعلها من المتقين.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/108.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله، وإلى تقواه: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾

2. أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده.. قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق.. وقال عكرمة: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر، وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي: (وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه).. وأيام عرفة والنحر والتشريق، كلها صالحة للذكر، اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين، بشرط التقوى: ذلك ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾

3. ثم يذكرهم الله تعالى بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج؛ وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.. وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية؛ وكيف خلعها من جذورها الجاهلية؛ وربطها بعروة الإسلام؛ وشدها إلى محوره؛ وظللها بالتصورات الإسلامية؛ ونقاها من الشوائب والرواسب.. وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة.. إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية؛ إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد.. إنها لم تعد تقليدا عربيا، إنما عادت عبادة إسلامية، فالإسلام، والإسلام وحده، هو الذي يبقى وهو الذي يرعى.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/203.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن نبّه الله سبحانه إلى ذكر الله ذكرا دائما متصلا بعد أداء مناسك الحج، حتى يظل المؤمن على هذا الطريق الذي استقام عليه وهو يؤدى هذه المناسك ـ بعد هذا نبّه سبحانه إلى ذكره ذكرا خاصّا في أيام معدودات موصولة بأيام الحج مباشرة، وهى أيام التشريق الثلاثة.

2. فى قوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ إشارة إلى أنها أيام محصورة بالعدد، على خلاف قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ وقوله سبحانه: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، فالأشهر والأيام هنا معلومة، هي أشهر الحجّ، وأيام الحجّ المحصورة في شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة.

3. الحكمة في الأمر بذكر الله هنا في أيام معدودات لا معلومات علما محددا، هي السماح بشيء من الحرية في تقديم وقتها أو تأخيره، حسب ظروف الحاجّ، التي تتحكم فيها كثير من الأمور، في غربته تلك عن وطنه وفى انقطاعه عن أهله وولده، وفى ارتباطاته بالجماعة التي صحبها في مجيئه، وسيصحبها في عودته.. فكل هذه وكثير غيرها أمور تفرض على الحاج ألا يتقيد بزمن، قيدا ملزما، لا يستطيع التصرف فيه.. والأيام المعدودات هي أيام التشريق.. ثلاثة أيام العيد.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/227.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ معطوف على‏ ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ [البقرة: 200] وما بينهما اعتراض، وإعادة فعل‏ ﴿اذْكُرُوا﴾ ليبني عليه تعليق المجرور أي قوله: ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ لبعد متعلقه وهو ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ﴾ لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييده بزمانه ومكانه، فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه.

2. الأيام المعدودات أيام منى، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق، لأن الناس يقددون فيها اللحم، والتقديد تشريق، أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس، وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات.

3. اختلفوا في الأيام المعلومات والأيام المعدودات:

أ. قال جمهور الفقهاء الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك، وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ في [سورة الحج: 28]، والأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة، وهي اليوم العاشر ويومان بعده، والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر، فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات، واليومان بعده من المعلومات والمعدودات، واليوم الرابع من المعدودات فقط، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 28] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذبح إجماعا.

ب. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوما ولا معدودا.

ج. وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات، وهو رواية عن أبي حنيفة.

4. دلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا، وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء، قال العرجي:

ما نلتقي إلّا ثلاث منى‏...حتّى يفرّق بيننا النّفر

وقال عمر بن أبي ربيعة:

بدا لي منها معصم حين جمّرت‏...وكفّ خصيب زيّنت ببنان‏

فو الله ما أدري وإن كنت داريا...بسبع رميت الجمر أم بثمان

‏لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة، فكانوا يعودون إليها، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها، وذكر الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار.

5. الأيام المعدودات الثلاثة ترمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يبتدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات، ثم ترمى الجمرتان الآخريان كل جمرة بمثل ذلك ويكبر مع كل حصاة، وآخرها جمرة العقبة، وفي أحكام الرمي ووقته وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى خلافات بين الفقهاء.

6. الآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلّا في منى، ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي، ولا يرخص في المبيت في غير منى إلّا لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى فقد رخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم، ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون، ورخص للرعاء الرمي بليل، ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات.

7. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه، وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده.

8. فعلا ﴿تَعَجَّلَ﴾ و﴿تَأَخَّرَ﴾ مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات، فالمراد، من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج، فيجوز أن تكون صيغة ﴿تَعَجَّلَ﴾ و﴿تَأَخَّرَ﴾ معناهما مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات، أي تعجل النفر وتأخر النفر، ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفا لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره.

9. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه، وإنما قوله: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة، ودفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين؛ فريق منهم يبيحون التعجيل، وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين، أو تجعل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين، والتأخير أفضل، ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل، وعندي أن وجه ذكر ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم، وقال بعد ذلك‏ ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ خيف أن يتوهم أن التعجيل بالنفر أولى تباعدا من مواقعة ما لا يحسن من الكلام، فدفع ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فإذا نفي هذا التوهم علم السامع أنه قد ثبتت للمتأخر فضيلة الإقامة بتلك المنازل المباركة والمشاركة فيها بذكر الله تعالى، ولذلك عقبه بقوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ أي لمن اتقى الله في تأخره فلم يرفث ولم يفسق في أيام منى، وإلّا فالتأخر فيها لمن لم يتق إثم فهو متعلق بما تدل عليه (لا) من معنى النفي، أو هو خبر مبتدأ، أي ذلك وبدون هذا لا يظهر وجه لزيادة قوله‏ ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ وإن تكلفوا في تفسيره بما لا تميل النفس إلى تقريره.

10. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وصاية بالتقوى وقعت في آخر بيان مهامّ أحكام الحج، فهي معطوفة على‏ ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أو معترضة بين‏ ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ﴾ وبين‏ ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ‏﴾ [البقرة: 204] إلخ.

11. استحضر حال المخاطبين بأحكام الحج في حال حجهم؛ لأن فاتحة هاته الآيات كانت بقوله: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ﴾ [البقرة: 197] إلخ ولما ختمت بقوله: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ وهي آخر أيام الحج وأشير في ذلك إلى التفرق والرجوع إلى الأوطان بقوله:‏ ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلخ، عقب ذلك بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ وصية جامعة للراجعين من الحج أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغيرون ويفسدون، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان.

12. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تحريض على التقوى وتحذير من خلافها؛ لأن من علم ذلك سعى لما يجلب رضا المرجوع إليه وتجنب سخطه، فالأمر في‏ ﴿اعْلَمُوا﴾ للتذكير، لأن ذلك معلوم عندهم وقد تقدم آنفا عند قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196]

13. الحشر: الجمع بعد التفرق فلذلك ناسب قوله: ﴿تُحْشَرُونَ﴾ حالتي تفرق الحجيج بعد انقضاء الحج واجتماع أفراد كل فريق منهم إلى بلده بعد ذلك، واختير لفظ (تحشرون) هنا دون تصيرون أو ترجعون، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج، ولأن الناس بعد الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير، والعرب كانوا يتفرقون رابع أيام منى فيرجعون إلى مكة لزيارة البيت لطواف الوداع ثم ينصرفون فيرجع كل فريق إلى موطنه، قال امرؤ القيس يذكر التفرق يوم رابع النحر وهو يوم المحصب في منى:

فلله عينا من رأى من تفرّق‏...أشتّ وأنأى من فراق المحصّب‏

غداة غدوا فسالك بطن نخلة...وآخر منهم جازع نجد كبكب‏

وقال كثير:

ولما قضينا من منى كل حاجة...ومسح بالأركان من هو ماسح‏

وشدت على دهم المهاري رحالنا...ولم ينظر الغادي الذي هو رائح‏

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا...وسالت بأعناق المطي الأباطح‏

14. المعنى: ليكن ذكركم الله ودعاؤكم في أيام إقامتكم في منى، وهي الأيام المعدودات الثلاثة الموالية ليوم الأضحى، وأقيموا في منى تلك الأيام فمن دعته حاجاته إلى التعجيل بالرجوع إلى وطنه فلا إثم عليه أن يترك يومين من أيام منى وهما الثاني عشر من ذي الحجة والثالث عشر منه.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/246.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هذا ذكر لله خاص في أيام مذكورة بعد قضاء مناسك الحج؛ وقد أمر الله في الآية السابقة بالذكر العام، وفى هذه الآية ذكر خاص، والأيام المعدودات التي يصحبها ذكر خاص، أيام التشريق الثلاثة، وقد نقل القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن عن أبى عمر بن عبد البر الإجماع على أن الأيام المعدودات في الآية الكريمة هي أيام منى، أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وهى أيام أكل وشرب، وذكر الله الخاص في هذه الأيام بالتصدق على الفقراء من الذبائح التي ذبحوها في يوم النحر، ورمى الجمار فيها، بعد أن يكون الحجيج قد رموا جمرة العقبة في يوم النحر؛ وفى رمى الجمار يكبر عند كل حصاة يرميها؛ وهذا بلا شك ذكر خاص.

2. رمي الجمار على ذلك الشكل في أيام منى الثلاثة عملي حسى مادى يقترن به عمل نفسي وجداني، وهو إشعار القلب بعظمة رب العالمين، وتلك الحركات الجسمية هي للدلالة على التعلق القلبي بالأرض التي بارك الله فيها، وبالتالي التعلق بمن شرفها بالانتساب إليه؛ فسماها حرمه المقدس، وبيته الآمن، وكون الحركات على هذا الشكل وبهذا الوضع ليس من الأمور التي تعلل، كما أن محاولة معرفة العلة في كون الصلاة على هذا الشكل محاولة في غير جداء، إنما هذا أمر توقيفى، قد ارتضاه رب العالمين على لسان النبيّ الكريم سبيل الزلفى إليه، وتوجه القلوب نحو ذاته العلية التي لا يحدها مكان، ولا يجرى عليها الزمان.

3. أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن هذه الأيام هي أيام منى بما روى الدارقطني والترمذي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى: (الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإن هذه الأيام يحرم الصوم فيها عند جمهور الفقهاء؛ فقد روى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله)

4. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ هذه الأيام هي التي يكون بعدها النفير إن كان قد أدى الحاج كل الأركان، وقد بين القرآن الكريم أنه لا يلزم أن يبقى الأيام الثلاثة بمنى فإن شاء بقى يومين يرمى فيهما الجمرات، ونفر قبل فجر اليوم الثالث؛ وإن شاء بقى اليوم الثالث؛ وهذا معنى الجملة الكريمة ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ أي سافر معجلا في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل‏ ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي من بقى إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه.

5. قيد الله سبحانه نفي الإثم بقوله:‏ ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ للإشارة إلى أن العبرة بتقوى القلوب فتلك الحركات الحسية من التزام مكان معين في زمان معين، ورمى الجمار الثلاث لكل جمرة سبع حصيات؛ كل هذا لا غاية له، ولا ثمرة إلا تربية التقوى وتنميتها في القلوب، لتتهذب النفس، ويربى الوجدان، ويخشى العبد الديان، فيراقبه في كل الأفعال وكل الأقوال، فيكون مجتمعا مهذبا كاملا صالحا قويا؛ لأن تهذيب الآحاد تقوية لبناء الجماعة، فلا تتنافر أجزاؤها، ولا تتباعد آحادها، وتقوم على تقوى من الله ورضوان.

6. هذه الأيام التي يقوم فيها الحجيج بذلك الذكر في البقعة المباركة، يشاركهم فيها المسلمون في كل بقاع الأرض في بعض أفعالهم، وذكرهم؛ فالحجيج ينحرون ليتحللوا، وسائر المسلمين ينحرون ليضحوا، ويشاركوا وفود الله في صدقاتهم؛ والحجيج يكبرون ويرمون الجمار، والمسلمون في الأمصار يشاركونهم في التكبير عقب الصلوات.

7. اتفق الفقهاء على أن المسلمين يسن لهم أن يكبروا عقب الصلوات من صبح يوم عرفة وهو اليوم التاسع إلى ما بعد صلاة العصر يوم عيد الأضحى؛ واقتصر أبو حنيفة على ذلك وتبع في ذلك عبد الله بن مسعود، ولكن أبا يوسف ومحمدا مع جمهور الفقهاء على أن التكبير لا ينتهي عقب صلاة عصر يوم النحر، بل يستمر إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، أي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة؛ وأن تكبير المسلمين جميعا إشعار لهم بأنهم جميعا مع الحجيج بقلوبهم وذكرهم؛ وأن المجتمع الأكبر في حرم الله هو جمعهم أجمعين، وأن أولئك الضيوف الذين حلوا في ساحة الكريم المنان هي وفودهم إلى ذلك المؤتمر الأكبر، وأن المؤمنين مهما تتباعد الديار كلهم على قلب رجل واحد في رفع راية الإسلام ونشر مبادئه الفاضلة.

8. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ختم الله سبحانه وتعالى آيات الحج التي أشار فيها إلى مناسكه، وذكر فيها بعض أعمال الحجيج الواجبة فيها، بهذه الجملة السامية، وبذلك الأمر الجازم القاطع، وهو الأمر المكون من عنصرين:

أ. أحدهما: تقوى الله.

ب. ثانيهما: العلم اليقيني بالحشر، وأنه سيكون إلى رب العالمين.

9. فى هذا إشارة إلى خلاصة التدين وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، فإن لم تؤد أية عبادة إلى هذين الأمرين، فهي صورة لا روح فيها، وشكل لا ثمرة منه، فإن لم ترب العبادة قلبا خاشعا، وعقلا خاضعا، وهوى ممنوعا، وترقبا خائفا، فهي عبادة جوفاء، وإن نسى الشخص لغفلة في نفسه أو غفوة من عقله؛ أو غشيان الضلال على قلبه ـ الحشر والحساب والعقاب والثواب فقد ضل ضلالا بعيدا.

10. الإيمان باليوم الآخر هو لب الدين، وهو الفاصل بين المهتدى والضال، فمن حسبها دنيا لا آخرة بعدها، فقد خسر خسرانا مبينا؛ خسر نفسه، فضل وأضل، وخسر حياته ففهمها أجلا محدودا لا غاية وراءها، ولا سمو بعدها، وخسر العزاء الروحي الذي يجعله يرضى بشدائد الحياة رجاء لما وراءها؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ [الأنعام‏]، وفى الجزء الثاني من الأمر تهديد بالعقاب، بعد الترغيب في الثواب، وعند الله حسن المآب.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/631.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، المراد بها أيام التشريق، وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، ولا يجب على الحاج المبيت بمنى ليلة الثالث عشر، على شريطة أن يخرج من منى في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، وقبل المغيب، وأن يكون قد اتقى الصيد والنساء، وهو محرم، وفي هذا تجد تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾، أي اتقى الصيد والنساء في إحرامه.

2. وإذا كان قد أتى النساء أو الصيد، أو غابت الشمس في اليوم الثاني عشر، وهو في منى، وجب عليه المبيت فيها حتما ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار الثلاث في صبيحته.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/307.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلخ، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضا.

2. ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾، لا نافية للجنس فقوله: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاج ولم يقيد بشيء أصلا، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، ومن هنا يظهر: أن الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.

3. ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ ليس بيانا للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام أن يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ نظير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الآية، والمراد أن هذا الحكم لمن اتقى وأما من لم يتق فليس له، ومن اللازم أن يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيئول المعنى أن الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الإحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب أن يقيم بمنى ويذكر الله في أيام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمة أهل البيت.

4. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾

5. في اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: ﴿أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، مع ما في نسك الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع والإفاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحدا.

6. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

7. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾، قال: (رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا)، و عنه عليه السلام قال: (رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنة)، و عن علي عليه السلام: (في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء)، والروايات من قبيل عد المصداق والآية مطلقة، ولما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الأولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/64.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هي أيام التشريق، يوم حادي عشر ويومين بعده، وهما يوما النفر، يرمي الحجاج فيها الجمار، ويذكرون الله عند الرمي، وينحرون لله البدن، ويذبحون ما أهدوا إذا لم يذبحوه في يوم العيد يذبحون في يومين بعده، ويذكرون الله على ما نحروا وذبحوا، قال في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام): حدثني زيد بن علي عن أبيه، عن جده عن علي عليهم السلام، قال أيام النحر ثلاثة أيام: يوم العاشر من ذي الحجة، ويومان بعده، في أيها ذبحت أجزاك، وأشهر الحج، وهو قول الله عزَّ وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، والأيام المعلومات أيام العشر، والمعدودات، هي أيام التشريق ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ يوما النفر يوم اثني عشر ويوم ثلاثة عشر ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾)

2. تفسير أشهر الحج كأنه ناظر إلى اسم الحج في الأصل الذي هو القصد، فقصد البيت والتوجه إليه يكون في تلك المدة، أما بقية أعمال الحج بعد الوصول إليه بالوصول في حرمه فبعضها بعد ذلك كما في أيام التشريق المذكورة، وذكر الله فيها منه التكبير الذي يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وغيره، قال في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام): حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (يا علي كبّر في دبر صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق صلاة العصر)، وفيه عقيب هذا: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال (التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، وفيه: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (أيام الرمي يوم النحر، وهو اليوم العاشر، يرمي فيه جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ولا يرمي يومئذ من الجمار غيرها وثلاثة أيام بعد يوم النحر يوم حادي عشر ويوم ثاني عشر ويوم ثالث عشر يرمي فيهن الجمار الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الجمرتين الأوّلتين ولا يقف عند جمرة العقبة)

3. هذه الثلاثة الأيام هي أيام التشريق، والمراد فيها ذكر الله بمنى وفيها دلالة على وجوب البقاء في منى في النهار وأنه أصل ليس لمجرد وجوب المبيت.

4. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فهما سواء في الجواز ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ بإتمام المناسك والقيام بما لزم من لوازم الحج واجتنب المعاصي من محظورات الإحرام والظلم والتعدي ومعاونة الظلمة ومدحهم، وسبّ أولياء الله وتخويفهم، وتاب إلى الله من كل معصية فهذا الذي لا إثم عليه.

5. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في المستقبل ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ لتتقوه وتستعدوا للقائه، وتعدوا للسؤال عند ذلك جواباً نافعاً وعملاً صالحاً مقبولاً، وفيها دلالة على وجوب العلم بالآخرة، وأنه لا يكفي الظن.

6. من فوائد هذه الآية الخاتمة لآيات الحج المحافظة على أعمال الحج وحراستها من الإحباط واغتنام الاستمرار على الصلاح الذي كان في الحج؛ لأنه أيسر من العودة إلى الصلاح ثانياً بعد الفساد.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/298.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، الظاهر أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق من ذي الحجة، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر منه، وهي التي فرض فيها المبيت في منى، ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، بأن ينفر في اليوم الثاني عشر، ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، كما لا مانع من البقاء إلى اليوم الثالث عشر.

2. ليس في الآية ما يدل على شرط البقاء أو شرط التخيير، أما كلمة ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام في هذه الآية: قال‏: (يرجع مغفورا له لا ذنب له)، وفي حديث آخر عن الباقر عليه السّلام‏: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ منهم الصيد، واتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم الله عليه في إحرامه)، وبذلك يكون هذا التخصيص بمن اتقى بلحاظ حالة المغفرة المستفادة من سياق الكلام.

3. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ عادت الآية من جديد للدعوة إلى التقوى بقول مطلق في جميع أعمال الإنسان في حال الحج وغيره، والتأكيد على ذلك بالإعلام بالحقيقة الإيمانية، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، فإن الخلق كلهم يحشرون إلى الله، ليواجهوا جزاء أعمالهم من خير أو شر، فإن استثارة هذه الحقيقة في وعي الإنسان يعتبر عاملا كبيرا في تنمية روح التقوى في نفسه وحياته.

4. لعلّ البقاء في منى هذه الأيام أو الليالي بعد انتهاء أعمال الحج يعتبر انطلاقة روحية تأملية، يعيش فيها الإنسان حضور الله في نفسه بما يثيره من ذكر، وبما يهجس فيه من فكر، وبما يعيشه من تأملات، وذلك في عملية مراجعة لحسابات أعماله في الماضي والحاضر في طريق تنمية أعمال‏ المستقبل، وليحصل له من خلال ذلك النتائج الروحية والعملية من خلال أفعال الحج عندما يستحضرها في نفسه في عملية تقويم تفصيلية يدرك فيها طبيعة هذه الأفعال في ما أخلص فيه، وما أتمّه منها وما قصّر فيه، ليرجع من حجه واثقا بالنتائج الكبيرة على مستوى الإيمان في الدنيا والآخرة، ونعم أجر العاملين.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/111.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ هذه الآية آخر آية وردت في بيان مناسك الحجّ وإبطال السّنن الجاهليّة في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا الله تعالى‏ ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾

2. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الأمر بقرينة الآيات السابقة ناضرة إلى الأيّام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الّتي تسمّى بلسان الروايات (أيّام التشريق) ويتّضح من اسم هذه الأيّام أنّها فترة إشراق الرّوح الإنسانية في ظل تلك المناسك العظيمة.

3. في سورة الحجّ ورد الأمر بذكر الله في‏ ﴿أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ وهنا وردت عبارة في‏ ﴿أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ فالمعروف هو أنّ الأيّام المعلومات تعني العشرة الأيّام من بداية ذي الحجّة، وأما ﴿أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ فالمراد بها أيّام التشريق المذكورة آنفا، ولكنّ بعض المفسّرين أورد احتمالات أخرى غير ذلك في شرح الآية من سورة الحجّ.

4. ﴿وَاذْكُرُوا﴾ ورد في الأحاديث الإسلاميّة أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشر صلاة في هذه الأيّام (ابتداء من صلاة الظهر من يوم العيد حتّى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي (الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام)

5. ثمّ تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي‏ ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ وهذا التعبير بالحقيقة إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر الله بين يومين أو ثلاثة أيّام.

6. جملة ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ ظاهرا قيد للتعجيل في اليومين، أي لا إثم على من تعجّل واختار اليومين أو الثلاثة، وهذا التعجيل يختص بمثل هؤلاء الأشخاص، وجاء في روايات أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد من التقوى هنا هي تجنّب الصيد، أي أنّ الأشخاص حين الإحرام يجب عليهم تجنّب الصيد أو جميع تروك الإحرام، فيمكنهم البقاء بعد عيد الأضحى يومين في منى ولأداء مناسكهم وذكر الله تعالى، أمّا من لم يتّق فيجب عليه البقاء ثلاثة أيّام هناك لأداء المراسم العباديّة وذكر الله تعالى.

7. ذهب البعض إلى أنّ جملة ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ إشارة إلى نفي كلّ إثم وذنب عن زوّار بيت الله الحرام، أي أنّ الحاج بعد أداء مناسكه عن ايمان وإخلاص ووعي يغفر له ما تقدّم من ذنبه وتزول رواسب المعاصي وأدران الذنوب من قلبه ونفسه، ويخرج من هذه العبادة التربويّة خالصا طاهرا نقيّا، فمع أنّ هذا المعنى صحيح بذاته، إلّا أنّ ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.

8. في نهاية الآية نلاحظ أمرا كليّا بالتّقوى حيث تقول الآية ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فعلى أحد هذين التفسيرين المذكورين آنفا يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانيّة في الحجّ تطهّر الإنسان من الذنوب السّابقة كيوم ولدته امّه، ولكن عليكم تقوى الله والحذر من الوقوع في الذنب مرّة أخرى.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/66.

88. من علامات المفسدين والمصلحين

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈88⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 204 ـ 207]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن مسعود:

روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، أنت تأمرني(1).

__________

(1) الطبراني في المعجم الكبير: ٨٥٨٧.

أبو الدرداء:

روي عن أبي الدرداء (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كفى بك آثما ألا تزال مماريا، وكفى بك ظالما ألا تزال مخاصما، وكفى بك كاذبا ألا تزال محدثا، إلا حديثا في ذات الله عز وجل(1).

2. روي أنّه قال: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر حلفه كثر إثمه، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه(2).

__________

(1) أحمد في الزهد: ص١٣٨.

(2) الدرّ المنثور: أحمد.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ بظلمه وسوء سيرته ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(1).

2. روي أنّه قال: إن الله‌ عز وجل دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتشفي بكم على الخير: الإيمان بالله‌ والجهاد في سبيل الله‌، وجعل ثوابه مغفرة للذنب ومساكن طيبة في جنات عدن(2).

__________

(1) الكافي: 8/289.

(2) الكافي: 5/39.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ـ واسمه أبي، وسمي: الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ـ، وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، وكان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيجالسه، ويظهر الإسلام، ويقول: إني لأحبك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقا، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدني مجلسه؛ فنزل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١١٨.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أنه مخالف لما يقوله بلسانه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾، أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ شديد الخصومة(3).

4. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ قال: الجدل، المخاصم في الباطل قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول مهلهل(4):

إن تحت الأحجار حزما وجودا... وخصيما ألد ذا مغلاق

5. روي أنّه قال: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ ﴿الْحَرْثِ﴾: الزرع، ﴿وَالنَّسْلَ﴾: نسل كل دابة(5).

6. روي أنّه قال: النسل: نسل كل دابة، والناس أيضا(5).

7. روي أنّه قال: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: ﴿الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ قال النسل: الطائر، والدواب قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت الشاعر يقول(6):

كهولهم خير الكهول ونسلهم... كنسل الملوك لا يبور ولا يخزى

8. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، أي: لا يحب عمله، ولا يرضى به(2).

9. روي أنّه قال: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس المنزل(7).

10. روي أنّه قال: لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ومرثد؛ قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، أي: لما يظهر من الإسلام بلسانه(2).

11. روي أنّه قال: ‌‌﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ نزلت في صهيب وفي نفر من أصحابه، أخذهم أهل مكة، فعذبوهم ليردوهم إلى الشرك بالله، منهم عمار، وأمه سمية، وأبو ياسر، وبلال، وخباب، وعباس مولى حويطب بن عبد العزى(8).

12. روي أنّه قال: نزلت في علي حين هرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من المشركين إلى الغار مع أبي بكر، ونام علي على فراش النبي صلّى الله عليه وآله وسلم(9).

13. روي أنّه قال: بات علي ليلة خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن المشركين على فراشه ليعمي على قريش، وفيه نزلت هذه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾(10).

14. روي أنّه قال: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمر عليا أن ينام على فراشه، فانطلق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقريش يختلفون، فينظرون إلى علي نائما على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعليه برد أخضر لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال بعضهم: شدوا عليه، فقالوا: الرجل نائم، ولو كان يريد أن يهرب لفعل، فلما أصبح قام علي فأخذوه، فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: (ما أدري) فأنزل الله تعالى في علي حين نام على الفراش: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾(11).

__________

(1) ابن إسحاق ـ كما في سيرة ابن هشام: ٢/١٧٤.

(2) سيرة ابن هشام: ٢/١٧٤.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٥.

(4) الدرّ المنثور: الطَّستيُّ.

(5) ابن جرير: ٣/٥٨٥.

(6) مسائل نافع: ٢٦٥.

(7) ابن أبي حاتم: ٣/٨٤٥.

(8) ابن عساكر: ٢٤/٢٢٢.

(9) ابن عساكر: ٤٢/٦٧.

(10) الأمالي: 1/258.

(11) روضة الواعظين: 106.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ يحرق الحرث الذي يحرثه الناس؛ نبات الأرض، ﴿وَالنَّسْلَ﴾: نسل كل دابة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كان هذا عبد حسن القول، سيء الفعل، يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيحسن القول(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٦.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٣.

أنس:

روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في خروج صهيب: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ الآية، فلما رآه قال (يا أبا يحيى، ربح البيع)، ثم تلا عليه الآية(1).

2. روي أنّه قال:لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الإمام علي أن ينام على فراشه، ويتغشى ببردته، فبات علي موطنا نفسه على القتل، وجاءت رجال من قريش، من بطونها، يريدون قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما أرادوا أن يضعوا عليه أسيافهم، لا يشكون أنه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: أيقظوه، ليجد ألم القتل، ويرى السيوف تأخذه فلما أيقظوه ورأوه عليا تركوه، وتفرقوا في طلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبادِ﴾(2).

__________

(1) الحاكم: ٣/٤٥٠.

(2) الأمالي: 2/61.

المسيب:

روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال يا معشر قريش، قد علمتم أني من أرماكم رجلا، وايم الله، لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (ربح البيع، ربح البيع)، ونزلت: ‌‌﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(1).

__________

(1) الحارث في مسنده: ٢/٦٩٣.

السجاد:

روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، نزلت في علي حين بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(1).

2. روي أنّه قال: أول من شرى نفسه الإمام علي كان المشركون يطلبون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقام من فراشه وانطلق هو وأبو بكر، واضطجع علي على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاء المشركون فوجدوا الإمام علي، ولم يجدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(2).

3. روي أنّه قال: إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله، أو يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة، وزهده فيها؟ فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة؛ يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة الباطلة حتى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة: 206]، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله‌، ويحرم ما أحل الله‌، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله‌ عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله(3).

__________

(1) الأمالي: 2/61.

(2) مناقب ابن شهر آشوب: 2/64.

(3) الاحتجاج: 2/159.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، يعني: يرأف بكم(1).

__________

(1) أبي حاتم: ٢/٣٦٩.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ علانيته في الدنيا(1).

2. روي أنّه قال: ويشهد الله في الخصومة أنما يريد الحق(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ ظالم لا يستقيم(3).

4. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ يلي في الأرض، فيعمل فيها بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فيهلك بحبس القطر الحرث والنسل، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، ثم قرأ مجاهد: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: ٤١](4).

5. روي أنّه قال: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ نبات الأرض، ﴿وَالنَّسْلَ﴾ من كل شيء من الحيوان، من الناس والدواب(4).

6. روي أنّه قال: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ بئس ما مهدوا لأنفسهم(5).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٧٥.

(2) ابن جرير: ٣/٥٧٧.

(3) ابن جرير: ٣/٥٧٩.

(4) ابن جرير: ٣/٥٨٣.

(5) ابن أبي حاتم: ٢/٣٦٨.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ الآية، أنزلت في صهيب بن سنان، وأبي ذر الغفاري جندب بن السكن؛ أخذ أهل أبي ذر أبا ذر، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضا، حتى قدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأما صهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرا، فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان، فخرج مما بقي من ماله، وخلى سبيله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٩١.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الألد الخصام: الكاذب القول(1).

2. روي أنّه قال: أنزلت هذه الآية في مسلم لقي كافرا، فقال له: قل: لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مني دمك ومالك إلا بحقها، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله، لأشرين نفسي لله، فتقدم، فقاتل حتى قتل(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٨٠.

(2) ابن جرير: ٣/٥٩٣.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية، فقال: النسل: الولد، والحرث: الأرض(1).

2. روي أنّه قال: أما قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبادِ﴾ فإنها نزلت في الإمام علي حين بذل نفسه لله ولرسوله، ليلة اضطجع على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما طلبته كفار قريش(2).

3. روي أنّه قال: الكبر مطايا النار(3).

4. روي أنّه قال: العز رداء الله‌، والكبر إزاره، فمن تناول شيئا منه أكبه الله‌ في جهنم(4).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/100.

(2) تفسير العيّاشي: 1/101.

(3) ثواب الأعمال: ص 265.

(4) الكافي: 2/309.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ شديد القسوة في معصية الله، جدل بالباطل، إذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة(1).

2. روي أنّه قال: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ يفسد في أرض، مهلك لعباد الله(2).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٨١ م.

(2) أبي حاتم: ٢/٣٦٦.

القرظي:

روي عن أبي سعيد المقبري: أنه ذاكر محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ)، فقال: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: أعلي يجترئون؟ وبي يغترون؟ وعزتي، لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت، فقال محمد بن كعب: إنّ الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامَّة بعدُ(1).

__________

(1) سعيد بن منصور: ٣٦١.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: (﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ فالألد: الشّديد الخصومة بالباطل.. والجمع لدّ(1).

2. روي أنّه قال: (﴿الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ فالحرث: الزرع، والنّسل: نسل كل دابة(1).

3. روي أنّه قال: (﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ معناه الفراش(1).

4. روي أنّه قال في سياق كلام عند ذكره لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾: إنما الفساد في الأرض: العمل بمعصية الله؛ قالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30]، وإنما هلاك الحرث: هلاك الدين، قال الله عز وجل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: 20]، وحرث الآخرة: العمل الذي يدين الله به عباده من الخير؛ وإنما هلاك النسل: أمر نسل الناس أن يحملوا غير دين الحق.. قال الله جل ثناؤه: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7، 8](2).

5. روي أنّه قال: (﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ معناه يبيعها(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 97.

(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/95.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام(1).

2. روي أنّه قال: ﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾: أعوج الخصام(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ الآية، نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام، ويعلم الله إني لصادق، فأعجب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك منه، فذلك قوله: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾، ثم خرج من عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر؛ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ الآية(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٧٢.

(2) ابن جرير: ٣/٥٧٩.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ هذا عبد كان حسن القول، سيِّءَ العمل، يأتي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيحسن له القول، ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الآية، كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء، فخلوا عني، فألحق بهذا الرجل، فأبوا، ثم إن بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء، وخلوا عنه، ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج؛ فأنزل الله ـ عز وجل ـ على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الآية، فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال، فقال له عمر: ربح البيع قال وبيعك فلا يخسر قال وما ذاك؟ قال أنزل فيك كذا وكذا(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٧٦.

(2) ابن جرير: ٣/٥٩٢.

شبرمة:

روي عن عبد الله بن شبرمة (ت 144 هـ) أنّه قال: من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها خصم، ولا يطيق الحق من بالى على من به دار الأمر، ونصل الصبر التصبر، ومن لزم العفاف هانت عليه الملوك والسوق(1).

__________

(1) البيهقي: ٨٤٦٢.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: كنت جالسا بمكة، فسألوني عن هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ الآية، قلت: هو الأخنس بن شريق، ومعنا فتى من ولده، فلما قمت أتبعني، فقال: إن القرآن إنما نزل في أهل مكة، فإن رأيت أن لا تسمي أحدا حتى تخرج منها فافعل(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٣.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: الحرث: الذرية(1).

2. روي أنّه قال: إن الحرث في هذا الموضع: الدين، والنسل: الناس(2).

3. روي أنّه قال: إيّاكم والخصومة، فإنّها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن(3).

4. روي أنّه قال: (الكبر رداء الله‌، فمن نازع الله‌ شيئا من ذلك أكبه الله‌ في النار(4).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/100.

(2) مجمع البيان: 2/534.

(3) اصول الكافي: 2/301.

(4) الكافي: 2/310.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا﴾ يقول: يعني: يمينه التي حلف بالله، وما ﴿فِي قَلْبِهِ﴾ أن الذي يقول حق(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ يقول جدلا بالباطل، كقوله سبحانه: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧]، يعني: جدلاء، خصماء(2).

3. روي أنّه قال: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي؛ ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ يعني: في الأرض(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾، يعنى: الحمية، نظيرها في ص قوله سبحانه: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: ٢]، يعني: حمية بالإثم، ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ شدة عذاب، ‌‌﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾(1).

5. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وذلك أن كفار مكة أخذوا عمارا وبلالا وخبابا وصهيبا، فعذبوهم لإسلامهم، حتى يشتموا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأما صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان القرشي ـ وكان شخصا ضعيفا ـ فقال لأهل مكة: لا تعذبوني، هل لكم إلى خير؟ قالوا: وما هو؟ قال أنا شيخ كبير، لا يضركم إن كنت معكم أو مع غيركم، لئن كنت معكم لا أنفعكم، ولئن كنت مع غيركم لا أضركم، وإن لي عليكم لحقا لخدمتي وجواري إياكم، فقد علمت أنكم إنما تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي، واتركوني وديني، غير راحلة، فإن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني، فقال بعضهم لبعض: صدق، خذوا ماله؛ فتعاونوا به على عدوكم، ففعلوا ذلك، فاشترى نفسه بماله كله غير راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام بين أظهرهم ما شاء الله، ثم ركب راحلته نهارا حتى أتى المدينة مهاجرا، فلقيه أبو بكر، فقال: ربح البيع، يا صهيب، فقال: وبيعك لا يخسر، فقال أبو بكر: قد أنزل الله فيك: ﴿ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رَءُوفٌ بالعباد﴾، يعني: للفعل؛ فعل الرومي صهيب بن سنان، مولى عبد الله بن جدعان(2).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٧.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٨.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: قلت لعطاء: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ يقول قولا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ إذا غَضِب(2).

3. روي أنّه قال: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾: قطع الرحم، وسفك الدماء؛ دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تفعل كذا وكذا؟ قال أتقرب به إلى الله ـ عز وجل ـ(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٧٦.

(2) ابن جرير: ٣/٥٨١.

(3) ابن جرير: ٣/٥٨١ ـ: ٥٨٢.

مالك:

روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: إنما السعي في كتاب الله: العمل والفعل، يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى﴾ [عبس: ٨ ـ ٩]، وقال: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ [النازعات: ٢٢]، وقال: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: ٤](1).

__________

(1) موطأ مالك: ١/١٦٣.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ إلى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فيقول: أيْ رسولَ الله، أشهد أنّكَ جئتَ بالحق والصدق من عند الله قال حتى يُعْجَب النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله، ثم يقول: أما واللهِ، يا رسول الله، إنّ الله لَيْعَلَمُ ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني، فذلك قوله: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ قال هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ حتى بلغ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] بما يشهدون أنّك رسول الله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٧٦.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾:

أ. قيل‏: إن رجلا من الكفار كان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيخبره أنه يحبه وكان يعد له الإيمان والمتابعة له في دينه، ويحلف على ذلك، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يعجبه ذلك ويدنيه في المجلس، وفى قلبه خلاف ذلك، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ الآية.

ب. وقيل‏: إنها نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يرون من أنفسهم الموافقة له في الدين، ويظهرون أنهم على دينه ومذهبه، ويضمرون الخلاف له في السر والعداوة، ويحلفون على ذلك، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ الآية.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾:

أ. قيل‏: أشد الخصام.

ب. وقيل‏: أجدل بالباطل.

ج. وقيل‏: أظلم في الخصومة، لا يستقيم أبدا.

3. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ وجوه:

أ. قيل: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ أي يقتل النساء، وهن حرث، كقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 223]، وفى إهلاك النساء إهلاك النسل.

ب. وقيل‏: أراد بالحرث: الحرث نفسه ـ وهو الزرع، والنسل والدواب ـ يحرق الحرث، ويعقر الدواب وكل حيوان.

ج. وقيل‏: إنهم كانوا يسعون بالفساد ويعملون بالمعاصي، فيمسك الله تعالى عنهم المطر، فيهلك كل شيء من الناس وغيرهم.

د. ويحتمل‏: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ قتل ولد آدم، وفى إهلاكهم إهلاك كل حرث؛ لأنهم هم الذين يحرثون ويتناسلون، والله أعلم.

4. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ عن صنيعك، وهو السعي في الأرض بالفساد، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه، قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ يقول: أعرض عنه، واتركه وصنيعه، فإن جهنم مصيره ومأواه، وروى عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: إن أبغض الناس من يقال له: اتق الله، فيقول: عليك نفسك)

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ﴾ أي يهلك نفسه، أي يبيع نفسه في عبادة الله تعالى وطاعته، فذلك شراؤه إياها.

ب. ويحتمل: ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ﴾ أي يبذل نفسه للجهاد في سبيل الله، وهو كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة: 111]، فهؤلاء بذلوا أنفسهم لذلك بتفضيل الله عزّ وجل ببذل الجنة لهم، فهو الشراء.

5. قوله تعالى: ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أن أراد كل العباد، وهو أن الكافر إذا أسلم وأخلص دينه لله تعالى يتغمده في رحمته ويقبل منه ذلك، ويتجاوز عنه عما كان منه في الشرك والكفر، والله أعلم.

ب. ويحتمل: أن أراد بالعباد: المؤمنين خاصة، رحيم بهم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/101.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾: أي ومن الناس من يبيع نفسه من الله(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 283.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي في حب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ يقول اللهم علي به وضميره بخلافه وقوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي شديد الخصومة ويجوز أن يكون الخصام جمع خصم، ويجوز أن يكون مصدر المخاصمة وهو ألد أي ذو جدل، وقد روى ابن أبي مليكة يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: أبغض الخلق إلى الله الألد الخصم) وقيل: إن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق.

2. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ أي انصرف ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ أي بالظلم والكفر ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ أي بالسبي والقتل ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي الفساد وأهله، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي دعته العزة إلى الإثم.

3. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ يبتع نفسه كما قال ﴿وَشَرَوْهُ﴾ [يوسف:20]، أي باعوه والعمل الذي باع به نفسه هو الجهاد، وقال أمير المؤمنين هذه الآية نزلت في كل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/102.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: يعني من الجميل والخير.

ب. الثاني: من حب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والرغبة في دينه.

2. في قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: أن يقول: اللهم اشهد عليّ فيه، وضميره بخلافه.

ب. الثاني: معناه: وفي قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه.

ج. الثالث: معناه: ويستشهد الله على صحة ما في قلبه، ويعلم أنه بخلافه، وهي في قراءة ابن مسعود (ويستشهد الله على ما في قلبه)

3. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ والألد من الرجال الشديد الخصومة، وفي الخصام قولان:

أ. أحدهما: أنه مصدر، وهو قول الخليل.

ب. الثاني: أنه جمع خصيم، وهو قول الزجاج.

4. في تأويل‏ ﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ هنا أربعة أوجه:

أ. أحدها: أنه ذو جدال، وهو قول ابن عباس.

ب. الثاني: يعني أنه غير مستقيم الخصومة، لكنه معوجها، وهذا قول مجاهد، والسدي.

ج. الثالث: يعني أنه كاذب، في قول الحسن البصري.

د. الرابع: أنه شديد القسوة في معصية الله، وهو قول قتادة.

5. روى ابن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (أبغض الرّجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم)، وفيمن قصد بهذه الآية وما بعدها قولان:

أ. أحدهما: أنه صفة للمنافق، وهذا قول ابن عباس، والحسن.

ب. الثاني: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وهو قول السدي.

6. في قوله ﴿تَوَلَّى﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يعني غضب، حكاه النقاش.

ب. الثاني: انصرف، وهو ظاهر قول الحسن.

7. في قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: يفسد فيها بالصد.

ب. الثاني: بالكفر.

8. في قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: بالسبي والقتل.

ب. الثاني: بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾:

أ. قيل: معناه لا يحب أهل الفساد.

ب. وقال بعضهم: لا يمدح الفساد، ولا يثني عليه.

ج. وقيل: أنه لا يحب كونه دينا وشرعا.

د. ويحتمل: لا يحب العمل بالفساد.

10. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: معناه دعته العزة إلى فعل الإثم.

ب. الثاني: معناه إذا قيل له اتق الله، عزت نفسه أن يقبلها، للإثم الذي منعه منها.

11. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ يشري نفسه أي يبيع، كما قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾، [يوسف: 20] أي باعوه، قال‏ الحسن البصري: العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله.

12. اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ على قولين:

أ. أحدهما: نزلت في رجل، أمر بمعروف ونهى عن منكر، وقتل، وهذا قول علي، وعمر، وابن عباس.

ب. الثاني: أنها نزلت في صهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله، ولحق بالمسلمين، وهذا قول عكرمة.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/265.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾:

أ. قال الحسن: المعني بهذه الآية المنافق.

ب. وقال قوم: المعني: بها المرائي.

ج. وقيل: إنها نزلت في الأخنس بن شريق ذكره السدي وغيره.

2. الاعجاب هو السرور بالشيء سرور العجب بما يستحسن، ومنه العجب بالنفس، والسرور بها سرور العجب من الشيء استحساناً له، وذلك إذا تعجب من شدة حسنه، وتقول: عجب عجباً، وتعجب تعجباً، وعجبه تعجيباً، وأعجبه إعجاباً، واستعجب استعجاباً أي اشتد تعجبه، والعجاب: العجيب، وأعجبني هذا: إذا كان حسناً جداً، والمعجب بنفسه أو بالشيء معروف، وقال الأزهري: العجب كل شي غير مألوف، وعجب الذَنب: العظم الذي ينبت عليه شعر الذنب في المعز، ورأيت أعجوبة وأعاجيب، وأصل الباب العجب.

3. ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي وقت الحياة الدنيا فالحيّ هو من لا يستحيل، وهو على ما هو عليه أن يكون عالماً قادراً.

4. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ فأصل الاشهاد: هو الإقرار بالشيء ليشهد به المقر عنده، والمراد في الآية: من يقرّ بالحق، ويقول: أللهم اشهد عليّ، وضميره على خلافه.

5. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ يقال لدّه يلدّه لدّاً: إذا غلبه في الخصومة، ولدّه يلدّه: إذا أوجره في أحد خقي فمه، ولدّت تلدّ لدّاً وهو شدة الخصومة، وجانبا كل شيء لديداه، فمنه لديدي الوادي، ولديدي العنق: صفحتاه، ولدّه عن كذا: إذا حبسه، والتلدّد: التلفت عن تحير وأصل الباب اللديد: الجانب.

6. الخصام: هو المخاصمة، تقول: خاصمه يخاصمه مخاصمة، وخصاماً، وتخاصماً، واختصما اختصاماً، واستخصمهم استخصاماً، والخُصم طرف الرواية الذي بحيال العزلاء من مأخرها، وطرفها الأعلى وهو العصم، والأخصام من‏ كل شيء جوانبه، كجوانب الخوالق الذي فيه العرى، يحمل به، وأصل الباب الخصومة.

7. اختلف في معنى ﴿أَلَدُّ﴾ في الآية:

أ. قيل: هو الشديد الجدل بالخصومة الى ما يريد، قال الشاعر:

ثم أردّي وبهم من تُردي‏...تلدّ أقران الخصوم اللدّ

ب. وقال الزجاج: الخصام جمع خصم، والمعنى هو أشد المخاصمين خصومة.

ج. وقال غيره: هو مصدر.

8. معنى الآية أنه تعالى وصف المنافقين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾ يا محمد ﴿قَوْلُهُ﴾ في الظاهر، وباطنه بخلافه‏ ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ جدل مبطل، ومن قرأ ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ ـ بفتح الياء ـ معناه أنه تعالى يشهد عليه بنفاقه، وإظهاره خلاف ما يبطن، والقراءة العامة هي الأولى.

9. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ ضمير عمن تقدم ذكره وهو ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ والتوّلي:

أ. قيل: هو الانحراف، والزوال عن الشيء الى خلاف جهته، والسعي هو الاسراع في المشي.

ب. وقيل: إنه العمل، وقال الأعشى:

وسعى لكندَة غير سعي مواكل‏...قيسٌ فضرّ عدوّها وبنى لها

ألد أقران الرجال اللد، أي عمل لها.

10. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ دخلت الألف واللام في الأرض، لتعريف الجنس، لأن الأرض وإن كانت واحدة بعينها فلو خلق الله مثلها، لكانت أرضاً، كما أن الشمس، والقمر كذلك، وفارق ذلك زيداً وعمراً ـ في أسماء الأعلام ـ وامتناع دخول الألف واللام عليهما، لأن الله تعالى لو خلق مثل زيد لم يجب أن يكون زيداً، على أن الأرضين السبعة كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ فعلى هذا لا يتوجه السؤال.

11. الإفساد: هو عمل الضرر بغير استحقاق، ولا وجه من وجوه المصلحة.

12. الإهلاك: العمل الذي ينفي الانتفاع.

13. ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ نصب بإضمار (أن) ويجوز إضمارها، فتقول: لأن يفسد فيها، ولا يجوز إظهارها في قوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وإنما جاز حذفها في ﴿لِيُفْسِدَ﴾ لدلالة الكلام عليها مع كونها في حروف الاضافة حتى حذفت في قولهم: غلام زيد، وما أشبهه مع كثرته في الكلام، وجاز إظهارها، لأنه الأصل من غير مانع في الاستعمال، وإنما امتنع في قوله: ﴿لِيَذَرَ﴾ لما يرجع الى المعنى، لأن معناه كمعنى (ما كان زيد ليفعل) أي ما كان فاعلا، فلما تضمن غير المعنى الذي توجبه صورته لم يتصرف في لفظه، ولأنه لما كان محمولا على تأويل معنى لم يذكر، حمل أيضاً على تأويل لفظ لم يذكر، والفرق بين دخول اللام فيها أن اللام دخلت في ﴿لِيُفْسِدَ﴾ على إضافة السعي الى الفساد، على أصل الاضافة في الكلام، ودخولها في ﴿لِيَذَرَ﴾ فإنما هو لتأكيد النفي بتحقيق تعلقه بالخبر كما دخلت الباء في (ليس زيد بقائم)، لأن النفي لما كان للخبر وولي حرف النفي الاسم، دخلت الباء، لتدل على اتصاله في المعنى بحرف النفي.

14. الحرث: الزرع، والنسل: العقب من الولد، وقال الضحاك: الحرث: كل‏ نبات، والنسل: كل ذات، ويقال: نسل ينسل نسولًا: إذا خرج، فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو شعر الحمار أو ريش الطائر، والنسالة: قطعة من الوبر، قال الله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ أي يسرعون، لأنه إسراع الخروج بحدّة.

15. النسل: الولد، ما نسل بعضه من بعض، والناس نسل آدم، لخروجهم من ظهره، والنسل والنسلان: عدو من عدو الذئب فيه اضطراب، والنسيلة: فتيلة السراج، وأصل الباب النسول: الخروج، وحكى الزجاج: أن الحرث: الرجال، والنسل: الأولاد، وذكر الأزهري: أن الحرث: النساء، والنسل الأولاد، لقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾

16. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ يدلّ على فساد قول المجبرة: إن الله تعالى يريد القبائح، لأن الله تعالى نفى عن نفسه محبة الفساد، والمحبة هي الارادة، لأن كل ما أحب الله أن يكون، فقد أراد أن يكون، وما لا يحب أن يكون لا يريد أن يكون.

17. معنى الآية: إذا خرج هذا المنافق من عندك يا محمد غضبان، عمل في الأرض بما حرّم الله عليه وحاول معصيته، وقطع الطريق، وأفسد النسل، والحرث على عباده، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾

18. في المعني بهذه الآية ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال ابن عباس: إنه كل منافق.

ب. الثاني:قال السدي: إنه الأخنس بن شريق، والاتقاء طلب السلامة بما يحجز من المخافة، واتقاء الله إنما هو اتقاء عذابه.

19. في قوله تعالى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن أخذته العزة الى الإثم، كما تقول: أخذت فلاناً بأن يفعل: أي دعوته الى أن يفعل‏، ومعنى قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ هو الاشعار بالدليل على نفاقه، لفضيحته بذلك عند المؤمنين ـ على ما قاله قتادة ـ ويجوز أن يكون الذمّ له على تلك الحال القبيحة.

ب. الثاني: أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه من الكفر، عن الحسن.

20. ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الوطء، وقيل لجهنم مهاد، لوجهين:

أ. أحدهما: قال الحسن: معناه القرار هاهنا، والقرار كالوطأ في الثبوت عليه.

ب. الثاني:لأنها بدل من المهاد كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأنه موضع البشرى بالنعيم على جهة البدل منه.

21. المهاد في اللغة: الوطء من كل شيء تقول: مهدت الفراش تمهيداً، وكل شيء وطأته فقد مهدته، وتمهد الشيء: إذا يوطأ، وكذلك امتهد امتهاداً، ومهد الصبي معروف، وجمع المهاد، مُهد، وثلاثة أمهدة و﴿الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ لأجل التوطئة للنوم، والقيام عليها، وأصل الباب التوطئة.

22. الأخذ: ضد الإعطاء، والعزة: القوة التي يمتنع بها من الذلة.

23. معنى الآية: أن هذا المنافق الذي نعتّه لك بأنه يعجبك قوله في الحياة الدنيا ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ في سعيك في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل، دخلته عزة وحمية، فقال تعالى: فكفاه عقوبة من ضلاله أن يصلى نار جهنم، فإنها بئس المهاد لمن يصلاها.

24. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾:

أ. قال قتادة: نزلت هذه الآية في المهاجرين والأنصار.

ب. وقال عكرمة: نزلت في أبي ذرّ الغفاري: جندب بن السكن، وصهيب بن سنان، لأن أهل أبي ذر أخذوا أبا ذر، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع مهاجراً عرضوا له، وكان بمر الظهران، فانفلت أيضاً منهم حتى قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع مهاجراً عرضوا له، فانفلت حتى نزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأما صهيب، فإنه أخذه المشركون من أهله فافتدى منهم بماله ثم خرج مهاجراً، فأدركه منقذ بن ظريف بن خدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلّى سبيله.

ج. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لما أرادت قريش قتله، حتى خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وفات المشركين أغراضهم، وبه قال عمر بن شبه.

25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾:

أ. روي عن علي عليه السلام، وابن عباس: أن المراد بالآية: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ب. وقال الحسن: هي عامة في كل من يبيع نفسه لله بأن يقيم نفسه في جهاد عدوّه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وغير ذلك مما أمر الله به، وتوّعد على خلافه.

26. ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ معناه يبيع نفسه، وقد بينا فيما مضى أن الشراء يكون بمعنى البيع، كما قال ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ أي باعوه وقال الشاعر:

وشريت برداً ليتني‏...من بعد برد كنت هامه‏

أي بعت، والشراء استبدال العوض بالثمن، وشرى باع واشترى ابتاع، وشرا هاهنا مجاز، لأن أصله في الأثمان من العين، والورق، لذلك لا يقال: باع متاعه إذا تصدق به، لأن الأظهر إذا أطلق أنه باعه بالثمن.

27. ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ معناه طلب مرضات الله، ومثله (حذر الموت) قال الشاعر:

وأغفرُ عوراءَ الكريم ادّخاره‏...وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

ولا يجوز قياساً على ذلك فعله زيداً أي لزيد، ويجوز فعله خوفاً، لأن في ذكر المصدر دليلا على العرض الداعي الى الفعل، وليس كذلك ذكر زيد، والمرضاة والرضى واحد وهو ضد السخط.

28. ﴿وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ قد بينا فيما مضى معنى الرؤوف، والخلاف فيه، ومعناه ذو رحمة واسعة بعبده الذي شرى نفسه له في جهاد من جاهد في أمره من أهل الشرك، والفسوق، وإنما ذكر الرؤوف بالعباد هنا للدلالة على أنه انما رغّب العبد في بيع نفسه بالجهاد في نفسه رأفة به، وحسن نظر له، ليبتليه من الثواب المستحق على عمله ما لا يجوز أن يصل إليه في جلالته إلا بتلك المنزلة.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/178.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. أعجبه كذا إعجابًا، والعجب ما يتعجب منه، ويكون خلاف العادة.

ب. الأَلَدُّ: الشديد الخصومة، لددت لدًّا، وهو أشد الخصومة، ومنه: ﴿قَوْمًا لُدًّا﴾

ج. الخصام: جمع خصم، عند الزجاج، وهو من الخصومة، وكأنه قيل: هو أشد المخاصمين خصومة، وقيل: هو مصدر، عن الخليل، ويقول: خاصمه خصامًا.

د. تولى: أعرض.

هـ. أشهد يشهد إشهادًا إذا أقر عند غيره ليشهد به.

و. النسل: الولد، وأصله النسول، وهو الخروج، وسمي الأولاد نسلاً لتناسل بعضهم بعد بعض.

ز. المهاد: الوِطء من كل شيء.

ح. الأخذ: خلاف الإعطاء.

ط. العزة: القوة التي يمتنع بها من الذلة.

ي. يشري: يبيع، قال الشاعر:

وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي مِنْ بَعْـ... ـد برْدٍ كنتُ هَامَهْ

أي بعت، وقد جاء ﴿شرى﴾ بمعنى: ﴿اشْتَرَى﴾، والأول أكثر، والأصل فيه الاستبدال، والبيع: استبدال الثمن بالعوض، والشراء: استبدال العوض بالثمن، ومنه: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾

ك. الرأفة: الرحمة، والرؤوف الرحيم: كثير الرحمة.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾:

أ. قيل: نزلت في الأخنس الثقفي حليف بني زهرة، واسمه أُمَيٌّ، عن السدي والكلبي، وسمي أخنس؛ لأنه خنس بجماعة بني زهرة من قتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر قال لهم: إن محمدًا ابن أختكم، فإن يك صادقًا لم تغلبوه، وكنتم أسعد الناس بصدقه، وإن يك كاذبًا فأنتم أحق من كف عنه، ويكفيكموه أوباش العرب، قالوا: الرأي ما رأيت، فانصرفوا، وكان حلو الكلام، فيجلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويظهر الإسلام، ورسول الله يقبل عليه، ولا يعلم باطنه، ثم بَيَّتَ بنيِ ثقيف، وأهلك مواشيهم، وأحرق زروعهم، وكان حسن العلانية سيئ السر.

ب. وعن ابن عباس والضحاك: نزلت في سرية الرجيع، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرًا من علماء أصحابك مكرًا منهم، فبعث جماعة فيهم خبيب بن عدي، فنزلوا ببطن الرجيع، وأتاهم الخبر، فركب سبعون راكبًا، وأحاطوا بهم، وقتلوهم، وحمى الدبر رأس عاصم بن ثابت، وأسروا خبيبًا، ثم قتلوه وصلبوه، وفيهم نزلت الآية، ولهم قصة طويلة.

ج. وقيل: نزلت الآية في المنافقين، عن الحسن، وقيل: في المرائين يخدعون بلسانهم، فإذا تولوا ظلموا وأفسدوا.

3. ثم بَيَّنَ تعالى حال المنافقين بعد ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ أي تستحسن كلامه يا محمد، ويعظم في قلبك، والعجب كل شيء يعظم في قلبك: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني يقول: آمنت بك وأنا لك صاحب، ويقول: اللهم اشهد، فهو معنى قوله: ﴿وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ يعني يضمر خلاف ما يظهر من القول فبإضماره يشهد الله على ذلك.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾:

أ. قيل: شديد الخصومة.

ب. وقيل: أعوج في الخصومة لا يستقيم على خصومة عن مجاهد.

ج. وقيل: كاذب، عن الحسن.

د. وقيل: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل، عن قتادة.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإذَا تَوَلَّي﴾:

أ. قيل: أعرض، عن الحسن.

ب. وقيل: ولَّى عن قوله الذي أعطاه، عن ابن جريج.

ج. وقيل: ملك الأمر فصار واليًا، عن الضحاك.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾:

أ. قيل: أي عمل فيها.

ب. وقيل: سار من عندك عن الأصم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾:

أ. قيل: ليقطع الرحم، ويسفك الدماء، عن ابن جريج.

ب. وقيل: ليظهر الكفر ويعمل بالمعاصي، عن الأصم وغيره.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾:

أ. قيل: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ النبات: ﴿وَالنَّسْلَ﴾ الأولاد المراد نسل كل حي.

ب. وقيل: الحرث: الرجال، والنسل، الأولاد، ذكره الأصم.

9. ﴿وَالله لَا يُحِبُّ﴾ لا يريد: ﴿الْفَسَادَ﴾ الكفر والمعاصي.

10. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾:

أ. قيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، عن السدي.

ب. وقيل: نزلت في كل منافق، عن ابن عباس.

11. ثم بَيَّنَ تعالى صفة من تقدم من المنافقين، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله﴾:

أ. قيل: خَفْهُ ولا تَعْصِهِ.

ب. وقيل: اتق عذابه.

ج. وقيل: اتق الله واجعل باطنك كظاهرك، عن الأصم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾:

أ. قيل: أي حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل في الإثم، ودعته إليه.

ب. وقيل: أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه من الكفر، عن الحسن.

ج. وقيل: منعته الأنفة عن قبول الحق فيرجع عن قبوله استخفافًا بمواعظه.

13. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي كفاه عذاب جهنم جزاء ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾:

أ. قيل: أي القرار، عن الحسن.

ب. وقيل: لأنه بدل من المهاد، فسمي باسمه.

14. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾:

أ. قيل: نزلت في صهيب مولى عبد الله بن جدعان فتنه المشركون ليرجع عن دينه، وقيل: خرج مهاجرًا فأخذوه فقال: أنا شيخ لا أنفعكم بأن أكون معكم، ولا أضركم بأن أكون عليكم، فخذوا مالي واتركوني، فأخذوه وخلوه، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، عن عكرمة.

ب. وقيل: نزلت في قصة وقعة الرجيع لما قتل خبيب بن عدي شرى الزبير والمقداد أنفسهما لإنزاله من خشبته، وقد تقدم ذكر القصة، فنزلت الآية، عن ابن عباس والضحاك.

ج. وقيل: نزلت في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر، عن عمر وعلي وابن عباس.

د. وقيل: نزلت في المهاجرين والأنصار، عن قتادة، قال: ما هم أهل حروراء، ولكنهم المهاجرون والأنصار.

هـ. وقيل: نزلت في المجاهدين، عن الحسن وأبي علي.

و. وقيل: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ابن عباس: أرى ههنا من إذا أُمِرَ بالمعروف أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم فيقول هذا: وأنا أشري نفسي، فقاتله، فكان إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا قرب الكعبة.

ز. وقيل: نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه إلى الغار، عن ابن عباس، وروي أنه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله تعالى بك الملائكة؟ فنزلت الآية بين مكة والمدينة، عن السدي.

15. عاد الله تعالى إلى وصف المؤمن الآمر بالمعروف في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾؛ لأن القائل هو المؤمن، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي يبيع نفسه ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله﴾ أي طلب رضا الله، ويشري ههنا اتساع؛ لأنه ليس ههنا بيع ومبيع على الحقيقة، وإنما أطلق عليه الاسم؛ لأنه فعل ما فعل لطلب مرضاته كالبائع يطلب الثمن بالمبيع: ﴿وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ رحيم بهم محسن إليهم بضروب النعم.

16. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن النفاق يقبح في الدين.

ب. أن الإيمان ليس بمجرد قول.

ج. جواز أن يحكم له بالإسلام في الظاهر، وإن كان يستسر خلافه.

د. أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يعلم الغيب، فيكون الإمام أولى بذلك.

هـ. أنه لا يعتبر القسم؛ لأنهم كانوا يحلفون كاذبين.

و. أنه لا يريد المعاصي؛ لأن المحبة متى علقت بالفعل، فالمراد الإرادة، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في الإرادة.

ز. بطلان قولهم في المخلوق؛ لأنه لو خلق الفساد لأحبه؛ لاستحالة أن يخلق شيئًا لا يحبه.

ح. أن أفعال العباد فعلهم؛ إذ لو كان خلقًا له لما صح ردعه بقوله: ﴿اتَّقِ الله﴾، ولا صح أن تأخذه العزة بالإثم، ولا صح أن يُذَم وُيتَوعَّد بالعقاب.

ط. أن من دعي إلى حق فتكبر عن قبوله كان ذلك كبيرة منه.

ي. وتدل على أن هذا النوع من الصنيع يجري مجرى التَّجَرُّؤ على الله، فيقرب من الكفر.

ك. أنه لا عذاب وراء عذاب جهنم، لذلك قال: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾

ل. تفخيم أمر الجهاد، ومدح من يبيع نفسه في الجهاد والأمر بالمعروف.

م. عظيم الأمر بالمعروف، وقد قال النبي: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)

ن. أن الله تعالى كاف للعباد رأفة ورحمة.

س. بطلان مذهب الجبر؛ لأنه وصف نفسه بالرأفة والرحمة، ومن خلق عباده للنار وعذبهم من غير فعل يحدث من جهتهم، بل خلق فيهم الكفر، وكلف ما لا يطاق، ثم يعذب عليها، فهذا بعيد من الرأفة؟ نعوذ بِالله من قول يؤدي إلى سوء الثناء على رب العالمين.

17. قراءات وحجج:

أ. القراءة الظاهرة المجمع عليها: ﴿وَيُشْهِدُ﴾ بضم الياء من أشهد: ﴿وَيُشْهِدُ﴾ بفتح الياء. والهاء.: ﴿الله﴾ رفع. وفي مصحف أبي ﴿ويستشهد الله﴾. وهو تفسير لقراءة العامة.

ب. قرأ أبو جعفر والحسن: ﴿وَيُهْلِكَ﴾ برفع الكاف على الابتداء، وقراءة العامة بنصبها على العطف.

ج. قرأ الكسائي بميل: ﴿مَرْضَاتَ﴾ كل القرآن؛ ليدل على الأصل لمكان الياء من رضي يرضى، والباقون بالتفخيم؛ لمكان الفتح الذي قبله.

18. مسائل نحوية:

أ. ﴿ابْتِغَاءَ﴾: نصب لأنه مفعول له، كأنه قيل: لابتغاء مرضات الله، ثم نزع اللام منه، فوصل الفعل إليه فنصبه.

ب. جاز: فَعَلَهُ خوفًا، أي للخوف، ولم يجز: فَعَلَهُ زيدًا أي لزيد: لأن في ذكر المصدر دليلاً على الغرض الداعي إلى الفعل، ولا كذلك ذِكْر زيد، ولأنه في قوله: فعله لزيد يحتاج إلى حذفين؛ لأن معناه لسبب زيد، أو لأجل زيد، ولا يحتمل الكلام حذفين كما احتمل واحدًا.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/833.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الإعجاب: هو سرور المعجب بما يستحسن، ومنه العجب بالنفس: وهو سرور المعجب من الشيء استحسانا له، وذلك إذا تعجب من شدة حسنه، تقول: عجب وتعجب، وعجبه غيره، وأعجبه واستعجب الرجل: إذا اشتد تعجبه، قال الأزهري: العجب كل شئ غير مألوف.

ب. الألد: الشديد الخصومة، تقول: لد يلد لدودا، ولده يلده: إذا غلبه في الخصومة، ولد الدواء في حلقه: إذا أوجره في أحد شقي فمه، واللديدان: جانبا الوادي، ولديدا كل شئ: جانباه، والتلدد: التلفت عن تحير.

ج. الخصام قيل: إنه جمع الخصم، عن الزجاج، وفعل إذا كان صفة فإنه يجمع على فعال، نحو: صعب وصعاب، وإذا كان اسما فإنه يجمع في القلة على أفعل، وفي الكثرة على فعال، كفرخ وفراخ، وقيل: الخصام مصدر كالمخاصمة، عن الخليل.

د. التولي: هو الانحراف والزوال عن الشئ إلى خلاف جهته.

هـ. سعى قد يكون بمعنى عمل، وقد يكون بمعنى أسرع، قال الأعشى:

وسعى لكندة سعي غير مواكل...قيس، فضر عدوها، وبنى لها

أي: عمل لكندة.

و. الإفساد: هو عمل الضرر بغير استحقاق ولا وجه من وجوه المصلحة.

ز. الإهلاك: العمل الذي ينفي الانتفاع، والحرث: الزرع.

ح. ﴿وَالنَّسْلَ﴾: العقب من الولد، وقال الضحاك: الحرث كل نبات ﴿وَالنَّسْلَ﴾: كل ذات روح، ويقال نسل ينسل نسولا: إذا خرج فسقط، ومنه نسل وتجر البعير أو ريش الطائر، والناس نسل آدم لخروجهم من ظهره، وأصل باب النسول الخروج.

ط. الاتقاء: طلب السلامة بما يحجز عن المخافة، واتقاء الله: إنما هو اتقاء عذابه.

ي. الأخذ: ضد الإعطاء.

ك. العزة: القوة التي تمتنع بها عن الذلة.

ل. المهاد: الوطاء من كل شئ، وكل شئ وطئته فقد مهدته، والأرض: مهاد لأجل توطئته للنوم، والقيام عليه.

م. الشراء من الأضداد، يقال: شرى إذا باع، وشرى: إذا اشترى، وقوله: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ أي: باعوه [1]

ن. الرضا: ضد السخط.

2. ثم بين سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أحوال المؤمنين والكافرين فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ أي: تستحسن كلامه يا محمد ويعظم موقعه من قلبك ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: يقول آمنت بك، وأنا صاحب لك، ونحو ذلك ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: يحلف بالله ويشهده على أنه مضمر ما يقول، فيقول: اللهم اشهد علي به وضميره على خلافه، ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي: وهو أشد المخاصمين خصومة، ومن قال: إن الخصام مصدر، فمعناه وهو شديد الخصومة عند المخاصمة، جدل مبطل.

3. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾:

أ. قال ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي، لأنه يظهر خلاف ما يبطن، وهو المروي عن الصادق عليه السلام، إلا أنه عين المعني به.

ب. وقال الحسن: نزلت في المنافقين.

ج. وقال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يظهر الجميل بالنبي، والمحبة له، والرغبة في دينه، ويبطن خلاف ذلك.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾:

أ. قيل: أي: أعرض عن الحسن.

ب. وقيل: معناه ملك الأمر، وصار واليا، عن الضحاك، ومعناه: إذا ولي سلطانا جاز.

ج. وقيل: ولى عن قوله الذي أعطاه، عن أبن جريج.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾:

أ. قيل: أي: أسرع في المشي من عندك.

ب. وقيل: عمل في الأرض.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾:

أ. قيل: ليقطع الرحم، ويسفك الدماء، عن ابن جريج.

ب. وقيل: ليظهر الفساد، ويعمل المعاصي.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾:

أ. قيل: أي: البنات والأولاد، وذكر الأزهري أن الحرث النساء، والنسل الأولاد، لقوله ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾

ب. وروي عن الصادق عليه السلام ان الحرث في الموضع الدين، والنسل الناس.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾:

أ. قيل: أي: العمل بالفساد.

ب. وقيل: أهل الفساد.

9. في الآية الكريمة دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الله تعالى يريد القبائح، لأنه تعالى نفى عن نفسه محبة الفساد، والمحبة: هي الإرادة، لأن كل ما أحب الله أن يكون، وما لا يحب أن يكون، لا يريد أن يكون.

10. ثم بين تعالى صفة من تقدم من المنافقين، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ أي: وإذا قيل لهذا المنافق: إتق الله فيما نهاك عنه من السعي في الأرض بالفساد، وإهلاك الحرث والنسل.

11. في معنى قوله تعالى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: حملته العزة وحمية الجاهلية على فعل الإثم، ودعته إليه، كما يقال أخذته بكذا أي: ألزمته ذلك، وأخذته الحمى أي: لزمته.

ب. الثاني: أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه من الكفر، عن الحسن.

12. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي: فكفاه عقوبة من إضلاله أن يصلى نار جهنم.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾:

أ. قيل: أي: القرار، عن الحسن، كما قال في موضع آخر: ﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾، لأن القرار كالوطاء في الثبوت عليه.

ب. وقيل: إنما سميت جهنم مهادا، لأنها بدل من المهاد، كما قال سبحانه: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأنه موضع البشرى بالنعيم على جهة البدل منه.

14. في هذه الآية دلالة على أن من تكبر عن قبول الحق إذا دعي إليه، كان مرتكبا أعظم كبيرة، ولذلك قال ابن مسعود: إن من الذنوب التي لا تغفر أن يقال للرجل: إتق الله، فيقول: عليك نفسك.

15. ثم عاد سبحانه إلى وصف المؤمن الآمر بالمعروف في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ لأن هذا القائل أمر بالخير والمعروف فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي﴾ أي: يبيع ﴿نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي: لابتغاء رضاء الله، وإنما أطلق عليه اسم البيع، لأنه إنما فعل ما فعل لطلب رضاء الله، كما أن البائع يطلب الثمن بالبيع.

16. ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: واسع الرحمة بعبيده، ينيلهم ما حاولوه من مرضاته وثوابه.

17. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾:

أ. روى السدي عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، حين هرب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن المشركين إلى الغار، ونام علي عليه السلام على فراش النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ونزلت الآية بين مكة والمدينة، وروي أنه لما نام على فراشه، قام جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا أبن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة!

ب. وقال عكرمة: نزلت في أبي ذر الغفاري، جندب بن السكن، وصهيب بن سنان، لأن أهل أبي ذر أخذوا أبا ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع مهاجرا، أعرضوا عنه، فانفلت حتى نزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأما صهيب فإنه أخذه المشركون من أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرا.

ج. وروي عن علي وابن عباس، ان المراد بالآية الرجل الذي يقتل على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

د. وقال قتادة: نزلت في المهاجرين والأنصار.

هـ. وقال الحسن: هي عامة في كل مجاهد في سبيل الله.

18. مسائل نحوية:

أ. ﴿لِيُفْسِدَ﴾: نصب بإضمار أن، ويجوز إظهارها بأن يقال لأن يفسد فيها، ولا يجوز إظهار أن في قوله ليذر من، (وما كان الله ليذر المؤمنين)، والفرق بينهما أن اللام في ﴿لِيُفْسِدَ﴾ على أصل الإضافة في الكلام.

ب. اللام في ﴿لِيَذَرَ﴾ لتأكيد النفي كما دخلت الباء في: ليس زيد بقائم.

ج. ابتغاء: نصب لأنه مفعول له، كقول الشاعر:

وأغفر عوراء الكريم ادخاره،...وأعرض عن قول اللئيم تكرما

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/536.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنّها نزلت في الأخنس بن شريق، كان ليّن الكلام، كافر القلب، يظهر للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الحسن، ويحلف له أنه يحبّه ويتّبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك‏، هذا قول ابن عباس، والسّدّيّ ومقاتل.

ب. الثاني: أنّها فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه، وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.

ج. الثالث: أنها نزلت في سريّة الرّجيع، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وهو بالمدينة: إنّا قد أسلمنا، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلّمونا ديننا، فبعث صلّى الله عليه وآله وسلم خبيب بن عديّ، ومرثدا الغنويّ، وخالد بن بكير، وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدّثنّة، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكّة، فنزلوا بين مكّة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرّت عجوز فأبصرت النّوى، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطّريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتّى أحاطوا بهم، فحاربوهم فقتلوا مرثدا، وخالدا، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكلّ سهم رجلا من عظمائهم، ثمّ قال: اللهمّ إني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النّهار، ثم أحاطوا به فقتلوه، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض أهلها، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربنّ في قحفه الخمر، فأرسل الله تعالى رجلا من الدبر ـ وهي الزّنابير ـ فحمته، فلم يقدروا عليه، فقالوا: دعوه حتى يمسي فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي‏، فبعث الله الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيبا وزيدا، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه، لأنّه قتل آباءهم، فلمّا خرجوا به ليقتلوه، قال دعوني أصلّي ركعتين، ثمّ قال لولا أن تقولوا: جزع خبيب، لزدت، وأنشأ يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلما...على أيّ شقّ كان في الله مصرعي‏

وذلك في ذات الإله وإن يشأ...يبارك على أوصال شلو ممزّع

‏فصلبوه حيّا، فقال: اللهمّ إنك تعلم أنه ليس حولي من يبلّغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب: اتّق الله، فما زاده ذلك إلا عتوّا، وأمّا زيد فابتاعه صفوان بن أميّة ليقتله بأبيه، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال: يا زيد! أنشدك الله، أتحبّ أنّ محمّدا مكانك، وأنّك في أهلك؟ فقال: والله ما أحبّ أنّ محمّدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، ثم قتل، وبلغ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الخبر، فقال: أيّكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنّة؟ فقال الزّبير: أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنّهار، حتى وافيا المكان، وإذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى، وإذا هو رطب يتثنّى لم يتغيّر فيه شيء بعد أربعين يوما، فحمله الزّبير على فرسه وسار، فلحقه سبعون منهم، فقذف الزّبير خبيبا فابتلعته الأرض، وقال الزّبير: ما جرّأكم علينا يا معشر قريش!؟ ثمّ رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزّبير بن العوّام، وأمّي صفيّة بنت عبد المطّلب، وصاحبي المقداد، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فإن شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وجبريل عنده، فقال: (يا محمّد إنّ الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك)، وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدّوا، فأنزل الله تعالى في الزّبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها، وهذا الحديث بطوله مرويّ عن ابن عباس.

2. في قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي.

ب. الثاني: أنه يقول: اللهمّ اشهد عليّ بهذا القول.

3. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾، الخصام: جمع خصم، يقال: خصم وخصام وخصوم، قال الزجّاج: والألدّ: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، ومعناه: أنّ خصمه في أيّ وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك.

4. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ أربعة أقوال:

أ. أحدها: أنه بمعنى: غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج.

ب. الثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن.

ج. الثالث: أنه من الولاية، فتقديره: إذا صار واليا، قاله مجاهد والضّحّاك.

د. الرابع: أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل وابن قتيبة.

5. في معنى قوله تعالى: ﴿سَعَى﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى: عمل، قاله ابن عباس ومجاهد.

ب. الثاني: أنه من السّعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

6. في الفساد قولان:

أ. أحدهما: أنه الكفر.

ب. الثاني: الظّلم.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾:

أ. قيل: الحرث: الزّرع، والنّسل: نسل كلّ شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين.

ب. وحكى الزجّاج عن قوم: أنّ الحرث: النّساء، والنّسل: الأولاد، قال: وليس هذا بمنكر، لأنّ المرأة تسمّى حرثا.

8. في معنى إهلاكه للحرث والنّسل ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد، قاله‏ الأكثرون.

ب. الثاني: أنه إذا ظلم كان الظّلم سببا لقطع القطر، فيهلك الحرث والنّسل، قاله مجاهد، وهو يخرّج على قول من قال إنه من التّولّي.

ج. الثالث: أنه إهلاك ذلك بالضّلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسّرين.

9. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي، واحتجّت المعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية، فأجاب أصحابنا بأجوبة، منها:

أ. الأول: أنه لا يحبّه دينا، ولا يريده شرعا، فأمّا أنه لم يرده وجودا؛ فلا.

ب. الثاني: أنه لا يحبّه للمؤمنين دون الكافرين.

ج. الثالث: أنّ الإرادة معنى غير المحبّة، فإنّ الإنسان قد يتناول المرّ، ويريد ربط الجرح، ولا يحبّ شيئا من ذلك، وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبّة، بطل ادّعاؤهم التّساوي بينهما، وهذا جواب معتمد، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾

10. ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾، قال ابن عباس: هي الحميّة، وأنشدوا:

أخذته عزّة من جهله‏...فتولّى مغضبا فعل الضّجر

ومعنى الكلام: حملته الحميّة على الفعل بالإثم.

في ﴿جَهَنَّمَ﴾ قولان، ذكرهما ابن الأنباريّ:

أ. أحدهما: أنها أعجميّة لا تجرّ للتعريف والعجمة.

ب. الثاني: أنها اسم عربيّ، ولم يجر للتّأنيث والتّعريف، قال رؤبة: (ركيّة جهنّام: بعيدة القعر)، وقال الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له‏...جهنّام جدعا للهجين المذمّم‏

فترك صرفه يدلّ على أنه اسم أعجميّ معرّب.

11. في معنى قوله تعالى: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ قولان:

أ. أحدهما: فحسبه جهنّم جزاء عن إثمه.

ب. الثاني: فحسبه جهنّم ذلّا من عزّه، والمهاد: الفراش، ومهّدت لفلان: إذا وطّأت له، ومنه: مهد الصّبي.

12. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ على خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعليّ عليهما السّلام.

ب. الثاني: أنها نزلت في الزّبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة، وهذا قول ابن عباس والضحّاك.

ج. الثالث: أنها نزلت في صهيب الرّوميّ، واختلفوا في قصّته:

فروي أنه أقبل مهاجرا نحو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فاتّبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال: قد علمتم أنّي من أرماكم بسهم، وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرميكم بكلّ سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يديّ منه شيء، فإن شئتم دللتكم على مالي، قالوا: فدلّنا على مالك نخلّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (ربح البيع يا أبا يحيى)؟ وقرأ عليه القرآن، هذا قول سعيد بن المسيّب.

وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال: إنّ الذي تلقّاه فبشّره بما نزل فيه أبو بكر‏.

وقال عكرمة: إنها نزلت في صهيب، وأبي ذرّ الغفاريّ، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأمّا أبو ذرّ، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجرا.

د. الرابع: أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين.

هـ. الخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة، و(يشري) كلمة من الأضداد، يقال: شرى، بمعنى: باع، وبمعنى: اشترى، فمعناها على قول من قال نزلت في صهيب؛ معنى: يشتري، وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع.

__________

(1) زاد المسير: 1/171.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين الله تعالى أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾، ومسلم وهو الذي يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201] بقي المنافق‏ فذكره في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، وشرح صفاته وأفعاله، هذا ما يتعلق بنظم الآية، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح، وأن يعلموا لا يمكن إخفاء الأمور عنه.

2. اختلف المفسرون على قولين منهم من قال أن قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مختص بأقوام معينين، ومنهم من قال إنه عام في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية، أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه:

أ. الرواية الأولى: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف لبني زهرة، وفيه نزل أيضا قوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1] وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 10، 11]:

روي أنه أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأظهر الإسلام، وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك، وهذا هو المراد بقوله: ﴿يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ غير أنه كان منافقا حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، وهو المراد بقوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾

وقال آخرون: المراد بقوله تعالى: ﴿يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم: إن محمدا ابن أختكم، فإن يك كاذبا كفاكموه سائر الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس به قالوا: نعم الرأي ما رأيت، قال فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فسمي لهذا السبب أخنس، وكان اسمه: أبي بن شريق، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأعجبه، وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم، وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه، بل القول الأول هو الأصح.

ب. الرواية الثانية: ما روي عن ابن عباس والضحاك‏ أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع، ووصل الخبر إلى الكفار، فركب منهم سبعون راكبا وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم، ففيهم نزلت هذه الآية، ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبها بذلك على حال هؤلاء الشهداء.

3. اختار أكثر المحققين من المفسرين، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة، ونقل عن محمد بن كعب القرظي، أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية، فقال: (إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفا بتلك الصفات)

4. التحقيق في المسألة أن قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ إشارة إلى بعضهم، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع، وقوله: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى، وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم، بل نقول: فيها ما يدل على العموم، وهو من وجوه:

أ. أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله تعالى قوما ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم.

ب. ثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة.

ج. ثالثها: أن هذا أقرب إلى الاحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى.

5. اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه‏ الصفات منافق أم لا، والصحيح أنها لا تدل على ذلك، لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة، وشيء منها لا يدل على النفاق:

أ. فأولها قوله: ﴿يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهذا لا دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لأن الإنسان إذا قيل: إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أو هم نوعا من المذمة.

ب. ثانيها: قوله: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ وهذا لا دلالة فيه على حالة منكرة، فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق، لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد، فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقا، بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائيا.

ج. ثالثها: قوله: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ وهذا أيضا لا يوجب النفاق.

د. رابعها: قوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ والمسلم الذي يكون مفسدا قد يكون كذلك.

هـ. خامسها: قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ فهذا أيضا لا يقتضي النفاق.

6. كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي، فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقا إلا أن المنافق داخل في الآية، وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفا بهذه الصفات الخمسة، بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي.

7. ﴿يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس، أما قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ففيه وجوه:

أ. أحدهما: أنه نظير قول القائل: يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا.

ب. الثاني: أن يكون التقدير: يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والاحتباس خوفا من هيبة الله وقهر كبريائه.

8. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ المعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله، ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول: الله يشهد بأن الأمر كما قلت، فهذا يكون استشهادا بالله ولا يكون يمينا، وعامة القراء يقرؤن‏ ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ بضم الياء، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره، وقرأ ابن محيصن‏ ﴿يُشْهِدُ اللهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ‏﴾ بفتح الياء، والمعنى: أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.

أ. فالقراءة الأولى: تدل على كونه مرائيا وعلى أنه يشهد الله باطلا على نفاقه وريائه.

ب. والقراءة الثانية: فلا تدل إلا على كونه كاذبا، فأما على كونه مستشهدا بالله على سبيل الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم.

9. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ الألد: الشديد الخصومة، يقال: رجل ألد، وقوم لد، وقال الله تعالى: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: 97] وهو كقوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58] يقال: منه لد يلد، بفتح اللام في يفعل منه، فهو ألد، إذا كان خصما، ولددت الرجل ألده بضم اللام، إذا غلبته بالخصومة، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه، ولديدي الوادي، وهما جانباه، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.

10. في قوله تعالى: ﴿الْخِصَامِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة، فيكون المعنى: وهو شديد المخاصمة، ثم في هذه الإضافة وجهان:

أحدهما: أنه بمعنى‏ ﴿فِي﴾ والتقدير: ألد في الخصام.

الثاني: أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.

ب. الثاني: أن الخصام جمع خصم، كصعاب وصعب، وضخام وضخم، والمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة، وهذا قول الزجاج.

11. للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة ﴿أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾:

أ. قيل: معناه: طالب لا يستقيم.

ب. وقال السدي: أعوج الخصام.

ج. وقال قتادة: جدل بالباطل، شديد القصوة في معصية الله، عالم اللسان جاهل العمل.

12. تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية، قالوا: إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديدا في الجدل، ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم، وإلا لما جاز ذلك، وجوابه ما تقدم في قوله: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]

13. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ لما بين الله تعالى من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك، فقال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾

14. في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ قولان:

أ. أحدهما: معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد، وهو أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاقه، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.

ب. الثاني: إذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، أو يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل.

15. قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ يحتمل وجهين:

أ. أحدهما: ما كان من إتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.

ب. الثاني: أنه كان بعد الانصراف من حضرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى فسادا، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 127] أي يردوا قومك عن دينهم، ويفسدوا عليهم شريعتهم، وقال أيضا: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26] وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 11] ما يقرب من هذا الوجه، وإنما سمي هذا المعنى فسادا في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام وينفسك الدماء، قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22] فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض، وقطع الأرحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن، وحمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب، لأنه تعالى قال ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.

16. ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ أي اجتهد في إيقاع القتال، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس، ومنه يقال: فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: 47]

17. اختلف في سر النظم في قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾:

أ. من فسر الفساد بالتخريب قال: إنه تعالى ذكره أولا على سبيل الإجمال، وهو قوله: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ ثم ذكره ثانيا على سبيل التفصيل فقال: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾

ب. ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال: كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم، وثانيهما العمل، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشبهات، وثانيهما فعل المنكرات، فههنا ذكر تعالى أولا من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات، وهو المراد بقوله: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ ثم ذكر ثانيا إقدامه على المنكرات، وهو المراد بقوله: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ ولا شك في أن هذا التفسير أولى.

ج. ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، قال: المراد بالحرث الزرع، وبالنسل تلك الحمر، والحرث هو ما يكون منه الزرع، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾ [الواقعة: 63] وهو يقع على كل ما يحرث ويزرع من أصناف النبات، وقيل: إن الحرث هو شق الأرض، ويقال لما يشق به: محرث، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب، والنسل في اللغة: الولد، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم: نسل ينسله إذا خرج فسقط، ومنه نسل ريش الطائر، ووبر البعير، وشعر الحمار، إذا خرج فسقط، والقطعة منها إذا سقطت نسالة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس: 51] أي يسرعون، لأنه أسرع الخروج بحدة، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه، والناس نسل آدم، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج.

د. أما من قال إن سبب نزول الآية: أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعا، فالمراد بالحرث: إما النسوان لقوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 223]، أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد، وأما النسل فالمراد منه الصبيان.

18. على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها:

أ. على التفسير الأول، إهلاك النبات والحيوان.

ب. وعلى التفسير الثاني: إهلاك الحيوان بأصله وفرعه.

19. على الوجهين فلا فساد أعظم منه، فإذن قوله: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ من الألفاظ الفصيحة جدا الدالة مع اختصارها على‏ المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: 71] وقال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ [النازعات: 31]

20. سؤال وإشكال: أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل، أو تدل على أنه أراد ذلك؟ والجواب: إن قوله: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك، ثم قوله: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك، فإن تقدير الآية هكذا: سعى في الأرض ليفسد فيها، وسعى ليهلك الحرث والنسل، وإن جعلناه كلاما مبتدأ منقطعا عن الأول، دل على وقوع ذلك، والأول أولى، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود.

21. قرأ بعضهم‏ ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ على أن الفعل للحرث والنسل، وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو: أبي يأبى، وروي عنه‏ ﴿وَيُهْلِكَ﴾ على البناء للمفعول.

22. استدل المعتزلة، ومن وافقهم على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ قالوا: والمحبة عبارة عن الإرادة، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾ [النور: 19] والمراد بذلك أنهم يريدون، وأيضا نقل عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال)، فجعل الكراهة ضد المحبة، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضدا للإرادة، وأيضا لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه، لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة، قالوا: وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ جار مجرى قوله: (والله لا يريد الفساد)، كقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: 31] بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق، ثم قال ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقا له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال.

23. أجاب المخالفون من أهل السنة، ومن وافقهم عما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم بوجهين:

أ. الأول: أن المحبة غير الإرادة، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه.

ب. الثاني: إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة، ولكن قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان:

الأول: أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجع الفساد على الصلاح، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال: إنه لا يريده.

الثاني: أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال: إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلا وذلك محال.

24. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ قال الواحدي: معناه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم، وهذا التفسير ضعيف، لأن قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة، فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه، وإن كنا نعلم أنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الكل إلى التقوى من غير تخصيص.

25. حكى الله تعالى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة:

أ. أولها: اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا.

ب. ثانيها: استشهاده بالله كذبا وبهتانا.

ج. ثالثها: لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل.

د. رابعها: سعيه في الفساد.

هـ. خامسها: سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح.

26. ظاهر قوله تعالى: ﴿إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ‏﴾ ليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل: (اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد، وفي اللجاج الباطل، وفي الاستشهاد بالله كذلك، وفي الحرص على طلب الدنيا)، فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.

27. في قوله تعالى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلانا بأن يعمل كذا، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه، فتقدير الآية: أخذته العزة بأن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه.

ب. ثانيها: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ أي لزمته يقال: أخذته الحمى أي لزمته، وأخذه الكبر، أي اعتراه ذلك، فمعنى الآية إذا قيل له: اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذين في قلبه، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل، ونظيره قوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: 2]، والباء هاهنا في معنى اللام، يقول الرجل: فعلت هذا بسببك ولسببك، وعاقبته بجنايته ولجنايته.

28. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ قال المفسرون: كافيه جهنم جزاء له وعذابا يقال: حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله، أي كافينا الله، وأما جهنم:

أ. فقال يونس وأكثر النحويين: هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية.

ب. وقال آخرون، جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها، حكي عن رؤية أنّه قال (ركية جهنام) بريد بعيدة القعر.

29. في قوله تعالى: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ وجهان:

أ. الأول: أن المهاد والتمهيد: التوطئة، وأصله من المهد، قال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ [الذاريات: 48] أي الموطئون الممكنون، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى: ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الروم: 44] أي يفرشون ويمكنون.

ب. الثاني: أن يكون قوله: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي لبئس المستقر كقوله: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ [إبراهيم: 29] وقال بعض العلماء: المهاد الفراش للنوم، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك مهادا له وفراشا.

30. ثم لما وصف الله تعالى في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، وفي سبب النزول روايات:

أ. أحدها: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان‏ مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه، وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الأرت، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم، فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير، ولي مال ومتاع، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله، فانصرف راجعا إلى المدينة، فنزلت الآية، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر فقال له: ربح بيعك، فقال له صهيب: وبيعك فلا نخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه الآية، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا، وفيهم نزل قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ [النحل: 41] بتعذيب أهل مكة ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [النحل: 41] بالنصر والغنيمة، ولأجر الآخرة أكبر، وفيهم نزل: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]

ب. الثانية: أنها نزلت في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر، عن عمر وعلي‏ وابن عباس.

ج. الثالثة: نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه إلى الغار، ويروى‏ أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية.

31. أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يوسف: 20] أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111] وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [الصف: 10، 11]

32. يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها، وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم، فصار في التقدير كان نفسه كانت له، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار والعذاب، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار، فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه، فكذلك المؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه أبدا لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا، ولهذا قال عيسى عليه السلام: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31]، وقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]

33. سؤال وإشكال: إن الله تعالى جعل نفسه مشتريا حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ [التوبة: 111] وهذا يمنع كون المؤمن مشتريا، والجواب: لا منافاة بين الأمرين، فهو كمن اشترى ثوبا بعبد، فكل واحد منهما بائع، وكل واحد منهما مشتر، فكذا هاهنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.

34. يدخل تحت قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل فيه المجاهد، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل، كما فعله أبو عمار وأمه، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.

35. المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه، بل بعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الاغتسال من الجنابة ففعل، قال قتادة: (أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلها آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضبا لله وجهادا في سبيله)

36. ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي لابتغاء مرضاة الله، و﴿يَشْرِي﴾ بمعنى يشتري.

37. ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب، وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه ورحمة وإحسانا.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/344.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله تعالى الذين قصرت همتهم على الدنيا في قوله: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ لأنهم أظهروا الايمان وأسروا الكفر:

أ. قال السدى وغيره من المفسرين: نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبى، والأخنس لقب لقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بنى زهرة عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، على ما يأتي في آل عمران بيانه، وكان رجلا حلو القول والمنظر، فجاء بعد ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأظهر الإسلام وقال: الله يعلم أنى صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر، قال المهدوي: وفيه نزلت‏ ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ و﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾، قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.

ب. وقال ابن عباس: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع: عاصم بن ثابت، وخبيب، وغيرهم، وقالوا: ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾

ج. وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهى تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: (إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبى يغترون، وعلى يجترئون، فبي حلفت لأتيحن‏ لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران)

2. معنى ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ أي يقول: الله يعلم أنى أقول حقا، وقرا ابن محيصن (ويشهد الله) على ما في قلبه بفتح الياء والهاء في يشهد الله بالرفع، والمعنى يعجبك قوله، والله يعلم منه خلاف ما قال دليله قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾، وقراءة ابن عباس: (والله يشهد على ما في قلبه)، وقراءة الجماعة أبلغ في الذم، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن، ثم ظهر من باطنه خلافه، وقرأ أبيّ وابن مسعود (ويستشهد الله على ما في قلبه) وهي حجة لقراءة الجماعة.

3. في هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم، لان الله تعالى بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا.

4. سؤال وإشكال: هذا يعارضه قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث، وقوله: (فأقضي له على نحو ما أسمع)، والجواب: أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عم الفساد فلا، قاله ابن العربي.. والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه، لقول عمر: (أيها الناس، إن الوحى قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شي، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة)

﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ الألد: الشديد الخصومة، وهو رجل ألد، وامرأة لداء، وهم أهل لدد، وقد لددت ـ بكسر الدال ـ تلد ـ بالفتح ـ لددا، أي صرت ألد، ولددته ـ بفتح الدال ـ ألده ـ بضمها ـ إذا جادلته فغلبته، والألد مشتق من اللديدين، وهما صفحتا العنق، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب، قال الشاعر:

وألدّ ذي حنق عليّ كأنما...تغلي عداوة صدره في مرجل‏

وقال آخر:

إن تحت التراب عزما وحزما...وخصيما ألدّ ذا مغلاق‏

5. الخصام في الآية مصدر خاصم، قاله الخليل، وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج، ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام.

6. معنى ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أشد المخاصمين خصومة، أي هو ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل، وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)

7. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ قيل: ﴿تَوَلَّى﴾ و﴿سَعَى﴾ من فعل القلب، فيجيء ﴿تَوَلَّى﴾ بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه، و﴿سَعَى﴾ أي سعى بحيلته وإرادته‏ الدوائر على الإسلام واهلة، عن ابن جريج وغيره، وقيل: هما فعل الشخص، فيجيء ﴿تَوَلَّى﴾ بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد، و﴿سَعَى﴾ أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، عن ابن عباس وغيره، وكلا السعيين فساد، يقال: سعى الرجل يسعى سعيا، أي عدا، وكذلك إذا عمل وكسب، وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم.

8. ﴿وَيُهْلِكَ﴾ عطف على ليفسد، وفى قراءة أبى (وليهلك)، وقرا الحسن وقتادة ويهلك بالرفع، وفى رفعه أقوال: يكون معطوفا على ﴿يُعْجِبُكَ﴾، وقال أبو حاتم: هو معطوف على ﴿سَعَى﴾ لان معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: وهو يهلك، وروى عن ابن كثير ويهلك بفتح الياء وضم الكاف، الحرث والنسل مرفوعان بيهلك، وهى قراءة الحسن وابن أبى إسحاق وأبى حيوة وابن محيصن، ورواه عبد الوارث عن أبى عمرو، وقرأ قوم ويهلك بفتح الياء واللام، ورفع الحرث، لغة هلك يهلك، مثل ركن يركن، وأبى يأبى، وسلى يسلى، وقلى يقلى، وشبهه.

9. المعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر، قاله الطبري، قال غيره: ولكنها صارت عامة لجميع الناس، فمن عمل مثل عمله استوجب تلك اللعنة والعقوبة، قال بعض العلماء: إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة، ولحقه الشين إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل، وقيل: الحرث النساء، والنسل الأولاد، وهذا لان النفاق يؤدى إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، قال معناه الزجاج، والسعي في الأرض المشي بسرعة، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس، وفى الحديث: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)

10. الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال وجمعه، وفى الحديث: (احرث لدنياك كأنك‏ تعيش أبدا)، والحرث الزرع، والحراث الزراع، وقد حرث واحترث، مثل زرع وازدرع ويقال: أحرث القرآن، أي ادرسه، وحرثت الناقة وأحرثتها، أي سرت عليها حتى هزلت وحرثت النار حركتها، والمحراث: ما يحرك به نار التنور، عن الجوهري.

11. النسل: ما خرج من كل أنثى من ولد، وأصله الخروج والسقوط، ومنه نسل الشعر، وريش الطائر، والمستقبل ينسل، ومنه ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾، ﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾، وقال امرؤ القيس: (فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل)

12. دل قوله تعالى: ﴿الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ على الحرث وزراعة الأرض، وغرسها بالأشجار حملا على الزرع، وطلب النسل، وهو نماء الحيوان، وبذلك يتم قوام الإنسان، وهو يرد على من قال بترك الأسباب.

13. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ قال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب، وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض، وقال عطاء: إن رجلا كان يقال له عطاء بن منبه أحرم في جبة فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن ينزعها، قال قتادة قلت لعطاء: إنا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد، والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح.

14. قيل: معنى لا يحب الفساد أي لا يحبه من أهل الصلاح، أو لا يحبه دينا، ويحتمل أن يكون المعنى لا يأمر به.

15. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا، وقال عبد الله: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك، مثلك يوصيني‏!

16. العزة: القوة والغلبة، من عزه يعزه إذا غلبه، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ وقيل: العزة هنا الحمية، ومنه قول الشاعر:

أخذته عزة من جهله‏...فتولى مغضبا فعل الضجر

وقيل: العزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إياه، وقال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم، وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية، ونظيره: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾

17. الباء في ﴿بِالْإِثْمِ﴾ بمعنى اللام، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة:

وكان ربا أو كحيلا معقدا...حش الوقود به جوانب قمقم‏

أي حش الوقود له، وقيل: الباء بمعنى مع، أي أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلات.

18. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل، والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبى، وسمي جهنم مهادا لأنها مستقر الكفار، وقيل: لأنها بدل لهم من المهاد، كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ونظيره من الكلام قولهم: (تحية بينهم ضرب وجيع)

19. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ﴿ابْتِغَاءَ﴾ نصب على المفعول من أجله، ولما ذكر صنيع المنافقين ذكر بعده صنيع المؤمنين:

أ. قيل: نزلت في صهيب‏، واخذ قوسه، وقال: لقد علمتم أنى من أرماكم، وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمى بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شي، ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلى عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الآية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ربح البيع أبا يحيى)، وتلا عليه الآية، أخرجه رزين، وقاله سعيد بن المسيب، وقال المفسرون: أخذ المشركون صهيبا فعذبوه، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر ورجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقال له صهيب: وبيعك فلا يخسر، فما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرا عليه الآية، وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في المسلم لقى الكافر فقال له: قل لا إله إلا الله، فإذا قلتها عصمت مالك ونفسك، فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لاشرين نفسي لله، فتقدم فقاتل حتى قتل.

ب. وقيل: نزلت فيمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وعلى ذلك تأولها عمر وعلى وابن عباس، قال على وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله وقاتله فاقتتلا، وقال أبو الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل، وقيل: إن عمر سمع ابن عباس يقول: اقتتل الرجلان عند قراءة القارئ هذه الآية، فسأله عما قال ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر: لله تلادك يا ابن عباس!

ج. وقيل: نزلت فيمن يقتحم القتال، حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، ومثله عن أبى أيوب.

د. وقيل: نزلت في شهداء غزوة الرجيع.

هـ. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار.

و. وقيل: نزلت في علي حين تركه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار.

ز. وقيل: الآية عامة، تتناول كل مجاهد في سبيل الله، أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر.

20. ﴿يَشْرِي﴾ معناه يبيع، ومنه ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ أي باعوه، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، ومنه قول الشاعر:

وإن كان ريب الدهر أمضاك في الاولى‏...شروا هذه الدنيا بجناته الخلد

وقال آخر:

وشريت بردا ليتني‏...من بعد برد كنت هامه‏

البرد هنا اسم غلام، وقال آخر:

يعطى بها ثمنا فيمنعها...ويقول صاحبها ألا فأشر

وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله.

21. ﴿ابْتِغَاءَ﴾ مفعول من أجله، ووقف الكسائي على ﴿مَرْضَاتَ﴾ بالتاء، والباقون بالهاء، قال أبو على: وقف الكسائي بالتاء إما على لغة من يقول: طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: (بل جوز تيهاء كظهر الحجفت)، وإما أنه لما كان هذا المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما ثبتت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد، والمرضاة الرضا، يقال: رضى يرضى رضا ومرضاة، وحكى قوم أنه يقال: شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال: إن عرض صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله، فيستقيم اللفظ على معنى باع.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/15.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وسبب النزول: الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه، قال ابن عطية: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، وقيل: إنها نزلت في قوم من المنافقين؛ وقيل: إنها نزلت في كل من أضمر كفرا أو نفاقا أو كذبا، وأظهر بلسانه خلافه.

2. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أنه يحلف على ذلك فيقول: يشهد الله على ما في قلبي من محبتك أو من الإسلام، أو يقول: الله يعلم أني أقول حقا، وأني صادق في قولي لك، وقرأ ابن محيصن‏ ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ بفتح حرف‏ المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل؛ والمعنى: ويعلم الله منه خلاف ما قال ومثله قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ، وقرأ ابن عباس: والله يشهد على ما في قلبه وقرأ أبيّ وابن مسعود: ويستشهد الله على ما في قلبه، وقوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بالقول، أو بيعجبك؛ فعلى الأوّل: القول صادر في الحياة، وعلى الثاني: الإعجاب صادر فيها.

3. الألدّ: الشديد الخصومة، يقال: رجل ألدّ، وامرأة لداء، ولددته ألدّه: إذا جادلته فغلبته، ومنه قول الشاعر:

وألدّ ذي حنق عليّ كأنّما...تغلي عداوة صدره في مرجل‏

4. الخصام: مصدر خاصم، قاله الخليل؛ وقيل: جمع خصم، قاله الزجاج؛ ككلب وكلاب، وصعب وصعاب، وضخم وضخام، والمعنى: أنه أشدّ المخاصمين خصومة، لكثرة جداله وقوّة مراجعته، وإضافة الألدّ إلى الخصام بمعنى في، أي: ألدّ في الخصام، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة.

5. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ أي: أدبر، وذهب عنك يا محمد! وقيل: إنه بمعنى: ضلّ وغضب؛ وقيل: إنه بمعنى: الولاية، أي: إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض.

6. السعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به: السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض، كقطع الطريق، وحرب المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد به: العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم، وإعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له: سعى، وهذا هو الظاهر من هذه الآية.

7. ﴿وَيُهْلِكَ﴾ عطف على قوله: ﴿لِيُفْسِدَ﴾ وفي قراءة أبيّ: وليهلك، وقراءة قتادة بالرفع، وروي عن ابن كثير: ﴿وَيُهْلِكَ﴾ بفتح الياء؛ وضم الكاف؛ ورفع الحرث والنسل، وهي قراءة الحسن؛ وابن محيصن.

8. المراد بالحرث: الزرع، والنسل: الأولاد؛ وقيل الحرث: النساء، قال الزجّاج: وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق؛ وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل، وأصل الحرث في اللغة: الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث: كسب المال وجمعه، وأصل النسل في اللغة: الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر، ومنه أيضا: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ ويقال لما خرج من كل أنثى: نسل، لخروجه منها، وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا.

9. العزة: القوّة والغلبة، من عزّه يعزّه: إذا غلبه، ومنه‏ ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾؛ وقيل العزة هنا: الحمية، ومنه قول الشاعر:

أخذته عزّة من جهله‏...فتولّى مغضبا فعل الضّجر

وقيل: العزة هنا: المنعة وشدّة النفس.

10. معنى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ حملته العزة على الإثم، من قولك: أخذته بكذا: إذا حملته عليه، وألزمته إياه؛ وقيل: أخذته العزة بما يؤثمه، أي: ارتكب الكفر للعزة، ومنه: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾

11. الباء في قوله: ﴿بِالْإِثْمِ﴾ بمعنى اللام، أي: أخذته‏ العزّة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو النفاق؛ وقيل: الباء بمعنى مع، أي: أخذته العزّة مع الإثم.

12. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي: كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل: كفاك ما حلّ بك، وأنت تستعظم عليه ما حلّ به، والمهاد: جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي؛ وسميت جهنم: مهادا، لأنها مستقرّ الكفار؛ وقيل: المعنى: أنها بدل لهم من المهاد كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وقول الشاعر: (تحيّة بينهم ضرب وجيع)

13. يشري بمعنى: يبيع، أي: يبيع نفسه في مرضاة الله، كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ وأصله: الاستبدال، ومنه قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾، ومنه قول الشاعر:

وشريت بردا ليتني‏...من بعد برد كنت هامة

ومنه قول الآخر:

يعطى بها ثمنا فيمنعها...ويقول صاحبها ألا تشري‏

14. المرضاة: الرضا، تقول: رضي يرضى، رضا ومرضاة، ووجه ذكر الرأفة هنا: أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم، فكان ذلك رأفة بهم ولطفا لهم.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/239.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه.

2. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك وأنّ الذي في قلبه موافق للسانه لئلا يتفرس فيه الكفر والعداوة؛ أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ـ على نحو ما وصف به أهل النفاق حيث قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون: 1]، ـ كقوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 108] الآية.

3. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ شديد الخصومة، جدل بالباطل.

4. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ انصرف عمّن خدعه بكلامه ﴿سَعَى﴾ مشى ﴿فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمّى فسادا، كقوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 127]، أي: يردّوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم شرعتهم؛ وسمّي هذا المعنى فسادا لأنه يوقع الاختلاف بين الناس، ويفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتنسفك الدماء، وهذا كثير في القرآن المجيد.

5. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ﴾ أي: الزرع، ﴿وَالنَّسْلَ﴾ أي: المواشي الناتجة، قال بعض المحققين: وإنّ إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، وإنّ التعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل؛ فالمعنى: يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدّى إلى إهلاك الحرث والنسل.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي: لا يرضى فعله.

7. سؤال وإشكال: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟ والجواب(2): الإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو آمر به.. ولا محبّ له، وما يرى من فعله ويظهر بظاهره فسادا فهو بالإضافة إلينا واعتبارنا له كذلك، فأمّا بالنظر الإلهيّ فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: يا من إفساده إصلاح! أي: ما نظنه إفسادا ـ لقصور نظرنا ومعرفتنا ـ فهو في الحقيقة إصلاح؛ وجملة الأمر: إنّ الإنسان هو زبدة هذا العالم وما سواه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى‏ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 29]، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رسخ له، فإذن: إهلاك ما أمر بإهلاكه، لإصلاح الإنسان وما منه أسباب حياته الأبدية.

8. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ﴾ على نهج العظة ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ في النفاق، واحذر سوء عاقبته، أو في الإفساد والإهلاك وفي اللجاج بالباطل‏ ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي: حملته الأنفة وحميّة الجاهلية على الفعل بالإثم وهو التكبّر؛ أو المعنى: أخذته الحميّة للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول قول الناصح.

9. ﴿فَحَسْبُهُ﴾ أي: كافيه‏ ﴿جَهَنَّمَ﴾ إذا صار إليها واستقرّ فيها جزاء وعذابا ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فرش عزّته، قال الراغب: المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكلّ وطئ مهد، والمهاد يجعل تارة جمعا للمهد، وتارة للآلة نحو فراش، وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشّرا به في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21]

10. قال الحاكم: هذه الآية تدلّ على أنّ من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتّق الله! فيقول: عليك نفسك، قال الزمخشري: ومنه ردّ قول الواعظ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحج: 72]

11. لما أتمّ الله تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضالّ، أتبعه بقسيمه المهتدي، ليبعث العباد على تجنّب صفات الفريق الأول، والتخلق بنعوت الثاني فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي: يبيعها ببذلها في طاعة الله‏ ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي: طلب رضاه‏ ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، مع كفرهم به، وتقصيرهم في أمره.

12. قال بعضهم: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتّبجّح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه! والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به، فإنّ من يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرّى إلّا العمل الصالح وقول الحقّ والإخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا.. وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه.

13. روي في نزول الأولى روايات ساقها بعض المفسّرين، ولا تنافي في ذلك، لأنّ قولهم نزلت في كذا، تارة يراد به أنّ حالا مّا كان سببا لنزولها، بمعنى أنها ما نزلت إلّا لأجله! وهذا يعلم إمّا من إشعار الآية بذلك، أو من رواية صحّ سندها صحّة لا مطعن فيه، وتارة يراد به أنها نزلت بعد وقوع شأن ما تشمله بعمومها، فيقول الراوي عقيب حدوث ذلك الشأن: نزلت في كذا، والمراد أنها تصدق عليه لا أنّ ذلك الشأن كان سببا للنزول.. وما روي في هذه الآية من هذا القبيل، وإلى هذا النوع أشار الزركشيّ في (البرهان) بقوله: (قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أنّ أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع).. وقد قدّمنا أنّ سبب النزول مما يدخله الاجتهاد، وأنّ لا يعول منه إلّا على ما صحّ سنده، وما نزل عنه وارتقى عن درجة الضعف يتفقّه فيه.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/83.

(2) الكلام هنا للراغب.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُّعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي يعجبك ما ينطق به في شأن أمور الدنيا، من حربٍ وصلح وكسب وعفو؛ أو لأجل الدنيا، بأن يظهر الإيمان والحبَّ ليتوصَّل إلى ما يحبُّ من لذَّات الدنيا؛ أو يعجبك في الدنيا كلامه حلاوةً وفصاحة، وأمَّا في الآخرة فلا كلام له البتَّة، ﴿وَلَا يُوذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: 36]، وإذا تكلَّموا تارة فكلام دهشة لا فصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لأنَّه لا نفع له به، والخطاب له صلّى الله عليه وآله وسلّم أو لمن يصلح له مطلقًا، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ [المنافقون: 4]، و﴿يُعْجِبُكَ﴾ إلخ يُحدِث قولُه في قلبك عَجَبًا.

2. لغة: والعَجَب: حيرة تَعرِض بسبب الجهل بما تُعُجِّب منه، وقد يستعمل العجب في حيرة تعرض مع العلم بالسبب، والعجب هنا عبارة عمَّا يلزم من عظمة الإنسان في قلب غيره، و(فِي) متعلِّق بـ (يُعْجِبُكَ)، أو بـ (قَوْلُهُ)، على ما رأيتَ من التفسير.

3. ﴿وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ يستشهده أو يجعله شاهدًا على أنَّ قلبه مواطئ لقوله في الإيمان، وهو كاذب في دعواه.

4. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ شديد الخصومة، وهو صفة مشبَّهة فيما قيل وشُهِر، واحتُجَّ له بورود مؤنَّثه على فَعْلاء كحمراء، وهو لَدَّاء إن صحَّ، والراجح أنَّه اسم تفضيل باق على التفضُّل أو خارج عنه؛ لأنَّ الصفة المشبَّهة التي على وزن (أفعل) تختصُّ بالألوان والعيوب ونحوها، ولا يصحُّ أن يقال في (أعلم) و(أفضل): إنَّهما صفتان مشبَّهتان، وهو قول الخليل والزجَّاج، وإضافة اسم التفضيل لفاعله معنًى جائزةٌ، ويجوز تقدير: (وهو ألدُّ ذوي الخصام)، أي: خصامه ألدُّ الخصام، أو الضمير للخصام وهو ضعيف، أو (الْخِِصَام) جمع (خَصْم)، كصَعْب وصِعاب، أي أشدُّ من كلِّ من يخاصم، وهو يخاصم المسلمين خصامًا شديدًا أعظم من يخاصمهم في الخصام، والشديد [هو] الخصامُ أو صاحبُه فيقدَّر (في) أيْ: (ألدُّ في الخصام).

5. والآية في المنافقين كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ [المنافقون: 4]، وكانوا حسني المنظرِ والكلامِ في الإسلام والتحبُّب، فذكر الله حسن كلامهم هنا وحسن أجسادهم هنالك، والإفراد للجنسِ ولفْظِ (مَنْ).

6. والمشهور الأخنس بن شريق، وكان منهم كذلك؛ وزعم بعضهم أنَّه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، ويعارضه قوله: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾، واسمه أبيٌّ، ولقِّب (الأخنس) لأنَّه خنس بقومه أي تأخَّر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاثمائة رجل بعد خروجهم لأُحُد، وقال: (إن كان غالبًا فهو ابن أختكم وأنتم أسعد به، وإن غُلب كفيتموه)، وكان يحلف بالله إنَّه مؤمن محبٌّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قدم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة وأظهر له الإسلام وأعجب النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك منه، وقال: (إنَّما جئت أريد الإسلام، والله تعالى يعلم أنِّي لصادق)، فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يدنيه إليه في المجلس، فكذَّبه الله وفضحه.

7. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ ذهب عنك وعن المسلمين؛ أو صار واليًا، والأوَّل أولى؛ لأنَّ الحال الواقعة ـ وتتكرَّر أيضًا ـ هي ذهابهم أو ذهابه، لا الولاية.

8. ﴿سَعَى فِي الَارْضِ﴾ أسرع أو ذهب مجتهدًا بقلبه، ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ ذلك في الأخنس واضح، وأمَّا في المنافقين عمومًا فلإرادة الجنس بـ (مَنْ) ومراعاة لفظها، ولأنَّه منهم، والإفساد في الأرض على العموم كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الَارْضِ﴾ [البقرة: 11]، فهو بالكذب والنميمة والغيبة والسرقة والصدِّ عن دين الله، والإهلاك خصَّه هنا بالحرث والنسل تخصيصًا بعد تعميم، وهذا أولى من جعل الإفساد في الأرض إهلاكهما مع تفسير الإفساد بالإهلاك المذكور.

9. وذلك كما روي أنَّ الأخنس مرَّ بحرث ثقيف ومواشيهم ليلاً وهم مسلمون فأحرق زرعهم، وعقر مواشيهم في أرجلها، ويقال: إنَّها الحمر، والنسل الحيوان، ولو كبير السنِّ، وأصحاب الحرث والنسل مسلمون، وكما يفعل ولَاة السوء من إهلاك الحرث والنسل، وكما تظلم الولَاة فيمنع الله المطر، فيهلك الحرث والنسل بالقحط، أو يرسل مطرًا مفسدًا لهما، أو طاعونًا في النسل وضررًا في الحرث لشؤم الظلم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصم)، قال أبو الدرداء: (كفى بك إثمًا أن لا تزال مماريًا، وكفى بك ظلمًا أن لا تزال مخاصمًا، وكفى بك كاذبًا أن لا تزال محدِّثًا إلَّا حديثًا في ذات الله تعالى )، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي لا يقبله، فهو يعاقب عليه.

10. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ﴾ بترك الفساد والمضارِّ، ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ احتوت عليه العظمة التي في قلبه لنفسه والأنفة حتَّى صار كالمأخوذ بها، وذلك مجاز؛ لأنَّ أصل العزَّة خلاف الذلِّ، ﴿بِالاِثْمِ﴾ لمواقعة ما هو ذنب، وأغرته العزَّة عليه، فيفعله لخصام من يأمره بتقوى الله تعالى ، أو مع الإثم، أو بسبب الإثم، أو (أَخَذَتْ) بمعنى أَسِرَتْ، كما يقال للأسير: (أَخيذ)، أي جعَلته حميَّةُ الجاهليَّة أسيرًا بحبل هو الإثم.

11. وفي الآية ذمٌّ لمن يغضب إذا قيل له: اتَّقِ الله، قال بعض: ولا يعزِّر القاضي من قال له: (اتَّق الله)، ويعزِّر من قال له: اِعدل، وعن ابن مسعود: (من أكبر الذنب أن يقول الرجل لمن قال له: اتَّقِ الله تعالى، عليك بنفسك عليك بنفسك).

12. ﴿فَحَسْبُهُ﴾ كافيته، لا اسم فعل بمعنى: كفته، لوقوعه اسمًا لـ (إنَّ) في قوله تعالى : ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ [الأنفال: 62]، ﴿جَهَنَّمُ﴾ نارها وزمهريرها، والكفاية هنا تهكُّم؛ لأنَّها صَرْفُ السوءِ، أو الشيءِ، أو في الخير، أو بمعنى الكفالة بجزائه، ووزن جهنَّم (فَعَنْلَل) بزيادة النون إلحاقًا للرباعيِّ الأصول بخماسيِّها، من قولهم: (بئر جهنام)، أي بعيدة القعر، وذلك من الجهم أي الكراهة، وقيل: وزنه (فَعَنَّل) كـ (دَوَنَّك) لموضع، و(حفنَّك) للضعيف، وقيل: النون أصل فهو خماسيٌّ، حروفه أصول، ووزنه (فعلَّل) بشدِّ اللام الأولى: كـ (عرندس)، وقيل: جهنَّم فارسيٌّ أصله (كَهْنَام) فعرِّب، ﴿وَلَبِيسَ الْمِهَادُ﴾ جهنَّم، والمهاد بمعنى الفراش، أو ما يمهَّد للنوم، تهكُّم.

13. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّشْرِي﴾ يبيع ﴿نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ﴾ رضَا ﴿اللهِ﴾ بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتَّى يصاب بضرر أو يقتل، فالشراء لنفسه بَذْلُها لله، سَلِمَت أو تَلفت أو أصابه ضرٌّ، إلَّا أنَّ المناسِب لسائر الآيات المفسَّرة بالقتل، كقوله تعالى: ﴿اِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُومِنِينَ أَنفُسَهُمْ﴾ [التوبة: 111] أن يراد هنا أنَّه قُتل شهيدًا.

14. وقد قيل: نزلت في صهيب بن سنان الروميِّ، عذَّبه المشركون ليرتدَّ فقال: (إنِّي شيخ كبير لا أنفعكم ولا أضرُّكم، خذوا مالي وخلُّوني)، ففعلوا، وهو من العرب، ونسب للروم لأنَّ الروم أسرته صغيرًا ونشأ فيهم، وذلك شراء لنفسه من جهنَّم بماله؛ لأنَّه أبدله ليبقى إسلامُه لا يرتدُّ ولا ينقص، ولا حاجة في هذا على إبقاء الشراء على ظاهره؛ وَلَمَّا خلَّوه هاجر للمدينة، وروي أنَّه هاجر فتبعته جماعة من المشركين، فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه، فقال: (يا معشر قريش، لقد علمتم أنِّي من أرماكم، والله لا تصلون إليَّ حتَّى أرمي بما في كنانتي، وأضرب بسيفي ما بقي منه شيء، ثمَّ افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكَّة)، فرضوا فدلَّهم، وقيل: لَمَّا قال لهم ذلك رغبوا عن قتاله فقالوا له: (دلَّنا على مالك وبيتك)، فعاهدوه فدلَّهم فخلَّوه، ونزلت الآية، وأخبرهم النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل قدومه واستقبله عمر وقال: (يا صهيب، ربِـح البيع) وتلا عليه الآية، ولا تضعف هذه الرواية لانتفاء المقابلة؛ لأنَّا نقول: لم تنتفِ؛ لأنَّ صهيبًا اشترى نفسه طلبًا لمرضاة الله، يقبل الحقَّ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا تأخذه العزَّة، ولا ينهى عن المعروف ولا يأمر بالمنكر، وهاجر إلى ذلك؛ فذلك مقابلة تامَّة، ثمَّ إنَّ المقابلة ليست لازمة، وقيل: نزلت في الزبير والمقداد، إذ خرجا إلى تنزيل (خُبَيْب) من الخشبة التي صلبه عليها أهل مكَّة.

15. ﴿وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ إذ أرشدهم إلى مثل هذا الشراء المورث للثواب الوافر، وجعل النعيم الكثير الدائم جزاءً لعمل قليل منقطع، ولم يكلِّف ما لا يطاق أو ما فيه عسر، وأنَّه يغفر للتائب ولو عبدَ الصنم ألف عام ومات عقب توبته، وأنَّ المال والنفس له ويشتري ملكه بملكه.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/6.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى واستشعار عظمته وفضله، وإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها بل هو مما يهدي إليه الدين خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه، وإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق؛ لأنه مخلد إلى حضيض البهيمية لم تستنر روحه بنور الإيمان ولم يرتق عقله في معارج العرفان.

2. ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجبا؛ أي: طريفا غير مبتذل، والخطاب عام.

3. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي أن من الناس فريقا يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة؛ لأنك تأخذ بالظواهر وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة لسانه، في غش معاشريه وأقرانه، يوهمهم أنه مؤمن صادق، نصير للحق والفضيلة، خاذل للباطل والرذيلة، متق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن، لا يريد للناس إلا الخير، ولا يسعى إلا في سبيل النفع.

4. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي: يحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي، وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا، قال تعالى: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وهو تأكيد معروف في كلام العرب.

أليس الله يعلم أن قلبي..، يحبك أيها البرق اليماني...

وقال العلماء: إن هذا آكد من اليمين، وعن بعض الفقهاء أن من قاله كاذبا يكون مرتدا؛ لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى.. وأقل ما يدل عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإن أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودد إلى الناس بالقول.

5. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي: وهو في نفسه أشد الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودد إليهم، أو هو أشد خصمائهم، على أن الخصام جمع خصم ككعاب جمع كعب وهو المختار، واللدد شدة الخصومة ولدد (كتعب) الرجل لازم، ولدد خصمه (كنصر) شدد خصومته، ولاده للمشاركة، وفيه وجه آخر قاله بعضهم وهو أن الخصام بمعنى الجدال؛ أي: وهو قوي العارضة في الجدل لا يعجزه أن يختلب الناس ويغشهم بما يظهر من الميل إليهم وإسعادهم في شئونهم ومصالحهم.

6. الأوصاف المحمودة التي يعتمد عليها ثلاثة: حسن القول بحيث يعجب السامع، وإشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده، وفي معناه ما هو من ضروب التأكيد الذي يقبله خالي الذهن، وقوة العارضة في الجدل التي يحاج بها المنكر أو المعارض، وأما بيان سوء حاله وفساد أعماله، فهو في الآيتين التاليتين وقد مهد لهما بقوله تعالى: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ والتمهيد في بداية الكلام للمراد منه في غايته من ضروب البلاغة وأفنانها.

7. هذا الفريق من الناس يوجد في كل أمة، وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار، ففي بعض الأزمنة لا يتيسر للواحد أن يغش بزخرف القول إلا الفرد أو الأفراد المعدودين، وفي بعضها يتيسر له أن يغش الأمة في مجموعها حتى ينكل بها تنكيلا وإن الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقا للغش العام، كما تكون طريقا للنصح العام، وإنما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لا سيما في طور الانتقال من حال إلى حال؛ إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد.

8. في الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسرين وهو أن الظرف ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بالقول قبله؛ أي: يعجبك قوله إذا تكلم في شئون الحياة الدنيا وأحوالها، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها؛ لأن حبها قد ملك عليه أمره، والميل إلى لذاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه، وصار هو المصرف لشعوره ولبه، فينطلق لسانه ـ ومثله قلمه ـ في كل ما يستهوي أصحاب الجاه والمال، ويستميل أهل السيادة والسلطان، ولكنه إذا تكلم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو، ووقع في العسلطة واللغو، فلا يحسن وقع قوله في السمع، ولا يكون له تأثير في النفس وذلك أن روح المتكلم تتجلى في قوله، وضميره المكنون يظهر في لحنه ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾، وفي الحكم: (كل كلام يبرز عليه كسوة من القلب الذي عنه صدر) ولهذا كان إرشاد المخلصين نافعا، وخداع المنافقين صادعا.

9. على هذا الوجه في التفسير تكون جملة ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ﴾ وصفا مستقلا غير حال مما قبله؛ أي: أنه لا يحسن إلا الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه، ولكنه يزعم أن قلبه مع الله، وأنه حسن السريرة، وإنك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهرا جليا كما وصف الله تعالى: يتركون الصلاة، ويمنعون الزكاة، ويشربون الخمور، ويتسابقون إلى الفجور، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يفضلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى، زاعمين أن هؤلاء المتقين قد عمرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد، ويقولون: نعم إننا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنا نحرمه، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنا لا نستحسنه، وأن ما نبتزه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا، وإنما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم، ومكافأة على خدمة أوطانهم، فهم بهذه الدعاوى ألد الخصماء، ألا إنهم هم السفهاء، فقد جرت سنة الله تعالى في خلقه، ودلت هدايته في كتابه، على أن سلامة الاعتقاد وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة، والأقوال النافعة ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾

10. انظر ما قاله عز شأنه، في وصف فريق هذه الدعاوى العريضة، والقلوب المريضة، قال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾، في تفسير التولي هنا قولان:

أ. أحدهما: أن صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإن سعيه يكون على ضد ما قال، يدعي الصلاح والإصلاح وحب الخير، ثم هو يسعى في الأرض بالفساد؛ ذلك أنه لا هم له إلا في الشهوات واللذات والحظوظ الخسيسة، فهو يعادي لأجلها أهل الحق والفضيلة ويؤذيهم؛ لأنه ألد خصم لهم للتناقض والتضاد في الغرائز والسجايا، ويعادي أيضا المزاحمين له فيها من أمثاله المفسدين، فلا يكون له هم وراء التمتع وأسبابه إلا الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم، فهو يفسد باعتدائه على الأموال والأعراض.

ب. والآخر: أن المراد بـ ﴿تَوَلَّى﴾ صار واليا له حكم ينفذ وعمل يستبد به، وإفساده حينئذ يكون بالظلم مخرب العمران وآفة البلاد والعباد، وإهلاكه الحرث والنسل يكون إما بسفك الدماء والمصادرة في الأموال، وإما بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم وفوائد مكاسبهم، ومن انقطع أمله انقطع عمله، إلا الضروري الذي به حفظ الدماء، ولا حرث ولا نسل إلا بالعمل، وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية فقرأنا وشاهدنا أن البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها، وتتبعها ماشيتها، وتقل ذريتها، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان، ويفشو فيها الجهل، وتفسد الأخلاق، وتسوء الأعمال حتى لا يثق الأخ بأخيه، ولا يثق الابن بأبيه فيكون بأس الأمة بينها شديدا ولكنها تذل وتخنع للمستعبدين لها، وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر، ما فيه ذكرى ومزدجر.

11. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ بما يكون من أثر إفساده في اعتدائه، وهو ذهاب ثمرات الحرث: وهو الزرع، والنسل: وهو ما تناسل من الحيوان، وكأنه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية، وفي هذا عبرة كبرى للذين يقطعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره انتقاما ممن يكرهونهم، وهي جرائم فاشية في أرياف مصر لهذا العهد، فأين الإسلام وأين هداية القرآن؟ وذكر الأزهري أن المراد بالحرث ههنا: النساء كما في قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ وبالنسل: الأولاد، وهل المراد نساء الناس وأولادهم، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصة؟ ولعل الأمر أعم؛ فإن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهرا وباطنا أو باطنا فقط، فالمفسد الشرير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه، وقال محمد عبده: إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به عن ذلك من قبيل المثل، فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها.

12. لما كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه، عند من يظن أنه يجهل حقيقة أمره، قال تعالى بعد بيان عمله في الإفساد: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي: إن إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود، والظاهر عنوان الباطن، فإفساده في عمله دليل على فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ لأنه لا يحب الفساد، وفي الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة، لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول، فإن الناس إذا انصرفوا من مجالس القول لم يكن لهم بد من سعي وعمل، والعمل إما خير وإصلاح، وإما شر وإفساد، وكل إناء ينضح بما فيه.

13. لما كان الإفساد يصدر تارة عن الجهل وسوء الفهم، وأحيانا عن فساد الفطرة وسوء القصد، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة، مبادرا إلى قبول النصيحة، وكان شأن الآخر الإصرار على ذنبه، كالمستهزئ بربه، ذكر من صفة المفسد ما يميز بينه وبين المخطئ، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي: أنه إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر يسرع إليه الغضب، ويعظم عليه الأمر، فتأخذه الكبرياء والأنفة، وتخطفه الحمية وطيش السفه، فيكون كالمأخوذ بالسحر، لا يستقيم له فكر؛ لأنه مصر على إفساده لا يبغي عنه حولا، وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة؛ للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزة المطلوبة.

14. قال محمد عبده: هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة؛ لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا؟ وإن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه، وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وبيان معناه، فعظم عليه أن يقول أحد: إنني أنصح لك ولأنك إمامي، وكان ذلك آخر عهد الناصح به، فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله ولرسوله وللأئمة، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء والملوك المسلمين، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين، وأما الطغاة البغاة الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة، فإنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه، فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبا عجيبا؟ !

15. حمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جراء الأمر بالتقوى، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمره بالصلاح والاحتماء عليه؛ لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرا به، وصرفا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين، وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم، والسعي في إيذائهم وإن لم يأمروهم بذلك؛ إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر ـ على إطلاقهما ـ كافيان في فضيحتهم، وذاهبان بخلابتهم، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعوتهم، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول، أو الاختراع والتقول؛ ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين، إن فلانا مغرور لا يعجبه أحد، خطأ جميع الناس، وصفهم بالضلال، سفه أحلامهم، شنع على أعمالهم، فرق بينهم، وما أشبه هذا.

16. هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى، وإن قدروا حبسوا وضربوا، ونفوا وقتلوا، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي: هي مصيره، وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية، ثم وصف جهنم، وهي دار العذاب في الآخرة، بقوله: ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ المهاد: الفراش يأوي إليه المرء للراحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فالله تعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار، وهي بئس المهاد وشره، لا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها، وقال بعض المفسرين: إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكم.

17. أنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيا في نفسه شارحا لما عليه البشر في حياتهم متصلا بما قبله ملتئما معه في السياق أن الكلام عام، وما روي من أن له سببا خاصا لا ينافي عمومه، وقد اختلفوا في السبب للآيات فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا ـ لما هلكت سرية للمسلمين ـ: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، وروى ابن جرير عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر، فإن صحت الروايتان فالظاهر أن من جعلهما سببا حمل الآيات عليهما في الجملة، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثتين اللتين إن صحتا كانتا في وقتين متباعدين؛ فإن الأخنس من مشركي مكة.

18. ثم ذكر الله تعالى الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزة إذا ذكر بالله تعالى فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في قلبه، والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به، فإن من يشري؛ أي: يبيع نفسه لله، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته، لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق، مع الإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور، ومتاع الزينة والغرور، وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه، وأما الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب، ولا تظهر آثاره في الأعمال، ولا يحمل صاحبه شيئا من الحقوق لدينه وملته ولا لقومه وأمته، فلا قيمة له في كتاب، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله، بل يخشى أن يقال لذويه: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾

19. ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها، وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى، كقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ إلى قوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني، فمن آثر شهوته على مرضاة ربه، والتزام حدوده، والمحافظة على هدي دينه، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة، ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا، ولذاتها وقصورها، وخمورها وحورها، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين، وخدمته المخلصين؛ لأن الحق مر في مذاق المبطلين.

20. الآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة، بل هي مؤيدة لها، فإن طلبها من الطرق الحسنة؛ أي: المشروعة النافعة، لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له؛ ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره، فلنا أن نتمتع بها حلالا، ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى، قال بعض الصحابة لما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر)؟ قالوا: نعم، قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم من حديث أبي ذر، لكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل.

21. هذا البيع لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما، أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام، وحينئذ يكون فرضا عينيا على جميع الأفراد فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه، ومن قدر عليه بماله وجب عليه، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده، ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال، ويتمتع بالحلال، وينفع نفسه ولا يضر غيره، وأن يصلي ويصوم؛ لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة، بل يجب أن يكون وجوده أوسع وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم بحفظ الشريعة، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال، والدعوة إلى الخير ومقاومة الشر، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه، فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى، وكان أكبر إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه؛ ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا، فيعظم خيرها وينتفع الناس بها، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم، وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم، فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة؛ لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه، فهو غني عن العالمين، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله وآثروا مرضاته على ما سواه، فليعرضه غيره من المنصفين عليها، ولا سيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة، لا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك، ولا قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية، وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون، ولا يزكون ولا يحجون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا، ويصرون عليها إصرارا.

22. ذكر الله تعالى أن من الناس من يشري؛ أي: يبيع نفسه، وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين، والإخبار هو الذي يدل على الوقوع، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان.

23. ثم بين الله تعالى أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك ـ وهو من تكليف ما لا يطاق ـ لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه.

24. من الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم، والأمر كذلك، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم؛ إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وإن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها؛ إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة، وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين، وكذلك ساد سلفنا الصالحون، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون، فهل نحن معتبرون؟

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/245.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافى التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.

2. لما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان: منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه.

3. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، في غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متّق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.

4. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي، ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعي في إصلاح شئونهم.

الخلاصة ـ إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة:

أ. حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.

ب. إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.

ج. قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.

5. مثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر، وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان.

6. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا، فهم يدّعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد، إذ لا همّ لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة، ويكونون من ذوى اللدد والخصومة لهم، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز، بل يعادون أمثالهم من المفسدين، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم، وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون.

7. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها، وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره، انتقاما ممن يكرهونهم، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن.

8. يرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ وبالنسل الأولاد، فيكون المراد ـ إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق ـ لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها، أو عن كونها من سعيهم.

9. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه، فلا يحب المفسدين، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

10. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه، إذ يخيل إليه أن النصح والإرشاد ذلة تنافى العزة التي تليق بأمثاله.

11. في طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا.

12. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية، وستكون مهاده ومأواه، وهى بئس المهاد وشره، فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها.

13. ثم ذكر الفريق الآخر فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها غير مرضاته، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه، وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاد المؤمن بنفسه وما له في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها، أو الاستيلاء على شيء من أرضها، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك، وإن قدر عليهما معا وجب عليه، فإن قصر في شيء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله.

14. ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما، ولا يكلفهم‏ إلا ما في وسعهم عمله، ويشترى منهم أموالهم لأنفسهم وهى ملكه تعالى بما لا يعدّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شرّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/110.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية ـ التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية ـ يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجا للتربية، قائما على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح: هذه هي بعينها التي عناها القرآن!

2. في هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر:

أ. الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان، الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها، والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره، فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل!

ب. والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابا في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه.

3. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الإطلاق، فاللمسات البشرية لا تستوعب ـ في لمسات سريعة كهذه ـ أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول.. إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات.. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا، مميز الشخصية، حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول: هذا هو الذي أراد إليه القرآن!.. إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد البارئ في عالم الأحياء! هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.

4. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾.. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدا للتجرد والإخلاص، وإظهارا للتقوى وخشية الله.. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.

5. هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره.. هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.. حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.. وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.

7. ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾.. تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب، وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن‏ ﴿بِالْإِثْمِ﴾.. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء! إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها.. وتدع هذا النموذج حيا يتحرك، تقول في غير تردد: هذا هو، هذا هو الذي عناه القرآن! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن! وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد..

8. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.. حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة، جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون، جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة، جهنم التي لا تبقي ولا تذر، جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم‏ ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ ويا للسخرية القاصمة في ذكر ﴿الْمِهَادُ﴾ هنا.. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء.

9. ذلك نموذج من الناس، يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾.. ويشري هنا معناها يبيع، فهو يبيع نفسه كلها لله؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله، ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء، بيعة كاملة لا تردد فيها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.. والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية.. يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه، فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله، وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:

10. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول.

11. سواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد، وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان؛ فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة، مفسود الفطرة.. والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.. وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان، ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والزواق! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/203.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الكلمة لها معتبرها ولها حسابها في سلوك الشخص، وفى توجيهه إلى الخير أو الشر، سواء أكانت تلك الكلمة مسموعة أو مقروءة، تدخل على الإنسان من العالم الخارجي.. أو ملفوظة، تتولد في عالمه الداخلي، ثم تتصور كائنا مكتملا، يتحرك بها لسانه، وينطق بها فمه، فالكلمة الواردة على الإنسان، لا تذهب هكذا صوتا ضائعا في الهواء، بل إنها تتردد أصداؤها في كيانه، وتثير فيه مشاعر بقدر ما تحمل من طاقات الحسن أو القبح، والحق أو الباطل، ثم سرعان ما تتحول تلك المشاعر إلى نزوع يتبعه عمل، ويلتزم به سلوك، والكلمة الصادرة من الإنسان ليست مجرد صوت منطلق منه، بل هي مدركات تحولت إلى مشاعر، ومشاعر تصورت في كلمات، وكلمات تشير إلى أعمال، وتهتف بمنجزات، لهذا كان ذلك الاهتمام العظيم من الإسلام، للكلمة، ينطق بها المسلم أو يستمع إليها.. وكان منهجه التربوي في هذا أعدل منهج وأحكمه.. فهو من جهة، حرس سمع المسلم من أن يستمع إلى اللغو من القول، أو الزور من الكلام، وأعلى مقام أولئك الذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما، ثم هو من جهة أخرى أقام على منطق المسلم حارسا لا يدع لكلمة السوء منطلقا تنطلق منه، بل وأكثر من هذا، فإنه نبّه إلى وساوس السوء التي تتحرك في صدر الإنسان ليميتها قبل أن تتخلّق منها المشاعر والكلمات، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾

2. في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ فضح للكلمة المنافقة تنطلق من فم المنافق، منمقة، مزوقة، مموهة ببريق لامع يضلل ويخدع، فهناك طوائف من الناس تتخذ من الكلمة الخادعة المنافقة طريقا لترويج الباطل، فيضعون على ألسنتهم كلمات معسولة، تفيض رقة وتتناغم حنانا ومودة، ولو ذهبت تفتش في ثناياها، وتنظر في أطوائها لوجدتها تنغر قيحا وصديدا، وتفور زفيرا وفحيحا، بما تحمل في كيانها من حسد وبغضاء.

3. هكذا كان موقف المنافقين من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، إذا لقوا الرسول هشّوا له وتخاضعوا بين يديه، وألانوا القول وزينوه، وأشهدوا الله أن علانيتهم مثل سرهم، وأن ما يجرى على ألسنتهم منطلق من صميم قلوبهم.. فالمنافق يستر نفاقه بهذا الدهان، ويغطى كذبه بالحلف بالله وبكل ما يحلف به، وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾

4. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ بيان للوجه الآخر من وجهى المنافق، فهو كان يلقى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الوجه المدهون بالرياء والنفاق، ثم لا يلبث أن يلقى هذا النقاب عن وجهه حين يزايل مكانه ويولّى ظهره، وهنا يطلق نفسه على سجيتها، فينفث سموم حقده، ويرمى بشرر عداوته، في كل موقع من مواقع الخير!

5. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ يكشف عن الإمعان في الضلال، والإغراق في الخداع والتمويه، من هذا المنافق الذي يعيش في ضلاله ونفاقه، حتى ليكاد ينسى أنه يلبس ثوب النفاق، ويتزيا بزى الباطل.. فإذا قال له قائل: (اتق الله) في نفسك وفى الناس، واقتصد من هذا الشرّ الذي تزرعه في كل مكان، وتخفف من هذا الفساد الذي توزعه في كل أفق ـ إذا قيل له هذا أو نحوه أنكر على قائله هذا القول، ونظر إليه من عل نظرة ساخطة هازئة تقول في غير حياء: وما ذا من تقوى الله غير هذا؟ وما ذا على طريق الصالحين والمتقين غير الذي أنا فاعله؟ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾، ذلك هو تقدير المنافق، وتلك هي عاقبة أمره‏ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

6. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ﴾ والناس ـ مع هذا ـ في خير.. فإذا كان فيهم من يبيع نفسه للشيطان، ويتزود من دنياه بما يثمّر له الباطل والضلال، فإن في الناس من يبيع بيع السّماح نفسه في سبيل الله، حيث ينال الشهادة مع الشهداء، أو يقيمها على جادة الطريق، فيكظمها عن كل محرّم، ويذودها عن كل مأثم! ولو أحد من هؤلاء الذين سكنوا إلى الله خير للإنسانية من ملء طلاع الأرض من أمثال هذا الإنسان المشئوم، الذي استغواه الشيطان، فملك زمامه، واستبدّ بأمره.

7. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ﴾ توجيه كريم من أرحم الراحمين لعباده، الذين يشتدون على أنفسهم، ولا يرفقون بها فيما ينبغي الرفق فيه، ولا يعطونها حقّها فيما أحل الله من طيبات، فلمثل هؤلاء يتوجه هذا التوجيه الحكيم الكريم‏ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/228.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ عطف على جملة ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 200] إلخ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا والآخرة، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة في الدنيا، وهم المذكورون في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]

2. ﴿مِنَ﴾ بمعنى بعض كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 8] فهي صالحة للصدق على فريق أو على شخص معين (ومن) الموصولة كذلك صالحة لفريق وشخص.

3. الإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب: انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه، ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس، صار العجب مستلزما للاستحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لي استحسانه، قال الكواشي يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار: عجبت من كذا، فقوله: ﴿يُعْجِبُكَ﴾ أي يحسن عندك قوله.

4. المراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله: وهو ألد الخصام إلى آخره.

5. الخطاب إما للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار، فيكون المراد بـ ﴿مِنَ﴾ المنافقين ومعظمهم من اليهود، وفيهم من المشركين أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي، أو طائفة معينة من المنافقين، وقيل: أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان مولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكان يظهر المودة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلاثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم عن الانضمام إلى المشركين فقيل: إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق، وقال ابن عطية: لم يثبت أنه أسلم قط، ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل: إنه حرق زرعا للمسلمين وقتل حميرا لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضا ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 10، 11] ونزلت فيه‏ ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلا فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.. ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيرا للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه.

6. الظرف من قوله‏ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:

أ. يجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه على حد قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ والظرفية المستفادة من (في) ظرفية حقيقية.

ب. ويجوز أن يتعلق بكلمة ﴿قَوْلُهُ﴾ أي كلامه عن شئون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبي ولا يقول شيئا في أمور الدين، فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق، وحرف (في) على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى عن والتقدير قوله: عن الحياة الدنيا.

7. معنى‏ ﴿يُشْهِدُ اللهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ‏﴾ أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق، وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاما حلوا تعين أن يكون مدعيا أن قلبه كلسانه قال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ [التوبة: 62]

8. معنى‏ ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل، تقول: لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم، فهو لاد ولدود فاللدد شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم:

وألدّ ذي حنق عليّ كأنّما...تغلي حرارة صدره في مرجل‏

فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل، ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا: لداء وجمعه جاء على فعل قال تعالى: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: 97] وحينئذ ففي إضافته للخصام إشكال؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في (الكشاف): إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام ألد أي نزّل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي، كأنه قيل: خصامه شديد الخصام كما قالوا: جنّ جنونه وقالوا: جدّ جدّه، أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام، وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد ﴿وَهُوَ﴾ تقديره: وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعيّن أن يؤوّل بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذ فالتأويل مع عدم التقدير أولى، وقيل‏ الخصام هنا جمع خصم كصعب وصعاب وليس هو مصدرا وحينئذ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين.

9. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ إذا ظرف تضمن معنى الشرط، و﴿تَوَلَّى﴾:

أ. إما مشتق من التولية وهي الإدبار والانصراف يقال ولى وتولى وقد تقدم قوله تعالى: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: 142] أي وإذا فارقك سعى في الأرض ليفسد، ومتعلق‏ ﴿تَوَلَّى﴾ محذوف تقديره تولى عنك، والخطاب المقدر يجري على الوجهين المتقدمين.

ب. وإما مشتق من الولاية: يقال ولي البلد وتولاه، أي وإذا صار واليا أي إذا تزعم ورأس الناس سعى في الأرض بالفساد، وقد كان الأخنس زعيم مواليه وهم بنو زهرة.

10. ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾:

أ. السعي حقيقته المشي الحثيث قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ [القصص: 20]

ب. ويطلق السعي على العمل والكسب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ [الإسراء: 19] وقال امرؤ القيس: (فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة)

ج. ويطلق على التوسط بين الناس لإصلاح ذات البين أو لتخفيف الإضرار قال عمرو بن كلثوم:

ومنّا قبله السّاعي كليب‏...فأيّ الفضل إلّا قد ولينا

وقال لبيد: (وهم السّعاة إذا العشيرة أفظعت) البيت.

د. ويطلق على الخرص وبذل العزم لتحصيل شيء كما قال تعالى في شأن فرعون‏ ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ [النازعات: 22]

11. يجوز أن يكون هنا بالمعنيين الأول والرابع أي ذهب يسير في الأرض غازيا ومغيرا ليفسد فيها، فيكون إشارة إلى ما فعله الأخنس بزرع بعض المسلمين، لأن ذلك مؤذن بكفره وكذبه في مودة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، إذ لو كان وده صادقا لما آذى أتباعه، أو إلى ما صنعه بزرع ثقيف على قول من قال من المفسرين إن الأخنس بيت ثقيفا وكانت بينه وبينهم عداوة وهم قومه فأغار عليهم بمن معه من بني زهرة فأحرق زروعهم وقتل مواشيهم، لأنّ صنيعه هذا بقوم وإن كانوا يومئذ كفارا لا يهم المسلمين ضرهم، ولأنه لم يفعله انتصارا للإسلام ولم يكن في حالة حرب معهم فكان فعله ينم عن‏ خبث طوية لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفارا ضرا لا يجر إلى نفعهم؛ لأنهم لم يغزهم حملا لهم على الإيمان بل إفسادا وإتلافا ولذلك قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾

12. قوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ تأكيد لمدلول‏ ﴿سَعَى﴾ لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله، ولذلك قال بعده‏ ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ فاللام للتعليل، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.

13. يجوز أن يكون‏ ﴿سَعَى﴾ مجازا في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمال الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقول كيد ويكون ليفسد مفعولا به لفعل‏ ﴿سَعَى﴾ والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبّره، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدّرة معه (أن (مفعول به كما في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: 32] وقول جزء بن كليب الفقعسي:

تبغّى ابن كوز والسفاهة كاسمها...ليستاد منّا أن شتونا لياليا

إذ التقدير تبغّى الاستياد منا، قال المرزوقي: (أتى بالفعل واللام لأنّ تبغى مثل أراد فكما قال الله عزّ وجل: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: 32] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغى ليستاد أي تبغى الاستياد منا)، وهذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علة للفعل مع كونه مفعولا به، فالبليغ يأتي به مقترنا بلام العلة اعتمادا على أن كونه مفعولا به يعلم من تقدير (أن) المصدرية، ويكون قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلقا بسعي لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم، وبذلك تكون إعادة ﴿فِيهَا﴾ من قوله: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ بيانا لإجمال قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ مع إفادة التأكيد.

14. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ بضم الياء أي يتلفه، والحرث هنا مراد منه الزرع، والنسل أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولا إذا سقط وانفصل، وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس، وكانوا أهل حرث وماشية فليس المراد خصوص هذين بل المراد ضياع ما به قوام الناس، وهذا جار مجرى المثل، وقيل الحرث والنسل هنا إشارة إلى ما صنع الأخنس بن شريق، وأيا ما كان فالآية دالة على أن من ينتسب في مثل ذلك صريحا أو كناية مستحق للعقاب في الآخرة ولذلك عقب بجملة التذييل وهي‏ ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ تحذيرا وتوبيخا.

15. معنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد، وإلّا فالمحبة ـ وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشئ ـ مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة: الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال.

16. لا شك أن القدير إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق، وسمى الله ذلك فسادا وإن كان الزرع والحرث للمشركين: لأن إتلاف خيرات الأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.

17. الفساد ضد الصلاح، ومعنى الفساد: إتلاف ما هو نافع للناس نفعا محضا أو راجحا، فإتلاف الألبان مثلا إتلاف نفع محض، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناسي لا رجحان كمية النفع على كمية الضر، فإتلاف الأدوية السامة فساد، وإن كان التداوي بها نادرا لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط رواجها وبأمانة من تسلم إليه، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بله إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيّات والعقارب والفئران والكلاب الكلبة، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلا لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة، فقتال العدوّ إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة، ومن أجل ذلك نهي عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلّا إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء من ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها.

18. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي‏ تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك، والأخذ أصله تناول الشيء باليد، واستعمل مجازا مشهورا:

أ. في الاستيلاء قال تعالى: ﴿وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]

ب. وفي القهر نحو ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ [الأنعام: 42]

ج. وفي التلقي مثل‏ ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: 81]، ومنه أخذ فلان بكلام فلان.

د. وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة، ومنه قوله هنا ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ أي احتوت عليه عزة الجاهلية.

19. العزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم‏...ولا ينكرون القول حين نقول‏

ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالبا في العرب بسبب كثرة القبيلة، وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم: وإنما العزة للكاثر، وقالوا: لن نغلب من قلة وقال السموأل‏

وما ضرّنا أنا قليل وجارنا...عزيز وجار الأكثرين ذليل‏

ومنها جاء الوصف بالعزيز كما في قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209]

20. (أل) في (العزة) للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه، لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.

21. ﴿بِالْإِثْمِ﴾ الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقين: 8] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان.

22. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ تفريع على هاته الحالة، وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ في آل عمران [173]، ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب: (على قدر أهل العزم تأتي العزائم)، أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.

23. جهنم علم على دار العقاب الموقدة نارا، وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث، لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعجمة وهو قول الأكثر: جاء من لغة غير عربية، ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه، ومن جعله عربيا زعم أنه مشتق من الجهم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فعنّل بزيادة نونين أصله فعنل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لامه الأولى وهي النون إلحاقا له بالخماسي ومن قال أصلها بالفارسية كهنّام فعربت جهنم، وقيل أصلها عبرانية كهنّام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له لا يلتفت لقوله لوجود دونك اسم واد بالعالية وحفنكى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران، فيكون جهنم نادرا، وأما قول العرب ركيّة جهنم أي بعيدة القعر فلا حجة فيه، لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم، لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة نارا قال ورقة بن نوفل أو أميّة بن أبي الصّلت يرثي زيدا بن عمرو بن نفيل وكانا معا ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية:

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنّما...تجنّبت تنّورا من النّار مظلما

وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة نارا وجعل‏ ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [البقرة: 24]

24. ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ أي جهنم، والمهاد ما يمهد أي يهيّأ لمن ينام، وإنما سمى جهنم مهادا تهكما، لأن العصاة يلقون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم.

25. ﴿ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾، هذا قسيم‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ [البقرة: 204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعابا لقسمي الناس، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به.

26. ﴿يَشْرِي﴾ معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]، واستعمل ﴿يَشْرِي﴾ هنا في البذل مجازا، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكا في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.

27. ﴿مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ رضاه فهو مصدر رضي على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعا كالمدعاة والمسعاة، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النّمري، وقيل: غير ذلك، والأظهر أنها عامة، وأن صهيبا أو غيره ملاحظ في أول من تشمله.

28. ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ تذييل أي رَؤُوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة.

29. الظاهر أن التعريف في قوله (العباد) تعريف استغراق، لأن الله رَؤُوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرّزق، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.

30. يجوز أن يكون (أل) عوضا عن المضاف إليه كقوله‏ ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 41]، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ في [سورة الحجر: 42]

31. مناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رَؤُوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان ما صدق (من) عاما كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رَؤُوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلا بنفسه وهو من لوازم التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له، وإن كان ما صدق (من) صهيبا فالمعنى والله رَؤُوف بالعباد الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال، والمناسبة أن صهيبا كان عبدا للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.

32. في هذه الآية وهي قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 204] إلى قوله‏ ﴿رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلّا بعد التجربة والامتحان، فإن من الناس من يغر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري:

وقد يخلف الإنسان ظنّ عشيرة...وإن راق منه منظر ورواء

33. شمل هذا الحال‏ قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (إن من البيان لسحرا) بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكلم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية، وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/250.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بعض العبادات التي تطهر النفوس وتزكى القلوب، وتحمى الجماعات وتوجهها نحو الخير العميم؛ فذكر الصدقات ثم ذكر الصوم، ثم ذكر الحج الذي تتلاقى فيه القلوب وتلتقى فيه وفود الجماعات الإسلامية من كل فج عميق في الساحة الربانية؛ وقد ذكر في طيّ الكلام أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم، وأن منهم من يطلب الدنيا، ولا غاية له وراءها، ومنهم من يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة]، والعبادات أيا كان نوعها دواء الجماعة وبلسم القلوب الشافي.

2. بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الدواء الناجع ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم، ومرضها الممض، وهو النفاق، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيّئ، ومحاولة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر، وظهر الفساد في البر والبحر، وهكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب، ويذكر داءها، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها، ونفى الخبث عنها كما ينقى الكير خبث الحديد، وهذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارا للشرع، وهذا ما ترمى إليه الآيات الكريمات.

3. ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان: فريق الشر أهل النفاق، وهم الداء، وهم درن الأمة، بل السرطان الذي يقضى عليها، إن لم يجتث من أصله، والفريق الثاني، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.

4. ابتدأ سبحانه بذكر الداء، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به، وقد ذكر صفات أهل الشر؛ فكانت ثلاثة:

أ. أولها: حسن البيان والقول الحلو،.

ب. ثانيها: كثرة الحلف الكاذب.

ج. ثالثها: اللدد في الخصومة.

5. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ هذه هي الصفة الأولى، وهى أصل الداء القاتل وقوته، فإن خلابة اللسان المنافق، وقوة البيان الكاذب، وحسن العرض للقول الباطل، هي المعاول القوية التي يرفعها المبطلون لهدم الفضائل؛ فهم بمعرفتهم بمأتى القول ومورده يثيرون الإعجاب بحسن تأتيهم، وينالون الاستحسان العظيم بلطف مداخلهم، أو بزخرف القول وزوره، ويسترعون ألباب بعض أهل الخير الكرام؛ فالمؤمن غر كريم، والمنافق خب لئيم‏.

6. ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:

أ. إما أن يكون متعلقا بالقول، ويكون المعنى يعجبك قولهم الذي يكون موضوعه الحياة الدنيا، إذ يفهمون ما فيها ولا يدركون سواها؛ لأنها خلب أكبادهم، وغاية أمورهم؛ ومن أحب شيئا أحسن القول فيه، ومن كانت الدنيا همه أحسن حكاية أمورها، حتى إن قوله فيها ليكون عجيبا؛ أما الآخرة فلا يحسن القول فيها، لأنه لا يبتغيها، فإن تكلم في أمر يتعلق بها اعترته حبسة وعى وحصر.

ب. وإما أن يكون‏ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلقا بالإعجاب، أي أن قدرته على إثارة الإعجاب والاستحسان لبيانه إنما يكون ذلك في الدنيا فينتج ثمرته حيث يكون الحكم للظاهر، ولا ينقب عن القلوب والسرائر.

7. نختار أن يكون متعلق الجار والمجرور لا القول؛ لأنه الذي يتفق مع السياق؛ إذ إن السياق في بيان الذين يخدعون الناس في الدنيا وقلوبهم مريضة لا بيان حال من يجيدون القول فيها، وإن بعض الذين يجيدون القول في الدنيا أخيار لا أشرار.. هذا أول حال من أحوال الذين يظهرون ما لا يخفون، ويقولون ما لا يفعلون.

8. أما الصفة الثانية فهي قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أي أن هذا الذي يثير إعجاب الناس في الدنيا بخلابة لسانه وقوله الحلو المعجب المطرب، إن رأى الناس يتشككون في قوله أقسم بصدقه؛ لأنه قد يبدو من فحوى بيانه ما يدل على جنانه كما قال تعالى سبحانه في شأن المنافقين ومن في قلوبهم مرض: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد] فإذا لمح المخادع من النظرات التى‏ توجه إليه استغرابا لدعاويه، أو استبعادا لها، وثقها بأن أشهد الله على أن ما في قلبه يوافق ما يجرى على لسانه، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ أنه يقسم بالله تعالى إن ما جرى على لسانه هو نفس ما يختلج في قلبه، أو ما يؤمن به ولقد قرر علماء اللغة أن من ألفاظ القسم: الله يعلم أنى فعلت كذا، أو الله يشهد أنى قلت كذا؛ فهذا توكيد بالأيمان معروف في لغة العرب، ولقد قرروا أن الحلف على هذا النحو أوكد وأوثق من القسم الصريح، وقال بعض الفقهاء: إن من يقول كاذبا: الله يشهد بكذا أو يعلم بكذا، مؤكدا كذبه بذلك، يعتبر مرتدا؛ لأنه كذب على الله، أو رماه بالجهل، وعندى أن ذلك لا يعد كفرا لعدم القصد إلى ذلك المعنى الإلحادي؛ ولكنه على أي حال مستهين بحق الله عليه كشأن كل حالف بالكذب، سواء أكان الحلف بلفظ صريح في الحلف، أو بلفظ يؤدى إليه.

9. أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة، وبهم تبتلى، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر، وتذهب الثقة بين الناس، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة، والبغضاء محل الإخاء؛ لأنهم بخديعتهم للناس، ثم تكشف أحوالهم بمرور الأيام تضيع الثقة؛ ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لا يبغون خيرا، بل لا يبغون إلا شرا؛ لأن الأخيار لا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم، وما يجول في قلوبهم؛ إنما الذين يبدون ما لا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد؛ ولذلك عرّف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الشر بأنه: (ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فالشر لا يعيش إلا في كنّ مظلم والنور يقتله، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء؛ ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك؛ وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته؛ بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره، وفى الآخرة له عذاب أليم، ولذلك كان أخوف ما يخافه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم على أمته من بعده: رجلا عليم اللسان منافق القلب‏؛ فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين، ويفسد الأمر على المحقين؛ ويجعل بأس الأمة بينها شديدا، ولقد روى ابن جرير عن بعض الصالحين أنّه قال: (إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب؛ ويقول الله عزّ وجل: فعلى يجترئون وبي يفترون، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران‏)، ومهما يكن من أمر ذلك الخبر، فإن معناه متحقق سجله الإسلام، وأثبتته الوقائع، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها، واضطراب حالها، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد، وآخره فتنة وخراب.

10. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بايمانهم، والألد من معناه في اللغة: العوج، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾، أي عوجًا، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما، واللدد من معناه اللغوي أيضا: الشدة في الخصومة والمغالبة فيها، ويقال رجل ألد وامرأة لدّاء، وقد لدد يلدّ ـ كفرح يفرح ـ لددا؛ أي صار ألد، ولددته ألدّ كنصر ينصر إذا جادله فغلبه، وقال الزجاج في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق، وهى صفحتاه؛ وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب.

11. الخصام ـ إما أن يقال إنه مصدر خاصم أي جادل أو عادى؛ أو تقول جمع خصم كضخم وضخام؛ وقال أبو عبيدة الأول أي أنه مصدر خاصم، وقال الزجاج الثاني، والمعنى على الأمرين: أن ذلك النوع من الناس الذي يحاول أن يخدع الناس بحلو لسانه، ويضلهم بقدرة بيانه، فيه طبع ملازم له، وهو شدة الخصومة، ويصح أن نفسر الخصومة بالعداوة، كما يصح أن نفسرها بالجدل والمغالبة البيانية في ميدان المناظرات:

أ. وعلى الأول يكون المعنى إنه شديد العداوة واللجاجة في الخصومة، فليس هينا لينا قريب الرضا سهل الرجوع، بل إنه لحب نفسه وكراهيته لخير الناس، لا يصفح عمن ينال منه ولو بالحق فهو قد أكل الحقد قلبه، واعتركت في نفسه حسكة يجب استيفاؤها؛ وكلما انحدر في جريمة وتلقفته يد العدالة ازداد للناس كرها وعاد إلى مثلها أو أكثر؛ وكذلك أولئك الذين في قلوبهم مرض، وفى ألسنتهم حلاوة يخدعون بها الناس: يبغضون الناس ولا يحبونهم إلا بمقدار ما ينالون من أرب فيهم، ولا يصفحون عمن ينالهم بالقصاص العادل، ويتبعون العورات؛ وهكذا هم في خصومات قلبية بينهم وبين الأخيار؛ يظهرون القول الحسن ليستمكنوا من الرقاب، ثم يشفوا غيظهم.

ب. وعلى الثاني، وهو أن يكون الخصام بمعنى المجادلة والمنازلة البيانية، يكون المعنى: أن هؤلاء الذين يخادعون الناس بالقول الحلو، يثيرون الإعجاب بحسن بيانهم، ويوثقونه بالأيمان المغلظة، ويجادلون عنه بقوة وعنف وغلب؛ فالكلام‏ يكون كله في بيان منهاجهم في خدع الناس، وسلب ثقتهم بقول الزور؛ ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق.

12. اللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة؛ لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل، إذ لا يهمه الحق بمقدار ما يهمه انتصار فكره، وغلبه في ميدان النزال البياني؛ ولذلك كان مبغضا إلى الله، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد؛ ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)، ولقد كان الإمام مالك يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

13. فى الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادع فيهم الأمران السابقان: فيهم البغض الشديد للناس، وفرضهم أعداء وخصوما، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا؛ وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل، بل إن بغضهم للناس، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة إخوة واصلة، ومودة مقربة، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق، واليمين الغموس، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ، ويختفى فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين؛ ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ولكرهوا ما يكرهون لهم، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة؛ فالحق دائما أبلج، والباطل لجلج‏؛ فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة، لا أخوة جامعة؛ وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج.

14. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ في هذه الآية الكريمة بيان الغاية التي تغياها من يريد أن يخدع الناس، فهو يخدعهم ليمكن لأهوائه وشهواته، وإذا تمكنت الأهواء والشهوات واندفع الشخص في اجتراعها، يشتار عسلها من غير دين رادع، ولا حكم زاجر ـ سرى الفساد في جسم الأمة كما يسرى الداء العضال في جسم المريض، وبذلك يهلك الحرث والنسل، أي يهلك الزرع والحيوان، وفيهما جماع حاجات بنى الإنسان، فما من أمر يحتاج إليه الإنسان في مقومات جسمه إلا كان من الحيوان أو من النبات، وهلاكهما كناية عن الخراب العام، والضيق الشديد، والفساد المستحكم، وضياع المصالح.

15. الحرث: مصدر حرث يحرث؛ بمعنى أثار الأرض لإعدادها للزراع ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض نفسها، ثم أطلق وأريد به ثمرات الحرث وهو الزرع الذي حان حصاده، والثمر الذي آتى أكله؛ والمراد به هنا ذلك.

16. النسل في أصله: مصدر نسل ينسل بمعنى خرج وسقط، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ [يس‏] وقوله تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء]، أي يخرجون، ثم أطلق على خروج الحيوان‏ من بطن أمه وولادته، ثم أطلق وأريد به ذات الحيوان الوليد.

17. في التعبير بهلاك الحرث والنسل بسبب استحكام الشهوات وسيطرة أهل الأهواء، إشارة إلى عموم الفساد في المدائن والقرى، وبين أهل الزرع وسكان البوادي، أي بيان عموم الشر للحاضرة والبادية؛ لأن هلاك النسل رمز لهلاك ما تقوم عليه البادية وما به قوام حياتها؛ إذ إن رأس مال البادية النعم من الإبل والبقر والغنم وأخواتها، وقيام الثروة في سواد الأرض الزرع وما تنتجه‏ الأرض، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات، فقد عم الفساد؛ وهلك العباد.

18. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإصلاح، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا:

أ. على الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده: إن ذلك الذي يدعى الصلاح والإصلاح، وحب الخير والمنفعة، ويعلن ذلك بحلو اللسان، ويقسم عليه الأيمان، ويجادل عنه بأبلغ البيان ـ إذا تفرقت المجالس، وانصرف إلى العمل، بدت طويته، وظهرت نيته، وانكشفت سريرته، فاندفع في الشهوات ينال منها؛ وقد ترك قوله دبر أذنه، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفى حقيقة أمره، فيكون منه الشر والفساد، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال، وكانت العاقبة السوأى.

ب. على الأمر الثاني، وهو أن يكون معنى تولى صار واليا: أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته، ونال طلبته، وصار واليا على الناس، لا يسعى لنفعهم، ولا يقيم الحق بينهم، بل يسعى لإشباع رغباته، ويحكم الناس لنفسه لا لهم، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم، أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لا يحصيها العد.

19. هذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لا لهم، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن سعيه لا محالة يؤدى إلى الفساد، لا إلى الصلاح؛ لأن الطمع يلد الطمع، والهوى يلد الهوى فتتسلسل‏ الأهواء في سلسلة أولها إعجاب بالنفس وزهو وخيلاء، وآخرها ضياع وفساد، وهلاك للحرث والنسل، ثم ذل واستخذاء.

20. اللام في قوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ هي التي يسميها العلماء لام العاقبة أي أنها تشير إلى أن العاقبة ـ في عمل المتولى الذي يحكم الناس لنفسه ولرغباته وأهوائه لا لمصالحهم ونفعهم ـ هي الفساد في الأرض، والهلاك العام لكل ينابيع الثروة في البلاد، والله يتولى برحمته العباد.

21. نختار أن يكون معنى التولي هو صيرورته واليا؛ لأنه ذلك هو الذي يتفق مع الآية الآتية، وهى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾

22. ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ وذلك لعدة أمور:

أ. أولا ـ لبيان أن الله لا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله، ويجادل ويمارى، ويضل عن بينة، ويسعى في الأرض بالفساد؛ إذ الله لا يحب الفساد فلا يحب المفسدين، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته، معرض لنقمته.

ب. ثانيا ـ ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم، فهو الغنى الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد؛ ولا يضار من فسق فاسق؛ إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم.

ج. ثالثا ـ وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأن دفع الضرر، مقدم على جلب النفع، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة.

د. رابعا ـ وإن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله؛ لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

23. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون، وينزلون بالناس ما ينزلون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك، فإذا تقدم أحد الناس مرشدا واعظا نهروه، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى، وأخذتهم العزة؛ أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء؛ ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان، وفوق ما ارتكبوا من آثام، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام.

24. الباء في قوله تعالى: ﴿بِالْإِثْمِ﴾ إما أن تكون بمعنى المصاحبة والاقتران، والمعنى على هذا أخذتهم العزة واستولت عليهم مقترنة بالإثم مصاحبة له، فهي ليست عزة محمودة، بل كبرياء مبغوضة؛ أو تكون الباء للسببية بمعنى لام التعليل، ويكون المعنى: أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها، وأنغضوا رؤوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم؛ وإصغار لشأنهم، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان، وإكبار للأمر، وخصوصا إذا كان من ناصح أمين.

25. إذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا؛ وهم في إحدى حالين، وكلتاهما نتيجتها السوأى: إما أن يديل الله منهم في الدنيا، ويجعلهم عبرة المعتبرين، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا، وتمامه في الآخرة.. وإما أن يمهلهم ويملى لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويلقى بهم في نار جهنم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

26. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر: لا يقيم الحق، بل يفسد، ولا يطيع الناصح بل يؤذيه، وربما يقتله؛ فالله كافيه ومتوليه، وهو العزيز المنتقم الجبار، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم، بإلقائه في نار الجحيم؛ فمعنى‏ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أي جهنم هي التي تكفيه، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه.

27. ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهى داخلة على جوابه، والمهاد جمع مهد، وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين، كما يقال: (تحية بينهم ضرب وجيع) وكقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق‏]

28. أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق؛ ولعل الأمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام، فضلا عن الوعظ والإرشاد؛ وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين.. ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية: من قال لي اتق الله قطعت عنقه، بل إن هذه الصور المعتمة هي التي يسود بها تاريخ المستبدين، فإن لم يقولوها بلسان المقال قالوها بلسان الفعال، وهو أقوى أثرا وأبعد طغيانا؛ ولذلك كان من الجهاد في سبيل الله: أن يقول المؤمن لهم كلمة الحق؛ وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر)

29. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدى إلى الفساد، وإلى الهلاك، وحالهم إذا تولوا حكم الناس ـ ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء، وعلاج ذلك المرض الفتاك، وصلاح ذلك الفساد؛ فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدى إلى هلاك الحرث والنسل، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره، ويصدعون بأمر الله، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ أي يبيع نفسه لله سبحانه؛ فيفدى دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق ـ إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وهى مجاهدة الشر والتغلب عليه، وإزالة أوضاره؛ فإن ذلك يقتضى التعرض للأذى، بل للتلف، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا، بل إنه يكون أفضل الشهداء، كما صرح بذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم‏.

30. هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه، ويفدى الحق بنفسه وماله، لا يطلب إلا ثمنا واحدا، هو أعلى الأثمان، وهو رضا الله سبحانه وتعالى؛ ولذا قال سبحانه فيما يطلبه: ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الابتغاء: الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة.

31. مرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره؛ والذى يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا؛ فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أو لا، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الموجود المتحقق؛ وعلى ذلك يكون معنى‏ ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم.

32. أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلى الجماعات بأهل الشر والطاغوت، وحكم الظالمين؛ فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه، ويجهرون به، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره، وجعل كلمة الله هي العليا؛ وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه، وبين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وبذلك يكون الناس أربع طوائف:

أ. أولاها ـ أهل الشر الطاغون، الظالمون.

ب. ثانيتها ـ أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق.

ج. ثالثتها ـ أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم.

د. رابعتها ـ أولئك الذين ينظرون، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر؛ وأولئك هم الذين سماهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الإمعة؛ وقد نهى صلّى الله عليه وآله وسلم عن مسلكهم، فقال: (لا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)

33. ﴿وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية؛ للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا:

أ. أولها ـ إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوى بجوار الشر المندفع، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة، ولولا ذلك لعم الفساد، وهلك العباد، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة]

ب. ثانيها ـ الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما؛ لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوى عزيز يعض عليه بالنواجذ؛ وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية.

ج. ثالثها ـ إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين، وأن يمكن للعادلين؛ فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم؛ والحاكم العادل ظل الله في أرضه، ورحمته بخلقه؛ وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلى الحكيم.

34. في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به) اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/635.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ملأ بعض المفسرين الجدد الصفحات بكلام رائع من الوجهة الفنية في تفسير هذه الآيات، ولكنه لم يزد شيئا على تقسيم الناس الى طيب وخبيث، وبديهة ان هذا معلوم للجميع لا يحتاج الى بيان فضلا عن التفسير والتطويل.

2. سؤال وإشكال: إذا كان تقسيم الناس معلوما للجميع يكون بيانه تحصيلا للحاصل، وتوضيحا للواضح، مع ان كلام الله سبحانه يجب أن يحمل على أحسن المحامل؟ والجواب: من الجائز أن يكون القصد هو الإرشاد والتوجيه الى أن العاقل ينبغي له أن لا يخدع بالظواهر، ولا يثق بمن يتقن صناعة الكلام، فان المفسدين المأجورين متخصصون بهذه الصناعة وعملية الرياء، فعلينا أن لا نعتمد على أحد الا بعد التجربة، وقيام الدليل على صدقه ونزاهته، وهذا أصل عام يتفرع عليه كثير من الأحكام الدينية والدنيوية، كاختيار الحاكم والنائب والقاضي والمفتي، وكل من يتولى مصلحة من المصالح العامة، وغريبة الغرائب ان تطلب الشهادات العلمية من المرشح للوظائف الحساسة التي تناط بها مقدرات البلاد وحياة العباد، ولا يسأل عن أمانته وكفاءته الخلقية، مع انها الأساس.. ان الكثير من حملة الشهادات يستعملونها أداة للصوصية.

3. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾، أي يظهر الحب والخير، وهو من أشد الناس عداوة للخير وأهله.

4. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾، اختلف المفسرون: هل المراد بالتولي هنا الانصراف والاعراض، ويكون المعنى ان هذا الذي يدعي الإصلاح إذا انصرف عن مخاطبه سعى في الأرض بالفساد، أو ان المراد بالتولي الولاية والسلطان، ويكون المعنى إذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من إهلاك الحرث والنسل؟ ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه رجح المعنى الثاني بقرينة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ لأن الحاكم المستبد يكبر عليه أن يرشد الى مصلحة، أو يحذر من مفسدة، فهو يرى ان هذا المقام الذي ركبه يجعله أعلى الناس رأيا، وأرجحهم عقلا، بل يرى نفسه فوق الحق، كما انه فوق أهله في السلطة.. فكيف يجوز لأحد أن يقول له: اتق الله.

5. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ الحرث الزرع، والنسل ما تناسل من الحيوان، والمراد بهما جميع المصالح الاقتصادية من زرع وصناعة وماشية، ومواد أولية، وما اليها مما يتصل بحياة الناس ومعيشتهم، وإنما خص الزرع والماشية بالذكر، حيث لم يكن للصناعة وتوابعها أهميتها وخطرها آنذاك كما لها اليوم، وحرمة هذه المقدرات في نظر الإسلام، تماما كحرمة الدماء، ومن اعتدى على شيء منها فقد اعتدى على الانسانية نفسها، حتى ولو كان ذلك ملكا للعدو المحارب، فلقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن قطع الأشجار، والتعرض للزرع والعمار، وعن إلقاء السموم في بلاد المشركين ايام الحرب وغيرها.. ولو قارنّا بين شريعة الإسلام، وبين ما تفعله الدول الاستعمارية (المتحضرة!) اليوم، وما تشنه من الحروب الكيماوية على ما تنبته الأرض من زرع وأشجار، ويدب عليها من انسان وحيوان، ومن تسميم الجو بالقنابل الذرية، والقائها على النساء والأطفال، لو قارنّا بينهما لعرفنا انسانية الإسلام وعدالته ورحمته، وتوحش الغرب، وافراطه في الظلم والاغتصاب.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، ولا شيء أعظم فسادا من اثارة الحروب، واستعمال الأسلحة المدمرة ضد الشعوب للسيطرة عليها، ونهب أقواتها، وحرمان أهلها من ثمار كدحهم وعرقهم.

7. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾، ان الطيب المخلص يتقبل النقد والنصح، بل يطلبه ويرحب به، لأنه لا يهدف الا الى الحق والواقع، ولا يطلب المديح والاطراء، لأن عمله لله، لا للسمعة والشهرة، قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلام يصف به المتقين: (لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون)، وقال في خطبة له ايام خلافته: (ليس امرؤ وان عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعاون على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وان صغّرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.. ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق ان يقال له، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه)

8. هذا هو شأن العالم المخلص حقا، أما المنافق الخائن فيصعب عليه قول الحق، لأنه يفضحه ويظهر مخازيه، ويشتري المديح الكاذب بأغلى الأثمان، ليستر نقائصه وأسواءه.

9. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، أي ان بعض المؤمنين يقبلون على الجهاد، ويحبون الموت في سبيل الله، تماما كما يحب غيرهم الحياة.. ولا دافع لهم إلا مرضاة الله وثوابه، قال الرازي في تفسير هذه الآية: جاء في سبب نزولها ثلاث روايات: منها انها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة، وانه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يا علي، يباهي الله بك الملائكة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/308.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة أعني قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾ الآية، تشتمل على تقسيم لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.

2. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية، أعجبه الشيء أي راقه وسره، وقوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بقوله: ﴿يُعْجِبُكَ﴾، أي إن الإعجاب في الدنيا من جهة أن هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلا على الظاهر، وأما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان وهو متعلق الحياة بالدنيا إلا أن يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه من قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾، والمعنى أنه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والأمة وهو أشد الخصماء للحق خصومة.

3. ﴿أَلَدُّ﴾، أفعل التفضيل من‏ لد لدودا إذا اشتد خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألد الخصام أشد خصومة.

4. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ الآية، التولي‏ هو تملك الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾، الدال على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي‏ هو العمل والإسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأوتي سلطانا وتولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، ويمكن أن يكون التولي بمعنى الإعراض عن المخاطبة والمواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد والإفساد.

5. ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾، ظاهره أنه بيان لقوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ أي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولما كان قوام النوع الإنساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أما التوليد فظاهر، وأما التغذي فإنما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى أنه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان وإبادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ المراد، بالفساد ليس ما هو فساد في الكون‏ والوجود (الفساد التكويني) فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد، ولا حياة إلا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، وحاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه، وإنما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله إنما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانية والجامعة البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الإنسانية، وفساد الدنيا، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية، وتصرفهم في أمر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا، وللمسلمين إلا انحطاطا، وللأمة إلا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، وذلك بهلاك الدين أولا، وهلاك الإنسانية ثانيا، ولهذا فسر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والإنسانية كما سيأتي إن شاء الله.

7. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، العزة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر أن قوله: ﴿بِالْإِثْمِ﴾ متعلق بالعزة، والمعنى أنه إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالإثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك أن العزة المطلقة إنما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: ﴿تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وحاشا أن ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب إثما أو شرا فهذه العزة إنما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.

8. من هنا يظهر أن قوله: ﴿بِالْإِثْمِ﴾ ليس متعلقا بقوله: ﴿أَخَذَتْهُ﴾، بأن يكون الباء للتعدية، والمعنى حملته العزة على الإثم ورد الأمر بالتقوى، وتجيبه الأمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببية، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الإثم الذي اكتسبه، وذلك أن إطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم إمضاءها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالإثم، أما قوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾، فليس من قبيل التسمية والإمضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الآية، فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا أصيلة.

9. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الآية، مقابلته مع قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ الآية، يفيد أن الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ﴾، بيان أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالإصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والإنسانية إلا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ الآية، بيان أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلا بربه ولا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الإنسانية، ويدر به ضرع الإسلام، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: ﴿وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لولا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والإفساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾، وقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، وقال: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾، فالفساد الطارئ على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.

10. أحاديث وآثار، وفوائدها، والموقف منها:

أ. عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما يبطن، قال وهو المروي عن الصادق عليه السلام، ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات، وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.

ب. عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ أن المراد بالحرث هاهنا الدين، والنسل الإنسان، وقد روي: أن المراد بالحرث الذرية والزرع، والأمر في التطبيق سهل.

ج. في أمالي الشيخ، عن علي بن الحسين عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسِهِ﴾، قال نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين أنها نزلت في شأن ليلة الفراش.. وفي بعضها نزلت في صهيب وأبي ذر بشرائهما أنفسهما بأموالهما، وقد مر أن الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.. وفي المجمع، عن علي عليه السلام: أن المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/96.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي ما يقوله في شأن الحياة الدنيا، كأن يقول: إنها متاع الغرور؛ لأنه كلام يعجب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والراجح يعجبك قوله الذي يغرر به ويخادع؛ لأنك لا تعلم ما في قلبه، وفي الحياة الدنيا، أي في دار التكليف والاختيار، التي ترك الله عباده يقولون ما شاءوا؛ لأن الحياة الدنيا وقت الاختبار والابتلاء، فلذلك تركهم الله يقولون ما يعجبك وهم به مخادعون.

2. ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ كأن يقول: أُشهد الله أن قلبي مؤمن بأنك رسول الله، وكقولهم: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون:1]

3. ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي يقول ذلك في حال أنه ألد الخصام، فهو كاذب ومخادع، وهو شديد الخصام يبالغ في الخصام ويتعمق فيه، أي في خصامه لك الذي يفعله وإفساده بما يبيت من القول وما يناجي به أصحابه وما يقوله لشياطينه، وفي (تفسير الغريب) للإمام زيد بن علي عليهما السلام: (فالألد: الشديد الخصومة بالباطل، والجمع: لدّ)

4. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ عنك بعد دعواه المذكورة، وقد سمع منك الحق والهدى لو كان يهتدي ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ حين تولى عنك بحيث يدل ذلك على أنه لم يكن صادقاً في دعواه لمسارعته إلى الفساد حين تولى؛ لأنه لو كان صادقاً لازداد هدىً بحضوره عند الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وسماعه منه، وكان بعيداً من الانقلاب والسعي للفساد العام الذي ﴿يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ لأنه يسعى لغلبة الكفار على رسول الله وهلاكه وذهاب الإسلام وعموم الكفر، وذلك ـ لو كان ـ سبب للعذاب كما كان في الأمم الماضية مثل قوم نوح ومن بعدهم، وفي (تفسير الغريب) للإمام زيد بن علي عليهما السلام: (فالحرث: الزرع، والنسل: نسل كل دابة)

5. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ كالبرهان على كذب المنافق في دعواه المذكورة؛ لأنه لو كان صادقاً لكان شأنه أن يسعى لما يحبه الله، وفيه تقريع له وتجهيل حيث جعل الفساد مكان الصلاح، كما لو وفد على رجل ضيف فعذبه فقيل في ذلك: ما هذه ضيافة جيّدة.

6. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ ﴿أَخَذَتْهُ﴾ استولت عليه وسيطرت عليه، وصرفته عن التقوى، و﴿الْعِزَّةُ﴾ عزته في نفسه واعتزازه ﴿بِالْإِثْمِ﴾ بتولي الكفار وظنه أن العزة لهم، كقوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ [النساء:139] وقولهم: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون:8] فلأجل محافظته على هذه العزة لا يتقي الله؛ لأنه يظن أن الإسلام سيذهب، وأن الكفر سيكون الغالب لما يرى للكفار من قوة في العدد والعدّة وللمسلمين من قلة العدد بالنسبة للكفار وقلة المال والعُدّة، فالعزة عنده في تولي الكفار وبقائه على النفاق، فعزته بالإثم صرفته عن تقوى الله التي منها: ترك النفاق، وترك موالاة الكفار في الخفاء، والإيمان كما آمن الناس.

7. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ جزاءً لجرائمه كلها ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ مهّد لنفسه، فقد كان يظن أنه بالنفاق يمهد لنفسه لحين غلبة الكفار على الإسلام، فإذا الواقع أنه مهد لنفسه جهنم.

8. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ يبيعها من الله لإيمانه بالله واليوم الآخر وزهده في الحياة الدنيا ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾ لحبه لله ورغبته في النجاة من عذابه وفي ثوابه العظيم.

9. ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ فهو يشتري منهم أنفسهم بأن لهم الجنة ويرضى عنهم ببيعهم أنفسهم، وأعدّ لهم أجراً عظيماً وفضلاً كبيراً؛ إذ ليس من الرأفة أن يبيعوا له أنفسهم ويتحملوا المشقة ليرضوه ثم لا يرضى عنهم، أو لا يعظم لهم الثواب ويصيرهم في أسعد حال، وهذا وعد مؤكد تأكيداً عجيباً من حيث أنه عبّر عنه بما هو برهان عليه، وروي أن هذه الآية نزلت في علي عليه السلام، وروى الحاكم الحسكاني(2) عن الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) قال (أول من شرى نفسه لله ـ عزَّ وجل ـ عليّ، ثم قرأ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ﴾) ومثل هذا رواه محمد بن سليمان الكوفي في (مناقبه)، ورواه الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) بإسناده عن أبي سعيد الخدري قصة مبيت علي عليه السلام على فراش النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وفي آخرها: (فأنزل الله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾) وفي تخريجه للشيخ المحمودي: أنه أخرجه الثعلبي في تفسير الآية من تفسيره (الكشف والبيان)

10. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

11. إن علياً عليه السلام مظنة ذلك وأهله لسائر الروايات الدالة على أنه عليه السلام فدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بنفسه ليلة الغار فأما شراؤه نفسه من الله فلا شك فيه ومقاماته تشهد بذلك في (بدر) و(حنين) و(الخندق) و(خيبر) و(أحد) وحديث الراية يدل على ذلك مع قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة:111] وهو رأس المؤمنين الذي (بحبه يعرف المؤمنون)، فصح أنه عليه السلام قد شرى نفسه من الله وأنه داخل في الآية دخولاً أوّليّاً، وهذا يقوّي الرواية أنها نزلت فيه، وليس المراد أنها خاصة به عليه السلام؛ إذ ليس في الآية دلالة على الخصوص، وقد دل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:111] على العموم لكل مؤمن صادق الإيمان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15]، فيدخل فيها الأئمة المجاهدون في سبيل الله من ذرية رسول الله، كالحسن، والحسين، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وأخوته، والحسين بن علي بن الحسن بن الحسن المقتول بفخ، وغيرهم.

12. ذكر الإمام الهادي عليه السلام في أواخر كتاب (الأحكام) كلاماً في هذا جرّ إليه البحث، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: بعد أن ذكر الحديث عن جبريل أنّه قال: إن يوم الجمعة يوم القيامة، وفيه تقوم الساعة) قال يحيى بن الحسين: (ما زلت مذ رويت هذا الحديث يدخُلُني في كل يوم جمعة وَجلٌ وخوف، وما ذلك من سوء ظني بربي ولا قلة معرفة مني برحمة خالقي، ولكن مخافة من لقائه ولم أقم بما أمرني بالقيام به، وأنهض بما حضّني على النهوض فيه وجعله أكبر فرائضه عليّ وأعظمها عندي ولديّ في مباينة الفاسقين ومجاهدة الظالمين والنصرة لدين رب العالمين، وإني لأرجو أن يكون الله سبحانه لا يعلم مني تقصيراً في طلب ذلك، ولكن لا راغب في الحق ولا طالب له من الخلق ولا معين لي عليه ولا مؤازر لي فيه، ولقد دعوت إلى ذلك فعُصيت ونهضت فيه فخُذِلت وخُلّيت ودعَوت إلى الرحمن وجهدت في إحياء ما أُميت من الإيمان فصُمَّتْ آذان هذا الخلق عن دعوتي وزهدوا فيما خَبَروا من حقائق سيرتي، وخُولفت في أمر الله فلم اتُّبَع، وعُصِيت حين دعوت إلى الله فلم أُطع، فقلت: رَبّ إني لا أملك إلاَّ نفسي، فبِعْتُها منه ومالي؛ في جوف الكعبة البيت الحرام؛ بما بذل لي من الثمن الربيح ذو الجلال والإكرام حين يقول: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:111]، ثم انتظرت أمر الله وأرصدت لذلك حتى يفتح الله ويأذن فيما طلبت من إحياء حقّه إذْنَ معونة وتسديد وتوفيق لذلك، وتأليف بين قلوب العباد الذين يرجَى بهم إصلاح البلاد أو نلقاه سبحانه على ذلك عازمين وبه متمسكين) نقلته لما فيه من الفوائد المتعلقة بالآية، وكونه تفسيراً لها.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/300.

(2) في شواهد التنزيل 1/130.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآيات صورة معبرة عن نموذجين من الناس، لا يخلوا منهما زمان ولا مكان أمام مواقف الحق والعدل والإيمان، فهناك النموذج المنافق الذي يحاول أن يستغل طيبة الناس وبساطتهم وصدقهم حيث يوحي إليهم بأن الذي يعايشونه طيّب وصادق ونظيف، فيستسلمون لكلماته الحلوة، وأساليبه الناعمة، ومواثيقه المؤكدة التي يحاول من خلالها أن يوحي للناس بأنه يحمل في قلبه كل النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للناس حياتهم وتوجهها إلى الطريق الحق والسعادة الكبيرة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في دلالته على إخلاصه وأمانته وتخطيطه للعمل الصالح الذي يتصل بحياة الناس في قضاياهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، ﴿وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ﴾ بالأيمان المغلظة والتأكيدات الحاسمة، ليخضع الناس له من باب قداسة الشهادة وعظمة الميثاق.

2. ويكمل القرآن الصورة من جانبها الآخر عندما ينفذ بنا إلى حياته الداخلية: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي: شديد الجدال والعداوة للمسلمين وللحق.

3. ذلك هو واقعه في منطلقاته الفكرية والروحية الذي لن يتعرف الناس عليه إلا من خلال التجربة المرة التي تظهر كل ما يحمله من المعاني السيئة الشريرة التي تختبئ خلف قناع الوجه الذي يمثل الصدق والوداعة، أو الكلمة التي تمثل‏ الحق والبراءة، ليتوصل من خلال ذلك إلى ما يريده من جاه ومال وشهوة، حتى إذا استقام له الأمر، وانفصل عن جو التمثيل، انطلق بعيدا عن كل ما كان يقوله ويؤكده ويظهر به، ليتحرك في الأجواء الحاقدة الطاغية الباغية التي يهلك فيها الحرث والنسل.

4. ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ ووصل إلى الموقع القيادي الذي يطمح إليه من أجل الحصول على النتائج المعنوية والمادية لحساباته الخاصة، واكتسب ثقة الناس به وتأييدهم له، فأصبح رمزا دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا يشار إليه بالبنان، ويجري الناس من خلفه تابعين له.

﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ بما يثيره في المجتمع من المشاكل والمنازعات والوسائل المدمّرة التي تحطم كل ما في الحياة من ثروة، ومن بشر.. وينطلق في المجالات التي تفسد واقع الناس الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمتد في طغيانه بعيدا عن رضا الله ومحبته.

5. اختلف المفسرون في كلمة ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ فقال بعضهم: إنها الإعراض والإدبار في مقابل إقباله على الناس بكلامه المعسول، وقال بعضهم: إنها الولاية، أي: إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، كما يقول صاحب الكشاف‏، ولعله الأقرب، لأن تلك الصفات توحي بالسلطة الكبيرة التي تمكنه من ذلك، وتبرر له الاستعلاء على الوعظ والنقد والأمر بالتقوى.

6. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ فإنه سبحانه يريد للحياة أن تعيش في أجواء الخير والصلاح التي تنمي خيراتها، وتطور مجتمعاتها، وترتفع فيها بالإنسان إلى الدرجات العلى في عقله وروحه وحركته، ولذلك أرسل رسله بالرسالات‏ المتنوعة التي تخطط للحياة الإنسانية، لتسير في الاتجاه الصحيح الذي ينسجم مع عناصر الحياة المودعة في شخصية الإنسان، وفي حركة السنن الكونية في الحياة، وربما كان هذا ما استوحى منه‏ الإمام الصادق عليه السّلام ـ في ما روي عنه‏ ـ أن المراد بالحرث هنا الدين، وبالنسل الإنسان‏؛ باعتبار أن الله زرع الدين في نظام الإنسان في الحياة، تماما كما هو الزرع في نظام الأرض؛ الأمر الذي جعل من هذا النموذج الذي يتولى المسؤوليات العامة في المجتمع، مشكلة للناس في منع انطلاقة الدين في خط الاستقامة الذي يؤدي إلى الصلاح، وذلك هو هلاك الحرث الاجتماعي في نظام الحياة، على سبيل الاستيحاء لا على سبيل المعنى، والله العالم.

7. قد تكون كلمة ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ واردة على نحو الكناية، لأن الطغاة المنافقين الذين يتولون أمور الأمة يعملون على إبادة حضارتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، بحيث لا تبقى هناك أية قوة لأي وجود، ولا أية ثروة لأية جماعة؛ فكأنه يهلك الحرث والنسل، لأنه يهلك الواقع السليم كله، وهذه عبارة تتكرر في الأساليب الأدبية في مقام التعبير عن الإنسان الذي يخرب الواقع كله.

8. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ووقف أمامه الناصحون والناقدون لينصحوه، ويبيّنوا له خطأ السبيل التي يسير فيها، وليعظوه، ويوجهوه إلى خط التّقوى الذي يدفعه إلى مراقبة الله في كل شؤون الحكم والحياة ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾، فتمسك به والتزمه اعتزازا به، فلم يستمع للنصائح، ولم يأخذ بالمواعظ؛ بل امتد في طغيانه واستعلى واستكبر في عملية إيحاء كاذب بأنه فوق مستوى النقد والشبهات، فهو الذي يعطي للآخرين برنامج العمل ويحدد لهم مسيرة الحياة، فلا يجوز لأحد أن يحدد له برنامجه ومسيرة حكمه.

9. تختم الآية الصورة بالمصير الذي ينتظر مثل هذا الإنسان‏ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمَ﴾ يعذب فيها أشد العذاب، ﴿وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الذي مهّده لنفسه بعمله وجريمته.

10. تلك هي صورة هذا النموذج الذي يتمثل بشخصية المنافق الذي يتحرك في حقول الدين والسياسة والاجتماع في كل زمان ومكان، هذا الذي يبيع نفسه للشيطان في كل ما يمثله من التواء وانحراف وإغراء وإغواء، من أجل أن يؤدي بنا إلى الانهيار والدمار من حيث لا نشعر ولا نريد.

11. هناك صورة أخرى لنموذج جديد مشرق في داخل الحياة وخارجها، تتمثل بالإنسان الذي شرى نفسه لله من أجل الحصول على رضاه‏، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ الأمر الذي يجعله يشعر أنه لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيدا عن إرادة الله وطاعته.

12. ولذلك فهو يعيش الإحساس العميق بأن عليه أن يبذل كل طاقاته الفكرية والروحية والجسدية في سبيل الله، فلا مجال للترف الفكري في الأجواء التي تتحرك فيها التحديات الفكرية ضد الفكر الحق، ولا موقع للخيال أمام حاجة الواقع إلى التعامل مع الظروف الموضوعية المطروحة في الساحة، ولا وقت للفراغ في المجالات التي يشعر فيها الإنسان والحياة، وهكذا تنطلق حياته لتتحرك من موقع الحق المتحرك في أكثر من اتجاه ضد خطوات الباطل التي تطلق التحدي في أكثر من مجال.

13. إنه نموذج الرساليين الذين يعيشون رسالتهم في كل مظهر لحركة الحياة من حولهم، ويعيشون حياتهم من أجل رسالتهم في الخط المستقيم؛ فلا ينحرفون أمام كل محاولات الإغراء ولا يستسلمون لكل عوامل الضغط؛ بل‏ يظلون في الموقع الصلب، في ساحات التحدي الصعب ليشهدوا الله على أنهم صدقوا العهد وأكدوا الميثاق بجهادهم وتضحياتهم في سبيله، ولم تأخذهم فيه لومة لائم.

14. ﴿وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ فهو الذي يتقبل منهم هذه النفوس المجاهدة التي تستقبل الموت بكل رضى واطمئنان، انطلاقا من خط الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة والشهادة بالنصر، ويجزل لها الثواب في مستقر رحمته ورضوانه، وهو الذي يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل.

15. يمكن لنا استيحاء الصورة في مجالها المتجسد في صورة الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام في ما يذكره الرازي في تفسيره قال: جاء في سبب نزولها ثلاث روايات، منها أنها (نزلت في علي بن أبي طالب عليه السّلام.. ولم تركز الآية على شخصية علي عليه السّلام، بل أطلقت التعبير ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ لأن القضية هي أن الله يريد للنموذج ـ الفكرة أن ينطلق ليكون عاما في حياة الناس، وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج السيّئ الذي لا يفكر إلا بذاته وشخصه.

16. نجد في حياة الإمام علي عليه السّلام حركة الصورة في الحياة في ما يمثله هذا الإمام العظيم من طاقات رائعة في الفكر والتقوى والشجاعة والإبداع، حيث فجرها بأجمعها في خدمة الإسلام والمسلمين، بعيدا عن كل مصلحة ذاتية، حتى‏ قال‏: (ما ترك الحق لي صديقا).. ولم يبدد أيّ واحدة منها في الترف أو الفراغ أو خدمة الذات.

17. ما نستوحيه من هذه الآيات عدة أمور:

أ. أن نتعلم كيف نمنح الآخرين الثقة والتأييد والدعم، من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر، لأن الكلمات قد تخدع، والمظاهر قد تغش، ولكن المواقف التي تتحرك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلا من قاعدة الحق والإخلاص، ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين، ليشعر الإنسان بأن للحياة أكثر من وجه وأن ظاهر الصورة قد لا يعبر عن واقعها في كثير من الحالات.

ب. أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع، من أجل أن نتابع الأول بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة في الحياة، لتخليص الناس من فساده وبغيه وطغيانه واستكباره، أما النموذج الثاني فنحاول متابعته بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الإنسان على أن يحتذيه ويقتدي به في كل مواقفه ومنطلقاته، لإفساح المجال أمام القيم التي يحملها والمواقف التي يمثلها أن تتحرك على الساحة بالخير والإصلاح والمحبة والإنسانية الودية الذكية.

ج. أن نتمثل في وعينا المبادئ السلبية من الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، لنجعل منها أساسا للتعامل السلبي مع كل البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، لنجابهها في ما نملكه من مواقع المجابهة كما نتمثل المبادئ الإيجابية التي تتلخص في أن يبيع الإنسان نفسه لله ابتغاء مرضاته، لنؤكد الخط الإيجابي في الحياة السائر على هذا النهج في عملية تقوية وتأييد وتنمية، مهما كانت الصعوبات التي تتحدانا، والمشاكل‏ التي تحتوينا، فإن ذلك هو الذي يحقق لنا معنى الالتقاء برضى الله في ما يحبه، والابتعاد عن سخطه في ما يكرهه؛ حتى نفهم من معنى الحب وعدم الحب، الجانب العملي الإيجابي والسلبي من خط العمل، لا الجانب الوجداني الداخلي الذي لا يلتقي إلا بالعاطفة الذاتية الواقعة في خط الانفعال.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/116.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أمران:

أ. أنّ هذه الآيات نزلت في (الأخنس) بن شريف) وكان رجلا وسيما عذب البيان يتظاهر بالإسلام وحبّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان كلّما جلس عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أقسم بالله على إيمانه وحبّه للرّسول، وكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يغدق عليه من لطفه وحبّه كما هو مأمور به، ولكنّ هذا الشخص كان منافقا في الباطن وفي حادثة نزاع بينه وبين بعض المسلمين هجم عليهم وقتل أحشامهم وأباد زرعهم (وبهذا أظهر ما في باطنه من النّفاق)

ب. ومن المفسّرين من نقل عن ابن عباس أنّ الآية المذكورة نزلت في سريّة (الرجيع) حيث بعث رسول الله مجموعة من الدعاة إلى القبائل المتوطّنة أطراف المدينة، فدبّرت لهم مؤامرة لئيمة استشهدوا فيها.

2. سبب النّزول الأوّل أكثر انسجاما مع مضمون الآيات، وعلى أيّ حال فالدرس الّذي تقدّمه الآية عام وشامل.

3. الآية الاولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول:‏ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾، و﴿أَلَدُّ﴾ تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي الرقبة وكناية عن الشخص الّذي يغلب الأعداء من كلّ جانب، و(خصام) لها معنى مصدري وهو الخصومة والعداوة.

4. ثمّ تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنيّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهي: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾، أجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم، لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا في الأرض مطلقا ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلّا أنّهم في الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشيّة.

5. احتمل كثير من المفسّرين أنّ المراد بقوله: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى﴾ أي إذا حكم، لأنّ‏ التولّي من الولاية بمعنى الحكومة، فيكون معنى الولاية حينئذ أنّ المنافقين إذا حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر.

6. (حرث) بمعنى الزّراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتطلق أيضا على أولاد الإنسان وغير الإنسان، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كلّ الموجودات الحيّة أعمّ من الأحياء النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة، وذكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير أخرى منها: أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرينة الآية الشريفة ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ والمراد بالنسل هم الأولاد، أو يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام المذكور في مجمع البيان)، وعلى كلّ حال فإنّ التعبير ﴿يُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ‏﴾ كلام مختصر وجامع لكلّ المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

7. الآية الآخرى تضيف:‏ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ فتشتعل في قلبه نيران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم، فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة النّاصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهيّة، بل يستمر على عناده وارتكابه للآثام والمنكرات مغرورا، فلا يكون جزاءه إلّا النار، ولذلك يقول في نهاية الآية: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، وفي الحقيقة أنّ هذه هي أحد الصّفات القبيحة والذّميمة للمنافقين حيث أنّهم لا يستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب، وهذه الصفات الذّميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلى درجات الإثم، فمن البديهي أنّ مثل هذه الأخشاب اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلّا بنار جهنّم.

8. ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الله عزّ وجلّ وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات في الآيات المذكورة آنفا:

أ. الاولى: أنّ كلامهم يخدع الإنسان.

ب. الثانية: أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة.

ج. الثالثة: أنّهم ألدّ الأعداء.

د. الرّابعة: أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا يرحمون أحدا من الإنسان والحيوان والزرع.

هـ. الخامسة: أنّهم وبسبب الغرور والتكبّر لا يقبلون ايّة نصيحة.

9. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ بالرّغم من أنّ الآية محل البحث تتعلّق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتضحية الإمام علي ومبيته على فراش النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلّي ـ كما في سائر الآيات القرآنية ـ عامّ وشامل، وفي الحقيقة أنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة الّتي تتحدّث عن المنافقين.

10. الطائفة السّابقة الّتي تحدّثنا عنها هي مجموعة من الأشخاص المعاندين والمغرورين والأنانيّين الّذين يحاولون أن يحقّقوا لهم بين المجتمع عزّة وكرامة عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، أما هذه الطائفة الثّانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّة ورفعة الّا بالله، وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدّين والدنيا ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام، ومن هنا يتّضح أنّ جملة ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ بمثابة النقطة المقابلة لما ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض‏

11. ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ وقد تكون إشارة إلى أن الله عزّ وجلّ في الوقت الّذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن الإنسان.

12. ممّا يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد أخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنّة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، ولعلّه لهذا السبب كانت (من) في الآية الكريمة تبعيضية (ومن الناس)، يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضا عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأمّا في الآية من سورة التوبة التي ذكرناها سابقا رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنّة الخالدة.

13. يحتمل أيضا في تفسير جملة ﴿واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ﴾ وتناسبها مع بداية هذه الآية أنّ المراد هو بيان هذه الحقيقة أنّ وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده، إذ لو لم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد المضحّين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لانهدمت أركان الدّين والمجتمع، لكنّ الله سبحانه بفضله ومنّه يدفع بهؤلاء الصّديقين الأولياء خطر أولئك الأعداء.

14. على أيّ حال، فهذه الآية ومع الالتفات إلى سبب النزول المذكور آنفا تعدّ أعظم الفضائل لإمام علي عليه السّلام الواردة في اكثر المصادر الإسلامية، وكانت في صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاوية العدو اللّدود للإمام علي عليه السّلام أن يرشي (سمرة بن جندب) بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثا مختلطا ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبد الرحمن بن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية، ولكنّ أحدا لم يقبل منه حديثه المجعول‏.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/69.

89. الإسلام والالتزام التام

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈89⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة: 208 ـ 210]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: لأنسبن اليوم الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلا بمثل ذلك: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو العمل، والعمل هو الاداء إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكن أتاه عن ربه وأخذ به، إن المؤمن يرى يقينه في عمله، والكافر يرى إنكاره في عمله فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمر ربهم، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة(1).

2. روي أنّه قال: الله الله في كبر الحميّة وفخر الجاهليّة فإنّه ملاقح الشنآن ومنافخ الشيطان اللّاتي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية(2)

3. روي أنّه قال: إذا بلغ أحدكم حجرته فليسلّم يرجع قرينه الشيطان، وإذا دخل أحدكم بيته فليسلّم تنزله البركة وتؤنسه الملائكة(3).

4. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام(4).

5. روي أنّه قال في تنزيه الله تعالى: المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها(5).

6. روي أنّه قال: إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب.. هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة.. داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل وخارج منها لا كشيء من شيء خارج(6).

__________

(1) المحاسن: ص222.

(2) نهج البلاغة: ص785.

(3) مشكاة الأنوار: 194.

(4) نهج البلاغة: الخطبة: 186.

(5) الكافي: 1/142/7.

(6) التوحيد: 305/1.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1.روي أنّه قال: ﴿السَّلْمِ﴾ الإسلام(1)

2.روي أنّه قال: ﴿السَّلْمِ﴾ الطاعة(2)

3.روي أنّه قال: ﴿كَافَّةً﴾: جميعا(3)

4.روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم قاموا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام؛ فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إن التوراة كتاب الله؛ فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية(4)

5. روي أنّه قال: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب(5) قد قطعت طاقات(6)

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٩٥.

(2) أبي حاتم: ٢/٣٧٠.

(3) ابن جرير: ٣/٦٠٢.

(4) الواحدي في أسباب النزول: ص٦٧.

(5) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(6) أبو يعلى ـ كما في المطالب العالية: ٣٩١١.

ابن العاص:

روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) أنّه قال في هذه الآية(1): يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب؛ منها النور، والظلمة، والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب(2).

__________

(1) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(2) ابن جرير: ١٧/٤٣٧.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: في قراءة أبي بن كعب: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملآئكة في ظلل من الغمام) قال يأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله فيما شاء(1)، وهو كقوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥](2)

__________

(1) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(2) ابن جرير: ٣/٦٠٥.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ يعني: في الإسلام جميعا(1)

2. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة(2)

3. روي أنّه قال: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ قال هو غير السحاب، ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة(3)، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر(4)

__________

(1) تفسير مجاهد: ص٢٣١.

(2) ابن جرير: ٣/٦٠١.

(3) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(4) ابن جرير: ٣/٦٠٨.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد وأسيد ابني كعب، وسعية بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم كنا نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت(1)

2. روي أنّه قال: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ قامت الساعة(2)

3. روي أنّه قال: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ قال طاقات، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ والملائكة حوله(3)

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٩٩.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٣.

(3) ابن جرير: ٣/٦٠٨.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: في سترة من الغمام، فلا ينظر إليه أهل الأرض(1)

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٢٨.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار، مع التنبيه إلى أن تفسيره لها ـ إن صح عنه ـ هو من باب الجري والتطبيق، لأن من مصاديق الآية الكريمة الحاكمية الإلهية، ومن أبرز القائمين عليها العترة الطاهرة التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

1. روي أنّه قال في قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾: (في ولايتنا)(1)

2. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ فقال: أمروا بمعرفتنا)(2)

3. روي أنّه قال في قول الله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، قال (السلم: هم آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، أمر الله بالدخول فيه)(2)

4. روي أنّه قال: السلم: هو آل محمد، أمر الله بالدخول فيه، وهم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به، قال الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾(2)

5. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [النور: 21]: إن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذور في المعاصي، وكل يمين بغير الله تعالى(3)

__________

(1) الكافي: 1/345.

(2) تفسير العيّاشي: 1/102.

(3) مجمع البيان: 1/252.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فِي السِّلْمِ﴾، يعني: الموادعة(1)

2. روي أنّه قال: قد علم الله أنه سيزل زالون من الناس، فتقدم في ذلك، وأوعد فيه؛ ليكون له به الحجة عليهم(2)

3. روي أنّه قال في الآية قال يأتيهم الله في ظلل من الغمام(3)، وتأتيهم الملائكة عند الموت(4)

__________

(1) أبي حاتم: ٢/٣٧٠.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٢٨.

(3) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(4) عبد الرزاق: ١/٨٢.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾: فالسّلم: الإسلام.. وكافّة: أي جميعا.. والسّلم في آية أخرى: الصلح.. قال ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ معناه للصلح، وجنحوا: معناه مالوا،(1)

2. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قد اختلف فيها أهلنا، فقال بعضهم: أمرهم أن يدخلوا في الإسلام في سرهم وعلانيتهم.. وقال آخرون: إنها نزلت في قوم من اليهود، وكانوا يبقون السبت ولحوم الإبل، فقال الله جل ثناؤه: وادخلوا في كل الإسلام إذا أسلمتم.. وقال آخرون: عنى به المؤمنين، يقول: كونوا فيما تستقبلون في الإسلام، لا تتبدلوا به، ولا تخرجوا منه، وهو كقوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: 136]، هذا محكم، وقوله: ﴿ادْخُلُوا﴾ كقوله: ﴿آمَنُوا﴾)(2)

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ معناه آثاره.. وواحدها خطوة،(3)

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 98.

(2) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/95.

(3) تفسير الإمام زيد، ص 93.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ في الإسلام(1)

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فإن ضللتم(2)

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٩٦.

(2) ابن جرير: ٣/٦٠٤.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ ادخلوا في الطاعة(1)

2. روي أنّه قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ الآية ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام قال الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء(2) فيما شاء(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٥٩٦.

(2) لا نرى صحة هذا، لدلالته الواضحة على التجسيم.

(3) ابن جرير: ٣/٦٠٩.

الكلبي:

روي عن الكلبي (ت ١٤٦ هـ) أنّه قال: هذا هو المكتوم الذي لا يفسر(1)

__________

(1) تفسير البغوي: ١/٢٤١.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار، مع التنبيه إلى أن بعض ما ورد تفسيره لها ـ إن صح عنه ـ هو من باب الجري والتطبيق، لأن من مصاديق الآية الكريمة الحاكمية الإلهية، ومن أبرز القائمين عليها العترة الطاهرة التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:

1. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، قال (في ولاية الإمام علي)، ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قال (لا تتبعوا غيره)(1)

2. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ (أتدري ما السلم؟) قيل: أنت أعلم، قال (ولاية علي والأئمة الأوصياء من بعده)(2)

3. روي أنّه قال: إنّ‏ من علامات شرك الشيطان الّذي لا يشكّ فيه أن يكون فحّاشا، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه(3).

4. روي أنّه قال: (من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان)(4)

__________

(1) الأمالي: 1/306.

(2) تفسير العيّاشي: 1/102.

(3) اصول الكافي: 2/323.

(4) اصول الكافي: 2/358.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُم﴾ أخطأتم(1)

2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، يعني بـ: ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾: ما أنزل الله من الحلال والحرام(2)

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٢٧.

(2) أبي حاتم: ٢/٣٧١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾، يعني: في شرائع الإسلام(1)

2. روي أنّه قال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، يعني: في شرائع الإسلام كلها(1)

3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُم﴾، يعني: ضللتم عن الهدى، وفعلتم هذا(1)

4. روي أنّه قال: ثم حذرهم عقوبته، فقال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في نقمته، ﴿حَكِيمٌ﴾ حكم عليهم العذاب(1)

5. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، وذلك أن عبد الله بن سلام، وسلام بن قيس، وأسيد وأسد ابنا كعب، ويامين بن يامين، وهم مؤمنو أهل التوراة؛ استأذنوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في قراءة التوراة في الصلاة، وفي أمر السبت، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فقال الله تعالى: خذوا سنة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وشرائعه، فإن قرآن محمد ينسخ كل كتاب كان قبله، فقال: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(2)

6. روي أنّه قال: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ يعني: وقع العذاب، ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ يقول: يصير أمر الخلائق إليه في الآخرة(1)

7. روي أنّه قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يعني: ما ينظرون: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ يعني: كهيئة الضبابة، أبيض، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ في غير ظلل، في سبعين حجابا من نور عرشه، والملائكة يسبحون، فذلك قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥]، يعني: وليس بسحاب(1)

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٠.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٧٩.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الإسلام، والقرآن(1)

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٠٤.

ابن إسحاق:

روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿الْعَزِيزِ﴾ في نصرته ممن كفر به إذا شاء، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في عذره وحجته إلى عباده(1)

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٢.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: في أنواع البر كلها(1)

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٢٦.

ابن محمد:

روي عن زهير بن محمد (ت 162 هـ) أنّه قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ ظلل من الغمام، منظوم بالياقوت، مكلل بالجواهر والزبرجد(1)

__________

(1) أبي حاتم: ٢/٣٧٣.

عيينة:

روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله(1)

__________

(1) تفسير البغوي: ١/٢٤١.

الرضا:

سئل الإمام الرضا (ت 203 هـ) عن قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، فقال: (يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام)، وعن قول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، فقال: (إن الله عز وجل لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال، وإنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك والملك صفا صفا)(1)

__________

(1) عيون أخبار الرّضا: 1/125.

المرتضى:

سئل الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، وعن خطوات الشيطان المنهي عنها؟، فقال: (هي أفاعيله الردية، وأعماله المخالفة؛ فنهاهم الله عز وجل عن اتباعها، والميل إليها؛ لما فيها من الهلكة والبعد من الله سبحانه في الآخرة؛ نسأل الله الثبات على طاعته، والنجاة من عذابه بمنه ورأفته)(1)

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/96.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿السَّلْمِ﴾ فيه لغتان: بالكسر والنصب، فمن قرأ ذلك بالكسر فهو الإسلام، ومن قرأ ذلك بالنصب فهو الصلح؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9] إلى آخر الآية.

2. سؤال وإشكال: كيف أمر بالدخول، وهم فيه؛ لأنه خاطب المؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؟ والجواب: بوجوه:

أ. أحدها: أنه يحتمل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم.

ب. ويحتمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ببعض الرسل من نحو عيسى، وموسى، وغيرهم من الأنبياء، آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ج. وقيل: أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه.

د. وقيل: إنه تعالى إنما أمرهم بالدخول فيه؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت، لأنه فعل، والأفعال تنقضي ولا تبقى، كأنه قال يا أيها الذين آمنوا فيما مضى من الأوقات، آمنوا في حادث الأوقات، وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النساء: 136]

3. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي ملتم وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق.

4. قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: ﴿عَزِيزٌ﴾ أي منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور.

ب. ويحتمل: ﴿عَزِيزٌ﴾ أي غنى عن طاعتكم له وعبادتكم إياه.

ج. وقيل: ﴿عَزِيزٌ﴾ من أن يقهر أو يذل أو يغلب؛ لأن العزيز نقيض الذليل.

د. وقيل: ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يقدر أحد أن يصل إليه، أو يقهره إلا ذل‏ بنفسه، كما يقال: عزيز لا يرام.

5. في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وجوه:

أ. قيل: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ بأمره، وهو قول الحسن.

ب. وقيل: يَأْتِيَهُمُ اللهُ، أي أمر الله؛ وهو كقوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل: 33]، وكقوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 158] على إضمار الأمر فيه.

ج. وقيل: قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ﴾، في بمعنى (الباء)، وكأنه قال يأتيهم الله بظلل من الغمام، وذلك جائز ـ استعمال (في) مكان (الباء)؛ لأنهما جميعا من حروف الخفض، والعرب تفعل ذلك ولا تأبى.

6. الأصل في هذا ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ ونحوه: أن إضافة هذه الأشياء إلى الله ـ عزّ وجل ـ لا توجب حقيقة وجود تلك الأشياء منه على ما يوجد من الأجسام، لما يجوز إضافته إلى ما لا يوجد منه تحقيق ذلك، نحو ما يقال: جاءنى أمر فظيع، و﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾[الإسراء: 81]، وجاء فلان بأمر كذا، وجاءكم رسول، فذكر المجيء والإتيان لا على تحقيق وجود ذلك منه، فعلى ذلك يخرج ما أضاف الله ـ عزّ وجل ـ إلى نفسه من المجيء والإتيان والاستواء، ليس على تحقيق المجيء والإتيان والاستواء منه على ما يكون من الأجسام، وفي الشاهد أن ملوك الأرض يضيفون إلى أنفسهم ما عمل بأمرهم من غير أن يتولوها بأنفسهم، وكذلك أضاف جل ذكره أمر القيامة إلى نفسه لفضل ذلك الأمر.

7. الأصل أن الإتيان والانتقال والزوال في الشاهد إنما يكون لخلتين:

أ. إما لحاجة بدت، فيحتاج إلى الانتقال من حال إلى حال، والزوال من مكان إلى مكان ليقضيها.

ب. أو لسآمة ووحشة تأخذه، فينتقل من مكان إلى مكان لينفى عن نفسه ذلك.

وهذان الوجهان في ذي المكان، والله ـ تعالى ـ يتعالى عن المكان، كان ولا مكان فهو على ما كان، فالله ـ تعالى ـ يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تأخذه سآمة، فبطل الوصف بالإتيان والمجيء والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان.

8. وقيل: إن النص قد ورد بالاستواء والمجيء، وورد الخبر بالنزول، والرؤية، ثم قد ورد السمع بأن ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، لزم نفى التشبيه فيما ورد عن ذاته، ولزم الإقرار بما جاء من عنده من غير طلب الكيفية له والتفسير، فالسبيل فيه الإيمان‏ بالتنزيل، والكف عن التفسير، وفي الشاهد الإتيان في العرض: ظهوره، وفي الجسم: نقله من مكان إلى مكان، وهو ـ جل ذكره ـ جل أن يوصف بجسم أو عرض، كذلك إتيانه لا يشبه إتيان الأجسام والأعراض، ويكون إتيان لا يعرف كيفيته، وكما جاز أن يكون هو مثبتا بدليل لا يشبهه عرض ولا جسم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/103.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): (معنى قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾: أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام، ولكن في تقوم مقام الباء الزائدة، والغمام غمام الدخان عند نقض السماء(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 283.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

أ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي في الإسلام ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي آثاره ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي بعداوته.

ب. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي إن ضللتم وعصيتم بعد حجج الله تعالى وظهورها على يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ عزيز في نفسه حكيم في فعله.

ج. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أن تأتيهم بظلل من الغمام.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/103.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي بفتح السين، والباقون بكسرها، واختلف أهل اللغة في الفتح والكسر، على وجهين:

أ. أحدهما: أنهما لغتان تستعمل كل واحدة منهما في موضع الأخرى.

ب. الثاني: معناهما مختلف، والفرق بينهما أن السّلم بالكسر الإسلام، والسّلم بالفتح المسالمة، من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: 61]

2. في المراد بالدخول في السلم، تأويلان:

أ. أحدهما: الدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.

ب. الثاني: معناه ادخلوا في الطاعة، وهو قول الربيع، وقتادة.

3. في قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: عائد إلى الذين آمنوا، أن يدخلوا جميعا في السلم.

ب. الثاني: عائد إلى السلم أن يدخلوا في جميعه.

4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يعني آثاره.

5. في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ تأويلان:

أ. أحدهما: مبين لنفسه.

ب. والآخر: مبين بعدوانه.

6. اختلفوا فيمن‏ أبان به عدوانه على قولين:

أ. أحدهما: بامتناعه من السجود لآدم.

ب. الثاني: بقوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62]

7. اختلفوا فيمن أمر بالدخول في السلم كافة، على ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أن المأمور بها المسلمون، والدخول في السلم العمل بشرائع الإسلام كلها، وهو قول مجاهد، وقتادة.

ب. الثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا بمن سلف من الأنبياء، فأمروا بالدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، والضحاك.

ج. الثالث: أنها نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وسعيد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يوم السبت كنا نعظمه ونسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله تعالى، فدعنا فلنصم نهارنا بالليل‏، فنزلت هذه الآية، وهو قول عكرمة.

8. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ ثلاثة تأويلات:

أ. أحدها: معناه عصيتم.

ب. الثاني: معناه كفرتم.

ج. الثالث: إن ضللتم وهذا قول السدي.

9. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أربعة تأويلات:

أ. أحدها: أنها حجج الله ودلائله.

ب. الثاني: محمد، وهو قول السدي.

ج. الثالث: القرآن، وهو قول ابن جريج.

د. الرابع: الإسلام.

﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يعني عزيز في نفسه، حكيم في فعله.

10. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، قرأ قتادة في ظلال الغمام وفيه تأويلان:

أ. أحدهما: أن معناه إلا أن يأتيهم‏ الله بظلل من الغمام، وبالملائكة.

ب. الثاني: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/268.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قرأ أهل الحجاز، والكسائي (السلم) ـ بفتح السين ـ، الباقون ـ بكسرها ـ، قال أبو علي:

أ. من قرأ بفتح السين، ذهب إلى أن معناه: المسالمة، والصلح، وترك الحرب بإعطاء الجزية.

ب. ومن كسرها، اختلفوا منهم من حمله على الإسلام، ومنهم من حمله على الصلح أيضاً.

2. السلم: قال الأخفش: السلم ـ بكسر السين ـ: الصلح، وبفتحها، وفتح اللام: الاستسلام، وقال الزجاج: السلم جميع شرائعه، ويقال: السِلم، والسَلم معناهما الإسلام، والصلح، وفيه ثلاث لغات: كسر السين، وفتحها مع تسكين اللام، وفتحها، وقال أبو عبيدة: السِلم ـ بكسر السين ـ والإسلام واحد، وهو في موضع آخر المسالمة، والصلح.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾:

أ. قال ابن عباس، والسدي، والضحاك، ومجاهد: معنى السلم هاهنا الإسلام، وبه قال قتادة.

ب. وقال الربيع: معناه ادخلوا في الطاعة، وهو اختيار البلخي قال لأن الخطاب للمؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

4. اختار الطبري الوجه الأول، والأمران جميعاً عندنا جائزان محتملان، وحملها على الطاعة أعم، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا(2) من أن المراد به الدخول في الولاية.

5. كافة: معناه جميعاً، وهو نصب على الحال من ضمير المؤمنين، وقيل من حال السلم، واشتقاقه في اللغة مما يكف الشيء في آخره، من ذلك كفة القميص، يقال لحاشية القميص: كفة، وكل مستطيل، فحرفه كفة، ويقال في كل مستدير: كفة، نحو كفة الميزان، وإنما سميت كفة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، ومنه قيل لطرف اليد: كف، لأنها يكف بها عن سائر البدن: وهي الراحة مع الأصابع، ومن هذا قيل: رجل مكفوف أي قد كف بصره أن يبصر، وكفّ من الشيء يكف كفاً: إذا انقبض عنه، وكل شيء جمعته، فقد كففته، واستكفّ السائل: إذا بسط كفه يسأل، واستكف القوم بالشيء: إذا أحدقوا به، وتكفف السائل: إذا مدّ كفه للسؤال، ولقيته كفة لكفة: إذا لقيته مفاجأة، والمكفوف: الأعمى، والكفف: دارات الوسم، والكفة: ما يصاد به الظباء: كالطوق.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾:

أ. قيل: معنى الآية: ابلغوا في الإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فتكفوا من أن تعدوا شرائعه، وادخلوا كلكم حتى يكف عن عدد واحد لم يدخل فيه.

ب. وقيل: معنى الآية: أن قوماً من اليهود أسلموا وأقاموا على تحريم السبت، وتحريم لحم الإبل، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام، وقال بعض أهل اللغة: جائز أن يكون أمرهم وهم مؤمنون أن يدخلوا في الايمان: أي يقيموا على الايمان كما قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

وكلا القولين جائز.

7. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي لا تتبعوا آثاره، لأن ترككم شيئاً من شرائع الإسلام اتباع الشيطان، وخطوات: جمع خطوة وفيها ثلاث لغات: خطوات ـ بضم الطاء، وفتحها، وإسكانها.

8. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ عداوته للمؤمنين، وإبانة عداوته لنا هو أن ينسها لمن يراه من الملائكة، والجن، ونحن وإن لم نشاهده، فقد علمنا معاداته لنا، ودعاءه إيانا الى المعاصي، فجاز أن يسمى ذلك إبانة، وقال الجبائي: أبان عداوته لآدم والملائكة عليه السلام، فكان بذلك مبيناً لعداوته إيانا.

9. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أنزل الله تعالى هذه الآية، وقد علم أنه سيزل الزالّون من الناس، فتقدم في ذلك، وأوعد فيه، لكي تكون الحجة على خلقه.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾:

أ. قيل: بمعنى تنحيتم عن القصد، والشرائع، وتركتم ما أنتم عليه من الدين‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في نعمته ﴿حَكِيمٌ﴾ في أمره، لا تعجزونه، وحكيم فيما شرع لكم من دينه، وفطركم عليه، وفيما يفعل بكم من عقوبة على معاصيكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم، وذكر جماعة من أهل التأويل: أن ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ هم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم والقرآن، ذهب اليه السدي، وابن جريج، وغيرهما.

ب. وقيل: زلّ في الآية: مجاز تشبيهاً بمن زلّ عن قصد الطريق، وحقيقته: عصيتم الله فيما أمركم به أو نهاكم عنه، والأولى أن يكون ذلك حقيقة بالعرف.

11. في الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة: أن الله يريد القبيح، لأنه لو أراده لما صح وصفه بأنه حكيم.

12. سؤال وإشكال: سواء زلّ العباد أو لم يزلوا، وجب أن يعلم أن الله عزيز حكيم فما معنى الشرط؟ والجواب: لأن معنى ﴿عَزِيزٌ﴾ هو القادر الذي لا يجوز عليه المنع من عقابكم ﴿حَكِيمٌ﴾ في عقوبته إياكم، فكأنه قال فاعلموا أن العقاب واقع بكم لا محالة، لأنه عزيز لا يجوز أن يحول بينه وبين عقوبتكم حائل، ولم يمنعه مانع ﴿حَكِيمٌ﴾ في عقوبته إياكم، وذلك أن حري لهم وصفه بأنه عزيز أنه قدير لا يمنع، لأنه قادر لنفسه.

13. ﴿حَكِيمٌ﴾ معناه عليم بتدبير الأمور، ويقال: ﴿حَكِيمٌ﴾ في أفعاله بمعنى محكم لها، وأصل العزة الامتناع، ومنه أرض عزاز: إذا كانت ممتنعة بالشدة وأصل الحكمة المنع من قول الشاعر:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم‏...إني أخاف عليكم أن أغضبا

ومنه حكمة الدابة

14. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ الظلل: جمع ظلة، ومعنى الآية أن يأتيهم عذاب الله، وما توعدهم به على معصيته، كما قال ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أي آتاهم خذلانه إياهم.

15. المختار عند أهل اللغة الرفع في (الملائكة) عطفاً على الله، كأنه قال وتأتيهم الملائكة، ومن كسر عطف على ظلل، وتقديره في ظلل من الغمام، وظلل من الملائكة.

16. قرأ أبو جعفر ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ بالخفض، الباقون بضمها، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بفتح التاء، الباقون بضمها.

17. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي فزع لهم مما كانوا يوعدون به، ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ لا يدلّ على أن الأمور ليست إليه الآن وفي كل وقت.

18. قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: الاعلام في أمر الحساب، والثواب، والعقاب أي إليه، فيعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فلا حاكم سواه.

ب. ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا أحد ممن يملك في دار الدنيا إلا ويزول ملكه ذلك اليوم.

19. شبهت الأهوال بالظلل من الغمام، كما قال ﴿مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ ومعنى الآية: ما ينظرون ـ يعني المكذبين بآيات الله محمداً وما جاء به من القرآن والآيات إلا أن يأتيهم أمر الله وعذابه‏ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، فهل بمعنى (ما)، كما يقول القائل: هل يطالب بمثل هذا إلا متعنت أي ما يطالب، وينظرون ـ في الآية ـ بمعنى ينتظرون، وقد يقال: أتى وجاء فيما لا يجوز عليه المجيء، والذهاب، يقولون أتاني وعيد فلان، وكلام فلان، وكل ذلك لا يراد به الإتيان الحقيقي قال الشاعر:

أتاني كلام من نصيب يقوله‏...وما خفت يا سلّام أنك عائبي‏

وقال آخر:

أتاني نصرهم وهم بعيد...بلادهم بلاد الخيزران‏

فكأن المعنى في الآية: إن الناس في الدنيا يعتصم بعضهم ببعض، ويفزع بعضهم الى بعض في الكفر والعصيان، فإذا كان يوم القيامة انكشف الغطاء، وأيقن الشاك، وأقرّ الجاحد، وعلم الجاهل، فلم يعصم أحد من الله أحداً، ولم يكن له من دون الله ناصر، ولا من عذابه دافع، وعلم الجميع أن الأمر كله لله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/186.

(2) يقصد الإمامية.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. كافة: جماعة، أخذ من كففت الشيء جمعته، وكف: انقبض، وأصله الجمع، وقال الزجاج: وأصله من المنع، تقول: كففته عن كذا أي منعته.

ب. خطوات الشيطان: آثاره، وفيه ثلاثة أوجه: سكون الطاء على الأصل، والضم على الإتباع، والفتح على وزن صفحات.

ج. الزلل: الخطأ، زَلَّ يَزِلُّ زَلَلاً وزلًّا وَمَزَلَّة، وأصله الزل، وهو العدول عن السنن.

د. العزيز: المنيع.

هـ. البينة: الحجة.

و. أصل الحكمة المنع، ومنه: حَكَمْتُ الدابة، وسمي العِلْم حكمة؛ لأنه يمنع من وجوه الفساد، والحكيم: العليم بتدبير الأمور، وقيل: الْمُحْكِمُ لأفعاله.

ز. نظر وانتظر وتوقع نظائر، وأصل النظر الطلب لإدراك الشيء، فإذا أضيف إلى الغير فهو تقليب الحدقة، نحو المرئي التماسًا لرؤيته مع سلامة الحاسة، وإذا أضيف إلى القلب فهو التفكر الذي يطلب به المعرفة، وإذا استعمل بمعنى الانتظار فلأنه يطلب إدراك ما يتوقع، وأتى وجاء بمعنى.

ح. الظلة: السترة، وجمعها ظُلَل، مثل حلة وحُلل.

ط. الغمام: السحاب الأبيض الرقيق سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يَغُمُّ أي يستر.

ي. قضى وحكم من النظائر.

ك. الرجع والرد والعود نظائر.

2. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾:

أ. قيل: نزلت في أهل الكتاب، عن ابن عباس.

ب. وقيل: في قوم من اليهود أسلموا وسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يبقي عليهم تحريم السبت والقيام بالتوراة، عن عكرمة.

ج. وقيل: في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: نزلت في جميع المؤمنين.

3. لما تقدم ذكر الفِرَقِ الثلاث دعا الجميع إلى الانقياد والطاعة في المستقبل، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا الله ورسوله.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾:

أ. قيل: ﴿ادْخُلُوا﴾ معناه دوموا فيما دخلتم فيه، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾ على أنه خطاب للمؤمنين، ويقال لمن يأكل: كل.

ب. وقيل: خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في جميع أحكام الإسلام، ولا تتبعوا شيئًا من اليهودية.

ج. وقيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿ادْخُلُوا﴾ في جميع شرائعه، عن القاضي.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي السِّلْمِ﴾:

أ. قيل: في الإسلام، عن الحسن والضحاك والسدي، وقال بعض شعراء كندة لما ارتد قومه مع الأشعث:

دَعَوْتُ عَشِيرتِي لِلسِّلْم لَمَّا... رَأَيْتُهُم تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَا

ب. وقيل: في المسالمة حتى لا يكون بعضكم حربًا لبعض.

ج. وقيل: في الدين، عن طاووس.

د. وقيل: في الطاعة، عن قتادة والربيع.

هـ. وقيل: في أهل الإسلام وأحكامهم، عن مجاهد.

و. وقيل: في أنواع البر، عن سفيان الثوري.

والجميع متقارب يرجع إلى شيء واحد وهو الاستسلام الذي هو الانقياد كأنه قيل: كونوا منقادين، ولا تفارقوا الجماعة.

6. ﴿كَافَّةً﴾ جميعًا:

أ. قيل: ادخلوا جميعا عن عكرمة.

ب. وقيل: جميع المؤمنين فيكون حالاً من ضمير المؤمنين عن الحسن وجماعة.

7. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ آثاره ونزغاته فيما يزين لكم من اتباع التوراة، ومن تحليل الخمر ونحوه.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾:

أ. قيل: مظهر لعداوته، يعني واضح العداوة، فكأنه بما ظهر منه مخبر بها.

ب. وقيل: إنه إثارة العداوة لآدم حتى امتنع من السجود، عن أبي علي.

9. سؤال وإشكال: مع ضعف الشيطان كيف يضر المؤمنين؟ والجواب: هو قوي في الإضرار بالوسوسة والإضلال عن الدين، ولأنه لشدة عداوته يكبر ضرره بالوسوسة، وبإلقاء الشبه إلى علماء السوء.

10. سؤال وإشكال: لم لا يمنع الله الشيطان عن ذلك؟ والجواب: اختلفوا:

أ. قال أبو هاشم: لأنه زيادة تكليف يستحق به زيادة ثواب، فهو كزيادة الشهوة، ولإضلاله تأثير.

ب. وقال أبو علي: لا يَفْسُدُ به شيء، والأول الوجه.

11. سؤال وإشكال: ما الطريق إلى دفع شر الشيطان؟ والجواب: النظر في الأدلة، ودفع الشبه، واجتناب البدع والضلالات؛ ليحصل على سواء الطريق، ثم يقهر النفس بالمنع عن الشهوات، وإقامة الطاعات واجتناب الكبائر.

12. سؤال وإشكال: كيف اجتمعت الجن على عداوة الإنس من غير ذنب من جهتهم؟ والجواب:

أ. قيل: عداوة من كفار الجن دون مؤمنيهم، والكفار أعداء المؤمنين من الإنس كانوا أم من الجن.

ب. وقيل: العداوة متوارثة من غير سبب، وأي سبب كان لامتناع إبليس عن سجوده لآدم!؟

13. ثم لما تقدم الأمر بالدخول في الطاعة عقبه بالوعيد على تركها، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ عن الاستقامة، وهي طاعة الله تعالى وشرائع الإسلام إلى العصيان، وهو توسع، شبه بمن زل عن قصد الطريق، ومعناه عصيتم الله فيما أمرتم به: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي الحجج والمعجزات: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قادر لا يمتنع عليه، يعاقبكم فلا يمنعه مانع، حكيم أي مع أنه قادر على عقوباتكم، عليم باستحقاق العقاب ومقاديره، حكيم في فعل ذلك.

14. ثم عقب الله تعالى ما تقدم من الوعيد بوعيد آخر، فقال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي ما ينتظرون: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله﴾ فيه أقوال:

أ. الأول: تأتيهم دلائل آياته، فجعل مجيء الآيات مجيئًا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك، إذا جاء جيش عظيم من جهته.

ب. الثاني: إلا أن يأتيهم أمر الله، كقوله في موضع آخر: ﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ وهما في المعنى واحد؛ لأن أمره دلائل آياته، ويُقال: ضرب الأمير فلانًا وقتله وأعطاه، وإنما أمر بذلك، ولم يَتَوَلَّهُ بنفسه، فأضيف إليه لأمره به.

ج. الثالث: قيل: ﴿فِي﴾ بمعنى الباء وحروف الصفات يبدل بعضها بعضًا، وذلك ظاهر، وتقديره: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.

15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي ظُلَلٍ﴾:

أ. قيل: سترة من الغمام، عن الحسن.

ب. وقيل: قطع من السحاب، عن الضحاك.

16. سؤال وإشكال: ما فائدة: ﴿ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ مع العذاب؟ والجواب:

أ. قيل: جلائل آياته تأتي في غمام فيكون أهول.

ب. وقيل: يأتي بأهوال، فشبه ذلك بظلل من الغمام كقوله: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾

17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾:

أ. قيل: وجب العذاب.

ب. وقيل: فرغ من الحساب وأمور القيامة.

ج. وقيل: جرى أموره على سننه.

18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾:

أ. قيل: يعني كانت الأمور كلها له مَلَّكَ عبادهَ أشياء زالت جميعها في الحشر، كأنه رجع الجميع.

ب. وقيل: يرجع إليه بأن يكون هو الحاكم والمدبر لا حكم لأحد كما تقول لغيرك: رددت هذا الأمر إليك لتدبره، وإن لم يكن ابتداء منه.

ج. وقيل: يرجع الأمر إلى مراده، فلا يكون كفر ولا معصية.

19. ﴿الْأُمُورُ﴾: يعني أمور الدنيا والآخرة، فيحاسب عباده على أعمالهم، ثم يجازيهم عليها.

20. استدلت المشبهة بالآية على جواز المجيء على الله، وهذا لا يجوز؛ لأنه من صفات الأجسام، وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ولو كان جسمًا يأتي لكان مثلاً للأجسام، ولكان لا يخلو من دلالة الحدث من الحركات والسكنات، تعالى عن ذلك، وقد بَيَّنَّا ما قيل في معناه.

21. سؤال وإشكال: كيف يوصف الأمر بالإتيان، وهو عَرَضٌ؟ والجواب: المراد محل الأمر، ومحتمل الأمر، ولا يقال: إنه توسع ومجاز من وجهين؛ لأن التوسع في الألفاظ أولى من إضافة التشبيه إلى الله تعالى، وقد علمنا بأدلة العقل والسمع؛ إذ لا يجوز حمله على إتيانه حقيقة، والتوسع أكثر في الكلام من الحقائق.

22. سؤال وإشكال: متى يكون هذا، في الدنيا أو في الآخرة؟ والجواب: الأقرب أن المراد به في الآخرة؛ ولذلك قال: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وهذا لا يليق إلا بالآخرة.

23. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن الواجب التمسك بجميع شرائع الإسلام، وأنه لا ينفع الانقياد لبعضه مع ترك بعض، ولهذا قال أصحابنا: إنه لا يصير مسلمًا ما لم يتبرأ من سائر الأديان.

ب. التحذير من الشيطان لعداوته.

ج. فساد القول بالجبر؛ لأنه تعالى حذر من اتباع الشيطان، ولو كان الضلال من خلقه والوسوسة من فعله لكان التحذير منه أولى، ولأنه إذا خلق الإيمان لا تضر وسوسة الشيطان، وإذا خلق الكفر لا ينفع شيء، فأي تأثير لوسوسته حتى يحذر منه، ولأن عندهم ليس إلى إبليس شيء، ولا إلى الجن، ولا إلى الإنس بل جميع ما يحدث خلقه، فكيف حذر من الشيطان؟ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

د. أن العقوبة على الزلل إنما تكون بعد إقامة الحجة، وذلك يكون بوجهين، أما الشرائع فإنما تُعْلَمُ من جهة الوحي والنبي، وأما التوحيد فبأدلة العقل.

هـ. أن من لم تأته الحجج لا يكفر بترك الشرائع؛ لأنه إنما يلزمه بالسماع.

و. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنه توعد بعد مجيء البينات، وعندهم لا تأثير للبينات والنظر.

ز. أن الزلل فِعْلُهم، لذلك أضافه إليهم، وأوعدهم عليها، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في المخلوق، وتدل على ذلك من وجه آخر؛ لأنه وصف نفسه بأنه حكيم، فلو كان كل كفر وسفه وزلل وقبح في العالم من خلقه وإرادته لما صَحَّ وَصْفُهُ بذلك.

ح. أنه تعالى يأتيهم بما وعد وأوعد، عن الأصم، فيبطل قول من يُجَوِّز الخلف في الوعيد.

24. قراءات وحجج:

أ. قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير والكسائي: ﴿السَّلْمِ﴾ بفتح السين ههنا وفي الأنفال وسورة محمد، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب ههنا بكسر السين، والباقي بالفتح، وقرأ حمزة في الأنفال بفتح السين، والباقي بالكسر، وقيل: ﴿السَّلْمِ﴾ بالفتح من المسالمة، ومنه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ والسِّلم بالكسر الإسلام، وقيل: هما بمعنًى، ويستعمل كل واحد في موضع الآخر، إلا أن الكسر أغلب في موضع الإسلام.

ب. القراءة المجمع عليها: ﴿زَلَلْتُمْ﴾ بنصب اللام. وعن بعضهم بكسرها. وهما لغتان.

ج. قرأ أبو جعفر: ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ بالخفض عطفًا على الغمام أي مع الغمام، والقراء السبعة بالضم، يعني تأتي الملائكة.

د. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوبـ ﴿تُرْجَعُ﴾ بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن، على إظهار الفاعل، والفاعل: ﴿الْأُمُورُ﴾، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، على ما لم يسم فاعله، و﴿الْأُمُورُ﴾ اسم ما لم يسم فاعله.

25. الملائكة: رفع عطفا على اسم الله تعالى، وتقديره: يأتيهم الله والملائكة، وبالجر عطفًا على الغمام على ما تقدم، ويحتمل مع الغمام وفي الغمام.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/841.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. ﴿كَافَّةً﴾ معناه جميعا، واشتقاقه في اللغة مما يكف الشئ في آخره، ومن ذلك كفة القميص لحاشيته، لأنها تمنعه من أن ينتشر، وكل مستطيل فحرفه كفة، ويقال في كل مستدير كفة، نحو كفة الميزان، واستكف السائل وتكفف: إذا بسط كفه للسؤال، وكل شئ جمعته فقد كففته، واستكف القوم بالشئ: إذا أحدقوا به.

ب. زَلَلْتُمْ: يقال: زل الرجل يزل زلا، وزللا ومزلة: إذا أذنب، وزل في الطريق زليلا، وأصله من الزوال، ومعنى الزلة: الزوال عن الاستقامة.

ج. العزيز: هو القدير المنيع لذي لا يعجزه شئ، وأصل العزة: الامتناع، ومنه أرض عزاز: إذا كانت ممتنعة بالشدة.

د. النظر هنا بمعنى الانتظار، كما في قول الشاعر:

فبينا نحن ننظره أتانا...معلق شكوة، وزناد راع

أي: ننتظره، وأصل النظر: الطلب لإدراك الشئ، وإذا استعمل بمعنى الانتظار فلأن المنتظر يطلب إدراك ما يتوقع، وإذا كان بمعنى الفكر بالقلب، فلأن المتفكر يطلب به المعرفة، وإذا كان بالعين، فلأن الناظر يطلب الرؤية.

هـ. الظلل: جمع ظلة ما يستظل به من الشمس، وسمي السحاب ظلة لأنه يستظل به.

و. الغمام: السحاب الأبيض الرقيق، سمي بذلك لأنه يغتم أي: يستر.

2. لما قدم تعالى ذكر الفرق الثلاث من العباد، دعا جميعهم إلى الطاعة والانقياد، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا الله ورسوله.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾:

أ. قيل: أي: في الاسلام أي: دوموا فيما دخلتم فيه، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ عن ابن عباس والسدي والضحاك ومجاهد.

ب. وقيل: معناه في السلم في الطاعة، عن الربيع، وهو اختيار البلخي.

4. الكلام محتمل للأمرين، وحملها على الطاعة أعم، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من أن المراد به الدخول في الولاية.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾:

أ. قيل: أي: جميعا، أي: أدخلوا جميعا في الاسلام والطاعة والاستسلام.

ب. وقيل: معناه ادخلوا في السلم كله أي: في جميع شرائع الاسلام، ولا تتركوا بعضه معصية، ويؤيد هذا القول ما روي أن قوما من اليهود أسلموا، وسألوا النبي أن يبقي عليهم تحريم السبت، وتحريم لحم الإبل، فأمرهم أن يلتزموا جميع أحكام الإسلام.

6. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: آثاره ونزعاته، لأن ترككم شيئا من شرائع الاسلام، اتباع للشيطان، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي: مظهر للعداوة بامتناعه من السجود لآدم بقوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾

7. ثم لما أمر سبحانه عباده بالطاعة، عقبه بالوعيد على تركها، فقال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي: تنحيتم عن القصد، وعدلتم عن الطريق القويم، الذي أمركم الله تعالى بسلوكه، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الحجج والمعجزات ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في نقمته، لا يمتنع شئ من بطشه وعقوبته ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرع من أحكام دينه لكم، وفيما يفعله بكم من العقاب على معاصيكم بعد إقامة الحجة عليكم.

8. ثم عقب سبحانه ما تقدم من الوعيد بوعيد آخر، فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾:

أ. قيل: أي: هل ينتظر هؤلاء المكذبون بآيات الله إلا أن يأتيهم أمر الله، أو عذاب الله، وما توعدهم به على معصيته في ستر من السحاب.

ب. وقيل: قطع من السحاب، وهذا كما يقال: قتل الأمير فلانا، وضربه وأعطاه، وإن لم يتول شيئا من ذلك بنفسه، بل فعل بأمره، فأسند إليه لأمره به.

ج. وقيل: معناه ما ينتظرون إلا أن يأتيهم جلائل آيات الله، غير أنه ذكر نفسه تفخيما للآيات، كما يقال: دخل الأمير البلد، ويراد بذلك جنده، وإنما ذكر الغمام ليكون أهول، فإن الأهوال تشبه بظلل الغمام، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾

د. وقال الزجاج: معناه يؤتيهم الله بما وعدهم من العذاب والحساب، كما قال: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أي: أتاهم بخذلانه إياهم.

هـ. وقيل: معنى الآية إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام أي: بجلائل آياته، وبالملائكة.

10. هذه الأقوال متقاربة المعنى بل المعنى في الجميع واحد أي: هل ينتظرون إلا يوم القيامة، وهو استفهام يراد به النفي والإنكار أي: ما ينتظرون، كما يقال: هل يطالب بمثل هذا إلا متعنت أي: ما يطالب، ومثله في التنزيل ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك﴾، وقد يقال أتى وجاء فيما لا يجوز عليه المجئ والذهاب، تقول: أتاني وعيد فلان، وجاءني كلام فلان، وأتاني حديثه، ولا يراد به الإتيان الحقيقي، قال:

أتاني، فلم أسرر به حين جاءني،...حديث بأعلى القبتين، عجيب

وقال الآخر:

أتاني نصرهم وهم بعيد...بلادهم بأرض الخيزران

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾:

أ. قيل: معناه فرغ من الأمر، وهو المحاسبة، وإنزال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، هذا في الآخرة.

ب. وقيل: معناه وجب العذاب أي: عذاب الاستئصال، وهذا في الدنيا.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾:

أ. قيل: أي: إليه ترد الأمور في سؤاله عنها، ومجازاته عليها، وكانت الأمور كلها له في الابتداء، فسلك بعضها في الدنيا غيره، ثم يصير كلها إليه في الحشر، لا يملك أحد هناك شيئا.

ب. وقيل: إليه ترجع أمور الدنيا والآخرة.

13. قراءات وحجج:

أ. قرأ أهل الحجاز، والكسائي: ﴿فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ بفتح السين، والباقون بكسرها، قال الأخفش: السلم بكسر السين: الصلح، وفيه ثلاث لغات: السلم، السلم، السلم، وأنشد:

أنائل إنني سلم...لأهلك فاقبلي سلمي

قال أبو عبيدة: السلم بكسر السين، والإسلام وأحد، وهو في موضع آخر المسالمة والصلح، والسلم: الاستسلام ومنه قوله تعالى ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ أي: مستسلما له، منقادا لما يريده منه، فيكون مصدرا وصف به، ويحتمل أيضا أن يكون فعلا بمعنى فاعل مثل بطل وحسن، ونظيره: يابس ويبس، وواسط ووسط

ب. قرأ أبو جعفر: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ بالجر، والباقون بالرفع.

ج. قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة: ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بفتح التاء، والباقون بضمها، من قرأ والملائكة بالجر: فإنه عطفها على الغمام أي: في ظلل من الغمام، وفي ظلل من الملائكة أي: جماعة من الملائكة، وقراءه السبعة بالرفع عطفا على قوله الله أي إلا أن يأتيهم الله، وإلا أن يأتيهم الملائكة، وحجة من قرأ ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ على بناء الفعل للمفعول به قوله ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾، ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي﴾، وحجة من قرأ ترجع على بناء الفعل للفاعل، قوله: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾، ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾

14. مسائل نحوية:

أ. ﴿كَافَّةً﴾: منصوب على الحال من الواو في ﴿ادْخُلُوا﴾، وقيل: هو حال من ﴿السَّلْمِ﴾، و﴿لَكُمْ﴾: يتعلق بمحذوف فهو في موضع نصب على الحال من ﴿عَدُوٌّ﴾

ب. ﴿مَا﴾: حرف موصول، و ﴿جَاءَتْكُمْ﴾: صلته، و﴿اعْلَمُوا﴾: جملة في موضع الرفع، لأنها بعد الفاء في جواب الشرط، والفاء مع الجملة في محل الجزم، أو محل الرفع، لأنه جواب شرط مبني.

ج. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام بمعنى النفي، ﴿إِلَّا﴾ ها هنا لنقض النفي، ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾: في موضع نصب ﴿يَنْظُرُونَ﴾، ﴿مِنَ الْغَمَامِ﴾: يتعلق بمحذوف، فهو جملة ظرفية في موضع الجر صفة ﴿ظُلَلٌ﴾

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/537.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتّقون السّبت ولحم الجمل، وأشياء يتّقيها أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.

ب. الثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين‏ لم يؤمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، أمروا بالدّخول في الإسلام، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضّحّاك‏.

ج. الثالث: أنها نزلت في المسلمين، يأمرهم بالدّخول في شرائع الإسلام كلّها، قاله مجاهد وقتادة.

2. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾ هل يرجع إلى السّلم، أو إلى الدّاخلين فيه بناء على الاختلاف فيمن نزلت:

أ. أحدهما: أنه راجع إلى السّلم، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام، وهذا يخرّج على القول الأوّل الذي ذكرناه في نزول الآية.

ب. الثاني: أنه يرجع إلى الدّاخلين فيه، فتقديره: ادخلوا كلّكم في الإسلام، وبهذا يخرّج على القول الثاني.

ج. على القول الثالث يحتمل قوله: (كافة) ثلاثة أقوال:

أحدها: أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم.

الثاني: أن يكون أمرا للمؤمنين بالدّخول في جميع شرائعه.

الثالث: أن يكون أمرا لهم بالثّبات عليه، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾

3. في ﴿السَّلْمِ﴾ ثلاث لغات:

أ. كسر السّين وتسكين اللام، وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في (البقرة) وفتحا السين في (الأنفال) وسورة (محمّد)

ب. وفتح السين مع تسكين اللام، وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائيّ في المواضع الثلاثة.

ج. وفتح السين واللام، وبها قرأ الأعمش في (البقرة) خاصة.

في معنى ﴿السَّلْمِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ، وابن قتيبة، والزجّاج في آخرين.

ب. الثاني: أنها الطّاعة، روي عن ابن عباس أيضا، وهو قول أبي العالية، والرّبيع.

4. كافّة: قال الزجّاج: و(كافّة) بمعنى الجميع، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكفّ الشيء في آخره، من ذلك: كفّة القميص، وكلّ مستطيل فحرفه كفّة: بضمّ الكاف، ويقال في كلّ مستدير: كفّة بكسر الكاف نحو: كفّة الميزان، ويقال: إنّما سمّيت كفّة الثّوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكفّ: المنع، وقيل لطرف اليد: كفّ، لأنها تكفّ بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: قد كفّ بصره أن ينظر.

5. ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾: المعاصي، و﴿الْبَيِّنَاتُ﴾: الدّلالات الواضحات، وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن، و﴿يَنْظُرُونَ﴾ بمعنى: ينتظرون.

6. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنّه قال المراد به: قدرته وأمره، قال وقد بيّنه في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾

7. ﴿فِي ظُلَلٍ﴾، أي: بظلل، والظّلل: جمع ظلّة، و(الغمام): السّحاب الذي لا ماء فيه، قال الضّحّاك: في قطع من السّحاب.

8. سؤال وإشكال: متى يكون مجيء الملائكة؟ والجواب: فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه يوم القيامة أيضا، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: أنه عند الموت، قاله قتادة.

9. قرأ الحسن بخفض ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾، و﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾: فرغ منه، و﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، أي: تصير، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم، (ترجع) بضمّ التاء، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ بفتحها.

10. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فكأنّ الأمور كانت إلى غيره؟ والجواب: عنه أربعة أجوبة:

أ. أحدها: أنّ المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثّواب والعقاب، قاله الزجّاج.

ب. الثاني: أنه لمّا عبد قوم غيره، ونسبوا أفعاله إلى سواه، ثمّ انكشف الغطاء يوم القيامة؛ ردّوا إليه ما أضافوا إلى غيره.

ج. الثالث: أنّ العرب تقول: قد رجع عليّ من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه، وإن لم يكن سبق، قال الشاعر:

فإن تكن الأيّام أحسنّ مرّة...إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب‏

ذكرهما ابن الأنباريّ، ومما يشبه هذا قول لبيد:

وما المرء إلا كالشّهاب وضوئه‏...يحور رمادا بعد إذ هو ساطع‏

أراد: يصير رمادا لا أنّه كان رمادا، ومثله قول أميّة بن أبي الصّلت:

تلك المكارم لا قعبان من لبن‏...شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

أي: صارا.

د. الرابع: أنه لمّا كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملّكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم.

11. سؤال وإشكال: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، فما الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ والجواب: أنّ إعادة اسمه أفخم وأعظم، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه، وأنشدوا:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء...نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم، ذكره الزجّاج.

__________

(1) زاد المسير: 1/174.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما حكى الله تعالى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، أمر المسلمين بما يضاد ذلك، وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾

2. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي‏ ﴿السَّلْمِ﴾ بفتح السين، وكذا في قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال: 61] وقوله: ﴿وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ [محمد: 35] وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش‏ ﴿السَّلْمِ﴾ بكسر السين في الكل، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه، والتي في البقرة، والتي في سورة محمد في قوله: ﴿وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال، وفي سورة محمد، فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر، مثل: رطل ورطل وجسر وجسر، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام.

3. أصل هذه الكلمة ﴿السَّلْمِ﴾ من الانقياد، قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ [البقرة: 131] والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه، قال أبو عبيدة: وفيه لغات ثلاث: السلم، والسلم، والسلم.

4. في الآية إشكال، وهو أن كثيرا من المفسرين حملوا السلم على الإسلام، فيصير تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام، والإيمان هو الإسلام، ومعلوم أن ذلك غير جائز، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوها في تأويل هذه الآية:

أ. أحدها: أن المراد بالآية المنافقون، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ﴾ [البقرة: 204] الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق.

ب. ثانيها: أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام، وواجب في التوراة، فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة، أي في شرائع الإسلام كافة، ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به، لأنها صارت منسوخة ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله: ﴿كَافَّةً﴾ من وصف المسلم، كأنه قيل: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقادا وعملا.

ج. ثالثها: أن يكون هذا الخطاب واقعا على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي بالكتاب المتقدم‏ ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وبكتابه في السلم على التمام، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة: تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة.

د. رابعها: هذا الخطاب واقع على المسلمين‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالألسنة ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية، ومن قال بهذا التأويل قال هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها:

أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في صفة ذلك المنافق في قوله: ﴿سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين، فكأنه تعالى قال دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون.

وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210] يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة.

هـ. خامسها: أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمنازعة، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس، وهو كقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ [آل عمران: 200] وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه)

و. سادسها(2): أن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله، فيصح أن يسمي تركها بالسلم، أو يكون المراد منه: كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات، وترك المحظورات، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر.

و. سابعها: أن يكون المراد من السلم كون العبد راضيا ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث (الرضا بالقضاء باب الله الأعظم)

و. ثامنها: أن يكون المراد ترك الانتقام كما في قوله: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وفي قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]

5. سؤال وإشكال: الموصوف بالشيء يقال له: دم عليه، ولكن لا يقال له: ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله: ﴿ادْخُلُوا﴾، والجواب: إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال، وإن كان كائنا فيها في الحال، لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها، ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام.

6. قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾ يحتمل وجهين(3): ‏

أ. يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم، ولا تفرقوا ولا تختلفوا، قال قطرب: تقول العرب: رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات.

ب. ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي: هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها.

7. معنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال: كففت فلانا عن السوء أي منعته، ويقال: كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار، وقيل لطرف اليد: كف لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر، فالكافة معناها المانعة، ثم صارت اسما للجملة الجامعة وذلك لأن الاجتماع يمنع من التفرق والشذوذ، فقوله: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي ادخلوا في شرائع الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئا من شرائعه، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحدا من أن لا يدخل فيه.

8. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره، ولا فرق بين ذلك وبين قوله: اتبعت خطواته، وخطوات جمع خطوة، وقد تقدم ذلك.

9. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قال أبو مسلم الأصفهاني: (إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره)، والذي يدل على صحة هذا المعنى قوله: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الزخرف: 1، الدخان: 1] ولا يعني بقوله مبينا إلا ذلك.

10. سؤال وإشكال: كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه، والجواب: يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين، وإن لم يشاهد ومثاله: من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال: إن فلانا عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال.

ب. فيه وجه آخر، وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمى بيانا لهذا المعنى، فإنه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه.

11. سؤال وإشكال: كون الشيطان عدوا لنا إما أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب، والأول باطل، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإن كان الثاني فهو أيضا باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [ابراهيم: 22] إذا ثبت هذا فكيف يقال: إنه عدو مبين العداوة، والحال ما ذكرناه؟ والجواب: أنه عدو من الوجهين معا:

أ. أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك، وليس يلزم من كونه مريدا لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرا عليها.

ب. وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثواب، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة.

12. قرأ أبو السمال‏ ﴿زَلَلْتُمْ﴾ بكسر اللام الأولى وهما لغتان كضللت وضللت.

يقال: زل يزل زلولا وزلزالا إذا دحضت قدمه وزل في الطين، ويقال لمن زل في حال كان عليها: زلت به الحال، ويسمى الذنب زلة، يريدون به الزلة للزوال عن الواجب فقوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي أخطأتم الحق وتعديتموه.

13. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ بناء على اختلافهم في السلم كافة، فمن قال في الأول: إنه في المنافقين، فكذا الثاني، ومن قال إنه في أهل الكتاب فكذا الثاني، وقس الباقي عليه، ويروى عن ابن عباس: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ في تحريم السبت ولحم الإبل‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وشرائعه‏ ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ بالنقمة ﴿حَكِيمٌ﴾ في كل أفعاله، فعند هذا قالوا لئن شئت يا رسول الله لنتركن كل كتاب غير كتابك، فأنزل الله تعالى‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 136]

14. سؤال وإشكال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفا بعواقب الأمور، والجواب: أجاب قتادة عن ذلك فقال: (قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه)

15. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الانحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل، فتوعد تعالى على كل ذلك زجرا لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقا به وحينئذ يجب الاحتراز عنه.

16. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية:

أ. أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالما بالمعلومات كلها، قادرا على الممكنات كلها، غنيا عن الحاجات كلها، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية.

ب. وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزول عند حصول كل هذه البينات.

17. يدل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ على(4):

أ. أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة، فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلا أولى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولو القدرة، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة.

ب. أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف، فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والاستدلال يلحقه الوعيد كالعارف، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف.

18. سؤال وإشكال: إن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم، فكيف يدل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ على الزجر والتهديد؟ والجواب: أن العزيز من لا يمنع عن مراده، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات، فكان عزيزا على الإطلاق، فصار تقدير الآية: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب، وربما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره.

19. سؤال وإشكال: أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد؟ والجواب: نعم من حيث أتبعه بقوله: ﴿حَكِيمٌ﴾ فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك‏ يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة.

20. احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية، واستدل بأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات، ولفظ ﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ لفظ جمع يتناول الكل، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات، فوجب أن لا يحصل الوعيد، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.

21. قال المعتزلة، ومن وافقهم(5): لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيها، والسفيه لا يكون حكيما، وأجاب أهل السنة، ومن وافقهم بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيما إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقا لكل الأشياء ومريدا لها، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا: لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه.. (وهذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمرا بما لا يتم إلا به، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا: لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق، قلنا هذا عندنا جائز)(6)

22. يحكي أن قارئا قرأ هنا ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فسمعه أعرابي فأنكره، وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.

23. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ الكلام المستقصي في لفظ النظر مذكور في تفسير قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23] وأجمعوا على أنه يجيء بمعنى الانتظار، قال الله تعالى: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 35] فالمراد من قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ هو الانتظار.

24. أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ويدل عليه وجوه:

أ. أحدها: ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثا مخلوقا والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك.

ب. ثانيها: أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان، فإما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئا كبيرا فيكون أحد جانبيه مغايرا للآخر فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركبا، فإن ذلك المركب يكون مفتقرا في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد، فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم، والإله القديم يمتنع أن يكون‏ كذلك.

ج. ثالثها: أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتناه فيكون مختصا بمقدار معين، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح، وتخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك كان فعلا لفاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك.

د. رابعها: أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلها قديما أزليا فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر، وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول: (الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور، فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله)

هـ. خامسها: أن الله تعالى حكى عن الخليل صلّى الله عليه وآله وسلم أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: 76] ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور، فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك.

و. سادسها: أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 23] وطلب منه الماهية والجنس والجوهر، فلو كان تعالى جسما موصوفا بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر: فكان جواب موسى عليه السلام بقوله: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [مريم: 65] ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الدخان: 8] ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [المزمل: 9، الشعراء: 28] خطأ وباطلا، وهذا يقتضي تخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب، وتصويب فرعون في قوله: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: 27] ولما كان كل ذلك باطلا، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسما، وأن يكون في مكان، ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب.

ز. سابعها: أنه تعالى قال ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين، فلما كان تعالى أحدا امتنع أن يكون جسما أو متحيزا، فلما لم يكن جسما ولا متحيزا امتنع عليه المجيء والذهاب، وأيضا قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65] أي شبيها ولو كان جسما متحيزا لكان مشابها للأجسام في الجسمية، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات، وأيضا قال تعالى‏ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] ولو كان جسما لكان مثلا للأجسام.

ح. ثامنها: لو كان جسما متحيزا لكان مشاركا لسائر الأجسام في عموم الجسمية، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفا في خصوص ذاته المخصوصة، وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة، فعموم كونه جسما مغاير لخصوص ذاته المخصوصة، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسما كنا قد جعلنا الجسم صفة وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسما وغير موصوف بكونه جسما، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئا مغايرا للمفهوم من الجسم، وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسما، وإما إن قيل: إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسما لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية، فحينئذ يكون مثلا لها مطلقا، وكل ما صح عليها فقد صح عليه، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك، وكل ذلك محال، فثبت أنه تعالى ليس بجسم، ولا بمتحيز، وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه.

25. اختلف أهل الكلام في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ وذكروا فيه وجوها:

أ. الأول: وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب، وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ، فالأولى السكوت عن التأويل، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنّه قال: (نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله)

ب. الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين: أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل.

26. ذكر جمهور المتكلمين القائلون بأنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل وجوها في التأويل:

27. الأول: المراد ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أي آيات الله فجعل مجيء الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209]، فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية.

28. الثاني: في التأويل أن يكون المراد ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شيء، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قاله العلماء في قوله: ﴿الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ والمراد يحاربون أولياءه، وقال: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82] والمراد: واسأل أهل القرية، فكذا قوله: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ المراد به يأتيهم أمر الله، وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22] المراد: جاء أمر ربك، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلانا، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه.

29. الذي يؤكد القول بصحة تأويل ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ بأنه أمر الله، وجهان:

أ. الأول: أن قوله هاهنا: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [النحل: 33] فصار هذا الحكم مفسرا لذلك المتشابه، لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض.

ب. الثاني: أنه تعالى قال بعده: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [هود: 44، البقرة: 21] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أي يأتيهم أمر الله.

ج. الثالث: أن المعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب، فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجه، ومثله قوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: 2] والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ﴾ [النحل: 26] فقوله: ﴿وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ﴾ كالتفسير لقوله تعالى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر: قد جاءنا فلان بجوره وظلمه، ولا شك أن هذا مجاز مشهور.

د. الرابع: أن يكون في بمعنى الباء، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض، وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.

هـ. الخامس: أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهرا وأكبرهم هيبة، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67] من غير تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي، فكذا هاهنا.

و. السادس: وهو أوضح عندي من كل ما سلف: أنا ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: 210] حكاية عن اليهود، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55] وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه، وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز، وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال.

ز. السابع: في التأويل ما حكاه القفال في (تفسيره) عن أبي العالية، وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة، فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط، فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير، ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام) قال القفال: هذا التأويل مستنكر.

30. سؤال وإشكال: أمر الله عندكم صفة قديمة، فالإتيان عليها محال، وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون أعراضا، فالإتيان عليها أيضا محال، والجواب: الأمر في اللغة له معنيان:

أ. أحدهما الفعل والشأن والطريق، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50] ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: 97] وفي المثل: لأمر ما جدع قصير أنفه، لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر هاهنا على الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة، وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه.

ب. أما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان.

أحدهما: أن يكون التقدير أن مناديا ينادي يوم القيامة: ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا، فذاك هو إتيان الأمر، وقوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ أي مع ظلل، والتقدير: إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد.

الثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة، أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب.

31. سؤال وإشكال: على تأويل قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: 210] بكونه حكاية عن اليهود كيف يتعلق به قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، والجواب: الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق، والله أعلم بحقيقة كلامه.

32. ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ الظلل جمع ظلة، وهي ما أظلك الله به، والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعا متراكما، فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم، فكل قطعة ظلة، والجمع ظلل، قال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ [لقمان: 32] وقرأ بعضهم: (إلا أن يأتيهم الله في ظلال من الغمام)، فيحتمل أن يكون الظلال جمع ظلة، كقلال وقلة، وأن يكون جمع ظل، فالمعنى ما ينظرون إلا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام.

33. سؤال وإشكال: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ والجواب: لوجوه:

أ. أحدها: أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أكثر تأثيرا في السرور، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47]

ب. ثانيها: أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ [الفرقان: 25 ـ 26]

ج. ثالثها: أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة، فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولا غير محصور.

34. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ عطف على ما سبق، والتقدير: وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.

35. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به، فعند ذلك لا يقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة، ويقتضي الأمر والتقدير: (إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر)، فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن، وخصوصا في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيرا بالماضي، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي‏﴾ [المائدة: 116] والسبب في اختيار هذا المجاز أمران:

أ. أحدهما: التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه.

ب. الثاني: المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل.

36. الأمر المذكور هاهنا هو فصل القضاء بين الخلائق، وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ [إبراهيم: 22]، ولذلك فإن قوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف، فإنه تعالى ليس لقضائه، دافع، ولا لحكمه مانع.

37. ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ من المجسمة من قال كلمة إلى لانتهاء الغاية، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة، وأجاب أهل التوحيد عنه من وجهين:

أ. الأول: أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾ [الانفطار: 19] وهذا كقولهم: رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28] مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه.

ب. الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.

38. اختلف في قراءة قوله تعالى: ﴿تُرْجَعُ﴾:

أ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم‏ ﴿تُرْجَعُ﴾ بضم التاء على معنى ترد، يقال: رجعته أي‏ رددته، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي﴾ [فصلت: 50]، وفي موضع آخر: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾ [الكهف: 36]، وفي موضع آخر: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ [الأنعام: 62]، وقال تعالى: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾ [المؤمنون: 99 ـ 100] أي ردني.

ب. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ترجع بفتح التاء أي تصير، كقوله تعالى: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53]، وقوله: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾، و﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [هود: 4، المائدة: 48، الغاشية: 25]

39. المعنى في القراءتين متقارب(3)، لأنها ترجع إليه جل جلاله، وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة، وفي قوله: ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بضم التاء ثلاث معان:

أ. أحدها: هذا الذي ذكرناه، وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وهو قاضيها.

ب. الثاني: أنه على مذهب العرب في قولهم: فلان يعجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يذهب بك، وإن لم يكن أحد يذهب به.

ج. الثالث: أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كما قال ﴿يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: 1، التغابن: 1] فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال، لا بحسب النطق باللسان، وعليه يحمل أيضا قوله: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: 15] قيل: إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله، فكذا يجوز أن يقال: إن العباد يردون أمورهم إلى الله، ويعترفون برجوعها إليه، أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكفار فبشهادة الحال.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 5/352.

(2) ذكر الرازي الوجوه السابقة، وعلق عليها بقوله: (هذه الوجوه في تأويل قوله تعالى: ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر)، ثم ذكر هذا الوجه وما يليه.

(3) الكلام هنا للقفال.

(4) الكلام هنا للقاضي.

(5) الكلام هنا للجبائي.

(6) تفسير الفخر الرازي: 5/357.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾:

أ. قيل: لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه، فالسلم هنا بمعنى الإسلام، قال مجاهد، ورواه أبو مالك عن ابن عباس، ومنه قول الشاعر الكندي:

دعوت عشيرتي للسلم لما...رأيتهم تولوا مدبرينا

أي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع الأشعث بن قيس الكندي، ولان المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، قاله الطبري.

ب. وقيل: أمر من آمن بأفواههم أن يدخلوا فيه بقلوبهم، وقال طاووس ومجاهد: ادخلوا في أمر الدين، سفيان الثوري: في أنواع البر كلها.

2. السلم: قال الكسائي: السلم والسلم بمعنى واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة، وفرق أبو عمرو بن العلاء بينهما، فقرأها هنا: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ وقال هو الإسلام، وقرا التي في (الأنفال) والتي في سورة (محمد) (السلم) بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة، وقال عاصم الجحدري: السلم الإسلام، والسلم الصلح، والسلم الاستسلام، وأنكر محمد بن يزيد هذه التفريقات وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا، وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس، ويحتاج من فرق إلى دليل، وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم وسلم، بمعنى واحد، قال الجوهري: والسلم الصلح، يفتح ويكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ولذلك قيل للصلح: سلم، قال زهير:

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا...بمال ومعروف من الأمر نسلم‏

3. رجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام بما تقدم، وقال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: (الإسلام ثمانية أسهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والامر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له في الإسلام)، وقال ابن عباس: (نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى، يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كافة)، وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم [يموت‏ و] لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)

4. ﴿كَافَّةً﴾ معناه جميعا، فهو نصب على الحال من السلم أو من ضمير المؤمنين، وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكف المنع، ومنه كفة القميص ـ بالضم ـ لأنها تمنع الثوب من الانتشار، ومنه كفة الميزان ـ بالكسر ـ التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر، ومنه كف الإنسان الذي يجمع‏ منافعه ومضاره، وكل مستدير كفة، وكل مستطيل كفة، ورجل مكفوف البصر، أي منع عن النظر، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق.

5. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا﴾ نهى، ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ مفعول، وقد تقدم‏، وقال مقاتل: استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة، فنزلت ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ فإن اتباع السنة أولى بعد ما بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من خطوات الشيطان، وقيل: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان، ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة.

6. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي تنحيتم عن طريق الاستقامة، واصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وقرأ أبو السمال العدوى ﴿زَلَلْتُمْ﴾ بكسر اللام، وهما لغتان، واصل الحرف، من الزلق، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق.

7. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الاعلام بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم والتعريف به.

8. في الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع، وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فقال كعب: إني لاستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال كعب: هكذا ينبغي، و﴿عَزِيزٌ﴾ لا يمتنع عليه ما يريده، ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله.

9. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يعنى التاركين الدخول في السلم‏، قال الأخفش سعيد: و(الملائكة) بالخفض بمعنى وفي الملائكة، قال والرفع أجود، كما قال ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾:

أ. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام)

ب. قال قتادة: الملائكة يعنى تأتيهم لقبض أرواحهم، ويقال يوم القيامة، وهو أظهر.

ج. قال أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتيهم الله فيما شاء.

د. وقال الزجاج: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة.

هـ. وقيل: ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه.

و. وقيل: أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل، مثل: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أي بخذلانه إياهم، هذا قول الزجاج، والأول قول الأخفش سعيد.

ز. وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى‏ الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾، وقال في قصة النضير: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾، وقال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾

10. إنما احتمل الإتيان هذه المعاني لان أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء، فمعنى الآية: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الافعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضى في أمرهم ما هو قاض، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه!.. وقال ابن عباس في رواية أبى صالح: هذا من المكتوم الذي لا يفسر، وقد سكت بعضهم عن تأويلها، وتأولها بعضهم كما ذكرنا.

11. قيل: الفاء بمعنى الباء، أي يأتيهم بظلل، ومنه الحديث: (يأتيهم الله في صورة أي بصورة امتحانا لهم، ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لان ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا.

12. الغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمى بذلك لأنه يغم، أي يستر، كما تقدم‏، وقرأ معاذ بن جبل (وقضاء الامر)، وقرا يحيى بن يعمر (وقضى الأمور) بالجمع، والجمهور ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقرا ابن عامر وحمزة والكسائي (ترجع الأمور) على بناء الفعل للفاعل، وهو الأصل، دليله ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾، ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾، وقرا الباقون ﴿تُرْجَعُ﴾ على بنائه للمفعول، وهى أيضا قراءة حسنة، دليله ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾، ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾ والقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل الاولى، وبناؤه للمفعول توسع وفرع، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/23.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملّة واحدة، وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان، لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه.

2. السلم بفتح السين وكسرها قال الكسائي: ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعا يقعان للإسلام والمسالمة، وقال أبو عمرو بن العلاء: إنه بالفتح‏ للمسالمة، وبالكسر للإسلام، وأنكر المبرد هذه التفرقة، وقال الجوهري: السّلم بفتح السين: الصلح، وتكسر ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام والانقياد، ورجّح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندي:

دعوت عشيرتي للسّلم لمّا... رأيتهم تولّوا مدبرينا

أي: إلى الإسلام، وقرأ الأعمش: (السّلم) بفتح السين واللام، وقد حكى البصريون في سلّم وسلم وسلّم أنها بمعنى واحد وكَافَّةً حال من السلم أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأوّل: لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني: لا يخرج من أنواع السلم شيء، بل ادخلوا فيها جميعا، أي: في خصال الإسلام.

3. ﴿كَافَّةً﴾ مشتق من قولهم: كففت، أي: منعت، أي: لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكفّ: المنع، والمراد هنا: الجميع ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ أي: جميعا.

4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان، وقد تقدّم الكلام على خطوات.

5. ﴿زَلَلْتُمْ﴾ أي: تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، يقال: زلّ يزلّ زللا وزلولا، أي: دحضت قدمه، وقرئ: ﴿زَلَلْتُمْ﴾ بكسر اللام، وهما لغتان، والمعنى: فإن ضللتم وعرّجتم عن الحق مِنْ بَعْدِ ما ﴿جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الحجج الواضحة، والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالب لا يعجزه الانتقام منكم ﴿حَكِيمٌ﴾ لا ينتقم إلا بحق.

6. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون، يقال: نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد: هل ينتظر التاركون للدخول في السلم.

7. الظلل: جمع ظلة، وهي ما يظلك، وقرأ قتادة، ويزيد بن القعقاع: فِي ظِلالٍ وقرأ يزيد أيضا والملائكة بالجرّ عطفا على الغمام أو على ظلل، قال الأخفش والملائكة بالخفض بمعنى: وفي الملائكة، قال والرفع أجود، قال الزجاج: التقدير: في ظلل من الغمام ومن الملائكة.

8. المعنى: هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة، قال الأخفش: وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء، فسمى الجزاء: إتيانا، كما سمى التخويف والتعذيب في قصة ثمود: إتيانا، فقال: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ وقال في قصة بني النضير: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ وإنما احتمل الإتيان هذا، لأن أصله عند أهل اللغة: القصد إلى الشيء؛ فمعنى الآية: (هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم)، وقيل: إن المعنى: يأتيهم أمر الله وحكمه؛ وقيل: إن قوله: فِي ظُلَلٍ بمعنى بظلل، وقيل: المعنى: يأتيهم ببأسه في ظلل.

9. الغمام: السحاب الرقيق الأبيض، سمّي بذلك لأنه يغمّ، أي: يستر، ووجه إتيان العذاب في الغمام ـ على تقدير أن ذلك هو المراد ـ ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة وعظم الموقع، لأن الغمام مظنة الرحمة، لا مظنة العذاب.

10. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ عطف على ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾، داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه، فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة، أي: وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم، وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر بالمصدر عطفا على الملائكة، وقرأ يحيى بن يعمر: وقضى الأمور بالجمع، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/242.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ ـ بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام فيهما قراءتان سبعيتان ـ أي: في الإسلام، قال امرؤ القيس بن عابس:

فلست مبدّلا بالله ربّا...ولا مستبدلا بالسّلم دينا

ومثله قول أخي كندة:

دعوت عشيرتي للسّلم لمّا...رأيتهم تولّوا مدبرينا

قال الرازيّ: أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]، والإسلام إنما سمّي إسلاما لهذا المعنى، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى، لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه، ومعنى الآية: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه.

2. ﴿كَافَّةً﴾ حال من الضمير في ﴿ادْخُلُوا﴾

3. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: طرقه التي يأمركم بها فـ ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 169] و﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6] وضمّ الطاء من (خطوات) وإسكانها لغتان: حجازية وتميمية، وقد قرئ بهما في السبع.

4. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، ظاهر العداوة أو مظهر لها، أي: بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه السلام وغيره، مما شواهده ظاهرة.

5. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي: عن الدخول في السلم‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي: الآيات الظاهرة على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحقّ‏ ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالب لا يعجزه الانتقام ممّن زلّ ولا يفوته من ضلّ‏ ﴿حَكِيمٌ﴾ لا ينتقم إلّا بحقّ.

6. ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب، وربّما قال الوالد لولده: إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام ـ في الزجر ـ أبلغ من ذكر الضرب وغيره، فظهر تسبب الجزاء في الآية بما أشعر به من الزجر والتهديد على الشرط المشير إلى ذنبهم وجرمهم.

7. هذا، ومن الوجوه المحتملة في الآية، أن يكون ﴿السَّلْمِ﴾ المذكور فيها معناه الصلح والمسالمة وترك المنازعة والاختلاف، فمعنى‏ ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ كونوا متوافقين ومجتمعين في نصرة الدين، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس، فتكون الآية حينئذ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، وقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، وقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]

8. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي ينتظرون، فـ (نظر) كـ (انتظر)، يقال: نظرته وانتظرته إذا ارتقبت حضوره، وهذا الاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أي: ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة ـ في الامتثال بما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه ـ بعد طول الحلم عنهم‏.

9. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ جمع ظلّة ـ كقلل في جمع قلّة ـ أي: في ظلّة داخل ظلّة ـ وهي ما يستر من الشمس، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغمّ على الرائي ما فيها ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ ـ عطف على الاسم الجليل ـ أي: ويأتي جنده الذين لا يعلم كثرتهم إلّا هو، هذا، على قراءة الجماعة، وعلى قراءة أبي جعفر، بالخفض، فهو عطف على ظلل أو الغمام.

10. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه، قال الراغب: نبّه به على أنّه لا يمكن تلافي الفارط وهو عطف على‏ ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾ داخل في حيّز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحقّقه، فكأنّه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها.

11. ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا، فإنّ ملكهم وتصرّفهم مستردّ منهم يوم القيامة وراجع إليه تعالى، يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي استردّ ما كان فوضه إليهم، أو عنى بـ ﴿الْأُمُورُ﴾ الأرواح والأنفس دون الأجسام، وسمّاها أمورا من حيث إنها إبداعات مشار إليها بقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، فهي من الإبداع الذي لا يمكن من البشر تصوره؛ فنبّه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة؛ وعلى نحو ذلك قال ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 29]، ويكون رجوعها إما بربح وغبطة، وإمّا بندامة وحسرة، قاله الإمام الراغب، قال أبو مسلم: إنه تعالى قد ملّك كلّ أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا، امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كلّه لله وحده، وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم ـ كما أمر ـ ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.

12. لهذه الآية أشباه ونظائر تدلّ على أنّ هذا الوعيد أخرويّ، ولذا قال ابن كثير في معنى الآية: يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزى كلّ عامل بعمله: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ ولهذا قال تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾‏ [الفجر: 21 ـ 23]، وقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 158] الآية.

13. وصفه تعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والقول في جميع ذلك من جنس واحد، وهو مذهب سلف الأمّة وأئمتها: إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي..؟ فليقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال لا أعلم كيفية ذاته! فليقل له: وكذلك لا تعلم كيفية صفاته فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف، وقد أطلق غير واحد، ممن حكى إجماع السلف، منهم الخطابيّ: مذهب السلف أن صفاته تعالى تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها.

14. بعض الناس يقول: مذهب السلف إن الظاهر غير مراد، ويقول أجمعنا على أن الظاهر غير مراد، وهذه العبارة خطأ إمّا لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى، لأن لفظ (الظاهر) فيه إجمال واشتراك، فإن‏ كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد؛ ولكنّ السلف والأئمة لم يكونوا يسمّون هذا ظاهرها؛ فهذا القائل أخطأ حيث ظنّ أنّ هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى جعله محتاجا إلى تأويل، وحيث حكى عن السلف ما لم يريدوه، وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتّفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإنّ الله لما أخبر أنّه بكلّ شيء عليم، وأنّه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنّة وأئمة المسلمين على أنّ هذا على ظاهره، أن ظاهر ذلك مراد ـ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حيّ عالم حقيقة، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حيّ عليم قدير، فإن كان المستمع يظنّ أن ظاهر الصفات تماثل صفات الخلوقين لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا إلّا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلّا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا، وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إنّ الظاهر غير مراد بهذا التفسير.

15. بالجملة، فمن قال إن الظاهر غير مراد ـ بمعنى أن صفات المخلوقين غير مرادة ـ قلنا له: أصبت في المعنى ولكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهميّة طريقا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمرّ كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأنّ صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنّه منزّه مقدّس عن كلّ ما يلزم منه حدوثه أو نقصه، ومن قال الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني:وهو مراد الجهمية ومن تبعهم ـ فقد أخطأ، وإنما أتي من أخطأ من قبل أنه يتوهم ـ في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلّها ـ أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:

أ. أحدها: كونه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنّ أنّ مدلول النصوص هو التمثيل.

ب. الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله، بقيت النصوص معطلة عما دلّت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص وظنّه‏ السيء الذي ظنه بالله ورسوله ـ حيث ظنّ أنّ الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل ـ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.

ج. الثالث: أنّه ينفي تلك الصفات عن الله عزّ وجلّ بغير علم، فيكون معطّلا لما يستحقه الرب.

د. الرابع: أنّه يصف الرب بنقيض تلك الصفات ـ من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات ـ فيكون قد عطّل به صفات الكمال التي يستحقّها الرب، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطّل النصوص عما دلّت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته.

16. حاصل الكلام: أنّ هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كلّ شيء إلى ذاته، هذا ملخّص ما قرّره ابن تيمية في رسالتيه (التدمرية) و(المدنية):

أ. قال الحافظ ابن عبد البرّ: أهل السنّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلّا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأمّا أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلّهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعم أنّ من أقرّ بها شبّه، وهم، عند من أقرّ بها، نافون للمعبود، والحقّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنّة رسوله، وهم أئمة الجماعة.

ب. وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل): لا يجوز ردّ هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها؛ والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبيه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها.

ج. وقال عبد الله بن المبارك: إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، واعلم أنه ليس في العقل الصحيح ولا في النقل الصريح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية، والمخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة، من المتأولين لهذا الباب، في أمر مريج، وسبحان الله! بأيّ عقل يوزن الكتاب والسنّة.

د. ورضي الله عن الإمام مالك حيث قال أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لجدل هذا؟ وكلّ من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر، وهو من وجوه:

أحدها: بيان أنّ العقل لا يحيل ذلك.

الثاني: أنّ النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.

الثالث: أنّ عامة هذه الأمور قد علم أنّ الرسول جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحجّ والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات؛ على أنّ الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأنّ العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، فإذا كان هكذا، فالواجب تلقّي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

17. قال البقاعيّ: وتجلي الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف، منه ما في الصحيح عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن!، وعن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال وتدري ما ذاك؟ قال لا، قال تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم.

18. وقال البقاعيّ أيضا: لمّا كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك ـ على ما نقل إليهم ـ من وفور الهيئة وتعاظم الجلال، قال تعالى ـ جوابا لمن كان قال كيف يكون هذا؟ ـ.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/86.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ﴾ كلُّكم لا بعضكم، ﴿فِي السَّلْمِ﴾ في الانقياد ﴿كَآفَّةً﴾ أي كلُّكم، وأصله اسم فاعل من (كفَّه) تغلَّبت عليه الاسميَّة، وتاؤه للنقل من الوصفيَّة إلى الاسميَّة، أو للتأنيث أو للمبالغة؛ أقوال، وهو حال من واو (ادْخُلُوا)، إشارة إلى الكفِّ عن التفرُّق كلِّه، لا تتركوا بعضه كعدم تعظيم السبت وعدم تحريم الإبل وشحمها ولبنها، وصلاة الليل بالتوراة نفلاً كما يفعله بعض من آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، إذ طلب أن يقوم الليل بالتوراة، ولا تتركوا الإيمان ببعض كتب الله وأنبيائه، ولا تتركوا شيئًا من الدين، وآمِنُوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط كما فعل المنافقون، ودخلوا في لفظ (الَّذِينَ ءَامَنُوا) لظاهر حالهم، وقيل: الخطاب للمنافقين؛ لأنَّه يقال فيهم: إنَّهم آمنوا؛ وقيل: للكفَّار أهل الكتاب إذ زعموا أنَّهم آمنوا بالتوراة والإنجيل، على أنَّ السلم جميع الشرائع، وقيل: للمؤمنين الخلَّص.

2. ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أثر خطواته، أي أثر أقدامه، والمراد: أنواع تزيينه بالتفرُّق: بعض لا يسلم وبعض يسلم، والشيطان لا يريد إيمان هذا البعض، وبالإيمان بالبعض دون البعض، وبالبقاء على بعض أمر الجاهليَّة، أو بعض الكتب السابقة ممَّا لا يجوز البقاء عليه، كتحريم لبن البعير ولحمه وتعظيم السبت والصلاة بغير القرآن.

3. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهر العداوة، أو مُظهرها لكم، لكن اغتررتم بما ناسب هواكم وجعلتموه حليفًا لكم.

4. ﴿فَإِن زَلَلْتُم﴾ مِلْتُم عن دخولكم كلِّكم أو في أمر الإسلام كلِّه، ﴿من بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الحجج الظاهرة في أنَّ الدين هو الحقُّ، انتقم الله منكم، ودلَّ على هذا الجواب بقوله: ﴿فَاعْلَمُواْ أنَّ اللهَ عَزِيزٌ﴾ لا تفوتونه، ﴿حَكِيمٌ﴾ ومن الحكمة [أن] لا يهمل العاصي عن الجزاء بما يستحقُّه، لا زائد ولا ناقص.

5. ﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ينتظرون من لم يدخل في السلم، ﴿إِلَّآ أَنْ يَّاتِيَهُمُ اللهُ﴾ أي أمرهُ أو بأسُه كقوله: ﴿أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبـِّكَ﴾ [النحل: 33]، وقوله: ﴿جَآءَهُم بَأْسُنَا﴾ [الأنعام: 43]، أو يأتيهم الله ببأسه، أي يُحضِر بأسَه.

6. ﴿فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ والواحد ظُلَّة، ومن شأن الغمام أن يكون ماءً، فإذا جاء فيه العذاب كان أشدَّ عليهم إذ جاءهم الشرُّ من حيث يظنُّون الخير، ولا سيما غمام مظلم موهم لقوَّة مائه، أو أبيض مظنَّة للرحمة، ﴿وَالْمَلَآئِكَةُ﴾ لجريان العذاب على أيديهم، أخَّر ذكرهم تتميمًا للإيهام، أو تفسيرًا لإتيان الله بأنَّ الآتي بالعذاب ملائكته.

7. ﴿وَقُضِيَ الَامْرُ﴾ ويقضى الأمرُ، إلَّا أنَّه متحقِّق الوقوع إذ كان موعودًا به حتَّى كأنَّه واقع فأخبر به على صيغة الماضي؛ فهو داخل في حيِّز الانتظار من قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾، أو المراد أنَّ الله قد فرغ من أمرهم وقضاه، أي حكمٌ كانَ، فهو غير داخل في حيِّزه، ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ﴾ فيجازي على الأعمال في الآخرة وهي بعض الأمور.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/11.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعدما بين عز وجل اختلاف الناس في الصلاح والفساد والإصلاح والإفساد أراد أن يهدينا إلى ما يجمع البشر كافة على الصلاح والسلام، والوفاق الذي قرره الإسلام، وهو ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعل هذه الهداية بصيغة الأمر، وشرف أهل الإيمان به فقال: ﴿ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾

2. السلم: المسالمة والانقياد والتسليم، فيطلق على الصلح والسلام، وعلى دين الإسلام، قرأ ابن كثير ونافع والكسائي ﴿السَّلْمِ﴾ بفتح السين والباقون بكسرها وهما لغتان، وقد فسره بعض المفسرين بالصلح، وبعضهم بالإسلام وعليه الجلال، وقال في تفسير ﴿كَافَّةً﴾ حال من السلم؛ أي: في جميع شرائعه، وأقول: إن أساسها الاستسلام لأمر الله والإخلاص له، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب والقتال بين المهتدين به، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام، والأمر بالدخول فيه يشعر بأنه حصن منيع للداخلين في كنفه، وهو للكاملين منهم أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾، ولمن دونهم أمر بالتمكن منه وتحري الكمال فيه، وعلى القول بأن الخطاب فيه لأهل الكتاب أو كل من يؤمن بالله فالدخول على حقيقته، يقول لهم: إذا لم تدخلوا في دين الإسلام الذي أكمله لخلقه كافة ببعثة خاتم النبيين، فلا ينفعكم إيمانكم به مع بقائكم على تعاديكم وتفرقكم، ودين الله جامع لا تفرق فيه.

3. هذه كلمة عظيمة، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلاف في الأمة، ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة، ونفهم المراد من ذلك كله ونعمل به، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل، ولو أنك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجه ـ الذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم، وإن رجح بعضهم في التفسير غيره عليه ـ لولوا منك فرارا، وأعرضوا عنك استكبارا، وقالوا: مكر مكرا كبارا، إذ دعا إلى ترك المذاهب، وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد.

4. من آيات العبرة في هذا المقام أننا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى ونورا لو اتبعته الأمة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة، ووصلت إلى الحقيقة بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق، والسبب في بقاء الغلب لسلطان الخلاف والنزاع فشو الجهل، وتعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي إليها ينتسبون، وبجاهها يعيشون ويكرمون، وتأييد الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة، وقطع طريق الاستقلال العقلي والنفسي على الأمة؛ لأن هذا أعون لهم على الاستبداد، وأشد تمكينا لهم مما يهوون من الفساد والإفساد؛ إذ اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا بدليل كذا ملزم للحاكم باتباعهم فيه؛ لأن الخواص إذا اتحدوا تبعهم العوام، وهذه هي الوسيلة الفردة لإبطال استبداد الحكام، وهذا التفسير مؤيد بالنعي على الذين جعلوا القرآن عضين، والإنكار على الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؛ أي: يعملون ببعضه على أنه دين ويتركون بعضا بتأويل أو غير تأويل، كشأن من لم يصدق بأنه من الله، فوجوب أخذ القرآن والدين بجملته، وفهم هدايته من مجموع ما ثبت عمن جاء به أمر مقرر في ذاته، سواء فسرت به الآية أو لا؛ لأن الآيتين اللتين أشرنا إليهما آنفا في جعل القرآن عضين، وفي الإيمان ببعضه والكفر ببعض، وما في معناهما من النصوص تثبته.

5. ذهب بعض المفسرين إلى أن ﴿كَافَّةً﴾ ترجع إلى الذين آمنوا؛ أي: ادخلوا في الإسلام جميعا لا يتخلف منكم أحد، وصاحب هذا القول يصرف نداء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى أهل الكتاب ـ أي آمنوا بالأنبياء السابقين والوحي ـ حتى لا يرد عليه أن الإيمان يستلزم الدخول في الإسلام، فيكون أمر المؤمن بالإسلام من تحصيل الحاصل، ووجه اللزوم أن الإيمان هو التصديق الجازم مع إذعان النفس، فمن صدق بالشيء وأذعن له فقد دخل في أعماله وانقاد لأحكامه لا محالة.

6. قول الجماهير: إن العلم لا يوجب العمل هو على إطلاقه خطأ؛ فالعلم التصديقي الإذعاني المتعلق بالمنافع والمضار يوجب العمل به ما لم يعارضه في موضوعه علم أقوى منه، وأما العلم التصوري والعلم النظري المعارض بعلم ضروري أو نظري أقوى منه فلا يوجبان العمل، وقد صرح الغزالي وابن تيمية و الشاطبي صاحب الموافقات بأن العلم الصحيح يستلزم العمل، والحق التفصيل الذي أشرنا إليه آنفا، وآيات الكتاب العزيز دالة عليه ومعززة له.

7. يدل لمن قال: إن الآية نزلت في أهل الكتاب ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال: قال عبد الله بن سلام وثعلبة وابن يامين وأسد وأسيد ابنا كعب وسعيد بن عمر وقيس بن زيد ـ كلهم من يهود ـ: يا رسول الله يوم السبت نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت، فالخطاب على هذا لليهود خاصة لا لأهل الكتاب عامة، ولكن الرواية غير صحيحة وهي تنم على نفسها فهي موضوعة للآية، وهناك رواية أخرى بمعناها.

8. الوجه الثاني في تفسير السلم، وهو المسالمة والوفاق يتوقف على الوجه الأول ـ أخذ الدين بجملته ـ لأنه أمر برفع الشقاق والتنازع، وبالاعتصام بحبل الوحدة، وشد أواخي الإخاء، ولا يرتفع الشيء إلا برفع أسبابه، ولا يستقر إلا بتحقق وسائله، وهو بمعنى قوله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض) رواه الجماعة كلهم، وقد خالفنا كل هذه النصوص فتفرقنا وتنازعنا وشاق بعضنا بعضا بشبهة الدين، إذ اتخذنا مذاهب متفرقة، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادي سائر إخوانه المسلمين لأجله، زاعما أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، هذا سني يقاتل شيعيا، وهذا شيعي ينازل إباضيا، وهذا شافعي يغري التتار بالحنفية، وهذا حنفي يقيس الشافعية على الذمية، وهؤلاء مقلدة الخلف، يحادون من اتبع طريقة السلف ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ أم أمروا بهذا من الله ورسوله ومن الأئمة المجتهدين؟ كلا؛ بل كان التعادي والتنازع انحرافا عن الصراط المستقيم، واتباعا لخطوات الشيطان الرجيم، فكما خالف المفرقون المتنازعون ربهم في ذلك الأمر خالفوا ما اتبعه به من هذا النهي، إذ قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾

9. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ الخطوات جمع خطوة ـ بالضم وبالفتح ـ وهما ما بين قدمي من يخطو بنقلهما في المشي؛ أي: لا تسيروا سيره وتتبعوا سبله في التفرق في الدين، أو الخلاف والتنازع مطلقا، وسبل الشيطان وخطواته هي كل أمر يخالف سبيل الحق والخير والمصلحة، وهي ما عبر عنه بالسبل في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، فذكر تعالى أن له سبيلا واحدة سماها صراطا مستقيما؛ لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وقد علم من جعل التفرق تابعا لاتباع سبل هي غير صراط الله أن الذين يتبعون سبيل الله لا يتفرقون ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ نعم قد يطرأ عليهم سبب الخلاف والتنازع ولكنهم متى شعروا بأن التنازع قد دب إليهم في أمر فزعوا إلى تحكيم الله ورسوله فيه برده إلى حكمهما كما أمرهم بقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ أي: مآلا وعاقبة، فالآيات يفسر بعضها بعضا إذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أمرنا.

10. قال محمد عبده: هذه الآيات حجة لعلماء الأصول القائلين بأن الحق واحد لا يتعدد، ويا ليت أصحاب هذا الأصل فرضوا على أنفسهم الاجتماع لكل خلاف يعرض لهم، والبحث عن وجه الحق فيه بلا تعصب ولا مراء، حتى إذا ما ظهر أجمعوا عليه، وإذا هو لم يظهر لبعضهم ثابر من لم يظهر له على تطلابه بإخلاص لا يعادي فيه أحدا، ولا يجعله ذريعة لتفريق الكلمة.

11. طريق الحق هو الوحدة والإسلام، وطرق الشيطان هي مثارات التفرق والخصام، وهي معروفة في كل الأمم، ولكن الشيطان يزين طرقه ويسول للناس المنافع والمصالح في التفرق والخلاف، فقد كانت يهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد هو صراط الله، فسول لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وطرقا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرفوا من كلمه ما حرفوا، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله حتى حل بهم الهلاك والدمار، ومزقوا كل ممزق وكذلك فعل غيرهم، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثروه، وواحدا فعددوه، وسهلا فصعبوه، فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم حتى لم تغن عنهم كثرتهم، وسلط عليهم الأعداء، وأنزل بهم البلاء، ﴿سنة الله التي قد خلت في عباده﴾

12. هذا هو المتبادر من خطوات الشيطان في هذا المقام، ومن خطواته طرق الفواحش والمنكرات كلها، ولذلك قال تعالى في سورة النور: ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وأما كون الشيطان عدوا مبينا فذاك أن جميع ما يدعوا إليه ظاهر البطلان، بين الضرر لمن تأمل وعقل، فمن لم يدرك ذلك في بدء الخطوات أدركه في غايتها عندما يذوق مرارة مغبتها، ولا سيما بعد تذكير الله تعالى وهدايته عباده إلى ذلك، فلا عذر لمن بلغته هذه الهداية إذا بقي على ضلالته واستحب العمى على الهدى؛ ولذلك قال عز شأنه: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

13. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي: فإن زللتم وحدتم عن صراط الله ـ وهو السلم ـ إلى خطوات الشيطان ـ وهي طرق الخلاف والافتراق والباطل والشر ـ من بعد أن بين الله تعالى لكم أن سبيله واحدة وهي السلم، وأن الشيطان لكم عدو مبين، وأمركم أن تتخذوه عدوا وتجتنبوا طرقه وخطواته، ثم فصل لكم من ذلك ما اضطررتم إليه، وأكد النهي عن شر تلك الطرق وأشأمها وهي طرق التفرق والخلاف، فاعلموا أن أمامكم أمرا جليلا، وأخذا وبيلا؛ ذلك أن الله تعالى لعزته لا ينسى من ينسى سننه ويزل عن شريعته؛ بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة، وهدى إليها الناس بما أنزل من الشريعة، ومن ذلك أن جعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم أثرا من آثارها لازما لها حتما، فكأنه تعالى قال: فاعلموا أنه يحل بكم العقاب؛ لأنه عزيز لا يغلب على أمره، وحكيم لا يهمل أمر خلقه، ولكن هذا التعبير أبلغ؛ لأنه بيان للحجة، وتقرير للبرهان بالإشارة إلى مقدماته اكتفاء به عن ذكر النتيجة، وهو من ضروب إيجاز القرآن التي لم تعهد في كلام إنسان.

14. قال محمد عبده: إنه ذكر من صفاته تعالى ما هو دليل العقاب وهو ما لا مطمع في زواله، ولا هزء في الدين أكبر من ظن المغرور أنه ينال جنة عرضها السماوات والأرض وفيها من النعيم والرضوان ما لم يخطر على قلب بشر بغير الأعمال التي أرشدت إليها آيات الله تعالى، مبينة أن العقوبات على تركها من آثار صفاته القديمة التي لا يلحقها تغيير، ولا تؤثر فيها الحوادث بتبديل ولا تحويل.

15. إن ظن المغرورين بأنه يكون لهم السلطات والخلافة في الأرض بمجرد دعوى الإيمان والإسلام ـ ولو مع بعض الأعمال البدنية من غير إقامة العدل في الناس والعمارة والإصلاح في الأرض ـ هو من الهزء بآيات الله في كتابه، وآياته في خلقه، فإنها متفقة على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة العدل فيها ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى﴾ أي: الأمم ﴿بِظُلْمٍ﴾ منهم أي: شرك وكفر، أو منه لهم ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ أي: والحال أنهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم، وإنما يهلكها إذا ظلموا وأفسدوا فيها.

16. الآيتان المفسرتان آنفا وما في معناهما كقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ كلها هادمة للتقاليد التي فرقت الأمة وجعلتها شيعا، حتى صار بأسها بينها شديدا فسفكت دماءها بأيديها، ومزقت دنياها بتمزيق دينها، وكان من أمرها بعد ذلك ما نرى سوء عاقبته في كل شعب وكل قطر.

17. ثم بين تعالى غاية الوعيد المشار إليه في الاسمين الكريمين فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ وقد غير الأسلوب بالالتفات عن الخطاب والأمر إلى الحكاية عن الزالين عن صراط الله بضمير الغائب، والحكمة في الالتفات تناول هذا الوعيد لجميع من زل من المؤمنين المخاطبين في الدخول في السلم والمنهيين عن ضده ومن زل من غيرهم، أو هي الإيذان بأن الزالين لا يستحقون شرف الخطاب الإلهي.

18. الاستفهام في الآية بمعنى النفي، وينظرون بمعنى ينتظرون، وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب العزيز ولا سيما في أمور الآخرة كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾، و﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ وإتيان الله تعالى فسره الجلال وآخرون بإتيان أمره؛ أي: عذابه، كقوله في آية أخرى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي: فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها، وأقر محمد عبده الجلال على ذلك، وبين في الدرس أن هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازا، وأوضحه أتم الإيضاح، فهو على حد ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ومن المفسرين من قال: إن الإسناد حقيقي وإنما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق؛ أي: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب، وعده آخرون من المتشابهات فقالوا: إن الله تعالى يأتي بذاته ولكن لا كإتيان البشر، بل إتيانه من صفاته التي لا نبحث عن كيفيتها اتباعا للسلف، وأما تأويل الإتيان بما نقله البيهقي عن الأشعري فلا نذكره؛ لأنه مما يزيد المعنى بعدا عن الفهم.

19. قد يقال: إنه ليس من مقتضى مذهب السلف أن يجعل كل ما يسند إلى الله تعالى من المتشابهات التي لا تفهم بحال، ولا تفسر ولو بإجمال، فحسبنا أن نقول على رأي من فسر إتيان الله هنا بإتيان أمره وما وعد به من العذاب، أو إتيانه بما وعد به: إننا نفوض إليه تعالى كيفية ذلك، وبذلك نكون على طريقة السلف في التفويض مع العلم بأن الله تعالى ينذر الذين زالوا عن صراطه وفرقوا دينه بأمر معروف في الجملة لا بشيء مجهول مطلق، ومما يدلنا على أن المراد بالآية ما ذكرنا قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ مع الآيات الكثيرة الناطقة بأن قيام الساعة وخراب العالم يكون ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾: وانتثرت كواكبها إلخ، وإنما يأتي بذلك الله تعالى بتغيير هذا النظام الذي وضعه لارتباط الكواكب وحفظ كل كوكب في فلكه، وسيأتي لمذهب السلف في الإتيان توجيه أقرب من هذا.

20. ظلل الغمام: هي قطع السحاب الأول، وهي جمع ظلة ـ بالضم ـ كغرف، جمع غرفة، وهي ما أظلك، والثاني جمع غمامة كسحاب وسحابة وزنا ومعنى، سمي بذلك لأنه يغم السماء؛ أي: يسترها، وخص بعضهم الغمام بالسحاب الأبيض، وزاد بعض آخر الرقيق، وفيه أن الأبيض الرقيق لا يمطر، والعرب تسمي البرد حب الغمام.

21. ذكر المفسرون أن إتيان أمر الله أو عذابه في الغمام عبارة عن مجيئه من حيث ترجى الرحمة بالمطر، وذلك أبلغ في تمثيل هول العذاب وفظاعته؛ لأن الخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم، والعذاب إذا فاجأ من حيث ترجى الرحمة كان وقعه آلم، كما وقع لعاد قوم هود ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وهو مبني على أن الغمام مظنة المطر، والظاهر أن من قال: إن الغمام هو السحاب الأبيض لا يعني به تلك السحائب البيض الرقاق المرتفعة التي تظهر في أيام الصيف، وإنما أراد به ذلك السحاب المسف لثقله بالمطر الذي هو أقرب إلى البياض منه إلى السواد، وقال محمد عبده: وإن الحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة توطن النفوس على احتماله، وذلك أبلغ في هوله (ما من دهي بالأمر كالمعتد) وهو ذلك الغمام الذي يحدث عن تخريب العالم فجأة، فيأتيهم العذاب قبل أن يتبدد الغمام الناشئ عن الخراب، وهذا القول يتفق مع الأول وهو أقرب إلى معنى قوله تعالى في الساعة: ﴿لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾

22. يجب أن تكون هذه الآيات عبرة للمؤمن ترغبه في المبادرة إلى التوبة؛ لئلا يفاجئه وعد الله تعالى وهو غافل، فإن لم يفاجئه قيام الساعة العامة التي بها يهلك هذا العالم كله فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه مرض الموت بغتة حتى لا يقدر على العمل، وتدارك الزلل.

23. إذا جرينا على هذه الطريقة التي أرشدتنا إليها الآية السابقة على الوجه الأول في تفسيرها فحملنا بعض الآيات على بعض واستخرجنا المعنى من مجموعها كان لنا أن نقول: إذا وقعت الواقعة، وقرعت القارعة، وكورت الشمس، وتناثرت الكواكب، وانشقت السماء شقا، ورجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت أولا كالعهن المنفوش ثم صارت هباء منبثا، فإن مادة هذا الكون تعود كما كانت قبل التكوين؛ أي: مادة سديمية، وهي ما عبر عنه في بدء التكوين بالدخان وفي الحكاية عن الخراب بالغمام، وإن كثيرا من علماء الهيئة الغربيين ليتوقعون خراب هذا العالم بقارعة تحدث من اصطدام بعض الكواكب ببعض بحيث تبطل الجذب العام الذي به قام هذا النظام، وهو في معنى ما ورد من تشقق السماء بالغمام، وهذا المعنى لم يكن يخطر ببال أحد على عهد نزول القرآن.

24. إتيان الملائكة هنا هو بمعنى نزولهم في قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ أي: وتأتيهم الملائكة الموكلة بكل ما قضاه الله يومئذ.

25. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ جملة حالية، أي: كيف ينتظرون غير ذلك وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفر منه ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول ومنه بدأت الأشياء، وهو الآخر وإليه ترجع وتصير، وهو بكل شيء محيط ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾

26. إذا كان كل ما سنه الله تعالى من النظام لخلقه حتما مقضيا لا يضل واضعه ولا ينسى، فعلى من زل عن صراطه واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الحق قبل أن يحيق به زللـه، ويبسله عمله، وقبل أن تقوم قيامته، أو قيامة الناس أجمعين فيجازى على زلله و﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ وأجدر الناس بالمبادرة إلى هذه التوبة علماء الأمة الذين أبسلوها بخلافهم وتفرقهم، فعليهم أن يحكموا كتاب الله وسنة رسوله فيما شجر بينهم من غير تعصب ويسلموا تسليما.

27. ذكر محمد عبده في تفسير الآية وجها آخر يعد بيانا للقول بأن الإتيان مسند إلى الله تعالى على أنه هو الذي يأتي على ظاهر مذهب السلف لا عذابه ولا يومه الموعود، وهو من الآيات الكبرى، وأسرار المعارف العليا، فقال ما مثاله:

أ. من الناس من يؤمن بالله تعالى وصحة دينه إيمانا موافقا لما جاء في كتابه، ويكون في إيمانه على حق اليقين والاطمئنان الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب، وأهل هذا اليقين هم الذين يقال إن الله حاضر عندهم وأنه معهم أينما كانوا؛ لأن معرفته ثبتت في عقولهم، والتوكل عليه قد لابس قلوبهم، وهم الذين قال قائلهم: لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا، ومنهم من ليس له تلك المعرفة وهذا اليقين، فلا يقال إن الله عندهم؛ لأن ما حضر في عقله هو غير ما وصف الله تعالى به نفسه، وشهدت به آياته في كتابه وآياته في خلقه، ثم هو ليس على يقين مما عنده، أولئك أصحاب الظنون وأرباب الشكوك، وحملة التقاليد الذين زلوا من بعد ما جاءتهم البينات فاتخذوا بينهم وبين الله حجابا ووسطاء، وشبهوه بخلقه في كثير من الشئون، فهم غائبون عن الله تعالى ومحجوبون عن ربهم بحيث لا تطوف معرفته الحقيقة بعقولهم، ولا تلابس عظمته وكماله قلوبهم، فإذا كان يوم القيامة وكشف الحجاب عرفوا الله ربهم الحق، وتبين لهم ما كانوا عليه من الباطل، فذلك إتيان الله لهم؛ أي: يأتيهم من معرفته ما كانوا غائبين عنه ومحرومين منه في الدنيا، والإتيان يكون في المعقولات كما يكون في المحسوسات، فلا حاجة إلى التأويل.

ب. إن هؤلاء الزالين عن صراط الله تعالى صنفان: صنف اعتقدوا الباطل حقا فلم يعرفوا حقيقة التوحيد ورجوع كل أمر إلى من أعطى كل شيء خلقه على سنن ثابتة، ولا غير التوحيد من أصول الإيمان، وصنف اتبعوا الظن وهاموا في أودية الوهم، فلم يكونوا على بينة من هذا الأمر، فإذا ما تجلى الله تعالى في ذلك اليوم على الأرواح، وزالت الحجب التي كانت دونها في سجن الأشباح زال جهل الجاهلين، وانكشف ظن الظانين، وبطل وهم الواهمين، وعرف الجميع رب العالمين، بما جاءهم من الحق اليقين، فذلك مجيء الله تعالى وإتيانه في يوم الدين، هذا ما تجلى به مسألة الإتيان على مذهب السلف.

ج. أما كون هذا الإتيان في ظلل من الغمام فهو من الأمور الأخروية الغيبية التي قلنا مرارا إننا لا نبحث عن حقيقتها، فكون معرفة الله تعالى واليقين به مما يحصل للجاهلين والغافلين بحصول ظلل من الغمام نفوض سره إلى الله تعالى، وما يدرينا أن في ذلك الغمام آيات بينات، وحججا باهرات، وإتيان الملائكة على هذا التأويل أظهر منه في التأويل الأول؛ لأن المقام مقام تمثيل ظهور سلطان الله تعالى وعظمته، واستغراق القلوب في الخضوع لجلاله عندما يغشاها نور معرفته، ولا ريب أن حضور الملك في جنده الأكبر، هو أبين لكمال العظمة وأظهر؛ ولذلك قال في سورة الفجر: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ وقال في سورة النبأ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾

28. المراد بهذا المعنى الذي قرره محمد عبده تقريب هذا المذهب من الأفهام، ولا يعني أن هذا بيان لكيفية الإتيان في الغمام، ويمكن أن يقال: إن الغمام في الآية إشارة إلى الحجاب أو الرداء الذي ورد في حديث أبي موسى عند الشيخين وغيرهما: (وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه) وبيانه أنه ورد في أحاديث أخرى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (سألت جبريل عليه السلام هل ترى ربك؟ فقال: إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور)، وقال الغزالي وغيره من أئمة الصوفية: إن الحجب؛ أي: الموانع التي تمنع العبد من معرفة الحق كثيرة أكثفها نفسه، وهذه الحجب تزال يوم القيامة عن المؤمنين إلا حجابا واحدا، فيعرفون الحق معرفة كاملة تستغرق الروح، وذلك ما عبر عنه بالرؤية وبمجيء الله وإتيانه، فالغمام في هذا المقام التمثيلي إشارة إلى الحجاب الذي لا يحصل كمال المعرفة الممكنة بدونه، وبذلك تتفق الآيات مع الأحاديث ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾

29. لنا أن نقول ـ على هذه الطريقة مع تفسيرنا الغمام بمادة التكوين الأولى كما مر: إن الحجب ـ التي تشغل الإنسان عن ربه في الدنيا؛ حظوظ النفس وشهواتها وشواغل الحس بالمحسوسات والفكر بالمدركات كلها ـ ترتفع فلا تعود حائلة دون كمال العلم بالله تعالى، ما خلا سر الإيجاد والتكوين الأول؛ مم كان؟ وبم كان؟ وكيف كان؟ فهذا لا يرتفع في الدنيا للموقنين، ولا في الآخرة للمقربين.

30. هذا، وأنت ترى أن الوجه الأول في تفسير الآية هو المتبادر والمنطبق على الآيات الأخرى في نذر القيامة، وفي كل منهما عبرة وهداية للمؤمنين، وأما المرتابون الممارون فلا يزيدهم الكلام عن الآخرة إلا ظلمة ورجسا إلى رجسهم؛ لأنهم محجوبون في حسهم حتى عن نفسهم و﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/257.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغى بعمله رضوان الله وطاعته ـ أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفريق والانقسام.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ كافة: أي في أحكامه كلها التي أساسها الاستسلام والخضوع لله والإخلاص له، ومن أصوله الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب بين المهتدين بهديه، والأمر بالدخول فيه أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾، والمعنى ـ يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب، دوموا على الإسلام فيما تستأنفون من أيامكم، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه، بل خذوا الإسلام بجملته وتفهموا المراد منه، بأن تنظروا في كل مسألة إلى النصوص القولية والسنة المتبعة فيها وتعملوا بذلك، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدى إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وبهذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم المسلمون بحبل الوحدة الإسلامية التي أمرنا الله باتباعها في قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ ونهانا عن ضدها في قوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض)

3. لكنّ المسلمين قد خالفوا هذا فتفرّقوا وتنازعوا وشاقّ بعضهم بعضا، واتخذوا مذاهب متفرّقة، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادى سائر إخوانه المسلمين زعما منه أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، فهذا سنّى يقاتل شيعيا، وهذا شافعي يغرى التتار بالحنفية، وهؤلاء مقلّدة الخلف يحادّون من اتبع طريق السلف.

4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي ولا تتبعوا سبله في التفرق في الدين أو في الخلاف‏ والتنازع، إذ هي سبله التي يزينها للناس، ويسوّل لهم فيها المنافع والمصالح، فقد كانت اليهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد، فوسوس لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وشيعا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرّفوا من حكمه ما حرّفوا، فسلّط الله عليهم أعداءهم فمزقوهم كل ممزّق، وهكذا فعل غيرهم من أهل الأديان، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثّروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم ولم تغن عنهم كثرتهم، إذ سلّط عليهم الأعداء وأنزل بهم البلاء.

5. ثم ذكر السبب في النهى عن اتباع خطوات الشيطان فقال: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي إنه ظاهر العداوة لكم، فإن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان، بيّن الضرر لمن تأمل فيه وتفكر، ومن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في الغايات، حين يذوق مرارة العاقبة، فلا عذر لمن بقي على ضلالته بعد تذكير الله وهداية عباده إلى سبل الخير، وتحذيره إياهم من سلوك طرق الشر.

6. ثم توعّدهم إذا هم حادوا عن النهج السويّ والطريق المستقيم فقال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي فإن حدتم عن صراط الله وهو السلم، وسرتم في طريق الشيطان وهى طريق الخلاف والافتراق، بعد أن بيّن لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، فاعلموا أن الله يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة، فجعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم ضربة لازب في الدنيا، ولم يؤخرها حتى تحلّ بها في الحياة الأخرى.

7. لا تقوم للأمم قائمة إلا إذا أقامت العدل بين أفرادها، وكانت صالحة لعمارة الأرض كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ وهكذا الأفراد إذا لم ينهجوا النهج السوىّ ويتحلّوا بفاضل الأخلاق، فلن يوفّقوا في دنياهم ولا في أخراهم.

8. ثم زاد في التهديد والوعيد فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي ها هي ذي قد قامت الحجج ودلت البراهين على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة، وتأتي الملائكة وتنفّذ ما قضاه الله يومئذ؟.

9. الحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة توطّن النفوس على احتماله، إلى أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشدّ هولا، والخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ونحو الآية قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾

10. في الآية عبرة للمؤمن ترغّبه في المبادرة إلى التوبة لئلا يفاجئه وعد الله وهو غافل، فإذا لم يفاجئه قيام الساعة العامة وهلاك هذا العالم كله، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه المرض بغتة، فلا يقدر على العمل وتدارك الزلل.

11. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي كيف ينتظرون غير ذلك، وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفرّ منه، وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي.

12. ثم بالغ في التهديد والزجر قال ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول، ومنه بدأت الخلائق، وهو الآخر وإليه ترجع الأمور وتصير، فعلى من زلّ عن الصراط السويّ، واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله، ويجازى على عمله‏ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/114.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص، يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.. إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان، بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.

3. أول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم، أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه، استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية، الاستسلام‏ لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.

4. توجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن، وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا؛ ليخلصوا ويتجردوا؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.

5. المسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام، عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله ومع كل موجود، سلام يرف في حنايا السريرة، وسلام يظلل الحياة والمجتمع، سلام في الأرض وسلام في السماء.

6. أول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته:

أ. إنه إله واحد، يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه؛ فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك ـ كما كان في الوثنية والجاهلية ـ إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.

ب. وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود، وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح، ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر، ولم يعد يخشى فوت شيء، ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.

ج. وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس، وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات، ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.

د. وهو رب رحيم ودود، منعم وهاب، غافر الذنب وقابل التوب، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب..

هـ. وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام..

7. كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب، وبين الخالق والكون، وبين الكون والإنسان، فالله خلق هذا الكون بالحق؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة، وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا، وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه، والله معينه على هذه الخلافة، والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه، وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به، وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات.. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة، عقيدة تسكب في روحه السلام؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.

8. والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه؛ ونفي القلق والسخط والقنوط:

أ. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض؛ والجزاء الأوفي ليس في هذه العاجلة.. إن الحساب الختامي هناك؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب، فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه، ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله، ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع، وما الله يريد ظلما للعباد.

ب. والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات بلا تحرج ولا حياء، فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت.

ج. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود!

9. معرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله.. من شأنها ـ ولا شك ـ:

أ. أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء، ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته، فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها، فأولى به ألا يغدر ولا يفجر؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة، وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور، فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة..

ب. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق، فهو يعبد في كل خطوة؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال.

10. وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله.. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء.. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه، فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة، كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله، قانونه قانونه، ووجهته وجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله.

11. والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة، لا تتجاوز الطاقة؛ ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء.. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه، يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.

12. المجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام:

أ. هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق، هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره، ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة ـ آصرة العقيدة ـ حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان..

ب. هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.. والذي يرى صورته في قول النبي الكريم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)..

ج. هذا المجتمع الذي من آدابه: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾.. ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.. ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.. ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾..

د. هذا المجتمع الذي من ضماناته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾.. و.. (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله)..

هـ. ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة؛ ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا.. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله ـ سبحانه ـ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، في مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم، حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم، فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب.. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسئولين مسئولية جنائية لو مات فيهم جائع؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.

و. والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع، فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.

ز. المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون، كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.

ح. وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر، إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته، فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين..

13. هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة، ليسلموا أنفسهم كلها لله؛ فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم.

14. لا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان.. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين، وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو (السويد)، حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنية في العام، وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات، وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنية إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب.. ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟ إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة، والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب.. ثم الانتحار.. والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا.. إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة، فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾

15. لما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.. حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان، إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان، إما هدى وإما ضلال، إما إسلام وإما جاهلية، إما طريق الله وإما طريق الشيطان، وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.

16. إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان..

17. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية، منهج الله أو غواية الشيطان، والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان، ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل، والغفلة لا تكون مع الإيمان.

18. ثم يخوفهم الله تعالى عاقبة الزلل بعد البيان: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.. وتذكيرهم بأن الله‏ ﴿عَزِيزٌ﴾ يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه.. وتذكير هم بأنه‏ ﴿حَكِيمٌ﴾.. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه.. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في المقام..

19. بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان، فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.... وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة، ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة؟ وما ذا يرتقبون؟ تراهم سيظلون ويتلكئون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود، الذي قال الله سبحانه: إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا؟

20. وفجأة ـ وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب نجد أن اليوم قد جاء، وأن كل شيء قد انتهى، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾.. وطوي الزمان، وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجها لوجه أمام الله؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾.. إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول، الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه! فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظر هم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم! والسلم منهم قريب، السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، يوم يقضى الأمر.. وقد قضي الأمر! ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/207.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ هذه عدة كريمة للذين استجابوا لله وللرسول، فدخلوا في دين الله، وأصبحوا في أمة المؤمنين.. وتحمل هذه الدعوة إليهم أن يدخلوا في السّلم كافة، والسّلم هو الإسلام والسلام والأمن، وقد دخل المسلمون في الإسلام، وبقي عليهم أن يحصّلوا السّلام والأمن، وذلك بالتطبيق العملي لدعوة الإسلام، والرعاية الكاملة لأوامره ونواهيه، فهذا هو الذي يحقق للمسلم ثمرة الإسلام، فيجد في ظلّها السلام مع نفسه ومع الناس، ويستشعر في كيانه طمأنينة الرضا، وثلج الرضوان، بما رعى من حقوق الناس، وبيد أدّى من حقوق الله!.

2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تحذير من وساوس الشيطان، الذي يعمل بكل حوله وحيلته، على أن يغوى المستقيم، ويضل المهتدى، فليس لهجماته على الإنسان موعد، بل إنه هو الذي يتخيّر الفرصة المواتية، ويتفقد أضعف المواقع في الإنسان لينفذ إليه منها، ويعمل أسلحته فيها، وليس مثل زلّة من عرف الحق، وارتفعت لعينيه أمارات الهداية، وأعلام الهدى.. إنّها زلّة مزلزلة، وسقطة قانلة، قلّ أن يسلم منها الإنسان إلا إذا استجمع كل قوته وإرادته، وإلا إذا استدعى غائب رشده، وعازب حكمته، وإلا إذا ذكر أنّه إنسان مهيأ للسموّ، بما فيه من نفحات علوية من عزيز حكيم، منه تستمد العزة والحكمة.. فليطلبهما الإنسان في هذا الموطن، الذي إن استسلم فيه للهزيمة هوى إلى مرتبة الحيوان، وإن جاهد وانتصر ارتفع إلى ما فوق الإنسان!.

3. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ الاستفهام هنا إنكاري، يجرى مجرى النفي، أي ما ينظرون إلّا أن يروا بأعينهم اليوم الموعود، أي يوم القيامة، حيث يتحقق لهم ما هم في شك منه، ويومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون، فقد جاءتهم البينات على يد رسل الله الكرام، تبدد كل ضلال، وتفضح كل باطل، ولكنهم أصمّوا عنها آذانهم، وأغلقوا دونها قلوبهم!.

4. الملاحظ هنا أن الإنكار موجه إلى غير معلوم، فلم يجر لهم قبل هذا ذكر يعود إليه الضمير في قوله ﴿يَنْظُرُونَ﴾.. وهذا التجهيل إنما هو نداء يصك آذان أولئك الضالين في متاهات الكفر والنفاق، والبغي، والسفه، ويهتف بهم أن يجيئوا من كل أفق، ليكونوا هذا الفاعل المطلوب للحساب في هذا اليوم الذي أنكروه ولم يعملوا له حسابا! وهؤلاء هم اليهود الذين تجاهلوا يوم الحساب وجروا على أهوائهم، لا يرجون لله وقارا، فقام الاتهام عليهم من غير أن يذكروا، وذلك للتشنيع عليهم بأن كل تهمة لا يعرف فاعلها عالقة بهم، حيث كانوا هم أحقّ الناس بها وأهلها.

5. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ الواو هنا للحال، والجملة بعدها حالية، أي ما ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقد مضى الأمر، ويمكن أن تكون الواو للعطف على محذوف دل عليه الكلام، والتقدير: ما ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويومئذ يرون الحق الذي جحدوه، ولكن لا سبيل لهم إلى إصلاح ما أفسدوا، فقد وقعت الواقعة وقضى الأمر: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/231.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ استئناف على طريقة الاعتراض انتهازا للفرصة بالدعوة إلى الدخول في السلم، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب، أعلاها ﴿مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207] لأن النفس أغلى ما يبذل، وأقلها ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: 204] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ذلك أن يدعى الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.

2. الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب للمسلمين على عادة القرآن في إطلاق هذا العنوان، ولأن شأن الموصول أن يكون بمنزلة المعرف بلام العهد.

3. (الدخول) حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد، ويطلق مجازا مشهورا على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد، وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل.

4. ﴿السَّلْمِ﴾ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام، قرأ نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر بفتح السين وقرأ باقي العشرة بكسر السين، ويقال سلم بفتح السين واللام قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94] وحقيقة السلم الصلح وترك الحرب قال عباس بن مرداس:

السّلم تأخذ منها ما رضيت به‏...والحرب تكفيك من أنفاسها جزع‏

وشواهد هذا كثيرة في كلامهم وقال زهير: (وقد قلتما إن ندرك السّلم واسعا) بكسر السين واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد يقال أسلم نفسه لفلان أي أعطاه إياها بدون مقاومة، واستسلم طلب السّلم أي ترك المقاومة، وتقول العرب: (أسلم أم حرب)، أي أأنت مسالم أم محارب، وكلها معان متولد بعضها من بعض فلذلك جزم أئمة اللغة بأن السلم بكسر السين وفتحها وبالتحريك يستعمل كل واحد منها فيما يستعمل فيه الآخر، قالوا ويطلق السلم بلغاته الثلاث على دين الإسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وأنشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه:

دعوت عشيرتي للسّلم لمّا...رأيتهمو تولّوا مدبرينا

فلست مبدّلا بالله ربا...ولا مستبدلا بالسّلم دينا

وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في (مفردات القرآن) ولا الزمخشري في (الأساس) وصاحب (لسان العرب) وذكره في (القاموس) تبعا للمفسرين وذكره الزمخشري في (الكشاف) حكاية قول في تفسير السّلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله: (دينا) بمعنى العادة اللازمة كما قال المثقب العبدي:

تقول وقد أدرت لها وضيني‏...أهذا دينه أبدا وديني‏

وعن أبي عمرو بن العلاء السّلم بكسر السين هو الإسلام والسّلم بفتح السين المسالمة، ولذلك قرأ ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ في هذه السورة بكسر السين لا غير وقرأ التي في سورة الأنفال والتي في سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بفتح السين، قال الطبري توجيها منه لمعناه هنا إلى أنه الإسلام دون الآيتين الأخريين، وأنكر المبرد هذه التفرقة وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرّق إلى دليل، فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صح ذلك جاز أي يكون مرادا أيضا ويكون من استعمال المشترك في معنييه، فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم بيا أيها الذين آمنوا الذي هو كاللقب للمسلمين كان المعنى أمرهم بالدخول في المسالمة دون القتال، وكما تقتضيه صيغة الأمر في (ادخلوا) من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلا أو كان مفرّطا في بعضه.

5. الذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين في تلك الآيات، استؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، لأن كثيرا من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن‏ الخطاب فقد قال: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل فكيف نعطي الدّنية في ديننا رواه أهل (الصحيح) فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] إلى هنا.

6. إذا كان الضمير في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 210] راجعا إلى‏ ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ‏﴾ [البقرة: 204] أو ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ‏﴾ [البقرة: 207] كما سيأتي يكون قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ اعتراضا بين الجملة ذات المعاد والجملة ذات الضمير، فأما إذا فسر السلم بالإسلام أي دين الإسلام فإن الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وأمر المؤمنين بالدخول في الإسلام يؤوّل بأنه أمر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه لأنه يقال دخل الإيمان في قلبه إذا استقر وتمكن، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]، وقال النابغة:

أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته‏...تحرّك داء في فؤادي داخل‏

وهذا هو الظاهر، فيراد بالأمر في (ادخلوا) الدوام على ذلك وقيل أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان فتكون خطابا للمنافقين، فيؤوّل قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمعنى أظهروا الإيمان فيكون تهكما بهم على حد قوله: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6] فيكون خطابا للمنافقين وهذا تأويل بعيد لأن الذين آمنوا صار كاللقب لمن اتبع الدين اتباعا حقا، ولأن الظاهر على هذا أن يثبت للمنافقين وصف الإسلام ويطلب منهم الإيمان دون العكس، بدليل قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14]، وقيل المراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا من اليهود كعبد الله بن سلام فيؤوّل‏ ﴿ادْخُلُوا﴾ بمعنى شدة التلبس أي بترك ما لم يجيء به الدين، لأنهم استمروا على تحريم السبت وترك شرب ألبان الإبل وبعض ما اعتادوه من أحوالهم أيام تهودهم إذا صح ما رواه أهل (أسباب النزول) أن طائفة من مؤمني اليهود فعلوا ذلك.

7. يجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي:

أ. ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات، ومناسبة ذكر هذا عقب ما تقدم أنهم لما أمروا بذكر الله كذكرهم آباءهم وكانوا يذكرون في موسم الحج تراتهم ويفخرون‏ فخرا قد يفضي إلى الحمية، أمروا عقب ذلك بالدخول في السّلم ولذلك‏ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع‏ (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، فتكون الآية تكملة للأحكام المتعلقة بإصلاح أحوال العرب التي كانوا عليها في الجاهلية، وبها تكون الآية أصلا في كون السلم أصلا للإسلام وهو رفع التهارج كما قال الشاطبي أي التقاتل وما يفضي إليه.

ب. وإما أن يكون المراد من السّلم هنا السلم مع الله تعالى مع معنى المجاز، أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته كما أطلق الحرب على المعصية مجازا في قوله تعالى: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279] وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي‏ (من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب)

8. ﴿كَافَّةً﴾ اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به، وهو في صورة صوغه كصوغ اسم الفاعلة من كفّ ولكن ذلك مصادفة في صيغة الوضع، وليس فيها معنى الكف ولا حاجة إلى تكلف بيان المناسبة بين صورة لفظها وبني معناها المقصود في الكلام لقلة جدوى ذلك، وتفيد مفاد ألفاظ التوكيد الدالة على الشمول والإحاطة، والتاء المقترنة بها ملازمة لها في جميع الأحوال كيفما كان المؤكد بها مؤنثا كان أو مذكرا مفردا أو جمعا، نحو ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]، وأكثر ما يستعمل (كافة) في الكلام أنه حال من اسم قبله كما هنا فقوله: (كافة) حال من ضمير ﴿ادْخُلُوا﴾ أي حالة كونكم جميعا لا يستثنى منكم أحد، وقال ابن هشام في (مغني اللبيب) عند الكلام على الجهة الخامسة من الباب الخامس في ذكر الحال من الفاعل ومن المفعول أن (كافة) إذا استعملت في معنى الجملة والإحاطة لا تكون إلّا حالا مما جرت عليه، ولا تكون إلّا نكرة ولا يكون موصوفها إلّا مما يعقل، ولكن الزجاج والزمخشري جوّزا جعل كافة حالا من السلم والسلم مؤنث، وفي (الحواشي الهندية على المغني للدماميني) أنه وقع كافة اسما لغير العاقل وغير حال بل مضافا في كتاب عمر بن الخطاب لآل كاكلة (قد جعلت لآل كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا في كل عام)، وتحجير ما لم يستعمله العرب إذا سوغته القواعد تضييق في اللغة وإنما يكون اتباع العرب في استعمالهم أدخل في الفصاحة لا موجبا للوقوف عنده دون تعدية فإذا ورد في القرآن فقد نهض.

9. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم‏ المأمور به بطريق النهي، عن خلاف المأمور به، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروف بأنه لا يشير بالخير، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عمر: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدّنيّة في ديننا) وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين: (أيها الناس اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فعله لفعلنا والله ورسوله أعلم) بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلّا خيرا، كما قال أبو بكر لعمر: (إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا) تنبيها لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام، والكلام على معنى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، وما فيه من الاستعارة تقدم عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168] الآية.

10. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي، وأصل الزلل الزلق أي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به، واستعمل الزلل هنا مجازا في الضّر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناء التمثيل على التمثيل؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله: ﴿زَلَلْتُمْ﴾ تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازا والمجاز هنا في مركبه.

11. البينات: الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته، وجيء في الشرط بأنّ لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه، وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة.

12. ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ جواب الشرط، و﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، مفعول‏ ﴿فَاعْلَمُوا﴾، والمقصود علم لازمه وهو العقاب، والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يغلب، وأصله من العزة وقد مر الكلام عليه عند قوله‏ ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ﴾ [البقرة: 206] وهو ضد، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزما تحققهم أنه معاقبهم لا يفلتهم، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه، والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فعيل بمعنى مفعل، ومناسبته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة، فالكلام وعيد وإلّا فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم.

13. لك أن تجعل قوله: ﴿فَاعْلَمُوا﴾ تنزيلا لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول.

14. إنما قال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ إعذار لهم، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين، لأنه ما أوحاه الله إلّا لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين، لأن الله عزيز لا يهن لأحد، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالة على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر.

15. إن كان المراد الدخول في الإسلام أو الدوام عليه فالمعنيّ: ب ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السّلم، والمراد بالبينات المعجزات الدالة على صدق الرسول، نقل الفخر عن (تفسير القاضي عبد الجبار) (دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلّا بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البينات لا بعد حصول اليقين من المكلف، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية)

16. في (الكشاف): (روي أن قارئا قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه)، وفي القرطبي عن (تفسير النقاش) نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم﴾، ويجنبي أعرابي فقال كلام من هذا؟ قلت كلام الله، قال ليس هذا كلام الله فانتبهت فقرأت‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38] فقال: أصبت هذا كلام الله فقلت‏: أتقرأ القرآن؟ قال: لا قلت: من أين علمت؟ قال: يا هذا عزّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.

17. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾:

أ. إن كان الإضمار جاريا على مقتضى الظاهر فضمير ﴿يَنْظُرُونَ﴾ راجع إلى معاد مذكور قبله، وهو إما ﴿مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 204]، وإما إلى‏ ﴿مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء، فأحد الفريقين ينتظره شكا في الوعيد بالعذاب، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب، ونظيره قوله: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 102] فانتظارهم أيام الذين خلوا انتظار توقع سوء انتظار النبي معهم انتظار تصديق وعيده.

ب. وإن كان الإضمار جاريا على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطبين بقوله‏ ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ [البقرة: 208] وما بعده، أو إلى الذين زلوا المستفاد من قوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: 209]، وهو حينئذ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعا إلى المخاطبين بقوله‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 208]، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله‏ ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ عن عز الحضور، قال القرطبي‏ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يعني التاركين الدخول في السلم، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي.

ج. فإن كان الضمير لمن يعجبك أو له ولمن يشري نفسه، فالجملة استئناف بياني، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثيران سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ جوابا لذلك، وإن كان الضمير راجعا إلى‏ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فجملة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعا في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ [البقرة: 209] فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209] لأن معناه‏ فإن زللتم فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة، وإن كان الضمير عائدا إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام.

18. على كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله‏ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ بضمير الجمع نظما جامعا للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء.

19. حرف ﴿هَلْ﴾ مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه، فلذلك قال أئمة المعاني إن (هل) لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في (الكشاف): إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة في قول زيد الخيل:

سائل فوارس بربوع بشدّتنا...أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم‏

وقال في (المفصل): (وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلّا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لا تقع إلّا في الاستفهام)، يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلّا في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبيّ:

فلا والله لا يلقى لما بي‏...ولا للما بهم أبدا دواء

فجمع بين لامي جر، وأيّا ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقعها، وسيأتي هذا في تفسير قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ في سورة الإنسان، والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء، فالكلام خبر في صورة الاستفهام.

20. النظر: الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه، لأن الذي يترقب أحدا يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدو، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون‏ بأبصارهم في الآخرة إلّا إتيان أمر الله والملائكة، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك، إلّا أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله، فيكون قصرا ادعائيا، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك.

21. هذا المركب ليس مستعملا فيما وضع له من الإنكار بل مستعملا:

أ. إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير.

ب. وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه.

ج. وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين.

د. وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين:

فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى:‏ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55]، ويجوز على هذا أن يكون خبرا عن اليهود: أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145]

وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ إلى قوله‏ ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء: 90، 92]، وسيجيء القول مشبعا في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ في سورة البقرة.

22. (الظلل) بضم ففتح اسم جمع ظلة، والظلة تطلق على معان، والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفّة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يجلس تحتها لتوقي شعاع الشمس، فهي مشتقة من اسم الظّل جعلت على وزن فعلة بمعنى مفعولة أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد، والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249] في قراءة بعض العشرة بضم الغين، وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيها بليغا: السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظلة القصر.

23. ﴿مِنَ الْغَمَامِ﴾ بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر: 16]

24. الإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان‏ إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالا في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبرا أو تهكما فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيدا من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون:

أ. الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث، فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوه منها.

ب. الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعا لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصله، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: 2] وقال‏ ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ [النحل: 26] وليس قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ بمناف لهذا المعنى، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان‏ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ قريبا.

ج. الثالث: إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه‏ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.

د. الرابع: يأتيهم كلام الله الدالّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعا من قبل‏ ظلل من الغمام تحفه الملائكة.

هـ. الخامس: أن هنالك مضافا مقدرا أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي أمر ربك وقوله: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾ [الأعراف: 4] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازا في ظهور الأمر.

و. السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رسله ويبعّده قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ إلّا أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.

ز. السابع: أن هنالك معمولا محذوفا دل عليه قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه، والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعدا ووعيدا.

25. ذكرت في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ في [سورة آل عمران: 6] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام:

أ. قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا.

ب. وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسب دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة.

ج. وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر.

د. وقسم متشابه شديد التشابه.

26. قوله تعالى: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ أشد إشكالا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية، وهي مستحيلة على الله تعالى، وتأويله:

أ. إما بأن (في) بمعنى الباء أي‏ ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيويا، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه‏ ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ﴾ [الطور: 44] وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب، أو على كلامه تعالى، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني.

ب. وفي (تفسير القرطبي والفخر) قيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك.

27. هذه الوجوه كلها مبنية على أن هذا إخبار بأمر مستقبل، فأما على جعل ضمير ﴿يَنْظُرُونَ﴾ مقصودا به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكما أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام، ما ينتظرون إلّا أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين، فإنهم قالوا لموسى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55] واعتقدوا أن الله في الغمام، أو يكون المراد تعريضا بالمشركين، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.

28. إسناد الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملا في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازا في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة، قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك:

أتاك بي الله الذي نوّر الهدى‏...ونور وإسلام عليك دليل‏

فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسناد حقيقي ثم أسنده بالعطف للنور والإسلام، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنّه قال: (عليك دليل)

29. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾:

أ. إما عطف على جملة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ إن كانت خبرا عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيها على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه، والمعنى ما ينتظرون إلّا أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر.

ب. وإما عطف على جملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ إن كانت جملة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ وعيدا أو وعدا والفعل كذلك للاستقبال، والمعنى ما يترقبون إلّا مجيء أمر الله وقضاء الأمر.

ج. وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد، سواء كانت جملة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ خبرا أو وعدا ووعيدا أي وحينئذ قد قضي الأمر.

د. وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يَنْظُرُونَ﴾ [الأنعام: 8]

30. القضاء: الفراغ والإتمام، والتعريف في ﴿الْأَمْرُ﴾ إما للجنس مرادا منه الاستغراق أي قضيت الأمور كلها، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء.

31. ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ تذييل جامع لمعنى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره، فمنه‏ ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53]، ويجيء فعل رجع متعديا، تقول رجعت زيدا إلى بلده ومصدره الرّجع، ويستعمل رجع قاصرا تقول: رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجوع.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/259.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه في الآية السابقة على هذه الآيات حال أولئك الذين يفرقون بين الجماعات، ويعيثون في الأرض فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، وفيهم لدد وعنف وخصومة تغرى بالعداوة، وتنشر الفرقة والانقسام؛ وكل هذا ضد مبادئ الإسلام؛ ولذلك ناسب بعد أن بين عمل المفسدين، أن يبين واجب المصلحين؛ وهو السلم بين بنى الإنسان، والوحدة بين أهل الإسلام؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ قرئ السّلم بكسر السين، كما قرئ في قراءة مشهورة بفتحها؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال‏] فقد قرئ بفتح السين، كما قرئ في قراءة أخرى مشهورة بكسرها؛ ولذلك قال الكسائي وعلماء البصرة: إن السّلم والسّلم بمعنى واحد، ويطلقان على المسالمة وعلى الإسلام؛ وفرق عمرو بن العلاء فقرأها في هذه الآية بالكسر، وقال: إنه الإسلام، في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال‏] قرأها بالفتح، وقال: المراد الموادعة والمسالمة؛ وأنكر المبرد هذه التفرقة.

2. لفظ السلم بالكسر أو الفتح هو للمسالة والصلح، وإطلاقه على الإسلام من حيث إن أحكام الدين الحنيف تتجه كلها نحو تحقيق السلام بين الناس، وتخليص القلوب من أدرانها، وتوجيه الناس نحو السلامة، والبعد بها عن مواقع الهلاك.

3. اتجه بعض المفسرين من السلف والخلف إلى أن معنى السّلم في الآية الإسلام؛ ومعنى كافة: مجتمعين، وتكون كافة حالا من الواو في (ادخلوا) أو تكون حالا من كلمة (السلم)، والمعنى على الأول: يا أيها الذين آمنوا وصدق إيمانهم ادخلوا في الإسلام مجتمعين غير متفرقين ولا متنابذين، أي انقادوا لأحكامه‏ مجتمعين لا يفرقكم إقليم ولا يحاجز بينكم جنس ولا لون؛ لأن وصف الإيمان جامعكم، وكلمة التوحيد رابطة بينكم؛ فإيمانكم يبعثكم إلى أن تكونوا طائعين منقادين للإسلام في اجتماع لا افتراق معه، ويوجب عليكم أن توحدوا كلمتكم، والمعنى على أن كافة حال من ﴿السَّلْمِ﴾: ادخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، فلا تأخذوا بحكم وتتركوا حكما، فلا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة، ولا تأخذوا بأحكام الزواج وتتركوا أحكام الربا، ولا تأخذوا بنظام الميراث وتتركوا أحكام الحدود وتعطلوها، وهكذا لا يصح أن يؤخذ بعض الإسلام، ويترك بعضه؛ من فعل ذلك كان كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وكان كمن جعل أحكام القرآن عضين، فيفرق بينها بالطاعة والعصيان، والأخذ والترك، وأحكام الإسلام كل لا يقبل التجزئة، ومجموعها هداية العقول، وطب القلوب، وعلاج الأدواء الاجتماعية والشخصية، فمن أخذ ببعضها وترك الآخر، فقد فتح في قلبه للشيطان ثلمة ينفذ منها، وحيثما حل الشيطان في قلب زلت الأقدام، وحكمت الأوهام، فيطمس نور الهداية من قلبه، وتنحل عرى الإسلام في نفسه من بعد ذلك عروة عروة، هذا توضيح المعنى على تفسير كلمة السلم بمعنى الإسلام، وهو قول الأكثرين.

4. وقال قتادة ووافقه بعض مفسري السلف: إن معنى السلم المسالمة والموادعة والصلح، وهو يشمل مسالمة المسلمين فيما بينهم، فلا يفترقون، ولا يختصمون، ولا يتنازعون حتى لا يكون بأسهم بينهم شديدا، ويكونوا طعمة للآكلين ونهزة للمفترضين، كما يشمل مسالمتهم لغيرهم، فلا يعتدون على غيرهم ما دام لم يعتد عليهم، والمعنى على هذا: يا أيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم أن تدخلوا في السلام العام، فلا تنابذوا أحدا لم يعتد عليكم، ولا تقاتلوا من لم يرفع عليكم سيفا، ولم يوال عليكم عدوا، ثم قووا وحدتكم بالسلم الموثقة والإخاء الجامع.

5. لا شك أن السلام بين المسلمين أمر يفرضه الدين، وهو مما علم من الدين بالضرورة لا يمارى فيه من في قلبه ذرة من إيمان، ومن قال غيره فقد أعظم الفرية على الإسلام وأهله، أما مسالمة المسلمين لغير المسلمين فقد أثار القول حولها من فهم ظواهر الأمور، ولم يتغلغل في بواطنها، إذ قال إن الإسلام قد أباح القتال، والقتال والسلام نقيضان لا يجتمعان، والكثرة الكبرى من فقهاء المسلمين تقرر أن الأصل في العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم الحرب، حتى يتقدموا بعهد أو موادعة، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال‏]، ذلك قول الذين فهموا الأمور بظواهرها.

6. الحقيقة أن الإسلام دعا إلى السلام وحث عليه، ومبدؤه العام التعارف بين بنى الإنسان لا التنابذ بينهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات‏] فما جاء الإسلام للحرب والخصام، بل جاء بالهدى والسلام، ولكن سلام الإسلام سلام عزيز قوى، وليس بسلام ذليل خانع، والسلام القوى يرد الاعتداء بمثله؛ ولذلك لما اعتدى المشركون على المسلمين أباح الإسلام القتال وقال سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج‏] فما أباح الإسلام القتال إلا لدفع الاعتداء، وليس القتال لدفع الاعتداء إلا دعوة إلى السلام القوى الفاضل، وفرق ما بين السلم العزيزة القوية، وبين الذل والخضوع، أن السلام القوى هو القدرة على رد اعتداء المعتدين إن اعتدوا؛ أما الذل فهو الاستسلام والخضوع للمعتدين، وما بذلك أمر الإسلام، وليس هذا من السلام في شيء، بل هو إغراء بالقتل والقتال وتمكين لظلم الظالمين، وإنه لا يغرى بالقتال إلا ضعف الضعفاء واستخذاؤهم، فإن أخذوا الأهبة وأعدوا العدة وقاوموا الشر بمثله، تروّى القوى في غارته، أو امتنع عن عدوانه، فما استمرأ الذئب لحم الشاة إلا لأنها ليس لها ناب، وما عاف الأسد لحم الأسد إلا لأن له نابا وبراثن يفتك بها، فالحرب أنفى للحرب، والقوة العادلة سبيل السلم العزيزة، ولقد قرر الفقهاء أن الأصل الحرب حتى يكون عهد، لأن الأصل بين الدول في وقت استنباطهم كان الاعتداء حتى يتعاهدوا، فما كان الإسلام ليسالم وهم يحاربون.

7. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ الخطوات: جمع خطوة بفتح الخاء وضمها، وهى ما بين قدمي من يخطو، والمعنى: لا تتبعوا سير الشيطان، وعبر عنه بخطواته لأن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لا تجر المرء إلى الشر دفعة واحدة، بل تأخذه إليه درجة درجة، فيبتدئ بأيسرها وأصغرها فيقتحمه من أغواه لصغره، حتى إذا ألفه جرأه على ما هو أكبر منه، ثم ما هو أكبر حتى تحيط بالنفس خطيئاتها، وتستغرقها مآثمها، فيكون الشرير الآثم الذي تصعب عليه التوبة ولقد قال العلماء: إن كثرة ارتكاب الصغائر تجرئ على الكبائر، والشيطان يأتي من صغائر المعاصي ليغرس في النفوس غرس الرذائل، فخطوات الشيطان مدارجه يغرى بالواحدة بعد الأخرى حتى يصل بالمرء إلى أقصى درجات الرذيلة.

8. كان ذلك النهى بعد الأمر بالدخول في السلم:

أ. لأننا إن فسرناه بالإسلام يكون المعنى ادخلوا في الإسلام كله، ولا تحلوا عراه عروة عروة باتباع خطوات الشيطان، وإطاعة هوى النفس الأمارة بالسوء، فإن ذلك يذهب بالإسلام كله وبحرماته في النفس.

ب. وإن فسرنا السلم بالسلام والموادعة، فيكون المعنى: لا تحلوا وحدتكم، ولا تتبعوا خطوات الشيطان المفرق لجماعتكم بإغرائه وتدرجه في الإغراء وإردافه المعصية المفرقة بأكبر منها حتى يكون الانقسام، ويكون بأس المسلمين بينهم شديدا.

9. ختم الله سبحانه الآية بقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي إن الشيطان الذي يتحكم في النفس الأمّارة عدو مبين، أي ظاهر العداوة، بظهور آثار المآثم التي يحرض عليها، في تفريق الجماعة، وضياع الكلمة، وإصابة أهل الإسلام بالذلة، وجعلهم طعاما سائغا؛ فظهور العداوة بظهور آثار الأعمال الوخيمة؛ إذ إنه يغرى باتباع الشهوات وهى حلوة المذاق، فإذا ذاقها من أغواه اندفع فيها، وهى مردية في نتائجها وبيئة في نهاياتها، فيكون الضرر المحقق بالآحاد والجماعات.

10. عداوة الشيطان مقررة ثابتة من بدء الخليقة، فهو الذي أغوى آدم وأنزله من الجنة، وبمثل ما صنع مع الأب يصنع مع الأبناء؛ وإن الله سبحانه قد سجل أن عداوته مستمرة، فقال سبحانه: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة]

11. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ يقترن في آي الله الحكيم الأمر بالشيء بالنهى عن نقيضه، وعن أسباب المخالفة؛ ويقترنان بالترغيب في نعيم الله أحيانا، وبالترهيب من بطش الله العزيز الحكيم أخرى؛ وفي هذه الآية قد اقترن النهى بالترهيب من العصيان؛ لأن النهى كان منصبا على اتباع خطوات الشيطان والخضوع لإغرائه؛ وهو يجيء إلى النفس من جهة شهواتها وما تألفه، فناسب ذلك الترهيب من العقاب؛ ليعلم من يجترح اللذات أن وراءها محاسبة القوى الجبار الذي لا تخفى عليه خافية؛ ولقد بين عداوة الشيطان للإنسان، فمن والاه فقد عادى نفسه وربه، ويحق عليه العقاب، وقبل نزوله يلزم التهديد به ليكون على بينة من أمره.

12. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ﴾ أي عدلتم عن الطريق المستقيم إلى الطريق المنحرف، وأصل الزلل يكون في القدم، ثم استعمل في الآراء والمسالك المعنوية؛ يقال زل يزل زللا وزلولا، أي دحضت قدمه؛ وهناك لغة في زل تجعلها من باب فرح يفرح، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي من بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى لكم الحجج والأدلة المبينة لكم الحق من الباطل، والضلال من الهدى.

13. معنى الآية إجمالا: إن حدتم عن طريق الاستقامة والإخلاص والحق من بعد أن علمتموه ببرهانه، فليس ثمة إلا العقاب الرادع بعد الدليل القاطع؛ واعلموا أن الله عزيز لا يغلب، ولا يهزم من ينصره، ومن عاداه وعادى أولياءه فهو عرضة لنقمته؛ وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها؛ فلا يجعل المسيء كالمحسن، ولا المصلح كالمفسد؛ فكان من مقتضى حكمته أن يفرق بين الأخيار والأشرار وأهل الإيمان وأهل الكفر.

14. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ نادى الله سبحانه أهل الإيمان بأن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، وأن يدخلوا في السلام العام، كما يقيم فيما بينهم السلام والأمن؛ وحذرهم من الشيطان وغروره؛ وحذرهم من أن يزلوا فيحرموا من نصر الله، وينزل بهم عقابه؛ وبعد ذلك أشار سبحانه إلى أهل الضلال، وكيف استمرؤوا الغواية، وسدوا في نفوسهم طريق الهداية؛ وقد أقام سبحانه عليهم الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة، وقد استنكر حالهم منذرا، فقال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ وينظرون: معناها ينتظرون؛ يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد؛ و﴿ظُلَلٌ﴾: جمع ظلة، كظلم جمع ظلمة؛ و﴿الْغَمَامَ﴾ اسم جنس جميع لغمامة، وهى السحاب الرقيق؛ وسمى بذلك لأنه يغم أي يستر؛ والاستفهام إنكاري؛ فمعنى‏ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ لا ينتظرون.

15. وجّه بعض المفسرين الآية على أن الكلام على حذف مضاف؛ فمعنى إتيان الله إتيان عقابه؛ وعلى ذلك يكون المعنى: إن هؤلاء المشركين الذين كفروا بالله بعد أن جاءتهم البينات هم في غيهم يعمهون، وكأنهم لا ينتظرون بعد هذه الحجج الدامغة القاطعة إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من السحاب يحسبونها عارضا ممطرهم، وهى عذاب يسحقهم، فتأتيهم النقمة من حيث ينتظرون النعمة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون فعلى هذا التخريج تكون الآية للوعيد؛ ويكون معنى إتيان الله وملائكته إنزال عذابه الدنيوي؛ ومعنى قوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ على هذا التخريج أنه إذا نزل عذاب الله في الدنيا فقد قضى أمره فيهم؛ إذ لم يكن ثمة رجاء في إيمانهم؛ وكذلك كان يفعل الله سبحانه في الأقوام الذين طغوا وبغوا، وحالوا بين الناس والهداية، كما فعل بعاد قوم هود، وبثمود قوم صالح، وبفرعون وجيشه، ومن قبل ذلك بقوم نوح، وغيرهم، أما الذين علم الله أن سيكون فيهم هداية، فإنه يمهلهم ولا يهملهم.

16. هناك اتجاه آخر، وهو عدم تقدير كلمة عذاب، وأن مجيء الله هو تجليه يوم القيامة، وكشف الحجاب للناس يوم الجزاء؛ فيتجلى عليهم ربهم وملائكته؛ والمعنى على هذا الاتجاه أن أولئك الجاحدين سادرون في ضلالهم ولهوهم حتى يأتيهم أجلهم، وكأنهم لا ينتظرون وهم مستمرون في ضلالهم إلى اليوم الآخر حيث يحاسبهم الديان، وتجرهم إلى النار ملائكة الجبار، وينال المؤمنون مثوبة الرحمن؛ ويكون معنى‏ ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أنهم عاينوا الحقائق التي أنكروها حيث قضى الأمر نهائيا ولم تعد لديهم فرصة للتوبة والرجوع إلى ربهم؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي)

17. بدا معنى لي غير المعنيين السابقين في إتيان الله سبحانه وملائكته، وهو أن أولئك المشركين قد كفروا مع أن الحجة قاطعة، والبينات دامغة، والحق واضح أبلج والرسول بين ظهرانيهم قد عرف طول حياته بالصدق والأمانة، وإذا كانوا قد كفروا مع تلك البينات فهل ينتظرون أن يأتيهم الله هو وملائكته في ظلل من الغمام، لكى يؤمنوا برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بعد أن يشاهدوا الله وملائكته؛ ولقد طلبوا أن ينزل ملك من السماء برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام‏] فالاستفهام حينئذ للتوبيخ واللوم مع النفي أي أن حالهم حال من لا يريدون أن يؤمنوا إلا بعد أن يعاينوا ويروا الله وملائكته جهرة؛ كما قال إخوان لهم سبقوهم لموسى: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء]

18. معنى‏ ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي انته الأمر عند هذه المعجزة التي جاء بها محمد، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف‏]، ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ إليه سبحانه وحده لا إلى أحد سواه، ولا إلى أحد معه، تصير الأمور خيرها وشرها، وسيجزى كلا بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/650.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، قيل: المراد بالسلم هنا الإسلام، وان الخطاب موجه للمنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، وقيل: هو موجه لمن آمن بالله من أهل الكتاب، ولم يسلم، وقيل: بل موجه لجميع المسلمين، وعليه يكون السلم طاعة الله والانقياد له في جميع أحكامه، لا في بعضها دون بعض، وقيل: معنى السلم الصلح، والمعنى ادخلوا في الصلح جميعا، والذي نراه ان الله سبحانه أمر من يؤمن به ايمانا صحيحا أن يدخل فيما فيه سلامته في الدنيا والآخرة.. وطريق السلامة معلوم لدى الجميع، وهو التعاون والتآلف، وترك الحروب والخصام، والتغلب على الشهوات والأهواء، والإخلاص لله في الأقوال والأفعال، ويؤيد ارادة هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، بعد قوله بلا فاصل: ادخلوا في السلم كافة، حيث اعتبر الله سبحانه خطوات الشيطان الطرف المضاد للسلم، ووضع الإنسان أمام أمرين لا ثالث لهما: إما الدخول في السلم، واما اتباع خطوات الشيطان التي هي عين الشقاق والنزاع، والشر والفساد.

2. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، بعد أن أمر سبحانه بالدخول في السلم، ونهى عن اتباع خطوات الشيطان هدد وحذر من يخالف أمره ونهيه، هدده بقوله: ان الله عزيز حكيم، عزيز لا يغلب على أمره، ولا يمنعه مانع عن قصده، وحكيم يثيب المطيع، ويعاقب العاصي، قال الرازي: هذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه‏ الوعيد بذكر العقاب، وربما قال الوالد لولده: ان عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، وشدة سطوتي، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره.

3. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، المراد من ينظرون ينتظرون، ومن إتيان الله إتيان عذابه على حذف المضاف، ومعنى الآية بمجموعها ان المكذبين والعاصين يأتيهم العذاب بغتة، ولا ينجيهم منه شيء، فالآية تجري مجرى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾

4. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، إذا جاء الموت الذي لا بد منه، وقامت الساعة ينتهي كل شيء، ولا يبقى أمام المجرمين إلا الحساب والعقاب.

5. لا أحد يعلم ما يحدث له في المستقبل، وما يخبئ له الدهر من خير وشر بالغا ما بلغ من العلم والايمان: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، وكثيرا ما يفاجأ الإنسان بالخير من حيث يتوقع الشر، ويباغت بالشر من حيث يتوقع الخير، ولا شيء آلم للنفس من هذه المباغتة، كما ان الخير إذا جاءه من حيث لا يحتسب يكون أحلى وأعذب من المترقّب، والعاقل لا يغتر بما لديه، بل يدخل في حسابه دوران الدهر وضرباته، كما انه لا ييأس ان نزلت به نازلة، فان الدنيا في تحول دائم، ولذا قيل: دوام الحال من المحال، والفرج يأتي من قلب الضيق، قال الإمام علي عليه السلام: عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند حلق البلاء يكون الرخاء، وقال: ان موسى ابن عمران خرج يقتبس لأهله نارا، فكلمه الله، ورجع نبيا.. وقال تعالى: ﴿لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، وقال جل جلاله: ﴿ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون﴾، وجاء في كتب التاريخ والسير ان ابن الزيات عمل وزيرا للمعتصم والواثق، وكان من أقسى الطغاة وأظلمهم، فلقد اتخذ تنورا من حديد، ملأ جوانبه بمسامير لها مثل رؤوس الابر، فإذا غضب على انسان ألقاه فيه، فكيف تحرك دخلت المسامير في جسده، ولما تولى المتوكل الخلافة اعتقل ابن الزيات، ووضع الحديد في يديه ورجليه، وألقاه في هذا التنور، ولم يخرج منه الا ميتا، وسمعه الموكل به قبل موته ينشد ويردد:

لا تجزعن رويدا انها دول...‏ دنيا تنقّل من قوم الى قوم‏

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/311.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآيات وهي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ الآية، سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الإنسانية، وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل، وأنه لم ينفصم وحدة الدين، ولا ارتحلت سعادة الدارين، ولا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الغابرة، وسيجري نظيرها في هذه الأمة لكن الله يعدهم بالنصر: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، السلم والإسلام والتسليم واحدة، و﴿كَافَّةً﴾ كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع وبكل واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، ويجب على الجميع أيضا أن لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الأمر لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأيضا الخطاب للمؤمنين خاصة، فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الإيمان به فيجب على المؤمنين أن يسلموا الأمر إليه، ولا يذعنوا لأنفسهم صلاحا باستبداد من الرأي، ولا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقا يسلكونه من دون أن يبينه الله ورسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف، ومن هنا ظهر: أن المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل، بل اتباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق، ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الإنسان من غير علم، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.

3. خصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك أيضا: فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك، وإذا كان سالكه هو المؤمن، وطريقه إنما هو طريق الإيمان فهو طريق شيطاني في الإيمان، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم‏ فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، واتباعه اتباع خطوات الشيطان، فالآية نظيرة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقد مر الكلام في الآية، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وقوله تعالى: ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: ﴿كَافَّةً﴾ بخلاف تلك الآيات فهي عامة.

4. فهذه الآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، ويستفاد من الآية أن الإسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس.

5. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، الزلة هي العثرة، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم والزلة هي اتباع خطوات الشيطان فاعلموا أن الله عزيز غير مغلوب في أمره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، ويجريه فيكم من غير أن يمنع عنه مانع.

6. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ الآية، الظلل‏ جمع ظلة وهي ما يستظل به، وظاهر الآية أن الملائكة عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الأمر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبأ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الأمور، فلا مفر من حكمه وقضائه، فالسياق يقتضي أن يكون قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾، هو الوعيد الذي أوعدهم به في قوله‏ تعالى في الآية السابقة: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

7. ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الأجسام، ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر والحاجة والنقص، فقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وقال: ﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾، وقال: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شيء من الصفات أو الأفعال الحادثة إليه تعالى ينبغي أن يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا وأسماءه الحسنى تبارك وتعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجيء أو الإتيان إليه تعالى كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، وقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، وقوله: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست أسماؤه كالإحاطة ونحوها ولو مجازا، وعلى هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الإحاطة بهم للقضاء في حقهم.

8. على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الأفعال عن استقلال الأسباب ووساطة الأوساط فربما نسبها إلى نفسه، وربما نسبها إلى أمره كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوفي الْأَنْفُسَ﴾، وقوله: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾، وقوله: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى في أمر الملائكة: ﴿بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ﴾، وكما في هذه الآية: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾، وهذا يوجب صحة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾، و﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله.

9. هذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك، وذلك أن أمثال قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾، وقوله تعالى: ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾، وقوله تعالى:‏ ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشئونها وأطوارها، مليء بما يهبه ويجود به وإن كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة وأوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور، فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح إسناده إليه تعالى، بل وجب ذلك لأن كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته، فالمجيء والإتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصية المادة كان هو حصول القرب، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز، فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الأبحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، وركوبها كل سهل ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الأصيلة.

10. وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾، ومن الممكن أن يكون وعيدا بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾، وما في سورة الأنبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا، وكيف كان فقوله‏ ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.

11. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، السكوت عن ذكر فاعل القضاء، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾، لإظهار الكبرياء على ما يفعله الأعاظم في الأخبار عن وقوع أحكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.

12. في التوحيد، والمعاني، عن الرضا عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾) قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام ـ وهكذا نزلت، وعن قول الله عز وجل، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ قال: (إن الله عز وجل لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال وإنما يعني به وجاء أمر ربك والملك صفا صفا)، وقوله عليه السلام يقول ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القراءة، والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى إتيان أمره، فإن الملائكة إنما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالأمر، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾

13. هاهنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو أن يكون الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية، لإنكار مجموع الجملة لا لإنكار المدخول فقط، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون إلا أمرا محالا وهو: ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ كما يأتي الجسم إلى الجسم ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات، وفيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات‏ ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على أن الكلام لو كان مسوقا لإفادة ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾، على أنه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر.

14. ورد عن أئمة أهل البيت تفسير قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ بيوم القيامة كما في تفسير العياشي، عن الباقر عليه السلام، وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام، وتفسيرها بظهور المهدي عليه السلام كما رواه العياشي في تفسيره، عن الباقر عليه السلام بطريقين، ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمة أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات:

أ. فمنهم من طرح هذه الروايات، وهي ربما زادت على خمسمائة رواية في أبواب متفرقة.

ب. ومنهم من أولها على ظهورها وصراحتها.

ج. ومنهم ـ وهم أمثل طريقة ـ من ينقلها ويقف عليها من غير بحث.

د. وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة، وربما لحق بهم في هذه الأعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالإسلام كعبد الله بن سبإ وأصحابه.

15. رام بعضهم إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: (أن الموت بحسب العناية الإلهية لا يطرأ على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل، هذا محال إلا أن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم عليه السلام وغيرهم، ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شيء وما يتمسك به المثبتون غير تام)، ثم أخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة، هذا ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله:

أ. فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثناء ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب.

ب. وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما، ثم مفارقتها البدن بطباعها، وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.

ج. أما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن أئمة أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الأول، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد، وسيجيء التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾ وغيره من الآيات.

16. على أن الآيات بنحو الإجمال دالة عليها كقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الأموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم ـ حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ـ ولا يخطئكم سنن بني إسرائيل‏)، على أن هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها.

17. لنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب ولا شاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الأوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الأمر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم، ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا كما أن النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للأموات منا لا تدفع الدنيا، ولا الدنيا تدفعها قال تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن‏ توهم الميت، فعن علي عليه السلام: (من مات قامت قيامته‏)، وسيجيء بيان الجميع إن شاء الله.

18. الروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يعصى فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عبادة خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه إغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا، ويفصل الحق من الباطل، وهذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظهور لإمكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي عليه السلام أيضا لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة، وقد ورد عن أئمة أهل البيت: (أيام الله ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة)، وفي بعضها: (أيام الله ثلاثة: يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة)، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم عليه السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/101.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ قرئ ﴿السَّلْمِ﴾ بفتح السين وكسرها، وفسر ﴿السَّلْمِ﴾ هنا بالإسلام، ولكن الإسلام الذي بمعنى إسلام الوجه لله لا يناسبه السياق؛ لأن كل الذين آمنوا قد أسلموا بهذا المعنى، ولو قال أسلموا لصح حمله على المستقبل بلا إشكال، فأما قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا﴾ فإنه لا يقال لمن هو داخل فلا بد أنه الإسلام للنفس كلها كالإسلام في قوله تعالى لإبراهيم الخليل: ﴿أَسْلَمَ﴾ وقوله تعالى فيه وفي إسماعيل: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ [الصافات:103] والفرق أن الأول معناه عبادة الله وحده، والثاني معناه تسليم النفس لله.

2. هذا التسليم للنفس يتفاوت:

أ. فقسم منه تسليم السابقين الذين يجعلون نياتهم وأعمالهم كلها فيما يرضي الله فلا يعملون شيئاً لهوى النفس حتى المباحات لا يستعملونها إلاَّ لتعين على الطاعة والقربات، وإذا تعارضت القُربة والمباح تركوا المباح واستغرقوا في الطريقة هذه ليلهم ونهارهم وكل أحوالهم وكل معاملاتهم توصلاً إلى مرضاة الله.

ب. وقسم من التسليم للنفس تخصيصها في كل أمر واجب، وفي اجتناب كل محظور من غير فرق بين ما يشق على النفس وما يسهل وما تهواه وما لا تهواه لاعتبارهم أنفسهم لله ليس لهم منها شيء حتى اجتنبوا الشبهات، وأقاموا الصلوات وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم تسليماً لها لله، ومن هذا القسم رفضهم لاتباع الهوى في حكم أو مذهب أو تفسير آية أو حديث أو نحو ذلك أو فتوى أو أمر أو نهي قبل تحقق أن ذلك حق، أي رفض اتباع الهوى بغير هدى من الله، ومن هذا القسم ترك المعاونة في خصومة لأجل الهوى قبل تحقق أنه مع الحق، ومن هذا القسم اجتناب الدخول في حزب من الأحزاب قبل تحقق أنه على الحق لأجل هوى النفس، وعلى الجملة محاربة هوى النفس إلاَّ فيما تحقق أنه حقٌ بناءً على أنه ملك لله ليس له من الأمر شيء، وهذا القسم مثل الأول لا فرق بينهما إلاَّ في أمرين المباح المتحقق إباحته يعملونه ويستعملونه؛ لأن الله أباحه، والقربات غير الواجبة واجتناب المكروهات غير المحرمة يلتزمه أهل القسم الأول بقدر طاقتهم، ولا يلتزمه أهل القسم الثاني؛ لأن الله رخص لهم.

3. ظهر للإسلام بمعنى القسمين المذكورين مناسبة للآية التي قبلها؛ لأن أعظم ما يحقق تسليم النفس لله بذلها لله بالجهاد في سبيل الله وبذل المال في ذلك، ومناسبة لقوله: ﴿ادْخُلُوا﴾ من حيث أن بعض المخالفين غافل عن هذا المعنى وعن الالتزام به بمعنى تسليم النفس لله ورفض هوى النفس إلاَّ فيما لا يعارض التسليم المذكور، وقد فسر السلم بالاستسلام وهو صحيح بمعنى تسليم النفس.

4. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فاتباع خطوات الشيطان طاعة للنفس وللشيطان بمعصية الله، وهو معارض لتسليم النفس لله، وفي قوله تعالى: ﴿خُطُوَاتِ﴾ تحذير من الشيطان أن لا يتبعه في خطوة واحدة يخطوها، فاتباعه في خطوة واحدة يعينه على الإنسان فيطالبه بالخطوة الثانية ثم الثالثة فيوقعه في أكبر من الخطوة الأولى ثم أكبر من الثانية ثم أكبر من الثالثة حتى يصير من حزب الشيطان.

5. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أصل الزلل: زلل القدمين في شيء يزل بهما كالطين، ويستعمل في الهفوة والمعصية الواقعة وحدها ليس فاعلها من المصرين على المعاصي قبلها، فإن وقعت الزلة منكم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الدلائل البينات التي تبين الحق القاطعةُ للعلة.

6. ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ لا ينال، فلم يُعْصَ مغلوباً، وإنما ترككم تعصونه لأنكم في دار اختبار، وسيجازيكم إن لم تتوبوا؛ لأنه ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يترك عباده يعملون المعاصي إهمالاً إنما يتركهم اختباراً؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ففي هذا وعيد مؤكد بالبرهان كأنه تعالى يقول: لا تحسبوا أنه يترككم تعصونه وتصرون على عصيانه دون أن يعاقبكم؛ لأن ذلك لا يليق بعزته، ولا يجوز في حكمته.

7. قال الإمام القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في هاتين الآيتين: (تدلان على وجوب الدخول فيما وضح دليله من الدين على الناس كافّة، وعلى تحريم اتباع خطوات الشيطان من مخالفة الحق، وأن الوعيد لمن زل عن الحق ولم يرجع، وان ذلك من الكبائر)

8. ولما تقدم ذكر ألدّ الخصام رجع الكلام إليهم في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي ينتظرون ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ في (سورة النحل): ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [آية:33]، وفي (سورة الأنعام): ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ [آية:158]

9. ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ كقوله تعالى في أهل الكتاب: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر:2] وقوله تعالى: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾ [النحل:26]، والمعنى: أنه تولى إذلالهم وقهرهم من حيث لم يتوقعوا، وذلك بقذف الرعب في قلوبهم، وأنه تعالى تولى هدم بنيانهم بهدم قواعده، فكذلك قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ أي كما أتى أهل الكتاب بأن يتولى الإتيان بعذابهم ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ ينتظرون منها المطر كما فعل بعاد حين أتاهم العذابـ ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف:24] ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ يأتون مع ذلك بأمر الله لهم بعذاب آخر، أو بما يزيد عذاب الله شدة، ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي بينهم وبين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام:58] فهو رسول أرسله الله إليهم لينذرهم العذاب فإذا جاءهم العذاب ذهب وقت الإنذار وانقطع الخوض بينهم وبين الرسول، فظهر: أن الآيات سواء في المعنى.

10. في (آية الأنعام) زيادة: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [آية:158] والمراد: أنه لا يفيد فيهم شيء من الآيات والنذر، فلا ينتظر شيء يؤمنون لأجله، فالحصر إضافي، وجعلوا منتظرين للعذاب؛ لأنهم متعرضون له كافرون بالآيات لا يؤمنون حتى يروا العذاب ﴿يَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس:48] يستعجلون بالعذاب تكذيباً به، ويطالبون بآية يؤمنون بها وهم لا يؤمنون إلاَّ بالعذاب، فانتظارهم للآية على فرض صدقهم في المطالبة انتظار للعذاب، والحاصل أنهم في حالهم كالمنتظرين للعذابـ ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فأَرْجِعْ يا محمد أمرهم إلى الله وكلهم إلى قضائه.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/306.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في هذه الآيات دعوة للمؤمنين بأن يدخلوا في الجو الإيماني الذي يحفظ لهم في الحياة الوحدة التي لا خلاف فيها، فلا نزاع ولا خصام على أساس من تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومفاهيمه وأحكامه، ولكن كيف نستفيد ذلك منها!؟ هذا ما نحاول أن نعرضه ونستوحيه بتفصيل.

2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ فإن الإيمان يفرض على صاحبه الالتزام بالخط الإلهي الذي رسمه الله في دينه، في مناهجه وشرائعه.

3. انطلقت الكلمات المفسرة في تحديد معنى كلمة ﴿السَّلْمِ﴾ بين ثلاثة اتجاهات، فقد فسرها الكثيرون بالإسلام، وفسرها البعض بالصلح أو ترك المنازعة والخلاف، وفسرها آخرون بالطاعة التي تختزن معنى الاستسلام، ويقصد بها استسلام الإنسان لربه بطاعته له وانقياده لأوامره ونواهيه، بحيث‏ يبتعد عن الاستغراق في ذاته، باستغراقه بالخضوع لربه، وهذا ما يؤدي إلى السّلام مع نفسه ومع ربه ومع الناس ومع الطبيعة والحياة كلها.

4. بذلك اختلف مفهومهم لكلمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، لأنّ التفسير الأوّل لكلمة السلم يخلق مشكلة بيانية؛ فإذا كانوا مؤمنين، فكيف يطلب منهم أن يدخلوا في الإسلام!؟ فحاول بعضهم أن يفسر ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، بمن آمن قولا لا عقيدة وهم المنافقون، وبذلك تكون الدعوة في الآية إلى الالتزام العملي بالإسلام والإيمان به، وذكر الطبرسي في تفسيره أن المراد به: دوموا في ما دخلتم فيه كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ﴾ [النساء: 136]، وحاول البعض أن يفسره بأهل الكتاب، فتكون دعوة إلى دخولهم في الإسلام.

5. لكننا لا نجد في جو الآية ما يوحي بأي من المعنيين، بل ربما نلاحظ في استعراضنا للآيات التي استعملت فيها كلمة السلم أن الأقرب إلى الجو هو المعنى الثاني(2)، كما نلاحظ على التفسيرين لكلمة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أن الظاهر من الآية الكريمة: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14] هو إرادة الإيمان الذي يطابق فيه القول الفعل، فكيف نحمل الكلمة على خلاف ذلك؟

أ. أما حملها على أهل الكتاب، فيتنافى مع المصطلح القرآني الذي جعل كلمة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مقابلة لأهل الكتاب والمشركين، كما توحي به الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى﴾ [الحج: 17]

ب. وفي ضوء ذلك، لا نجد هناك وجها يبرر إرادة معنى الإسلام من كلمة ﴿السَّلْمِ﴾، مما يعني عودة المشكلة البيانية من جديد، كما أن حمل كلمة الدخول على الدوام في ما دخلتم فيه خلاف الظاهر من دون قرينة.

6. في هذا الجو، يمكننا أن نؤكّد ثانيا إرادة المعنى الثاني، لأن ذلك ما نفهمه من كلمة ﴿السَّلْمِ﴾ التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جو الصراع والخلاف والقتال، فكأن الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخط الواحد الذي تجتمع عليه الأمة بعيدا عما يفرّقها ويوزّعها أشتاتا متنازعة مختلفة:

أ. تماما كما هو جو الآية الكريمة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، ثم نلاحظ التركيز في أكثر من آية من آيات القرآن على التحدث عن الأمم السابقة التي جاءها العلم، ولكنها اختلفت في ما بينها فضلّت وأضلّت، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105] وغيرهما من الآيات التي توحي بالخط القرآني الذي يؤكد على عدم الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة في قضايا دينها وحياتها، ويعمل على أن يجعل من بني إسرائيل النموذج الحي الذي دمرته الفرقة الخاضعة لأهواء التيارات الذاتية والفئوية المدمّرة؛ وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع الذي يبني له السلم حياته في سائر جوانبها العامة والخاصة، وهذا ما يدفعنا إلى استيحاء هذا المعنى من الكلمة في نطاق الجو القرآني العام.

ب. فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى، أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35]

7. من خلال ذلك نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخط الإسلامي في الحياة، فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض، في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، فلا يفسحوا المجال للخصومة والنزاع أن يحكما حياتهم، لا سيما الخلافات المذهبية في داخل الدين الواحد، فإنها تفرق الناس، وتجعل من كل فئة من الفئات قوة تخاصم الفئة الأخرى؛ فيؤدي ذلك إلى ضعف الدين، لأن كل طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى، تساهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية.

8. لعل من الطبيعي أن يكون الاتجاه إلى السلم مرتبطا بالانسجام مع المفاهيم الإسلامية التي تحكم حياة الناس، وذلك من خلال الأساس الفكري الذي يجمعها ويوحّد خطأها ويشعرها بأنها تلتقي عنده، وفي هذا النطاق يمكننا أن نستوحي من الدخول في السلم الالتقاء على خط الإسلام الواحد، لا كمفهوم من الكلمة، بل كنتيجة للمفهوم المرتكز على الوفاق؛ فإن السلم الذي يقوم على المجاملة والعاطفة، وينطلق من إخفاء العقد الذاتية، ومن الهروب بعيدا عن المشكلة، لا يمكن أن يثبت أمام التجربة، ويصمد أمام الرياح والعواصف.

9. هكذا يفهم الإسلام قصة السلم في الواقع، وذلك في نطاق الوحدة الفكرية والشعورية التي تتحرك نحو الوحدة العملية الواقعية، وربما كان ابتداء الآية بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إيحاء بذلك، لأن الإيمان يوحي للمؤمنين بوحدة المنطلق والطريق والهدف؛ الأمر الذي يربط الوحدة بالجذور العميقة للانتماء، ويبعدها عن الارتماء في أحضان الكلمات السطحية الغارقة بالضباب، فيفجر كل الأشياء في الداخل، لتتحول إلى الهواء الطلق والنور الباهر.

10. المراد بكلمة ﴿كَافَّةً﴾ جميعا، بمعنى أن لا يبتعد أي واحد منهم عن الدخول في هذا العنوان الكبير، وهناك احتمال بأن المقصود به ادخلوا في السلم كله، أي في جميع شرائع الإسلام، ولا تتركوا بعضه، ويؤيّد هذا القول ما روي أن قوما من اليهود أسلموا وسألوا النبي أن يبقي عليهم تحريم السبت‏ وتحريم لحم الإبل، فأمرهم أن يلتزموا جميع أحكام الإسلام ـ كما جاء في مجمع البيان‏ ـ، ولكن هذا خلاف الظاهر، كما ذكرناه من استبعاد إرادة الإسلام من كلمة ﴿السَّلْمِ﴾ أولا، وثانيا لأن كلمة ﴿كَافَّةً﴾ لا تستعمل، غالبا، إلا في موقع الكلمة الدالة على الجمع لفظا ومعنى، مع أن كلمة ﴿السَّلْمِ﴾ ظاهرة في المفرد، وتقدير كلمة الأحكام خلاف الظاهر.

11. ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ فإنه يبعد المؤمن عن خط إيمانه بالاستغراق في أجواء اللهو والغفلة، فيتجمد إيمانه في داخل ذاته بعيدا عن حركة الحياة من حوله، ليجعل كل الخطوات متحركة في طريقه السائر نحو الضلال والكفر والانحراف.. وذلك بما يثيره في النفس من وساوس الشر، ونوازع الشك، وعوامل الانحراف؛ فيفقده وعي الإيمان، فيرى الحق باطلا والباطل حقا، وتضطرب مقاييسه عندما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء، ولعل من بين هذه النتائج السلبية لذلك، هو ما نواجهه من حرب المؤمن للمؤمن باسم الإيمان، بتسويل الشيطان له بأنه يحارب الانحراف لدى المؤمن، ولكنه لو دقّق النظر، لاكتشف أنه يعاديه على أساس مزاجه الشخصي وهواه الذاتي، وربما كان من مظاهر ذلك ما نواجهه من إثارة الخلافات المذهبية والطائفية بين المسلمين، بالمستوى الذي يؤدي إلى التخاصم والتنازع في المجالات العامة، بحجة الدفاع عن الحق، في ما يوحيه الشيطان للمعتدي، بينما تكون الساحة مثارا لخطط كافرة جهنمية تتحرك من مواقع الاستعمار تارة، وقواعد الكفر أخرى، مما يجعل من إثارة هذا الجو أساسا لتنفيذ كل مخططاته القريبة والبعيدة من دون شعور وانتباه؛ تماما ككثير من كلمات الحق التي يقصد بها الباطل أو تتحرك في خدمته.

12. في ضوء ذلك، كان التأكيد الدائم من الله في آياته على مراعاة الدقة في التعامل مع الشيطان في كل خطواته، لأنه يسلك أخفى الطرق وأدق الوسائل في النفاذ إلى وعي الإنسان وفكره، بحيث يتركه ضائعا بين طريق الحق والباطل لتشابه المعالم والملامح بين الطريقين، وهذا ما نجده في بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء: 53]، فقد كان التأكيد على القول الأحسن منطلقا من استغلال الشيطان لكل الثغرات الموجودة في جو الكلمة غير المدروسة ومدلولها وحروفها، مما يمكن أن يثير بعض المشاعر والأحاسيس الذاتية المعقدة التي يمكن أن يتفاداها الإنسان بلباقة، باستعمال كلمة أخرى تؤدي الفكرة نفسها بعيدا عن كثير من السلبيات بأسلوب أفضل وجوّ أحسن.

13. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فهو لا يريد لكم الخير في وساوسه وتسويلاته وتزيينه، بل يريد لكم الشر من خلال استغلال نقاط الضعف الكامنة في شخصياتكم، ليستثير غرائزها في اتجاه الانحراف، وأحلامها في الخطوط البعيدة عن الواقع، سواء كان ذلك من الناحية الفكرية، أم من الناحية العلمية، فيصوّر لكم الباطل بصورة الحق لتتبعوه، ويصور الحق بصورة الباطل لتتركوه، لأنه يحسن تجميل الصورة القبيحة ببعض وسائله، كما يتقن تقبيح الصورة الجميلة ببعض ألاعيبه، وهذا هو العنوان القرآني العام في كل حديث له عن الشيطان، كما في هذه الآية.

14. ربما كان التعبير بـ ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ يختزن في مضمونه الإيحاء ـ ولو من بعيد ـ بالتدريجية في طريقة الشيطان في أساليبه الخداعة المغرية، بحيث يتحرك مع الإنسان خطوة خطوة، ليؤدي به إلى الهلاك في نهاية المطاف، إذ إن الإنسان إذا استغفر في الاندفاع في الطريق بالخطوة الأولى، فإنها تجتذب الخطوة الثانية والثالثة إلى نهاية الطريق، مما يفرض على الإنسان أن يعي الخطة الشيطانية منذ البداية عندما يبدأ حركته في الطريق، فإن الوعي في نقطة الانطلاق هو الذي يحمي الإنسان من نقطة النهاية، لأن الوعي في الحركة الأولى يجتذب وعي الحركة في آخر الطريق.

15. في آية أخرى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، فقد نجد في هذا التركيز على العداوة إشارة إلى طبيعة الحاجز النفسي الذي يجب أن يعيشه الإنسان في كيانه ضد كل إيحاءات الشيطان، ليثير من خلاله الريبة والشك وعدم الثقة، من موقع العداوة المتأصلة، ليفكر طويلا قبل أن يستسلم لأية كلمة أو فكرة أو حركة مهما كانت ظاهرة الصدق والبساطة والإيمان، ليكتشف طبيعة الزيف أو الإخلاص في داخلها تبعا لوعي الفكر وذكاء الشعور، ليرفض أو يؤيد من موقع المعاناة والتأمل العميقين.

16. جاءت هذه الفقرة في هذه الآية ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ لتوجه الإنسان إلى دراسة الطريق جيدا في كل خطواته، لا سيما إذا كان الجو جو الدعوة إلى السّلام؛ فإن الشّيطان يعرف كيف يسخّر الخطوات الساذجة لتسير في الاتجاه الذي يريده، من أجل تخريب خطوات السّلام وإضاعتها في مهب الرياح الذاتية والحزبية والعصبية وغير ذلك من الأمور التي تفرق الناس وتشتتهم شيعا وأحزابا بمختلف الأسماء والألوان والأشكال، كما ألمحنا إليه في بداية الحديث، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نحدد الخط الفاصل بين أهداف الشيطان وأهداف الرحمن، لنكتشف طبيعة الخطوات من خلال اكتشاف طبيعة الأهداف.

17. ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فليس الزلل، عند انسجامكم في خطوات الشيطان، ناشئا من جهل أو عدم وضوح في الرؤية؛ فقد قامت الحجة عليكم من الله في ما أقامه أمامكم من بيّنات ودلائل، بما منحكم من عقول، وربما أرسله إليكم من رسالات، وبذلك كان الخطاب إليهم بأن عليهم مواجهة الحقيقة الحاسمة، وهي‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ لا يستطيعون الانتقاص من عزته مهما عملوا وانحرفوا، ﴿حَكِيمٌ﴾ لم يترك الأمور لتسير في أجواء العبث والفوضى؛ بل جعل لكل شيء ـ ثوابا كان أو عقابا ـ حدا لا يتجاوزه في ما يفعل أو يدع.

18. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، ماذا ينتظر هؤلاء المنحرفون الذين زلت بهم القدم ليستقيموا!؟ فقد جاءتهم البيّنات التي تشير إلى خط الاستقامة مما يحقق لهم القناعة لو أرادوها، فماذا يريدون؟ هل ينتظرون العذاب، الذي جاء ذكره هنا على سبيل الكناية، لأن العذاب كان ينزل على الأمم السابقة من خلال النار التي تنزل عليهم من السماء، أو من خلال العواصف والصواعق التي تتمثل فيها كل ألوان العذاب؟

19. التعبير بإتيان الله قد يكون المراد منه إتيان أمره وإرادته، أو إتيانه بلحاظ وجوده الحاضر في الكون، باعتبار أنه المظهر لوجوده، لأن كل الوجود منبثق منه ومنطلق عنه، أما الملائكة، فهم الذين يحملون العذاب عندما يصدرون به عن أمر الله، هل ينظرون إلا أن يأتيهم العذاب!؟ فإذا كانت هذه هي رغبتهم وتفكيرهم، فهل يعرفون النتيجة؟ هل يعتقدون أن إتيان الله والملائكة في ظلل من الغمام ـ كما يتصورون ـ يترك مجالا للانتظار وللمراجعة؟ هل يعرفون أن معنى حدوث ذلك هو وصول الأمر إلى درجة الحسم النهائي الذي لا رجعة فيه؟

20. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أي فرغ منه، وهو المحاسبة وإنزال أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وقيل: معناه وجب العذاب، أي: عذاب الاستئصال، وهذا في الدنيا، كما في مجمع البيان‏.

21. ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ في الثواب أو في العقاب، كما كانت الأمور كلها إليه في الابتداء، لأنه المهيمن على الأمر كله في الدنيا والآخرة.

22. قد نستوحي من هذه الفقرات المثيرة في الآية، أن القرآن يريد أن يثير أجواء الخوف في داخلهم من خلال هذا التساؤل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾، جاء في تفسير الكشاف: فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول؛ لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغمّ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير!؟ ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب الله قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾) [الزمر: 47]

23. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ فإن كل هذه المفاهيم توحي بالهول، بما يثيره التأكيد على عزة الله واستبدال إتيان إرادة الله بإتيانه بالذات، مما يعمق الشعور بعظمة الموقف ودقته، وهذا من الأساليب المتعارفة في القرآن في كل ما يستعمله من أساليب حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه في موضعه، كما في قوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82] وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22] فكأن القرية بكل أحجارها وأشخاصها ومعالمها تعيش الحقيقة المتمثلة فيها، حتى كأنه في مواقع السؤال تماما كأي مظهر عاقل من مظاهر الكون، وكأن القيامة تلتقي بالله والملك الذين يقفون صفوفا بين يديه، فإن هذا الإيحاء بحضور الله بنفسه يوحي بالهول فوق الهول والرهبة فوق الرهبة، بما لا يمكن أن يستوحيه الإنسان من خلال تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية بالأسلوب العادي البسيط، وإذا حدث مثل هذا الإحساس العميق بالرعب في نفسه، كان الانضباط العملي منسجما مع المستقبل الحيّ الذي يريده الله للإنسان بعيدا عن كل انحراف والتواء وتمرّد.

24. قد تشير الآية إلى سنّة من سنن الله التاريخية في المجتمعات والأمم التي تعيش التمزق الداخلي، والتمرّد العملي، والانحراف عن خط الله، فإن الله ـ بمقتضى سنته في عباده ـ ينزل العذاب عليهم، مما يعني أن هؤلاء القوم الذين يريدون تمزيق الأمة، ويرفضون الدخول في السلم، سوف يصيبهم العذاب كما أصاب الآخرين.

25. ذكر بعض المفسرين أن الاستفهام هنا إنكاري، فإن الآية تخاطب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وتقول معقبة على الآيات السابقة: أليست كل هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الانزلاق وإنقاذه من براثن عدوه المبين (الشيطان)؟ هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في وسط غمام ذي ظل ليطرح عليهم دلائل أوضح، أو ليواجهوا الغيب في رؤية حسّية تمنحهم وضوح‏ الرؤية، وهذا محال: ولكن المسألة لو كانت كذلك ـ أي في استحالة مجيء الله ـ لما كان هناك وجه لذكر الملائكة، فإنه لا استحالة في إتيانهم، لأنهم أجسام تروح وتجيء، كما أنه لا معنى لكلمة: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ إلا أن يكون المراد به كما قال وإن افترضنا بالفرض المحال تحقق هذا الأمر، فما الحاجة إليه، بينما قضي كل شيء ولم يترك أي شيء؟ وهذا خلاف الظاهر، لأنه يقتضي فرضا جديدا، بينما ظهور الآية يدل على وحدة الموضوع والسياق؛ والله العالم.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/126.

(2) الصلح أو ترك المنازعة والخلاف.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السّلم والصلح وتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾

2. (سلم) و(سلام) في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى، ويستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلّا في ظلّ الإيمان، وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب نار الحروب في الدنيا، لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الاضطرابات والنّزاعات دائما، فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح‏ مستحيلا، بل يمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعيّة إلى الصّلح والسّلام يستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.

3. واضح أنّ الاطر الماديّة الأرضيّة (من اللّغة والعنصر و..) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتّصال محكمة تربط بين قلوب النّاس، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يعتبر نموذجا بارزا إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على اعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة.

4. يحتمل أيضا في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته‏، ثمّ تضيف الآية: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ وقد مرّ بنا في تفسير الآية من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث‏ يسمّيها القرآن ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾

5. (خطوات) جمع (خطوة) وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف (إنّ بدو القتال اللّطام)، فتارة تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الاولى الاشتعال لظى المعارك والحروب، وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة.

6. ذكر بعض المفسّرين أنّ (عبد الله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان‏، ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة، فيجب التصدّي للخطوات الاولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.

7. تتضمّن جملة ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ برهانا ودليلا حيّا حيث تقول إنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلّا المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.

8. الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول:‏ ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فلو انحرفتم وسرتم مع‏ وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهيّة.

9. المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصّرون، فاعلموا أنّ الله قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.

10. (بيّنات) بمعنى الدلائل الواضحة، ولها مفهوم واسع يستوعب الدلائل العقليّة، وكذلك ما يتّضح للإنسان عن طريق الوحي أو المعجزات.

11. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ قد يبدو للوهلة الاولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعا من الإبهام والتعقيد، لكنّ ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها.

12. الآية تخاطب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وتقول معقبّة على الآيات السابقة: أليست كلّ هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الهلكة وانقاذه من براثين عدوّه المبين (الشيطان)، هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في وسط الغمامة ويطرح عليهم من الآيات والدلائل أوضح ممّا سبق، وإنّ ذلك محال، وعلى فرض كونه غير محال فإنّه لا ضرورة لذلك: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾

13. أمّا ما هو المراد من (قضي الأمر) الوارد في الآية؟ ذهب المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان أنّ معناها انتهاء حساب البشر في‏ يوم القيامة ودخول أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النّار إلى النّار، وعلى هذا الأساس فالآية ناظرة إلى الآخرة في حين أنّ ظاهر الآية يتعلّق بهذه الحياة الدنيا، ولهذا فليس من البعيد أن تكون هذه الآية إشارة إلى نزول العذاب الإلهي على الكفّار المعاندين، وقد ورد في هذا المعنى في كلام الطبرسي وغيره من المفسّرين بعنوان أحد الاحتمالات.

14. ويمكن أن يكون المعنى إشارة إلى انتهاء مأموريّة التبليغ وبيان الحقائق الواردة في الآية السابقة بعنوان (بيّنات)، وبهذا يكون انتظار وتوقع هؤلاء بلا معنى، فعلى فرض المحال إمكانيّة حضور الله تعالى والملائكة أمامهم فلا حاجة إلى ذلك كما ذكرنا، لأنّ مستلزمات الهداية قد وضعت أمامهم بالقدر الكافي، وبناء على هذا التفسير لا يوجد في الآية أي تقدير، والألفاظ بعينها قد فسّرت، وبهذا يكون الاستفهام الوارد في الآية استفهاما إنكاريّا.

15. هناك من المفسّرين من لم ير الاستفهام في الآية استنكاريّا، واعتبره نوعا من التهديد للمذنبين ولأولئك السائرين على خطى الشيطان، سواء كان التهديد بعذاب الآخرة أو الدنيا، ولهذا فهم يقدّرون قبل كلمة (الله) كلمة (أمر) فيكون المعنى حينئذ: (أيريد هؤلاء بأعمالهم هذه أن يؤتيهم أمر الله وملائكته لمعاقبتهم وتعذيبهم ولينالوا عذاب الدنيا أو الآخرة وينتهي أمرهم وأعمالهم)، لكنّ التفسير المذكور أعلاه أنسب المعاني لهذه الآية ظاهرا ولا حاجة إلى التقدير.

16. الخلاصة أنّ لهذه الآية ثلاثة تفاسير:

أ. أنّ المراد هو أنّ الله تعالى قد أتمّ حجّته بمقدار كاف، فلا ينبغي للمعاندين توقّع أن يأتيهم الله والملائكة أمامهم ويبيّنوا لهم الحقائق، لأنّ هذا أمر محال وعلى فرض أنّه غير محال لا حاجة لذلك.

ب. المراد هو أنّ هؤلاء مع عنادهم وعدم إيمانهم هل ينتظرون الأمر الإلهي‏ بإنزال العذاب وملائكة العذاب عليهم فيهلكوا عن آخرهم.

ج. المراد أنّ هؤلاء بهذه الأعمال هل ينتظرون قيام السّاعة ليصدر الأمر إلى الملائكة بتعذيبهم وينالوا جزاءهم العادل؟

17. التعبير بـ ﴿ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ بناء على التفسير الثاني والثالث الّذي ذهب إليه الكثير من المفسّرين إشارة إلى أنّ العذاب الإلهي يأتي فجأة كالسّحاب الّذي يظلّلهم وخاصّة أنّ الإنسان إذا رأى السّحاب يتوقّع أمطار الرّحمة، فعند ما يأتي العذاب بصورة الصاعقة وأمثال ذلك وينزل عليهم فسيكون أقسى وأشدّ إيلاما (مع الالتفات إلى أنّ عذاب بعض الأقوام السّالفة نزل عليهم بصورة صاعقة من الغمام)، أمّا على أساس التفسير الأوّل فقد يكون إشارة إلى عقيدة الكفّار الخرافيّة حيث يظنّون أنّ الله تعالى ينزل أحيانا من السّماء والسّحاب تظلّله‏.

18. في نهاية الآية تقول:‏ ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ الأمور المتعلّقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماويّة وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلّها تعود إليه.

19. لا شكّ أنّ الرّؤية الحسيّة لا تكون إلّا للأجسام الّتي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية الله تعالى الّذي هو فوق الزمان والمكان.

20. إنّ الذات المقدّسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدّنيا ولا في الآخرة، والأدلّة العقليّة على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها، ولكن مع ذلك فإنّ طائفة من علماء أهل السّنة ومع الأسف يستندون على بعض الأحاديث الضعيفة وعدد من الآيات المتشابهة على إمكان رؤية الله تعالى يوم القيامة بهذه العين الماديّة، وإنّه سيكون له قالب جسماني ولون ومكان، وبعضهم يرى أنّ الآية مورد البحث ناظرة إلى هذا المعنى، فلعلّهم لم يلتفتوا إلى مدى المفاسد والمشكلات المترتّبة على هذا القول.

21. طبعا لا شكّ في إمكانيّة رؤية الله تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر، ومن المسلّم أنّ ذاته المقدّسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم ممّا يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام في جواب من سأله‏: هل يمكن مشاهدة الله يوم القيامة؟ فقال: (إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما له لون وكيفيّة والله تعالى خالق الألوان والكيفيّة)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/77.

90. بنو إسرائيل والآيات والتبديل

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈90⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: 211 ـ 212]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي عن عطاء الخراساني قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فقال: تفسيرها: ليس على الله رقيب، ولا من يحاسبه(1).

2.روي أنّه قال: يعني: كثيرا بغير مقدار؛ لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٥.

(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٣٢.

أبو العالية:

روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ آتاهم الله آيات بينات؛ عصا موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٤.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يحاسب الرب(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٥.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: يعني: من غير تبعة، يرزقه في الدنيا، ولا يحاسبه في الآخرة(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٣٢.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هم اليهود، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾: ما ذكر الله في القرآن، وما لم يذكر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦١٦.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، يعني: ما نجاهم الله من آل فرعون، وظلل عليهم الغمام وغير ذلك، وآتيناهم بينات من الهدى، بين لهم الهدى من الكفر(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٤.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ويقولون: ما هؤلاء على شيء، استهزاء وسخريا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُم﴾ فوقهم في الجنة(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٤.

(2) عبد الرزاق: ١/٨٢.

ميمون:

روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ غدقا(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٥.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الآية: الحجة البينة، وقد قال بعض المفسرين: إنه عنى ما آتى موسى من الآيات، يقول: فكانوا مع ما آتاهم من الآيات أصحاب خلاف ومعصية لله تبارك وتعالى، ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فلذلك قال ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾، يقول: يبدل حجج الله وبراهينه من بعد ما جاءته، وقال آخرون من مفسرينا: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، يريد: علمائهم، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، أي: من حجة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: يتبينون بها أنك صادق، وأن الذي جئت به حق، ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ التي أنعم الله بها عليه فيما أودعه من علم رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، وحججه؛ فكتم الحق وجحده، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ البينات التي تحقق ما في كتابه، وهو كقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، أي: لمن جحد آياته وحججه لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وكتمها)(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ معناه أفضل منهم، ويقال فوقهم في الجنّة،(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ معناه بغير محاسبة،(2).

__________

(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/97.

(2) تفسير الإمام زيد، ص 98.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يخرجه بحساب يخاف أن ينقص ما عنده، إن الله لا ينقص ما عنده(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾: فمنهم من آمن، ومنهم من جحد، ومنهم من أقر، ومنهم من أنكر، ومنهم من يبدل نعمة الله(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/103.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني: يهود المدينة، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ يعني: كم أعطيناهم من آية بينة، يعني: حين فرق بهم البحر، وأهلك عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى، والغمام، والحجر، فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾(1).

2. روي أنّه قال: فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾، فخوفهم عقوبته بقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ إذا عاقب(1).

3. روي أنّه قال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، وما بسط لهم فيها من الخير(1).

4. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ حين يبسط للكافرين الرزق، ويقدر على المؤمنين، ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك، أعطي من شئت بغير حساب، حين أبسط للكافرين في الرزق، وأقتر على المؤمنين(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨١.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ الكفار يبتغون الدنيا، ويطلبونها(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦١٩.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: أن يكون أمر الله عزّ وجل نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات، على إثر سؤال كان منهم، بطلب الآيات، فقال: سلهم يا محمد كم آتيناهم وأجدادهم من الآيات على يدى موسى، فكفروا به، ولم يؤمنوا، فأنتم ـ وإن آتيناكم آيات ـ لا تؤمنون أيضا، يخبر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم أن سؤالهم أن كان سؤال تعنت، لا سؤال قبول وتصديق.

ب. ويحتمل: أن يكون لا على إثر سؤال كان منهم، ولكن على الابتداء أن سل علماء بنى إسرائيل [وأئمتهم كم آتيناهم من آية منه فجحدوها وكتموها، وهو كقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 197]] الآية.

ج. ويحتمل: ﴿سَلْ﴾، لا على الأمر به في التحقيق، لكن على التحقيق والتبيين أنك لو سألتهم لأخبروك.

د. أو يكون المراد من ذلك في الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التي سألوا عنها لا يؤمنون، ليخبروا بذلك فتطمئن لذلك قلوبهم، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس.

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾:

أ. قيل: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، دين الله، من بدله بعد ظهوره وبيانه.

ب. وقيل: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، يعنى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، أي من كفر به بعد ما علم أنه رسول الله.

ج. ويحتمل: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، النعم المعروفة التي كان آتاهم من المن، والسلوى، والغمام‏ وغيره مما لم يؤت أحدا من العالمين مثله.

3. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ خوفهم عزّ وجل وحذرهم على تبديل ذلك وتركه والكفر بنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بعد معرفتهم أنه حق، ويكون تبديل نعمة الله بتوجيه الشكر إلى غيره، وهو أن يعبد غيره.

4. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال الحسن: زين لهم الشيطان ذلك، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: 24]، ولكن معناه أي زين لهم التزيين، ثم التزين يكون بوجهين:

أ. يزينه الطبع لقرب الشهوات، والعقل لقيام الأدلة، فيكون التزين بالثواب.

ب. وإما ما زين للذين كفروا الحياة الدنيا لما ركب فيهم من الشهوات وميل الطبع إليه.

5. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: ﴿فَوْقَهُمْ﴾، في الحجة، يقول الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]

ب. ويحتمل: ﴿فَوْقَهُمْ﴾، في الجزاء والثواب.

6. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، بغير تبعة.

ب. ويحتمل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، لا على قدر الأعمال، ولكن على قدر الشهوة وزيادة عليها؛ لأن رزق الجنة على ما تنتهى إليه الشهوات، ورزق الدنيا مقدر على قدر الحاجة والقوت؛ إذ لا أحد يبلغ مناه في الدنيا وحاجته، وفي الآخرة كل ينال فوق مناه، ولأن أكل الشهوة في الدنيا هو المؤذى.

ج. ويحتمل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، أي من غير أن ينقص ذلك عن ملكه وخزائنه، وإن عظم عطاياه وكثر مناله، ليس كخزائن المخلوقين تنتقص بالدفع وتنفد.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/106.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ ليس هذا على السؤال على سبيل الاستخبار وإنما هو على سبيل التوبيخ والآيات: فلق البحر، والظلل من الغمام، وغير ذلك، ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ ونعمة الله العلم برسوله صلّى الله عليه وآله وسلم.

2. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ الذي زينها هم الذين أغووهم من الجن والإنس ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنهم يوهمونهم أنهم على حق فهذه سخريتهم لضعفاء المسلمين وهؤلاء الذين يفعلون ذلك وهم مشركو العرب وكفار قريش ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي فوق الذين كفروا، ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وقد قال عطاء (حساباً) فالجواب أن الذي بغير حساب هو التفضل وأن الذي هو بالحساب الجزاء.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/103.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ ليس السؤال على وجه الاستخبار، ولكنه على وجه التوبيخ.

2. في المراد بسؤاله بني إسرائيل، ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنبياؤهم.

ب. الثاني: علماؤهم.

ج. الثالث: جميعهم، والآيات البينات: فلق البحر، والظلل من الغمام، وغير ذلك.

3. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ يعني بنعمة الله برسوله صلّى الله عليه وآله وسلم.

4. في الدنيا وتزيينها لهم في قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: زينها لهم الشيطان، وهو قول الحسن.

ب. الثاني: زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن، وهو قول بعض المتكلمين.

ج. الثالث: أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم.

5. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنهم توهموا أنهم على حق، فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين، وفي الذي يفعل ذلك قولان:

أ. أحدهما: أنهم علماء اليهود.

ب. الثاني: مشركو العرب.

6. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا.

7. سؤال وإشكال: كيف ذكر الله تعالى أنه يرزق من يشاء بغير حساب، وقد قال: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: 36]؟ والجواب: في هذا ستة أجوبة:

أ. أحدها: أن النقصان بغير حساب، والجزاء بالحساب.

ب. الثاني: بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء، لا يقدر بالحساب.

ج. الثالث: إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق.

د. الرابع: دائم لا يتناهى فيصير محسوبا، وهذا قول الحسن.

هـ. الخامس: أن الرزق في الدنيا بغير حساب، لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره.

و. السادس: أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يمن عليهم به.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/270.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أهل الحجاز يقولون: سل بغير همز، وبعض بني تميم يقولون: اسأل بالهمز، وبعضهم يقولون: اسل بالألف وطرح الهمز ـ والأولى أحسنها لأنها خط المصحف.

2. في قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تنبيه وتقريع للكفار من بني إسرائيل، ونظيره قول الرجل في صاحبه إذا فزّعه وربحه وأراد أن يلزمه الحجة، ويبين عن كفرانه للنعمة ليوقع به العقوبة ـ لمن بحضرته ـ: سله كم أعددت له وحذرته.

3. الآيات البينات ما ذكرها الله تعالى: من قلب عصا موسى حية، ويده البيضاء، وفلقه البحر، وتغريق عدوهم من فرعون وأصحابه، وتظليله عليهم الغمام، وإنزال المن والسلوى، وذلك من آيات الله التي أتى بها بني إسرائيل، فخالفوا جميع ذلك، وقتلوا أنبياءه، ورسله، وبدّلوا عهده، ووصيته إليهم.

4. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ معناه: يغير يعني بها الإسلام، وما فرض فيه من شرائع دينه بعد ما عهد إليه وأمره به من الدخول في الإسلام، والعمل بشرائعه، فيكفر به، فإنه يعاقبه بما أوعده على الكفر به من العقوبة.

5. ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، قال الزجاج: فيه حذف وتقديره شديد العقاب له، ويجوز أن يكون معناه: شديد العقاب لكل من يستحقه، فيدخل فيه هذا المذكور، فأما أن يكون على معنى شديد العقاب لغيره، فلا يجوز إذا لم يكن للمذكور مدخل فيه.

6. في الآية الكريمة دلالة على فساد قول المجبرة: من أنه ليس لله على الكافر نعمة، لأنه حكم عليهم بتبديل نعم الله، كما قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾، وقال: ﴿بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾

7. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ إنما ترك التأنيث في قوله ﴿زُيِّنَ﴾ والفعل فيها مسند الى الحياة وهي المرتفعة به، لأنها لم يسم فاعلها لشيئين:

أ. أحدهما: أن تأنيث الحياة ليس بحقيقى، وما لا يكون تأنيثه حقيقياً، جاز تذكيره، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾، وقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾، ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾

ب. الثاني:أنه لما فصل بين الفعل والفاعل بغيره، جاز ترك التأنيث، وقد ورد ذلك في التأنيث الحقيقي، وهو قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، فإذا جاز ذلك في التأنيث الحقيقي، ففيما ليس بحقيقي، أجوز، وقد قيل: إنما ترك التأنيث في هذا الموضع، لأنه قصد بها المصادر، فترك لذلك التأنيث.

8. في معنى تزيين الحياة الدنيا قولان:

أ. أحدهما: قال الحسن، والجبائي، وغيرهما ـ أن المزين لهم إبليس وجنوده، لأنهم الذين يغوون، ويقوّون دواعيه، ويحسنون فعل القبيح، والإخلال بالواجب ويسوّفون لهم التوبة، فأما الله تعالى، فلا يجوز أن يكون المزين له، لأنه زهّد فيها، فأعلم أنها متاع الغرور، وتوّعد على ارتكاب القبائح فيها.

ب. الثاني:إن الله تعالى خلق فيها الأشياء المعجبة، فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها، كما قال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ وإنما أراد بذلك ما جبل الخلق عليه من الميل الى هذه الأشياء، لا أنه حسن جميعها، ولم يقبح شيئاً منها، وكلاهما جائزان حسنان.

9. التزيين، والتحسين واحد، والزين: خلاف الشين، والزينة: اسم جامع لكل ما يتزين به، وهذا أمر زائن له أي مزين له.

10. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ معناه: أن قوماً من المشركين كانوا يسخرون من قوم من المسلمين، لأن حالهم في ذات اليد كانت قليلة، فأعلم الله تعالى: أن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، لأن المسلمين في عليين، والفجار في الجحيم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾، ثم أخبر عن المؤمنين أنهم يضحكون منهم ـ في الآخرة ـ، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾

11. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ خمسة أقوال:

أ. أحدها: أن معناه: أنه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من كثرته.

ب. الثاني:أنه ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، ولا الكافر على قدر كفره في الدنيا، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل، وما يتفضل الله به، ويضاعف به عن رجل على المؤمنين ما يشاء من فضله زيادة على كفايته.

ج. الثالث: أنه يعطى عطاء لا يأخذه بذلك أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطالب عليه بجزاء، ولا مكافاة، ولا يثبت ذكره مخافة الاعدام، والاقلال، لأن عطيته ليست من أصل ينقص، بل خزائنه لا تفنى، ولا تنفد (جل الله تعالى)

د. الرابع: قال قطرب معناه: أنه يعطي العدد من الشيء، لا مما يضبط بالحساب، ولا يأتي عليه العدد، لأن ما يقدر عليه غير متناه، ولا محصور، فهو يعطى الشيء لا من عدد أكثر منه ولا ينقص منه كالمعطى من الآدميين الألف من الألفين والعشرة من المائة.

هـ. الخامس ـ قال بعضهم: إنما عنى بذلك إعطاء أهل الجنة، لأن الله تعالى يعطيهم ما لا يتناهى، ولا يأتي عليه الحساب، فكل ذلك حسن جائز.

12. إنما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ولا فضل للكفار في الآخرة لأمرين:

أ. أحدهما: أن أحوالهم في الآخرة فوق حال هؤلاء الكفار في الدنيا.

ب. الثاني:أن يكون محمولا على قوله تعالى‏ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ وكما قال حسان يعني رسول الله وأبا جهل: (فشركما لخير كما الفداء)

13. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي يهزؤون بهم في زهدهم في الدنيا، لأنهم يوهمهم أنهم على حق، ويفهم عنهم أن اعتقادهم بخلاف ذلك.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/190.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. التبديل: تغيير الشيء وتصييره على خلاف ما كان، ولو صرفه على ما كان لم يكن تبديلاً.

ب. الإنعام والإفضال والإحسان نظائر، والإنعام: إعطاء النعمة، وهو النفع الحسن إذا قصد المنعم وجهًا حسنًا.

ج. التزيين: التحسين للصورة، وهو من الزَّيْنِ خلاف الشَّيْنِ.

د. السخرية والاستهزاء من النظائر.

هـ. الرزق: هو العطاء الجاري، وحده: ما لَهُ أن ينتفع به، وليس لغيره منعه.

و. الحساب: العدد المحصور بالعقد كعشرة ومائة ونحوها.

2. ذكر تعالى في أول السورة الكتاب وما يلزم الإيمان به من البعث والتوحيد وغيره في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، ثم بَيَّنَ النبوءات بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾، ثم خاطب بني إسرائيل، وقص عليهم نبأهم، وما كان في كتابهم من البشارة بهذا الدين والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم ابتدأ في ذكر شرائع الإسلام شريعة شريعة، وبدأ بذكر نسخ القِبْلَةِ، ثم بَيَّنَ أن الناس في ذلك على ثلاث فرق: مؤمن، وكافر، ومنافق، ووعد وأوعد، وأمر ونهى، فلما استبطأ إيمانهم قال: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ الآية، يعني ما ينتظرون بعد الحجج إلا العذاب، ثم بَيَّن أن ترك إيمانهم ليس بتقصير في الحجج، أو من جهة المُكَلِّف أو النقص في المعجزة لكن لخبث طباعهم، وسوء خلتهم، فقد سألوا قبلك يا محمد هذا الصنيع، فقال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾

3. ﴿سَلْ﴾ يا محمد: ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وقيل: سل أيها السامع بني إسرائيل، أولاد يعقوب، وهم اليهود الَّذِينَ كانوا حول المدينة، والمراد به علماؤهم.

4. اختلف في وجه السؤال:

أ. قيل: ذلك سؤال تقريع وتبكيت، لا سؤال تعريف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان عارفًا به، وهذا كما يقال: سله كم أعذرتُ إليه وحذرته.

ب. وقيل: هو سؤال تقرير لتأكيد الحجة عليهم.

5. ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ أعطيناهم ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ حجة ﴿بَيِّنَةٍ﴾ واضحة ظاهرة:

أ. قيل: هي فَلْقُ البحر وتظليل الغمام وغيرها من آيات موسى، عن الحسن ومجاهد والربيع.

ب. وقيل: كم من حجة واضحة لمحمد تدل على صدقه صلّى الله عليه وآله وسلم، عن الأصم وأبي علي.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ﴾:

أ. قيل: في الكلام حذف، تقديره: فبدلوا وكفروا، يعني آتيناهم الآيات ليؤمنوا، فكفروا وبدلوا فلا تفعلوا أنتم كما فعلوا.

ب. وقيل: إن هَؤُلَاءِ فعلوا كما فعل آباؤهم بدلوا بالإيمان كفرًا.

ج. وقيل: تبديلهم كتمانهم.

د. وقيل: عُدُولُهم إلى المتشابه عن المحكم، فضلوا وأضلوا، والمراد به علماء السوء.

7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾:

أ. قيل: كتاب الله.

ب. وقيل: ما أودعه من العمل بما جاءت به وسله عن الأصم وأبي علي.

ج. وقيل: ما أمروا به.

8. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أي لزمته الحجة بذلك ﴿فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾:

أ. قيل: لمن بدل.

ب. وقيل: لكل من استحقه.

9. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:

أ. قال ابن عباس: نزل في مشركي قريش أبي جهل وأصحابه، كانوا يتنعمون فيما أوتوا من نعم الدنيا، ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من الَّذِينَ آمنوا كابن مسعود وعمار وبلال وخباب، ويقولون: لو كان محمد نبيًّا لاتبعه أشرافنا، وما يتبعه إلا الفقراء.

ب. وقال مقاتل: نزل في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه، يسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين.

ج. وقال عطاء: نزل في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع سخروا من فقراء المهاجرين، ولا مانع من نزولها في جميعهم.

10. ثم بَيَّنَ تعالى أن مَنْ سبق ذكرهم إنما عدلوا عن الإيمان إيثارًا للحياة الدنيا، ووصفهم بأوصافهم.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾:

أ. قيل: زين الشياطين ذلك لهم، عن الحسن، قال: ولا نعلم أحدًا أذم لها ممن خلقها، ووصفها بأنها متاع الغرور وغيرها من الصفات، وقيل: زينَ ذلك شياطين الجن والإنس، عن أبي علي.

ب. وقيل: الله تعالى زينها لهم بالشهوات كي يجتنبوها، عن أبي بكر أحمد بن علي.

ج. وقيل: زينوها لأنفسهم، دليله أنه عطف عليها.

12. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ كأنه قال: يزينون الدنيا، ويسخرون من المؤمنين، وذلك أنهم أنكروا الآخرة، وقالوا: لا دار إلا الدنيا.

13. سؤال وإشكال: كيف زين المزين؟ والجواب:

أ. إن حملنا على أن المُزَيِّنَ غير الله فبالدعاء إليها، والمشاحة فيها، والتحريض على جمعها، والتحذير من الفقر.

ب. وإن حملنا على أن المُزَيِّنَ هو الله تعالى:

قيل: بالشهوة؛ لأن الشهوة لا يقدر عليها غيره.

وقيل: بما عرفهم من نعيم الدنيا، وكيفية التمتع بها.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أ. قيل: لفقرهم.

ب. وقيل: لإيمانهم بالبعث وجَدِّهم في ذلك.

ج. وقيل: لزهدهم في الدنيا.

د. والوجه حمله على الجميع؛ إذ لا تنافي بينها.

15. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ اجتنبوا الكفر والمعاصي ﴿فَوْقَهُمْ﴾:

أ. قيل: يعني فوق الكفار في الدرجات.

ب. وقيل: تمتعهم بنعيم الآخرة أكثر من اتباع هَؤُلَاءِ زينة الدنيا، والحرص عليها.

ج. وقيل: حالهم في الآخرة فوق حال هَؤُلَاءِ الكفار في الدنيا؛ لأنه لا حال لهم في الآخرة.

د. وقيل: مكانهم في الآخرة فوق مكان الكفار؛ لأن مكانهم الجنة، ومكان الكفار النار، عن الأصم.

هـ. وقيل: حالهم في الآخرة خير من حال الكفار، وإن كان لا حال لهم كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾

16. ﴿وَالله يَرْزُقُ﴾ يعطي ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من يريد ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ فيه أقوال:

أ. الأول: أن رزقه تعالى على ضربين؛ مُستَحَق على عمل، فذلك بقدر الاستحقاق، وحسابه لا يجوز غير ذلك، وتفضل منه، وذلك: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يريد ما يشاء، عن أبي علي.

ب. الثاني: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ من جملة الملك، كالجزء من كذا؛ لأنه لا نهاية لمقدوره، فلا يجوز أن ينقص بما يؤخذ منه، نبه بذلك على سعة المقدور، عن الحسن.

ج. الثالث: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الكفاية بل يزيد على الكفاية، كأنه قيل: من غير تضييق.

د. الرابع: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: بغير حد؛ لأنه دائم لا نهاية له، عن القاضي وغيره.

هـ. الخامس: من غير خوف حساب عليه، يعني، فيما يعطيهم، ولا اعتراض لم أعطيت هذا؟.

و. السادس: بغير حساب يعني كثيرًا؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل، وقيل: بغير حساب الأعمال بل أضعاف مضاعفة، و﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ فقيل: بقدر الاستحقاق، وقيل: يتشابه في كل وقت.

17. تدل الآيات الكريمة على:

أ. بطلان مذهب الجبر من وجوه:

منها: قولهم: ليس لله على الكفار نعمة، وقد بَيَّنَ تعالى أنهم غيروا نعم الله تعالى كما نطق بها آياتٌ أخر، كقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ ونحو ذلك.

ومنها: أنه أضاف التبديل إليهم، ولو كان خلقًا له لكان إضافته إليه ـ أولى، فيبطل قولهم في المخلوق.

ومنها: أنه أوعدهم عليها بالعقوبة، ولو خلقه فيهم لما استحقوا العقوبة، كما لا يستحقونه على طولهم وألوانهم وهيئاتهم.

ب. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنه آتاهم الآيات، ووصفها بأنها بينة، ثم وصفهم بالتبديل، ولو كانت المعارف ضرورية لما صح شيء من ذلك.

ج. أن تبديل الآيات مع وضوحها ممكن؛ فلذلك ذمهم، وأوعدهم على ذلك، ووجه التبديل أن يحرفه أو يكتمه أو يتأوله على خلاف جهته، كما فعلوه في التوراة والإنجيل، وكما يفعله مبتدعة الأمة، وأهل الأهواء في القرآن.

د. أن الله تعالى أنعم على الكافر بنعم الدنيا، وفيه تنبيه على ترك الاغترار بالدنيا وزهرتها، وتنبيه على أن حال المتقي في الآخرة هي المغبوط؛ لما له من النعيم الدائم، وإن منعوا الدنيا مصلحة لهم؛ لأن الآخرة هي دار القرار، والدنيا زائلة.

18. قراءات وحجج:

أ. قرأ أبو عمرو في: ﴿سَلْ﴾ بين الاتصال بواو أو فاء، وبين الاستئناف، وقرأ ﴿سَلْهُمْ﴾ و﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بغير همز، ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ﴿فاسأل الَّذِينَ يقرأون الكتاب﴾، ﴿وَاسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالهمز، وسوى الكسائي بين ذلك، وقرأ الكل بغير ألف، ووجه الفرق: أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى إسقاط الهمزة المبتدأة، وهي مستقلة، وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف؛ لأن الألف ساقطة فيها أجمع، وكلّ حسن.

ب. سؤال وإشكال: لم تسقط الهمزة منه؟ وكم وجهًا يجوز فيه؟ والجواب: أما الهمزة التي هي عين الفعل بالتخفيف، وهو قياس مطرد في كل همزة قبلها ساكن أن تسقط، وتلقى حركتها على الساكن الذي قبلها كقوله: الخب، والدف، وأما إسقاط ألف الوصل فلتحرك ما بعدها، نحو: قل، وبع، وأصله: اُقْوُلْ، وَابْيِعْ، ويجوز فيه ثلاثة أوجه: ﴿سَلْ﴾ على التخفيف، و﴿اسأل﴾ على التحقيق، و﴿اِسَل﴾ على إثبات ألف الوصل مع التخفيف؛ لأنه عارض.

ج. القراءة الظاهرة: ﴿زُيِّنَ﴾ بضم الزاي على ما لم يسم فاعله. وعن مجاهد: ﴿زُيِّنَ﴾ بفتح الزاي. ولا يجوز القراءة به؛ لأنه خلاف المنقول الظاهر.

19. قال: ﴿زُيِّنَ﴾، ولم يقل زُيِّنَتْ؟ والحياة مؤنثة؟ لأن تأنيث الحياة غير حقيقي من حيث لم يكن حيوانًا بإزائه ذَكَرٌ، نحو: رجل وامرأة، وجمل وناقة، وقيل: لأن الحياة والإحياء واحد، فإذا أنث فعلى اللفظ، وإذا ذكّر فعلى المعنى، نحو ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ وأخذت، جاء التنزيل بهما.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/849.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. التزيين والتحسين: واحد، والزين: خلاف الشين، والزينة: اسم جامع لكل ما يتزين به.

2. ﴿سَلْ﴾ يا محمد ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي: أولاد يعقوب، وهم اليهود الذين كانوا حول المدينة، والمراد به علماؤهم، وهو سؤال تقرير لتأكيد الحجة عليهم ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ أي: أعطيناهم.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾:

أ. قيل: من حجة ظاهرة واضحة مثل اليد البيضاء، وقلب العصا حية، وفلق البحر، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى، عن الحسن ومجاهد.

ب. وقيل: كم من حجة واضحة لمحمد تدل على صدقه، عن الجبائي.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾:

أ. قيل: في الكلام حذف وتقديره فبدلوا نعمة الله، وكفروا بآياته، وخالفوه فضلوا وأضلوا، ومن يبدل الشكر عليها بالكفران،

ب. وقيل: من يصرف أدلة الله عن وجوهها بالتأويلات الفاسدة الخالية من البرهان.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾:

أ. قيل: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ له.

ب. وقيل: شديد العقاب لمن عصاه، فيدخل فيه هذا المذكور.

6. في الآية دلالة على فساد قول المجبرة في أنه ليس لله سبحانه على الكافرين نعمة، لأنه حكم عليهم بتبديل نعم الله، كما قال في موضع آخر: ﴿يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها﴾ ونحو ذلك من وجه آخر، وهو أنه أضاف التبديل إليهم، وأوعدهم عليه بالعقوبة، فلو لم يكن فعلهم لما استحقوا العقوبة.

7. التبديل: هو أن يحرف، أو يكتم، أو يتأول على خلاف جهته، كما فعلوه في التوراة والإنجيل، وكما فعلوه مبتدعة الأمة في القرآن.

8. لما بين الله تعالى شرائعه، وأن الناس فيها ثلاث فرق: مؤمن وكافر ومنافق، ثم وعد وأوعد، بين بعد ذلك أن تركهم الإيمان ليس بتقصير في الحجج، ولكن لسوء طباعهم، وخبث أفعالهم، فقد فعلوا قبلك يا محمد هذا الصنيع، فقال: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾

9. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:

أ. قيل: نزل في أبي جهل، وغيره من رؤساء قريش، بسطت لهم الدنيا، وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين، فقراء، مثل عبد الله بن مسعود، وعمار وبلال وخباب ويقولون: لو كان محمد نبيا، لاتبعه أشرافنا، عن ابن عباس.

ب. وقيل: نزل في عبد الله بن أبي وأصحابه، يسخرون من ضعفاء المؤمنين، عن مقاتل.

ج. وقيل: نزل في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع، سخروا من فقراء المهاجرين، عن عطا.

د. ولا مانع من نزوله في جميعهم.

10. ثم بين سبحانه أن عدولهم عن الإيمان إنما هو لإيثارهم الحياة الدنيا فقال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، وفيه قولان:

أ. أحدهما: إن الشيطان زينها لهم بأن قوى دواعيهم، وحسن فعل القبيح والإخلال بالواجب إليهم، فأما الله فلا يجوز أن يكون المزين لهم إياها، لأنه زهد فيها، وقال (واعلم أنها متاع الغرور)، وقال: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، عن الحسن، والجبائي.

ب. والآخر: إن الله زينها لهم بأن خلق فيها الأشياء المحبوبة المعجبة، وبما خلق لهم من الشهوة لها، كما قال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ﴾ الآية، وإنما كان كذلك، لأن التكليف لا يتم إلا مع الشهوة، فإن الانسان إنما يكلف بأن يدعى إلى شئ تنفر نفسه عنه، أو يزجر عن شئ تتوق نفسه إليه، وهذا معنى قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)

11. إنما ذكر الفعل وهو مستند إلى الحياة، لأن تأنيث الحياة غير حقيقي، وهو بمعنى العيش والبقاء ونحوهما، ولأنه فصل بين الفعل والفاعل بقوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وإذا قالوا في التأنيث الحقيقي: حضر القاضي اليوم امرأة، وجوزوا التذكير فيه، فهو في التأنيث غير الحقيقي أجوز.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾:

أ. قيل: يهزأون من المؤمنين لفقرهم.

ب. وقيل: لإيمانهم بالبعث، وجدهم في ذلك.

ج. وقيل: لزهدهم في الدنيا.

د. ويمكن حمله على الجميع إذ لا تنافي بين هذه الأقوال.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾:

أ. قيل: أي: الذين اجتنبوا الكفر فوق الكفار في الدرجات.

ب. وقيل: أراد أن تمتعهم بنعيم الآخرة أكثر من استمتاع هؤلاء في الآخرة بنعيم الدنيا.

ج. وقيل: أراد أن حالهم فوق هؤلاء الكفار، لأنهم في عليين، وهؤلاء في سجين، وهذا كقوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ ومثله قول حسان يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبا جهل: (فشركما لخيركما الفداء)

د. وقيل: إنه أراد أن حال المؤمنين في الهزء بالكفار والضحك منهم في الآخرة، حال فوق هؤلاء في الدنيا، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ إلى قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾

14. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن معناه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من كثرته.

ب. ثانيها: إنه لا يرزق الناس في الدنيا على مقابلة أعمالهم وإيمانهم وكفرهم، فلا يدل بسط الرزق على منزلته عند الله، وإن قلنا: إن المراد في الآخرة، فمعناه إن الله لا يثيب المؤمنين في الآخرة على قدر أعمالهم التي سلفت منهم، بل يزيدهم تفضلا.

ج. ثالثها: إنه يعطيه عطاء لا يؤاخذه بذلك أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطلب عليه جزاء ولا مكافاة.

د. ورابعها: إنه يعطي العدد من الشيء لا يضبط بالحساب، ولا يأتي عليه العدد، لأن ما يقدر عليه غير متناه ولا محصور، فهو يعطي الشيء لا من عدد أكثر منه فينقص منه كمن يعطي الألف من الألفين، والعشرة من المائة، عن قطرب.

هـ. خامسها: إن معناه يعطي أهل الجنة ما لا يتناهى، ولا يأتي عليه الحساب.

و. وكل هذه الوجوه جائز حسن.

15. مسائل نحوية:

أ. ﴿كَمْ﴾: في موضع نصب لأنه مفعول ثان لآتينا، وإنما وجب له صدر الكلام لتضمنه معنى الاستفهام، ثم إن هذه الجملة التي هي ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ﴾ قد وقعت موقع المفعول الثاني لقوله: ﴿سَلْ﴾، ﴿مِنْ آيَةٍ﴾: يتعلق بآتينا أيضا، وما: حرف موصول جاءت صلته، والموصول والصلة في موضع جر بإضافة ﴿بَعْدِ﴾ إليه

ب. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة الحياة، ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: الجار والمجرور في محل النصب على الحال، والعامل فيه ﴿يَرْزُقُ﴾، وذو الحال الضمير في ﴿يَرْزُقُ﴾، أو الموصول الذي هو ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾، وتقديره: غير محاسب، أو غير محاسب.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/540.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: له وللمؤمنين، قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: (سل) بغير همز، وبعض تميم يقولون: (اسأل) بالهمز، وبعضهم يقول: (اسل) بالألف وطرح الهمز، والأولى أغربهنّ، وبها جاء الكتاب.

2. في المراد بالسؤال في قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه‏ التّقرير والإذكار بالنّعم.

ب. الثاني: التّوبيخ على ترك الشّكر.

3. الآية البيّنة: العلامة الواضحة، كالعصا، والغمام، والمنّ، والسّلوى، والبحر.

4. في المراد بنعمة الله قولان:

أ. أحدهما: أنّها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة.

ب. الثاني: أنها حجج الله الدّالة على أمر النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، قاله الزجّاج.

5. في معنى تبديل النعمة ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد.

ب. الثاني: تغيير صفة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في التّوراة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

ج. الثالث: تعطيل حجج الله بالتّأويلات الفاسدة.

6. اختلف فيمن نزل قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس.

ب. الثاني: نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء.

ج. الثالث: في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين، قاله مقاتل.

7. قال الزجّاج: وإنّما جاز في (زيّن) لفظ التّذكير، لأنّ تأنيث الحياة ليس بحقيقيّ، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد.

8. إلى من يضاف هذا التّزيين‏ فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه يضاف إلى الله، وقرأ أبيّ بن كعب والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة: (زيّن) بفتح الزاي والياء، على معنى: زيّنها الله لهم.

ب. الثاني: أنه يضاف إلى الشّيطان، روي عن الحسن.

ج. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: والتّزيين من الله تعالى: هو التّركيب الطّبيعيّ فإنه وضع في الطّبائع محبة المحبوب لصورة فيه تزيّنت للنّفس، وذلك من صنعه، وتزيين الشّيطان بإذكار ما وقع من إغفاله ممّا مثله يدعو إلى نفسه لزينته، فالله تعالى يزيّن بالوضع، والشّيطان يزيّن بالإذكار.

9. في سبب سخرية الكفّار من المؤمنين ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنهم سخروا منهم للفقر.

ب. الثاني: لتصديقهم بالآخرة.

ج. الثالث: لاتّباعهم للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: إنّهم كانوا يوهمونهم أنّكم على الحقّ، سخرية منهم بهم.

10. في معنى كونهم (فوقهم) ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنّ ذلك على أصله، لأنّ المؤمنين في علّيين، والكفّار في سجّين.

ب. الثاني: أنّ حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين، فهم المنصورون.

ج. الثالث: في أنّ نعيم المؤمنين في الجنّة فوق نعيم الكافرين في الدّنيا.

11. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنه يرزق من يشاء رزقا واسعا غير ضيّق.

ب. الثاني: يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.

__________

(1) زاد المسير: 1/176.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ﴾ كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفا، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها، وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل، وقال قطرب: يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر، وسال يسال، مثل خاف يخاف، والأمر فيه: سل مثل خف، وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ على وزن قال وكال.

2. ﴿كَمْ﴾ هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد، يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع (ما) ثم قصرت (ما) وسكنت الميم، وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام، وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر، والنصب عند الاستفهام، ومن العرب من ينصب به في الخبر، ويجر به في الاستفهام، وهي هاهنا يحتمل أن تكون استفهامية، وأن تكون خبرية.

3. ليس المقصود من قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، وبيان هذا الكلام أنه تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 208] فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر، ثم قال: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 209] ثم بين ذلك التهديد بقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [البقرة: 210] ثم ثلث ذلك التهديد بقوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2] وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111] فهذا بيان وجه النظم.

4. فرق أبو عمرو في (سل) بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف، فقرأ ﴿سَلْهُمْ﴾ و﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بغير همزة ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]، ﴿فاسأل الَّذِينَ يقرؤون الْكِتابَ‏﴾، ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32] بالهمز، وسوى الكسائي بين الكل، وقرأ الكل بغير همز وجه الفرق الفرق أن التخفيف في‏ الاستئناف وصلة إلى إسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف، لأن الألف ساقطة فيها أجمع.

5. في قوله تعالى: ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ قولان:

أ. أحدها: المراد به معجزات موسى عليه السلام، نحو فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب، وإنزال التوراة عليهم، وتبيين الهدى من الكفر لهم، فكل ذلك آيات بينات.

ب. الثاني: أن المعنى، كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، يعلم بها صدقه وصحة شريعته.

6. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ قال أبو مسلم: في الآية حذف، والتقدير: كم آتيناهم من آية بينة وكفروا بها لكن لا يدل على هذا الإضمار قوله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾

7. في نعمة الله هاهنا قولان.

أ. أحدهما: أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدي والنجاة من الضلالة، ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان:

فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام، قال المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 125]

ومن قال المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها.

ب. الثاني: المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾:

أ. إن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أي من بعد ما تمكن من معرفتها، أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه.

ب. وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية، فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح، فلهذا قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

9. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فيه إضمار، والمعنى شديد العقاب له(2)، وبين عبد القاهر النحوي في كتاب (دلائل الإعجاز) أن ترك هذا الإضمار أولى، وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفا بأنه شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك، ثم قال الواحدي رحمه الله: والعقاب عذاب يعقب الجرم.

10. ثم لما ذكر الله تعالى من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من درجات الآخرة.

إنما لم يقل الله تعالى: زينت لوجوه:

أ. أحدها: وهو قول الفراء: أن الحياة والإحياء واحد، فإن أنث فعلى اللفظ، وإن ذكر فعلى المعنى كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [البقرة: 275]، ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ [هود: 67]

ب. ثانيها: وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأنه ليس حيوانا بإزائه ذكر، مثل امرأة ورجل، وناقة وجمل، بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء.

ج. ثالثها: وهو قول ابن الأنباري: إنما لم يقل: زينت، لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا، بقوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الاسم بفاصل، حسن تذكير الفعل، لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث.

11. ذكروا في سبب النزول وجوها، ولا مانع من نزولها في جميعهم:

أ. فالرواية الأولى: قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين، كعبد الله بن مسعود، وعمار، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة.

ب. والرواية الثانية: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين، حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم.

ج. والرواية الثالثة: قال مقاتل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين.

12. ذكر المعتزلة، ومن وافقهم في كيفية هذا التزيين وجوها:

أ. أحدها: قال الجبائي: المزين هو غواة الجن والإنس، زينوا للكفار الحرص على الدنيا، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا، قال: (وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل، لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنة فإن كان المزين هو الله تعالى، فإما أن يكون صادقا في ذلك التزين، وإما أن يكون كاذبا، فإن كان صادقا وجب أن يكون ما زينه حسنا، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته، وهذا القول كفر، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر، وهذا أيضا كفر، فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان)، هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في (تفسيره)، وهذا ضعيف:

لأن قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يتناول جميع الكفار، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم، إلا أن يقال: إن كل واحد منهم كان‏ يزين للآخر، وحينئذ يصير دورا فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم، فبطل قوله: (إن المزين هم غواة الجن والإنس)، وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضا، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم، فثبت أن هذا التأويل ضعيف.

وأما قوله: (المزين للشيء هو المخبر عن حسنه) فهذا ممنوع، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزينا، وعلى هذا التقدير سقط كلامه.

ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه، فلم لا يجوز أن يقال: الله تعالى أخبر عن حسنه، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والراحات، والإخبار عن ذلك ليس بكذب، والتصديق بها ليس بكفر، فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية.

ب. الثاني: قال أبو مسلم: يحتمل في‏ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بل لا يريدون أن ذاهبا ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: 75، التوبة: 30، المنافقون: 4]، ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ [غافر: 69] إلى غير ذلك، وأكده بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المنافقون: 9] فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب، ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه، واعلم أن هذا ضعيف، وذلك لأن قوله: ﴿زُيِّنَ﴾ يقتضي أن مزينا زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.

ج. الثالث: أن هذا المزين هو الله تعالى، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان:

أحدهما: قراءة من قرأ ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ على البناء للفاعل.

الثاني: قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7]

13. القائلون بأن المزين هو الله تعالى ذكروا وجوها:

أ. الأول: يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده، ونظيره قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ [آل عمران: 14] إلى قوله: ﴿قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ‏﴾ [آل عمران: 15] وقال أيضا: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46] وقالوا: فهذه الآيات متوافقة، والمعنى في الكل أن الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام.

ب. الثاني: أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص الشديد في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين.

ج. الثالث: في تقرير هذا التأويل أن المراد: أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال، وهذا أيضا ضعيف:

وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات.

وأيضا فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها، وليس كذلك الكافر، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالبا على ظنه، لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات.

وأيضا أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة، وتحملهم المشاق الواجبة، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات.

14. جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة، ومن وافقهم يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر، وهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزيينا في قلبه، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية، على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار لأن حال الاستواء لما امتنع حصول الرجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين‏ مرجوحا كان أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة.

15. أهل السنة، ومن وافقهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال والأحوال، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية.

16. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ مستأنف غير معطوف على زين(2)، ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي، وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد لكانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه، بل قال بعض المحققين: الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاسا معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمرا متعينا فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى.

17. سؤال وإشكال: لم قال ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ثم قال ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؟ والجواب: ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوي.

18. سؤال وإشكال: ما المراد بالفوقية في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؟ والجواب: فيه وجوه:

أ. أحدها: أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان، لأن المؤمنين يكونون في عليين‏ من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض.

ب. ثانيها: يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة.

ج. ثالثها: أن يكون المراد: إنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة، وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين، ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى، وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك، بل تزول الشبهات، ولا تؤثر وساوس الشيطان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ إلى قولهـ ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المطففين: 29 ـ 34] الآية.

د. رابعها: أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة، وهي مع بطلانها منقضية، وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيقتها هي دائمة باقية.

19. سؤال وإشكال: إنما يقال: فلان فوق فلان في الكرامة، إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالا من الآخر في تلك الكرامة، والكافر ليس له شيء من الكرامة، فكيف يقال: المؤمن فوقه في الكرامة؟ والجواب: المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر، فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين.

20. سؤال وإشكال: هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول: إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار؟ والجواب: هذا تمسك بالمفهوم، فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو.

ب. ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين، وفيه وجوه:

أ. أحدها: وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدنيوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل، فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئا عن كون المعطي محقا أو مبطلا أو محسنا أو مسيئا وذلك متعلق بمحض المشيئة، فقد وسع الدنيا على قارون، وضيقها على أيوب عليه السلام، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونهم محقين وكونهم مبطلين، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الزخرف: 33]

ب. ثانيها: أن المعنى: أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه، ولا مطالبة، ولا تبعة، ولا سؤال سائل، والمقصود منه أن لا يقول الكافر: لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا؟ وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلا فلم وسع عليه في الدنيا؟ بل الاعتراض ساقط، والأمر أمره، والحكم حكمه‏ ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]

ج. ثالثها: قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابي، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية: أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين، قال القفال: وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود، وبما فتح على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر.

21. سؤال وإشكال: قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم‏ ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: 36] أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية؟ والجواب:

أ. أما من حمل قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ على التفضل، وحمل قوله: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا، أو بحسب الاستحقاق على ما هو قول المعتزلة، فالسؤال ساقط.

ب. وأما من حمل قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ على سائر الوجوه، فله أن يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل، صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حسابا، ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾

22. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب، ويحتمل حينها وجوها:

أحدها: أنه يرزق من يشاء في الآخرة، وهم المؤمنون بغير حساب، أي رزقا واسعا رغدا لا فناء له، ولا انقطاع، وهو كقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 40] فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب.

ثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 173] فالفضل منه بلا حساب.

ثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته.

رابعها: أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة، وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا انتقص قدر الواجب عما كان، والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا، فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب.

خامسها: أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهيا لا محالة، والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى‏

سادسها: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق، وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئا، وليس لأحد معه حساب بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان، لا بسبب الاستحقاق.

سابعها: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي يزيد على قدر الكفاية، يقال: فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية، فأما إذا زاد عليه فإنه يقال: ينفق بغير حساب.

ثامنها: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي يعطي كثيرا لأن ما دخله الحساب فهو قليل.

وهذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/366.

(2) الكلام هنا للواحدي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ ﴿سَلْ﴾ من السؤال: بتخفيف الهمزة، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل، وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في ﴿سَلْ﴾ وثبوتها في واسئل وجهين:

أ. أحدهما: حذفها في إحداهما وثبوتها في الآخرى، وجاء القرآن بهما، فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها.

ب. الثاني:أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه، فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وقوله: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾، وثبت في العطف، مثل قول: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾، ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قاله على بن عيسى، وقرا أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه اسأل على الأصل، وقرا قوم أسل على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال الأحمر.

2. ﴿كَمْ﴾ في موضع نصب، لأنها مفعول ثان لآتيناهم، وقيل: بفعل مضمر، تقديره كم آتينا آتيناهم، ولا يجوز أن يتقدمها الفعل لان لها صدر الكلام.

3. ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ في موضع نصب على التمييز على التقدير الأول، وعلى الثاني مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في آتيناهم، ويصير فيه عائد على كم، تقديره: كم آتيناهموه، ولم يعرب وهى اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيه معنى الاستفهام، وإذا فرقت بين كم وبين الاسم كان الاختيار أن تأتى بمن كما في هذه الآية، فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال الشاعر:

كم بجود مقرف‏ نال العلا...وكريم بخله قد وضعه‏

4. المراد بالآية كم جاءهم في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من آية معرفة به دالة عليه، قال مجاهد والحسن وغيرهما: يعنى الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك.. أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بسؤالهم على جهة التقريع لهم والتوبيخ.

5. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بنى إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فاللفظ، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب، وقد عاقبه بذنبه.

6. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ على ما لم يسم فاعله، والمراد رؤساء قريش، وقرا مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل، قال النحاس: وهى قراءة شاذة، لأنه لم يتقد للفاعل ذكر، وقرا ابن أبى عبلة زينت بإظهار العلامة.. وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي.

7. المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها أيضا الشيطان بوسوسته وإغوائه، وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها، وقد قال أبو بكر حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا.

8. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إشارة إلى كفار قريش، فإنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال ابن جريج: في طلبهم الآخرة، وقيل: لفقرهم وإقلالهم، كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم، فنبه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وروى على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة، ثم فضحه ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تل من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه، وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرب، وليس شي أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده)

9. معنى ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي في الدرجة، لأنهم في الجنة والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان، من حيث إن الجنة في السماء، والنار في أسفل السافلين، ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ومنه حديث خباب‏ مع العاص بن وائل، قال خباب: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال فقلت له: إني لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال وإني لمبعوث من بعد الموت!؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد، الحديث.

10. سخر: يقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل ذلك يقال، حكاه الأخفش، والاسم‏ السخرية والسخرى والسخرى، وقرئ بهما قوله تعالى: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ وقوله: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾، ورجل سخرة، يسخر منه، وسخرة ـ بفتح الخاء ـ يسخر من الناس، وفلان سخرة يتسخر في العمل، يقال: خادمه سخرة، وسخره تسخيرا كلفه عملا بلا أجرة.

11. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال الضحاك: يعنى من غير تبعة في الآخرة، وقيل: هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم، وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينفد، وقيل، إن قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾، ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين، كما قال: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/28.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال‏ تقريع وتوبيخ، و﴿كَمْ﴾ في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتى، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدّر دلّ عليه المذكور، أي: كم آتينا آتيناهم، وقدّر متأخرا لأن لها صدر الكلام، وهي: إما استفهامية للتقرير، أو خبرية للتكثير، و﴿مِنْ آيَةٍ﴾ في موضع نصب على التمييز، وهي: البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وقيل: المراد بذلك: الآيات التي جاء بها موسى، وهي التسع.

2. المراد بالنعمة هنا: ما جاءهم من الآيات، وقال ابن جرير الطبري: النعمة هنا: الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائنا من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها ـ ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول، لما تقرر: من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

3. في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره.

4. زين مبني للمجهول، والمزين: هو الشيطان، أو الأنفس المجبولة على حب العاجلة، والمراد بالذين كفروا: رؤساء قريش، أو كل كافر.. وإنما خص الذين كفروا بالذكر ـ مع كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ـ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين، وأعرض عن الآخرة، والمسلم لم يفتتن به، بل أقبل على الآخرة.

5. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذه الجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر وأساطين الضلال، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيدا رابحا، ومن حرمه شقيا خاسرا، وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها، وحكى الأخفش أنه يقال: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزأت منه وهزأت به، والاسم: السخرية والسخري.

6. ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين؛ ردّ الله عليهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ والمراد بالفوقية هنا: العلو في الدرجة، لأنهم في الجنة، والكفار في النار ـ ويحتمل أن يراد بالفوق: المكان، لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا، كما وقع ذلك من ظهور الإسلام وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم؛ ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة.

7. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يحتمل أن يكون فيها إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين، ويوسّع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب، أي: بغير تقدير؛ ويحتمل أن المعنى: أن الله يوسّع على بعض عباده في الرزق، كما وسّع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجا لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسّع عليه فقد رضي عنه؛ ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين، كما قال سبحانه: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/244.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ المراد بهذا السؤال: تقريع بني إسرائيل وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحقّ بعد وضوح الآيات، لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم أمر، كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد، يقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟ ـ أي: كم شاهدوا المعجزات الظاهرة على أيدي أنبيائهم، القاطعة بصدقهم عليهم السلام فيما جاءوهم به: كعصا موسى، وفلقه البحر، وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدّة الحرّ، ومن إنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، ويدلوا نعمة الله عليهم بها كفرا كما أشعر بذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، فالمراد بنعمة الله آياته، فهو من وضع الظاهر موضع المضمر بغير اللفظ السابق، لتعظيم الآيات؛ ولا يخفى أنها من أجلّ أقسام نعم الله تعالى لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة.

2. تبديلهم إياها: استبدالهم بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها، كما قال تعالى ـ إخبارا عن كفار قريش ـ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ [إبراهيم: 28 ـ 29]

3. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أي: وصلت إليه وتمكن من معرفتها أو عرفها، والتصريح بذلك ـ مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء ـ للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، وفيه تقبيح عظيم بهم، ونعي على شناعة حالهم، واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدّلوا، بعد المعرفة.

4. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حتى بدّلوا النعمة ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ لحضورها، فألهتهم عن غائب الآخرة، قال الحراليّ: ففي ضمنه إشعار بأنّ استحسان بهجة الدنيا كفر مّا، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصّر طيّتها، ويشهد جيفتها، فلا يغترّ بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحقّ؛ فأبهم تعالى المزيّن في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [الأنعام: 108]

5. في كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين، مسندا إلى الله تعالى تارة وإلى غيره أخرى، في عدّة آيات من التنزيل الكريم، وللراغب كلام بديع ينحلّ به مثل هذا الإشكال وهو قوله: إن الفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى ما هو سببه ومسهّله، وعلى هذا يصحّ أن ينسب فعل واحد تارة إلى الله تعالى وتارة إلى غيره، نحو قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11]، وفي موضع آخر: ﴿اللَّهُ يَتَوفي الْأَنْفُسَ﴾ [الزمر: 42]، فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له، وفي الثاني إلى الآمر به؛ وهكذا، بتصوّر ما ذكر، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوبا إلى الله تعالى، منفيا عن الله تعالى، نحو قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 17]، وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال 17]، وقوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79]

6. ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ ـ أي: يهزئون ـ ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهذا كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطففين: 29 ـ 36] الآيات.

7. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوي لحضهم عليها وإيذانا بترتب الحكم عليها ﴿فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لأنهم في علّيين وهم في أسفل سافلين، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين: 29 ـ 36]، ولذا قال الراغب: يحتمل قوله تعالى‏ ﴿فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وجهين:

أ. أحدهما: أنّ حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.

ب. الثاني: أنّ المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار.

8. قال السيلكوتي: اعلم أن قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب؛ يعنى أنّ جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مركوزا في طبيعتهم، وعطف عليه بالفعل المضارع ـ أعني‏ ﴿يَسْخَرُونَ‏﴾ ـ لإفادة الاستمرار، وعطف قوله‏ ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ لتسلية المؤمنين.

9. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعني: ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب، أي: رزقا واسعا رغدا لا فناء له ولا انقطاع، كقوله سبحانه: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 40]؛ فإنّ كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه، فما لا يكون متناهيا كان لا محالة خارجا عن الحساب.

10. استقصى الراغب: ما تحتمله الآية من وجوهها وعبارته: أعطاه بغير حساب: إذا أعطاه أكثر مما يستحق، أو أقلّ مما يستحق؛ والأول هو المقصود وهو المشار إليه بالإحسان؛ وقد فسّر ذلك على أوجه لإجمال اللفظ وإبهامه:

أ. الأول: يعطيه عطاء لا يحويه حصر العباد، كقول الشاعر: (عطاياه، يحصى قبل إحصائها القطر)

ب. الثاني: يعطيه أكثر مما يستحقه.

ج. الثالث: يعطيه ولا منّة.

د. الرابع: يعطيه بلا مضايقة، من قولهم: حاسبه.

هـ. الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه أن يكفيه ـ وكلّ هذه الوجوه يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.

و. السادس: أنّ ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفّار والفسّاق الذين قال فيهم: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الزخرف: 33] الآية، وتنبيها أن لا فضيلة في المال لمن يوسع عليه، ما لم يستعن عليه في الوصول إلى المطلوب منه؛ ولهذا قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56] الآية.

ز. السابع: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك لأنّ‏ المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلّا ما يجب من حيث يجب على الوجه الذي يجب ولا ينفقه إلّا على ذلك، فهو يحاسب فلا يحاسب، ولهذا روي: من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في الآخرة! وعلى هذا قال تعالى لسليمان: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص: 39]

ح. الثامن: أنّ الله عزّ وجلّ يعامل في القيامة المؤمنين لا بقدر استحقاقهم بل بأكثر منه، كما قال ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245] الآية.

ط. التاسع: وهو يقارب ذلك: أنّ ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا حظر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ﴾ [الزخرف: 71] الآية، وقوله: ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ الآية.

11. أما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير، يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/93.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ﴾ يا محمَّد ومن يصلح للسؤال، سؤالَ توبيخٍ وتقريرٍ، وتحقيقُ التقريع إنَّما هو على إنكار الحقِّ المتقرِّر وإفحام، لا استفهام حقيقيٌّ؛ لأنَّه عالم بالآيات التي أنزلت عليهم كلِّها، ﴿بَنِي إسْرَآئِيلَ كَم﴾ قيل: لا يجوز أن تكون للتكثير لتقدُّم السؤال، قلت: لا بأس بأنَّها للتكثير مع السؤال لأنَّ السؤال غير حقيق، بل تقرير وتقريع، وهي مفعول به، أو مقدَّم لـ (آتَى) بعده، إلَّا على معنى ناولناهم فيكون مفعولاً ثانيًا، ﴿ءَاتَيْنَاهُم مِّنَ ـ ايَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ معجزة ظاهرة في صدق أنبيائهم، على أيدي أنبيائهم، كفلق البحر والعصا، فمنهم من لم يؤمن، ومنهم من آمن ولم يستقم، أو آيات التوراة والإنجيل وغيرهما، ولم يعملوا بها دالَّات على الأحكام الشرعيَّة وعلى رسالتك، وحقيَّة دين الإسلام، وذلك كلُّه نعمة بدَّلوها بالإنكار وعدم العمل بمقتضاها، و(مِنْ) للبيان متعلِّق بمحذوف، حالٌ من (كَمْ)؛ أو زائدة في التمييز ولو لم يتقدَّم نفي، إلَّا على تقريعهم بأنَّهم كأنَّه لم تأتهم آية، ويضعف جعل (كَمْ) مفعولا مطلقًا، أي: كم إيتاءً آتيناهم!، فتكون (مِن) للابتداء، أو للتبعيض على أنَّ آية بمعنى آيات.

2. ﴿وَمَنْ يُّبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ﴾ آيات التلاوة والمعجزات، بالإنكار أو المحو أو التأويل ﴿من بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ﴾ كفرًا كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: 28] لا بعد مجرَّد الوصف فقط، بل بعد حضورها عنده وفهمه إيَّاه، إذ لا يُصدَّق أنَّها نعمة إن لم تُفهَم، وربَّما يوجد التبديل من غير خبرة بالمبدل، أو عن جهل به فيتوهَّم عذر فاعله، سمَّى الله دينه نعمةً، وهو أفضل من نِعَمِ الصحَّة والمال والجاه.

3. ﴿فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ جواب الشرط، أي شديد العقاب له، فإن لم تقدِّر (لَهُ) كان تعليلاً للجواب، أي عاقبه الله عقابًا شديدًا لأنَّ الله شديد العقاب، جزاء وفاقًا، إذ بدَّل أشدَّ النعم، وكان سببا لزيادة كفره وهو الاعتداء المعبَّر عنه بالآيات المعبَّر عنها بالنعمة، وهنَّ سبب الهدى وملزومه.

4. ﴿زُيِّنَ﴾ أي زيَّن الله، لأنَّه الموجد للزينة وخالقها، وخالق تأثير وسوسة الشيطان، إذ لا مؤثِّر سوى الله، أو زيَّن الشيطان، أي عالج حصول الزينة، وخالقها الله بالخذلان، ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بالزخرفة فأحبُّوها، ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ يهزؤون ﴿مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ لقلَّة حُرمة الدنيا عندهم، وقلَّة مالها عندهم، كبِلال وعمَّار وصهيب، و(الَّذِينَ) للحقيقة لا للاستغراق؛ لأنَّ من المسلمين ذوي جاه وأموال، والمراد: يسخرون بالذين آمنوا، أو لَمَّا جعلوا محلًّا للسخرية أو مبدأً لها كانت مبتدأة منهم.

5. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ ما حرَّم من شرك ومعاصٍ، وهم الذين آمنوا المذكورون، ذكرهم باسم التقوى أيضا، أو المراد المذكورون وغيرهم عمومًا لهم بالأولى، والمراد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومنها ترك المعاصي، بدليل قوله: ﴿فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ في جنَّات عاليات، وكرامة ومكانة، وهؤلاء في النار سافلين، ودخل في الكرامة وعلوِّ الشأن كونُ مساكنهم في الجنَّات، فالفوقيَّة حسِّـيَّة وعقليَّة، ومن ذلك أن يسخر بهم المؤمنون.

6. ﴿وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ﴾ رزق الدنيا والآخرة، فيملك الذين آمنوا أموال المشركين ومنازلهم وأزواجهم في الجنَّة وفي الدنيا، ويرزق الكفَّار في الدنيا استدراجًا ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي كثير لا يطيق الخلقُ حسابه، وأمَّا الله فكلُّ شيء عنده بحساب.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/12.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تقدم أن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ وجهين: أحدهما: أن المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب، وثانيهما: أن المخاطب بها المؤمنون من المسلمين، وقوله عز وجل: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ ظاهر على كلا الوجهين:

أ. فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم، وأن الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم، فإذا استمروا على الجحود والخصام، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام، فليس ذلك بدعا منهم، ولا دليلا على أن الإسلام غير بين لهم، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البينات، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيئات، ولم يغن ذلك عنهم، ولا صدهم عن خلافهم وشقاقهم، بل بدل الذين كفروا منهم قولا غير الذي قيل لهم، وبدلوا نعمة الله كفرا ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ عليه بالآيات الدالة على الحق، والوحدة الداعية إلى الشكر ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ بالبيان، وأبرهت بالبرهان، بجعلها مثارا للتفرق والاختلاف، وجعل الأمة الواحدة شيعا وأحزابا ومذاهب وفرقا بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن تنكب سنته وخالف شرعته ـ وهؤلاء المبدلون منهم ـ فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم، ولم يقل: فإن الله يعاقبهم؛ ليشعرنا بأن هذا من سننه العامة فحذرنا أن نكون من المخالفين المبدلين، توهما أن العقاب خاص ببعض الغابرين، كما يلغو كثير من الجاهلين، فأنت ترى أن هذه الجملة في معنى قوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن، وفي هذه من الهداية أيضا بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل؛ فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل، هذه سنة الله تعالى في البشر عامة، لا في بني إسرائيل خاصة، كذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله.

ب. وأما تفسير الآية على الوجه المختار في المخاطبين بالدخول في السلم، فهو أنها هادية إلى الاعتبار بسنة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بينا آنفا، كأنه يقول: يا أيها المؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم عليكم بالدخول في السلم والاتفاق، والاعتصام بالإسلام في جملته، لا تفرقوه ولا تتفرقوا فيه وتكونوا شيعا، كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات من قبلكم، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم وحالهم لا تخفى عليكم، فسلوهم حالهم، واستنطقوا آثارهم واقرءوا تاريخهم تروا أنهم أوتوا نحوا مما أوتيتم من البينات، وأمروا كما أمرتم بالاتحاد والاجتماع، فتفرقوا إلى مذاهب وشيع، وزلوا عن صراط الله فتفرقت بهم السبل فأخذهم الله بعزته ونفذ فيهم حكم سنته، وزال سلطانهم، ولفظتهم أوطانهم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة، ومزقوا في الأرض كل ممزق.

2. الآية على كلا الوجهين عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين به، لا حكاية تاريخية عن بني إسرائيل، ولكن هل يعتبر بها المنتسبون إلى القرآن؟ وهل يفهمون منها أن ملكهم الذي يتقلص ظله عن رؤوسهم عاما بعد عام، وعزهم الذي تتخطفه منهم حوادث الأيام ما بدلهما الله تعالى إلا بعد ما بدلوا نعمته عليهم في قوله: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا﴾، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ كلا إنهم لم يفهموا هذا ولو تغنوا وترنموا بهذه الآيات في كل مأتم وكل موسم، وإن رؤساءهم لا يمقتون أحدا مقتهم لمن يذكرهم به، وإن أكثر عامتهم تبع لهؤلاء الرؤساء كما كان بنو إسرائيل على عهد نزول القرآن، وإنا لنعلم أن الساكنين منهم على جميع ما مني به المسلمون من البدع والخرافات والفسوق والعصيان يتفقون مع المدافعين عن الفاسقين والمبتدعين على إيذاء الواعظين الناصحين، باسم المدافعة عن الدين.

3. السبب في هذا وأمثاله لم يفرط فيه الكتاب المبين بل هو ما هدانا الله تعالى إليه بقوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ هذا بيان معلل لما قبله من الوعيد لمن يبدل نعمة الله كفرا، ولا سيما نعمة آيات الله تعالى في هداية الملة إلى وحدة الأمة، فالكفر فيها هو كفر النعمة لا إنكار وجود الله تعالى ولا الشرك به كما زعم الجلال وغيره، وسببه الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية، والمقام مقام الأمر بالاتفاق في الدين والأخذ بجميع أحكامه وشرائعه والنهي عن التفرق فيها، والمسلمون هم المخاطبون بالوعيد على التفرق واتباع خطوات الشيطان على رأيه وتفسيره ـ وهو المختار ـ فبعد أن أمرنا تعالى ونهانا وتوعد من يزل عن سبيله منا بعد ما جاءنا من البينات ذكرنا بحال من سبقنا من أهل الكتاب الذين نزل بهم عذاب التفرق والخلاف في الدنيا، لم يمنعه عنهم أنهم أهل الكتاب، وأنهم منتمون إلى نبي مرسل وعندهم شريعة إلهية، ذلك أنهم لم يجتمعوا على الكتاب لاختلاف أئمتهم وأحبارهم في التأويل والتأليف، وكان كل فريق منهم يعتذر عن تركه العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها.

4. بعد هذا كله يسأل سائل: كيف يختلف الناس في دينهم ويتفرقون شيعا بعد مجيء البينات المانعة من ذلك؟ فهذه الآية جواب لهذا السؤال، وحل لما فيه من الإشكال، ملخصه أن حب الدنيا والغرور بزينتها يصرفان جميع قوى النفس إلى التفاني في طلبها، وبذلك تنصرف عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيناته، أما الرؤساء فإنهم ينصرفون إلى حب الامتياز والشهرة والاستعلاء على الأقران، ولا يكون ذلك إلا بالخلاف وانتصار كل رئيس لمذهب، والذب عنه بالجدل والتأويل، وأما المرءوسون فإن كل فريق منهم ينتمي إلى رئيس يعتز به ويقلده دينه، ولا يستمع قولا لمخالفه، ويربط كلا منهما بالآخر الاشتراك في المصالح الدنيوية، فحب الدنيا هو علة العلل ورأس كل خطيئة، وقد تقدم شرح ارتباط الرؤساء بالمرءوسين في تفسير ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ الآيات.

5. ما ذكرناه هنا قاض بأن يختص الذين كفروا بمن أوتوا كتابا وجاءتهم بينات تجمع كلمتهم وتحقق وحدتهم، ففصموا بالخلاف عروتها، ومزقوا بالتفرق نسيج وحدتها، وذلك كفر بهذه النعمة وتبديل لها بالنقمة، ويدلك على أن الكلام لا يزال في مسألة الخلاف والوفاق في الدين الآية التالية لهذه، فإنها مبينة لأصل الخلاف في الدين منذ بعث الله النبيين.

6. جملة ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ، في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾: ابتلاهم فغرت أقواما زينتها، وفتنتهم بهجتها، فانصرفت همتهم إلى الاستماع بلذاتها، وانحصرت أفكارهم في استنباط الوسائل لشهواتها، ومسابقة طلاب المال والجاه عند أربابها، ومزاحمة الطارقين لأبوابها، فلم يبق فيها سعة لطلب شيء آخر وإن لم يكن معارضا لهم فيها يرغبون، وحائلا بينهم وبين ما يشتهون، فما بالك بطلب الحق، والتطلع إلى حياة بعد هذه الحياة، والحق ينعى عليهم إسرافهم في أمرهم، ويطالبهم بحقوق عليهم لغيرهم، والتطلع إلى حياة أخرى يزعزع من سكونهم إلى لهوهم، ويغض شيئا من تعاليهم في زهوهم، بل يكدر عليهم بعض صفوهم، ويقف بهم دون شأوهم، ومن لم يطلب الحق من طريقه بإخلاص وإنصاف لا يجده ولا يتفق مع أهله، وأنى للمفتونين بالزينة الإخلاص والإنصاف؟!

7. ثم أقوام آخرون نظروا إلى زينة الدنيا كما أمر الله، وهو من وجهين، أحدهما: ما فيها من الآيات الدالة على قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته بعباده، وثانيهما: كونها نعمة منه تعالى ينتفع بها، ويشكر الله تعالى عليها، ويتبع شرعه فيها بالقصد واجتناب السرف والخيلاء، وتذكر الدعاء بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وهو قريب، ولا تنس قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ إلخ.

8. المراد بالذين كفروا هنا من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس إيمانا إذعانا وانقيادا، بل يؤثرون الحياة الدنيا على ما عند الله تعالى من النعيم المقيم، لا المشركون أو الكافرون في عرف بعض الناس كالذين لا يسمون مسلمين، كما أن القرآن لا يعني بالمؤمنين الناجين طائفة يسمون أنفسهم أو يصفونها بالإيمان أو الإسلام، وإنما يعني بهم أولئك الموقنين بما عند الله، الذين يؤثرون الحق على كل ما يعارضه من شهواتهم ولذاتهم، وإذا عثر أحدهم فعمل السوء بجهالة يتوب من قريب، وانظر سائر ما عرف الله تعالى به المؤمنين والكافرين من النعوت والأوصاف يظهر لك هذا.

9. أظهر أوصاف الكافر أن تكون زينة الدنيا أكبر همه، يؤثرها على كل شيء، حتى إن أمر الدين لا يزحزحه عن شيء يقدر عليه من هذه الزينة ومتاعها بلا معارض من الدنيا، كحاكم يزع أو إهانة تتوقع؛ لأنه لا يقين له في الآخرة، فإن كان منتسبا إلى دين فما دينه إلا تقاليد وعادات، وخواطر تتنازعها الشبهات، وتتجاذبها الشكوك والتأويلات، ومنهم من يسلم تقليدا بأن هنالك آخرة فيها نعيم خاص بأهل ملته وإن كانوا على ما وصف الله الكافرين، وضد ما نعت المؤمنين، كما كان اليهود في زمن التنزيل، وقد أطلق القرآن عليهم اسم الإيمان في مواضع منها الآية السابقة قريبا على قول بعض المفسرين، وفي غيرها أيضا كقوله في أهل الكتاب عامة من آخر سورة الحديد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ إلخ، وأطلق عليهم اسم الكفر في مواضع كثيرة، وذلك أن للإيمان ـ كما ذكرنا قبل ـ إطلاقين، فيطلق على المؤمن الموقن المذعن للعمل والاتباع، ويطلق على من يصدق تقليدا بأن للعالم إلها أرسل رسلا وينتسب إلى بعضهم، وإن لم يكن على يقين في إيمانه، وبصيرة في دينه، وحسن اتباع لنبيه، بل هو على خلاف ذلك كما تقدم، وهؤلاء قد يكونون في عرف القرآن كافرين، وذكر من علامتهم الافتتان بزينة الحياة الدنيا، فهم يعدون الكياسة الانغماس في نعيمها، ويرون الفضل في الاستكثار من فضولها.

10. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانا حقيقيا يحمل على العمل ـ يسخرون من فقرائهم؛ لأنهم محرومون من زينتهم وإن كانوا راضين من الله مغبوطين بما منحهم من الإيمان والرجاء بالآخرة، ومن أغنيائهم لأنهم لا يتنوقون في النعيم، بل يرون الكياسة في الاستعداد لما بعد الموت بترقية النفس بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بالفضائل وأحاسن الأخلاق، ويعدون الفضل في القيام بحقوق الناس وخدمة الأمة، والإفاضة من فضل المال على العاجزين والبائسين، وكلما أنفقوا في سبيل الله درهما عده أولئك المستهزئون مغرما.

11. قال تعالى ردا على هؤلاء الساخرين الذين يرون أنهم في زينتهم ولذاتهم خير من أهل اليقين في نزاهتهم وتقاتهم: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فإذا استعلى بعضهم على بعض المؤمنين طائفة من الزمن في هذه الحياة القصيرة الفانية بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والمال والسلطان، فإن المؤمنين المتقين يكونون أعلى منهم مقاما يوم القيامة في تلك الحياة العلية الأبدية، ولم يقل: والذين آمنوا فوقهم؛ لأن هؤلاء المفتونين بزينة الحياة الدنيا يدعون الإيمان لأنهم ولدوا ونشئوا بين قوم يدعون بأهل الإيمان وأهل الكتاب، فالله يرشدنا إلى أنه لا اعتداد بالإيمان في الآخرة إلا إذا صحبته التقوى، وكانت أثرا له في النفس والعمل الصالح ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ و﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ و﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا﴾ والآيات في هذا كثيرة جدا، ولكن الذين يزعمون أن النجاة في الآخرة والدرجات العلا فيها تحصل بمجرد اللقب والجنسية، أو بعض التقاليد التي لا أثر لها في النفس، لا يلتفتون إلى مثلها، وإذا قيل لعظمائهم فيها واحتج عليهم بها طفقوا يحرفون ويؤولون، ويدعون أنها نزلت في الكافرين وهم مسلمون، أو يقولون: هكذا شيوخنا وإنما نحن مقلدون، وهؤلاء الداعون إلى الكتاب ضالون مضلون؛ لأنهم يدعون الاجتهاد في الدين، وقد أقفل علماؤنا بابه منذ مئين من السنين.

12. ذكر تعالى ما يمتاز به المؤمن المتقي على الكافر القائم بتبديل النعمة وتفريق الكلمة ـ وهو العلو في دار الكرامة، ثم أخبرنا أن رزق الدنيا ونعيمها ليس خاصا فيها بتقي ولا شقي، بل هو مبذول لكل أحد، وأنه قد يأتي من حيث لا يظن المرء ولا يحتسب فقال: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:

أ. الحساب: التقدير؛ أي: من غير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور.

ب. وفيه وجه آخر وهو أنه كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق، كقولهم: ينفق فلان بغير حساب؛ أي: ينفق كثيرا، والمعنى أنه بذل العطاء في الدنيا لكل أحد بخلق الأرزاق وإقدار الناس على الكسب.

ج. وقيل: إن المعنى بغير حساب عليه من أحد، فهو الذي خلق ورزق، وهو الذي قدر فهدى من غير محاسبة أحد ولا مراجعته، وقد بسط معنى هذا الكلام في آيات أخرى، قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ ـ فأنت ترى أنه لم يشترط السعي لرزق الدنيا؛ لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز، أو ارتفاع لأثمان ما يملك من عقار وعروض بأسباب عامة، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان، كما خصها هنا بالذين اتقوا من المؤمنين؛ لأن الكلام فيهم، ثم ذكر أن عطاءه واسع مبذول لكل أحد ليس فيه حظر من الله تعالى، فللمشمر تشميره، وعلى المقصر تقصيره.

د. وفي الحساب هنا وجه آخر وهو الاحتساب والتقدير من جانب العبد، فيكون بمعنى قوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾

13. قال محمد عبده: إن الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد؛ فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، والمتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا ومحلا لعناية الله تعالى به، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، فهو يجد بالتقوى مخرجا من كل ضيق، ويجد من عناية الله رزقا غير محتسب، وأما الأمم فأمرها على غير هذا؛ فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة معدمة مهينة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه بالجري على سننه الحكيمة وشريعته العادلة، ولم يكن من سنة الله تعالى أن يرزق الأمة العزة والثروة، والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تدبر، بل يعطيها بعملها، ويسلبها بزللها.

14. بين محمد عبده هذا المعنى غير مرة وتقدم التفسير، وهو مؤيد بآيات الكتاب المبينة لسنن الله العامة كقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ فجعل وقوع الظلم سببا في وقوع البلاء على الأمة من ظلم منها ومن لم يظلم، ومن الظلم ترك مقاومة الظلم حتى يفشو ويكون له السلطان الذي يذهب بكل سلطان، وكقوله: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ولأجل هذه السنة أمر بالاستعداد على قدر الطاقة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ ولا قوة مع الخلاف والنزاع والتفرق والانقسام؛ ولذلك أمرنا تعالى بالدخول في السلم كافة، ومنحنا على ذلك البينات الكافية، وضرب لنا الأمثال، وتوعدنا بالوعيد بعد الوعيد.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/268.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ أي سل أيها الرسول الكريم هؤلاء الحاضرين من بنى إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتيناها أسلافهم فأنكروها، فأخذناهم بذنوبهم، وحلّ بهم ما كانوا أهلا له من العقاب، فهل لهم أن يتدبروا عاقبة أمرهم ويعتبروا بتلك العظات البالغة، ويقلعوا عما هم عليه من الجحود والطغيان؟ خوفا من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك من النكال والوبال وسوء المآل.

2. هذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ لهم على طغيانهم وجحودهم بالحق بعد وضوح الآيات، كما يقول أحدنا توبيخا لآخر أمام جمع من الناس: سلوه كم أنعمت عليه؟ وكم أنقذته من ورطة كادت تؤدى به؟.

3. ثم هدّد وتوعد من يغير سنن الله قال ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أي ومن يغير نعمة الله وهى باهر آياته فيجعلها من أسباب ضلاله بدلا من أن تكون من أسباب سعادته، وتزيده رجسا إلى رجسه، عاقبه الله أشدّ العقاب، وذلك جزاء كل من حاد عن سنته، وبدّل شريعته، وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب لا محالة نازل بهم، إذ هو من سنن الله العامة فحذار أن تكونوا من المخالفين المبدلين.

4. معنى قوله‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أنها وصلت إليه وتمكن من معرفتها، ووقف على تفاصيلها فهو بمعنى قوله: ﴿يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

5. الآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين، فإن ملكهم الذي يتقلص ظله وعزّهم الذي تتخطّفه منهم الأيدي ـ ما حدث له ما حدث إلا بعد أن بدلوا نعمة الله التي أشار إليها بقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾

6. ثم ذكر الله تعالى طبيعة الكافرين الجاحدين قال ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي حسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا فيها، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم، والمراد بهم من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس، إيمان إذعان وانقياد، بل يؤثرون الدنيا على ما عند الله من النعيم المقيم، وأخصّ صفاتهم أن تكون زينة الدنيا أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شيء، حتى إن أمر الدين لا يزحزحهم عن شيء يقدرون عليه من هذه الزينة، لأنهم لا يقين لهم في الآخرة، فدينهم تقاليد وخواطر تتنازعها الشبهات، والشكوك والتأويلات فأهل الكتابـ ولهم شريعة إلهية ـ تفرّقوا واختلفوا في التأويل وارتكبوا التحريف، وكل فريق منهم يعتذر عن ترك العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها.

7. ليس لذلك من سبب إلا الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية، فقد انصرفت نفوسهم عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيّناته، فرؤساؤهم جعلوا همهم الشهرة والاستعلاء على الأقران، وانتصر كل فريق لمذهب يدافع عنه بالجدل والتأويل، والمرؤوسون ينتمى كل فريق إلى رئيس يعتزّ به ويقلده، ولا يستمع قولا لمخالفه، وحب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وسبب كل بلية في الدنيا والآخرة، فليحذر المسلمون أن يحذوا حذوهم ويسيروا سيرتهم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فيتفرّقوا كما تفرّق اليهود والنصارى حتى لا يحيق بهم ما حق بالذين من قبلهم، ولكن الله قد قضى ولا راد لقضائه أن يحتذوا حذوهم، ويتبعوا نهجهم، ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم، فحاق بهم مثل ما حاق بأولئك، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

8. الخلاصة ـ إن الله قد أوعد المسلمين على التفرّق والاختلاف، وذكّرهم بحال من سبقهم من أهل الكتاب الذين حلّ بهم عقابه في الدنيا جزاء أعمالهم من حبهم للدنيا وزينتها، وتركهم حقوقه وحقوق الناس واختلافهم في دينهم لأجلها.

9. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي ويسخرون من فقراء المؤمنين كعبد الله ابن مسعود وعمّار وصهيب، ويقولون: تركوا لذات الدنيا وعذّبوا أنفسهم بالعبادات، كما يسخرون من أغنيائهم لأنهم لا يتنوّقون في النعيم، بل يستعدون لما بعد الموت بترقية نفوسهم بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بفاضل الأخلاق، وإعطاء فضل ما لهم للعاجزين والبائسين.

10. ثم ردّ الله تعالى على أولئك الساخرين الذين يرون أنهم في لذاتهم خير من أهل اليقين في تقاهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي إنه إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين برهة من الدهر في هذه الحياة القصيرة بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والخدم والأعوان، فإن المؤمنين المتقين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما وأرفع منهم منزلة.

11. آثر القرآن الكريم التعبير بالذين اتقوا عن الذين آمنوا، إيماء إلى أن المفتونين بزخرف الدنيا يدّعون الإيمان لأنهم نشئوا بين قوم يدعون أهل الكتاب، ومع هذا لم يعتد بإيمانهم في الآخرة، إذ لم تصحبه التقوي، ولم يكن له أثر في النفس يولّد العمل الصالح كما قال ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾

12. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي إنه يعطى كثيرا بلا تضييق ولا تقتير كما يقال هو ينفق بغير حساب، على معنى أنه ينفق كثيرا، وقد جاء هذا المعنى في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾

13. الرزق بلا حساب ولا سعى في الدنيا يكون بالنسبة إلى الافراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلص من كل ضيق، ومن عناية الله به رزقا غير محتسب، أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، فالأمم الذليلة المهينة لا تكون متقية لأسباب نقمة الله وسخطه بالجري على سننه، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزّة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ولا تعمل ولا تتدبر، بل هو يعطيها بعملها ويسلبها بزللها كما قال ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/117.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هنا يلتفت السياق لفتة أخرى، فيخاطب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يكلفه أن يسأل بني إسرائيل ـ وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذا السورة من قبلـ: كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا! وكيف بدلوا نعمة الله، نعمة الإيمان والسلم، من بعد ما جاءتهم: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

2. العودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء! موقف التلكؤ دون الاستجابة؛ وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة؛ وموقف التعنت وسؤال الخوارق، ثم‏ الاستمرار في العناد والجحود.. وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.

3. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾.. والسؤال هنا قد لا يكون مقصورا على حقيقته، إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم.. إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة.. ثم ما كان منهم ـ على الرغم من كثرة الخوارق ـ من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان.

4. ثم يجيء التعقيب عاما: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم، أو نعمة الإيمان، فهما مترادفان، والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله، وكانوا دائما في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة؛ ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولا في حال بني إسرائيل، ويجد مصداقه أخيرا فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان.

5. ما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة، وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد؛ وتجد الشقوة النكدة؛ وتعاني القلق والحيرة؛ ويأكل بعضها بعضا؛ ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملئوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح! ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها: من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب! ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات؛ ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح.. ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء! كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام، ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة (الهروب) من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة، كالذي تطارده الجنة والأشباح، وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.. وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب.. والعياذ بالله.

6. في ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة، والتبديل بعد النعمة، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا؛ ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾..

7. لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا؛ بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة، زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها؛ ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها؛ ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها، والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة.. إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها.. ولكن لأنه ينظر إليها من عل ـ مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة، وعنايته بالنماء والإكثار ـ فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى، ينشد منها أن يقر في الأرض منهجا، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.

8. ينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض، المستعبدون لأهداف الأرض.. ينظرون للذين آمنوا، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم، ومتاعهم الزهيد؛ ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصهم وحدهم، ولكن تخص البشرية كلها؛ ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم؛ ويرونهم يعانون فيها المشقات؛ ويقاسون فيها المتاعب؛ ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة.. ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا ـ في هذه الحال ـ فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا، عندئذ يسخرون منهم، يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه!

9. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.. لكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان.. إنه ميزان الأرض، ميزان الكفر، ميزان الجاهلية.. أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه، والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه.

10. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.. هذا هو ميزان الحق في يد الله، فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان، وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين.. إنهم فوقهم يوم القيامة، فوقهم عند الحساب الختامي الأخير، فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين.

11. والله يدخر لهم ما هو خير، وما هو أوسع من الرزق، يهبهم إياه حيث يختار؛ في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.. وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء، ويفيض على من يشاء، لا خازن لعطائه ولا بوّاب! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل، وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة.. فالعطاء كله من عنده، واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى.

12. ستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس.. تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله؛ فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار؛ وبذلك يحققون إنسانيتهم؛ ويصبحون سادة للحياة، لا عبيدا للحياة.. كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر: الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها؛ وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون! وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين؛ مهما أوتوا من المتاع والأعراض، على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون؛ فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة، وهم أحق بالرثاء والإشفاق.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/213.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في الآية السابقة انتقل اليهود المنكرون للبعث نقلة سريعة مفاجئة إلى يوم القيامة، في مسيرة مجهدة مرعبة.. انتقلوا من عالم الأحياء إلى عالم الأموات.. فضمّت عليهم القبور وأكلتهم الأرض.. ثم بعثوا أحياء من جديد.. ثم سيقوا إلى الموقف.. ثم أحضروا للحساب بين يدى الله.. ثم أخذ بهم إلى مصيرهم المشئوم!.. وإذا هم على مشارف الهاوية في هذه الرحلة المثيرة، قد أوقظوا من هذا الكابوس المزعج الخانق، وما كادوا يفتحون أعينهم، ويستشعرون وجودهم حتى رأوا أنفسهم أمام هذه المواجهة بهذا الاتهام: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾

2. السؤال وإن كان مطلوبا من النبيّ أن يوجهه إلى بنى إسرائيل في هذا الإعلان العام، فإنه سؤال مطلوب من كل إسرائيلى أن يوجهه إلى نفسه، وأن يعطى الجواب عليه فيما بينه وبين نفسه، وقد يسأل بنو إسرائيل أنفسهم هذا السؤال، وقد يجيبون عليه، ولكنهم لا يقعون على الحق، ولا يهتدون إليه، وخاصة فيما بيّنه الله تعالى لهم من دلائل النبوة المحمديّة، الناطقة به، الكاشفة عنه، لأنهم بدّلوا آيات الله وحرّفوا كلماته، فكان انحرافهم عن الحق، وتخبطهم في الضلال، هو مما صنعته أيديهم، والتوت به ألسنتهم: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فإنه ليس نعمة أتم وأعظم من نعمة العلم الذي يهدى إلى الحق، ويكشف الطريق إلى الله، فمن جحد هذه النعمة، ومكر بها، فقد وقع تحت غضب الله واستحق شديد عذابه.

3. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ هذا معرض آخر للذين كفروا من اليهود ومن على شاكلتهم.. فقد زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وبدا لهم أنهم في صفقة رابحة مع‏ ما في أيديهم من هذه الدنيا التي آثروها على كل شيء، وباعوا لها أنفسهم، ولبسوا من أجلها أثواب الرياء والنفاق، ثم هم مع هذا ينظرون إلى الذين آمنوا نظرا ساخرا هازئا، إذ يرونهم على غير ما هم فيه من حرص على الدنيا، ومن استجلاب شره لما فيها من لذات وشهوات، فتلك هي نظرة أصحاب الدنيا إلى أهل الإيمان والتقوى، وذلك هو الميزان الذي يضعون أنفسهم فيه مع المؤمنين، فيرون أنهم أرجح ميزانا، وأعلى مقاما!.

4. لكن هذه النظرة ستتغير، وهذا الميزان سوف يتبدل، وذلك يوم الحساب الأكبر، يوم يوضع الميزان الحق بين الناس، فإذا أهل الدنيا في بلاء وضنك، وإذا المؤمنون في نعيم مقيم ورضوان دائم.. ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾

5. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ معدول به عن أن يقال: (والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة) الذي كان يقتضيه سياق النظم، حيث كان الموقف بين الذين كفروا والذين آمنوا، وفي وضع الذين اتقوا مكان الذين آمنوا إشارة إلى أن الإيمان مجردا من العمل الذي يلبس به صاحبه ملابس التقوي ـ هذا الإيمان لا يؤهل صاحبه لرضوان الله، ولا يرفعه إلى تلك المنزلة الرفيعة، وهذا المقام المحمود.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/233.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلة البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 210] سواء كان خبرا أو وعيدا أو وعدا أم تهكما، وأيّا ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بفرق ذوي غرور وتماد في الكفر وقلة انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيمانا ضعيفا ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلا.

2. على احتمال أن يكون الضمير في‏ ﴿يَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: 210] لأهل الكتاب: أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله: ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذ أشد، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان‏ المناسب لهم أن يبادوا بالإيمان بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة.

3. ﴿سَلْ﴾ أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفا بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقا لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجتلاب همزة الوصل، وقيل: سل أمر من سأل الذي جعلت همزته ألفا مثل الأمر من خاف يخاف خف، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضيا وأمرا؛ إلّا أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالبا.

4. المأمور بالسؤال هو الرسول؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله؛ إذ لا يعبئون بسؤال غيره؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع، ولفظ السؤال يجيء لما تجيء له أدوات الاستفهام، والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجيء من هذا التقرير التقريع فليس المقصود تصريحهم بالإقرار؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار.

5. المراد بـ ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الحاضرون من اليهود، والضمير في‏ ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ لهم، والمقصود إيتاء سلفهم؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم، ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آيات رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة.

6. ﴿كَمْ﴾ اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام ويكون للإخبار، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم؛ ولذلك تحتاج إلى مميز في الاستفهام وفي الإخبار، وهي هنا استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسئول عنه هو عدد الآيات، وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كسا أي ليس أصل مفعوليه مبتدأ وخبرا.

7. جملة ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ لا تكون مفعوله الثاني؛ إذ ليس الاستفهام مطلوبا بل هو عين الطلب، ففعل‏ ﴿سَلْ﴾ معلّق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام، وجملة ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ في موقع المفعول الثاني سادة مسده، والتعليق يكثر في الكلام في أفعال العلم والظن إذا جاء بعد الأفعال استفهام أو نفي أو لام ابتداء أو لام قسم، وألحق بأفعال العلم والظن ما قارب معناها من الأفعال، قال‏ في (التسهيل): (ويشاركهن فيه (أي في التعليق) مع الاستفهام، نظر وتفكّر وأبصر وسأل)، وذلك كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الذاريات: 12] ولما أخذ سأل هنا مفعوله الأول فقد علق عن المفعول الثاني، فإن سبب التعليق هو أن مضمون الكلام الواقع بعد الحرف الموجب للتعليق ليس حالة من حالات المفعول الأول فلا يصلح لأن يكون مفعولا ثانيا للفعل الطالب مفعولين، قال سيبويه (لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض فلا يكون إلّا مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله)، وذلك سبب لفظي مانع من تسلط العامل على معموله لفظا، وإن كان لم يزل عاملا فيه معنى وتقديرا، فكانت الجملة باقية في محل المعمول، وأداة الاستفهام من بين بقية موجبات التعليق أقوى في إبعادها معنى ما بعدها عن العامل الذي يطلبه، لأن الكلام معها استفهام ليس من الخبر في شيء، إلّا أن ما تحدثه أداة الاستفهام من معنى الاستعلام هو معنى طارئ في الكلام غير مقصود بالذات بل هو قد ضعف بوقوعه بعد عامل خبري فصار الاستفهام صوريا، فلذلك لم يبطل عمل العامل إلّا لفظا، فقولك: علمت هل قام زيد قد دل علم على أن ما بعده محقق فصار الاستفهام صوريا وصار التعليق دليلا على ذلك، ولو كان الاستفهام باقيا على أصله لما صح كون جملته معمولة للعامل المعلّق، قال الرضي: (إن أداة الاستفهام بعد العلم ليست مفيدة لاستفهام المتكلم بها للزوم التناقض بين علمت وأزيد قائم بل هي لمجرد الاستفهام والمعنى علمت الذي يستفهم الناس عنه)، فيجيء من كلامه أن قولك علمت أزيد قائم يقوله: من علم شيئا يجهله الناس أو يعتنون بعلمه، بخلاف قولك علمت زيدا قائما، وقد يكون الاستفهام الوارد بعد السؤال حكاية للفظ السؤال فتكون جملة الاستفهام بيانا لجملة السؤال قال صدر الأفاضل في قول الحريري (سألناه أنّى اهتديت إلينا) أي سألناه هذا السؤال، وهو يتأتى في هذه الآية، ويجوز أن يضمن سل معنى القول، أي فيكون مفعوله الثاني كلاما فقد أعطي سل مفعولين: أحدهما مناسب لمعنى لفظه والآخر مناسب لمعنى المضمّن.

8. جوّز التفتازاني في (شرح الكشاف) أن جملة ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ بيان للمقصود من السؤال، أي سلهم جواب هذا السؤال، قال السلكوتي في (حاشية المطول): فتكون الجملة واقعة موقع المفعول، أي ولا تعليق في الفعل، وجوز الزمخشري أن تكون (كم) خبرية، أي فتكون ابتداء كلام وقد قطع‏ فعل السؤال عن متعلّقه اختصارا لما دل عليه ما بعده، أي سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله، فبذلك حصل التقريع، ويكون‏ ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ تدرجا في التقريع بقرينة ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، ولبعد كونها خبرية أنكره أبو حيان على الزمخشري وقال إنه يفضي إلى اقتطاع الجملة التي فيها ﴿كَمْ﴾ عن جملة السؤال مع أن المقصود السؤال عن النعم.

9. ﴿مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ تمييز (كم) دخلت عليه من التي ينتصب تمييز كم الاستفهاميّة على معناها والتي يجر تمييز كم الخبرية بتقديرها ظهرت في بعض المواضع تصريحا بالمقدّر، لأن كل حرف ينصب مضمرا يجوز ظهوره إلّا في مواضع مثل إضمار أن بعد حتى، قال الرضي: (إذا فصل بين كم الخبرية والاستفهامية وبين مميزهما بفعل متعد وجب جر التمييز بمن (أي ظاهرة) لئلا يلتبس التمييز بالمفعول نحو قوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الدخان: 25] و﴿و ﴿كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ [القصص: 58])، أي لئلا يلتبس بمفعول ذلك الفعل الفاصل، أو هو للتنبيه من أول الأمر على أنه تمييز لا مفعول إغاثة لفهم السامع وذلك من بلاغة العرب، وعندي أن موجب ظهور من في حالة الفصل هو بعد المميّز عن المميّز لا غير، وقيل: ظهور (من) واجب مع الفصل بالفعل المتعدي، وجائز مع الفصل بغيره، كما تقل عبد الحكيم عن اليمني والتفتازانيّ في (شرحي الكشاف)، وفي (الكافية) أن ظهور (من) في مميز (كم) الخبرية والاستفهامية جائز هكذا أطلقه ابن الحاجب، لكن الرضي قال إنه لم يعثر على شاهد عليه في (كم) الاستفهامية إلّا مع الفصل بالفعل وأما في كم الخبرية فظهور (من) موجود بكثرة بدون الفصل، والظاهر أن ابن الحاجب لم يعبأ بخصوص الأمثلة التي ذكرها الرضي، وإنما اعتد بظهور (من) في المميز وهو الظاهر.

10. (الآية) هنا المعجزة ودليل صدق الرسل، أو الكلمات الدالة على مجيء محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فإنها آية لموسى؛ إذ أخبر بها قبل قرون، وآية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، إذ كان التبشير به قبل وجوده بقرون، ووصفها بالبينة على الاحتمالين مبالغة في الصفة من فعل بان أي ظهر، فيكون الظهور ظهور العيان على الوجه الأول، وظهور الدلالة على الوجه الثاني، وفي هذا السؤال وصيغته حذف دل عليه قوله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ تقديره فبدّلوها ولم يعملوا بها.

11. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ تذييل لجملة ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾ إلخ، أفاد أأن المقصود أولا من هذا الوعيد هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلّا لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثله في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازا بديعا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معا؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب، لأن من يبدّل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما جامعا يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلّا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.

12. إنما أثبت للآيات أنها نعم لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعما لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [التوبة: 124] وبذلك التصديق يحصل تلقى الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وآجلة، وإن كانت الآيات الكلام الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثة الرسول لئلا يترددوا في صدقه بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها.

13. التبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها، إذ صارت بالإعراض سبب شقاوتهم في الدنيا والآخرة، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيرا لهم في الدنيا؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض؛ لأنهما يزيدانهم تعمدا لارتكاب الشرور، وفي الآخرة أيضا لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهور المعجزة، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلّا لتفضيل أمته فتوكئوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]

14. التبديل جعل شيء بدلا عن آخر، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات‏ وتعويض وصف بوصف كقول أبي الشيص:

بدّلت من برد الشباب ملاءة...خلقا وبئس مثوبة المقتاض‏

فإنه أراد تبدل حالة الشباب بحالة الشيب، وكقول النابغة:

عهدت بها حيّا كراما فبدّلت‏...حناظيل آجال النّعاج الجوافل‏

15. ليس قوله: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير بأن يكون الأصل ومن يبدلها أي الآيات فإن الله شديد العقاب لظهور أن في لفظ (نعمة الله) معنى جامعا للآيات وغيرها من النعم.

16. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن، لأنها من لوازم المجيء عرفا، وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]، وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل، والعقاب ناشئ عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها، ولا يكون تبديلها إلّا لقصد مخالفتها، وإلّا لكان غير تبديل بل تأييدا وتأويلا، بخلاف قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: 28] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها: ﴿وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا﴾ [إبراهيم: 30]

17. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ دليل جواب الشرط وهو علته، لأن جعل هذا الحكم العام جوابا للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذكره لم يقصد منه الفائدة لأنها معلومة بل التهديد، فعلم أن المقصود تهديد المبدّل فدل على معنى: فالله يعاقبه، لأن الله شديد العقاب، ومعنى شدة عقابه: أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب، وقد جوّز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفس جواب الشرط بجعل أل في العقاب عوضا عن الضمير المضاف إليه أي شديد معاقبته.

18. إظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال‏ الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمي عقابا لأنه يعقب الجناية.

19. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصدا وتعريضا من قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210]، والمحتج عليهم بقوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: 211] استئنافا لبيان خلقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله إلى الاستمرار على الكفر وشعبه التي سبق الحديث عنها، فعن ابن عباس المراد: رؤساء قريش، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: 211] الآية.

20. ليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب من معلن ومنافق كما روي عن مقاتل، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا، لأنهم من بني إسرائيل، ولأن قوله: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يناسب حال المشركين لا حال أهل الكتاب كما سيأتي.

21. التزيين: جعل الشيء زينا أو الاحتجاج لكونه زينا، لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية، والزّين شدة الحسن.

22. الحياة الدنيا مراد بها ما تشتمل عليه الحياة من اللّذّات والملائمات والذوات الحسنة، وهذا إطلاق مشهور للحياة وما يرادفها؛ ففي الحديث: (من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها) أي إلى منافع دنيا، وهو على حذف مضاف اشتهر حذفه.

23. معنى تزيين الحياة لهم، إما أن ما خلق زينا في الدنيا قد تمكّن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه، لأن الأشياء الزّينة هي حسنة في أعين جميع الناس فلا يختص الذين كفروا بجعلها لهم زينة كما هو مقتضى قوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ فإن اللام تشعر بالاختصاص، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسّن ما ليس بالحسن كالأقيسة الشّعرية والخواطر الشهوية، والمزيّن على المعنى الأول هو الله تعالى إلّا أنهم أفرطوا في الإقبال على الزينة، والمزيّن على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته.

24. حذف فاعل التزيين لأن المزيّن لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعدّ فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة.

25. يجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته، إذ المزيّن لهم الدنيا أمر خفي فيحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافس أو التقليد حتى عموا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذّات أو من الأضرار المختصة المغشّاة بتحسين العادات الذميمة، وحملهم على الدوام عليه ضعف العزائم الناشئ عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربّت الأديان فيهم عزيمة مقاومة دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذمات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة، فلذلك لم تزين الدنيا لهم، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهره من الإضرار والقبائح انقلب زينه عنده شينا، خص التزيين بهم، إذ المراد من قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ذمّهم والتحذير من خلقهم، ولهذا لزم حمل التزيين على تزيين يعد ذما، فلزم أن يكون المراد منه تزيينا مشوبا بما يجعل تلك الزينة مذمة، وإلّا فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زين أمر ليس بمذموم إذا روعي فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]

26. استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع:

أ. الأول ما ليس بزين أصلا لا ذاتا ولا صفة، لأن جميعه ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية وتخييلات شعرية كالخمر.

ب. الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضرا وأذى كالزنا.

ج. الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميما كنجدة الظالم.

27. حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة:

ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي‏

فمنهن سبقي العاذلات بشربة... كميت متى ما تعل بالماء تزبد

وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب... ببهكنة تحت الخباء المعمّد

وكرّي إذا نادى المضاف مجنّبا... كسيد الغضا نبّهته المتورّد

28. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عطف على جملة ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيرا من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث.

29. السخر بفتحتين: كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفا وفعله كفرح والسّخرية الاسم، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عجب، ويتعدى بمن جارّة لصاحب الحال المتعجّب منها فهي ابتدائية ابتداء معنويا، وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة.

30. وجه سخريتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفنوهم في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها كما قال الشاعر (أنشده شمر):

وأحمق ممن يلعق الماء قال لي... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرّد

فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم ولذلك يصح جعل الواو للحال ليفيد تقييد حالة التزيين بحالة السخرية، فتتلازم الحالان ويقدر للجملة مبتدأ، أي وهم يسخرون، وقد قيل إن من جملة من كان الكفار يسخرون منهم بلالا وعمارا وصهيبا يقولون: هؤلاء المساكين تركوا الدنيا وطيباتها وتحملوا المشاق لطلب ما يسمونه بالآخرة وهي شيء باطل، وممن كان يسخر بهم عبد الله بن أبيّ والمنافقون.

31. جيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاء لحقي الدلالة على أن معنيين فعل التزيين أمر مستقر فيهم؛ لأن الماضي يدل على التحقق، وأن معنى يَسْخَرُونَ متكرر متجدد منهم؛ لأن المضارع يفيد التجدد ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضا مستمر؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره، ويعلم أن ما كان مستمرا هو أيضا محقق؛ لأن الفعل لا يستمر إلّا وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه، فيكون المعنى في الآية: زيّن للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثارا لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق، ليدل على ملكة واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم، إذ لا يليق بذي المروءة السخرية بغيره، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام، لأن الشيء المستمر لا يكون إلّا متحققا.

32. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذبا وتلفيقا كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمدا أثنى على آلهتهم، فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لقصد التنبيه على مزية التقوي وكونها سببا عظيما في هذه الفوقية، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا، وينبه المؤمنين على وجوب التقوي لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دوما بين شدة الخوف وقليل الرجاء، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.

33. الفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة المفضول والمسخّر والمملوك، وقيدت بيوم القيامة تنصيصا على دوامها، لأن ذلك‏ اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية.

34. سؤال وإشكال: كيفما كان حظ المؤمنين من كثرة التقوي وقلتها إنهم فوق الذين كفروا يوم القيامة بالإيمان والمقام مقام التنويه بفضل المؤمنين فكان الأحق بالذكر هنا وصف ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، والجواب: أما بيان مزية التقوي الذي ذكرته فله مناسبات أخرى، ففي الآية تعريض بأن غير المتقين لا تظهر مزيتهم يوم القيامة وإنما تظهر بعد ذلك، لأن يوم القيامة هو مبدأ أيام الجزاء فغير المتقين لا تظهر لهم التفوق يومئذ، ولا يدركه الكفار بالحس قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24] نعم تظهر مزيتهم بعد انقضاء ما قدّر لهم من العذاب على الذنوب.

35. روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في سادة قريش بمكة سخروا من فقراء المؤمنين وضعفائهم فأعلمهم الله أن فقراء المؤمنين خير منهم عند الله، ووعد الله الفقراء بالرزق، وفي قوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ تعريض بتهديد المشركين بقطع الرزق عنهم وزوال حظوتهم.

36. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطا بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفا تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضل الله لا نهاية له، ولأن من سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم.

37. الحساب هنا حصر المقدار فنفي الحساب نفي لعلم مقدار الرزق، وقد شاعت هذه الكناية في كلام العرب كما شاع عندهم أن يقولوا يعدّون بالأصابع ويحيط بها العد كناية عن القلّة ومنه قولهم شيء لا يحصى ولذلك صح أن ينفى الحساب هنا عن أمر لا يعقل حسابه وهو الفوقية وقال قيس بن الخطيم:

ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه... في النّوم غير مصرّد محسوب‏

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/272.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ وإذا كان المشركون قد كفروا مع البينات وطلبوا ملائكة ينزلون من السماء، أو كتابا في قرطاس يقرؤونه، فليس ذلك لنقص في الدليل؛ أو لأنه عقلي ويريدون حسيا؛ بل الكفر غشاوة تكون على قلب الكافر تجعله ينكر الحق، ولو كان مع الحق ألف دليل؛ وهذا أمر بنى إسرائيل: نزلت عليهم عدة آيات، ومع ذلك قالوا أرنا الله جهرة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ سل الحاضرين منهم أو استقر أخبار السابقين وسل تاريخهم.

2. ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ من معجزة واضحة مثبتة إثباتا لا مجال للشك فيه، ولا إثارة الريب حوله؛ فيد موسى تنقلب بيضاء من غير سوء، وعصاه تنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فتفلقه اثنى عشر طريقا، وتضرب الحجر فينبجس منه اثنتا عشرة عينا، وتظلهم الغمام في الحر، وينزل عليهم المن والسلوى؛ ومع كل هذه الآيات البينات قالوا: أرنا الله جهرة، ومنهم من كفر وعبد العجل؛ فقوة الدليل لا تحمل الجاحد على الإيمان، ومن كفر لا يكفر عن نقص في الدليل، ولكن عن فساد في الفكر، بسبب غشاوة على القلب وضلال في النفس؛ وقوة الدليل مع هذه الحال لا تزيده إلا عنادا وإصرارا.

3. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ نعمة الله هنا عامة تشمل نعمه الظاهرة والباطنة؛ فتشمل نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، كما تشمل نعمة العقل، ونعمة الهداية بإرسال الرسل وإقامة الأدلة على رسالتهم؛ ومن يبدل هذه النعم السابغة فيجعلها حجة عليه تؤدى إلى العقاب، فلا يبذل جهده في مرضاة الله، بل في معصيته، ولا يبذل ماله في النفع بل في الضرر، ولا يبذل جاهه لإعانة الضعيف، بل لحيف الشريف؛ ولا يعمل عقله ليصل إلى الحق، بل ليضل نفسه؛ ولا يقبل الهداية بل يردها؛ ومن يبدل نعمة الله ذلك التبديل، فإنه سبحانه وتعالى سيعاقبه لا محالة؛ ولذلك قال‏ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ والكلام فيه حذف، إذ حذف السبب، اكتفاء بذكر المسبب، كما تذكر المقدمة ولا تذكر النتيجة لأنها مفهومة ضمنا؛ والمعنى: من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدا، لأنه سبحانه شديد العقاب، كما أنه عفو غفور، تواب رحيم.

4. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله، وقد كثرت البينات، وقامت الدلائل القاطعة، بين السبب في غشيان الضلال قلوبهم؛ وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه، وحسبوا أن لا بعث ولا نشور، وأنكروا ذلك إنكارا تاما؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان؛ ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه، وحسب ونسب، لا بمقدار الحق في ذاته؛ ولم يعلموا أن الله لا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال‏؛ ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا: أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان؟ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يستهزءون بالذين آمنوا، ولقد قال عطاء في هذه الآية: نزلت في المنافقين: عبد الله ابن أبى وأصحابه، كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم، وإن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا؛ فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة.

5. ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ﴾ الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا؛ ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بل قد يكون‏ محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة، والجزاء على الأعمال لا على الأموال، وعلى القلوب لا على الأحساب، وعلى التقوي لا على الأنساب؛ ولذلك قال سبحانه:

6. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، يعطى من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحاسبه، وليس عطاؤه دليل رضاه، فقد يعطى الكافر، وهو غير راض عنه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف‏] والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله، مؤمنا كان أو كافرا، ومن تنكب الطريق، لم يرزقه الله، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.

7. الخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لا بأعمالهم، وبمظاهرهم لا بنفعهم، روى أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لرجل جالس عنده: (ما رأيك في هذا)؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حرى إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله؛ ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما رأيك في هذا)؟ فقال: يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حرى إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)

8. المال هو الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس، وتقطع به الأواصر، ولو قدره الناس حق قدره، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير، وحسب الغنى أن المال عبء عليه، وأنه ظل زائل، وعرض حائل؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك‏ إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس) والله سبحانه مالك الملك ذو الجلال والإكرام.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/658.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، ليس المقصود من قوله: سل بني إسرائيل السؤال على الحقيقة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يعلم أحوالهم، ولا المقصود الحكاية عما كانوا عليه، كما هو الشأن في الآيات السابقة 49 وما بعدها، وإنما القصد أن يعتبر المسلمون ويتعظوا بحال بني إسرائيل، ووجه العظة ان بني‏ إسرائيل قد جاءتهم الرسل بالمعجزات والبينات، واليد البيضاء، وقلب العصا حية، وفلق البحر وتظليل الغمام وانزال المنّ والسلوى ونتق الجبل، ومع ذلك عصوا وخالفوا، فعاقبهم الله بالمذلة والهوان في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، والمسلمون قد جاءهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات والبينات الدالة على صدقه في نبوته، وصحة شريعته، وبلغهم عن الله سبحانه أن يدخلوا في السلم كافة لأن فيه خيرهم وصلاحهم، فان أعرضوا وعصوا كما أعرض وعصى بنو إسرائيل يصبهم ما أصاب الاسرائيليين من قبل.

2. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، المراد بنعمة الله هنا الدلائل على الحق، فإنها من أعظم النعم، لأن فيها الهداية والرشاد، والنجاة من الهلاك والضلالة، والمراد بتبديلها تحريفها وعصيانها.. فقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾، تماما كقوله: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، كقوله: فان الله عزيز حكيم، فالمعنى واحد، والغرض واحد.

3. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، لا فرق إطلاقا بين من يكفر بوجود الله، وبين من يؤمن به نظريا، ويؤثر دنياه على آخرته عمليا، لا فرق أبدا بين الاثنين من حيث ان كلا منهما قد فتن بالدنيا وزخرفها، وآثر العاجلة على الآجلة، وقاس الخير والفضيلة بمقياس منفعته الشخصية، ولم يقم وزنا لحرمات الله، ولا للقيم الانسانية.. واني كلما تقدمت وتوغلت في تفسير القرآن، وتعمقت في تدبّر آياته ازددت يقينا بأن الايمان بالله بلا تقوى ليس بشيء، وان من جعل الدنيا كل همه ينصرف كلية عن شريعة الحق والدين من حيث يريد، أو لا يريد، والنتيجة الختمية لهاتين المقدمتين ان من كفر بالله، وآمن به سواء ما دام هذا (المؤمن) يؤثر دنياه على دينه، ولا يقيم له وزنا في شيء من أقواله وأفعاله، وقد تواتر عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا والآخرة ضرتان) أي ان الاهتمام بإحداهما يصرف الإنسان عن الآخرى قهرا، وقال الإمام علي عليه السلام: ان الدنيا والآخرة عدوتان متفاوتتان وسبيلان مختلفتان، فمن أحب الدنيا وتولاها ابغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماش بينهما؛ كلما اقترب من واحدة ابتعد عن الآخرى.

4. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، طبيعي أن يسخر الذين يتخذون آيات الله وأحكامه هزوا، ويستحلون الدم الحرام، والمال الحرام ـ طبيعي أن يسخر هؤلاء ممن يكف عن محارم الله، ويتحمل المشاق من أجل مرضاته، طبيعي أن يسخر من لا يعمل الا لهذه الحياة ممن يعمل لها ولما بعد الموت.

5. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، قال والذين اتقوا، ولم يقل: والذين آمنوا، لأن الإيمان بلا تقوى ليس بشيء كما بينّا، والمعنى واضح، وهو ان الكافرين إذا سخروا من المؤمنين الآن، فستنعكس الآية غدا، ويسخر هؤلاء من أولئك.. قال جل جلاله: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.. ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾

6. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، الرزق رزقان: رزق الدنيا، ورزق الآخرة، ورزق الدنيا معلوم، ورزق الآخرة هو النعيم الذي لا انقطاع له، ولا تشوبه شائبة من حزن أو خوف ولا يناله أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أما رزق الدنيا فيناله الكافر والمؤمن والبر والفاجر بسعي وغير سعي، كالإرث والهبة والوصية، وما اليها، وأيضا يناله عن طريق جائز، وغير جائز، كالسلب والنهب، والغش والاحتيال.

7. نقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه قال عند تفسير هذه الآية ما يتلخص بأن الرزق بغير سعي قد يحصل لبعض الأفراد، أما الأمة فمحال أن تكون غنية عزيزة إلا بالسعي والعمل.. وهذا حق ثابت بالعيان والبديهة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/314.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ﴾ الآية تثبيت وتأكيد واشتمل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، الآية من الوعيد بأخذ المخالفين أخذ عزيز مقتدر، يقول: هذه بنو إسرائيل في مرءاكم ومنظركم وهي الأمة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على العالمين، سلهم كم آتيناهم من آية بينة؟ وانظر في أمرهم من أين بدؤوا وإلى أين كان مصيرهم؟ حرفوا الكلم عن مواضعه، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند أنفسهم بغيا بعد العلم، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الأنداد، والاختلاف وتشتت الآراء، وأكل بعضهم بعضا، وذهاب السؤدد، وفناء السعادة، وعذاب الذلة والمسكنة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

2. وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه: من يبدل نعمة وأخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه، والله شديد العقاب، وعلى هذا فقوله: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ إلى قوله‏ ﴿الْعِقَابِ﴾ من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم، سنة جارية.

3. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، في موضع التعليل لما مر، وأن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فإنها إذا زينت لإنسان دعته إلى هوى النفس وشهواتها، وأنست كل حق وحقيقة، فلا يريد الإنسان إلا نيلها: من جاه ومقام ومال وزينة، فلا يلبث دون أن يستخدم كل شيء لأجلها وفي سبيلها، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء وما يلائم سؤددهم ورئاستهم، وتقرب التبعة والمقلدة المرؤوسين وما يجلب به تمايل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، وكنا شاهدناه في بني إسرائيل من قبل، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من أن يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الإيمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب.

4. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إلخ، تبديل الإيمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الإيمان لا ينفع وحده لولا العمل‏.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/110.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ فهم لا يجحدون تلك الآيات البينات المذكورة في أول السورة، ولا يخفى عليهم أنه آتاهم في التوراة آيات كثيرة تهديهم إلى الحق لو اتبعوها، وكل الآيات نعمة من الله عليهم؛ لأنها تدلهم على الخير والسلامة من العذاب.

2. ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وهذا إنذار لبني إسرائيل الذين بدلوا آيات الله التي في التوراة بما يفترونه كما تقدم.

3. ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ لغفلتهم عن دلائل الإيمان بالآخرة وعدم إيمانهم بها، فليس لهم ما يزهدهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم لا يرونها متاع الغرور، ولا يزهّدهم فيها خوف من النار ولا رغبة في الجنة.

4. ﴿وَ﴾ لذلك ﴿يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ لضعف حالهم من ناحية المال والزينة وإقبالهم على العمل للآخرة ﴿وَالَّذِينَ﴾ آمنوا و﴿اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ حين تنقلب الحال بإعزاز أولياء الله ورفع درجاتهم وإهانة أعداء الله عزّ وجل.

5. ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ لئلا يتوهم أن التصديق بلا تقوى يكفي أو لأن الذين اتقوا مطابق للذين آمنوا؛ لأن الإيمان الصحيح هو إيمان المتقين، فأتى بذكرهم لإفادة هذه الفائدة من حيث أقام الذين اتقوا مقام كلمة الذين آمنوا، وهذا الوجه أظهر.

6. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قوله تعالى: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ دليل على أن ما بأيدي الكفار من نعمة الله لم يكن إلاَّ بمشيئة الله اختباراً لهم، ليس كما يتوهمون من الحظ ويمن الطائر بحيث يقول المحظوظ: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا﴾ [الكهف:36] بناءً على أنه صاحب حظ وقبول، وجهله أن ذلك من الله بمشيئته.

7. في قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ دلالة على أن ما عند الله لا ينفد، فلا يحتاج إلى الحساب، إنما يحتاج إلى الحساب من يخشى نفاد ما عنده، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه يرزق من يشاء، فالأمر فيها لله وحده وسيرزق الذين اتقوا بغير حساب؛ لأنه لا ينفد ما عنده، ولأن نعيمهم لا ينفد فالآية شاملة للفريقين.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/310.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قد يكون الحديث عن المستقبل في واقع هؤلاء الذين يتحدث الله عنهم بالزلل والانحراف، غير كاف في إبعادهم عن ضلالهم، فربما يكون للحديث عن الماضي ـ كتجربة حيّة للآخرين من موقع التجربة نفسها التي يعيشها هؤلاء ـ بعض الأثر، فقد كان تاريخ بني إسرائيل ماثلا أمام الناس في كل ما واجههم من قضايا الكفر والإيمان مع أنبيائهم، وفي كل ما فعلوه ضد مسيرة النبوّة في تاريخهم القلق الدامي؛ فلعل هذه الآية أرادت أن تطلب من هؤلاء الناس، بأسلوب الطلب من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجلسوا إلى بقاياهم ويسألوهم، هل كان هناك نقص في البيّنات التي أنزلها الله عليهم!؟ وليس المراد به الاستفهام، بل المقصود هو تقرير الحقيقة من خلاله، فإن الله قد أرسل إليهم رسلا كثيرين بالحجج الواضحة، فكذبوا واستكبروا وواجهوا عقاب الله.

2. ثم تعطي الآية الإيحاء بأن البينة التي توضح للإنسان طريق الحق، هي من نعم الله التي أنعمها على الإنسان، وأراد منه أن ينسجم معها، ويستجيب لها، ولا يبدلها بالضلال في القول والعمل، فإنه إذا بدّل الحق الذي توحي به الحجة بالباطل الذي لا حجة عليه، فعليه أن ينتظر عقاب الله، فلا يستسلم للاسترخاء بالشعور برحمة الله، فإن الله شديد العقاب في موضع النكال والنقمة، كما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وربما تكون الإشارة إلى بني إسرائيل وتاريخهم المتمرد، لونا من ألوان الحديث عن خطوات الشيطان في إضلاله وفي إغوائه.

3. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ هؤلاء الذين يمثلون نموذجا من الأمم التي تعيش التمزق الروحي والاجتماعي والضلال الديني، ﴿كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ من البيّنات التي توضح لهم الحقيقة وتقودهم إلى الإيمان؟ وتلك هي النعمة التي ينبغي لهم أن يشكروها، وينفتحوا على الله من خلالها، فلا يكفروها، ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ في الإيمان‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ في وحي الله وفي حركة الرسل؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ في الدنيا من خلال السنّة التاريخية التي تربط النتيجة بالمقدمات، فالكفر بنعمة الإيمان يجتذب النتائج السلبية على واقع الإنسان، لأنه يبتعد به عن الخط المستقيم الذي يؤدي إلى الخير والسعادة والاطمئنان، وذلك من خلال ما أودعه الله في الحياة الإنسانية من سننه التاريخية التي لا بد للناس من أن يأخذوا بها ليتعرفوا من منهج الحياة في ما يقبلون عليه من خير أو شرّ، وهو شديد العقاب في الآخرة جزاء على كفرهم بالحق لما جاءهم، وانحرافهم عما يفرضه عليهم في سلوكهم في أنفسهم وفي واقع الناس ومع الله.

4. في موقف المؤمنين والكافرين في هذه الحياة ظاهرة بارزة، وهي طغيان الكافرين واستسلامهم للحياة الدنيا بما زيّن لهم من شهواتها ورغباتها وطيباتها، ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بالمستوى الذي يشعرون معه أنهم يملكون الأمر كله فيها، وبذلك تمتلئ قلوبهم بالكبر والشعور بالفوقية تجاه غيرهم من الذين يعيشونه الحياة من خلال قيمها ومبادئها وارتباطها بالله.. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويتحول هذا الشعور إلى سخرية من المؤمنين في ما يفعلون وما يقولون وما يواجهونه من تضحيات لحساب إيمانهم، وفي ما يقدمونه من جهد كبير في سبيل الله لا يريدون به جزاء ولا شكورا، فيخيل إليهم أن ذلك كله مظهر سذاجة وغفلة، لأنهم لا يفهمون معنى التضحية في سبيل الله، لأنهم لا يعرفون معنى ثواب الله.

5. ربما يحدث من خلال ذلك حالة ضعف نفسية لدى المؤمنين لما يواجهونه من واقع الفوقية والدونية بين الكافرين وبينهم؛ فيوحي الله إليهم أن قضية الدونية والفوقية ليست شيئا مهما في ما تمثله قيم الحياة، لأنّ ذلك عرض زائل لا بقاء له، فلا يوجب ارتفاع الإنسان فيه رفعة حقيقية، ولا اتضاعه ضعة حقيقية، بل المهم كله هو الرفعة في الدار الآخرة التي يمنحها الله للمؤمنين، لأنها من الله، وما كان منه، فهو الخير كله والمجد كله، وعلى هذا الأساس، ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فإن الله عندما يجعل المؤمنين فوق الكافرين يوم القيامة، فإنه يجعل لهم كل القيمة الكبرى التي يرتفعون بها إلى أعلى الدرجات، فلا يضعف المؤمنون ولا يستسلمون للشعور أمام الاضطهاد، بل ينبغي لهم أن يفكروا بما أعد الله لهم من ثواب وعقاب، فإن‏ ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، لأن الأمر بيده في ما يعطي أو يمنع، وهو وليّ المؤمنين.

6. جاء في تفسير الميزان حمل كلمة ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ على الأعم من الكافرين بالكفر الاصطلاحي، وهو الكفر بالله، أو الكفر المطلق، في مقابل الإيمان المطلق بحيث يعدّ الانحراف عن كل حقيقة من الحقائق الدينية من تفاصيل العقيدة، أو تغيير أية نعمة دينية، كفرا، وذلك من جهة ظهور كلمة (الكفر) بالستر الذي يعم المعنيين؛ ولذلك اعتبر من مصاديق هذه الآية المؤمنين بالله الذين زينت لهم الحياة الدنيا فدعتهم إلى اتباع هوى النفس وشهواتها، وأنستهم كل حق وحقيقة، فلا يريد الإنسان إلا نيلها، من جاه ومقام ومال وزينة، فلا يلبث دون أن يستخدم كل شيء لأجلها وفي سبيلها، ومن ذلك الدين، فيأخذ الدين، وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعيّنات، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء وما يلائم سؤددهم ورئاستهم، وتقرب التبعة والمقلدة المرؤوسين، وما يجلب به تماثل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، وكما شاهدناه في بني إسرائيل من قبل‏.

7. نلاحظ على ذلك، أن الكلمة قد تكون ظاهرة في الستر بحسب المعنى اللغوي، ولكنها ظاهرة في السياق القرآني، كما هي في الاستعمالات العرفية، بالكفر المصطلح، ولا سيما في الآيات التي يذكر فيها ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في مقابل‏ ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ فإنها واضحة الدلالة على الكفر الذي يقابل الإيمان من ناحية المبدأ، وإذا كانت بعض آيات القرآن ظاهرة في ما يشمل الكفر ببعض الحقائق الدينية أو الانحراف العملي عنها، فإنها جاءت، ـ والله العالم ـ على سبيل المجاز، لتنزيل الكفر بالحقيقة الدينية الخاصة أو الانحراف السلوكي عنها منزلة الكفر بالمبدأ؛ لأن من آمن بشيء، فلا بد من أن يؤمن بكل تفاصيله ويلتزم بكل التزاماته.. وهذا مما يحتاج إلى قرينة تدل عليه بشكل خاص أو من خلال السياق العام، وهي غير موجودة في هذه الآية، إن لم يكن الظهور على خلافها.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/137.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي الآية(1):

1. ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات الله وبراهينه الواضحة ويتذرّعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾، ولكنّهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهيّة والنعم الربانية في أساليب مذمومة ومنحرفة، ثمّ تقول الآية ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

2. المراد من (تبديل النعمة) هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر الماديّة والمعنويّة الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي وممارسة الظلم والطغيان، فقد وهب الله سبحانه وتعالى مواهب كثيرة لبني إسرائيل من قبيل الأنبياء والقادة الشجعان والإمكانات الماديّة الكثيرة، ولكنّهم لم ينتفعوا من أنبياءهم الإلهيّين، ولا استفادوا من المواهب الماديّة استفادة صحيحة، وبهذا ارتكبوا معصية تبديل النّعمة ممّا سبّب لهم أنواع العذاب الدنيوي، كالتيه في الصحراء وكذلك العذاب الاخروي الأليم.

3. عبارة ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ في الحقيقة تستهدف كسب الاعتراف منهم بشأن النعم الإلهيّة، ثمّ التفكير بالسّبب الّذي أدّى بهم إلى الهاوية والتمزّق مع كلّ هذه الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكلّ من لا ينتفع بالمواهب الإلهيّة بصورة سليمة.

4. لا تنحصر مسألة تبديل النّعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل، بل أنّ جميع الأقوام والشّعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي الشديد في الدنيا وفي الآخرة، فالعالم المتطوّر صناعيّا يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفورا لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صورا شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهيّة للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجلّ بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الآخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكانا غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كلّ ناحية.

5. (نعمة الله) في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهيّة وتبديلها يعني تحريفها، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كلّ الإمكانات والمواهب الإلهيّة، والمعنى الثاني أرجح.

6. نزول قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ طبقا للرّواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكمّلة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كليّة، تقول الآية ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ولذلك أفقدهم الغرور والتكبّر شعورهم.

7. ﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في حين أنّ المؤمنين والمتّقين في أعلى عليّين في الجنّة، وهؤلاء في دركات الجحيم‏ ﴿وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، لأنّ المقامات المعنويّة تتّخذ صور عينيّة في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السّماء، وليس ذلك بعجيب‏.

8. ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ هذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين، وهناك احتمال آخر أيضا وهو أنّ الجملة الأخيرة تشير إلى أنّ الله تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب، وذلك بتقدّم الإسلام واتّساعه حيث تحقّق هذا الوعد الإلهي، وكون ذلك الرّزق الإلهي بدون حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهيّة ليست بمقدار أعمالنا إطلاقا، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليست لهما حدود ونهاية.

9. الحياة الماديّة في منظار الكافرين ـ الّذين لا يتّعدى أفق تفكيرهم إطار العالم المادّي ـ جميلة وجذّابة ومعيار تقويم كلّ شيء، ومن هنا فإنّهم ينظرون بفكرهم الضيّق إلى الفقراء نظرة تحقير واستهانة واستهزاء، ولا يقيمون وزنا للقيم المعنويّة والإنسانيّة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/85.

91. الناس والأنبياء والكتاب والبغاة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈91⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213 ـ 214]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

أبيّ:

روي عن أبيّ بن كعب (ت 22 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾، يعني: بني إسرائيل، أوتوا الكتاب والعلم، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُم﴾ يقول: بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض، فضرب بعضهم رقاب بعض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ الآية، كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم، ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم.. وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب بعد الاختلاف(2).

3. روي أنّه قال: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف؛ أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة؛ على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، وأن رسلهم بلغتهم، وأنهم كذبوا رسلهم(3).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٧.

(2) ابن جرير: ٣/٦٢٤.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٨.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم؛ لأنهم خرجوا بغير مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق؛ فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم﴾ الآية(1).

__________

(1) تفسير الثعلبي: ٢/١٣٥.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1.روي أنّه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ وكذلك في قراءة عبد الله: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا)(1).

2.روي أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على الإسلام كلهم(2).

3.روي أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ كفارا(3).

4.روي أنّه قال: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفارا كلهم، فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين(4).

__________

(1) البزار: ٢١٩٠ ـ كشف.

(2) أبو يعلى: ٢٦٠٦.

(3) ابن جرير: ٣/٦٢٥.

(4) تفسير الثعلبي: ٢/١٣٣.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، يقال: فنشر من آدم الناس، فبعث فيهم النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحده(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٢٣.

البصري:

روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: وذلك أن الله وعدهم النصر والظهور، فاستبطئوا ذلك؛ لما وصل إليهم من الشدة، فأخبر الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن من مضى قبلكم من الأنبياء والمؤمنين كان إذا بلغ البلاء منهم هذا عجلت لهم نصري؛ فإذا ابتليتم أنتم بذلك أيضا فأبشروا؛ فإن نصري قريب(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٦.

الباقر:

روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ كانوا ضلالا، فبعث الله فيهم أنبياء، ولو سألت الناس لقالوا: قد فرغ من الأمر(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/104.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك؛ فبعث الله نوحا، وكان أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبعث عند الاختلاف من الناس وترك الحق، فبعث الله رسله، وأنزل كتابه يحتج به على خلقه(1).

2. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ خيرهم وأصبرهم وأعلمهم بالله: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، فهذا هو البلاء، والنقص الشديد، ابتلى الله به الأنبياء والمؤمنين قبلكم؛ ليعلم أهل طاعته من أهل معصيته(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٢٥.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يريد به آدم صلى الله عليه، والأمّة: الملّة،(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 98.

ابن أسلم:

روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ فاختلفوا في يوم الجمعة؛ فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة، واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، وهدى الله أمة محمد للقبلة، واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم؛ فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله حنيفا مسلما، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى؛ فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٨.

الصادق:

روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾: (كان ذلك قبل نوح)، فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال (بل كانوا ضلالا، وذلك أنه لما انقرض آدم وصالح ذريته، بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته، وذلك أن قابيل توعده بالقتل، كما قتل أخاه هابيل، فسار فيهم بالتقية والكتمان، فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله، فبدا لله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا: قد فرغ من الأمر، وكذبوا، إنما شيء يحكم به الله في كل عام، ثم قرأ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ فيحكم الله تبارك وتعالى ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قيل: أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول إبراهيم: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ أي ناسيا للميثاق)(1).

__________

(1) تفسير العيّاشي: 1/104.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ وهو اليسع: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وهو حزقيا الملك حين حضر القتال ومن معه من المؤمنين: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، فقال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ يعني: سريع، وإن ميشا بن حزقيا قتل اليسع، واسمه أشعيا(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ يعني: أعطوا الكتاب ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني: البيان ﴿بَغْيًا بَيْنَهُم﴾ يقول: تفرقوا بغيا وحسدا بينهم(1).

3. روي أنّه قال: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ حين اختلفوا في القرآن: ﴿مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ يعني: التوحيد(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٢.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو خيرهم وأعلمهم بالله(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٣٨.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾:

أ. قال عبد الله بن مسعود: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مؤمنين كلهم زمن نوح، عليه السلام، الذين كانوا في السفينة إلى أن اختلفوا من بعد، فبعث الله فيهم النبيين.

ب. وقال بعضهم: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مؤمنين كلهم زمن آدم، صلّى الله عليه وآله وسلم، إلى أن أنزل الله الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل.

ج. ولو قيل بغير هذا كان أقرب.

2. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعنى صنفا واحدا، ومعنى الأمة معنى الصنف، كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: 38]، يعنى: أصنافا.

3. ثم خص الله تعالى صنفا ببعث الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلا لهم وإكراما، وبعث كل رسول إلى قومه فيهم كفار وفيهم مؤمنون؛ لأن الأرض لا تخلو من ولى أو نبيّ كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجاتهم، وهو قول الحسن، وكذلك قول أبى حنيفة: أن الأرض لا تخلو عن نبيّ أو ولى.

4. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ﴾ لمن أطاعه، ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ لمن عصاه، وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة عن الوقوع بما به يقعان مختلف؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11]، وقوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]

5. يحتمل قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ وجهين:

أ. يحتمل: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم، وهو كقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف: 12]، وقرأ بعضهم‏: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ بالياء.

ب. وقرأ آخرون: (لتحكم)، بالتاء، فمن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر، ومن قرأ بالتاء صير الرسول هو المنذر؛ فكذلك في هذا: ليحكم الكتاب بينهم بالحق، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق.

6. ﴿فِيهِ﴾ في قوله تعالى: ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل: ﴿فِيهِ﴾ في محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. ويحتمل: ﴿فِيهِ﴾ في دينه.

ج. ويحتمل: ﴿فِيهِ﴾ في كتابه.

7. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات والعلم، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع والكتب والخبر، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة لكنهم تعاندوا وكابروا وكفروا به بغيا.

8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾:

أ. قيل‏: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي حسدا بينهم.

ب. وقيل: (بغيَا بَينَهُمْ)، ظلمًا منهم، ظلموا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلم.

9. قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: أي هدى اللَّه الذين آمنوا، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا.

ب. ويحتمل: هدى اللَّه من أنصف ولم يعاند، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا.

10. ﴿بِإِذْنِهِ﴾، قيل: بأمره، وقيل: بفضله، لكن قوله: (بِإِذْنِهِ)، بأمره، لا يحتمل، ولكن (بِإِذْنِهِ)، أي: بمشيئته وإرادته.

11. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدي فاهتدى، ومن لم يشا أن يهتدي لم يهتد؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعًا أنه من شاء أن يهتدوا جميعًا، على ما يقوله المعتزلة، لكان يقول: واللَّه يهدي إلى صراط مستقيم، ولم يقل: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾، فدل قوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾، على أنه شاء إيمان من آمن، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم: إنه شاء أن يؤمنوا، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض.

12. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان، ولا الزوال من موضع إلى موضع؛ لأنه ذكر البعث، وهم كانوا بين ظهرانيهم، فدل أنه يراد الوجود، لا غير.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/108.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾: أي كانوا أمة واحدة في الجهل والعمى، فبعث الله أنبياءه إليهم ليستنقذوهم من جهلهم، ويعلموهم ما ينجون به من عذاب ربهم(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 284.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

أ. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يعني عشرة قرون بعد آدم من ولده كانوا على الحق ثم اختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾

ب. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني الحجج والدلائل ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ مصدر بغى فلان على فلان أي اعتدى عليه ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي لما اختلف فيه أهل الكتاب بينهم فكفر بعضهم بكتاب بعض هدى الله أمة أبينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى التصديق بجميع الكتب والرسل.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/103.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ خمسة أقاويل:

أ. أحدها: أنهم كانوا على الكفر، وهذا قول ابن عباس والحسن.

ب. الثاني: أنهم كانوا على الحق، وهو قول قتادة والضحاك.

ج. الثالث: أنه آدم كان على الحق إماما لذريته فبعث الله النبيين في ولده، وهذا قول مجاهد.

د. الرابع: أنهم عشر فرق كانوا بين آدم ونوح على شريعة من الحق فاختلفوا، وهذا قول عكرمة.

هـ. الخامس: أنه أراد جميع الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج الله ذرية آدم من صلبه، فعرضهم على آدم، فأقروا بالعبودية والإسلام، ثم اختلفوا بعد ذلك، وكان أبيّ بن كعب يقرأ: كان البشر أمّة واحدة فبعث الله النّبيّين مبشّرين ومنذرين، وهذا قول الربيع وابن زيد.

2. في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: في الحق.

ب. الثاني: في الكتاب وهو التورا.

3. ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ يعني اليهود، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يعني الحجج والدلائل‏ ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان، إذا اعتدى عليه.

4. في قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أراد الجمعة، لأن أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلوا عنها، فجعلها اليهود السبت، وجعلها النصارى الأحد، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، فهدى الله الذين آمنوا إليها، وهذا قول أبي هريرة.

ب. الثاني: أنهم اختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى الشرق ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله للقبلة، وهذا قول ابن زيد.

ج. الثالث: أنهم اختلفوا في الكتب المنزلة، فكفر بعضهم بكتاب بعض فهدانا الله للتصديق بجميعها.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/272.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أهل ملة واحدة كما قال النابغة:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة...وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع‏

أي ذو ملة ودين، وأصل الأمة الأمّ من قولك: أمّ يؤم أماً: إذا قصده، وهي على أربعة أوجه: فالأمة: الملة، والأمة: الجماعة، والأمة: المنفرد بالمقابلة، والأمة: القابلة.

2. اختلفوا في الدين الذي كانوا عليه:

أ. قال ابن عباس، والحسن، واختاره الجبائي: إنهم كانوا على الكفر.

ب. وقال قتادة، والضحاك: كانوا على الحق، فاختلفوا.

3. سؤال وإشكال: إذا كان الزمان لا يخلوا من حجة كيف يجوز أن يجتمعوا كلهم على الكفر؟ والجواب: يجوز أن يقال ذلك على التغليب لأن الحجة إذا كان واحداً أو جماعة يسيرة، لا يظهرون خوفاً وتقية، فيكون ظاهر الناس كلهم الكفر بالله، فلذلك جاز الاخبار به على الغالب من الحال، ولا يعتد بالعدة القليلة.

4. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ قولان:

أ. أحدهما: بما فيه من البيان عن الحق من الباطل.

ب. الثاني:أن معناه: بأنه حق للاستصلاح به على ما توجبه الحكمة فيه.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾:

أ. قيل: حقيقته، ليحكم منزل الكتاب، لأن الله هو الحاكم بما أنزل فيه، فهو مجاز ـ في قول الجبائي ـ قال إلا أنه جعل اللفظ على الكتاب تفخيماً له، لما فيه من البيان.

ب. ويجوز أن يكون في يحكم ضمير اسم الله، فيكون حقيقة، ومن ضم الياء قراءته لا شبهة فيها، والمعنى ليحكم الناس أو العلماء بما فيه من الحق.

6. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾:

أ. قيل: الهاء عائدة على الحق، وهو الأصح، لأن اختلافهم في الحق قبل إنزال الكتاب.

ب. وقيل على الكتاب.

7. سؤال وإشكال: إذا كانوا مختلفين على إصابة بعضهم له، فكيف يكون الكفر عمهم به؟ والجواب: لا يمتنع‏ أن يكون الكل كفاراً، وبعضهم يكفر من جهة الغلوّ، وبعضهم من جهة التقصير كما كفرت اليهود، والنصارى في عيسى عليه السلام، فقالت النصارى: هو ربّ، فغالوا، وقصّرت اليهود، فقالوا: كذاب متخرص.

8. سؤال وإشكال: كيف يكون الكل كفاراً مع قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؟ والجواب: لا يمتنع أن يكونوا كلهم كانوا كفاراً، فلما بعث الله اليهم بالأنبياء مبشرين، ومنذرين اختلفوا، فآمن قوم، ولم يؤمن آخرون، وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله، لا مهتدين، ولا ضُلّالا، فبعث الله النبيين.

9. اختلف في نصب قوله تعالى: ﴿بَغْيًا﴾:

أ. قيل: نصب على المفعول له، كأنه قال للبغي بينهم على قول الأخفش، والزجاج.. قال الرماني: وهو الصحيح، لأنه لا يحكم بالحذف مع استقامة الكلام من غير حذف إلا لعذر.

ب. وقال بعضهم: الاستثناء متعلق بثلاثة أشياء، كأنه قال ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾، ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات، ما اختلفوا فيه إلا بغياً بينهم، إلا أنه حذف الثاني لدلالة الأول عليه.

10. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ معناه: هداهم للحق، وهو الذي اختلفوا فيه، وقيل في معنى ﴿بِإِذْنِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: بلطفه، ولا بد من محذوف على هذا التأويل، أي فاهتدوا بإذنه، لأن الله عز وجل، لا يفعل الشيء بإذن أحد يأذن له فيه، ولكن قد يجوز أن يكون على جهة التفسير للهدى، كأنه قال هداهم بأن لطف لهم، وهداهم بأن أذن لهم، وقال الجبائي: لا بد من أن يكون على حذف (فاهتدوا) بإذنه.

ب. الثاني:هداهم بالحق بعلمه، والاذن بمعنى العلم معروف في اللغة قال‏ الحارث بن جلّزة: (آذنتنا ببينها أسماء)، أي أعلمتنا، وهو قول الزجاج، وغيره من أهل اللغة.

11. سؤال وإشكال: إذا كانوا إنما هدوا للحق من الاختلاف فلم قيل: للاختلاف من الحق؟ والجواب: لأنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف، كان أولى بالتقديم، ثم تفسيره بـ (من)، وقال الفراء هو من المقلوب نحو قول الشاعر:

كانت فريضة ما تقول كما...كان الزناء فريضة الرجم‏

وإنما الرجم فريضة الزنا، وكما قال الآخرِ:

إن سراجاً لكريم مفخرة...تحلى به العين إذا ما تجره‏

وإنما يحلى هو بالعين، قال غيره إنما يجوز القلب في الشعر للضرورة، ووجه الكلام على ما بيناه واضح.

12. سؤال وإشكال: ما الهدى الذي اختص به من يشاء؟ والجواب: فيه ثلاثة أقوال:

أ. الأول: قال الجبائي: اختص به المكلفين دون غيرهم ممن لا يحتمل التكليف، وهو البيان، والدلالة.

ب. الثاني: قال الجبائي: يجوز أن يكون هداهم على طريق الجنة، ويكون للمؤمنين خاصة.

ج. الثالث: قال ابن الأخشاد، والبلخي: يجوز أن يكون هداهم باللطف، فيكون خاصاً لمن علم من حاله أنه يصلح به، ولا يجوز أن يكون المراد بالهداية هاهنا الإرشاد الى الدين، ونصب الدلالة عليه، لأنه تعالى لا يخص بذلك قوماً دون قوم، بل لا يصلح التكليف من دونه.

13. بين الله تعالى: أن اختلافهم كان بعد أن جاءتهم البينات فعم بذلك جميعهم، فلو أراد الله بقوله‏ ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالبينات، لكان متناقضاً ـ اللهم ـ إلا أن يحمل ذلك على أنه أضاف اليهم الهداية، من حيث كانوا هم المنتفعين بها، والمتبعين لها، فكأنهم كانوا هم المخصوصين بها كما قال: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ وإن كان منذراً لجميعهم.. والذي يقوى ذلك قوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ فبين أنه هداهم، وإنما لم يهتدوا، فكيف يجوز أن تحمل الهداية على نصب الدلالة، وإقامة الحجة على قوم دون قوم.

14. الفرق بين: هدى المؤمنين الى الايمان، وبين أنعم عليهم بالإيمان، قال الجبائي: إن الهدى للأيمان غير الايمان، والانعام بالإيمان هو نفس الايمان، والصحيح أنه هداه بالأيمان يجري مجرى قوله: أنعم عليه بالإيمان لأنه يراد بذلك التمكين منه، والاقتدار عليه والدعاء إليه ولا يراد به نفس الايمان.

15. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي الى طريق الدين الواضح.

16. اختلفوا في الامة المعنية بهذه الآية:

أ. فقال ابن عباس، وقتادة: هم الذين كانوا بين عاد، ونوح، وهم عشر فرق كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك، فالتقدير ـ على قول هؤلاء ـ كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين.

ب. وقال مجاهد: المراد بالآية آدم، فبعث النبيين الى ولده، لما اختلفوا.

ج. وقال أبي بن كعب، والربيع: كان الناس أمة حين استخرجوا من ظهر آدم، فأقروا له بالعبودية، واختلفوا فيما بعد، فبعث الله اليهم النبيين.

د. وقال ابن عباس في رواية أخرى: كانوا أمة واحدة على الكفر، فبعث الله النبيين.

هـ. وقال السدي: كانوا على دين واحد من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين.

و. وقال الربيع والطبري: الكتاب الذي اختلفوا فيه التوراة.

ز. وقال آخرون: كل كتاب أنزل الله مع النبيين.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/194.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: تفسير الآية(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الأمة: الجماعة، وأصلها القصد، يقال: أَمَّ يؤم أمًّا إذا قصد، ثم يستعمل على أربعة أوجه: الأمة: الملة؛ لأنها تؤم بها جهة واحدة، والأمة: الجماعة؛ لاجتماعها على ما تؤم، والأمة: المنفرد بالمقالة؛ لانفراده بما يؤمه، والأمة: القامة؛ لظهورها فيما تؤم.

ب. النبيئين بالهمز وغير الهمز لغتان، وورد القرآن بهما فقرأ نافع بالهمز، والباقون بترك الهمز، فأما الهمز فأصله النبأ، وهو الخبر، والإنباء الإخبار، ومنه: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ وسمي النبيء نبيئًا؛ لأنه يخبر عن الله تعالى، فأما ترك الهمز فهو الاختيار؛ لأنه لغة قريش وأهل الحجاز، وروي أن رجلا قال: يا نبيء الله بالهمز، فقال: ﴿لست بنبيء الله، إنما أنا نبي الله﴾ بترك الهمز، وأنكر الهمز، ثم اختلفوا:

فقيل: أخذ من النباوة، وهي ما ارتفع من الأرض، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم هو الرفيع الشأن، العالي القدر، وأصله نَبِيْوٌ، فلما اجتمعت الياء والواو، والسابق ساكن أبدلت الواو ياء، وأدغمت الياء الأولى فيها.

وقيل: سُمِّي نبيًّا لبيان أمره، ووضوح خبره، أخذ من النبي، وهو عندهم الطريق، قال الشاعر:

فأصْبَحَ رثْمًا دُقَاق الحَصَى... مكان النَّبِي من الكاثِبِ

ج. البشارة: الخبر السار الذي يظهر في البشرة.

د. الإنذار: التخويف.

2. ثم بَيَّنَ تعالى أحوال من تقدم من الكفار تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾:

أ. قيل: أهل ملة واحدة، أي على دين واحد وهو الكفر، عن ابن عباس والحسن وأبي علي، وهو الوجه؛ لأن قوله: ﴿فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ لا يليق إلا بذلك.

ب. وقيل: كانوا على الحق، عن قتادة والضحاك وعكرمة والواقدي.

ج. وقيل: في الآية أنهم كانوا أمة واحدة، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو الكفر، فهو موقوف على الدليل.

د. وقيل: كانوا متعبدين بما في عقولهم، ثم بعث إليهم النبيين بالشرائع؛ لما علم أن مصالحهم فيها.

3. اختلفوا متى كانت هذه الأمة؟

أ. قيل: بعد وفاة آدم إلى زمن نوح كانوا كفارًا، عن الحسن وعطاء.

ب. وقيل: من وقت آدم إلى زمن نوح، وكانوا مؤمنين واختلفوا في وقته، عن قتادة والضحاك.

ج. وقيل: هم أهل سفينة نوح، وكانوا مؤمنين، واختلفوا بعد وفاة نوح، عن الواقدي والكلبي.

د. وقيل: الناس آدم سمي وحده ناسًا؛ لأنه أصل الناس ونسل آدم وأولاده كانوا مؤمنين حتى قتل قابيل هابيل، فاختلفوا حينئذ، عن مجاهد وأبي إسحاق.

4. ﴿فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ﴾ أرسل النبيين أولهم آدم، وآخرهم محمد صلى الله عليهم أجمعين، وكل واحد منهم صاحب معجزة وشريعة يوحى إليه، ويكون معصومًا، وما ترويه الحشوية أن بعضهم أولو العزم، وبعضهم لم يوح إليه باطل، والصحيح ما ذكرناه.

5. ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ تبشر المؤمن بالجنة، وتخوف الكافر بالنار ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني أنزل مع كل واحد منهم الكتاب.

6. 7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾:

أ. قيل: أي بالصدق والعدل.

ب. وقيل: أنزل الكتاب بما فيه من بيان الحق.

ج. وقيل: الكتاب حق الاستصلاح به على ما توجبه الحكمة.

8. اختلف في الضمير إلى من يرجع في قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ على ثلاثة أقوال: الكتاب أو الرسول أو المُنزِل.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾:

أ. قيل: من الحق.

ب. وقيل: من الدين.

10. اختلف في الضمير إلى من يرجع في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾:

أ. قيل: الضمير يرجع إلى الحق، وهو أصح، وتقديره: وما اختلف في الحق إلا الَّذِينَ أوتوا الحق، وإنما اختلفوا قبل إنزال الكتاب، ويحتمل اختلفوا في الكتاب بعد أن أوتوا.

ب. وقيل: على الكتاب.

11. اختلف في ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾:

أ. قيل: يعني محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلم ودينه، والَّذِينَ أوتوه اليهود والنصارى.

ب. وقيل في البشارة التي في كتبهم.

ج. وقيل: في المعجزات، عن الأصم.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾:

أ. قيل: أعطوه.

ب. وقيل: سائر الكفار.

ج. وقيل: علماء أهل الكتاب.

13. سؤال وإشكال: إذا اختلفوا في الحق فأصاب بعضهم كيف عمهم بالكفر؟ والجواب:

أ. قيل: كَفَرَ بعضهم بالتقصير، وبعضهم بالغلو، كما كفرت اليهود بالتقصير في أمر عيسى، وكفرت النصارى بالغلو.

ب. وقيل: كفر بعضهم بكتاب بعض، عن الفراء.

ج. وقيل: حرفوا وبدلوا، وإن اختلفوا.

14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾:

أ. قيل: الحجج الواضحة.

ب. وقيل: التوراة والإنجيل.

ج. وقيل: معجزات محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

15. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي ظلمًا وحسدًا وطلبًا للباطل.

16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾:

أ. قيل: هداهم إلى الدين بالبينات والأدلة، وخص المؤمنين؛ لأنهم اختصوا بالاهتداء.

ب. وقيل: إلى الثواب وطريق الجنة، وذلك يختص بالمؤمنين.

ج. وقيل: هداهم إلى الحق بالألطاف لما علم أن لهم لطفًا يصلحون عنده، ومن عداهم فليس له ذلك، وهذا أقرب الأقاويل.

د. وقيل: هداهم فاهتدوا أي استحقوا اسم الهدى والإيمان، وتقديره: لما اختلفوا صار الهدى مع المؤمنين، الَّذِينَ اهتدوا بهدى الله، عن أبي مسلم.

17. سؤال وإشكال: لم قال هداهم لما اختلفوا، ولم يقل: هداهم للحق فيما اختلفوا؟ فقدم الاختلاف؟ والجواب:

أ. قيل: لأنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف أهم بدأ به، ثم فسره بمن هداه.

ب. وقيل: هو من المقلوب أي فهداهم للحق فيما اختلفوا فيه.

ج. وقيل: فهداهم إلى الحق فيما اختلفوا كقوله: ﴿هَدَانَا لِهَذَا﴾ أي إلى هذا، وقال ابن زيد: هذا كاختلافهم في القبلة، فهدانا إلى الكعبة، واختلافهم في الصوم فهدانا لشهر رمضان، واختلافهم في الشرائع فهدانا إلى الحق والإسلام، واختلافهم في الأنبياء فهدانا بمحمد، أي دلهم عليه.

18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾:

أ. قيل: بعلمه وهو مشهور في اللغة، عن الزجاج وغيره.

ب. وقيل: بلطفه فلا بد فيه من حذف كأنه قال: هداهم فاهتدوا، عن أبي علي.

19. في قوله تعالى: ﴿وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. قيل: المراد به البيان والدلالة، خص به المكلفين دون غيرهم، عن أبي علي.

ب. وقيل: يهدي إلى طريق الجنة، خص به المؤمنين.

ج. وقيل: هداهم باللطف فيكون خاصًّا لمن يعلم أنه يصلح به، عن أبي بكر أحمد بن علي.

20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾:

أ. قيل: إلى طريق واضح.

ب. قيل: الإسلام.

ج. وقيل: طريق الجنة.

21. سؤال وإشكال: هل يجوز نبي بلا كتاب؟ والجواب: نعم.

22. سؤال وإشكال: كيف يحكم بينهم، وكلهم مبطلون؟ والجواب: بينا أن بعضهم كفر بالتقصير، وبعضهم بالغلو، فبين الكتاب الحق في ذلك، كما أن اليهود والنصارى اختلفوا في عيسى فجاء القرآن بالحق.

23. تدل الآيات الكريمة على:

أ. بطلان قول أصحاب المعارف؛ لأنها لو كانت ضرورية لكان الناس أمة واحدة، ولما صح الاختلاف.

ب. بطلان القول بالجبر؛ لأن بعثه الأنبياء إليهم توجب صحة انتقالهم من الكفر إلى الإيمان، قال أبو علي: المراد به الخصوص، ولأن كل زمان لا بد فيه من شهداء يقومون بالحق وإن قلوا، ولكن لما قل عددهم وغلب الكفر جاز هذا الإطلاق، وقال القاضي: إن ثبت أن في كل زمان من قائل بالحق على ما يذهب إليه أبو علي فما ذكره واجب، ولم يثبت ذلك.

ج. أنه يجوز أن يكون الناس كلهم كفارًا ليس فيهم قائل بالحق، فأما في شريعتنا فلا يجوز؛ لأنه يثبت بالسمع أنه لا تخلو الأرض من قائلين بالحق لما ثبت أن إجماعهم حجة.

د. أن مع كل نبي كتابًا، ولا نكلف معرفة الكتاب إذا لم نكلف العمل به، ولا تكون معرفته لطفًا لنا، وإن كان الإيمان بها في الجملة من تكليفنا ولطفًا لنا.

هـ. أن كتب الأنبياء حجة لولا ذلك لم يقل: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ دل أنه يرجع إليه في معرفة الحق والحكم به.

و. أنهم لما كفروا بعد البيان وإزاحة العلة استحقوا الوعيد فيوجب أنهم أُتُوا من قِبَلِ أنفسهم.

ز. بطلان الجبر؛ لأنه تعالى إذا لم يؤاخذ متى لم يبين، فكيف يؤاخذ إذا لم يقدر، ولم يجعل له سبيلاً إليه.

ح. يدل قوله: ﴿فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا﴾ على أن كلا الاختلافين باطل، وأن الهدى في خلافهما.

ط. أنه يبعث الأنبياء للوعد والوعيد، وإنما قدم ذلك قبل الشرع؛ لأنه تقدم البشارة والإنذار في العقليات والتوحيد، ثم بَيَّنَ الشرائع، فيستقيم الأمر.

24. القراءة الظاهرة: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ بفتح الياء وضم الكاف. وقرأ أبو جعفر بضم الياء وفتح الكاف. فوجه قراءة العامة أن الكتاب يحكم. وهو توسع كقوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقيل: ليحكم كل نبي بكتابه. وقيل: ليحكم الله في عباده بذلك. ووجه قراءة أبي جعفر على تقدير: وأنزل الله الكتاب. وغرضه أن يُحْكَمَ بما فيه بين الناس على ما لم يسم فاعله. وعلى هذا الخلاف في آل عمران وسورة النور.

25. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ نصب لأنه مفعول، والعامل فيه الاختلاف، كأنه قيل: وما اختلف فيه إلا الَّذِينَ أوتوه بغيًا، وتقديره: للبغي بينهم، واختلفوا، عن الأخفش والزجاج، وقيل: الاستثناء متعلق بثلاثة أشياء، وتقديره: وما اختلف فيه إلا الَّذِينَ أوتوه، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وما اختلفوا إلا بغيًا بينهم، إلا أنه حذف الثاني لدلالة الأول عليه.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/856.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الأمة على وجوه ذكرناها عند قوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ [1] وهي هنا بمعنى الملة والدين

2. ثم بين سبحانه أحوال من تقدم من الكفار تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: ذوي أمة واحدة أي: أهل ملة واحدة، وعلى دين واحد، فحذف المضاف.

3. اختلف في أنهم على أي دين كانوا:

أ. قال قوم: إنهم كانوا على الكفر، وهو المروي عن ابن عباس في إحدى الروايتين، والحسن، واختاره الجبائي، ثم اختلفوا في أي وقت كانوا كفارا:

فقال الحسن: كانوا كفارا بين آدم ونوح.

وقال بعضهم: كانوا كفارا بعد نوح إلى أن بعث الله إبراهيم والنبيين بعده.

وقال بعضهم: كانوا كفارا عند مبعث كل نبي، وهذا غير صحيح لأن الله بعث كثيرا من الأنبياء إلى المؤمنين.

ب. وقال آخرون: إنهم كانوا على الحق، وهو المروي عن قتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن عباس في الرواية الآخرى، ثم اختلفوا:

فقال ابن عباس، وقتادة: هم كانوا بين آدم ونوح، وهم عشر فرق، كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.

وقال الواقدي والكلبي: هم أهل سفينة نوح حين غرق الله الخلق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فالتقدير على قول هؤلاء كان الناس أمة واحدة فاختلفوا.

4. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يكون الناس كلهم كفارا، والله تعالى لا يجوز أن يخلي الأرض من حجة له على خلقه؟ والجواب: يجوز أن يكون الحق هناك في واحد، أو جماعة قليلة لم يمكنهم إظهار الدين، خوفا وتقية، فلم يعتد بهم إذا كانت الغلبة للكفار.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾:

أ. قال مجاهد: المراد به آدم كان على الحق إماما لذريته، فبعث الله النبيين في ولده.

ب. وروى أصحابنا عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالا، فبعث الله النبيين، وعلى هذا فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم، غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة، ثم بعث الله النبيين بالشرائع، لما علم أن مصالحهم فيها.

6. بعث الله أي: أرسل الله النبيين، ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ لمن أطاعهم بالجنة ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ لمن عصاهم بالنار ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾:

أ. قيل: أي: أنزل مع كل واحد منهم الكتاب.

ب. وقيل: معناه وأنزل مع بعثهم الكتاب إذ الأنبياء لم يكونوا منزلين حتى ينزل الكتاب معهم، وأراد به مع بعضهم، لأنه لم ينزل مع كل نبي كتاب.

ج. وقيل: المراد به الكتب، لأن الكتاب اسم جنس فمعناه الجمع، قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالصدق والعدل.

د. وقيل: معناه وأنزل الكتاب بأنه حق، وأنه من عند الله.

هـ. وقيل: معناه وأنزل الكتاب بما فيه من بيان الحق.

7. اختلف في الضمير في ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾:

أ. قيل: يرجع إلى الله أي: ليحكم الله منزل الكتاب.

ب. وقيل: يرجع إلى الكتاب أي: ليحكم الكتاب، فأضاف الحكم إلى الكتاب، وإن كان الله هو الذي يحكم على جهة التفخيم لأمر الكتاب.

8. ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الحق قبل إنزال الكتاب.

9. سؤال وإشكال: إذا كانوا مختلفين في الحق، فكيف عمهم الكفر في قول من قال إنهم كانوا كلهم كفارا؟ والجواب: إنه لا يمتنع أن يكونوا كفارا، وبعضهم يكفر من جهة الغلو، وبعضهم يكفر من جهة التقصير، كما كفرت اليهود والنصارى في المسيح، فقالت النصارى: هو رب، وقالت اليهود: هو كاذب.

10. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ معناه: وما اختلف في الحق إلا الذين أعطوا العلم به كاليهود فإنهم كتموا صفة النبي بعدما أعطوا العلم به.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾:

أ. قيل: أي: الأدلة والحجج الواضحة.

ب. وقيل: التوراة والإنجيل.

ج. وقيل: معجزات محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

12. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: ظلما وحسدا، وطلبا للرئاسة.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾:

أ. قيل: معناه: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه بعلمه، والإذن بمعنى العلم مشهور في اللغة، قال الحارث بن حلزة: (آذنتنا ببينها أسماء)، أي: أعلمتنا، وإنما خص المؤمنين لأنهم اختصوا بالاهتداء.

ب. وقيل: إن معنى بإذنه بلطفه، فعلى هذا يكون في الكلام محذوف أي: فاهتدوا بإذنه.

14. إنما قال: هداهم لما اختلفوا فيه من الحق، ولم يقل هداهم للحق فيما اختلفوا فيه، لأنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف، كان أولى بالتقديم فقدمه، ثم فسره بمن.

15. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أقوال:

أ. أحدها: إن المراد به البيان والدلالة، والصراط المستقيم هو الاسلام، وخص به المكلفين دون غيرهم ممن لا يحتمل التكليف، عن الجبائي.

ب. ثانيها: إن المراد به يهديهم باللطف، فيكون خاصا بمن علم من حاله أنه يصلح به، عن البلخي وابن الأخشيد.

ج. ثالثها: إن المراد به يهديهم إلى صراط الجنة، ويأخذ بهم على طريقها، فتكون مخصوصا بالمؤمنين.

16. قرأ أبو جعفر القاري وحده: ﴿لِيَحْكُمَ﴾ بضم الياء وفتح الكاف، والباقون بفتح الياء وضم الكاف، الحجة: وجه القراءة الظاهرة أن الكتاب يحكم ويكون على التوسع، كقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ ويجوز أن يكون فاعل يحكم الله أي: ليحكم الله في عباده، ووجه قراءة أبي جعفر ظاهر

17. مسائل نحوية:

أ. ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ نصب على الحال ﴿بِالْحَقِّ﴾ في موضع الحال، والعامل فيه ﴿أَنْزَلَ﴾ وذو الحال الكتاب ﴿لِيَحْكُمَ﴾ جار ومجرور، واللام يتعلق بأنزل، و﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾: نصب على أنهم مفعول له أي: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، ويجوز أن يكون مصدرا وقع موقع الحال ﴿وَمَا﴾: اسم موصول.

ب. ﴿اخْتَلَفُوا﴾: صلته، واللام يتعلق (بهدى) و﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: في موضع الحال من الموصول، والعامل فيه ﴿هُدًى﴾، والباء في ﴿بِإِذْنِهِ﴾: يتعلق (بهدى) أيضا.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/543.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في المراد بـ (النّاس) في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ثلاثة أقوال‏:

أ. أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور.

ب. الثاني: آدم وحده، قاله مجاهد، قال ابن الأنباريّ: وهذا الوجه جائز، لأنّ العرب توقع الجمع على الواحد، ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده بعده.

ج. الثالث: آدم وأولاده كانوا على الحقّ، فاختلفوا حين قتل قابيل هابيل، ذكره ابن الأنباريّ.

2. الأمّة هاهنا: الصّنف الواحد على مقصد واحد، وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان:

أ. أحدهما: أنه الإسلام، قاله أبيّ بن كعب، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل.

ب. الثاني: أنه الكفر، رواه عطيّة عن ابن عباس.

3. متى كان ذلك، فيه خمسة أقوال:

أ. أحدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقرّوا بالعبوديّة، قاله أبيّ بن كعب.

ب. الثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفّارا، قاله ابن عباس.

ج. الثالث: بين آدم ونوح، وهو قول قتادة.

د. الرابع: حين ركبوا السفينة، كانوا على الحق، قاله مقاتل، و.

هـ. الخامس: في عهد آدم، ذكره ابن الأنباريّ.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾:

أ. قيل: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ﴾ بالجنّة ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ بالنّار، هذا قول الأكثرين.

ب. وقال بعض السّلف: مبشّرين لمن آمن بك يا محمّد، ومنذرين لمن كذّبك.

5. الكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس، وذكر بعضهم أنه في التوراة، وفي المراد بالحق هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل.

ب. الثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه.

6. في الحاكم في قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنه الله تعالى.

ب. الثاني: النبيّ الذي أنزل عليه الكتاب.

ج. الثالث: الكتاب؛ كقوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾

7. ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، يعني: الدّين، ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ في هذه الهاء ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها تعود إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، قاله ابن مسعود.

ب. الثاني: إلى الدين، قاله مقاتل.

ج. الثالث: إلى الكتاب، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.

8. هاء ﴿أُوتُوهُ﴾ فعائدة على الكتاب من غير خلاف.

9. قال الزجّاج: ونصب (بغيا) على معنى المفعول له، فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم.

10. قال الفرّاء: في اختلافهم وجهان:

أ. أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض.

ب. الثاني: تبديل ما بدّلوا.

11. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، أي: لمعرفة ما اختلفوا فيه، أو تصحيح ما اختلفوا فيه، وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال:

أ. أحدها: أنه الجمعة، جعلها اليهود السّبت، والنصارى الأحد، فروى البخاريّ ومسلم في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنّصارى)

ب. الثاني: أنه الصّلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب.

ج. الثالث: أنه إبراهيم، قالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النّصارى: كان نصرانيا.

د. الرابع: أنه عيسى، جعلته اليهود لفرية، وجعلته النّصارى إلها.

هـ. الخامس: أنه الكتاب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها.

و. السادس: أنه الدّين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك.

12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾:

أ. قال الزجّاج: إذنه: علمه.

ب. وقال غيره: أمره.

ج. وقال بعضهم: توفيقه.

__________

(1) زاد المسير: 1/178.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بين الله تعالى في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق، ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم.

2. الأمة(2): القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض، وهو مأخوذ من الائتمام.

3. دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل، واختلف المفسرون فيه على أقوال:

أ. الأول: أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق، وهذا قول أكثر المحققين.. وسنذكر أدلتهم مفصلة.

ب. الثاني: هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل، وهو قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس، واحتجوا بالآية والخبر:

أما الآية فقوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ وهو لا يليق إلا بذلك.

أما الخبر فما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، وجوابه: أن هذا لا يليق إلا بضده، وذلك لأن عند الاختلاف لما وجبت البعثة، فلو كان الاتفاق السابق اتفاقا على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى، وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الاتفاق كان اتفاقا على الحق لا على الباطل.

ج. الثالث: وهو اختيار أبي مسلم والقاضي: أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية، وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته، والاشتغال بخدمته وشكر نعمته، والاجتناب عن القبائح العقلية، كالظلم، والكذب، والجهل، والعبث وأمثالها، واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والاستغراق، وحرف الفاء يفيد التراخي، فقوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة، فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء، فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه، وأيضا فالعلم بحسن شكر المنعم، وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق، والعدل، مشترك فيه بين الكل، والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة، ثم سأل نفسه، فقال: أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبيا، فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل، وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولا، ثم إن الله تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده، ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرسا، فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية، واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه، والكلام فيه مشهور في الأصول.

د. الرابع: أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر، فهو موقوف على الدليل.

هـ. الخامس: أن المراد من الناس هاهنا أهل الكتاب ممن أمن بموسى عليه السلام، وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208] وذكرنا أن كثيرا من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود، فقوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة، على دين واحد، ومذهب واحد، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، فبعث الله النبيين، وهم الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب، كما بعث الزبور إلى داوود، والتوراة إلى موسى، والإنجيل إلى عيسى، والفرقان إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها، وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ﴾ بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضا للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية.

4. الذين ذكروا أن الأمة الواحدة كانوا على دين واحد، وهو الإيمان والحق، استدلوا على ذلك بوجوه:

أ. الأول: ما ذكره القفال من أن الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الاختلاف، ويتأكد هذا بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: 19] ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ـ إلى قوله ـ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فالفاء في قوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ تقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقا وبعضهم مبطلا، فلأن يبعثوا حين ما كانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى، وهذا الوجه الذي ذكره القفال حسن في هذا الموضوع.

ب. ثانيها: أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة، ثم أدرجنا فيه، فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه، وبحسب قراءة ابن مسعود، ثم قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، والظاهر أن المراد من هذا الاختلاف هو الاختلاف الحاصل بعد ذلك الاتفاق المشار إليه، بقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، ثم حكم على هذا الاختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي، وهذا يدل على أن الإنفاق الذي كان حاصلا قبل حصول هذا الاختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل.

ج. ثالثها: أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولا إلى أولاده، فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين، إلى أن‏ الحق والدين الصحيح، ثم اختلفوا بعد ذلك، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك، ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر، وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل.

د. خامسها: وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر، والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بها إلى النتائج، وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات، وكما أن المقدمات يجب انتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضا إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل، وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل، وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج، فأما إذا عرض له سبب خارجي، فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ، وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضا، هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال: كان الناس أمة واحدة في الدين الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد، فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه، وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119] هو (لأجل أن يرحمهم خلقهم)

هـ. سادسها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية، وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد.

و. سابعها: أن الله تعالى لما قال ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172] فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين، إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثا كثيرة، ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه، فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول.

5. اختلف القائلون بأن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل أنه متى كان الناس متفقين على الكفر، فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفارا، ثم سألوا أنفسهم سؤالا وقالوا: أليس فيهم من كان مسلما نحو هابيل وشيث وإدريس، وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب، ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير، وقد يقال: دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.

6. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ لا بد هاهنا من الإضمار، والتقدير كان الناس أمة واحدة ـ فاختلفوا ـ فبعث الله النبيين، ووصف الله تعالى النبيين عليهم السلام بصفات ثلاث:

أ. الصفة الأولى: كونهم مبشرين.

ب. الصفة الثانية: كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء: 165] وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.

ج. الصفة الثالثة: قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾

7. سؤال وإشكال: إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب؟ والجواب:

أ. أجاب القاضي عنه فقال: لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما.

ب. وفيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر.

8. ظاهر هذه الآية(3) يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر، ودون ذلك الكتاب أو لم يدون، وكان ذلك الكتاب معجزا أو لم يكن كذلك، لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقتضي شيئا من ذلك.

9. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فعل لا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا، فيكون المعنى: ليحكم الله، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الاحتمالات يختص بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين:

أ. الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، ورضينا بكتاب الله، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء، جاز أن يكون حاكما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 9]

ب. الثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.

10. الهاء في قوله تعالى: ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ يجب أن يكون راجعا، إما إلى الكتاب، وإما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه.

11. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾:

أ. الهاء الأولى راجعة إلى الحق.

ب. والثانية: إلى الكتاب‏، والتقدير: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب.

12. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾، قال أكثر المفسرين: المراد بهؤلاء: اليهود والنصارى والله تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: 5] ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: 64] ثم المراد باختلافهم:

أ. يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا كقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 113]

ب. ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم، فقوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين.

13. هذا يدل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب، وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الاختلاف في الحق حاصلا، بل كان الاتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أن قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ معناه أمة واحدة في دين الحق.

14. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب، وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم.

15. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ المعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب، فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]

16. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ لما وصف الله تعالى حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيها أهل الكتاب، يروى أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أولى الناس دخولا الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا له، والناس له فيه تبع وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى)، قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا، فقلنا: إنه كان حنيفا مسلما واختلفوا في عيسى، فاليهود فرطوا، والنصارى أفرطوا، وقلنا القول العدل.

17. من أهل السنة، ومن وافقهم من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال لأن الهداية هي العلم والمعرفة، وقوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ﴾ نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى، فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى، وهذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير، والاهتداء غير، والذي يدل هاهنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان:

أ. الأول: أن الهداية إلى الإيمان غير الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان.

ب. الثاني: أنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ﴾ إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد هاهنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه، والتقدير: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه، وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء.

18. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر، والمعتزلة، ومن وافقهم أجابوا عنه من وجوه:

أ. أحدها: أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة كقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] ثم قال ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾

ب. ثانيها: أن المراد به: الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة.

ج. ثالثها: هداهم إلى الحق بالألطاف.

19. ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي إلى ما اختلفوا فيه، كقوله تعالى: ﴿يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ [المجادلة: 3] أي إلى ما قالوا، ويقال: هدايته الطريق وللطريق وإلى الطريق.

20. سؤال وإشكال: لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ولم يقل: هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الاختلاف؟ والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف لهم بدأ به، ثم فسره بمن هداه.

ب. الثاني: قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فهداهم لما اختلفوا فيه.

21. في قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ وجوه:

أ. أحدها: قال الزجاج بعلمه.

ب. الثاني: هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال: قطعت بالسكين، وذلك لأن الحق لم يكن متميزا عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه.

ج. الثالث: قال بعضهم: لا بد فيه من إضمار والتقدير: هداهم فاهتدوا بإذنه.

22. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ استدلال أهل السنة، ومن وافقهم به معلوم، والمعتزلة، ومن وافقهم أجابوا من ثلاثة أوجه:

أ. أحدها: المراد بالهداية البيان، فالله تعالى خص المكلفين بذلك.

ب. الثاني: المراد بالهداية الطريق إلى الجنة.

ج. الثالث: المراد به اللطف فيكون خاصا لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/374.

(2) الكلام هنا للقفال

(3) الكلام هنا للقاضي

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على دين واحد:

أ. قال أبى بن كعب، وابن زيد: المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية.

ب. وقال مجاهد: الناس آدم وحده، وسمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل، وقيل: آدم وحواء.

ج. وقال ابن عباس وقتادة: المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهى عشرة كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله نوحا فمن بعده.

د. وقال ابن أبى خيثمة: منذ خلق الله‏ آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل ملة واحدة، متمسكين بالدين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رفع إدريس عليه السلام فاختلفوا، وهذا فيه نظر، لان إدريس بعد نوح على الصحيح.

هـ. وقال قوم منهم الكلبي والواقدي: المراد نوح ومن في السفينة، وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا.

و. وقال ابن عباس أيضا: كانوا أمة واحدة على الكفر، يريد في مدة نوح حين بعثه الله.

ز. وعنه أيضا: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة، كلهم كفار، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين.

2. كان على هذه الأقوال على بابها من المضي المنقضى:

أ. وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودل على هذا الحذف: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشرين من أطاع ومنذرين من عصى.

ب. وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم.

3. يحتمل أن تكون ﴿كَانَ﴾ للثبوت، والمراد الاخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا من الله عليهم، وتفضله بالرسل إليهم، فلا يختص ﴿كَانَ﴾ على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

4. ﴿أُمَّةٍ﴾ مأخوذة من قولهم: أممت كذا، أي قصدته، فمعنى ﴿أُمَّةٍ﴾ مقصدهم واحد، ويقال للواحد: أمة، أي مقصده غير مقصد الناس، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في قس بن ساعدة: (يحشر يوم القيامة أمة وحده)، وكذلك قال في زيد بن عمر وابن نفيل، والامة القامة، كأنها مقصد سائر البدن، والامة (بالكسر): النعمة، لان الناس يقصدون قصدها، وقيل: إمام، لان الناس يقصدون قصد ما يفعل، عن النحاس، وقرا أبى بن كعب: (كان البشر أمة واحدة) وقرا ابن مسعود) كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث)

5. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على‏ ما جاء في حديث أبى ذر، أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي، وقيل: نوح، لحديث الشفاعة، فإن الناس يقولون له: أنت أول الرسل، وقيل: إدريس.

6. ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ نصب على الحال، ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ اسم جنس بمعنى الكتب، وقال الطبري: الالف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة.

7. ﴿لِيَحْكُمَ﴾ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو نصب بإضمار أن، أي لان يحكم، وهو مجاز مثل ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾:

أ. قيل: أي ليحكم كل نبيّ بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب، وقراءة عاصم الجحدري ليحكم بين الناس على ما لم يسم فاعله، وهى قراءة شاذة، لأنه قد تقدم ذكر الكتاب.

ب. وقيل: المعنى ليحكم الله.

8. الضمير في ﴿فِيهِ﴾ عائد على ما من قوله: ﴿فِيمَا﴾ والضمير في ﴿فِيهِ﴾ الثانية يحتمل أن يعود على الكتاب، أي وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه، موضع ﴿الَّذِينَ﴾ رفع بفعلهم، و﴿أُوتُوهُ﴾ بمعنى أعطوه، وقيل: يعود على المنزل عليه، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قاله الزجاج، أي وما اختلف في النبي عليه السلام إلا الذين أعطوا علمه.

9. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي، وقد تقدم‏ معناه، وفي هذا تنبيه على السفه‏ في فعلهم، والقبح الذي واقعوه.

10. ﴿فَهَدَى﴾ معناه أرشد:

أ. أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم.

ب. وقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها.

ج. وقالت طائفة: إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين، من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا.

د. وقال ابن زيد وزيد بن أسلم: من قبلتهم، فإن اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غد وللنصارى بعد غد) ومن صيامهم، ومن جميع ما اختلفوا فيه، وقال ابن زيد: واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدى الله المؤمنين بأن جعلوه عبد الله.

هـ. وقال الفراء: هو من المقلوب ـ واختاره الطبري ـ قال: وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق لما اختلفوا فيه، قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء، وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه، لان قوله: ﴿فَهَدَى﴾ يقتضى أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: ﴿فِيهِ﴾ وتبين بقوله: ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾ جنس ما وقع الخلاف فيه، قال المهدوي: وقدم لفظ الاختلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف، قال ابن عطية: وليس هذا عندي بقوى، وفي قراءة عبد الله بن مسعود لما اختلفوا عنه من الحق أي عن الإسلام.

11. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ قال الزجاج: معناه بعلمه، قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى بأمره، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه.

12. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ رد على المعتزلة، ومن وافقهم في قولهم: إن العبد يستبد بهداية نفسه.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/31.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: كانوا على دين واحد فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ ويدل على هذا المحذوف؛ أعني: قوله: فاختلفوا، قراءة ابن مسعود، فإنه قرأ: كان النّاس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين.

2. اختلف في: الناس، المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم؛ وقيل: آدم وحده، وسمّي: ناسا، لأنه أصل النسل؛ وقيل: آدم وحواء؛ وقيل: المراد القرون الأولى؛ التي كانت بين آدم ونوح؛ وقيل: المراد نوح ومن في سفينته؛ وقيل: معنى الآية: كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين؛ وقيل: المراد: الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله، أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله منّ عليهم بإرسال الرسل.

3. الأمة: مأخوذة من قولهم أممت الشيء، أي: قصدته، أي: مقصدهم واحد غير مختلف.

4. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ قيل: جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

5. ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ بالنصب على الحال، ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: الجنس، وقال ابن جرير الطبري: إن الألف واللام للعهد، والمراد: التوراة.

6. ﴿لِيَحْكُمَ﴾ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو مجاز، مثل قوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقيل: إن المعنى ليحكم كل نبيّ بكتابه؛ وقيل: ليحكم الله.

7. الضمير في قوله: ﴿فِيهِ﴾ الأولى، راجع إلى ما في قوله: ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ والضمير في قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ يحتمل أن يعود إلى الكتاب، ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قاله الزجّاج؛ ويحتمل أن يعود إلى الحقّ.

8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي: أوتوا الكتاب، أو أوتوا الحق، أو أوتوا النبيّ: أي: أعطوا علمه.

9. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ منتصب على أنه مفعول به؛ أي: لم يختلفوا إلا للبغي، أي: الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبيح الذي وقعوا فيه، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سببا في شدّة الخلاف.

10. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ أي: فهدى الله أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الحق، وذلك بما بيّنه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم، وقيل: معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق، بجميع الكتب بخلاف من قبلهم، فإن بعضهم كذّب كتاب بعض؛ وقيل: إن الله هداهم إلى الحق من القبلة؛ وقيل: هداهم ليوم الجمعة؛ وقيل: هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذّبته اليهود وجعلته النصارى ربّا؛ وقيل: المراد بالحق: الإسلام، وقال الفرّاء: إن في الآية قلبا، وتقديره: فهدى الله الذين آمنوا بالحقّ لما اختلفوا فيه، واختاره ابن جرير، وضعّفه ابن عطية.

11. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ قال الزجّاج: معناه: بعلمه، قال النحاس: وهذا غلط، والمعنى: بأمره.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/245.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد، وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم؛ أي: ما وجدوا إلّا ليكونوا كذلك، كما قال في الآية الآخرى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: 19] أي: انحرفوا عن الاتحاد والاتفاق، الذي يثمر كلّ خير لهم وسعادة، إلى الاختلاف والشقاق المستتبع الفساد وهلاك الحرث والنسل، ولما كانوا لم يخلقوا سدى منّ الله عليهم بما يبصّرهم سبيل الرشاد في الاتحاد على الحق من بعثة الأنبياء، وما نزل معهم من الكتاب الفصل، كما أشارت تتمة الآية ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ الذين رفعهم على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره، وأرسلهم إلى خلقه‏ ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ لمن آمن وأطاع‏ ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ لمن كفر وعصى‏ ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: كلامه الجامع لما يحتاجون إليه في باب الدين على الاستقامة والهداية التامة لكونه متلبسا ﴿بِالْحَقِّ﴾ من جميع الوجوه.

2. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الاعتقادات والأعمال التي كانوا عليها قبل ذلك أمة واحدة، فسلكوا بهم، بعد جهد، السبيل الأقوم، ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل، فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب.

3. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أي: الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف‏ ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي: علموه فبدّلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته بل‏ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ ـ أي: الدلائل الواضحة ـ ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي: حسدا وقع بينهم.

4. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالكتاب‏ ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا﴾ أي: أهل الضلالة ﴿فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ أي: للحق الذي اختلفوا فيه، وفي إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، ما لا يخفى من التفخيم، ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بتيسيره ولطفه، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، تقرير لما سبق، وفي (صحيح مسلم) عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان ـ إذا قام من الليل يصلّي ـ يقول: اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السموات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/96.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين الله في عهد آدم عليه السلام ، إلى أن قتل قابيل هابيل، فكفر قابيل وعلَّم أولاده الكفر، وهذا أولى ما يقال؛ لأنَّ ذلك في أوَّل الناس، ويليه أن يقال: المراد مَن بَعْدَ الطوفان مِمَّن في السفينة ومن لم يكن فيها ولم يغرق لإسلامه؛ لأنَّهم تمحَّضوا للإسلام إلى أن كَفَرَ مَن كَفَرَ بَعدُ، وهو حَسَنٌ، وليسوا قليلا مع من لم يغرق، مع أنَّ القلَّة لا تضرُّ، وأزواج سام وحام ويافت مسلمات، وقال ابن عمر: كان الناس متَّفقين على الكفر حتَّى بعث الله إبراهيم ولوطًا ومن بعدهما، ولم يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلَّا أنَّه ممَّا لا يعلم بالرأي، فلا يقال: إنَّ الاتِّفاق على الكفر في زمان غير معلوم ولا اتِّفاق على الإسلام، ولا على الكفر بين آدم وإدريس، ولا بين آدم ونوح، ولا يظهر أنَّ ما بين نوح ومن قبله أكثرهم مؤمنون، بل يظهر أنَّ أكثرهم كفَّار، فقد يقال بالاتِّفاق على الكفر ولم يعتبر قليل الإسلام، ويناسب قول ابن عمر قوله تعالى:

2. ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيئينَ مُبَشِّرِينَ﴾ للمؤمنين بالجنَّة، ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ للكافرين بالنار، فإنَّ الاتِّفاق على الكفر، أو اتِّفاق الأكثر مع إلغاء الأقلِّ أدعى إلى بعث الرسل أكثر ممَّا يدعو إليه الاختلاف، ولو جاز أن يراد: اختلفوا كفرًا وإيمانًا بعد الاتِّفاق على الإيمان بدليل قوله تعالى : ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيئينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾، ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُم﴾ أي أرسل معهم، متعلِّق بمحذوف حال مقدَّرة، أي مصاحبة لهم، أو مقارنة، أو (مَعَ) بمعنى إلى أو على متعلِّق بـ (أَنزَلَ)، ﴿الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ناطقًا بالحقِّ حتَّى لا يبقى اختلاف، والمراد جنس الكتب، فمن الأنبياء من معه كتاب خصَّ به، ومنهم من معه كتاب مِن قبلِهِ، أو في زمانه، والمراد ما يشمل الصحف: عشر صحف على آدم، وثلاثين على شيت، وخمسين على إدريس، وعشرًا على موسى، والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وذلك مائة كتاب وأربعة، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا.

3. ﴿لِيَحْكُمَ﴾ اللهُ، كما قُرئ: (لنحكم)، أو جنس النبيء المبعوث، وأفرد لأنَّ الحاكم كلُّ واحد، أو أسند الحكم للكتاب على طريق المجاز العقليِّ، ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ مطلق الناس لا خصوص الذين كانوا أمَّة واحدة، لأنَّ الإنزال بعد الاختلاف فلذلك لم يضمر.

4. ﴿فِيمَا اَخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ من الحقِّ وغيره، أو في الكتاب على التوزيع، يختلفون فينزل الكتاب الأوَّل ويقع الاختلاف بعد ذلك بعد إنزال كلِّ كتاب على حدة، والمراد بالإنزال معهم الإنزال مع بعضهم، والمراد المجموع، فإنَّ أكثرهم لم ينزل عليه كتاب، بل يتَّبع كتاب من قبله، أو كتاب من معه، و(ال) في الكتاب للجنس فيشمل كتبًا كثيرة، والمذكور من الأنبياء في القرآن ثمانية وعشرون على اختلاف في يوسف غافر، أهو غير ابن يعقوب؟ وعزير وذي القرنين ولقمان وتبَّع ومريم وأمِّ موسى.

5. ﴿وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أي في الحقِّ أو الكتاب بأن حرَّفوه أو أوَّلوه بما لا يجوز، ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي الكتابَ، والأمَّة أوتيت كتابًا كما أوتيه نبيئها لأنَّه أُنزل عليه، له ولهم، ﴿من بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الدلائل الشاهدة على حقيقة دين الله من الآيات المعبَّر عنها بالكتاب، ومن الشواهد العقليَّة، والمنزَّل كتابٌ من حيث إنَّه جَمَع حروفًا وكلمات، وآيات من حيث إنَّها علامة، وبيِّنات من حيث الوضوح.

6. ﴿بَغْيًا﴾ ظلمًا أو حسدًا للحرص على الدنيا، ومنشأ الاختلاف في الأكثر الحسد، والحسد سبب للظلم، وهو تعليل لـ (اختلفَ)، والتفريغ والإبدال جائزان في الاستثناء ولو باعتبار متعدِّد، نحو ما جاء إلَّا زيد راكبًا، أي ما جاء أحد راكبًا إلَّا زيد راكبًا، وما جاء رجل راكبٌ إلَّا زيدٌ الراكب، والمانع ـ وهو الجمهور ـ يقدِّر عاملا، أي اختلفوا بغيًا، وأجازه بعض في الإبدال، ولا خلاف في جوازه بالعطف مطلقًا،﴿بَيْنَهُمْ﴾ نعتًا لـ (بَغْيًا).

7. ﴿فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اَخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ أهو الحقُّ، فمعنى (ءَامَنُوا): شارفوا الإيمان؛ لأنَّ هداية من آمن إلى الإيمان تحصيل الحاصل، أو آمنوا بالكتاب والهداية لِمَا سواه من الحقِّ، أو آمنوا والهداية الإثبات على الإيمان، أو آمنوا والهداية زيادة ما مُنِحوه من الحقِّ، اختلفت كلُّ أمَّة، وهدى الله من كلِّ واحدة بعضها إلى الحقِّ، أو الذين آمنوا هذه الأمَّة والمختلفون غيرهم، أخذ اليهود السبت والنصارى الأحد، وهدانا الله تعالى للجمعة، واستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدانا الله تعالى للكعبة، ومنهم من يركع ومنهم من يسجد، ومنهم من لا يركع ولا يسجد، ومنهم من يصلِّي ماشيا، ومنهم من يصلِّي ويتكلَّم، وهدانا الله لِمَا علمت من الركوع والسجود وترك الكلام، ولا يمشي إلَّا لضرورة ألجأته إلى المشي، ومنهم من يصوم الليل والنهار، ومن يصوم عن بعض الطعام، وهدانا إلى ترك الوصال بعد وقوعه وترك كلِّ طعام، وقال بعض: إبراهيم يهوديٌّ، وبعض: نصرانيٌّ، وهدانا الله تعالى إلى أنَّه مسلم، وبعض إلى أنَّ عيسى ولد زنًى، وبعض أنَّه إله أو ابن إلهٍ، وهدانا الله تعالى إلى أنَّه رسول الله وروح منه.

8. ﴿وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَّشَآءُ اِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أفعال واعتقادات لا عوج فيها توصِل إلى الجنَّة لا تقصر دونها ولا تميل، وأكَّدها بتكرير لفظ الجلالة في موضع الإضمار ومضارع الاستمرار والاسميَّة.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/14.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله تعالى لنا(2) منشأ الاختلاف في البشر لنكون على بصيرة فقال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

2. تطلق الأمة في كتاب الله تعالى بمعنى الملة، أي العقائد وأصول الشريعة كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ بعد ما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم، وكما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، ورجح كثير من المفسرين أن المراد من الأمة في الآيتين الملة؛ أي: العقائد وأصول الشرائع؛ أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد كما قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ وقال كثير منهم: إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ أي: جماعة، وكما في قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة، وتكون بمعنى السنين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾: وفي قوله: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ وبمعنى الإمام الذي يقتدى به كما في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ﴾ وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا وإنما خصصه العرف تخصيصا.

3. حمل جمهور من المفسرين لفظ الأمة في هذه الآية على الملة، ثم اختلفوا فيم كانت الملة:

أ. فقال جمهورهم: إنها ملة الهدى والدين القويم، فيكون معنى الآية في رأيهم ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً﴾ أي: ملة ﴿وَاحِدَةٌ﴾ قيمة الدين صحيحة العقائد، جارية في أعمالها على أحكام الشرائع ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ ولما وجدوا أن المعنى لا يكون قويما؛ لأنه لا معنى لإرسال الرسل إلى الأمم الصالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه، إذ لا يتأتى الاختلاف الذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرسل مع استقامة العمل والوقوف عند حدود الشرائع، قالوا: لا بد من تقدير في العبارة، فيكون الكلام: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، والقرينة على هذه القضية المقدرة قوله فيما بعد: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ وأنت ترى أن هذا بمنزلة أن تقول: كان زيد عالما فبعثت إليه من يعلمه ما كان نسيه من معلوماته، أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود إلى ما ترك من عمله، وتقول: إن كلامي على تقدير كان عالما فنسي أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه إلخ، وهو مما لا يقبله ذوق عربي، فإذا كنت لا تراه لائقا بكلامك فكيف تجده لائقا بكلام الله أبلغ الكلام، وأولى قول يملك العقول والأفهام؟ ! ومما استدلوا به على صحة قولهم: إن آدم عليه السلام كان نبيا وكان أولاده على ملته هادين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف، وأن الإنسان يولد على الفطرة السليمة والدين الحق، وإنما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكم الأهواء، وإغواء الشهوات، ورين الشبهات ونحو ذلك، فلا ريب يكون للإنسان طور أول، كان فيه خيرا عادلا واقفا عند الحق فيما يعتقد وما يعمل، ثم يعرض عليه ما يعرض من الميل إلى الشر والقبيح من الأعمال، ولكن هذه الأدلة لا تغير شيئا مما ذكرناه مختصا بتأليف الكلام، على أنه قد عرض على أولاد آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملة واحدة في الكفر وفساد الأعمال، كما كانت الحال لعهد نوح وعهد إبراهيم من بعده، والآية لم تحدد زمن ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾)، وغاية ما في الأمر أن يكون النبيون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح مثلا إذا حملت الأمة الواحدة على أمة الضلال، وملة الفساد والاعتلال.

ب. ولذلك ذهبت طائفة أخرى وفي مقدمتهم ابن عباس وعطاء والحسن إلى أن الأمة الواحدة أمة الضلال التي لا تهتدي بحق ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة، واحتجوا على قولهم بهذا التعقب في الآية فإنه جعل بعثة الرسل تابعة لوحدة الأمة، ولا تكون كذلك حتى تكون تلك الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد والذهاب مع الأهواء الضالة في الأعمال، واعتداء بعضهم على بعض لذلك، وانتهاكهم حرمة ما أمر الله برعاية حرمته، فيجب أن تكون وحدة الأمة وحدة في الباطل حتى يرد الحق عليه فيزهقه، وأما لو كانت الأمة واحدة في الهدى واتباع الحق فلا معنى لجعل بعثة الرسل مترتبة عليها كما هو ظاهر، ودفعوا ما يقال من أن آدم كان نبيا وكان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال: إن الناس كانوا أمة واحدة على الباطل؟ (دفعوه) بأن الحكم على الغالب فقد كان الناس لعهد نوح كفارا إلا القليل منهم، ومن المعروف أنه يقال دار كفر لمن كان أغلب سكانها كفارا وإن كان فيها مسلمون، وقد يجاب بما تقدم ذكره من تخصيص النبيين بما بعد آدم ونوح من إبراهيم ومن بعده، ولكن المعنى كما تراه ليس مما تطمئن إليه النفس بعد النظر إلى آدم ورسالته، ومن بقي من أولاده على ملته.

ج. وقال أبو مسلم والقاضي أبو بكر: إن وحدة الأمة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، فكان الناس يهتدون بعقولهم والنظر المحض في الآيات الدالة على وجود الصانع ووجوب شكره، ثم كانوا يميزون الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، أو الاتفاق مع ما يليق بالله على حسب ما يرشد إليه العقل أو ما لا يليق، ولا ريب أن استسلام الناس إلى عقولهم بدون هداية إلهية مما يدعو إلى الاختلاف، بل كثيرا ما حالت الأوهام دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام، فيكون الاختلاف مفهوما من معنى الوحدة على هذا التأويل وما سبقه؛ ولهذا رتب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل الله فيما اختلف فيه الناس، وقد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم ورسالته، وأجاب عنها بأنه: من الجائز أن يكون آدم وأولاده قد بدأ أمرهم على سنة الفطرة فكانوا من أهل النظر، ثم بعد أن كثر أولاده، وظهر أن هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب، ولإصلاح الأعمال أرسله الله إليهم بهداية إلهية من عنده، وإنه من المحتمل بل يكاد يكون من المحقق أنه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه فعادوا إلى استعمال عقولهم وحدها فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدي إلى الاختلاف، فبعث الله النبيين إلخ.

د. وتوقف قوم في معنى الأمة وقالوا: لا حاجة إلى البحث في أنها كانت أمة هداية أو أمة ضلال أو أمة عقل، وهو قول غاية في الغرابة؛ لأنه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة، ومعنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمة، اللهم إلا أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء الله تعالى.

هـ. وأغرب من هذا القول قول بعض المفسرين ونقل عن مجاهد: أن الناس هم آدم وحده وأنه كان أمة يقتدى به، ولا ندري ماذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقية الآية! نعوذ بالله من الخذلان.

و. ويزعم آخرون أن المراد من الآية: أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام، ثم اختلفوا بغيا بينهم فأرسلت إليهم الرسل بكتب تهذبهم، كما أرسل داود بزبوره وعيسى بإنجيله ليردوهم إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وهو تخصيص للناس وللنبيين بما لا دليل عليه ألبتة كما لا يخفى.

4. قال ابن العادل نقلا عن القرطبي: ولفظة ﴿كَانَ﴾ على هذه الأقوال على بابها من المضي، ويحتمل أن تكون للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله من عليهم بالرسل تفضلا منه فلا تختص بالمضي فقط، بل يكون معناها كقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وقد قارب الصواب في هذا الاحتمال الثاني وهو الذي كان يذهب الذهن إليه لأول الأمر لولا ما يشتغل به من النظر في تلك الضروب من التأويل، فتفرق به السبل ويكاد يضل السبيل، ونحن ذاكرون لك إن شاء الله ما يجلي المعنى في الآية مقتفين أثر ابن العادل والقرطبي فيما قالاه في معنى ﴿كَانَ﴾ وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة؛ ليكون في ذلك توضيح لما نقصد، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.

5. ورد وصف الأمة بالواحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾، جاءت هذه الآية الكريمة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ إلخ، بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات الله عليهم، ذكر ما كان من شأنهم مع قومهم، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنون بعد ما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ـ 5 وقد جاء لفظ ﴿أُمَّةٍ﴾ بالنصب في الآيتين على الحال، والخبر قد تم في قوله: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ أي: هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم، أي: جماعتكم حال أنها أمة واحدة، أي: ليس جمعا تربطه الروابط البعيدة، كما يقال أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها، بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله والدعوة إلى توحيده والقيام على شرعه وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل؛ فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة، وإن شئت قلت كما قالوا: إن الأمة بمعنى الملة في الآيتين، يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله والمثابرة على ذلك وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي عن نبي ولا يناكر فيه مرسل مرسلا.

6. هذا المعنى من الوحدة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، وفي قوله في سورة الشورى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾: أي: لو شاء ربك لخلق الناس على غريزة تميل إلى الحق، وفطرة يسطع فيها نور الهداية إليه بدون حجاب من الهوى والشهوة أو ظلمة الفكر وستر الغواية، فكانوا جميعا على مثال الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان، وكانوا بذلك من أهل السعادة وسكان دار النعيم، ولكن قضى ربك أن يخلق الإنسان إنسانا يكله إلى فكره، ويدعه إلى سعيه وكسبه، فلا يزال يتخبط في الاختلاف، وسيجرهم الاختلاف إلى دار الشقاء بعد الخزي في دار الفناء، إلا أولئك الذين رحمهم ربك من هداة العالمين، وقادة الناس إلى خير الدارين، ومن وفقه الله لاستجابة دعوتهم والاهتداء بسنتهم، فأدخلهم في رحمته بعد ما شمل الظالمين بسخطه ونقمته.

7. يفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أن الناس لم يكونوا أمة واحدة قط، لا بمعنى أنهم كانوا جميعا على الخير والهدى؛ لأن الله خلق الإنسان على غريزة تبعد به عن الاتحاد على الحق والاتفاق على العدل، ولا بمعنى أنهم كانوا جميعا على الضلال كما تراه من صريح النسق الشريف، فكان الناس ـ ولا يزالون ـ منهم المحسن والمسيء، والمهتدي والضال، سنة الله في هذا الخلق.

8. لكنك تجد في سورة يونس نصا صريحا في أن الله تعالى شاء أن يكون الناس أمة واحدة قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ولا يمكنك أن تحمل ﴿كَانَ﴾ على معناها من المضي؛ لأن الحصر يبعد ذلك بالمرة، فالمراد منه أن الناس كانوا ولا يزالون أمة واحدة ونشأ عن هذه الوحدة نفسها اختلافهم، وكان الله سبحانه يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف منهم عن سبيل الفطرة السليمة فلا يبقى من الناس إلا من استقام عليها، ولكن سبقت كلمته وثبت في علمه وتم في مشيئته أن يكون الناس في أمرهم كاسبين لسعيهم، مكلفين بالنظر فيما بين أيديهم من الآيات، وأن يكون منهم الضال والمهتدي والعادل والمعتدي حتى يوفي كلا جزاءه في الدار الآخرى؛ ولهذا بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ليكونوا لهم أئمة في الإيمان وأسوة في العمل الصالح، فهل يمكنك مع هذا أن تحمل وحدة الأمة على وحدة العقيدة والعمل، كما حملتها على ذلك في الآيات الآخر؟ ليس ذلك بممكن؛ لأن الناس ليسوا أمة واحدة بذلك المعنى بل هم مختلفون، فلا ريب أنه يجب حمل وحدة الأمة على معنى آخر، وهو ذلك الذي نختاره في الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

9. خلق الله الإنسان أمة واحدة؛ أي: مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفيته جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته فيستعين بهم في بعض شأنه، كما يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم: (الإنسان مدني بالطبع) يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قدر له أن تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل الأعضاء، كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن.

10. لما كان الناس أمة واحدة ولا يمكن أن يكونوا بمقتضى فطرهم إلا كذلك، وهم إنما يعملون بمقتضى آرائهم، وينحون في أعمالهم نحو المنافع التي يرونها لازمة لقوام معيشتهم، ولن يمنحوا من قوة الإلهام ما يعرف كلا منهم وجه المصلحة في حفظ حق غيره، لتوفير المنفعة بذلك لنفسه، لما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، وكان من رحمة الله بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى: أن الناس أمة واحدة لا بد لهم أن يعيشوا تحت نظام واحد يكفل لهم ما يحتاجون إليه مدة بقائهم في هذه الحياة الدنيا، ويضمن لهم ما به يسعدون في الحياة الآخرى، ولا يمكنهم في هذه الوحدة ومع تلك الوصلة اللازمة بمقتضى الضرورة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، لما كانوا كذلك كان من لطف الله ورحمته بهم أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا لزم كل واحد منهم ما حدد له واكتفى بما له من الحق، ولم يعتد على حق غيره، وينذرونهم بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الآخرة إذا اتبعوا شهواتهم الحاضرة ولم ينظروا في العاقبة.

11. هذه الآية الكريمة جاءت بمنزلة بيان الحكمة فيما سبقها من الأوامر الإلهية والأخبار السماوية، أمر الله الذين آمنوا بنبيه وكتابه بأن يدخلوا في السلم كافة، وهو على أحد الوجوه السلام، وعلى أحدها الإسلام، والسلام: هو الوفاق الذي ليس معه نزاع، ولا يليق بمن جاءته الهداية من ربه، تبين له الطريق الذي يسلكه في معاملة إخوانه ومن يرتبط معه برابطة بعيدة أو قريبة من الناس، أن ينحو في عمله نحو ما يدعو إلى الخلاف ويثير النزاع، بل الواجب عليه أن يقف عندما حددته هداية الكتاب الإلهي والسنن النبوي، والإسلام كذلك يدعو إلى السلام، ثم بين سبب ما يقع من الاختلاف بين الناس ويحرمهم حيطة النظام فقال: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: إن جاحد الحق والمعرض عن هداية الله له التي يسوقها إليه على أيدي رسله إنما ينظر في عمله إلى ما يوفر عليه لذاته في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة، ولا ينظر إلى عاقبة آجلة، ومن كان هذا شأنه كان أمره اختلافا وشقاقا ورياء ونفاقا.

12. ثم أراد الله تعالى أن يقيم الدليل على أن الاهتداء بهدي الأنبياء ضروري للبشر، وأنه لا غنى لهم عنه مهما بلغوا من كمال العقل، فقال: إن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله تعالى القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما يخطر في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من سرائرهم، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ الإتيان بهذه القضية بعد وصف الأنبياء بالمبشرين المنذرين يدل على أن التبشير والإنذار عمل يسبق إنزال الكتب وهو حق؛ لأن الأنبياء أول ما يبعثون ينبهون قومهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذرونهم عاقبة ما يكونون فيه من عادة سيئة أو خلق قبيح أو عمل غير صالح، فإذا تهيأت الأذهان لقبول ما بعد ذلك من تشريع الأحكام وتحديد الحدود، أنزل الله الكتب لبيان ما يريد حمل الناس عليه مما هو صالح لهم على حسب استعدادهم.

13. ثم في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ وعود الضمير على جميع النبيين ما يفيد أن الله أنزل مع كل نبي كتابا ـ معجزا كان أو غير معجز طويلا كان أو قصيرا ـ دون وحفظ ليؤدى من سلف إلى خلف، وقوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قرأ يزيد ـ بضم الياء وفتح الكاف، والباقون ـ بفتح الياء وضم الكاف ـ وهي الرواية المشهورة المعروفة:

أ. أما على رواية يزيد فالمعنى أن الله أنزل الكتب مع النبيين بالحق؛ أي: ما يجب أن يعتقد به مما هو منطبق على الواقع، وبيان ما يجب أن يعمل به مما هو صالح لا مفسدة فيه؛ ليقع الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأمرين، والحاكم: هو المتولي للفصل بين الناس في الخصومات بالنسبة إلى الأعمال، والمرشد إلى صحيح العقائد على مقتضى ما جاء في الكتاب النازل بالحق والمبين لما ينطبق على نصوصه من الأعمال التي يحكم فيها الحاكمون.

ب. أما على القراءة المعروفة فالحكم مسند إلى الكتاب نفسه، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفيه نداء على الحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء؛ فإن الكتاب نفسه هو الحاكم وليس الحاكم في الحقيقة سواه، ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص، وبناء التأويل على ما يؤخذ من جميعها جملة لما كان لإنزال الكتب فائدة.

14. لما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة بل تتحكم الأهواء، وتذهب النفوس منازع شتى، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر جديد، وهو الاختلاف في ضروب التأويل، وبناء كل واحد حكما على ما نزع، فتعود المصلحة مفسدة، وينقلب الدواء عليه؛ ولهذا رد الله تعالى الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به وقال: ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ لأن الاختلاف كان تابعا لتلك الوحدة التي بيناها فكان كأنه لازم لها، وهو كذلك كما يبينه تاريخ البشر وما توارثوه عن أسلافهم، وكما يقضي فيما اختلفوا فيه يقضي فيما يختلفون به من بعد، ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾: وكنسبة القضاء إليه في قول الشاعر:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها..، وقضى عليك به الكتاب المنزل

والسر في التجوز هو ما ذكرت لك، وقد يعود الضمير على الله؛ أي: أنزل الله معهم الكتاب بالحق ليحكم سبحانه بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو يشعر كذلك بأن الحاكم يجب أن يكون هو الله دون آراء البشر وظنونهم التي لا ترد إليه جل شأنه.

15. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ عرفت فيما سبق أن الناس بحكم اشتراكهم في الأعمال وضرورة اشتباكهم في المعاملات عرضة للاختلاف في الحق؛ لأن عقولهم وحدها ليست كافية في الهداية إليه على الوجه الذي يحفظ جامعتهم من الاضطراب، ويؤدي بهم إلى السعادة العظمى في المآب، فلا يصح بعد ذلك أن يعود الضمير في ﴿فِيهِ﴾ إلى الحق فلا يقال وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات، فإن الحق يختلف فيه الناس قبل مجيء البينات الأولى، ولا أعجب مما ذكره بعض المفسرين من أن النقص في الآية دليل على أن الناس لم يكن منهم اختلاف في الحق إلا بعد بعثة الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، أما فيما قبل ذلك فكانوا متفقين على الحق، فكأن رذيلة الاختلاف والتفرق لم تقع في العالم الإنساني إلا ببعثة الرسل، والقول بمثله من أغرب ما ينسب إلى صاحب دين ما، فما بالك به إذا صدر عن مسلم! !

16. الحق أن الضمير في قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ يعود إلى الكتاب، وهو استدراك على ما عساه يقال: إذا كان الناس في جامعتهم مستعدين للتخالف بمقتضى فطرتهم إذا تركت وحدها، ولا غنى لهم عن هداية تعليمية تأتيهم من الله تعالى، ولهذا بعث الأنبياء؛ ليكونوا قوادا للفطرة إلى ما هو خير الدنيا والآخرة، فما بال الناس بعد إنزال الكتب لا يزالون مختلفين ولا يرتفع من بينهم ذلك الخلاف الذي كان يخشى منه إفساد جماعتهم وهلاك خاصتهم؟ فقد كانوا يختلفون على جلب المنافع والتوسع في مطالب الشهوات، ولم تكن لديهم في ذلك آلة يستعملها كل منهم في نيل مطلبه من صاحبه سوى القوة أو الحيلة، وبعد إنزال الكتب قد انضم إلى تلك الآلات آلة أخرى ربما كانت أقوى من سواها وهي آلة الإقناع بالكتاب، فيتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثرا مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك بقطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء بالكتاب والآثار الآخرى، ولي اللسان به وتأويله بغير ما قصد منه، وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب، وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء عليه هدمت أحكام الله أو قامت، واعوجت السبيل أو استقامت، ثم يأتي ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال هذا من غيره، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله ويتخذهم عونا على ذلك الخادع الأول، فيقع الخلاف والاضطراب، وآلة المختلفين في ذلك هي الكتاب، وقد شوهد ذلك في الأزمان الغابرة بين اليهود وبين من سبقهم، وبين النصارى، ولا يزال الأمر على ما كان عليه عند هاتين الطائفتين إلى اليوم، وكم حروب وقعت بين المسلمين أنفسهم حتى قصمت ظهورهم، ودمرت ما كان من قواهم، وما كان آلة المبطلين في تلك المشاغب إلا دعوى الدين، وحمل الناس على الحق المبين، والله يعلم إنهم لكاذبون فيما يقولون، وإنهم لخاطئون فيما يفعلون، وما كلمة الدين ودعوى تأييد الكتاب إلا وسائل لإرضاء الشهوة وتمكين الظالم من السطوة.

17. ثم هناك داع آخر للخلاف، وهو اختلاف القوم في فهم ما جاء في الكتاب، فكل يذهب إلى أن الواجب أن يعتقد كذا، وربما كان حسن النية فيما يقول، ويعد المخالف مخطئا فيما يزعم، وقد يعرض لكل منهم التعصب لرأيه، فيذهب حسن النية ولا يبقى إلا الميل إلى تأييد المذهب، وتقرير المشرب، بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، فلم يستفد النوع الإنساني من إرسال الرسل ونزول الكتب إلا حدوث سبب جديد للخلاف لم يكن، وإلا موضوعا للشقاق كان العالم في سلامة منه، فما فائدة إرسال الرسل وكيف يمن الله على الناس بأمر لم يزدهم إلا شقاء، ولم يكسب بصائرهم إلا عماء؟!

18. أراد الله جل شأنه أن يستدرك على هذا الظن ويبين وجه الخطأ فيه فقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ إلخ، وحاصل الاستدراك أن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلا بد لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم، وهي قوة الفكر والنظر، تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم، والكتب التي ينزلها الله عليهم، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب، وعصمة الكتب من الخطأ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلة على الرسالة والعصمة أولا، وسطوع الأدلة يحمل المستعدين منهم على التصديق حتما، فإذا عقلوا ما جاءت به الرسل وجب عليهم أن يقوموا عليه، ولا يعدلوا من أعمالهم عنه، ذلك كما وهب لهم السمع والبصر ليهتدوا بهما إلى ما يوفر لهم الفوائد، ويدفع عنهم الغوائل، ويتقوا بهما الوقوع في المكاره، وكما وهب لهم العقل ليهتدوا به فيما يتبع الأعمال من العواقب، وإنما عليهم أن ينظروا في فهم الأحكام الإلهية إلى جملتها ومجموع ما تفرق منها، لا يقصرون نظرهم على بعض ويغضون بصرهم عن بعض آخر، ثم عليهم أن يقفوا على حكمة الله في تشريع شريعته، ووضع ما قرره من الأحكام فيها بحيث لا يحيدون عن تلك الحكمة التي أشارت إليها كتبه، بل صرحت بها نصوصها لا يمنة ولا يسرة، حتى يتم لهم الاعتداء بها، فإن الغفلة عن حكمة العمل غفلة عن فائدته، والغفلة عن فائدته انصراف عن روحه التي لا يقوم إلا بها.

19. غير أن عامة الخاطئين لا يمكنهم أن يصلوا إلى كل ذلك بأفهامهم على قصرها، وإنما ذلك فرض على الخاصة الذين قدمهم الرسل للنيابة عنهم، وهؤلاء هم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب على أن يقرروا ما فيه، ويراقبوا انطباق سير العامة عليه، ولذلك قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وفي آيات أخرى أن اختلافهم من بعد ما جاءهم العلم، والبينات هي الدلائل القائمة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وعلى أنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم، وعلى أن الحكمة الإلهية فيه راجعة إلى جميع ما جاء به، فلا بد أن يكون فهم كل جزء منه مرتبطا بفهم بقية أجزائه، وعلى أن دعوة الرسول الذي جاء به إنما كانت إلى جملته، لا إلى الأنقاض المتفرقة منه، وقال: إن هذا الاختلاف الذي وقع منهم لم يكن إلا بغيا بينهم، وتعديا لحدود الشريعة التي أقامها حواجز بين الناس، والخلاف داعية البغي، إن الحبر أو الكاهن أو العالم أو الرئيس أو أي واحد ممن تسميه من أهل النظر في الدين القائمين عليه، الذين ينوبون عن الرسل في حفظه والدعوة إلى صيانته، الواحد من هؤلاء يرى الرأي ويفهم الفهم ويأخذ الحكم من نص يقف عنده ذهنه، أو أثر يصل إليه، وربما لم يكن وصل إليه ما هو أصح منه، وآخر يرى غير ما يرى، ويزعم وصول أثر غير الذي وصل إلى صاحبه، فكان اتباع الكتاب يقضي عليهما بالاجتماع والتمحيص، وتخليص النفس من كل هوى سوى الميل إلى تقرير الحق وتطبيق الواقعة عليه، ولو لم يتيسر لهما ذلك وجب على من يأتي بعدهما ما كان يجب عليهما، حتى يستمر الاتفاق بين هؤلاء الخاصة ويسود بهم بين العامة.

20. لكن قد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرياسة أو ميل مع أربابها أو خوف منهم أو شهوة خفية في منفعة أخرى فيلج ذلك بصاحب الرأي حتى يكون شقاق، ويحدث افتراق، ولا ريب أن هذا الشوب وإن كان قد يكون غير ملحوظ لصاحبه، بل دخل على نفسه من حيث لا يشعر فهو من البغي على حق الله في عباده أولا، والبغي على حقوق العباد الذين جاء الكتاب لتعزيز الوفاق بينهم ثانيا، وأما العامة من الناس فلا جريمة لهم في هذا؛ ولذلك جاء بالحصر في قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ فإذا كان الرؤساء قد جنوا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الناس بسبب البغي الخاص بهم، فهل هذا يقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق الناس عليه من الحق ويرتفع به النزاع فيما بينهم؟ كلا؛ فقد رأينا كل دين في بدء نشأته يقرب البعيد ويجمع المتشتت ويلم الشعث ويمحق أسباب الخلاف من النفوس ويقرر بين الآخذين به أخوة لا تدانيها أخوة النسب في شيء، وهل يؤثر الأخ في النسب أخاه بماله على نفسه وهو في أشد الحاجة إليه كما كان يفعل أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ وهل يبذل الأخ النسبي روحه دون أخيه ويؤثره بالحياة على نفسه كما آثره بالمال، كما كان يقع من أولئك الأبطال؟ هذا شأن الدين وهو باق على أصله، معروف بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشي بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولا طرق ولا مشارب، ولا منازعات في الدين ولا مشاغب.

21. هذا هو الدين الإلهي الذي قدر الله أن يكون هداية للبشر فوق الهدايات التي وهبها لهم من الحواس والعقول، فإذا لم يهتد بها الذين أوتوها وهم علماء الدين، وبغوا بالتأويل، وكثرة القال والقيل، فهل يمس ذلك جانبها بعيب؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين يؤتيهم الله العقل ثم لا يستعملونه فيما أوتي لأجله؟ هل تنقص حالهم هذه من منزلة العقل وتدل على أن العقل ليس من نعم الله على الإنسان؟ ماذا يقول القائل في أولئك الذين لهم أبصار وأسماع ولكن يخبط الواحد منهم في سيره فلا يستعمل بصره في معرفة الطريق التي يسير فيها، أو في وقاية رجليه من الشوك الواقع عليها، أو التباعد عن حفرة يتردى فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيه من التهلكة لو وجهها نحوها، وقد يسمع من الأصوات التي تنذره بالخطر القريب منه ثم لا يبالي بما يسمع، حتى يصيبه ما ليس له مدفع، فهل تحط حال هؤلاء الناس من قيمة السمع والبصر؟

22. هذه الآية الكريمة ترفع من شأن الدين وتعلو به إلى أرفع مقام من مقامات الهدايات الإلهية، وتدفع عنه مطاعن أولئك السفهاء الذين تغشى أعينهم حجب الظواهر، فتقف بهم دون معرفة السرائر، يناديهم الحق فلا يصل إليهم إلا صدى صوت الباطل، ثم يرفع النص الكريم مقام المؤمنين الصادقين، ويحلهم من الكرامة أعلى عليين، إذ يقول بعد ما ذكر جناية أهل الخلاف: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الله تعالى

23. لإذن هنا التيسير والتوفيق، والذين آمنوا هم أهل الإيمان الصادق في كل دين، أو هم المؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وعلى كل فالله جل شأنه يخبرنا ـ وهو أصدق القائلين ـ بأن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحق؛ أي: يصلون إلى الحق الذي تختلف مزاعم الناس فيه، فيزعم كل واحد أنه عليه، وهو إما بعيد عنه بعد الباطل عن الحق، وإما على شيء منه، غير أنه على حكم المصادفة والاتفاق، والذي حمله على زعمه إنما هو الهوى والميل إلى الشقاق، وهو في الحالتين على الباطل؛ لأن موافقة الحق على غير بصيرة لا تعد هداية إليه.

24. الإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه ويضيء لها السبيل إلى الحق الذي لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر فيه السالك، وقد يسقط به في مهاو من المهالك، الإيمان الصحيح لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويمحص الدليل على أنه نافع له في دينه أو دنياه، ولا يدع أمرا حتى يشهد عنده البرهان أو العيان بأنه ليس مما يجب عليه أن يأتيه بحكم إيمانه، الإيمان الصحيح يجعل من نفس صاحبه رقيبا عليها في كل خطرة تمر بباله، وكل نظرة تقع منه على ما بين يديه من آيات الله في خلقه، لا يطير الخيال بصاحب الإيمان الصحيح إلا إلى صور من الحق تنزل منه منزلة العبارة من معناها، فهو إذا اعتقد فإنما يعتقد ما هو مطابق للواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تمثل ذلك الواقع وتجليه في أقوى مظاهره، بهذا يكون تيسير الله له الهداية إلى الحق الذي يختلف فيه الناس، فهو مطمئن ساكن القلب، وهم في اضطراب وحرب، تولوا عن هداية الله فحرموا توفيقه، وكفروا بنعمة العقل والدين فعوقبوا عليها بفشو الشر وفساد الأمر، والله لا يصلح عمل المفسدين، ولا فساد أعظم من الاختلاف في الدين ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ و﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ هذه آيات الله لا يعرض عنها إلا بعيد عن الله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

25. هذا ما اخترنا من التأويل، وهناك ما رمى إليه قول أبي مسلم الأصفهاني والقاضي أبي بكر فيما نقلناه عنهما سابقا، وهو أن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، والتمسك بالشرائع العقلية فيما يعتقدون وما يعملون وما يتركون، والدليل على ذلك أن الفاء توجب التعقيب، فيعلم من ذلك أن تلك الوحدة كانت متقدمة على جميع الشرائع الإلهية فلا تكون إلا الاستفادة من العقل، ولا بد لبيان ما رمى إليه قول الشيخين من بيان يطمئن إليه الجنان.

26. ما جاءنا من أنباء الأمم وما رأيناه من آثارهم وما عرفناه من حال بعضهم اليوم يشهد شهادة لا يرتاب فيها من أديت إليه أن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، يخلق الله الفرد من البشر ضعيف القوة فاقد العلم لا يعرف شيئا من أمره كما جاء في التنزيل ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ثم أبواه أو من يكفله سواهما يقوم عليه يقوي بنيته ويدفع عنه ما عساه يهدمها، ويعلمه كيف يسمع وكيف ينظر وكيف يتقي ببصره وسمعه ما تخشى عاقبة وقعه، إلى أن يبلغ من السن حدا معلوما يكون فيه الحس قد أعده لاستعمال قوة أخرى كانت لا تزال قاصرة فيه وهي قوة العقل، ويسهل عليه أن يفكر فيما مضى وينظر فيما حضر؛ ليعرف منها كيف يسلك في عمله لما يستقبل، فكمال استعداد العقل للنظر في شئون الشخص هو منتهى نمو القوى المدركة، كما أن وصول البنية إلى الحد المعروف في السن المعلومة هو منتهى نمو البدن، تلك السن هي المعروفة بسن الرشد.

27. لم يكن من متناول قوة الصبي في زمن الصبا الإحاطة بكنه الجمعية البشرية وما وضع الله فيها من الروابط المعنوية والمعاني الروحية التي تقوم بها بنية الاجتماع، ولم يكن من طوق مداركه أن تخترق هذا الكون المحسوس لتصل إلى معرفة مكونه، ويشرق عليها نور وجوده الباهر، وإنما كان كل هم الصبي منصرفا إلى تغذية جسمه ورياضة قواه البدنية، ولا يبالي بما وراء ذلك، وإذا ذكر له شيء من تلك المعاني العالية لم يتمثلها ذهنه إلا في صور من الخيال هي إلى الباطل أقرب منها إلى الحق، كل ذلك معروف لكل من كان طفلا ثم صار صبيا ثم بلغ سنا عرف نفسه فيها رجلا عاقلا، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

28. على هذه السنة قادت العناية الإلهية جماعة البشر؛ لأن الحكمة قد قضت بأن يحيا الإنسان إلى أجله المحدود في جماعة من نوعه كما قدمنا لا مناص له عن ذلك، هذه الجماعة هي التي تسمى أمة كما عرفت، ويمكنك أن تسميها بنية الاجتماع، وتسمي كل فرد منها عضوا من تلك البنية، فكما ينشأ الفرد قاصرا في جميع قواه ضعيفا في جميع أعضائه، كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشيءون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية، غير أن الذي يربي الفرد ويسوس قواه إلى أن يبلغ رشده هو الأبوان أو من يقوم مقامهما، والذي يكفل الجمعية ويربي قواها ويشد بناها، إنما هو الكون وما يمسها من حوادثه، والحاجات ووقعها، والضرورات ولذعها، وكما يؤدب الصبي أبواه يؤدب الجماعة شدة وقع الحوادث الكونية منها، وهي في هذا الطور لا هم لها إلا المحافظة على بنيتها الجسمية، وحاجاتها البدنية، وليس عندها من الزمن ما تتفرغ فيه لأدنى من ذلك كما هو شأن الطفل في صباه.

29. الآثار التي عثر عليها الباحثون في مبادئ ظهور الصناعة عند البشر وارتقائها من أدنى الأعمال إلى ما يظنه الناظر أعلاها اليوم، تشهد شهادة كافية بأن البشر كانوا في بدء أمرهم من قصور القوى على حالة تشبه حالة الصبيان في الأفراد، فقد كانوا في بعض أطوارهم لا يهتدون إلى اصطناع المعادن القابلة للطرق كالنحاس والحديد، وأن آلاتهم للدفاع ونحوه كانت من الحجارة، ثم ارتقوا إلى استعمال النحاس، ثم ارتقوا بعد ذلك إلى استعمال الحديد، وعلى هذا النحو كان رقي معارفهم في جميع أبواب الصنعة، وما عليك إلا أن تنظر كيف ابتدءوا وضع حروف الكتابة من الخط المسماري ثم لم يزالوا يرتقون فيه إلى أن وصلوا إلى ما تعرف اليوم، كل ذلك يدل على أن سنة الله في الجماعة هي بعينها سنته في الفرد منها من التدرج به من ضعف إلى قوة ومن قصور إلى كمال.

30. كانوا في طور القصور منغمسين في الحس والمحسوس، فإذا تخلصوا منه إلى شيء تخلصوا إلى وهم يثيره الحس، وإنما هو ظل له يظن شيئا وليس بشيء، إذا عجبوا كيف يموت الميت ولم يهتدوا إلى فهم معنى الموت ظنوا أنه يغيب عنهم غيبة ولكن لا يزال يتعهدهم بما يؤذيهم، كأن الموت يحدث بينه وبينهم عداوة، فظنوا أن أرواح الأموات من جملة العاديات الضارات، المعينات النافعات؛ ولذلك كانوا يعدون لها ما يرضيها، وكانوا يخافون أن يذكروا أسماءها، وإذا سمعوا رعدا أو رأوا برقا أو أمطرتهم السماء أو ذعرتهم الأعاصير، تخيلوا أشباحا مثلهم ترسل ذلك كله عليهم، ويذهب بهم الخيال فيها إلى ما شاء من صور وتماثيل، وهكذا كان شأنهم في كثير من الحيوان والنبات والنجوم، إذا استعظموا منها شيئا لعظم مضرته أو لكثرة منفعته، توهموا فيها ما شاءوا من قدرة تفوق قدرتهم وإرادة تقهر إرادتهم.

31. ولم يزالوا كذلك، والتجارب تكشف لهم خطأهم فيما يتوهمون؛ والحوادث تأتيهم بعلم ما لم يكونوا يعلمون، حتى عقلوا كثيرا من أصول اجتماعهم وكشفوا شيئا من عناصر بنيته المعنوية، ووصلوا إلى منزلة الاستعداد لأن يفهموا باطن ما عقلوا وسر ما عرفوا، ولأن يخلصوا من هذا العالم الجسماني الذي كانوا فيه إلى عالم روحاني كانوا يسيرون في طلبه من حيث لا يشعرون.

32. هنالك تهيأ لهم أن ينتقلوا من طور قصور الصبا إلى أول سن الرشد، فجاءتهم النبوة تهديهم إلى ما يستقبلونه في ذلك الطور الجديد، طور يكون واضع النظام لاجتماعهم فيه هو الله جل شأنه، ويكون المحدد لصلتهم بربهم تعالت أسماؤه هو الرحيم بهم العليم بمصالحهم، وهو مع ذلك مما لا تحدده عقولهم، ولا تسموا إلى اكتناه ذاته معارفهم، هذه هي الغاية التي لم يكن لهم أن يدركوها وهم في قصور الطور الأول، قد انتهوا إليها عند دخولهم في الطور الثاني.

33. هذا هو قول الشيخين: إن الأمة الواحدة هي الأمة الآخذة في اعتقادها وعملها بالعقل ومقتضى الفطرة قبل النبوات جميعها؛ لأن ظهور النبوة والاستعداد لقبولها طور من الأطوار البشرية لا يصل إليه النوع الإنساني إلا بعد التدرج في طريق طويلة تنتهي غايتها إلى هذا النوع من الكمال الإنساني.

34. الاستعداد لظهور النبوة وقبول دعوتها مرحلة من المراحل التي تسير فيها الجمعية البشرية عندما تبلغ العقول منزلة من القوة ومقاما من السلطة، وتبلغ النفوس من قوة التصرف في المنافع والمضار ما يخشى معه من ضلالها أن يوقعها في خبالها، عندما تعظم مطامع العقول والشهوات، وتتسع مجالاتها وتبعد مطامحها، هنالك يخشى على الجمعية البشرية من بعض أفرادها أو من كل واحد منهم على بقية أركانها، كما يخشى من قوى الشاب أن تهلكه عندما تبلغ البنية حد النمو وتبدو له الشهوات في أجلى صورها، فكما كان من حكمة الله أن يهب الشاب قوة العقل عند بلوغ السن التي تعظم فيها الشهوة، ويقوى فيها الإحساس بالحاجة إلى توفير الرغائب، حتى يقوده في تلك الغمار، كذلك فعل الله بالجمعية البشرية عندما بلغت بمعارف أفرادها ذلك الحد الذي ذكرنا، وهبها تلك الهداية الجديدة، وأيدها بالدلائل التي بلغ من قوة العقول أن تدركها، وأن تصل من مقدماتها إلى نتائجها، تلك الآيات البينات جاء بها الأنبياء على اختلاف أزمانهم وأممهم، جاءت إلى كل أمة بما يلائم حالتها النفسية ومكانتها العقلية، فكان الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الأمم بمنزلة الرأس من البدن، جاءوهم يبينون لهم الخير، ويبشرونهم بحسن الجزاء لكاسبه، ويكشفون لهم مسالك السوء، وينذرونهم بسوء المصير لصاحبه.

35. ولما كان الاستعداد يتفاوت في الأمم، كانت أمة أولى من أمة بتقدم عهد النبوات فيها، وكانت تلك الأمة المتقدمة جديرة بأن تكون إماما للأمة المتأخرة، سنة الله في الخلق.

36. هذا الطور النوراني الجديد ـ طور ظهور النبوة ـ هو طور خير وسعادة، طور هداية ورشاد وأخوة بين المهتدين فيه، وسداد في أعمالهم، ونزوع إلى تكميل غيرهم بمثل ما كملت به أنفسهم، وإضاءة ما أظلم من جو غيرهم بمثل ما ضاء به جوهم، ولا يزالون كذلك ما قاموا على فهم ما جاء إليهم، وما قيدوا عقولهم ونفوسهم بالحدود التي وضعها لهم، وما وقفوا على سر ما حملوا عليه، ولزموا روح ما دعوا إليه، وما حدب كل واحد منهم على الآخر ليرده إذا زاغ عن الطريق المعبدة، ويقيمه على السنة المعروفة، فهذا قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ فقد قطع الإنسان في سيره إلى الكمال مرحلة أولى انتهت إلى ظهور النبوات، ثم هو يسير في هذه مرحلة أخرى إلى أن يصل إلى منزل آخر، ولكنه يا للأسف ليس بالمنزل المرتضى.

37. ذلك أنه إذا طال الأمد على عهد النبوة وبعد الناس عن مبعث نورها، وينبوع نميرها، قست القلوب، وأظلمت الأنفس، وغلبت الشهوات، فضعف العلم بسر الدعوة، وأهملت الجمعية تقويم الطريقة، واستعمل أهل العلم بالدين نصوص الدين فيما يضيع حكمة الدين، ويذهب بأثره في الناس، فيقع الاختلاف والاضطراب، وينقلب سبب السعادة الأولى عاملا للشقاء في الآخرى، وذلك باتباع خطوات شيطان الرئاسة، والانقياد لغوايات السياسة، فهذا قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾

38. هذا طور ثالث للجمعية البشرية، ومرحلة تسير فيها ما شاء الله أن تسير حتى تذوق وبال أمرها، وحتى تبصر عواقب الخلاف بما كان من فوائد الألفة، وحتى تردها الضرورات إلى النظر فيما أغمضت عنه، وإلى الرجوع إلى ما خرجت منه، فتعود إلى محو ما عرض من العادات، وتنقية القلوب من فاسد الاعتقادات، وتطهير النفس من رديء الملكات، فتشرق لها شمس الحق الأول، وتقوم على الطريق الأمثل، وتعود الطمأنينة إلى النفوس، ويتساوى في الحق الرئيس والمرءوس، ويجتمع الناس على التنزيل، ويتحدون على صحيح التأويل، وهذا قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾

39. تلك الأطوار التي لا بد للبشرية أن تمر فيها حتى تبلغ كمالها، وتنال تفصيلها وإجمالها، وتأويل الآية على طريقة الشيخين المذكورين لا يضايق ما اخترناه، ولا يبعد عما قررناه، ومكانة آدم عليه السلام من الرسالة لا تزعج صاحب هذا التأويل، ولا تلصق به شذوذا أبعد من شذوذ من قال: كان الناس على الحق متفقين، ثم كان الخلاف إثر بعثة النبيين، ولا شذوذ من قال: إن الناس هم آدم كما علمت؛ فإنه يقول: إن رسالة آدم لم تعلم بم كانت؟ وإلى من كانت؟ فيجوز أن تكون بأمور تتفق مع تلك السذاجة الأولى إلى واحد أو أكثر من أبنائه، ثم نسي ما كان من ذلك عند من بلغه، وجهل عند من لم يبلغه، على أن ما سبق في تأويل قوله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ من رأي ابن عباس وأناس معه من أن الأرض كان فيها عمار يعملون فيها ما يعمل بنو آدم، يسمح لصاحب التأويل أن يقول: إن آدم عليه السلام مع بنيه كانوا في عمارة الأرض كولد نوح، وإن الأرض كانت معمورة من قبله بأقوام فيهم تلك الصفات البشرية ثم انقرضوا وخلفهم آدم، كما تنقرض أمة وتخلفها أمة، يهلك الله صنفا وينشئ آخر، والنوع واحد، ولا يزال الهالك يترك أثرا للباقي يحدث فيه فكرة، ويثير في نفسه عبرة، ويكون ذلك سلما له إلى رقي كان من قبل دونه، وأن مثال هذه الاعتراضات التي تكاد تكون ضروبا من إنكار المشهود لقول قائل إنه غير موجود، لا تقف دون العقلاء من أهل الدين خصوصا علماء الدين الإسلامي، الذي لم يحدد تاريخا خاصا يبتدئ منه الوجود الإنساني في هذه الأرض، فهم أحرار فيما ينظرون ما داموا لم يخالفوا نصا قاطعا من نصوص الكتاب، ولا سنة خلا نقلها من الريب والاضطراب، والله أعلم بما أودع كتابه من أسرار وحكمة، نسأله سبحانه أن يتم علينا هذه النعمة، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وهو يقول الحق ويهدي السبيل(3).

40. إن المتبادر من الآية عند العرب الأميين في عصر التنزيل، الذين لم يعرفوا شيئا عن تاريخ البشر وأطوارهم، يحملونها عليه ويتفق مع هذا التفصيل في جملته، وهو أن الناس كانوا بمقتضى الفطرة أمة واحدة؛ أي: لوحدة مداركهم وحاجات معيشتهم وقلة رغائبهم وسهولة تعاونهم على مطالبهم، ولكن عرض لهم الاختلاف بالتفرق والانقسام إلى عشائر فقبائل فشعوب تختلف حاجاتها وتتعدد رغائبها، ويلجئها ذلك إلى تعاون كل عشيرة فقبيلة فشعب فيما تختلف فيه أفرادها أو تختلف هي وغيرها، فاشتدت حاجتهم إلى تشريع رباني وهداية إلهية يذعن لها الأفراد والجماعات، فبعث الله النبيين فيهم مبشرين من أطاعهم بالسعادة والثواب، ومنذرين من عصاهم بالشقاء والعذاب، وأنزل معهم الكتاب المفصل لما يحتاجون إليه من التشريع الديني والمدني بالحق، ليحكم تعالى فيه ـ أو ليحكم الكتاب نفسه، بمعنى يبين الحكم ـ بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحقوق الشخصية وغيرها، وما اختلف فيه ـ أي: الكتاب ـ بعد الإنعام به إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم البينات فيه، وفي تنفيذ نبيهم له بغيا بينهم من بعضهم على بعض، ثم يظهر فيهم مصلحون يهديهم الله بإيمانهم للمخرج مما اختلفوا من الحق بإذنه ومشيئته ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ كما وقع لأهل الكتاب ثم للمسلمين الذين حذرهم الله تعالى أن يكونوا مثلهم بقوله: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ وهم الآن أحوج إلى هذا الإصلاح من كل زمان مضى.

41. هذا المعنى المجمل لا يخالف النصوص في شيء، وظواهر القرآن توافق نص حديث الشفاعة المتفق عليه في أن نوحا عليه السلام كان أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وقد حققت مسألة نبوة آدم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/276.

(2) قدم محمد رشيد رضا لتفسير هذه الآية الكريمة بقوله: كتب تفسير هذه الآية محمد عبده باقتراح مني، وأنا الذي وضعت الأرقام للسور والآيات في شواهد ما كتبه

(3) هنا انتهى كلام محمد عبده في الآية الكريمة

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن أمر سبحانه الذين آمنوا بنبيه أن يدخلوا في السلم كافة، وأن يكونوا في وفاق لا نزاع معه، إذ ينبغي لمن جاءته الهداية من ربه ألا ينحو في عمله إلى ما يدعو إلى خلاف أو يثير نزاعا، بل الواجب عليه أن يقف عندما حدده الكتاب الإلهي والهدى السماويّ، ثم ذكر أن جاحد الحق إنما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذته في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة، ومن كانت هذه حاله كان في خلاف وشقاق، ذكر هنا أن الاهتداء بهدى الأنبياء ضروري للبشر، إذ أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها أن تصل إلى ما يلزمهم في توفير مصالحهم، ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أسرارهم.

2. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا، وكل واحد منهم يعيش بعمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم (الإنسان مدنىّ بالطبع)

3. ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدى كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم، ولم ينظروا في العاقبة.

4. قال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: إن المعنى: إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، وتمييز الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهى مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام، فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشيءون الرفيعة العالية، والمعاني السامية، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون، وتهذبه تجارب السنين والأيام، فاستعمل النحاس بعد الحجارة في معايشه، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء، وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه بالحس، ولا يعلم إلا المحسوس، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوّهم، وعلّمته الحوادث ما لم يكن يعلم، فاستعدّ لفهم باطن ما عقل، وسرّ ما عرف، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه، وصلته ببني الإنسان، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء، وينذرون فاعل الشرّ بسوء المصير، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

5. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيئ العادات، وقبيح الأخلاق، وشرّ الأعمال، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم.

6. في الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الحاكمين أن يلزموا حكمه، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة.

7. كما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا، أضاف إليه النطق في قوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ والهدى والتبشير في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾

8. في الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبيّ كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دوّن وحفظ، أو لم يدوّن ولم يحفظ ليبلغه للناس، فيبلّغ السلف الخلف، والسابق اللاحق.

9. ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، وهم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب ليقرّروا ما فيه، ويراقبوا سير العامة عليه، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم ـ لم يكن مصدره إلا البغي بينهم، وتعدى الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس.

10. قد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرئاسة، أو ميل مع أربابها، أو شهوة خفية في منفعة أخرى، وهذا من البغي على حق الله في عباده، أو من التعصب للرأي وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، وربما كان هذا مع حسن النية، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق، فبغى علماء الدين في التأويل، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب، فالذي يؤتي العقل ثمّ لا يهتدى بهديه، هل يعد ذلك منقصة له، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق، ولا يتباعدون من حفرة يتردّون فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها، وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا هم سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل ـ فهل حال مثل هؤلاء يحطّ من قيمة السمع والبصر؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين، وقيمة هديه للناس.

11. رأينا الأديان في بدء نشأتها تلمّ الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس، وتوجد بين معتنقيها أخوّة لا تدانيها أخوة النسب، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه، ويبذل روحه فداء له، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.

12. كان هذا أيام أن كان الدين غضّا طريّا معروفا بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشى بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولكن خلف من بعدهم خلف اعتسفوا في التأويل، وما همهم من ذلك إلا سدّ مطامعهم، وتأييد سطوتهم، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجّت السبل أم استقامت، ثم يأتي ضال آخر فيحرّف ويؤوّل، ويريد أن ينال من الأول ما نال هذا من غيره، فيقع الخلاف والشقاق باسم الدين ولحماية الدين، وكم حروب وقعت بين المسلمين حتى قصمت ظهورهم، وأوهنت عزائمهم، وما كان دعواهم في كل ما حدث إلا حفظ الدين، وحمل الناس على الحق المبين، وقد سبقهم إلى مثل هذا اليهود والنصارى ولا يزال أمرهم كذلك إلى اليوم، فكأنهم احتذوا حذوهم، وجعلوهم رائدهم مع ما في كتابهم من النعي عليهم وتقريعهم على سوء صنيعهم، وكتابهم ملئ بهذا، وسنة نبيهم تحذرهم كل التحذير من سلوك هذا الطريق المعوّج الذي جرى عليه سابقوهم، وكان وبالا ونكالا عليهم.

13. ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدى الناس إلى الحق ويمنع الاختلاف قال ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي إن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقّ ويصلون إلى ما يرضى ربهم بتوفيقه وإنعامه، فالإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه، ويضيء لها السبيل إلى الحق لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر فيه السالك، كما لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويعرف أنه نافع له في دينه ودنياه، ويجعل لنفسه رقيبا عليها في كل خطرة تمرّ بباله، وكل نظرة تقع على ما بين يديه من آيات الله، فإذا اعتقد فهو يعتقد ما يطابق الواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تجلّى الواقع في أقوى مظاهره، فهو ساكن القلب، مطمئن النفس، والناس في اضطراب وحرب، كفروا بأنعم الله فعوقبوا عليها بفشوّ الشرّ، وفساد الأمر كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/121.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. على ذكر الموازين والقيم؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله.. ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون.

2. هذه هي القصة.. كان الناس أمة واحدة، على نهج واحد، وتصور واحد، وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات.. فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد، وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء، وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى، وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى، حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات.

3. عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات.. وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾

4. وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى.. إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض.. إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله، فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

5. هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق.. ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل اطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم.. هذا الإطار هو اطار التصور الإيماني الصحيح، الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.

6. من ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾

7. لا بد أن نقف عند قوله تعالى‏ ﴿بِالْحَقِّ﴾.. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره، ولا حكم معه، ولا قول بعده، وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال.

8. لهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعا، فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان.. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق، بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.

9. هذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد.. كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة: قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالاتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.

10. لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه، ولم يكن‏ بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني، ولا يتأثر بالقصور الإنساني، ولا يتأثر بالجهل الإنساني! وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود، علم ما كان وما هو كائن وما سيكون، علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء.. ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد، ومنظور ومحجوب، ومحسوس وغير محسوس.. في حاجة إلى إله يعلم ما خلق، ويعلم من خلق.. ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع.

11. إقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة.. واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه.. في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته ـ سبحانه ـ ولا قصور! أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت، على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت.. وبهذا وحده تستقيم الحياة، ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله! إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل، إنما جاء ليحتكم الناس إليه.. وإليه وحده.. حين يختلفون..

12. من شأن هذه الحقيقة أن تنشئ حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية: إن الإسلام يضع‏ ﴿الْكِتَابِ﴾ الذي أنزله الله‏ ﴿بِالْحَقِّ﴾ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية، ثم تمضي الحياة، فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق، وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل.. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا في فترة من فترات التاريخ، فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل، وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين، إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء.. لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب؛ ولا تجعله أصلا من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه..

13. هذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف، وظل ينمو وينمو.. فلا يقال: إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي، ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..

14. لقد جاء الكتاب.. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.. فالبغي.. بغي الحسد، وبغي الطمع، وبغي الحرص، وبغي الهوى.. هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد.

15. وهذه حقيقة.. فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير.. ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعا.. فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾.. هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق، وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.. هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب، وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق، ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات..

16. هو الله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين!

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/216.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي أصلا واحدا من طبيعة واحدة.. هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. ثم تناسلوا، وكثروا وتفرقوا في وجوه الأرض، وخضعوا لمؤثرات الحياة، ووقعت بينهم منازعات ومشاحنات، وجرى بينهم البغي والعدوان، وولدت لهم مدركاتهم مواليد من الضلال، والبهتان، ففسدت طبيعتهم، وعطبت فطرتهم، فغاثهم الله برحمته، وبعث فيهم رسله، بكلماته الشافيات، وآياته البينات، ليصححوا معتقداتهم، ويسلكوا بهم مسالك الحق، ويقيموهم على الطريق السوي، كما يقول سبحانه: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي ليكون هذا الكتاب ميزان قسط بين الناس، يرجعون إليه في ضبط أقوالهم وأفعالهم، وليسوّوا عليه حسابهم فيما يقع بينهم من خلاف.

2. الكتاب هنا هو مجمع كتب الله التي نزلت على رسله، لأن تلك الكتب في مضامينها هي كتاب واحد، ينطق بالحق ويهدى للحق!

3. قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ تشنيع على أهل الكتاب، وتنديد بهم، إذ بعد أن جاءهم الحق من ربّهم، ووضحت لهم معالم الطريق بما حمل الكتاب إليهم من آيات الله البينات ـ وقع بينهم الخلاف، وعادوا إلى ما كانوا عليه من فساد عقيدة، وضلال سعى.. فإذا كان لخلافهم وشرودهم عن الحق وجه قبل أن يأتيهم هدى الله، فإنه لا وجه لهذا الخلاف بعد أن جاءهم الهدى واستنارت أمامهم معالم الطريق!

4. هذا الحصر للخلاف في الحقّ، والشرود عنه، وجعله في أهل الكتاب وحدهم ـ إنما هو لانقطاع العذر عندهم لهذا الخلاف، بما وضع الله بين أيديهم من آياته، التي لو انتهوا عندها، ووقفوا على حدودها، لما ضلوا ولما اختلفوا.. أما غير أهل الكتاب ممن اختلفوا في الحق، وضلوا عن سبيله فلهم عذرهم، إذ لم يكن بين أيديهم من حق وهدى مثل ما بأيدي أهل الكتاب الذين لا عذر لهم، إذ كان خلافهم وضلالهم عن بغى وعدوان.

5. قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يحدّد موقف الذين استجابوا لله وللرسول، واتبعوا ما أنزل على (محمد)، واستقاموا على الحق الذي ضلّ عنه أهل الكتاب واختلفوا فيه، وكان ذلك توفيقا من الله وفضلا ورحمة بالمؤمنين، إذ استنقذهم من الضلال والعمى، ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/236.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر الحكمة اقتضته، وأنه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام، والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوها:

أ. الأول: قال فخر الدين: (إن الله تعالى لما بين في قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 212] أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة غير مختصة بالذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا )، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة.

ب. الثاني: يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) [البقرة: 214] (أخذ من كلام (الكشاف) أن المقصود من قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ تشجيع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد )، فالمناسبة على هذا في مدلول قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ﴾ [البقرة: 212]، وتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة.

2. الظاهر أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها:

أ. فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.

ب. وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمنا على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبي وأمته، ردا على حسد المشركين، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ إلى قوله‏ ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142]

3. حصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾:

أ. فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام، فالمناسبة حاصلة مع جملة ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين.

ب. وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة الوحدة في الضلال والكفر يكون الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فتكون الآية تثبيتا للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 212]، فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبيينا لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾

4. الناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، و(أل) فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريرا مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيرا مثل نوح‏ ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 4]

5. الأمة بضمة الهمزة: اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.

6. الوصف بـ (واحدة) في الآية لتأكيد الإفراد في قوله (أمة) لدفع توهم أن يكون‏ المراد من الأمة القبيلة، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد.

7. الوحدة هنا: مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع‏ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ إلخ، فيحتمل:

أ. أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد، وبهذا المعنى روى الطبري تفسيرها عن أبيّ بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر: وهو مختار أكثر المحققين قال القفال: بدليل قوله تعالى بعده‏ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ إلى قوله‏ ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله‏ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشئ بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بالفاء في قوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ وعلى صريح قوله: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله:‏ ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله) إلخ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلال لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر، ولهذا قال ابن عطية: (كان من قدّر الناس في الآية كانوا مؤمنين قدّر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة الرسل إليهم)، ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة، والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، وأنها ما غشّاها إلّا تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح‏ الفطرة إصلاحا جزئيا فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمدا لإكمال ذلك الإصلاح، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلخ.

ب. وعن عطاء والحسن أن المعنى كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروى عن ابن عباس أيضا وعليه فعطف قوله‏ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيئين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة، فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيئين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمدا بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان.

8. أيّا ما كان المراد فإن فعل كان هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل:

أ. فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد:

فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد.

وقال ابن عطية قال قوم كان ذلك زمن نوح كفر رجل قومه فهلكوا بالطوفان إلّا من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق.

وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي استودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ على أحد تفاسير تلك الآية وروي هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان.

وفي (تفسير الفخر) عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية: كان الناس أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واجتناب‏ الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله: ﴿النَّبِيِّينَ﴾ جمع يفيد العموم (أي لأنه معرف باللام) فيقتضي أن بعثة كل النبيئين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلّا مستفادا من العقل، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]

وقيل: أريد بالناس آدم وحواء، نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم.

والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 38] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح.

ب. وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمّهم عاجلا فبعث الله نوحا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحا ونفرا معه فأصبح جميع الناس صالحين، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين، فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.

9. الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشئوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلّا اختلافا قليلا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرا ولا تغالبا.

10. ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسما وعقلا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقا مشابها لخلق آدم، إذ إنها خلقت كما خلق آدم، قال تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم، ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتّى للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.

11. هكذا كان شأن الذكر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكانت الاستنباط الفكري والتقليد به أسّ الحضارة البشرية، فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهرا ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطروّ أو معدومته، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:

أ. الأول: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفا عن الفضيلة لتلك العاهة.

ب. الثاني: اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها.

ج. الثالث: خواطر خياليّة تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها.

د. الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعا.

12. هذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة:

أ. والأول كان نادر الحدوث في البشر، لأن سلامة الأبدان وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره.

ب. و الثاني كان غير موجود، لأن البشر يومئذ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف؟

ج. و الثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حجبا لما يهجس من هذا الإحساس.

د. و الرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة.

13. أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلّا فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلّا يومئذ ولذلك أسرعت إليه الندامة، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذ أو هو الغالب عليها.

14. ينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل، لأن النسل منسل من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخلقية والخلقية، ولما كان النسل منسلّا من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصّلا على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساوية المظاهر لأحوال سلفه، قال نوح عليه السلام في عكسه‏ ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: 27]، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاح ما نقله في (الكشاف) عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق.

15. ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلا قليلا خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعا لاختلاف بين حالي الأب والأم، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذ أسباب الانحطاط الأربعة، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل، والتاريخ الديني دلنا على أن نوحا أول الرسل الذين دعوا إلى الله تعالى قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: 13] الآية، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم، ويذكر خطيئته ايتوا نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع، وأن آدم لم يكن رسولا وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب أبناءه‏ ويعلمهم بالجزاء.

16. قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾:

أ. هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم امة واحدة دام مدة ثم انقضى، فيكون مفرعا على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين، وعلى الوجه الآخر مفرعا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحا، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق.

ب. وعلى الثاني: يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك، وإنما كان مرشدا كما يرشد المربي عائلته.

17. المراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال، وقد عبد قوم نوح الأصنام، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في (جبال نوذ) من بلاد الهند كما قيل، وفي البخاري عن ابن عباس أن (ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا من صالحي قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت )، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم، وقيل إن سواعا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال‏، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلّا بمزيد الاحتراز، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة، وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو (حمورابي) ويظن المؤرخون أنه كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في (سفر التكوين) باسم (ملكي صادق) الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.

18. البعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث‏ هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.

19. (النبيئين) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء، والقرآن يذكر في الغالب النبي مرادا به الرسول، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلّا الله تعالى قال تعالى: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 38] وقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾ [الإسراء: 17]، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر.

20. المراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله‏ ﴿فَبَعَثَ﴾ وبقرينة الحال في قوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ الآية، فالتعريف في (النبيين) للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.

21. البشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع، فالرسل هم الذين جاؤوا بالوعد والوعيد، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم، وتعليم من يرونه أهلا لعلم الخير من الأمة، ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العبسي نبيئا في عبس من العرب.

22. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾، الإنزال: حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.

23. أضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيدا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.

24. الكتاب هو المكتوب، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 1 ـ 2] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك، وقد يكون مجازا على الوجه الآخر، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.

25. المعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 20] وفي الحديث‏ (ومعك روح القدس)، والتعريف في الكتاب للاستغراق، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك.

26. إنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد، وجوز الزمخشري كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه.

27. الضمير في‏ ﴿لِيَحْكُمَ﴾ راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي، لأنه مبين ما به الحكم، أو فعل يحكم مجاز في البيان، ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به، وتعدية (يحكم) ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه.

28. حكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلّا عن ضلال أو خطأ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد.

29. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، عطف على جملة ﴿أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ‏﴾ لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم دينا واحدا، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ [هود: 110]، والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الآخرى لتضمن جملة القصر إثباتا ونفيا، فالله بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم، والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.

30. التعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير:

إن البخيل ملوم حين كان‏...ولكن الجواد على علّاته هرم‏

وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير:

إلى ملك ما أمّه من محارب‏...أبوه ولا كانت كليب تصاهره‏

31. الضمير من قوله: ﴿فِيهِ﴾ يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.

32. الاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.

33. جيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه، والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم.

34. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ متعلق باختلف، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل، والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع، والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض، والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكما آخر، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ، أو كان الحكم كذا فصار كذا، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجيء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.

35. البعدية هنا: بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.

36. ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي: الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانيا وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم، والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.

﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿بَغْيًا﴾ للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلما على عدوها.

37. تعلق كل من المجرور وهو ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ﴾ وتعلق المفعول لأجله وهو ﴿بَغْيًا﴾ بقوله: ﴿اخْتَلَفَ﴾ الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصورا في فاعل الفعل الذي تعلقا به، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضي‏ بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة، لأن التحقيق أنّ ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه، لكنه مقيد بقيدين هما ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ و﴿بَغْيًا﴾ إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد.

38. الآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافا في أصول الشريعة، فإنها إجماعية، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته، واتفقوا في أكثر الفروع، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع، وقد استبرؤوا للدّين فأعلنوا جميعا أن لله تعالى حكما في كل مسألة، وأنه حكم واحد، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد، وأن مخطئه أقل ثوابا من مصيبه، وأن التقصير في طلبه إثم، فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار.

39. أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري:

فمجادل وصل الجدال وقد درى‏...أن الحقيقة فيه ليس كما زعم‏

علم الفتى النّظّار أن بصائرا...عميت فكم يخفى اليقين وكم يعم

‏40. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على‏ ﴿اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ الذي تضمنته جملة القصر، قال ابن عرفة(: عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف)، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدى‏ المسلمين وقع بعد أزمان مضت، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى، وفيه بعد لا يخفى، فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأنّ السامع ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل: دام هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى: ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ﴾ [البقرة: 60]

41. المراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة، والضمير في‏ ﴿اخْتَلَفُوا﴾ عائد للمختلفين كلهم، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله: ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾ وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي.

42. الإذن: الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذن إذا أصغى أذنه إلى كلام من يكلمه، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابة مطلبه، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشيع في معنى الخطاب بإباحة الفعل، وبذلك صار لفظ الإذن قابلا لأن يستعمل مجازا في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة، لأن من ييسر لك شيئا فكأنه أباح لك تناوله.

43. في هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله، فاختلف أتباعهم فيه بدلا من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوح الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة.

44. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء، وهذا إجمال، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجيء شريعة الإسلام لمّا تهيأ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة، فكانت الشرائع السابقة تمهيدا وتهيئة لقبول دين الإسلام، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار، وهذا اتحاد عجيب، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب، ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ وفي الحديث: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى ما لنا أكثر عملا وأقلّ عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء)

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/283.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس فريقان: فريق يسعى في الأرض فسادا، ويضل الناس بخلابة لسانه؛ وفريق باع نفسه للحق يفتديه، ولربه يبتغى رضاه، ولا يرجو سواه؛ وإن النضال بين الفريقين قائم، على مقتضى سنة هذا الوجود، من التنازع بين الخير والشر، وبين أهل الحق والضلال؛ وإنه من أجل ذلك سوغ الله سبحانه وتعالى لأهل الخير أن يحملوا السيف مناضلين مدافعين، وإن كان أصل الفضيلة في الأمن والسلام؛ ولكن إن كانت الحرب سبيل السلام الفاضل فهي مطلوبة لأجل السلم، وإن كانت شجرة السلام التي تظل أهل الحق لا تقوم إلا إذا سقيت بالدماء، وجب القتال؛ لأن ما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، والسلام واجب على بنى الإنسان.

2. في هذه الآية يشير سبحانه إلى أن الاختلاف بين الناس ما بين محق فاضل، ومبطل شرير، مستكن في أصل الوجود قائم على أصل من الفطرة التي ألهمت فيها النفوس فجورها وتقواها، وهداها الله النجدين؛ وأن الله العليم الحكيم بعث الرسل مبشرين بحسن العقبى لأهل الخير وسوء العقبى للأشرار؛ ليكون من ضل إنما يضل عن بيّنة، ومن اهتدى فعن بينة؛ ولتتحقق التبعة على الأفعال بالعقاب والثواب؛ وليكون الجزاء العادل على العمل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؛ وليخفف بعث النبيين الخلاف وإن كان لا يمحوه؛ فإن المماراة واللدد في الخصومة التي اختص بها أهل الشر يمنعانهم من أن يسلموا بالحق رغبا، وإن كانوا أحيانا يسلمون به رهبا، وبعضهم يطمس الله على بصيرته فلا يجديه ترغيب، ولا يؤثر فيه ترهيب؛ بل هو ضال مضل إلى يوم الدين، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾

3. الأمة مأخوذة من أمّ بمعنى قصد؛ والجماعة من الناس التي تربطها رابطة، وتجمعها جامعة تسمى أمة؛ لأن كل واحد منها يؤم المجموع ويقصده، ويعتمد عليه في مدلهم الأمور، ولقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في معنى الأمة ما نصه: (والأمة كل جماعة يجمعهم أمر؛ إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء أكان الأمر الجامع تسخيرا أو اختيار، وجمعها أمم، وقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام‏] أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع؛ وقوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي صنفا واحدا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر، وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود] أي في الإيمان؛ وقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران‏] أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم؛ وقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف‏] أي على دين مجتمع)

4. من هذا التحقيق، وتتبع الآيات الكريمات، تبين أن معنى (أمة) الطائفة التي يجمعها أمر، ويربط بينها وصف جامع؛ فقوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي كان الناس على اختلاف أجناسهم وأقاليمهم وألوانهم أمة واحدة، أي تجمعها رابطة واحدة، ووصف مشترك يوحد بينهم جميعا، مهما تختلف المنازع.

5. هنا يتطلع العقل لمعرفة ذلك الأمر الذي اشترك الناس جميعا فيه، فكانوا بذلك الاشتراك أمة واحدة، ثم إلى ما تدل عليه كلمة ﴿كَانَ﴾:

أ. أهو الدلالة على الماضي من غير استمرار، بمعنى أن ذلك الوصف الجامع كان في الماضي وانتهى وانقطع، أي أن الناس في الماضي كانوا أمة واحدة، وفي الحاضر والاستقبال زال ذلك الوصف عنهم، أو على الأقل في حكم المسكوت عنه، والحكم على الماضي يشمل الحال والاستقبال.

ب. أم أن مدلول كان هو الوجود والاستقرار، فتدل على الوقوع في الماضي يشمل الحال والاستقبال، فتدل على وقوع في الماضي والاستمرار في الحاضر، والبقاء إلى المستقبل ككان في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان‏]

6. هذان هما الأمران اللذان يعدان مجال القول، عند تفهم مدلول تلك الجملة السامية: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ فلنقصد لذكر أقوال العلماء فيهما، وهى في نظرنا ترجع إلى ثلاثة أقوال:

أ. أولها ـ أن الوصف الجامع الذي كان يجتمع الناس جميعا عليه هو أنهم كانوا مهديين، وعلى الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها؛ وقد اختلف العلماء في نوع هذه الهداية وأسبابها؛ والذى نختاره ما أشرنا إليه من أنها هداية الفطرة؛ (وكان):

تكون للماضي، ولا يستمر الحكم بها في الحاضر، ولا يمتد إلى القابل، ويكون على هذا التخريج لا بد أن يقدر ما يدل على زوال وصف الهداية، حتى تكون الحاجة إلى بعث الله النبيين؛ ولذلك قال العلماء: (إن معنى الآية على هذا التخريج: كان الناس أمة واحدة مهديين فاختلفوا ما بين ضال ومهتد، فبعث الله النبيين بالكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)

ويصح أن نقول: إن (كان) تدل على الاستمرار، ويكون المعنى أن الناس كانوا وما زالوا أمة واحدة مهديين بمقتضى الفطرة، ولكنهم يضلون أنفسهم، فبعث النبيون ليكونوا حجة على الناس، وليكون الجزاء من عقاب وثواب، وليتحمل كل امرئ عاقبة ما صنع بالتبليغ.

ب. الثاني:أن الناس كانوا أمة واحدة من حيث إنهم كانوا ضالين، فبعث الله الأنبياء لهدايتهم، ولإنقاذهم من حيرتهم، وليكونوا حجة عليهم، ولتترتب تبعات الأعمال، من عقاب وثواب، وذلك بالإنذار والتبشير، (وكان) على هذا التخريج تكون للماضي واضحة المعنى، بينة، ولا حاجة إلى تقدير كلام محذوف.

ج. الثالث: وهو قول القرطبي إذ يقول في أحكام القرآن: المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا منّ الله عليهم، وتفضله بإرسال الرسل إليهم؛ فلا تختص (كان) على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله تعالى‏ ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان‏]، وإن هذا هو الذي نختاره‏ وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف؛ لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع، ولا تهتدى عقولهم إلى الحقائق بنفسها، توجب البعث؛ ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين؛ وذلك لأن النفوس إن تركت لمقتضى جبلتها من غير شرع مبين، ولا كتاب يحكم، تكون بين نفس غلبت عليها شقوتها؛ وبين نفس ضالة حائرة، تدفعها الغرائز إلى الشهوات دفعا، فيكون التناحر والتنابذ؛ ولا بد حينئذ من حاكم يقضى، ويقدع النفوس عن شهواتها، ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع، واستعانة بعضهم ببعض؛ وحيث كان الاجتماع لا بد من نظام يربط، وشرع يحكم، وعقاب يردع؛ وإلا أكل القوى الضعيف، كما يأكل كبار السمك صغارها عند اجتماعها، وكما تفترس السبع الأوابد من يكون أضعف منها.

7. على هذا تكون الفاء في قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ للترتيب والتعقيب في موضعها من غير حاجة إلى التقدير؛ لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف، فكان لا بد من شرائع السماء لتبخع الشهوات، ولتقضى على الخلاف، ولتهدى الناس وتنقذهم من الضلال، ولأن اتحاد الفطرة واتحاد الغرائز، واندفاعها إن لم يكن لها عاصم من شرع زاجر وعقاب مانع، يجعل الناس يتناحرون ويتنابذون فلا بد من حكم صالح بين الناس، فكان ذلك الحكم من السماء، (وكان) على هذا التأويل تكون دالة على الاستمرار والثبوت؛ لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع من السماء، لا يهتدون إلا به، ولا ينير السبيل لهم شيء سواه؛ وإنه مهما تعل العقول فلن تقوى على التهذيب من تلقاء نفسها؛ بل لا بد من دين قد اشتمل على الترغيب والترهيب من بارئ الكون ومنشئ الخلق، الذي خلق الإنسان وهداه النجدين: طريق الخير، وطريق الشر، واعتبر بما ترى بالمدنية الحاضرة؛ فقد علت العقول عند أهلها، حتى استخرجوا كنوز الأرض، وتعرفوا على كثير من نواميس الوجود، ولكنهم يأكل بعضهم بعضا لهجرهم الأديان، وعدم وجود داع ينادى بينهم باسم القرآن.

8. سؤال وإشكال: إن جعل (كان) للاستمرار، يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضى بعث النبيين إلى يوم القيامة، وإنه لا بد من نبيّ لعصرنا، والجواب: نحن نسلم بالاعتراض، ولا ندفع إيراده، ونقول: نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة، وتلك الرسالة قائمة إلى يوم القيامة؛ وهى رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، وذلك‏ بالقرآن الكريم لا تبلى جدته، وبقائه محفوظا إلى يوم القيامة من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل؛ وكون الذي يقرؤه كأنما يتلقاه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فيتلقى التكليف؛ وهو في ذاته حجة قوية معجزة، ولا يختص إعجازها بجيل من الأجيال، ولا عصر من العصور؛ إذ هو بما اشتمل عليه من علم وشريعة، وقصص مستقيم، معجز إلى يوم الدين؛ وإذا كان الناس في جهالة به، ولم يتلقوا رسالته، فهذا من تقصير الذين توارثوه وانتقل إليهم متواترا جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة؛ فبعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم مبشرا منذرا إذن متجددة فيه؛ وحق على حملته، ومن توارثوا علمه أن يعلنوه بين الناس، ليصدق عليهم قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) وإلا فهم عن ذلك في واد يهيمون.

9. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ بعث الله سبحانه وتعالى النبيين مبشرين ومنذرين، أي مبشرين بحسن العقبى في الدنيا والآخرة إن أطاعوا ربهم، ومنذرين بسوء العقبى في الدنيا والآخرة إن عصوا ربهم، ووقعوا في الشر، ولم يستقيموا على الطريقة.

10. أنزل الله سبحانه كتابا مشتملا على الحق مع كل نبيّ يرشد به ويبين ويهدى ويقوم ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، بالحق الذي اشتمل عليه، إذ إن الاختلاف من طبيعة التكوين الإنساني ومشتق من كونهم أمة واحدة في الجهل بحقائق الوجود إلا من رحم الله، وإن الغرائز إن لم يكن لها عاصم من الإرادة القوية والهداية الإلهية تندفع إلى الشهوات فتتناحر القوى ويأكل القوى الضعيف ولقد ذكر الكتاب بصيغة المفرد، مع أن كل نبيّ مبعوث له كتاب، وجاء محمد بكتاب جامع مصدق لما بين يديه وما خلفه يهدى للتي هي أقوم؛ عبر بصيغة الواحد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت هي في لبها كتاب واحد؛ لاشتمالها على شرع واحد في أصله، كما قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى‏]

11. كلمة ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قرئت بضم الياء للبناء للمجهول؛ وقال القرطبي إنها قراءة شاذة؛ والمعنى عليها أن الكتاب مشتمل على ما يحكم به بين الناس فيما يختلفون فيه مما يتعلق بالدنيا والآخرة، فهو المرجع الذي يدركون به الحق في ذاته إذا اختلفوا في العقائد أو الشرائع، أو اليوم الآخر؛ وهو الحكم العدل إذا اختلفوا في شئون دنياهم، ومآرب الحياة، والمعنى على القراءة المشهورة ﴿لِيَحْكُمَ﴾ بفتح الياء للبناء المعلوم: أن القرآن هو الذي يحكم بين الناس، فهو الفيصل في الخلاف، وهو المصدر العلمي في كل شيء يتعلق بالدين، وفيه الحكم العادل إلى يوم القيامة، وإسناد الحكم إلى الكتاب للإشارة إلى وجوب الرجوع إليه عند كل اختلاف، وللإشارة إلى ألا نحكم أهواءنا في فهم الكتاب وتأويله تأويلا بعيدا ليتفق مع رغباتنا، أو ما يسميه البعض مصالحنا، ولا مصلحة في غير ما جاء به النص المبين.

12. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ من شأن الكتاب أن يزيل الخلاف ويحسم النزاع إن احتكموا إليه واهتدوا بهديه، وهو لا يحمل الناس على الهداية حملا بل ينير الطريق ويهدى إلى التي هي أقوم، فهو كالضوء لا يخلق البصر، ولكن ينير للمبصر؛ وهو كالدليل في الصحراء يبين المسلك ولا يحمل على السير؛ ولذلك لم يزل الخلاف بين الناس بنزول الكتاب، بل يوجد خلاف آخر حوله؛ لأن الأهواء إذا استحكمت، لا تسترشد بمرشد، ولا تتبع هاديا؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾

13. الضمير في ﴿فِيهِ﴾ وفي ﴿أُوتُوهُ﴾ إما أن نجعله يعود إلى الحق، وإما أن نجعله يعود إلى الكتاب، وكلاهما مذكور، وله وجه:

أ. فإن كان الضمير يعود إلى الحق، فالمعنى على ذلك: إن الذين يختلفون في شأن الحق، اختلافهم ظلم، هم مأخوذون به معاقبون عليه، فليس الاختلاف مبنيا على جهالة كالاختلاف قبل نزول الكتاب، بل هو ترك للحق عن بينة؛ لأنهم أوتوا الحق أي أوتوا العلم به، فليسوا جاهلين كشأنهم الأول؛ ولأنهم علموا الحق ببينات جاءتهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي من بعد ما جاءتهم الحجج البينة المثبتة له التي يدركها كل إنسان إلا من ران الله على قلبه؛ ولأن البغي أي الظلم الشديد هو الذي يدفعهم إلى ذلك الاختلاف.

ب. ولو جعلنا الضمير يعود على الكتاب، يكون المعنى أن الاختلاف يكون حول الكتاب الذي هو بيان الحق ونوره؛ وذلك لأن الذين في قلوبهم مرض، وعلى أعينهم غشاوة، تبعث الرسل إليهم لهدايتهم بكتب فيها الحق والميزان فيجعلون تلك الكتب موضع الجدل والاختلاف ولكنه ليس كخلافهم قبل البعث؛ لأن الخلاف الأول عن جهل ففيه العذر، أما الخلاف الثاني فلا عذر فيه؛ لأنه خلاف بعد أن أوتوا علم الكتاب، وما اشتمل عليه، وبعد أن جاءتهم البينات والدلائل على الصدق.

14. ذكر سبحانه الباعث على الخلاف بعد نزول الكتب المقدسة بالحق المبين المؤيد بالأدلة القاطعة، فقال سبحانه: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ والبغي معناه طلب الشيء متجاوزا حد الاقتصاد، وقال الراغب الأصفهاني: البغي على ضربين: محمود وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع؛ والثاني مذموم، وهو تجاوز الحق إلى الباطل، وأكثر ما يكون البغي في الثاني، وهو المراد هنا، أي أن الباعث على الخلاف في الكتاب بعد نزوله مؤيدا بالحجج الدامغة والأدلة القاطعة هو الشهوات المستحكمة التي تدفع النفوس إلى مجاوزة الحد في الطلب، وقال سبحانه: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أي أن‏ البغي واقع فيهم، وإن لم يكونوا كلهم بغاة، فيكفى أن يكون بعضهم باغيا ليقع الخلاف حول الكتاب، بين طلاب الحق المهتدين، والذين أركسوا في الباطل فلا ينطقون إلا تحت سلطانه، ولا يعملون إلا تحت تأثيره.

15. الاختلاف في الكتاب يشمل:

أ. الاختلاف في شأنه ما بين مصدقين بما جاء به ومكذبين، ومذعنين لأحكامه ومخالفين.

ب. ويشمل الاختلاف في أحكامه ما بين منفذين خاضعين، وعصاة لها قد ارتضوا حكم الجاهلية بدل حكم الله.

ج. ويشمل أيضا الاختلاف في تفسيره وتأويله ما بين راسخ في علم الكتاب يطلبه من أوجهه، وبين زائغ القلب والبصيرة يتبع المتشابه، أو يثير حوله الشبه ولو كان واضحا بين صريحا.

16. كل هذا يدفع إليه البغي والعدوان، ولا يعتمد على حجة من برهان، وهو حجة كما قررنا على المختلفين؛ لأنه بعد أن ﴿أُوتُوهُ﴾ أي أوتوا علم الكتاب مؤيدا بالبينات، ولكن جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، واستحكمت شهواتهم، وسموها مصالح ومنافع، وأرادوا أن يخضعوا نصوص الكتاب لها، فضلوا ضلالا بعيدا.

17. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ أشار سبحانه في الجملة الكريمة السابقة إلى السبب في غواية الغاوين، وإثارة الخلاف، وهو البغي وتحكم الشهوات التي تدفع إليه؛ وفي هذه الجملة الكريمة يبين موقف المهتدين؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، إذ المعنى: إذا كان هذا شأن الظالمين فقد هدى الله الذين آمنوا.. إلى آخره.

18. عبر بالذين آمنوا للإشارة إلى سبب هدايتهم للحق، وهو الإيمان والإذعان؛ فهم يؤمنون بالحق إذا جاءهم، ويذعنون له ويخضعون؛ وهم لاستقامة نفوسهم يتبعون النور الذي يكشف لهم الطريق ويسيرون فيه.

19. أسندت الهداية إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مقلب القلوب، وهو علام الغيوب، المسيطر على كل شيء، وللعبد إرادة أيضا، فمن كان له قصد إلى الخير، واتجاه إلى الفضيلة وسار في الطريق المستقيم، قذف الله في قلبه بنور مشرق، وسار به مهديا في مضطرب الخلاف، ومعترك النزاع؛ فالمؤمن باتجاهه المستقيم وإذعانه لليقين، وهداية رب العالمين يصل إلى الحق في موضوع الخلاف، والصواب في متنازع الآراء؛ لأن الذي يفسد الرأي هو الهوى، وتسلط الشهوات؛ فهي إذا استحكمت أضلت ذا اللب، وطمست البصيرة إذ أصبح محكوما بالأهواء والشهوات، يسير في مسارها، وهو يحسب أنه يسير وراء العقل؛ وذلك هو الضلال المبين؛ فإذا خلص المؤمن من أدران الهوى ولم تتحكم فيه الشهوات فسيصل إلى الحق لا محالة؛ لأن الذي يضل العقول رين الشهوات.

20. ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ هي البيانية، والمعنى: هدى الله الذين آمنوا للحق في موضع الخلاف، فلا يطيش عقله ولا يضل فهمه، بل يتجه إلى الحق الذي جرى الخلاف حوله من غير أن تتأثر نفسه بهوى أهل الأهواء الذين اختلفوا فيه، وكانوا بسبب الاختلاف في ريب يترددون؛ لأن الاختلاف بالنسبة للمؤمن يجلو الحق ويمحصه، وبالنسبة لمريض القلب يطمس الحق في نفسه فيتخذ منه تعللات يبرر بها ضلاله.

21. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ معناها بتيسيره وتوفيقه؛ وقال الزجاج معناها: بعلمه، وقال بعضهم: بأمره؛ ونحن نرى أن التيسير والتوفيق يتضمن هذا كله؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بالحق وأمر به؛ وهذا من تيسيره؛ ثم وفق سبحانه المؤمن للعمل به، لاستقامة فكره وقلبه؛ ولم يوفق غير المؤمن ذلك التوفيق لتحكم الأهواء والشهوات في قلبه، فلم يتجه اتجاها مستقيما لطلب الحق والعمل به.

22. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الصراط: هو الطريق المستقيم، فوصفه بالاستقامة تأكيد لمعنى الاستقامة؛ وقد ذيل الله سبحانه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية الحكيمة؛ لبيان كمال سلطانه سبحانه، وأن الذين يعاندون حكم الكتاب هم في قبضة يده لو أراد أن يهديهم لفعل؛ فليس لأحد سلطان بجوار سلطان الله؛ وليس الشر قوة قائمة بذاتها، إنما الجميع تحت أمر الله الكوني وسلطانه؛ ولو أراد أن يكون الجميع مهديين لكانوا، ولكنه يختبر الإنسان في هذا الوجود، فجعل الشر بجوار الخير، وجعل المعركة قائمة بينهما ليكون للمهتدى ثواب الهداية إذا قصد إليها، وعلى الضال إثم ضلاله؛ وإن الاعتراك بين الخير والشر يصقل أهل الحق، ويزكى نفوسهم، وفقنا الله إلى الحق، ومن الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله متلبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/661.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أطلق الله في كتابه الكريم لفظ الأمة على معان: منها الملة كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء الآية 92: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، ومنها الجماعة كما في سورة الأعراف 181: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾، ومنها السنون، كقوله في سورة هود الآية 8: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾، ومنها الإمام الذي يقتدى به، كقوله في سورة النحل 120: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله﴾.. والمراد بلفظ الأمة هنا الملة.

2. تضاربت أقوال المفسرين في معنى هذه الآية، وشرحها الرازي بحوالي سبع‏ صفحات بالقطع الكبير، أما صاحب المنار فشرحها باثنتين وعشرين صفحة، وترك القارئ العادي في متاهة لا يهتدي الى شيء.. ونحن على منهجنا من الرفق بالقراء مهتمين بأضعفهم ما أمكن واقفين معه عند مداليل الألفاظ، نشرحها بأوضح واخصر بيان، كي يتدبر آيات الله بسهولة، وتؤثر أثرها في نفسه، فان كان هناك موضوع هام أشرنا اليه بفقرة مستقلة.

3. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، أي كانوا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي أشار اليها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله: كل مولود يولد على الفطرة، قال صاحب مجمع البيان: (روى أصحابنا عن الإمام أبي جعفر الباقر: انهم كانوا قبل نوح‏ أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين، فبعث الله النبيين، وعلى هذا فالمعنى انهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين الى نبوة، ولا شريعة)

4. ثم عرض على فطرتهم التخيلات والأوهام، وجرتهم هذه الأوهام الى الاختلاف في العقيدة والرأي، وبالتالي الى اعتداء بعضهم على بعض، فتفرقوا شيعا بعد أن كانوا أمة واحدة، فأرسل الله الأنبياء، ومعهم الكتاب ينطق بالحق، ويحكم بالعدل، ليحتكموا اليه في خلافاتهم ومنازعاتهم.. وهذا هو المعنى الظاهر من قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾.. وبهذا يتبين ان في الكلام جملة محذوفة، والتقدير كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، بدليل قوله تعالى‏ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، وتؤكد ذلك الآية 19 من سورة يونس: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾

5. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، أي ان الناس الذين كانوا أمة واحدة ثم اختلفوا فأرسل الله اليهم الأنبياء، ان أولئك الناس أيضا اختلفوا فيما أرسل به الأنبياء، فمنهم من آمن وصدق، ومنهم من كفر وكذّب بعد أن قامت الأدلة والبراهين، والحجة القاطعة على‏ الكافرين والمكذبين للأنبياء ورسالتهم، ولا سبب لهذا التكذيب الا البغي والخوف على منافعهم ومصالحهم الشخصية، ومكاسبهم العدوانية.

6. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، أي ان الله سبحانه وفق أرباب النوايا الصالحة الى الايمان بالحق الذي جاء به الأنبياء، وهذا الايمان كان بأمره تعالى.. فالمراد بالاذن الأمر.

7. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، في تفسير الآية 26 من هذه السورة ذكرنا معاني الهداية، ومنها أن يتقبل الإنسان النصيحة ويعمل بها، وهذا المعنى هو المراد بها هنا، وان الله سبحانه يوفق الطيبين الى تقبل النصح والعمل بالحق والخير.

8. وجد الاختلاف بين الناس منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل، واستمر حتى اليوم، وسيبقى الى آخر يوم.. ولا يختص الاختلاف بأهل الأديان، كما يحلو للمستهترين ان ينتقدوا، أو يتحذلقوا.. فان اختلاف غيرهم قد بلغ النهاية، وتجاوز الكلام الى الحروب الطاحنة، فالتناقضات بين الدول الرأسمالية أدت الى حرب نووية، فقنبلة هيروشيما ألقتها على النساء والأطفال دولة رأسمالية ضد دولة مثلها.. وانقسام الجبهة الاشتراكية لم يخف على أحد، كما مهد السبيل للسياسة العدوانية على الشعوب المستضعفة، وشتات كل من الدول الافريقية والاسيوية ضمن النجاح لكل من أراد استغلالها والسيطرة على مقدراتها، أما اختلاف الدول العربية فكان من نتائجه وجود إسرائيل في قلب بلادهم، وبالتالي نكسة 5 حزيران 1967.

9. مهما يكن، فان للاختلاف أسبابا كثيرة، منها التباين في الثقافة والتربية، ومنها التغاير في الاستعداد والموهبة، ومنها الاختلاف في الطبع والمزاج، ومنها التصادم بين المصالح والمنفعة الخاصة، والاختلاف الناشئ من تباين الثقافة، أو الموهبة، أو المزاج يمكن علاجه بالاحتكام الى مبادئ أثبتها العلم والتجربة، أما الاختلاف الناشئ من تصادم المنافع الشخصية فلا علاج له إلا ردع المعتدي بالقوة.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/317.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية الكريمة تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الإنساني به، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: أن الإنسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه أمة واحدة، ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفعت بالتبشير والإنذار: بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، وإرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدإ والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والأحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، والله يهدي‏ من يشاء إلى صراط مستقيم.

2. الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني، والمصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظم للإنسان سلك حياته الدنيوية والآخروية، والمادية والمعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع (الحياة الاجتماعية والدينية) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة، وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شئون مختلفة:

أ. بدء تكوين الإنسان: محصل ما تبينه تلك الآيات على تفرقها أن النوع الإنساني ولا كل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الإنسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض وما عليها والسماء ولا إنسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع وإليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾، وقال تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وقال تعالى: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الأنواع وأن الإنسان مشتق من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني، وإنما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الإمكانات الذهنية، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والأحكام المربوطة بموضوع البحث، وسنستوعب هذا البحث إن شاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)

ب. تركبه من روح وبدن: أنشأ الله سبحانه هذا النوع، حين ما أنشأ مركبا من جزءين ومؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، وجوهر مجرد هي النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية، ثم يرجع الإنسان إلى الله سبحانه قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ﴾، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وأوضح من الجميع قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾، فإنه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرق الأعضاء والأجزاء واستهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفاهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضل في الأرض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولا فائتة ولا مستهلكة، وسيجيء إن شاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الإنساني في المحل المناسب له.

ج. شعوره الحقيقي وارتباطه بالأشياء: خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد ففيه قوة الإدراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويئول إليه أمر الحدوث والوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء، ويستطيع الانتفاع من كل أمر، أعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة وأداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، وسلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.

د. علومه العملية: أنتجت هاتان العنايتان: أعني قوة الفكر والإدراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي أن يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه، توضيح ذلك:

أنك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الإنسان، هذا الموجود الأرضي الفعال بالفكر والإرادة، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه أنه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات وأفكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتساع أطرافها وتشتت جهاتها العقل، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الإنسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ، ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والإدراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لأن يتوسط بين الإنسان وبين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض والسماء والماء والهواء والإنسان والفرس ونحو ذلك من التصورات، وكمعاني قولنا: الأربعة زوج، والماء جسم سيال والتفاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الإدراكية، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا (ما نحكي عنه بلفظ أنا)، والكليات الآخر المعقولة، فهذه العلوم والإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إرادة ولا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.

وهناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا وقبحا وما ينبغي أن يفعل وما يجب أن يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤوسية، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الأفكار والإدراكات لا هم لنا إلا أن نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الأفعال الإرادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة، وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الأمر كذلك في القسم الأول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عما لا يلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحب والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثم هذه الصور الإحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والإدراكات من معنى الحسن والقبح، وينبغي ولا ينبغي، ويجب ويجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة لها إلا العمل، (وهي المسماة بالعلوم العملية) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر.

الله سبحانه ألهمها الإنسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، والأخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور، وقال تعالى في الإنسان خاصة: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للإنسان بإلهام فطري منه تعالى، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي، وهي العلوم العملية التي لا اعتبار لها خارجة عن النفس الإنسانية، ولعله إليه الإشارة بإضافة الفجور والتقوى إلى النفس، وقال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي أمور خيالية لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى أن الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الإنسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الإنسان وأحواله، فالموجود بحسب الواقع من (الإنسان الرئيس) إنسانيته، وأما رئاسته فإنما هي في الوهم، ومن (الثوب المملوك) الثوب مثلا، وأما إنه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، وعلى هذا القياس.

هـ. جريه على استخدام غيره انتفاعا: فهذه السلسلة من العلوم والإدراكات هي التي تربط الإنسان بالعمل في المادة، ومن جملة هذه الأفكار والتصديقات تصديق الإنسان بأنه يجب أن يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن وبذلك يأخذ في التصرف في المادة، ويعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، واستخدام الإبرة للخياطة، واستخدام الإناء لحبس المائعات، واستخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والأغراض المنظور فيها، وبذلك يأخذ الإنسان أيضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، ويتصرف في وجودها وأفعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه.

و. كونه مدنيا بالطبع: غير أن الإنسان لما وجد سائر الأفراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم ورضي منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، وهذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، والاجتماع التعاوني، ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعي، فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبدا، وهذا معنى ما يقال: إن الإنسان مدني بالطبع، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، وعلى ذلك جرى التاريخ أيضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية، وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الإنسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع أن المشهود دائما خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة وتحميل القوي العزيز مطالبه‏ الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

ز. حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان، ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه ويقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمة بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج، وداعيا إلى هلاك الإنسانية، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة، وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الإنسانية الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال في عين أنها متحدة بنحو، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الأفعال، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع، وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه، وتحميلها الناس، والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين‏:

الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولا مرعي، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، ويوما الخلاعة، ويوما الصدق، ويوما الكذب، ويوما الأمانة، ويوما الخيانة، وهكذا.

الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق واحترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.

وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع وهلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوك الإنسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، وأباد حقيقته، فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب و، هتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.

فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض والأمتعة، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.

وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.

وقد أخطأ القائلان جميعا، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغي والهلاك، والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.

ح. رفع الاختلاف بالدين: ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم، ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ الجاثية ـ 24، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات، وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها، وكذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحق والعلم، والرسول يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، وهذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَأَعْمى‏ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أولو الْأَلْبابِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف ـ 108، وقال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الزمر ـ 9، وقال تعالى: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ البقرة ـ 129، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به، وناهيك فيه أنه يسمي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهلية كما قيل، فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إن الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم، وقد أخطئوا في ظنهم، وخبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله بريء من المشركين ورسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطئوا في حسبانهم، والدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل والتقليد، وأمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.

ط. الاختلاف في نفس الدين: وبالجملة فهو تعالى يخبرنا أن الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين، ثم إنه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، إلى أن قال ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾، فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

ي. الإنسان بعد الدنيا: ثم إن الله تعالى يخبرنا أن الإنسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير أن حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، ومعنى كون الحياة انفرادية، أنها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني، والتشارك والتناصر، بل السلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر أصلا، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون والتشارك، لكن الإنسان خلفه وراء ظهره، وأقبل إلى ربه، وبطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلا صحابة عمله ونتيجة حسناته وسيئاته، ولا يظهر له إلا حقيقة الأمر ويبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على أن الإنسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيا حياة اجتماعية مبنية على التعاون والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، ولا يجني إلا ثمرة عمله ونتيجة سعيه ظهر له ظهورا فيجزي به جزاء.

3. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، الناس‏ معروف وهو الأفراد المجتمعون من الإنسان، والأمة هي الجماعة من الناس، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله﴾، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾، أي بعد سنين وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وأصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على‏ جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحح لإطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت.

4. كيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في أمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء، والدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فقد رتب بعثة الأنبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.

5. هذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الإنساني لا يزال يرقى في العلم والفكر، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة، عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقل عرفانا برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأولي الذي لا يوجد عنده إلا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة وحدود العيش، كأنهم ليس عندهم إلا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد والإيواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والأخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، ومن المعلوم أن قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، ولا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لأفراده إلا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب.

6. غير أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلب، وهو كل يوم يزداد علما وقوة على طرق الاستفادة، ويتنبه بمزايا جديدة، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الأقوياء وأولو السطوة وأرباب‏ القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف، الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنية، ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدل أمرهما، ويصلح شأنهما، وذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، ويؤدي ذلك إلى التزاحم، كما أن جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة، وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكل بما يناسبه، ويقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الآخرى في فعلها، والتنافي بين حكمين فطريين فما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، ولكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير والإنذار، وإنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

7. بهذا البيان يظهر فساد:

أ. ما ذكره بعضهم: أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لأن الاختلاف إنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، والبغي من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، وقد مر بيانه، وعن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف، وإشاعة الفساد، وإثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الأخلاق مع استبطانها؟

ب. يظهر به أيضا: فساد ما ذكره آخرون أن المراد بها أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ الآية، وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، إنما نشأ عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين؟

ج. يظهر به أيضا ما في قول آخرين إن المراد بالناس بنو إسرائيل حيث إن الله يذكر أنهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، وذلك أنه تفسير من غير دليل، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.

د. وأفسد من ذلك قول من قال إن المراد بالناس في الآية هو آدم عليه السلام، والمعنى أن آدم عليه السلام كان أمة واحدة على الهداية، ثم اختلف ذريته، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ الآية، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه.

هـ. ويظهر به أيضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾، فهو دال على الثبوت، والمعنى: أن الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الإنسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، واتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع والتعاون بين الأفراد والمبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه ويستحقه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتا من الأوقات، يدل عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير أن ذلك يؤدي إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، وبلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف، فمحصل المعنى أن الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف فلذلك بعث الله الأنبياء وأنزل الكتاب، ويرد عليه:

أولا: أنه أخذ المدنية طبعا أوليا للإنسان، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، وقد عرفت فيما مر أن الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحي اضطراري، وأن القرآن أيضا يدل على خلافه.

وثانيا: أن تفريع بعث الأنبياء وإنزال الكتب على مجرد كون الإنسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف، وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.

وثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافا واحدا، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول وما اختلف فيه أي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغيا بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه.

8. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ الآية، عبر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل، على أن البعث وإنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتنبيههم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم، وإنبائهم أنهم مخلوقون لربهم، وهو الله الذي لا إله إلا هو، وأنهم سالكون كادحون إلى الله مبعوثون ليوم عظيم، واقفون في منزل من منازل السير، لا حقيقة له إلا اللعب والغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه الحياة وأفعالها، وأن يجعلوا نصب أعينهم أنهم من أين، وفي أين، وإلى أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، ولذلك عبر بالنبيين، وفي إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحي وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، وأما التبشير والإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن آمن واتقى، والوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسط الحال، وإن كان بعض الصالحين من عباده وأوليائه لا تتعلق نفوسهم بغير ربهم من ثواب أو عقاب.

9. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، الكتاب‏ فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه وإن استلزم كتابه بالقلم لكن لكون العهود والفرامين المفترضة إنما يبرم بالكتابة غالبا شاع إطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أو كل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إبرامه، وقد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، وبهذا المعنى سمي القرآن كتابا وهو كلام إلهي، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، وفي قوله تعالى‏ ﴿فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾ الآية، كما مر.

10. اللام في الكتاب إما للجنس وإما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليه السلام لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين أن الشريعة النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، ولما كان قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ الآية يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام:

أ. أولا: على أن لنوح عليه السلام كتابا متضمنا لشريعة، وأنه المراد بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، إما وحده أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس.

ب. وثانيا: أن كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ﴾ الآية.

ج. وثالثا: أن هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية كان قبل بعثة نوح عليه السلام وقد حكم فيه كتابه عليه السلام.

11. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.

12. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، وقد عذر من اشتبه عليه الأمر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ ﴿حَكِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾

13. على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمد والبغي، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

14. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ﴾ بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، وعند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحق والمعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغي حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وإيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

15. النظريات الدينية التي يستفاد من الآية وهي سبعة، والدليل المستفاد منها على النبوة العامة، وقد تبين من الآية:

أ. أولا: حد الدين ومعرفة، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.

ب. ثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشئ عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا.

ج. ثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾

د. رابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.

هـ. خامسا: السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، وهو أن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والإيجاد فما هو مقدمته كذلك، وقد قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقه الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضا: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقه، وأن عطاءه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى، ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية؟ وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالإصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية.

فالنبوة حالة إلهية (وإن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الإنسان، وهذا الإدراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، والحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.

ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة، وتقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والإيجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر وراءه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى‏ بالنبوة والوحي، وهذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ.

فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا أن فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة؟

وأما إن الصنع والإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما إن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا: أما البحث: فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، وأما التجربة:

فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الإسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك، وسنستوفي البحث عنه إن شاء الله في محل آخر أليق به.

و. سادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني: قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه، وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، وأخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه، ولم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع أقداما خلفه القهقرى، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معا، وقد اشتبه الأمر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولا شك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليه السلام وموسى عليه السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الإسلام ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر، والجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، وبنى أساسه على الكمال الروحي والجسمي معا، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة والسياسة، وقد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية (والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعا، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية؟

ز. سابعا: أن الأنبياء عليه السلام معصومون عن الخطإ.

16. ذكر هنا بحثا مفصلا حول عصمة الأنبياء عليهم السلام، وأدلتها المختلفة، وأتبعها ببحث مفصل عن النبوة، والحاجة إليها، وما ورد في ذلك من الآثار، وقد نقلنا كل ذلك إلى محله من السلسلة.

17. تبين مما مر أمور:

أ. أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدن والاختلاف.

ب. ثانيها: أن هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.

ج. ثالثها: أن رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الإنسان لا غير.

د. رابعها: أن سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

هـ. خامسها: أن هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنساني في سعادته الحقيقية.

و. سادسها: أن هذه النتائج (ويهمنا من بينها الثلاثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخا، وكون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحي) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، وهو سير كل واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد أن يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطأ على ما مر بيانه.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/112.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد، فاختلفوا، أو علم الله أنهم سيختلفون ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165]

2. ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي مع النبيئين ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ لأن الكتاب يكون معروفاً بينهم لا يجحدونه، فمن خالفه كانت الحجة قائمة عليه ولم تكف الروايات عن أنبيائهم؛ لأنه يكون في الروايات الخلاف في صحتها، والكذب على أنبيائهم.

3. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أي في الكتاب ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ اختلفوا فيه ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فالاستثناء شامل لقوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾

4. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي ما اختلف فيه ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ وما اختلفوا فيه إلاَّ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فدل على أنهم لم يختلفوا عن جهل بما في الكتاب؛ لأنهم ﴿الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي عُلِّموه ولا اختلفوا عن عدم الدلائل البينات فيه أو فيه وفيما حفظ متواتراً عن أنبيائهم، فدل مجموع ذلك على أنهم اختلفوا والحجة قائمة والحق واضح لطالب الحق، ولكن اختلفوا ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ من أجل الهوى؛ لأنه يصد عن سبيل الله.

5. ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنهم لم يغلبهم هوى النفس عن تحكيم الكتاب فيما شجر بينهم ولم يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى وسلموا للحق تسليماً فهداهم ﴿لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي لما اختلف الآخرون المخالفون لهم فيه ﴿مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ لأن مطلوبهم الحق لا ما تهوى الأنفس.

6. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ متعلق بهَدى، ولا حاجة لتقدير فاهتدوا بإذنه لإمكان أن المعنى: فهداهم بإذنه أن يهتدوا، أي الإذن الكوني لا مجرد الإذن التشريعي ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فينبغي التعرض لهدايته بالإيمان الصادق واجتناب موانعها.

7. قوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ يفيد: الإذن بأن يهتدوا، وذلك يستلزم التمكين ومنع الصوارف، ومعنى الاختلاف في الكتاب بين أهله الذين أوتوه هو الاختلاف في دلالته في محل النزاع حيث يدعي بعضهم دلالة الكتاب على مذهبه وينفيها الآخر، فالاختلاف في دلالة الكتاب اختلاف في الكتاب؛ لأن الدلالة كالصفة للكلام والاختلاف في الصفة يسمى اختلافاً في الموصوف لأن المختلفين في الصفة يتكلمون في الموصوف، ألا ترى أن هذا يقول: دل الكتاب على كذا، والآخر يقول: لم يدل على ما ادعيتم، فكلاهما متكلم في الكتاب.

8. دلت الآية أن القرآن حاكم بين الأمة فيما اختلفوا فيه بسبب الأهواء مثل ما سببت له السياسات الدولية كالخلاف في الجبر والتشبيه والإمامة والوعيد؛ لأنه حاكم بينهم فيما اختلفوا فيه من الدين على الإطلاق، وجعله حاكماً دليل على أنه لا يَحكم عليه رواية قول إمام أو شيخ، أو رواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بل يتبع القرآن ويرد ما خالفه أو يؤول، وجعله حاكماً دليل على أنه لا يؤول من أجل رواية خالفته أو نحوها.

9. جعله حاكماً بين الناس دليل على تيسر فهمه للناس كلهم لا يختص بإمام ولا شيخ؛ لأنه قال ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ فلا بد من إمكان فهم الناس لحكمه، وليس عجز بعض الناس عن فهمه إلا لعدم معرفته بالعربية، أو هوى في نفسه يصده عن تفهمه؛ لا لكون القرآن غامض الدلالة في نفسه، وقد وصفه الله بكونه ﴿مُبِينًا﴾ [النساء:174] ونحو ذلك، فأما ما فيه من الفوائد الغامضة فهي زائدة على مفهوم الكلمة الواحدة بإضافة آية إلى آية، أو إضافة الكلام إلى دليل العقل أو نحو ذلك، ولا يجوز جعل معانيه خفية غير ظاهرة لأنه نزل على العرب بلسانهم قطعاً، ولا يقبل إثبات معانٍ غامضة لا يتوصل إليها بالمعنى الظاهر بطريقة معقولة بل بدعوى إلهام أو وحي جديد، وما قيل من المعاني بطريقة المناسبة فلا يعمل به ولكن ينزل منزلة تأويل الرؤيا ولا يعتبر من معنى القرآن فلا يحكم به.

10. ليس غموض الحكمة في بعض الكلمات من غموض المعنى؛ كالحروف في أوائل بعض السور مثل ﴿حم﴾ لأن المعنى ظاهر؛ فمعنى الحاء معروف في حروف الهجاء وهو منها، وكذا الميم معناها معروف، والخفي هو الحكمة في الإتيان بالحرفين، ويستعان بالعترة الأطهار على فهم غوامضه التي تعرف بما ذكرته آنفاً، وكذلك عند قصور الفهم بسبب قصور القارئ لقلة علمه باللغة العربية، وليس المراد تقليد الواحد منهم؛ لأن القرآن هو الثقل الأكبر، ولكن ليبينوا وجه الدلالة حتى يفهم السائل معنى الآية.

11. من المؤسف أن أكثر الأمة عكسوا وحكَّموا عليه غيره وتجاهلوا معناه وتعاموا عنه؛ فمن قائل: (السنة حاكمة على القرآن) ومن قائل: (الشيخ) ومن قائل غير ذلك، مع أن قوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت:44] وغيرهما يدل على عموم هدايته لكل مؤمن، أي أن كل مؤمن يصلح للاهتداء به.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/312.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ كان الناس أمة واحدة في ما يحملون من فكر، فلم تكن لهم أفكار متعددة في شؤون الكون والحياة ليختلفوا فيها، ولم تكن لديهم اهتمامات في نظام الحياة وقانونها ليتنازعوا فيها، بل كانوا يعيشون مشاكلهم الخاصة في حاجاتهم في الحياة اليومية؛ فيتنازعون في ما يأخذه بعضهم أو يدعه، أو ما تتصرف به جماعة لا توافقها عليه الجماعة الآخرى، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع الاختلافات بينهم، ويوجب انتشار الظلم عندهم، وابتعاد الواقع عن خط العدل.. فكانت الرسالات الإلهية التي اتخذت أسلوب التبشير والإنذار، السبيل الوحيد لحل هذه المشاكل والاختلافات، من أجل تركيز الحياة في قضاياها اليومية على قاعدة ثابتة من العدل الإلهي، ليشعر الإنسان بقداسة الحلول وواقعيتها، فيستسلم لها في خضوع واقتناع.

2. لكنّ بعض الناس الذين أوتوا الكتاب بالحق لم يستريحوا إلى ذلك، لأنهم كانوا يعيشون على حساب تلك الخلافات، فنقلوها إلى الكتاب نفسه بما أثاروه من تأويلات وتفسيرات وتطبيقات، مما جعل القضية في حياتهم موضع خلاف فكري في أمر الكتاب، فيأخذ جماعة بتأويل يختلف عما يأخذه الآخرون، ويتعصب فريق لتفسير يختلف عما يتعصب له الفريق الآخر، ولم يكن اختلافهم نتيجة اختلاف في الاجتهادات، في ما تنطلق فيه من سبل‏ الوصول إلى الحق التي قد تتنوع تبعا لتنوع الثقافة أو النظرة إلى الأمور، بل كان اختلافهم نتيجة البغي والحقد والعداوة في ما بينهم كنتيجة طبيعية للعلاقات المتأزمة الخاضعة لأسباب غير شرعية، وهكذا امتد هؤلاء في خلافاتهم حتى حولوا الساحة البشرية إلى قاعدة للتنازع والتجاذب والخصام.

3. أما المؤمنون، فلم يستسلموا للخلافات ولم يركنوا إليها، بل عملوا بكل ما لديهم من جهد وقوة على اكتشاف الحق من خلال علاماته التي هداهم الله إليها في ما أنزله من الحق والهدى، فساروا في طريقه، واستسلموا له، وتركوا كل فئات البغي والفساد تتخبط في ضلالها، بعد ما حاولوا القضاء عليها فلم يتمكنوا من ذلك، فأقبلوا على ما هم فيه مما أوكله الله لهم من شؤون المسؤولية في طاعته في ما يتعلق بقضاياهم وقضايا الناس، وذلك هو شأن الله في هدايته للناس لمن يشاء هدايته إلى الصراط المستقيم، فإنه يهيّئ لهم كل وسائل الهداية من داخل أنفسهم ومن خارجها ليختاروا السير معها من موقع قناعتهم القائمة على الوعي والإيمان والإرادة.

4. هكذا ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على ملة واحدة، أو جماعة واحدة مرتبطة بالفطرة التي لا تنطلق في خط التفاصيل الفكرية المنفتحة على المنهج العملي في الخط الواحد، بل كانت تتحرك من خلال العفوية الطبيعية في حركة الفعل ورد الفعل، فلم يكونوا مهتدين أو ضالين في مصطلح الهدى والضلال في الرسالات، لأنهم لم يكونوا قد التقوا بها؛ فلم تكن هناك نبوّات تحمل كتبا سماوية لأن آدم عليه السّلام لم يكن صاحب رسالة تفصيلية في نبوّته، لكنهم كانوا ضلالا بالمعنى السلبي، بمعنى فقدانهم للهداية الرسالية التفصيلية التي تنظم لهم القواعد والمفاهيم والشرائع والمناهج، وتخطط لهم الوسائل والأهداف، على طريقة قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7] فإن المراد من الضلالة هو عدم الاهتداء لفقدان الهدى الرسالي في التفاصيل، لا الضلال بالمعنى الإيجابي المضاد، لأن النبي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكن ضالا بهذا المعنى.

5. وهذا ما عبّر عنه‏ الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه السّلام الذي نقله الطبرسي في مجمع البيان فقال: (وروى أصحابنا عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال‏: (كانوا قبل نوح أمّة واحدة على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلّالا، فبعث الله النبيين‏)، ويتابع صاحب المجمع هذا الحديث فيعلق عليه قائلا: وعلى هذا، فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم، غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة، ثم بعث الله النبيين بالشرائع لما علم أن مصالحهم فيها)، وهذا ما عبّر عنه‏ الإمام جعفر الصادق، حسب الرواية المروية عنه، بطريقة أخرى قال ـ في ما نقله يعقوب بن شعيب‏ الذي سأله عن قول الله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ـ كان هذا قبل نوح أمة واحدة عند الله فأرسل الرسل قبل نوح، قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلال؟ قال: (بل كانوا ضلّالا، كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين‏)

6. في ضوء ذلك، فإن هذه الحالة الفطرية الطبيعية التي يستوحيها الناس في ما يفكرون به أو ما يعملونه بطريقة ضبابية، لا بد من أن تخلق المشاكل للمجتمع؛ لأن الخلافات الناشئة بين أفراده من خلال تشابك العلاقات وتعقيد الأوضاع في حاجاتهم المشتركة، وأعمالهم المتنوعة التي تمثل حاجة بعضهم إلى البعض الآخر، واستخدام بعضهم بعضا، وخلافاتهم المختلفة، لا بد من أن تخلق المشاكل الكثيرة لديهم لفقدان الحلول التفصيلية التي تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتفتح المشاكل على الحلول الواقعية؛ الأمر الذي جعل إرسال الأنبياء ضرورة حية لتحقيق التوازن الاجتماعي على قاعدة ربط الدنيا بالآخرة، واعتبار الجزاء في يوم القيامة ـ في ثوابه وعقابه ـ حافزا للناس للانضباط على الخط المستقيم، ليستقيم الهدى على قاعدة ثابتة في منهج الرسالة وفي التطلع إلى اليوم الآخر.

7. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ﴾ المؤمنين الطائعين بالجنّة، ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ الكافرين والعاصين بالنار، ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ الذي يعطي للأشياء حدودها، وللقضايا مناهجها، وللمشاكل حلولها، وللمنازعات والخلافات خطوطها التي يتميز فيها الحق عن الباطل، فيكون الكتاب هو المنهج الواضح الذي ينهج بالناس إلى الصواب في أمورهم، والحكم العدل الذي يسير بالمجتمع إلى ساحة العدل في ميزان القضاء.

8. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من الحق قبل إنزال الكتاب، لأنهم كانوا لا يرتكزون في أحكامهم على قاعدة، مما جعلهم لا يقفون على أساس واضح للوصول إلى النتائج الحاسمة التي تحدد لهم الحق والباطل، وهنا يأتي الكتاب بالحق النازل من الله الذي لا يقترب إليه الباطل في عملية اختراق وامتزاج.

9. هكذا أراد الله للحق الرسالي الكتابي أن يكون هو المرجح للناس كافة، لأنه الذي قرره الله، وما يقرره الله رب العالمين لا يجوز لأي إنسان أن يناقشه أو يعارضه أو يتمرد عليه، ولكن المشكلة التي واجهت هذا الحق، أن نقاط الضعف الإنساني قد اندفعت إليه لتثير حوله الضباب النفسي الذي يغطي الحقيقة، ويمنع الوضوح، ويبتعد بالفهم عن منهجه الصحيح؛ فبدأ الاختلاف في الحق الذي جاء به الكتاب.

10. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ أي: ما اختلف في الحق الذي أنزل الكتاب به إلا الذين آتاهم الله الكتاب وأنزله عليهم ليهتدوا به، ولم يكن ذلك عن شبهة أو اجتهاد مختلف، بل كان ذلك ـ بعد الوضوح الكامل ـ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وهي الأدلة والبراهين الواضحة التي لا مجال فيها لإنكار منكر أو لاعتذار معتذر، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ مما يمثله البغي من خلفيات نفسية سلبية كالحسد والعداوة الذاتية، وحب الرئاسة وغيرها مما يجعل الإنسان يحرّف الكلم عن مواضعه، فيؤوّل ما لا يقبل التأويل، ويثير الشبهة في ما لا مجال فيه للاشتباه، ويجتهد في ما لا موقع فيه للاجتهاد على طريقة الاجتهاد في مقابل النص، وهذا هو شأن المنافقين الذين لم يتعمق‏ الإيمان في قلوبهم إخلاصا.

11. أما المؤمنون المخلصون، فهم موضع عناية الله ورعايته وهدايته، لأنه اهتدوا بهداه وأخلصوا له الإيمان: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، فلم تكن المسألة عندهم موضع شبهة، بل كانت تملك الوضوح كله من خلال طبيعة الوضوح في الآية، وفي خط الرسول، وفي حركة الرسالة على صعيد النظرية والتطبيق، وهكذا اكتشفوا الحق في ذلك كله، فلم يقع بينهم أي اختلاف فيه، وتلك هي سنة الله في عباده، فإنه يمنح الذين يعيشون الهدى في وجدانهم، والإخلاص في إيمانهم، والقدرة على الاهتداء التفصيلي في ألطافه التي يتفضل بها عليهم وفي الإشراقة التي يفتح بها عقولهم، وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهو الصراط الذي يمثل الحق في العقيدة والشريعة والمنهج وفي حركة الحياة.

12. يمكن أن نستوحي من هذه الآية عدة نقاط:

أ. التشريع يشمل كل مجالات الحياة: إن الرسالات الإلهية لم تنزل لتعرّف الناس شؤون العبادة والأخلاق العامة، بل نزلت لتكون حكما بين الناس في ما اختلفوا فيه من أمور الحياة الخاصة والعامة، سواء كان ذلك في نطاق العلاقات الشخصية أو في نطاق العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها، مما يدحض الفكرة القائلة بأنّ الدين علاقة شخصية بين العبد وربه، فلا تتحرك في حياة الناس العامة، بل تنحصر في نطاق الذات وفي أجواء المعبد، فإن طبيعة الدور الذي‏ تتحدث عنه الآية يفرض أن يشمل التشريع كل جوانب الحياة التي تكون مثارا للاختلاف، وأن يكون لكل مشكلة حلّها العادل الذي تستقيم له الحياة وتخضع له.

ب. البغي كان أساس الاختلاف: إن الاختلاف الحاصل بين الناس، لا سيما في نطاق الاختلافات الدينية، لم ينطلق ـ غالبا ـ من اختلاف في الاجتهاد، بل من البغي الذي يعيش في نفوس الناس، ممّا يدفعهم إلى استغلال الغموض في بعض المفاهيم أو المواقف الدينية لخدمة مصالحهم الخاصة، مما يجعل من هذه الخلافات حالة مرضيّة، لا حالة صحيّة.

ج. الذين يحبون الحقيقة ينفتحون على الحوار: إن الآية الكريمة تقرر أن الذين يواجهون الحقيقة من موقع إخلاصهم لها، يعملون بكل قوة من أجل الوصول إليها، فيفتحون على أجواء الحوار، ويستمعون لوجهة النظر المعارضة، ويدفعون الفكر في اتجاه التعمق في دراسة الفكرة لمعرفة كل سلبياتها أو إيجابياتها، ويتحملون كل الجهد اللازم من أجل ذلك حتى يصلوا إليها ليرتبطوا بها، وهذا ما عبرت عنه الآية بقوله تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، فإن طبيعة الإيمان تفرض على الإنسان أن لا يستسلم إلى حالات الاسترخاء الفكرية التي تتقبل الأفكار الموروثة من دون أن تكلف نفسها عناء التعب في إعادة النظر فيها من موقع الفكرة والمعاناة، لأنه يعتبر الإيمان بالحق مسئولية الإنسان المؤمن بالبحث عن قواعده وآفاقه، كما أنه يجد في الفكرة الذي يحمله منطلق المسؤولية في كل قناعاته وأفكاره.

13. أما معنى (إذن الله) في الهداية، فلعله السنن الإلهية في أسباب الهداية وعواملها، ممّا إذا أخذ به الإنسان اهتدى إلى الحق، ككل سبب يحصل بحصول مسببه، ولا ينافي ذلك الاختيار، لأن إرادة الإنسان ووعيه وإقباله على الأخذ بهذه العوامل، هو أحد مظاهر هذه السنن الإلهية في عالم الهداية.

14. في ضوء ذلك، يمكننا أن نستوحي الفكرة التالية، وهي أن استمرار الخلافات يرجع إلى ابتعاد الناس عن الأخذ بأسباب الهداية، والتزامهم موقف التزمت والتعصب في ما يعتقدون، وعدم إقبالهم على أجواء الحوار لمصلحة الحق، الأمر الذي يمثل حاجزا نفسيا ضد الالتقاء بالحق، لأنّ للحقّ دلائل وعلامات لا بد للإنسان من أن يذعن لها إذا التقى بها أو بحث عنها في الطريق، ولا يمكن للإنسان أن يدعي عدم التمكن من الوصول إليه من موقع فقدان الوسائل، بل لا بد له من أن يبحث عن ذلك في تجميده لطاقاته عن الحركة، وفي إغفال وعيه عن البحث والدخول في مجالات الحوار، فقد تكفل الله بهداية الذين يتحركون في خط الهداية من خلال وسائلها الطبيعية.

15. قال صاحب الميزان في تفسير الآية: (الآية تبين السبب في أصل تشريع أصل الدين، وتكليف النوع الإنسانيّ به، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان أن الإنسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه أمة واحدة، ثم ظهر فيه ـ بحسب الفطرة ـ الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة، فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفّعت بالتبشير والإنذار بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين وإرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والأحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوّا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى الله ـ سبحانه ـ المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه)

16. يفسر السيد الطباطبائي الاختلاف الأول على أنه كان في شؤون الدنيا على أساس اقتناء المزايا الحيوية في ذاته، من خلال حركة القوة والضعف التي تقود إلى الاختلاف والانحراف عما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخديعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمة بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج وداعيا إلى هلاك الإنسانية، وفناء النظرة وبطلان السعادة، وخلاصة ذلك، أن المراد من الاختلاف الأول هو الاختلاف الواقعي، بينما يمثل الاختلاف الثاني الاختلاف الفكري أو ما يشبه ذلك، وأن الأول تفرضه طبيعة حركة الفطرة في انفتاح الإنسان على ذاتياته، بينما ينطلق الثاني‏ من البغي الذي يختلف فيه الناس حول الكتاب.

17. نلاحظ على ذلك، أن اختلاف الناس في الواقع في موازين القوة والضعف لم يكن منطلقا من الغريزة العمياء، بل من القيم المتفق عليها في ما بينهم، والمفاهيم المزروعة في داخلهم، الناشئة من الضبابية الفكرية في إيحاءات الفطرة، ومن التنوع في التجربة الإنسانية في هذا الموقع أو ذاك، فهناك فريق من الناس يتحرك في حياته من ناحية القيمة الأخلاقية القائمة على احترام الإنسان وحقه في الحياة وفي الحصول على النتائج الإيجابية من خلال جهده، وهناك فريق آخر يرى ضرورة حصول الناس على النتائج الإيجابية أو السلبية بشكل متساو وإن كان جهدهم مختلفا، وهناك الناس الذين لا يؤمنون بالله أو يشركون بعبادته غيره، وهناك الناس الذين يلتزمون الخط الإيماني التوحيدي.

18. وهذا ما لاحظناه في قصة قابيل وهابيل التي سبقت عهد النبوات الكتابية، التي يمكن أن تكون نبوّة نوح هي البداية لها، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13]، فقد نلاحظ أن هابيل كان يحمل الفكرة الإيمانية المنفتحة على احترام حياة الآخرين وإن أساؤوا إليه في وداعة الروح وسماحة الوجدان، بينما نجد أن قابيل يمثل الإنسان العدواني الذي لا ينظر إلى الأشياء نظرة متوازنة، بل ينظر إليها من ناحية ذاته، لأن القيمة عنده هي قيمة الذات، فهو لا يريد لأخيه أن يتميز عنه ولو كان الأمر بعيدا عن اختياره لارتباطه بالله في تمييزه عن أخيه.

19. وهذا هو قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: 27 ـ 31]، فإننا نستوحي من هذه الآيات أن قابيل وهابيل كانا يعيشان معا المفاهيم الأخلاقية التي تدفعهما إلى احترام الإنسان في كل واحد منهما من قبل الآخر، ولكن قابيل عاش الصدمة القاسية في عدم قبول قربانه الذي لم يكن لأخيه يد فيه، ولكن الحسد القاتل دفعه إلى البغي على أخيه فقتله بغيا وحسدا، تماما كما هي المسألة في الذين اختلفوا ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ فليس هناك فرق بين الأولين والآخرين في هذه المسألة، لا سيما إذا عرفنا أن آدم الذي كان في موقع النبوّة ـ على الرأي المشهور ـ لا بد من أن يكون قد بلّغ أولاده العناوين الكبرى للقيم الروحية الأخلاقية التي تمثل الخط الإلهي الذي يقود إلى رضوانه ويؤدي إلى دخول جنته، لا سيما بعد التجربة الصعبة التي خاضها مع إبليس في إخراجه من الجنة وإنزاله إلى الأرض، وإعلان الله له ولزوجه ولإبليس في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 38 ـ 39]، فإننا نفهم، من هاتين الآيتين أن الله تحدث لآدم وحواء عن النتائج الإيجابية أو السلبية التي يحصل عليها المؤمنون والكافرون في دخول الجنة للمهتدين ودخول النار للضالين الكافرين، الأمر الذي يوحي بأن آدم قد عاش المسؤولية المنفتحة على البرنامج العملي الذي لا بد من أن يأخذ به في سلوكه المستقبلي في الدنيا مع ذريته، ومن الطبيعي أن يكون قد تلقى من ربه كلمات وكلمات تحدّد له الخط المستقيم حتى لا يعيش التجربة الضائعة من جديد في‏ الأرض على الطريقة التي عاشها في الجنة.

20. إذا كان الأمر جاريا في هذا المجرى، فلا بد من أن تكون ذريته قد انفتحت على قيم الخير وقيم الشر، وخط الإيمان في طريق الاستقامة، وطريق الكفر في خط الانحراف؛ فسقط بعضهم كقابيل واستقام بعضهم كهابيل وشيث، ولا بد من أن يكون ذلك قد انعكس على الواقع الاجتماعي المتطور في وجود نظام متحرك محدود في حجم طبيعته المحدودة، ولكن الفرق بين آدم ومن بعده، أنه كان رسولا من دون كتاب، لأنّ تجربة الواقع من حوله لم تكن بحاجة إلى المزيد من التفاصيل، بينما كان لبعض الأنبياء كتاب لحاجة البشرية في عهده إلى النظام الكبير.

21. وفي ضوء ذلك، نعرف أن الاختلاف الأول كان على الحق في خلافهم حوله، بينما كان الاختلاف الثاني في فهم الكتاب وتنويع الخطوط من خلاله، في الوقت الذي كانت فيه مفردات الحياة في البداية والنهاية خاضعة للخطوط التي ينطلق بها الحق في الرسالة الأولى والرسالات التالية؛ والله العالم.

22. ذكر هنا مناقشة للطباطبائي حول الاستدلال بالآية على عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقد نقلناه إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/142.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفّار في الآيات السّابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اصوليّ كلّي وجامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة الّتي مرّ بها.

2. في البداية تقول الآية ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة وكيفيّة ظهور الدّين لإصلاح‏ المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل:

أ. المرحلة الاولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائيّة حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد الله تعالى استجابة لنداء الفطرة ويؤدّي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح عليهما السّلام.

ب. المرحلة الثانية: وفيها اتّخذت حياة الإنسان شكلا اجتماعيّا، ولا بدّ أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقّق إلّا في الحياة الاجتماعيّة.

ج. المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعيّة، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحمل هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

د. المرحلة الرابعة: وتتميّز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾، فمع الالتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاء على أعماله فيحس أنّ مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحل التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾

هـ. المرحلة الخامسة: هي التمسّك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماويّة لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكريّة والعقائديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة)

و. المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشيطانيّة وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانيّة، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء والكتب السماويّة بشكل خاطئ وتطبيقها على مرادهم، وبذلك رفعوا علم الاختلاف مرّة ثانية، ولكن هذا الاختلاف يختلف عن الاختلاف السابق، لأنّ الأوّل كان ناشئا عن الجهل وعدم الاطّلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، في حين أنّ منبع الاختلافات الثانية هو العناد والانحراف عن الحقّ مع سبق الإصرار والعلم، وبكلمة: (البغي)، وبهذا تقول الآية بعد ذلك‏ ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾

ز. المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ والهداية ويتغلّبون على كلّ الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماويّة وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف، وختام الآية تقول‏ ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الرّاغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيويّة مع الكفّار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبيّن لهم طريق النجاة والاستقامة.

3. يستفاد من الآية الكريمة ضمنيا أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الانفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلّ الاختلافات والتناقضات الاجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان، فلا يمكنها حل الاختلافات والتناقضات في حياة البشر بشكل كامل، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نر له نظيرا حتّى في المجتمعات المتخلّفة، وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي.

4. يتّضح من الآية الكريمة أيضا أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل أنبياء اولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

5. من الآية الكريمة أيضا نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و..) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الآخرى، ومع الالتفات إلى‏ الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الاختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لا بدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات، وعند ما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة ومدينة في تلك الأيّام، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب، وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان.

6. هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي، ولكن من أهمّ الأهداف أيضا هو رفع الاختلافات، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة واللّغة والمناطق الجغرافية دائما تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة اتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود، ويزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجا من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة، وعند ما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف والنّزاع بين طوائف البشر، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى، وإلّا فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سببا للوحدة في كلّ مكان.

7. يذكر (العلّامة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يقسّم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة أقسام:

أ. العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه.

ب. العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة.

ج. العصمة من الذنب وما يؤدّي إلى هتك حرمة العبوديّة لله، يقول: (إنّ الآية مورد البحث دليل على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة، لأنّ الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للنّاس وبيان العقيدة الحقّة في الإعتقاد والعمل، وبذلك يمكنهم هداية النّاس عن هذا الطريق، ومن الواضح أنّ هذا الهدف لا يتحقّق بدون العصمة في تلقّي الوحي وتبليغ الرّسالة)

8. القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضا، لأنّه لو صدر خطأ في تبليغ الرّسالة لكان بنفسه عاملا على الاختلاف، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيّين بارتكابهم الذنب فيكون أيضا عاملا وسببا للاختلاف، وبهذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/89.

92. الجنة والاختبار والنصر

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈92⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته؛ لتطيب أنفسهم، فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ فالبأساء: الفتن، والضراء: السقم، ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ بالفتن، وأذى الناس إياهم(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٩ ـ: ٣٨٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ معناه خوّفوا،(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 98.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم﴾ أصابهم هذا يوم الأحزاب، حتى قال قائلهم: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: ١٢](1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٣٧.

الربيع:

روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم﴾ يقول: سنن الذين من قبلكم، ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٣٨.

أبو صخر:

روي عن مفضل بن فضالة المصري قال: سألت أبا صخر الخراط حميد بن زياد (ت 141 هـ) عن قول الله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ قال إن الله ـ تبارك اسمه ـ قال للناس: أفحسبتم أن يدخل الجنة كل من قال إني مؤمن، ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم﴾ يقول: أفحسبتم أن تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصيب به الذين من قبلكم من البلايا، حتى أختبر فيه أمركم، وأنظر فيه إلى صدقكم وطاعتكم في البلاء(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٧٩.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ثم بين للمؤمنين أن لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله، فقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾، نظيرها في آل عمران قوله سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾، وفي العنكبوت [١ ـ ٢]: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾:

أ. قيل: على إسقاط (الميم)

ب. وقيل‏: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ بمعنى: (بل حسبتم)

2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾:

أ. قيل‏: شبه الذين خلوا من قبلكم.

ب. وقيل: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾ خبر الذين خلوا من قبلكم.

ج. وقيل‏: سنن الذين خلوا من قبلكم من البلاء والمحن التي أصابت الماضين من المؤمنين.

3. اختلف في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ الآية:

أ. قيل: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلى من قبلكم، أي لا تظنوا ذلك عمله‏، وإن كان فيهم من قد يدخل كقوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت: 1 ـ 4]،

ب. وقيل: إن القصة فيه أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم؛ فإنه لو كان محمد نبيّا لم يسلط عليه؟ فقال المؤمنون لهم: إن من قتل منا دخل الجنة، فقالوا: لم تمنّون الباطل والبلايا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ من غير أن تبتلوا وتصيبكم الشدائد، ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾

ج. في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، وجه آخر، وهو أنهم ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن، وأنواع الشدائد، فأخبر الله عزّ وجل أن في الإيمان المحن والشدائد لا بد منها، كقوله عليه السلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، وكقوله: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1، 2]، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد؛ لأنه معرفة حق وقول صدق، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن، والإيمان: مخالفة الهوى والطبع، وذلك في أنواع المحن.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾:

أ. قيل‏: حركوا.

ب. وقيل: جهدوا.

5. قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ يحتمل وجوها:

أ. قيل: يقول الرسول والمؤمنون جميعا: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ثم يقول الله لهم: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

ب. وقيل: يقول المؤمنون‏ ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ثم يقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب ويحتمل هذا في كل رسول بعثه الله تعالى إلى أمته يقول هذا، وأمته يقولون أيضا.

ج. ويحتمل: إن كان هذا في رسول دون رسول، على ما قاله بعض أهل التأويل: أنه فلان، وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع، ولا حاجة إلى معرفته.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/108.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾: يريد عز وجل أنهم لا يدخلون الجنة حتى يأتيهم مثل ما أتى الأولين، ويمسهم وينالهم ما نال أولياءه الماضين، من البأساء والضراء، والفقر والبلاء، والخوف الذي يزلزلهم، ويحرك جوارحهم، حتى يدعو إلى الله بالنصر قال الله عز وجل: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾(1)

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 284.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ذكر السدي، وقتادة، وغيرهما من أهل التفسير: أن هذه الآية نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة، وحوصر المسلمون في المدينة، واستدعاهم الله الى الصبر، ووعدهم بالنصر.

2. ﴿أَمِ﴾ قال الزجاج: معنى ﴿أَمِ﴾ هاهنا بمعنى (بل)، وقال غيره: هي بمعنى الواو، وإنما حسن الابتداء بـ (أم) لاتصال الكلام بما تقدم، ولو لم يكن قبله كلام، لما حسن.

3. الفرق بين ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ وبين (أحسبتم) أن (أم) لا تكون إلا متصلة لكلام، معادلة للألف، أو منقطعة، فالمعادلة نحو (أزيد في الدار أم عمرو) فالمراد أيهما في الدار، والمنقطعة نحو قولهم: (إنها لإبل أم شاة يا فتى)، وأما الألف، فتكون مستأنفة، وإنما لم يجز في (أم) الاستئناف، لأن فيها معنى (بل) كأنه قيل: (بل حسبتم)، وحسبت، وظننت وخلت نظائر.

4. ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ معناه ولما تمتحنوا، وتبتلوا بمثل ما امتحنوا، فتصبروا كما صبروا، وهذا استدعاء الى الصبر وبعده الوعد بالنصر.

5. المثل، والشبه واحد، يقال: مَثل ومِثل، مثل شبه وشِبه، و(خلوا) معناه مضوا.

6. ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ المس، واللمس واحد.

7. البأساء ضد النعماء، والضراء ضد السراء.

8. ﴿زلزلوا﴾ معناه هاهنا: أزعجوا بالمخافة من العدو، والزلزلة: شدة الحركة، والزلزال: البلبلة المزعجة بشدة الحركة، والجمع زلازل، ويقال: زلزل الأرض يزلزلها زلزالًا، وتزلزل تزلزلًا، مثل تدكدك تدكدكاً، وأصله زلّ، وإنما ضوعف، مثل صرصر، وصلصل.

9. ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ من نصب اللام، ذهب الى تقدير: الى أن يقول الرسول، فيكون على معنى الاستقبال إذا قدرت معها (أن)، وهو يشبه الحكاية، كأنك تقدر حالا، ثم استأنف غيره فعلا، كما تستأنف عن حال كلامك، ويوضح ذلك (كان زيد سيقول كذا وكذا)، وإنما قدرت بكان زيد وقتاً، ثم يستأنف عنه فعلا، فكذلك (زلزلوا) قد دلّ على وقت، ثم استأنف بعده الفعل، ومن رفع، فعلى الحال للفعل المذكور، والحال لكلام المتكلم، وذلك القول قد يكون في حال الزلزلة، فأما الغاية فلا يكون إلا بعد تقضيها وإن كان متصلا بها، والرفع يوجب التأدية بمعنى: أن الزلزلة أدت الى قول الرسول، فأما النصب، فيوجب الغاية، فقد حصل الفرق بين الرفع والنصب من ثلاث جهات: الأول ـ أن أحدها على الحال، والآخر على الاستقبال، والثاني:أن أحدها قد انقضى، والآخر لم ينقض، الثالث: أن أحدها على الغاية، والآخر على التأدية، ومعنى الغاية في الآية أظهر، لأن النص جاء عند قول الرسول، فلذلك كان الاختيار في القراءة النصب.

10. اختلف في معنى قول الرسول والمؤمنين: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾:

أ. قال قوم: معناه الدعاء لله بالنصر، ولا يجوز أن يكون معناه الاستبطاء لنصر الله على كل حال لأن الرسول يعلم: أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة.

ب. وقال قوم: معناه الاستبطاء لنصر الله، وذلك خطأ، لا يجوز مثله على الأنبياء عليه السلام إلا أن يكون على الاستبطاء لنصره لما توجبه الحكمة من تأخره.

11. النصر ضد الخذلان، والقريب ضد البعيد، والقرب والدنوّ واحد، ومن قال إن ذلك على وجه الاستبطاء قواه بما بعده من قوله‏ ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

12. أصل ﴿لَمًّا﴾ (لم) فزيد عليها (ما) فغيرت معناها، كما غيرت في (لو لما زيد عليها (ما) إذا قلت: (لو ما) فصارت بمعنى هلا، والفرق، بين (لم) و(لما) أن (لما) يصح أن يوقف عليها، مثل قولك: أقدم زيد؟ فيقول: لما، ولا يجوز (لم)، وفي (لما) توقع لأنها عقيبة (قد)، إذا انتظر قوم ركوب الأمير، قلت: قد ركب، فان نفيت هذا قلت: لما يركب، وليس كذلك (لم)، ويجمعهما نفي الماضي.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/194.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي: تفسير الآية(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الزلزلة: شدة الحركة، وأصله زل، ضوعف لفظه لمضاعفة معناه نحو: صر، وصرصر.

ب. حَسِبْتُ وخِلْتُ وظننت نظائر.

ج. المثل والشبه من النظائر.

د. خلا: مضى، وأصله من الخلاء، كأنه إذا مضى فرغ مكانه.

هـ. البأساء: البؤس، وهو نقيض النعماء.

و. الضراء من الضرر، وهو نقيض السراء.

ز. النصر: الإعانة، ونقيضه الخذلان.

ح. القريب: ضد البعيد، والقرب والبعد يرجعان إلى الأكوان كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾

أ. قيل: نزلت الآية في يوم الخندق لما اشتدت المخافة وحوصر المسلمون في المدينة فدعاهم الله تعالى إلى الصبر، ووعدهم بالنصر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن قتادة والسدي.

ب. وقيل: نزلت في حرب أُحُد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إلى متى تقتلون أنفسكم وتمنون الباطل؟، لو كان محمد نبيًا لما سلط عليه الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ج. وقيل: لما هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتركوا أموالهم وديارهم، ومسهم الضر، وأظهر اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أنزل الله تعالى هذه الآية، عن عطاء.

3. ثم ذكر تعالى ما فيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيما نالهم من الكفار بما جرى من قتل على المؤمنين؛ لأن سماع أخبار الصالحين تُرَغِّبُ في مثل حالهم فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾:

أ. قيل: معناه أحسبتم، عن الفراء.

ب. وقيل: بل حسبتم، عن الزجاج.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾:

أ. قيل: معنى ﴿حَسِبْتُمْ﴾: ظننتم أيها المؤمنون ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ قيل: تمنون الجنة بأن تصدقوا الرسول دون أن تكونوا دعاة لله عابدين له، عن الأصم.

ب. وقيل: يعني بغير استحقاق وتحمل المشاق، كلا بل يحصل بتحمل المشاق في الله تعالى كما فعل من تقدمكم من المؤمنين.

5. ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ قيل: ولم يأتكم، و﴿مَا﴾ صلة كقوله: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾:

أ. قيل: أي صفة مَنْ مضى مِنْ قبلكم.

ب. وقيل: شبههم.

ج. وقيل: لما يأتكم من البلايا ما أتاهم.

د. وقيل: قال لهم: لم تُمتحنوا بمثل ما امتحنوا به فاصبروا كما صبر أولئك، دعاء لهم إلى الصبر حتى يأتيهم النصر.

7. ﴿خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ مضوا من قبلكم من النبيين والمؤمنين.

8. ثم ذكر تعالى ما أصاب أولئك فقال تعالى: ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ أصابتهم.

9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾:

أ. قيل: البأساء الفقر والشدة، والضراء: المرض والزمانة.

ب. وقيل: هو ما تعلق بمضار الدين من حرب وخروج من الأهل والمال وإخراج، فمدحوا بما عملوا من ذلك متوقعين الفرج من غير جزع ولا اعتقاد أن تلك التخلية ليست بصلاح لهم.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾:

أ. قيل: حُرِّكُوا بأنواع البلايا.

ب. وقيل: أزعجوا بالخوف من العدو، وذلك لفرط الحيرة.

11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: هو استعجال للموعود كما يفعله الممتَحَن، وهذا فيمن يعلم الله تعالى أن إنزال النصرة لطف له: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾

ب. قيل: كلاهما من كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ثقة بالنصرة، وتسكينًا لقلوبهم قالوا: متى نصر الله؟، ثم قالوا: نصره قريب، عن أبي مسلم.

ج. وقيل: ذكر كلام الرسول والمؤمنين جملة، وتفصيله: وقالوا ـ يعني المؤمنين ـ: متى نصر الله؟ فقال الرسول: قريب، كقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾، يعني لتسكنوا في الليل، وتبتغوا من فضله بالنهار.

د. وقيل: الأول كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والثاني كلام الله تعالى تقديره: قال الرسول والمؤمنون: متى نصر الله؟ فقال الله تعالى: نصره قريب، فهو وعده تعالى بقرب النصر، عن الأصم وأبي علي.

12. سؤال وإشكال: إذا كان فعل الأعداء قبيحًا فكيف يجب الصبر عليه؟ والجواب: يجب الصبر عنده لوجوه:

أ. منها: أن يكون لطفًا للمسلم أن يتذكر شدائد الآخرة، وأحوال الزبانية، فيدعوه ذلك إلى اجتناب المعصية، والتمسك بالطاعة.

ب. ومنها: أن التخلية قد تكون لطفًا، والمنع مفسدة، فإذا لم يمنع علم أنه تعالى يراعي مصلحته، فيصبر على التخلية.

ج. ومنها: إذا صبر وتحمل الشدائد في مقابلة ما يأتيه العدو، استحق الثواب، فتدل الآية على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى في جميع الأحوال، وتوقع النصر.

13. سؤال وإشكال: أليس قد يتأخر النصر؟ والجواب: أيام الدنيا قريبة، على أن المؤمن إما أن يأتيه النصر بالغلبة، أو بتعريف المنزلة.

14. سؤال وإشكال: كيف يكون النصر؟ والجواب: قد يكون بالغلبة، وقد يكون بالحجة، وقد يكون بما له عند الله من المنزلة، وقد يكون منصورًا بألطاف يخص بها المؤمنين، وقد يكون منصورًا بخواطر وتنبيهات، وكل ذلك من نعمه تعالى على المؤمنين.

15. تدل الآيات الكريمة على:

أ. قولنا في اللطف؛ لأنه تعالى نَبَّهَ أن دخول الجنة لن يقع إلا مع العلم بنبأ مَنْ قبلنا، ومع البأساء والضراء فينا.

ب. وجوب الصبر في أمور الدين والدنيا.

ج. أن المؤمن لا تلحقه محنة فيتمنى نصر الله إلا ويكون النصر قريبًا.

16. قرأ نافع: ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ برفع اللام، والباقون بالنصب، والنصب على الغاية، تقديره: إلى أن يقول الرسول، فيقول على الاستقبال، فأما الرفع فعلى الحال للفعل المذكور، أو الحال لكلام المتكلم، وذلك أن القول قد يكون في حال الزلزلة، فأما الغاية فلا تكون إلا بعد تقضيها وإن كان متصلاً بها، والرفع يوجب التأدية يعني الزلزلة إلى قول الرسول، فأما النصب فيوجب الغاية، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الرفع على الحال والنصب على الاستقبال.

الثاني: أن أحدهما قد انقضى، والآخر لم ينقض.

الثالث: أن أحدهما على الغاية، والآخر على التأدية.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/856.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

ب. الزلزلة: شدة الحركة، والزلزال: البلية المزعجة لشدة الحركة، والجمع زلازل، وأصله من قولك: زل الشيء عن مكانه ضوعف لفظه لمضاعفة معناه نحو: صر وصرصر، وصل وصلصل، فإذا قلت: زلزلته، فتأويله: كررت تحريكه عن مكانه.

2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قيل: نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة، وحوصر المسلمون في المدينة، فدعاهم الله إلى الصبر، ووعدهم بالنصر، عن قتادة والسدي.

ب. وقيل: نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب النبي: إلى متى تقتلون أنفسكم؟ لو كان نبيا ما سلط الله عليه الأسر والقتل؟!

ج. وقيل: نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إذ تركوا ديارهم وأموالهم ومسهم الضر، عن عطا.

3. ثم ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية، تسلية لنبيه ولأصحابه فيما نالهم من المشركين وأمثالهم، لأن سماع أخبار الخيار الصالحين، يرغب في مثل أحوالهم، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ معناه بل أظننتم وخلتم أيها المؤمنون ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ معناه: ولما تمتحنوا وتبتلوا بمثل ما امتحنوا به، فتصبروا كما صبروا، وهذه استدعاء إلى الصبر وبعده الوعد بالنصر، والمثل مثل الشبه والشبه أي: لم يصبكم شبه الذين خلوا أي: مضوا قبلكم من النبيين والمؤمنين، وفي الكلام حذف وتقديره: مثل محنة الذين، أو مصيبة الذين مضوا.

4. ثم ذكر سبحانه ما أصاب أولئك فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ والمس واللمس واحد، والبأساء: نقيض النعماء، والضراء: نقيض السراء، واختلفوا:

أ. قيل: البأساء القتل، والضراء الفقر.

ب. وقيل: هو ما يتعلق بمضار الدين من حرب وخروج من الأهل والمال، وإخراج فمدحوا بذلك إذ توقعوا الفرج بالصبر.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾:

أ. قيل: أي: حركوا بأنواع البلايا.

ب. وقيل: معناه هنا أزعجوا بالمخافة من العدو، وذلك لفرط الحيرة.

6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: هذا استعجال للموعود كما يفعله الممتحن، وإنما قاله الرسول استبطاء للنصر على جهة التمني.

ب. وقيل: إن معناه الدعاء لله بالنصر، ولا يجوز أن يكون على جهة الاستبطاء لنصر الله، لأن الرسول يعلم أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة.

7. ثم أخبر الله سبحانه أنه ناصر أوليائه لا محالة فقال: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾:

أ. قيل: إن هذا من كلامهم بأنهم قالوا عند الإياس ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، ثم تفكروا فعلموا أن الله منجز وعده، فقالوا: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

ب. وقيل: إنه ذكر كلام الرسول والمؤمنين جملة وتفصيلا، وقال المؤمنون: متى نصر الله، وقال الرسول: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، كقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي لتسكنوا بالليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار.

8. قرأ نافع وحده: ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ بالرفع، والباقون بالنصب، ومن نصب فالمعنى وزلزلوا إلى أن قال الرسول وما ينصب بعد حتى جاء من الأفعال على ضربين أحدهما: أن يكون بمعنى إلى كما في الآية، والآخر: أن يكون بمعنى كي، كما تقول: أسلمت حتى أدخل الجنة، فهذا تقديره أسلمت كي أدخل الجنة، فالإسلام قد كان، والدخول لم يكن، وفي الوجه الأول كلا الفعلين السبب والمسبب قد مضى، وأما من قرأ بالرفع فالفعل الواقع بعد حتى، لا يكون إلا فعل حال، ويجئ أيضا على ضربين أحدهما: أن يكون الفعل الأول الذي هو السبب قد مضى، والفعل الثاني المسبب لم يمض، كما تقول مرض حتى لا يرجونه، وتتجه الآية على هذا الوجه لأن المعنى زلزلوا فيما مضى حتى أن الرسول يقول الآن متى نصر الله، وحكيت الحال التي كانوا عليها كما حكيت الحال في قوله: هذا من شيعته وهذا من عدوه، والثاني: أن يكون الفعلان جميعا قد مضيا نحو سرت حتى أدخلها، فالدخول متصل بالسير بلا فصل بينهما، والحال محكية كما كانت في الوجه الأول، ألا ترى أن ما مضى لا يكون حالا، وحتى إذا رفع الفعل بعدها حرف يستأنف الكلام بعدها، وليست العاطفة، ولا الجارة، وإذا نصب الفعل بعدها فهي الجارة، وينصب الفعل بعدها بإضمار أن كما ينصب بعد اللام، والفعل وأن المضمرة معها في موضع جر بحتى.

9. مسائل نحوية:

أ. ﴿أَمِ﴾ هذه هي المنقطعة، ومعناه: بل أحسبتم، والفرق بين أحسبتم، وأم حسبتم أن أم لا تكون إلا متصلة بكلام والألف تكون مستأنفة.

ب. ﴿أَنْ تَدْخُلُوا﴾: صلة وموصول في موضع نصب بأنه مفعول حسبتم وقد سدا مسد مفعوليه، وقيل: مفعوله الثاني محذوف وتقديره أم حسبتم دخولكم الجنة ثابتا، والجنة: نصب لأنها ظرف مكان لتدخلوا.

ج. لما: أصلها لم زيد عليها ما فغيرت معناها، كما غيرت معنى لو إذا قلت لوما فصيرته بمعنى هلا، والفرق بين لم ولما أن لما يصح أن يوقف عليها مثل قولك في جواب من يقول أقدم الأمير؟ لما، ولا يجوز أن يقول لم، وفي لما توقع لأنها عقيبة قد إذا انتظر قوم ركوب الأمير قلت: قد ركب، فإن نفيت هذا قلت لما يركب، وليس كذلك لم ويجمعهما نفي الماضي.

د. ﴿مَثَلُ﴾ مرفوع بأنه صفة محذوف مرفوع بيأتي تقديره ولما يأتكم نصب مثل الذي أصاب الذين خلوا من قبلكم، وإضافة مثل غير حقيقية، لأنه في تقدير الانفصال فالمجرور في تقدير المنصوب لأنه مفعول، ولما مع الجملة: في موضع نصب على الحال، والواو: واو الحال، وتقديره أن تدخلوا الجنة غير مصابين، ومستهم البأساء: في موضع الحال أيضا بإضمار قد.

هـ. العامل فيه خلوا، وزلزلوا: معطوفة على مستهم، ونصر الله: مبتدأ، وإضافته غير حقيقية، ومتى: في موضع خبر المبتدأ.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/543.

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذه الآية، ذكره السّدّيّ عن أشياخه وهو قول قتادة.

ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتدّ بهم الضّرّ، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.

ج. الثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لو كان محمد نبيا لم يسلّط عليكم القتل، فأجابوهم: من قتل منا دخل الجنّة، فقالوا: لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، وزعم أنها نزلت يوم أحد.

2. قال الفرّاء: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ بمعنى: أظننتم، وقال الزجّاج: (أم) بمعنى: بل.

3. المثل بمعنى: الصّفة.

4. ﴿زلزلوا﴾ خوّفوا وحرّكوا بما يؤذي، وأصل الزّلزلة في اللغة من: زلّ الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته، فتأويله: كررت زلزلته من مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل، تقول: أقلّ فلان الشيء: إذا رفعه من مكانه، فإذا كرّر رفعه وردّه، قيل: قلقله، فالمعنى: أنه تكرّر عليهم التحريك بالخوف، قاله ابن عباس.

5. البأساء: الشدّة والبؤس، والضّرّاء: البلاء والمرض.

6. كل رسول بعث إلى أمّته يقول: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، والنّصر: الفتح، والجمهور على فتح لام (حتى يقول)، وضمّها نافع، ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطئوا النصر لشدة البلاء.

7. دلّت الآية الكريمة على أن طريق الجنّة إنما هو الصبر على البلاء، قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز برّ حتى مضى لسبيله، وقال حذيفة: أقرّ أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليّ الحاجة، قيل: ولم ذلك؟ قال لأنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنّ الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإنّ الله ليحمي المؤمن من الدّنيا، كما يحمي المريض أهله الطّعام)، قال الجنيد: دخلت على سريّ السّقطيّ وهو يقول:

وما رمت الدّخول عليه حتّى‏...حللت محلّة العبد الذّليل‏

وأغضيت الجفون على قذاها...وصنت النّفس عن قال وقيل‏

__________

(1) زاد المسير: 1/178.

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في اتصال قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ بما قبله وجهان:

أ. الأول: أنه تعالى قال في الآية السالفة: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الآية.

ب. الثاني: أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك‏ الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى، فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن.

2. استقصينا الكلام في لفظ (أم) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 133] والذي نريده هاهنا أن نقول (أم) استفهام متوسط كما أن (هل) استفهام سابق، فيجوز أن يقول: هل عندك رجل، أعندك رجل؟ ابتداء، ولا يجوز أن يقال: أم عندك رجل، فأما إذا كان متوسطا جاز سواء كان مسبوقا باستفهام آخر أو لا يكون، أما إذا كان مسبوقا باستفهام آخر فهو كقولك: أنت رجل لا تنصف، أفعن جهل تفعل هذا أم لك سلطان؟ وأما الذي لا يكون مسبوقا بالاستفهام فهو كقوله: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة: 1 ـ 3] وهذا القسم يكون في تقدير القسم الأول، والتقدير: أفيؤمنون بهذا أم يقولون افتراه؟ فكذا تقدير هذه الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟ هذا ما لخصه القفال.

3. ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي ولم يأتكم مثل الذين خلوا وذكر الكوفيون من أهل النحو أن (لما) إنما هي (لم) و(ما) زائدة وقال سيبويه: (ما) ليست زائدة لأن (لما) تقع في مواضع لا تقع فيها (لم) يقول الرجل لصاحبه: أقدم فلان؟ فيقول: (لما) ولا يقول: (لم) مفردة، قال المبرد: إذا قال القائل: لم يأتني زيد، فهو نفي لقولك أتاك زيد وإذا قال لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه قال النابغة:

أزف الترحل غير أن ركابنا...لما نزل برحالنا وكأن قد

فعلى هذا قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يدل على أن إتيان ذلك متوقع منتظر.

4. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:

أ. قال ابن عباس: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة، اشتد الضرر عليهم، لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم‏ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾

ب. وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن، وكان كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ [الأحزاب: 10]

ج. وقيل: نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

5. تقدير الآية: أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر والفاقة، ومكايدة الضر والبؤس في المعيشة، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو، كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين، وهو المراد من قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾

6. المثل هو المثل وهو الشبه، وهما لغتان: مثل ومثل كشبه وشبه، إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ومنه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل: 60] أي الصفة التي لها شأن عظيم.

7. في الكلام حذف تقديره: مثل محنة الذين من قبلكم، وقوله: ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ بيان للمثل، وهو استئناف كأن قائلا قال: فكيف كان ذلك المثل؟ فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾

8. ﴿الْبَأْسَاءُ﴾ اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ومنه يقال فلان في بؤس وشدة، وأما ﴿الضَّرَّاءُ﴾ فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف، وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه، والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه.

9. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا قال الزجاج: أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه فإذا قلت: زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه، وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل، نحو صر، وصرصر، وصل وصلصل، وكف، وكفكف، وأقل الشيء، أي رفعه من موضعه، فإذا كرر قيل: قلقل.

10. فسر بعضهم‏ ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ هاهنا بخوفوا، وحقيقته غير ما ذكرنا، وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه، ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد، لأنه يذهب السكون، فيجب أن يكون زلزلوا هاهنا مجازا، والمراد: خوفوا، ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف.

11. ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئا آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة، فقال: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النّفس عند نزول البلاء، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا، كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة، فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ إجابة لهم إلى طلبهم، فتقدير الآية هكذا: كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم، وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق، فإن نصر الله قريب، لأنه آت، وكل ما هو آت قريب.

12. هذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: 1 ـ 3] وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142] والمقصود من هذه الآية أن أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى، فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك، والمصيبة إذا عمت طابت، وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به، ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين، روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت، قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما نلقى من المشركين، فقال: (إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين، ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه، وأيم الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)

13. قرأ نافع‏ ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ برفع اللام والباقون بالنصب، ووجهه أن (حتى) إذا نصبت المضارع تكون على ضربين.

أ. أحدهما: أن تكون بمعنى: إلى، وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل (حتى) والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا، تقول: سرت حتى أدخلها، أي إلى أن أدخلها، فالسير والدخول قد وجدا مضيا، وعليه النصب في هذه الآية، لأن التقدير: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، والزلزلة والقول قد وجدا.

ب. الثاني: أن تكون بمعنى: كي، كقوله: أطعت الله حتى أدخل الجنة، أي كي أدخل الجنة، والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد، ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه.

14. قراءة الرفع لقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ لأن الفعل الواقع بعد (حتى) لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت، كما حكيت الحال في قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: 15] وفي قوله: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ [الكهف: 18] لأن هذا لا يصح إلا على سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام، ويقال: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه، والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال: يجيء البعير يجر بطنه، ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب، كقولك: سرت حتى أدخل البلد، فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا، ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد، فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع، واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها، وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى.

15. في الآية إشكال، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، والجواب عنه من وجهين:

أ. أحدها: أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: 97] وقال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3] وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ﴾ [يوسف: 110] وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك، قال عند ضيق قلبه: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطاب قلبه، والذي يدل على صحة ذلك أنّه قال في الجواب: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعا عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا؟ لما كان هذا الجواب مطابقا لذلك السؤال، وهذا هو الجواب المعتمد.

ب. الثاني: أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولا ثم ذكر كلامين، أحدهما: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾.. الثاني: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين، فالذين آمنوا قالوا: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ ولهذا نظير من القرآن والشعر، أما القرآن فقوله: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ [القصص: 73] والمعنى: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار، وأما من الشعر فقول امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا...لدي وكرها العناب والحشف البالي‏

فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جدا.

16. قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ يحتمل وجوها:

أ. يحتمل أن يكون جوابا من الله تعالى لهم، إذ قالوا: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ثم قال الله عند ذلك:‏ ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

ب. ويحتمل أن يكون ذلك قولا لقوم منهم، كأنهم لما قالوا: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ رجعوا إلى أنفسهم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم، فقالوا: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك.

17. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها، وذلك غير ثابت، والجواب: لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام، ويمكن أن يكون ذلك عاما في حق الكل، إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين، إما أن يتخلص عنه، وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه، وذلك من أعظم النصر، وإنما جعله قريبا لأن الموت قريب.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/374.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ معناه ظننتم:

أ. قال قتادة والسدي وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان كما قال الله تعالى: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾

ب. وقيل: نزلت في حرب أحد، نظيرها في آل عمران: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾

ج. وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾

2. ﴿أَمِ﴾ هنا منقطعة، بمعنى بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجئ بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها، و﴿حَسِبْتُمْ﴾ تطلب مفعولين، فقال النحاة: ﴿أَنْ تَدْخُلُوا﴾ تسد مسد المفعولين، وقيل: المفعول الثاني محذوف‏ أن ﴿مَثَلُ﴾ يكون بمعنى صفة، ويجوز أن يكون المعنى: ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من البلاء، قال وهب: وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيا موتى، كان سبب موتهم الجوع والقمل.

3. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فاستدعاهم تعالى إلى الصبر، ووعدهم على ذلك بالنصر فقال: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

4. الزلزلة: شدة التحريك، تكون في الاشخاص وفي الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا ـ بالكسر ـ فتزلزلت إذا تحركت واضطربت، فمعنى ﴿زُلْزِلُوا﴾ خوفوا وحركوا، والزلزال ـ بالفتح ـ الاسم، والزلازل: الشدائد، وقال الزجاج: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه، ومذهب سيبويه أن زلزل رباعي كدحرج.

5. الرسول هنا شعيا في قول مقاتل، وهو اليسع، وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال متى نصر الله؟، وروى عن الضحاك قال يعنى، محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، وعليه يدل نزول الآية.

6. أكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، أي بلغ الجهد بهم حتى استبطئوا النصر، فقال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب، والرسول اسم جنس، وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين‏، لأنه المتقدم في الزمان، قال ابن عطية: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر، ويحتمل أن يكون ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.

7. ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبى العباس رفع بفعل، أي متى يقع نصر الله، و﴿قَرِيبٍ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، قال النحاس: ويجوز في غير القرآن قريبا أي مكانا قريبا، و(قريب لا تثنيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال الشاعر:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم‏...قريب ولا بسباسة بنة يشكرا

فإن قلت: فلان قريب لي ثنيت وجمعت، فقلت: قريبون وأقرباء وقرباء.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/31.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ ﴿أَمِ﴾ هنا منقطعة بمعنى: بل، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام؛ يبتدأ بها الكلام، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا: التقرير والإنكار، أي: أحسبتم دخولكم الجنة واقعا، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم، فتصبروا كما صبروا، ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم، تثبيتا للمؤمنين، وتقوية لقلوبهم، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾

2. ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ بيان لقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ و﴿الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ قد تقدّم تفسيرهما، والزلزلة: شدّة التحريك يكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال: زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا بالكسر، فتزلزلت: إذا تحركت واضطربت؛ فمعنى زلزلوا: خوّفوا وأزعجوا إزعاجا شديدا، وقال الزجاج: أصل الزلزلة: نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت: زلزلته، فمعناه: كررت زلله من مكانه.

3. ﴿حَتَّى يَقُولَ﴾ أي: استمرّ ذلك إلى غاية، هي: قول الرسول ومن معه: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ والرسول هنا: قيل: هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وقيل: هو شعياء؛ وقيل: هو كل رسول بعث إلى أمته، وقرأ مجاهد، والأعرج، ونافع، وابن محيصن: بالرفع في قوله: حتى يقول وقرأ غيرهم: بالنصب، فالرفع على أنه حكاية لحال ماضية، والنصب بإضمار أن على أنه غاية لما قبله، وقرأ الأعمش: وزلزلوا ويقول الرّسول بالواو بدل حتى، ومعنى ذلك: أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية، لطلب النصر، واستبطاء حصوله، واستطالة تأخره، فبشرهم الله سبحانه بقوله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا: متى نصر الله، ويقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: ألا إن نصر الله قريب، ولا ملجئ لهذا التكلف، لأن قول الرسول ومن معه: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ليس فيها إلّا استعجال النصر من الله سبحانه، وليس فيه ما زعموه من الشكّ والارتياب؛ حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسف.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/245.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي: من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين، أي: والحال أنه لم يأتكم مثلهم بعد، ولم تبتلوا بما ابتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة، سنة الله التي لا تتبدّل‏ ﴿مَسَّتْهُمْ﴾ استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف كان مثلهم؟ فقيل: مسّتهم‏ ﴿الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ أي: الشدائد والآلام‏ ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ أي: أزعجوا، ممّا دهمهم من الأهوال والإفزاع، إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة التي تكاد تهدّ الأرض وتدك الجبال‏.

2. ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ أي: انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول ـ وهو أعلم الناس بشئون الله تعالى، وأوثقهم بنصره، وداعيهم إلى الصبر ـ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ ـ وهم الأثبت بعده، العازمون على الصبر، الموقنون بوعد النصر ـ ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ـ استبطاء له، واستطالة لمدّة الشدة والعناء ـ فيقال لهم: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 ـ 6] أي: فاصبروا كما صبروا تظفروا.

3. حصل من هذا الابتلاء جانب عظيم للصحابة يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 10 ـ 12] الآيات، وروى البخاري‏ عن خبّاب بن الأرتّ قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله! ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون، وفي رواية:. وهو متوسد بردة، وقد لقينا من المشركين شدة.. ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم! قال: فكيف كانت الحرب بينكم قال: سجالا، يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى ثمّ تكون لها العاقبة!.. وهذه الآية كآية: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1 ـ 3]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/96.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمُ أن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ﴾ بمجرَّد الإيمان دون لقاء شدَّة، كشدَّة حفر الخندق لغزوة الأحزاب، والجوع فيها والخوف والبرد، وشدَّة حرب أُحُد قبلها، وشدَّة مفارقة الأهل والمال والوطن عند الهجرة والحاجة.

2. نزلت في غزوة الخندق، وكأنَّه أشير لهم بأنَّها آخر شدَّة تُقصَدون بها وتضطرُّون إليها، وإنْ نزلت حين الهجرة فالآية إشارة إلى أنَّه سيصابون ثمَّ أصيبوا مع شدَّة الهجرة بأُحد والخندق، وترك أموالهم بمكَّة وديارهم، وإظهارِ اليهودِ العداوةَ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإسرار قومٍ النفاقَ.

3. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، أوْ لَهم، وعلى الأوَّل عدَّ ضيق صدره الشريف بمنزلة حسبان دخول الجنَّة بدون مكاره، بل قبل الهجرة يأتونه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بين مضروب ومشجوج ويقولون: ألا تدعو لنا؟ فيقول: (اصبروا فإنِّي لم أومر بالقتال، وقد يُنشر الرجل مِمَّن كان قبلكم من رأسه إلى ما بين فخذيه ويمشط بأمشاط الحديد ما ردَّ عظمه، ولا يردُّه ذلك عن الإيمان)، كما قال: ﴿وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ والحال أنَّه لم يأتكم صفة مَن قبلَكُم، أي صفة كصفتهم ممَّا يُكره، وقال: (والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتَّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلَّا الله والذِّئب على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون)، و(أمْ) بمعنى بل وهمزة، إنكارٌ للياقة الحسبان، وفي (لَمَّا) ترقُّبُ وقوع ذلك والتصيير لِما في حالهم منه، وهي كالْمَثَل المضروب في الغرابة، وذَكَرَهَا بقوله: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ﴾ الفقر الشديد، ﴿وَالضَّرَّآءُ﴾ المرض والقتل، ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ أُزعجوا بالشدائد، ﴿حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ﴾ جنس الرسول، فشمل رسلاً كثيرةً، كأنَّكم في حال قول الرسول بتقدُّمكم إليهم أو تأخُّرهم، ولو اعتبر تأخُّرهم عن زمان النزول لَنُصب، وزعم البعض أنَّ المراد اليسع، وبعض: أشعياء، وبعض: شعياء، فالقائلون: متى نصر الله؟ أقوام هؤلاء الأنبياء.

4. ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ معَهُ﴾ هم الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضرَّاء وزُلزلوا، أو الذين آمنوا أولوا التقدُّم في أمر الدين، ﴿مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾ استفهامُ استبطاءٍ لا شكٍّ، لِمَا وعدهم الله من النصر، فأجابهم بطريق الإسعاف في التعجيل بقوله: ﴿أَلَآ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب﴾ فاصبروا يوافكم مأجورين، أي: قلنا أو قال أو قيل لهم، وعلى الأوجه الثلاثة القائل الله، كقَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، لا كما قيل: إنَّ هذا من قول الرسول والذين آمنوا، وما قبله من قول العامَّة، ولا من قول الذين آمنوا، ومتى نصر الله من قول الرسول كما قيل، ولا من قول الذين آمنوا، و﴿أَلَآ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ من كلام الرسول كما قيل.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/17.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الآية متصلة بما قبلها، فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وبين سبب التنازع والخصام، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عندما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعددت رغائبهم، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدد الحقوق ويهدي القلوب، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف؛ لوجوب أخذه بالتسليم لما معه أو لما فيه من البينات على أنه من عند الله، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء، واتخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرقة، ثم هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحق برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب، وتحكيمه في كل خلاف، وقبول حكمه في كل نزاع، والاعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته، وما علم علما صحيحا من سنة من جاء به، ومن صدقوه واتبعوه قبل الخلاف.

2. بين الله تعالى هذه الأطوار في البشر، فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال، ثم ضلت بعد هداية لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم، سواء كان ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل، أو الضلال في تأويل الكتاب والتصرف في الشرع؛ ولذلك قفى على ذلك البيان كله بتمثيل حال الأولين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم وتصدوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾

3. الخطاب موجه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده، وتوجيهه أولا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، ويحسبون أنهم بمجرد الانتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنة، جاهلين سنة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقهم، وهي تحمل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحق، وهداية الخلق، وعجيب من أمة ينطق كتابها بالآيات البينات على أن سنة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل، ويحثها دائما على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة، ثم هم يحولون هذه السنة عنهم، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية قائلين: إنه يقيس المسلمين على الكافرين!

4. ﴿أَم﴾ هاهنا هي الواقعة في طريق الاستفهام، وهي تشعر بمحذوف دل عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضراء، كأنه يقول: قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره، وتثبتون ثباتهم على الشدائد؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله تعالى من غير أن تفتنوا في سبيل الحق فتصبروا على ألم الفتنة وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله تعالى في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟ قرر محمد عبده معنى الآية على هذا الوجه، وقال: إنه معنى ظاهر من الآية يسبق إلى ذهن كل قارئ وإن لم يستطع كل أحد التعبير عنه، وإذا جعلت ﴿أَمِ﴾ بمعنى الإضراب والاستفهام معا كما قال المفسر الجلال بطل هذا المعنى الذي يملك النفس ويؤثر في الوجدان.

5. قيل: إن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين وشجوا رأس النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكسروا رباعيته، وقيل: إنها نزلت في غزوة الأحزاب إذ اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين وقطع دابرهم، وأصاب المؤمنين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدة والجوع والحاجة وضروب الأذى، وإذ انتقض المنافقون على المؤمنين الصادقين، وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ وإذ جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، وإذ ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وإذ رأى المؤمنون الصادقون الأحزاب متحزبة عليهم فقالوا على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾

6. أمثال هؤلاء يخاطبهم الله تعالى بقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي: وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فالمراد بالمثل: الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل، أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن، وهذا النفي المستغرق مما يوجه الأذهان إلى طلب العلم بما أصاب أولئك الأقوام؛ ولذلك وصله بالبيان فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾

7. البأساء: الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة، وفسره الجلال بالفقر وهو من أثره، والضراء: ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل، وفسره الجلال بالمرض وهو بعضه، وأما الزلزال: فهو الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه عنه، وهذا الحرف فيه لفظ زل مكررا ومعناه زلق وانحرف، فزلزله بمعنى هزه ودعه، ليزله عما هو عليه؛ أي: إنهم وصلوا إلى درجة حدوث الاضطراب والإشراف على الزلل في مجموعهم، كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب: ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ والآية التي نفسرها تصرح بأن بعض السابقين كانوا أشد زلزالا من هذا الذي وقع للمسلمين في يوم الأحزاب.

8. ولعل الغاية التي وصلوا إليها ولم يصل إليها سلفنا هي قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ أي: حتى وصلوا إلى غاية من الشدائد والأهوال لم يروا فيها منفذا لسبب من أسباب الفوز؛ لأن قوة أعداء الحق أحاطت بهم من كل جانب ودنت حتى أخذت بأكظامهم فاعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذي وعد الله به من ينصر الحق قد حان وقته أو أبطأ فاستعجلوه بقولهم: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾؟ فأجابهم تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ بأن نصرهم، وكف عنهم شر أهل البغي، وأيد دعوتهم وجعل كلمتهم العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وكان الله قويا عزيزا، ومثل هذه ـ بل أشد ـ قوله تعالى: ﴿حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء﴾ الآية، فالرسول هنا للجنس، وقد ذكرت هذه الغاية في الشدة بصيغة المضارع تصويرا لها كأنها حاضرة؛ ليتمثل المخاطب هولها وشدتها فيخف عنده ما يجده مما هو دونها، وما من شدة تصيب الأمم إلا وهي دون الشدة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله استبطاء له، وهم أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم اتكالا عليه وتسليما له، ولعمري إن المسلمين لم يصلوا في تلك الشدة التي حملت عليها الآية إلى تلك النهاية التي قال فيها أولئك الرسل ما قالوا، ولقد قتل بعض النبيين ضروبا من القتل حتى ورد أن منهم من نشر بالمنشار حيا، وناهيك بأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾

9. حاصل معنى الآية لوم المؤمنين على ذلك الحسبان، وبيان أن ما كانوا فيه من الشدة والألم في وقعة الأحزاب أو وقعة أحد إن صح أن الآية نزلت في ذلك الوقت، أو في عامة أحوالهم قبل فتح مكة، إذ كانوا يألمون من منازعة المشركين واليهود والمنافقين ويقاسون من جحودهم وكيدهم ما يقاسون، كل ذلك قليل في جنب ما قاسى غيرهم ممن سبقهم بالإيمان والهدى؛ إذ كان استعداد البشر أضعف وقسوتهم أشد وعنادهم أقوى.

10. جاء في معنى هذه الآية آيات أقربها منها لفظا ومعنى قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ وهذه نزلت في غزوة أحد لا محالة، وأما قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فقد قيل إنه خطاب للمؤمنين، وقيل للمنافقين، ومن خطاب المؤمنين في مثل هذا المقام قوله في أول سورة العنكبوت: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾

11. هذه الآيات وأمثالها تؤيد الآية التي نفسرها في ابتلاء الله المؤمنين الصادقين الداعين إلى الحق، ولكنك تجد أكثر المسلمين الذين تتلى عليهم دائما في غفلة عنها، فمن لم يغفل عن تصور المعنى في ذهنه يغفل عن انطباقه على الواقع، ولذلك تجد الكثيرين منهم يذهبون إلى أن من يؤذى في سبيل الحق بالقول وبالفعل كان وقوع الأذى عليه دليلا على أنه مبطل لا يطلب الحق! ! فما أجهلهم بكتاب الله! وما أبعدهم عن العلم بسنن الله! وما أغفلهم عن تأويلهما في خلق الله!

12. اتخذ المسلمون هذا القرآن مهجورا إلا ما يتغنون به من بعض سوره في المحافل الجامعة، ففقدوا روح الدين، وتبع الروح الجسمان، إلا قليلا من الرسوم الماثلة في جانب بروج البدع المشيدة، وإنما أبقى على تلك الرسوم تمسك العوام بها، فلولاهم لما بالى بها الأمراء والرؤساء الذين لا قوام لعظمهم إلا خضوع العامة لهم؛ لذلك جعلوا الدين رابطة سياسية وآلة لإخضاع العامة، ولذلك يحاربون من يدعو الأمة إلى الكتاب العزيز، ويستعينون عليه بعلماء الرسوم الذين يستمدون سلطتهم ورزقهم وجاههم منهم؛ لئلا تتوجه نفوس الجمهور إلى الكتاب؛ فيعرو رياستهم الزلزال والاضطراب.

13. هذا هو الحجاب بين الأمة وبين الاعتبار بالقرآن والاهتداء بهديه، المسلم العارف بتاريخ دينه يعرف قيمة أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلم العامي المقلد يعظمهم في خياله وشعوره أشد مما يعظمهم العارف في فكره وقلبه، حتى إن الكثيرين أو الأكثرين من المسلمين يكادون يرفعونهم عن مرتبة البشر، ويكاد تعظيمهم إياهم يشبه العبادة، ولكن ما بال هؤلاء وأولئك لا يعتبرون بما خاطبهم الله تعالى به في مثل هذه الآية، ولا يتألمون كيف عاتبهم الله تعالى هذا العتاب الشديد على ظنهم وحسبانهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضراء واحتمال الشدائد في سبيله ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان، حتى استحقوا الجنة؟ يقول محمد عبده: إن الآية عتاب لهم، وقال غيره من المفسرين: إنها إنكار عليهم، وهذا القول أشد من قوله، فكيف لا ينكر مسلم على نفسه مثل هذا، وهو يعلم أنه دون الصحابة الكرام إيمانا وإسلاما ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيله؟ لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله، فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، وآثر ما عند الناس على ما عند الله؟ بل لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراهم لا هم لهم إلا زينة هذه الحياة الدنيا، والاستكثار من المال ولو من غير حله، والانبساط في الأرض ولو بالبغي في الأرض والاعتداء على حقوق الجيران وغيرهم؟ أم حسبت أن هؤلاء الذين يغشون أنفسهم ويغشون الناس بدعواهم الإيمان، وغرورهم بالانتساب إلى الإسلام، كانوا بدعا من الناس بجهلهم وأمانيهم؟ كلا إن هذه كانت حال كل أمة طال عليها الأمد بعد زمن البعثة، فقست من أفرادها القلوب، وفسقوا عن أمر ربهم فلم يزنوا إيمانهم ولا إسلامهم بالميزان الذي وضعه الله تعالى في كتابه ليميز به الراجح والطائش، وبه حكم على أصحاب النبيين وأتباعهم بما قرأت في الآية الكريمة وما ذكرنا في تفسيرها مما في معناها.

14. إنما البدع الغريب، والأمر العجيب الذي لم يعرف له نظير في أمة من الأمم، هو ما نراه في هذا العصر من تصدي أناس لدعوى نصر الدين والزعامة فيه وحفظه على أهله، وهم لم يقرءوا كتابه، ولو قرءوه لما فهموه، ولم يتلقوا سنته ولو سمعوها لما وعوها، ولم ينظروا في عقائده ولو نظروا فيها لما عقلوها، ولم يعرفوا معظم أحكامه وما يعرفونه منها لا يعملون به.

15. أعجب من هذا وأغرب أنهم بلغوا من الوقاحة والتهجم أن صاروا يعارضون حملة القرآن، وأنصار السنة، وعرفاء الشريعة، وحجج العقائد، وحكماء الأحكام، ويجادلونهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وقد حلوا رابطة الدين ودعوا إلى رابطة أخرى يسمونها الوطنية يفرقون بها بين المؤمنين، وما جرأهم على ذلك كله إلا جهل العامة وقلة الذين يميزون بين العلماء العاملين والأدعياء الجاهلين، ولو كان هؤلاء على شيء من الإيمان لاستحيوا من الله تعالى أن يدعوا هذه الدعاوى التي يكذبهم بها كتابه كما تكذبهم سيرة السابقين الأولين، لكنهم لا هم لهم إلا العامة التي يبتغون عندها الرزق والاستعلاء في الأرض، وهم في مأمن من فهمها معنى الإيمان وصفات أهله؛ لأنهم يحولون بينها وبين كل من يوجه وجهها إلى كتاب الله تعالى الهادي إلى ذلك.

16. جعل الله تعالى للمؤمنين آيات، ووصفهم في كتابه بصفات غيرها المحرفون واستبدلوا بها آيات الغش وصفات المخادعة التي يفتنون بها العامة، أكبر آيات الإيمان وأظهرها الاهتداء بكتاب الله تعالى والدعوة إليه، وإيثاره على كل ما يخالفه، واحتمال البأساء والضراء في سبيل الحق الذي يهدي إليه والخير الذي يحض عليه، ويدخل في ذلك بذل المال والنفس، فمن بخل بما آتاه الله من مال وقوة على تأييد كلمة الله فلا وزن لإيمانه في كتاب الله:

أ. فيا أيها المسلم المقلد لوالديه ومعاشريه وأقرانه، الذي يحسب أنه من أهل الجنة؛ لأنه ولد وربي بين المسلمين، ورضي ببعض ما هم عليه من رسوم الدين، أو اتكالا على شفاعة الأولين، اقرأ أو اسمع وتأمل ما عاتب الله تعالى به أفضل سلفك الصالحين، وما ذكره عمن سبقهم من أتباع النبيين.

ب. ويا أيها العلماء بالرسوم، والعاكفون على قراءة كتب العلوم، ليس بأمانيكم ولا أماني الكاتبين، فقد وضع كتاب الله الميزان للصادقين والمنافقين، فعليكم أن تتذكروا وتذكروا به إخوانكم المسلمين، ولا يصدنكم عن آيات الله والاهتداء بكتاب الله أنكم فضلتم الناس بقراءة مطولات الكتب العربية، وصرف السنين الطوال في فهم الأحكام الفقهية، والاكتفاء من علم الإيمان بمثل السنوسية والنسفية؛ فإن ينبوع الإيمان كتاب الله تعالى فاحصوا ما فيه من الشعب والآيات على الإيمان ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾:.

ج. ويا أيها الأمراء والسلاطين الذين انتحلتم لأنفسكم الرياسة في هذا الدين، وإفاضة السلطة الدينية على العلماء والحاكمين، اعلموا أنكم مخاطبون كغيركم بهذه الآيات، بل هي موجهة إلى غيركم بالتبع وإليكم أولا وبالذات؛ لأنكم سلبتم الأمة الاستطاعة على العمل للملة، ومنكم من سلبها أيضا حرية القول والدعوة، فعليكم أن تخفضوا من هذه الكبرياء، وأن تتحملوا في سبيل الحق البأساء والضراء، وأن تبذلوا في تأييد كلمة الله قناطير الذهب التي تخزنون، وهذه المزارع والدساكر التي تتأثلون، فإن ما تستدلون به على أصل سلطتكم من القرآن مقيد بكونكم من أهل الإيمان، وهذه آيات المؤمنين، وما أعلم الله به أهل الإيمان الصادقين، بل عليكم بعد إقامة شعب الإيمان في أنفسكم، أن تقيموها في أنفس رعيتكم، وتكونوا قدوة لعالمهم وعاملهم، وغنيهم وفقيرهم؛ لتكونوا أئمة هدى ونور لا أئمة ضلالة وفجور، وإلا كان عليكم إثمكم وإثم جميع الأمم التي منيت بكم.

17. جملة القول أنه يجب على كل مكلف أن يتحقق بصفات الإيمان التي جاء بها الكتاب العزيز، ويعلم أن للإيمان عليه حقوقا عامة وواجبات خاصة هن آيات الإيمان وثمراته في الأنفس والأعمال، وبهن يؤدي إلى غايته من سعادة الدارين، ولم يسلب الله هذه الأمة تلك النعم التي أنعم بها على سلفها بقيامهم بحقوق الإيمان إلا بعد التفريط فيها، ثم إنهم ليمنون أنفسهم بالجنة بدلا عما فاتهم من السيادة والعزة غافلين عن الآيات البينات التي تفرض عليهم من الأعمال لسعادة الآخرة أكثر مما تفرضه عليهم لسعادة الدنيا، وإن في كل آية منها ما يكفي لاستئصال جراثيم الغرور والأماني، فما بالك بمجموعها! فعلى المسلم المذعن أن يشغله تطبيقها على نفسه عن اشتغاله بعيوب غيره، وأن يتعاون مع أهلها على البر والتقوى، ويهجر الراغبين عنها غرورا بزينة الحياة الدنيا.

18. من مباحث اللفظ في الآية أن الجلال فسر ﴿أَمِ﴾) هنا ببل والهمزة؛ فجعلها للإضراب مع الاستفهام، تبعا للبصريين ووفاقا لكثير من المفسرين، وقال محمد عبده: إن ﴿أَم﴾ تقع في أول الكلام فلا يصح فيها المعنى المشهور؛ إذ لا معنى للإضراب في أول القول، وما استشهدوا به من الشعر لا يشهد لقولهم، بل يصح على أن تكون ﴿أَمِ﴾ في الآية للاستفهام المجرد، وهو ما قاله الزجاج، وقد فسر الآية بنحو ما تقدم وهو مبني على جعل ﴿أَم﴾ للمعادلة وحذف ما عطف عليه، وقال في المغني: إن الزمخشري هو الذي أجاز هذا وحده، ثم قال: وجوز ذلك الواحدي أيضا وعزا مجيئها للاستفهام المجرد إلى أبي عبيدة، ثم قال: ونقل ابن الشجري عن جميع البصريين أنها أبدا بمعنى بل والهمزة جميعا، وأن الكوفيين خالفوهم في ذلك، والذي يظهر لي قولهم، إذ المعنى في نحو ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ ليس على الاستفهام، وذكر سيبويه في الكتاب أن ﴿أَم﴾) المتصلة لا تخرج عن معنى المعادلة بالتسوية وأن ﴿أَم﴾ المنفصلة تجيء بعد الاستفهام كما تجيء بعد الخبر، وبعد أن مثل لهما قال: وبمنزلة ﴿أَم﴾ هنا قوله عز وجل: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ ـ فجاء هذا الكلام على كلام العرب ليعرفوا ضلالتهم ـ إلى أن قال ـ ومثل ذلك ـ قوله: ﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ﴾ فقد علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أن الله عز وجل لم يتخذ ولدا، ولكنه جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم اهـ.

19. فسر الجلال ﴿لَمًّا﴾ بـ ﴿لَمْ﴾) وهو غير صحيح ولم يقل به أحد بل قال سيبويه: إن ﴿لَمًّا﴾) لتأكيد النفي في مقابلة الإثبات المؤكد، كأن يقول أحد: إن فلانا جاء فنقول: لما يجئ، وهذا قد يصح في الآية؛ لأن المقام مقام تأكيد أنه لا وجه لحسبانهم أن يدخلوا الجنة ولم يأتهم بعد ما أصاب من قبلهم، وقال الزمخشري: إن ﴿لَمًّا﴾) للنفي مع توقع الحصول، ولم للنفي المنقطع، وهو الذي يتجه في الآية وأمثالها، وفي المغني: إن ﴿لَمًّا﴾) تفارق ﴿لَمْ﴾) في خمسة أمور فتراجع هناك.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/276.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضا لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، وذلك مما يدعو إلى التنازع والتعادي، فدعا ذلك إلى وضع نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدى العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه، لما فيه من البينات الدالة على أنه من عند الله، ثم ذكر إحسان الله إلى عباده، إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم فيما اختلفوا فيه، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في كتابهم، واتخاذهم آلة الوفاق طريقا للخلاف، وبعدئذ بيّن أن الله هدى أهل الإيمان الصحيح لما وقع فيه الاختلاف من الحق بالرجوع إلى الكتاب وتحكيمه في كل خلاف، ثم أشار إلى أن الذين يحاولون الخروج من الخلاف يكونون‏ عرضة لبغى المختلفين وإيذائهم، وإن كانوا يريدون الخير لهم، حثّ المؤمنين هنا على الثبات والمصابرة في تحمل المشاقّ التي تصيبهم من الكفار، كما لقى الأنبياء ومن معهم من أمثالهم من الشدائد ومقاساة الهموم، وكان عاقبة أمرهم الفلج والنصر عليهم.

2. روى‏ أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكسروا رباعيته‏، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض‏ ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾

3. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق.

4. الخلاصة ـ إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟

5. ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر ووقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، فأجابهم الله بقوله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فهو سينصركم على عدوكم، ويكفيكم شرّ أهل البغي ويؤيد دعوتكم، ويجعل كلمتكم العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

6. نحو الآية قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ وقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾، والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حيّ وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾

7. فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهم موضع التجلة والاحترام، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة، فكيف لا يعاتب المسلم نفسه (وهو يعلم‏ أنه دون الصحابة إيمانا ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيل الله) حين يؤثر ما عند الناس على ما عند الله، ولا همّ له إلا زينة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير الطريق الحلال، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض.

8. قصارى القول ـ إن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدى إلى سعادة الدارين، من أهملها سلب النعمة التي أنعم بها على السابقين، فعلى المسلم أن يجعل همه تطبيق آي كتاب الله على أعماله، وأن يعرض عن الاحتفال بعيوب الناس، وأن يتعاون مع المؤمنين على البرّ والتقوى، ويهجر من رغب عنها، اكتفاء بزخرف الدنيا وزينتها.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/121.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. تنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة.. تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات.. يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلا: أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم؛ وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر؛ وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة؛ حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم، لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة.. استحقوا نصر الله، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه، واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء، فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وأرفع ما تكون عن عالم الطين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

2. هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته ـ سبحانه ـ في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم.. وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة.. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول‏ بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله، إن سؤالهم: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾

3. وعند ما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾.. إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله.

4. بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.

5. إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين.

6. على أنه ـ حتى إذا لم يقع هذا ـ يقع ما هو أعظم منه في حقيقته، يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية.. وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف.. وهذا هو الطريق..

7. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل، هذا هو الطريق: إيمان وجهاد.. ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات.. وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر، ثم يجيء النعيم.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/216.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أما وقد استنقذ الله سبحانه المؤمنين برحمته، وهداهم الصراط المستقيم بفضله، فقد وجب عليهم أداء أمانة هذا الدين الذي هداهم الله إليه، فالدّين ليس مجرد مفاهيم أو تصورات يتلقاها المؤمن من نصوص الشريعة، وإنما هو مع ذلك سلوك قائم في ظل هذه المفاهيم وتلك التصورات، فالطريق إلى الجنة محفوف بالمكاره، والمؤمنون مبتلون في أموالهم وأنفسهم، ممتحنون‏ في إيمانهم وصبرهم، كما يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، ويقول سبحانه‏ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾

2. الذين آمنوا بالله واتبعوا رسول الله، معرّضون لهذا الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون، أتباع رسل الله، فكم حمل هؤلاء الرسل وأتباعهم من أعباء، وكم لاقوا من أهوال، وكم تجرعوا من غصص، مما رهقهم به سفهاء أقوامهم من جهالات وسفاهات: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ أي اضطربت مشاعرهم وتبلبلت خواطرهم، واستيأسوا وظنّوا أنهم أحيط بهم، فاستعجلوا النصر الذي وعدهم الله، كما يقول سبحانه: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وقالوا: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ وكأنهم يقولون فيما يقولون: أين نصر الله الذي وعدنا به؟

3. ومن آفاق الحق ومن قلوب أولياء الله الراسخين في الإيمان، يجيء هذا المدد الكريم، يسوق بين يديه بشريات الفرج المرتقب والنصر الموعود: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، إن راية الحق لا تنكس أبدا، إذا هي شدّت إلى أيد مؤمنة مستمسكة بالحق، معتصمة بالصبر، مستعدة للبذل والتضحية، فإن المجاهدين تحت هذه الراية، إنما يجاهدون تحت راية الله، وحسبهم بالله معينا وناصرا ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

4. قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي ولما تصابوا بما أصيب به من سبقكم من المؤمنين في الأمم الماضية من شدائد ومحن، فالمثل هنا هو الواقعة المادية، وليس الصورة اللفظية الحاكية لتلك الواقعة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/236.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ إضراب انتقالي عن الكلام السابق فاحتاج إلى وجه مناسبة به، فقال الطيبي أخذا من كلام (الكشاف): (إن قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: 213] كلام ذكرت فيه الأمم السالفة وذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، ومدمج لتشجيع الرسول والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين كما قال ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120] فمن هذا الوجه كان الرسول وأصحابه مرادين من ذلك الكلام، يدل عليه قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 213] وهو المضرب عنه ببل التي تضمنها أم أي دع ذلك، أحسبوا أن يدخلوا الجنة)

2. بيانه أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداء في المحامد، فكان في قوله‏ تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله‏ ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أوقظوا أن لا يزهوا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضوا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدي المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك، فيكون قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ إضرابا عن قوله: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وليكون ذلك تصبيرا لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل، ويكون أيضا تمهيدا لقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216] الآية، وقد روي عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة.

3. ﴿أَمْ﴾ في الإضراب كبل إلا أن أم تؤذن بالاستفهام وهو هنا تقرير بذلك وإنكاره إن كان حاصلا أي بل أحسبتم أن تدخلوا دون بلوى وهو حسبان باطل لا ينبغي اعتقاده.

4. حسب بكسر السين في الماضي: فعل من أفعال القلوب أخوات ظن، وفي مضارعه وجهان كسر السين وهو أجود وفتحها وهو أقيس وقد قرئ بهما في المشهور، ومصدره الحسبان بكسر الحاء وأصله من الحساب بمعنى العد فاستعمل في الظن تشبيها لجولان النفس في استخراج علم ما يقع بجولان اليد في الأشياء لتعيين عددها ومثله في ذلك فعل عدّ بمعنى ظن.

5. الخطاب للمسلمين وهو إقبال عليهم بالخطاب بعد أن كان الكلام على غيرهم فليس فيه التفات، وجعل الزمخشري التفاتا بناء على تقدم قوله‏ ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: 213] وأنه يقتضي أن يقال أم حسبوا أي الذين آمنوا، والأظهر أنه لما وقع الانتقال من غرض إلى غرض بالإضراب الانتقالي الحاصل بأم، صار الكلام افتتاحا محضا وبذلك يتأكد اعتبار الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، فالالتفات هنا غير منظور إليه على التحقيق.

6. دخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شيء منه، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتته ولم يصبر عليها، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه‏ موجب لغفران الذنوب، أو المراد من ذلك أن تنالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفا على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى، وتطرق هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أتباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل، فلذلك هيّئ المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفا بهم ليكون حصوله أهون عليهم، وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساء والضراء وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة، فلما وردوا المدينة لقوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم، كما أن الأنصار لقوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم.

7. ﴿لَمًّا﴾ أخت لم في الدلالة على نفي الفعل ولكنها مركبة من لم وما النافية فأفادت توكيد النفي، لأنها ركبت من حرفي نفي، ومن هذا كان النفي بها مشعرا بأن السامع كان يترقب حصول الفعل المنفي بها فيكون النفي بها نفيا لحصول قريب، وهو يشعر بأن حصول المنفي بها يكون بعد مدة، وهذا استعمال دل عليه الاستقراء واحتجوا له بقول النابغة:

أزف الترحل غير أن ركابنا... لما تزل برحالنا وكأن قد

فنفى بلما، ثم قال وكأن قد، أي وكأنه قد زالت.

8. الواو للحال أي أحسبتم دخول الجنة في حالة انتفاء ما يترقب حصوله لكم من مس البأساء والضراء فإنكم لا تدخلون الجنة ذلك الدخول السالم من المحنة إلا إذا تحملتم ما هو من ذلك القبيل.

9. الإتيان مجاز في الحصول، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد.

10. المثل: المشابه في الهيئة والحالة كما تقدم في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: 17]

11. ﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل‏ ﴿خَلَوْا﴾ خلا منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم.

12. مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ متعلق بخلوا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين.

13. المس حقيقته: اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله، فمنه مس الشيطان أي حلول ضر الجنة بالعقل، ومسّ سقر: ما يصيب من نارها، ومسّه الفقر والضر: إذا حل به، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا﴾ [الزمر: 8] ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا﴾ [يونس: 12] ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: 51] ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾ [الأعراف: 73] فالمعنى هنا: حلت بهم البأساء والضراء، وقد تقدم القول في البأساء والضراء عند قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [البقرة: 177]

14. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ أي أزعجوا أو اضطربوا، وإنما الذي اضطرب نظام معيشتهم، قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 11]، والزلزلة تحرك الجسم من مكانه بشدة، ومنه زلزال الأرض، فوزن زلزل فعفل، والتضعيف فيه دال على تكرر الفعل كما قال تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾ [الشعراء: 94] وقالوا لملم بالمكان إذا نزل به نزول إقامة.

15. ﴿حَتَّى﴾ غاية للمس والزلزال، أي بلغ بهم الأمر إلى غاية يقول عندها الرسول والذين معه متى نصر الله.

16. لما كانت الآية مخبرة عن مسّ حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطبين وقت نزول الآية، جاز في فعل يقول أن يعتبر قول رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول المزلزلين فأل للعهد، أو حتى يقول كلّ رسول لأمة سبقت فتكون أل للاستغراق، فيكون الفعل محكيا به تلك الحالة العجيبة فيرفع بعد حتى؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعا، وبرفع الفعل قرأ نافع وأبو جعفر، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطبين عليه السلام فأل فيه للعهد والمعنى: وزلزلوا وتزلزلون مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوبا؛ لأن القول لمّا يقع وقتئذ، وبذلك قرأ بقية العشرة، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام، وبكلتا القراءتين يحصل كلا الغرضين.

17. متى استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر.

18. ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بألا، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رعبا، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها، وإكرام للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه، وهذا يشير إلى فتح مكة.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/283.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن الناس جميعا قد فطروا على فطرة واحدة، وأن من هذا الاتحاد كان الافتراق والاختلاف؛ ولقد ألهم الله كل نفس فجورها وتقواها؛ وخلق الناس مستعدين للخير وللشر، وللطاعة والعصيان؛ فكان منهم من غلبت عليه شقوته فاتجه نحو الشر، ومنهم من عمته رحمة الله فاهتدى إلى الخير؛ فكان من الناس الأخيار والأشرار؛ وكان هذا من مقتضى الاستعداد للأمرين بمقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها وكانوا فيها على سواء.

2. لا شك أن العاقبة للخير؛ لأن الله هو الذي أمر به؛ فإذا كان الناس فيهم الفجار والأبرار، وأن في نفس كل امرئ استعدادا للفجور والتقوى؛ فالله سبحانه قد دعا إلى الخير، وحث عليه، وهو غالب على أمره، وهو لا بد ناصر للخير، هازم للشر، والعاقبة للمتقين؛ ولكن النصر يكون على مقتضى تدبير محكم، وصبر على البلاء، وعدم استنامة إلى الرخاء، فلا ينتصر الخير على الشر إلا بشدائد ومكاره تنزل بالأخيار ويتغلبون عليها بعد مغالبتها، ومغالبة الأشرار معها؛ ولذلك أردف الله سبحانه وتعالى الآية الدالة على اتفاق الناس واختلافهم، بالآيات الدالة على الشدائد النازلة بالأخيار وأتباع النبيين؛ فقال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾

3. في هذه الآيات إذن يبين الله سبحانه وتعالى ما ينزل بالأخيار في سبيل الاستمساك بالحق والدفاع عنه، وكيف يغالبون المحن التي تنزل بهم، والأعداء الذين يحيطون بدولتهم؛ ولقد وصف سبحانه وتعالى أولا البلاء في الداخل والخارج، ثم وصف علاجه في الداخل بالبر والإنفاق ثم وصف علاجه في الخارج، بالمقاومة وحمل السيف عند الاضطرار.

4. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ في هذه الجملة السامية بين الله سبحانه وتعالى أن طريق الجنة محفوف بالشدائد؛ كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وأن نعيم الجنة مرتقى عظيم، لا يرتفع إليه إلا المجاهدون؛ وأنه كلما عظمت الشدة وطالت المدة كان الخير أعظم، ومعه رضوان الله وهو أكبر، وأن البلاء منوع مختلف؛ فهو بالبأساء وهى الشدائد والمكاره التي تكون من خارج الجسم، كحرب ضروس، أو خطر داهم؛ والبلاء قد يكون بالضراء، وهى الآلام والشدائد التي تحل بالجسم، كجراح شديدة، أو أمراض ممضة، أو آلام نفسية مزعجة وإن هذه الآلام قد تزعجهم وتشتد عليهم، وتصير كالزلازل تهز نفوسهم هزا عنيفا؛ كما يهز الزلزال‏ أديم الأرض؛ وإذا كان زلزال الأرض يهزها حتى يلقى ما عليها من قصور مشيدة، فزلزال المؤمنين لا يقلب نفوسهم، ولا ينكس ما في صدورهم؛ بل يصقلها وينفض عنها ما عساه يعلق بها من درن.

5. فسر العلماء البأساء ـ بالشدة من خارج الجسم، والضراء بما يكون داخله كما نوهنا ـ وهى واضحة في الآحاد؛ وقد تكون البأساء والضراء بالنسبة للمجموع؛ فالبأساء التي تنال المجموع هي مهاجمة الأعداء، واعتداؤهم وتوالى إيذائهم؛ وعدم تركهم أهل الحق في قرار واطمئنان؛ والضراء في المجموع هي ما يكون من فقر ومرض، وما يتخلل صفوف المؤمنين من منافقين يرجفون بينهم بالأقوال الكاذبة، ويخذلون ضعاف الإيمان عند لقاء الأعداء، ثم ما يكون من نقص في الأموال ويخذلون ضعاف الإيمان عند لقاء الأعداء، ثم ما يكون من نقص في الأموال والأنفس والثمرات كما قال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة]

6. ﴿أَمِ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ قد اختلف العلماء بشأنها من ناحية التخريج اللفظي بمقتضى الأحوال التي تستعمل فيها (أم):

أ. فقال بعضهم: إنها للاستفهام المجرد، وهذا هو ما قاله الزجاج، وجوزه الزمخشري والمعنى على ذلك التخريج واضح.

ب. ويكون من قبل الاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار النهى؛ أي لا تحسبوا أنكم تدخلون الجنة ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي لم تأتكم حال كحال الذين مضوا من قبلكم إذ مستهم أي أصابتهم البأساء والضراء، والتعبير بمستهم للإشارة إلى أنها نالتهم بالأذى أحسوا به، والآلام نالت حسهم، ولكن لم تنل قلوبهم.

ج. وقال بعضهم: إن (أم) هي (أم المتصلة)؛ وكأن في الكلام محذوفا دل عليه لازم قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة] وما قبلها، وكأن تقدير القول هكذا: أفرضيتم بالحق تنصرونه، وتدفعون بغى الباغين عليه متحملين الشدائد والمكاره، (أم) حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء... وبهذا تكون (أم) متصلة؛ دالة على المعادلة بين حالين، والموازنة بين أمرين؛ وقد قال سيبويه في الكتاب: إن (أم) المتصلة تكون دائما دالة على المعادلة والتسوية، وإن كان التعادل غير مذكور، كان مقدرا في القول مطويا في ثناياه.

د. وقال بعضهم إن (أم) هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب؛ وقد قال البصريون: إن أم المنقطعة تدل على الإضراب والاستفهام معا؛ وكأن تقدير القول لقد نزلت بكم الشدائد من أذى شديد في مكة وأنتم مستضعفون، ومن حرب وبلاء وهزيمة أحيانا وأنتم بالمدينة، ونزعت العرب كلها عن قوس واحدة في غزوة الأحزاب؛ لتقتلع مدينة الله من أرضه، فعليكم أن تصبروا.

7. ﴿لَمًّا﴾ في هذا الكلام الكريم تدل على النفي مع توقع وقوع المنفى كما قال الزمخشري والمعنى: لم ينزل بكم مثل حال الذين خلوا من قبلكم وقد ينزل أو سينزل، فإن نزل فاصبروا واعلموا أن الله مع الصابرين.

8. الزلزلة: شدة التحريك، وهى تكون في الأشياء وفي الأشخاص، وفي الأحوال؛ فيقال زلزلت الأرض إذا تحركت واضطربت، وزلزلوا أي خوفوا، وقال الزجاج: أصل الزلزلة من زل الشيء عن مكانه، فإذا قلت زلزلته فمعناه كررت زلله.

9. المعنى في الجملة أن أهل الحق دائما معنّون بظلم الظالمين، وتضييق الأشرار عليهم، ودس الأشرار ونفاق المنافقين، ودعاة التردد والهزيمة؛ وهم لهذا في بأساء وضراء؛ وقد نزل ذلك بالذين خلوا من قبل؛ فحياة الأنبياء وحواريهم كانت كلها امتحانا واختبارا، وأن على أصحاب محمد أن يعلموا أنه نازل بهم ما نزل بالسابقين من بأساء وضراء، وشدائد تزلزل النفوس وتضطرب لها القلوب بين الجنوب؛ وأن ذلك طريق الجنة؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن عمل الجنة حزن بربوة، ألا إن عمل النار سهل بسهوة)

10. تلك الشدائد كانت تبلغ أقصاها، حتى إذا وصلت القلوب إلى حال تقارب اليأس من الفرج، إذ تغمرها الشدائد غمرا، حتى تكون في شبه ظلماء لولا نور القلوب، جاء نصر الله؛ وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ أي أن الشدائد كانت تنزل بالماضين من أنصار الحق والدعاة إليه، ويطول زمنها، ويتطاول فيها أهل الباطل، حتى تصير النفوس في حال تريد النصر القريب.

11. ليس معنى ذلك أن الهلع يستولى عليهم، أو أن اليأس يملك قلوبهم؛ فإن المؤمن لا ييئس من روح الله؛ إنما معناه أنهم تنزل الشديدة فيحتملونها ويألفونها ثم تنزل الآخرى التي تكون أشد قسوة فيروضون نفوسهم على احتمالها مستعذبين العذاب في سبيل الحق؛ وهكذا تترادف عليهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن حتى تصل إلى أقصى ما تحتمله النفوس الآدمية، وتبلغ حد الطاقة البشرية؛ عندئذ يطلب الرسول والذين آمنوا معه النصر، وقدم الرسول في هذا المقام للدلالة على أمرين:

أ. أولهما: أن الشدة قد بلغت منتهاها بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم سارع بطلب النصر من رب العالمين؛.

ب. الثاني: أن رأفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بأتباعه تجعله يسارع بطلب نصر الله، رحمة بهم، وإشفاقا عليهم.

12. عند بلوغ الشدة هذا الحد يكون ابتداء الفرج؛ ولذا قال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ أي الله سبحانه وتعالى يبشرهم في هذه الحال بأن النفوس قد انتهى اختبارها، وبدا جوهرها، وأن النصر لا محالة آت وهو قريب؛ فهذه الجملة الكريمة من كلام الله تعالى لهم، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الجملة يصح أن تكون من كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ومن معه؛ أي أنهم لفرط إيمانهم بحسن العقبى، ورجائهم في نصر ربهم، وإيمانهم بأن الحق منصور، يحسون في الحال التي يطلبون فيها النصر بأن النصر منهم قريب؛ فيقول لهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد طلب النصر ويستمعون إليه مصدقين كأنهم القائلون: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ والتعبير على هذا الشكل يدل على توكيد الخبر بالنصر؛ من جملة وجوه؛ ففيه التعبير بالجملة الاسمية في مقام الفعلية فلم يقل ستنصرون، والتعبير بالجملة الاسمية دليل على التوكيد؛ وفيه أداة الاستفتاح؛ وفيه (إن) الدالة على التوكيد؛ وفيه إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج‏]

13. الرسول في الآية الكريمة للجنس، أي أن هذه الحال هي حال عامة تعرض لكل رسول من الرسل في قومه إذ يدعوهم إلى الحق؛ وإن قصص القرآن عن النبيين ينبئ عن ذلك؛ فموسى عليه السلام آذاه وأصحابه فرعون حتى قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل؛ وعيسى عليه السلام آذوه هو ومعه الحواريون؛ ومن قبل إبراهيم ولوط ونوح؛ وهكذا أهل الحق لا يصلون إلى الغاية الفاضلة إلا بعد أن يقطعوا كل ما يلقيه في طريقهم أهل الباطل من أحجار تدعثره، وأشواك تعوق السالك فيه.

14. قال العلماء: إن هذه الآية نزلت بعد أن أصاب المسلمين القرح في أحد، فكانت هذه الآية للتسلية لهم؛ ولكن الذي نزل في غزوة أحد هو قوله‏ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران‏] بدليل ما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران‏]؛ ولذلك يرجح أكثر العلماء الذين عنوا ببيان أسباب النزول أن هذه الآية نزلت عند غزوة الأحزاب، حين أصاب المسلمين ما أصابهم من جهد ومشقة، وهم يحفرون الخندق، ثم أصابهم من تهديد في الأموال والأنفس عندما جاء أولئك الأحزاب مجتمعين؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب‏]

15. مهما يكن من سبب لنزول هذه الآية الكريمة فإنها تدل على أن أهل الحق في مغالبة دائمة، وأنهم لا ينتقلون من شدة إلا إلى أعلى منها حتى يفوزوا؛ فإن الشيطان من يوم أن وسوس لآدم وحواء وأخرجهما من الجنة، وأبناؤهما في بلاء: تستغوى الشهوات جموعهم، فيندفعون فيها مجترعين من عسلها الوبيء، ثم يلغون‏ في الشر، ويكلبون على أهل الخير؛ فإذا تقدم دعاة الخير يدعونهم بعد أن يتبين الرشد من الغى ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، عادوهم وناوءوهم وأصابوهم، واعتقدوا أن ما يدعون إليه فيه ذهاب طغيانهم، وقدع شهواتهم، والحد من أهوائهم، وحاولوا افتراسهم كالوحوش الأوابد عندما تحس بمن يمنعها من الافتراس، ويكبحها عن الأذى.

16. إذا كان أهل الحق يصابون بالضراء وهى الأذى الذي يكون في داخل جماعتهم كما قررنا، والبأساء وهى الأذى الذي يأتي من خارجهم، فقد وجب عليهم أن يدّرعوا، ويعملوا صابرين على دفع الأذى في الداخل والخارج؛ ودفع الأذى في الداخل بالتعاون والتكافل الاجتماعي، ودفع الأذى الخارجي بأخذ الأهبة للقتال، والتعاون أيضا؛ فإن التكافل الاجتماعي هو العدة لدفع أذى الداخل والخارج معا.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/672.

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية الكريمة تخاطب كل من آمن بالحق، وعمل به ودعا اليه، وتقول له بصراحة: ان سنة الله قد جرت في أنصار الحق أن يدفعوا ثمنه من أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وأن يتحملوا في سبيله الأذى والمكاره ويصبروا على المصائب والشدائد.. وقد لاقى من كان قبلكم من أجل الحق ألوانا من الأذى، فصبروا.. فهل تصبرون أنتم كما صبروا: أم انكم تريدون أن تدخلوا الجنة بلا ثمن، وقد أبى صاحبها ومالكها إلا أن يكون ثمنها الإيمان والإخلاص والصبر على الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس! وجاء في‏ خطبة من خطب النهج: (ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ان الجنة حفت بالمكاره، وان النار حفت بالشهوات، واعلموا انه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره، وما من معصية الله شيء الا يأتي في شهوة)

2. ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، متى نصر الله سؤال من الرسول والمؤمنين، يصور المحنة والشدة التي لاقوها من أعداء الحق وحزب الباطل، ومحصل المعنى ان السابقين من أنصار الحق أصابهم البؤس والضر، ووقعوا في الاضطراب من شدة الهول، حتى ظنوا ان النصر قد أبطأ عنهم، فاستعجلوه بقولهم: متى نصر الله؟.

3. أجابهم الله بقوله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، فهذه الآية تجري مجرى الآية 110 من سورة يوسف: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/320.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مر أن هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

2. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، وهو أن الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء داء، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا ونقمة من اتباع الهوى، وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم، فإن المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم.

3. في الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا..

4. كلمة ﴿أَمِ﴾‏ منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة (إلخ)، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحق أن أم لإفادة الترديد، وأن الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على نعمة الدين، والاتفاق والاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة (إلخ)

5. ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، المثل‏ بكسر الميم فسكون‏ الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه، والشبه والمراد به ما يمثل الشيء ويحضره ويشخصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، ومنه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾، وإنما قالوا له صلّى الله عليه وآله وسلم: مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك، وحيث إنه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ إلخ فالمراد به المعنى الأول.

6. ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الذي دل عليه بقوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ﴾، بين ذلك بقوله: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الذي يحتاج إليه في حياته، والضراء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من‏ زل‏ بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصر وصرصر، وصل وصلصل، وكب وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والإدهاش.

7. ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾، قرئ بنصب يقول، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، وقرئ برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ لا يناسب السياق كل المناسبة.

8. ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعا، ولا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاء وطلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾، وقد قال تعالى أيضا: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾، وهو أشد لحنا من هذه الآية، والظاهر أيضا أن قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه..

9. الآية (كما مرت إليه الإشارة سابقا) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة، وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/159.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هذا خطاب للذين آمنوا يدل على خطئهم في ظنهم إن ظنوا أنهم يدخلون الجنة من دون أن ينالهم الابتلاء الشاق كما نال من قبلهم من الرسل وأتباعهم ويصبروا كما صبروا.

2. ﴿أَمْ﴾ فيها معنى (بل والهمزة) كأنه قيل: بل أحسبتم، ولعل الإضراب راجع إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أي لا يكفيكم العزم على التوبة والرجوع إن زللتم، بل لا بد من استعدادكم لتحمل المشاق في ابتلائكم بالجهاد وغيره، أو الإضراب راجع إلى أقرب من ذلك آية تحكيم القرآن، أي لا يكفي استعدادكم لذلك بل لا بد من الاستعداد لجهاد أعداء الله المخالفين لكتابه إن أردتم الجنة.

3. ﴿وَلَمَّا﴾ (الواو) للحال أي في حال أنه ﴿لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ومثل الذين خلوا ما نالهم من الشدة، كأنه مَثَلٌ في اشتهاره، وكونه عبرة لغيرهم؛ لأن الأمثال تضرب ليلحق بها ما كان مثلها في المعنى.

4. ﴿لَمَّا يَأْتِكُمْ﴾ دليل على أن إتيانه أي إتيان مثله متوقع أي سوف يكون، ثم ذكر مثل الذين خلوا، فقال تعالى: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ﴾ حالة البؤس بالفقر ونحوه ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ حالة الضر بالأمراض ونحوها.

5. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ بالحروب والتخويف من أعدائهم وامتدت مدة ذلك ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ أي رسولهم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ أي استمرت الشدة وهم يطمعون في النصر يقولون: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾؟ لشدة شوقهم إلى النصر، وضجرهم مما نالهم.

6. ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ هذا جواب سؤالهم؛ وهو يفيد قرب نصرهم، ثم إنه قد وقع نصرهم كما أخبر الله لأنه أصدق القائلين، وفي هذا عبرة لنا إذا ابتلينا لنتوقع النصر ولا نقنط منه؛ لأن السياق يدل على إتيان المثل بتمامه؛ وتمامه انتهاء الشدة بالنصر.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/315.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. هذه الآية من آيات الدعوة الموجهة إلى العاملين في سبيل الله، الذين قد تضغط عليهم تحديات الكفر والانحراف، فيتراجعون، أو ينهزمون، أو يضعفون أمامها، أو يسقطون تحت عوامل اليأس، وربما كان جو الآية يوحي بأن شيئا من هذا القبيل قد حدث لبعض المسلمين الأولين في صدر الدعوة، أو في ما بعد ذلك في الأجواء التي كان يخوض فيها الإسلام معركته المسلحة مع الشرك، فربما يكون قد صدر من بعض المسلمين ضعف أو تذمر، وربما كانوا يفكرون بإمكانية الحصول على الجنة من خلال الأعمال الخفيفة التي تدخل في نطاق العبادات أو ما أشبهها، مما لا يكلف الإنسان تضحية كبيرة في النفس والمال.. فكانت هذه الآية توجيها حاسما يضع القضية في نطاقها الطبيعي من حركة العقيدة في الحياة، فإن الجنة لا تنال بالتمنيات، ولا تعطى بحالات الاسترخاء الإيماني الذي يعيش أحلام الجنة من دون أن يعمل لها.

2. الانتصارات في ساحة التحدي لا بد من أن تنطلق من السنن الطبيعية لحركة الصراع الإنساني في قضايا النصر والهزيمة، ومن الشروط الموضوعية للنتائج الإيجابية في هذه الأمور، ليتعرفوا أن مجرد الانتماء إلى الإسلام الذي هو دين الله لا يكفي في تحقيق النصر لهم ما لم يأخذوا بأسباب النصر التي يفتح الله من خلالها ألطافه، فلا يمكن أن يكونوا استثناء من سنن الله الثابتة في الكون.

3. لكنّ الجنة تنال بالمواقف الصعبة التي يواجه فيها المؤمن القوي الطاغية، وقد جاءت هذه الآية لتعبر للمسلمين عن هذه الفكرة، من خلال المثل التاريخي للرسالات السابقة التي عاش فيها المؤمنون الأولون مع أنبيائهم التحديات الصعبة، التي جعلتهم يواجهون حالة الزلزال النفسي والروحي، وربما الزلزال الفكري، من خلال صعوبة ما واجهوه من مشاكل وتحديات؛ فقد ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ مسّت أنفسهم وأموالهم ومصالحهم العامة والخاصة، وحاولت مجتمعات الكفر لديهم أن تضعفهم وتقهرهم، فاستخدمت كل الأساليب التعسفية في مجال القهر الجسدي والروحي والفكري حتى تهز قناعاتهم، وتحطم مواقفهم، وترجعهم إلى الحالة التي كانوا عليها قبل الإيمان..

4. كان الزلزال، فقد بدأ الرسول والذين آمنوا معه يتساءلون: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ فقد وعدنا الله بالنصر على قوى الكفر، ولم يكن هذا التساؤل منطلقا من حالة شك في وعد الله، بل الظاهر أنه منطلق من حالة استعجال له وترقب لتنفيذه، وتساؤل عن موعده بعد أن أصبح الموقف شبه يائس من الوجهة الواقعية، فالكفر في موقع القوة المتنامية المتصاعدة، والإيمان في موقع الضعف المستمر المتزايد، والأوضاع المحيطة بالواقع لا تبعث على التفاؤل الكبير، فلم يبق لهم إلا الغيب المودع عند الله، ومن خلال ذلك، نفهم أن الزلزال يتحرك من طبيعة الظروف التي تتحفز لتثير في النفس الشعور السلبي‏ الخائف الفزع، لا من ضعف الإيمان، ولذلك لم يعاتبهم الله على ذلك، ولم ينقص من قدرهم، بل ربما نستوحي من الآية أنها تؤكد على القيمة الإيمانية لموقفهم الجهادي الصعب الذي جعلهم في موقع الزلزال الداخلي، ولذا وعدهم الله بالنصر القريب كدلالة على سلامة عملهم وتقييم جهادهم.

5. ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ هل ظننتم أيها المسلمون، الذين تتحركون في دروب الدعوة، وتعيشون أمام ساحات التحدي ـ والاستفهام استنكاري أو تعجبي ـ ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ التي تتمنونها كهدف لكل نشاطاتكم وحركتكم في الحياة، لتكون النهاية السعيدة للمصير الذي ينتظره الجميع!؟ ولكن هل تنال الجنة بالتمنيات، والأحلام الطائرة في الهواء، الغارقة في الضباب أو بالاسترخاء الذاتي الذي يبتعد فيه الإنسان عن أي جهد فكري أو جسدي، مما يتحرك فيه الناس لتحقيق الأهداف الكبرى في الحياة، أو بالأعمال العبادية التقليدية التي لا تحمل أية حرارة روحية، وأي ابتهال نفسي، وأي انفتاح على الله في الأفق الممتد في اللانهاية من أجل القرب منه في رحاب القدس والرضوان، ولا تكلف أي جهد أو أية خسارة من مزاج الإنسان وطريقته في الحياة!؟.

6. الآية تختزن الرفض لذلك، والاستنكار أو التعجب من هذا اللون من التفكير، أو الفهم لمسألة الجنة في علاقتها بحركة الإنسان في الدنيا، لأن الجنة ـ كما جاء في الحديث‏ ـ محفوفة بالمكاره والصّبر، مما يجعلها نتيجة للحركة المتنوعة الخطوات، المتعددة الأبعاد، القاسية في آلامها، الشديدة في أحزانها، الضاغطة في زلزالها، الهائلة في مخاوفها، بحيث يعيش الإنسان في توتر دائم من خلال التحديات الصعبة في ساحة الصراع بما يعانيه من خطورة الجهاد النفسي والعسكري ونحوه، بحيث يكون إنسان الجهاد والتحدي والصراع الذي يفتح الحياة على آفاق النصر، فلا مجال لكم أيها المسلمون أن تتحدثوا عن دخول الجنة قبل أن تعرفوا الثمن الكبير لها.

7. ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من أتباع الرسالات الذين واجهوا الكافرين بكل قوة، وحاربوا المستكبرين بكل ثبات، فكانت النتيجة الصعبة أنهم‏ ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾، وواجهتهم المشاكل الصعبة، والآلام الحادّة، والأوضاع القاسية في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وأحوالهم العامة والخاصة، ومواقعهم الصغيرة والكبيرة.. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ ففقدوا الثبات في مواقفهم وأوضاعهم، بحيث عاشوا الزلزال النفسي الذي ينطلق من حالة نفسية صعبة تثير القلق في الداخل لا شعوريا، وتصنع الزلزال الشعوري من دون اختيار.

8. بدأ اليأس يدب في النفوس، والخوف يزحف إلى القلوب حتى في مستوى القاعدة والقمة: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أمام هذا الزلزال النفسي الذي لم يتحول إلى زلزال فكري لأن الرسالة في وعي الرسول، والإيمان في وجدان المؤمنين، لا يزالان منفتحين على الله؛ ولكن طول الأمد وقسوة البلاء أطلقا الصرخة التي تستعجل النتائج وتترقب النصر: ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾؟ في سؤال ابتهالي يتطلع فيه الرسول والمؤمنون إلى الله في عالم الغيب الذي لا يدركون تفاصيله، ويأتي الجواب في إحساسهم أو في وحي الله: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ ولكن هناك شروطا موضوعية، وسننا تاريخية، وقوانين اجتماعية مما أودعه الله في نظام حركة المجتمعات الإنسانية.. لا بد من توفرها في فعلية النصر الذي بدأت ملامحه تقترب من الواقع كله، وهكذا ينبغي لكم ـ أيها المسلمون ـ أن تواجهوا الموقف على مستوى الصبر في الواقع الصعب والأمل بنصر الله في المستقبل القريب.

9. قد نحتاج إلى أن نقف بعض الوقفات أمام مفهوم النصر القريب الذي تتحدث عنه الآية، هل هو النصر الكامل الذي يستقطب كل جوانب الموقف، أو هو النصر الذي تسمح به الظروف الموضوعية المتوفرة في الساحة، ولو كان ذلك في مستوى المرحلة!؟ قد لا نستطيع استيحاء المعنى الدقيق لذلك من الآية نفسها، لأننا لا نعرف طبيعة النصر الذي كان ينشده الرسول والمؤمنون، هل هو نصر الغلبة ليتمثل في هزيمة الكافرين أمام المؤمنين في موقع الصراع بين قوة الكفر وقوة الإيمان؛ أو هو النصر بإنزال العذاب على الكافرين ليتمثل في زوالهم عن الساحة بواسطة العذاب المتنزل عليهم من الله!؟ وربما كان المعنى الثاني هو الأقرب، لأن ذلك هو شأن الأمم التي كانت تكفر بالله، وتتحدى رسله، وتسخر برسالاته، وتتنكّر لها، فيرسل الله عليها العذاب في نهاية الأمر، كما فعله في قوم صالح وهود ولوط وشعيب عليهم السّلام وغيرهم، وبذلك يكون النصر قائما على أساس الانتقام من القوم الكافرين، وهناك عدة شواهد على إطلاق كلمة النصر على حالة العذاب الذي ينزله الله على الكافرين انتصارا لمن كذب من الأنبياء، وفي ضوء ذلك، يكون المراد من قرب النصر، القرب الزماني الذي طال انتظاره عليهم.

10. ربما يكون النصر المراد نصر الغلبة، لما قد توحيه من وجود قوة متحفزة للصراع، في ما توحيه كلمة: ﴿الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾، وفي هذه الحال يمكن أن يكون القرب في النصر خاضعا للجانب المرحلي في نطاق النصر الجزئي، الذي قد يتمثل في زيادة قوة المؤمنين من خلال الفئات التي تدخل في الإيمان، أو في هزيمة بعض المواقع القوية للكافرين أمام المؤمنين، أو في غير ذلك من الموارد، وليس من الضروري أن يكون النصر حاسما كليا، لأن الظاهر أن الموقف كان جامدا في مواقعه الأولى في جانب المؤمنين، حتى انتهى إلى حالة الاستغاثة اليائسة أو القريبة من اليأس، بحيث كانت القضية هي أن يتحرك الموقف إلى ساحل الأمل، أما حدود ذلك، فهي الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية في حركة الواقع في ما يتوفر من أدوات النصر من المكان والزمان والأشخاص والأوضاع العامة القادمة من الواقع الإنساني العام.

11. هذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في ما ننتظره من النصر في مواقعنا المتحركة للعمل الإسلامي، فقد نشعر في بعض المراحل بالجمود المسيطر على الساحة من خلال الضغوط التي تتوالى على الساحة، ومن خلال الضعف الذي تخضع له الطاقات الفاعلة، مما قد يوحي باليأس أو بما يشبه اليأس.. ويتطلع العاملون إلى المستقبل يستشرفون فيه بعض بوادر الأمل، ويبتهل المبتهلون إلى الله يطلبون منه أن يحقق لهم النصر، ثم تلوح في الأفق بارقة أمل تجرح حاجز الظلام، وذلك بانطلاق بعض الخطوات المتقدمة إلى الأمام، وبانتقال بعض الفئات من جانب الكفر إلى جانب الإيمان، أو بالحصول على مواقع جديدة في نطاق الزمان والمكان والظروف الخاصة والعامة.. ويجد بعض العاملين أن الموقف لا يزال بعيدا عن النصر ـ وإن حصل على بعض جوانبه ـ ويجد البعض الآخر أن الموقف موقف نصر، ولكنه النصر المتحرك الذي يأخذ من كل مرحلة قوة جديدة للمرحلة الآخرى، ويرى هذا البعض أن قضية النصر في الدعوة تختلف عن قضية النصر في الموارد الآخرى، لأن قضية الدعوة تتناول داخل الإنسان في فكره وشعوره، كما تتناول الجانب الخارجي من حياته؛ ولذا فإنها قضية متحركة في أكثر من اتجاه تبعا للحركة المتنوعة التي تتمثل في كيان الإنسان، مما يقتضينا السير في هذا المجال خطوة خطوة، على النهج الذي سار عليه الأنبياء في دعوتهم وجهادهم..

12. في ضوء ذلك، تتحول المواقف المتقدمة إلى انتصارات، ويتمثل‏ قرب النصر في قرب انفتاح الطريق على خطوات النصر ولو كان الطريق طويلا، أما قضية النصر في الموارد الآخرى، فإنها قد تمثل الحسم في ما تتمثل فيه المواقع الذاتية في أرض نستولي عليها، أو في موقف نتحكم فيه، أو في شخص نهزمه، أو في غير ذلك من الأمور التي تتجمد في حدود الزمان والمكان.

13. لعل هذا التفكير هو الأقرب في ما تحتاجه حركة العمل الإسلامي الآن، فإن التخطيط الدقيق يفرض علينا انتظار الهدف البعيد من خلال الوسائل العملية الحاضرة الموجودة في أيدينا الآن والتي نحاول تحريكها من أجل صنع أدوات جديدة للمستقبل في شعور عميق بالانتصارات المتلاحقة في كل مرحلة من مراحل الطريق، وفي وعي كبير للحاجة إلى التوقف بعض الوقت في بعض المراحل من أجل استجماع قوة مشتتة، أو تقوية طاقة ضعيفة، أو انتظار طاقة قادمة، من دون أي شعور سلبي بالهزيمة النفسية، حتى في حالة الوقوع تحت ضغط الهزيمة في مرحلة معينة.

14. إن الإيحاء الدائم بأن أيّة خطوة متقدمة تمثل نصرا جديدا في حجم تلك الخطوة، يملأ العاملين بالمشاعر الإيجابية القوية المتعاملة مع المستقبل دائما، وذلك هو سبيل الدعوة المتطلعة دائما إلى الله في شعور عميق بالإيمان، بأن‏ ﴿الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: 128]، وذلك ما نستوحيه من النداء الإلهي: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ بعيدا عما قد يستفيد البعض من القرب الزماني للنصر على مستوى الهدف الكبير، ومنسجما مع طبيعة العمل من القرب الزماني للنصر على مستوى المرحلة المتحركة في اتجاه هذا الهدف على أسس واقعية موضوعية حاسمة.

15. قد يكون من الضروري أن نتوقف طويلا أمام هذه الآية، لنعرف أنها تريد أن تهزّ حركتنا في اتجاه الصبر الإيماني الإيجابي والصمود القوي أمام صعوبة التحدي، لتعرفنا بأن علينا أن نصبر كما صبروا، ونتحرك كما تحركوا، ونتطلع إلى الله في وعي بأنه سيمنحنا النصر إن عاجلا أو آجلا من خلال مواقعنا القادمة إلى خط النصر وأنه وليّ النصر، أوّلا وأخيرا، فنحصل على الجنة كما حصلوا عليها في أجواء لطفه ورضوانه.

16. على هدي ذلك، يمكننا أن نثير الآية في حياتنا، عندما نتطلع إلى المسلمين الأولين في صدر الدعوة الإسلامية عندما ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ في أكثر من موقف، لا سيما في ما حدثنا عنه القرآن في سورة الأحزاب: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 11 ـ 12] ولكنهم انتصروا على كل نقاط الضعف‏ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115] ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1] في نهاية المطاف.

17. قد يكون من الضروري أن نثيرها في حياتنا وإن لم تكن نازلة فيهم، لأنها توحي بذلك من خلال الفكرة التي تعتبر المناسبة القرآنية في النزول نموذجا للفكرة وليست جامدة في نطاق الزمان والمكان والأشخاص، ولهذا فإنها تجري مجرى الليل والنهار في حركة دائمة واستيعاب شامل.

18. إن علينا أن نشعر دائما بالحقيقة الإسلامية التالية: وهي أن الإيمان والإسلام يمثلان خطا واحدا يحكم الحياة في بداياتها ونهاياتها على أساس خصوصيات المراحل الواقعة على منازل الطريق، وأن المؤمنين الآن يمثلون الامتداد للمؤمنين في الماضي، بما يواجهونه من تحديات وعقبات ومتاعب، وما يتحملونه من البأساء والضراء، وما يتجهون إليه من أهداف، فهم يتألمون في المواقع التي تألّم فيها الأوّلون، ويجاهدون في المجالات التي جاهدوا فيها، ويتحملون قسوة الضغوط بالمستوى الذي تحمّله أولئك، ليظل التاريخ في حركة دائمة يدفع فيها الماضي القضية إلى الحاضر، ويقودها الحاضر بكل أمانة نحو المستقبل، في جهاد وإيمان، وصبر، ونداء دائم يقاوم كل نوازع الزلزال النفسي في داخل المسيرة: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286] ليجيء الجواب الحاسم من قبل الله، فيزرع الأمل في النفوس، ويحيي القوة في المواقف: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/158.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قال بعض المفسّرين: إنّ الآية نزلت عندما حوصر المسلمون واشتدّ الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم وتعدهم بالنصر، وقيل: إنّ عبد الله بن أبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرّضون للقتل ولو كان محمّد نبيّا لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية.

2. يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان بالله وحده كاف لدخولهم الجنّة، ولذلك لم يوطنوا أنفسهم على تحمّل الصعاب‏ والمشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أمورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

3. الآية تردّ على هذا الفهم الخاطئ وتشير إلى سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ والتحدّيات على طريق الإيمان ليكون ذلك اختبارا لصدق إيمانهم، ومثل هذا الاختبار قانون عامّ سرى على كلّ الأمم السابقة.

4. يتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل ـ مثلا ـ وما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصروا بين البحر وجيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقد فيها بعضهم نفسه، لكن لطف الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.

5. هذا الذي عرضه القرآن عن بني إسرائيل عامّ لكلّ‏ ﴿الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وهو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها، فكلّ الأمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلى فولاذ أكثر مقاومة وأصلب عودا، ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الاختبار من هو اللائق، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الاجتماعية.

6. المسألة الأخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية: أنّ الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول‏ ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ !؟ وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب والدعاء، فتقول الآية ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾، وبما أنّهم كانوا في غاية الاستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكّل وتفويض الأمر إلى اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾

7. (بأساء) من مادّة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في‏ الأصل تعني الشّدة وأمثالها، وتطلق على كلّ نوع من العذاب والمشّقة، ويطلق على الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوه وشدّة (بأيس) أو (ذو البأس)

8. كلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، وهي ما يسرّ الإنسان ويجلب له النفع، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يصيب الإنسان، سواء في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.

9. جملة ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى الشّدة والمحنة، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضا على المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب والدعاء، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

10. ما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة ﴿مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، وجملة ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ قيلت من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعيد جدّا.

11. الآية الكريمة تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعا، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر والتوفيق والمواهب الاخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل، وفي الحقيقة إنّ هذه المشاكل والصّعوبات ما هي إلّا امتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

12. عبارة ﴿الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تقول للمسلمين: أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قبل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتلوا أيضا بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنّهم مسّتهم البأساء والضرّاء حتّى استغاثوا منها.

13. أساسا فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشّدائد حتّى يكونوا كالفولاد الخالص وتتفتّح قابليّاتهم الداخليّة وملكاتهم النفسانيّة ويشتد إيمانهم بالله تعالى، ويتميّز كذلك المؤمنون والصّابرون‏ عن الأشخاص الانتهازيّين.

14. نختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف، يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام: قال قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه؛ ثمّ قال والله ليتمن هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه وكلّكم يستعجلون)

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/95.

93. الإنفاق ومصارفه

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈93⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 215]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1.روي أنّه قال: نزلت الآية في رجل أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن لي دينارا، فقال: (أنفقه على نفسك)، فقال: إن لي دينارين، فقال: (أنفقهما على أهلك)، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: (أنفقها على خادمك)، فقال: إن لي أربعة، فقال: (أنفقها على والديك)، فقال: إن لي خمسة، فقال: (أنفقها على قرابتك)، فقال: إن لي ستة فقال: (أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها)(1).

2.روي أنّه قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، و: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ٢١٧]، و: ﴿يسالونك عن اليتامى﴾ [البقرة: ٢٢٠]، و: ﴿يسألونك عن المحيض﴾ [البقرة: ٢٢٢]، و: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ [الأنفال: ١]، و‌‌: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم(2).

__________

(1) الواحدي في أسباب النزول: ص٦٨.

(2) الدارمي: ١/٥٠ – ٥١.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الآية ههنا ـ يا ابن آدم ـ فضع كدحك وسعيك، ولا تنفع بها هذاك وهذاك وتدع ذوي قرابتك وذوي رحمك(1).

__________

(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

[قتادة] 1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ محفوظ ذلك عند الله، عالم به، شاكر له، وأنه لا شيء أشكر من الله، ولا أجزى بخير من الله(1).

[قتادة] 2. روي أنّه قال: همتهم النفقة، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فأنزل الله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ الآية(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٢.

(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.

ميمون:

روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، هذه مواضع النفقة، ما ذكر فيها طبل، ولا مزمار، ولا تصاوير الخشب، ولا كسوة الحيطان(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨١.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الآية، يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٤٢.

ابن حيان:

روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، وهي: النفقة في التطوع(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨١.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ من مال، كقوله سبحانه: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠] يعني: مالا، ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ فهؤلاء موضع نفقة أموالكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ من الصدقة(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ من أموالكم: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعني: بما أنفقتم عليم(1).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٣.

ابن جريج:

روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ الآية(1).

2. روي أنّه قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ الآية، فذلك النفقة في التطوع، والزكاة سوى ذلك كله(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٤٢، والدرّ المنثور: ابن المنذر.

(2) ابن جرير: ٣/٦٤٢.

ابن زيد:

روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ هذا من النوافل يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٤٢.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ظاهر هذا السؤال‏ لم يخرج له الجواب؛ لأن السؤال (عما ينفق)، فخرج الجواب (على من ينفق)، غير أنه يحتمل:

أ. أن يكون (ماذا) بمعنى (من)، وذلك مستعمل في اللغة، غير ممتنع.

ب. ويحتمل: أن يكونوا سألوا سؤالين: أحدهما: عما ينفق؟ الثاني: على من ينفق؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال: (على من ينفق)، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال: (عما ينفق)، وهذا أيضا جائز، كثير في القرآن: أن يكثر الأسئلة، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض، ويكون جواب‏ سؤال: (مم‏ ينفق؟) في قوله تعالى: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: 219]، فيكون على ما ذكر.

2. يدل لما قلنا، أنه كان ثم سؤالان، أن أحدهما: (عما ينفق) والآخر: (على من ينفق)، ما روى عن عمرو بن الجموح الأنصارى‏،، أنّه قال: يا رسول الله، كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الآية.

3. اختلف في هذه النفقة:

أ. قال بعضهم‏: هذه النفقة كانت تطوعا، فنسخت بالزكاة.

ب. وقيل: هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقربين الذين يرثون، فنسختها آية المواريث.

ج. وقيل: فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة، وكان هذا أقرب، والله أعلم، وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/112.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة، وهذا قول السدي.

ب. الثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سألوه عن أموالهم أين يضعونها، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن زيد.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/273.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أن الآية الأولى فيها دعاء الى الصبر على الجهاد في سبيل الله، وفي هذه بيان لوجه النفقة في سبيل الله، وكل ذلك دعاء الى فعل البرّ.

2. النفقة: إخراج الشيء عن الملك ببيع، أو هبة، أو صلة، أو نحوها، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال: من عين، أو ورق.

3. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأن القوم يسألونه، والسؤال: طلب الجواب بصيغة مخصوصة في الكلام.

4. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. ذكر السدي: أن هذه الآية منسوخة بفرض الزكاة.

ب. وقال الحسن: ليست منسوخة، وهو الأقوى، لأنه لا دليل على نسخها.

5. الجواب المطابق لقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أن يقول: قل النفقة التي هي خير، وإنما عدل عنه لحاجة السائل الى البيان الذي يدل عليه، وعلى غيره، وذلك يحسن من الحكماء إذا أرادوا تعليم غيرهم، وتبصيرهم أن يضمنوا الجواب مع الدلالة على المسئول عنه الدلالة على ما يحتاج إليه السائل في ذلك المعني مما أغفله أو حذف السؤال عنه لبعض الأسباب المحسنة له، فأما الجدل الذي يضايق فيه الخصم، فالأصل فيه التحقيق، بأن يكون الجواب على قدر السؤال من غير زيادة ولا نقصان، ولا عدول عما يوجبه نفس السؤال، لأن كل واحد من الخصمين قد حل محل النظير للآخر.

6. لا يجوز إعطاء الزكاة للوالدين، وكل من تلزمه نفقته ـ وبه قال الحسن ـ والآية عامة في الزكاة وفي التطوع ـ وبه قال الحسن ـ غير أنها فيمن تلزمه النفقة عليه، خاصة بالنفقة.

7. موضع (ما) في قوله: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ من الاعراب يحتمل وجهين: الرفع، والنصب، الرفع على ما الذي ينفقون، فيكون المعني الذي، وينفقون صلة، والنصب بمعنى أي شيء ينفقون، فيكون (ذا) و(ما) بمنزلة شيء واحد، والمساكين جمع مسكين وهو المحتاج.

8. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ اي ما تفعلوا من خير فان الله يجازي عليه من غير أن يضيع منه شيء، لأنه عليم لا يخفى عليه شيء، قال مجاهد: معنى‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ إنهم سألوا ما لهم في ذلك، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ الآية، وقال قتادة: أهمتهم النفقة، فسألوا عنها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله‏ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ الآية.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/201.

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. السؤال: طلب الجواب بصيغة الكلام.

ب. النفقة: إخراج الشيء من ملكه إلى ملك غيره.

ج. الخير: النفع الحسن.

د. المسكين: الفقير، إلا أنه أسوأ حالاً من الفقير عند أكثر أهل اللغة، وهو قول أبي حنيفة، وعند الشافعي: الفقير أسوأ حالاً، فعلى الأول المسكين الذي لا شيء له، والفقير الذي، له بلغة من العيش، وإن كان لا يكفيه.

2. نزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخًا كبيرًا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله، بماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:

أ. قيل: لما تقدم الأمر بالجهاد والصبر فيه عقبه بذكر الإنفاق فيه، وفي سائر أعمال البر.

ب. وقيل: عاد الكلام إلى بيان الشرائع.

﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ فالسؤال عن الإنفاق يتضمن السؤال على مَنْ ينفق، فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة، وعلى من ينفق ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ مال فتدل على أن له مقدارًا؛ لأن القليل لا يسمى بذلك، ويجب أن يكون منتفعًا به؛ لأنه ما لا ينتفع به لا خير فيه.

4. ثم بَيَّنَ مَنْ يُنْفَقُ عليه، فقال: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾:

أ. قيل: في الوالدين، فأقام اللام مقام فِي.

ب. وقيل: فللوالدين نصيب في ذلك.

5. ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ الأب والأم والجد والجدة؛ لأن كل ذلك يدخل في اسم الوالدين ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ من المُعْطِي ﴿وَالْيَتَامَى﴾ من لا أب له، مع فقره ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الفقراء ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المنقطع عن ماله ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي من عمل يد يقربكم إلى الله ﴿فَإِنَّ الله﴾ بذلك ﴿عَلِيمٌ﴾ يجازيكم به.

6. اختلفوا أن هذه الآية وردت فيماذا؟

أ. قال الأكثر: على أنه في التطوع، وأنه قصد بيان ترتيب الإنفاق، عن القاضي.

ب. وقيل: الآية واردة في الزكاة، ثم نسخت ببيان مصارف الزكاة، عن السدي.

ج. وقيل: عامة في الزكاة والتطوع، فهو في الوالدين تطوع، وفي الزكاة فيمن عداهم، عن الحسن.

7. اتفق العلماء أن دفع الزكاة إلى الأب والجد، وإلى الأولاد لا يجوز، فأما النفقة فلا خلاف أن نفقة الوالدين تجب إذا كانا فقيرين لا يقدران على التكسب سواء كانا متفقين في الدين أو مختلفين، وهل تجب نفقة ذوي الرحم؟ عند أبي حنيفة: تجب، وعند الشافعي: لا تجب، واتفقوا أنهما إذا اختلفا في الدين لا تجب.

8. ﴿مَاذَا﴾ موضعه يحتمل الرفع والنصب، فالرفع على تقدير: ما الذي ينفقون، و﴿ذَا﴾ بمعنى الذي، والنصب على: أي شيء ينفقون؟ وتكون: ﴿ذَا﴾ و﴿مَا﴾ بمنزلة شيء واحد.

9. تدل الآيات الكريمة على:

أ. أن من أراد التقرب بماله فالأولى أن يبدأ بالأقرب فالأقرب، ولا خلاف أن دفع الزكاة إلى الأقارب يجوز، وأنهم أولى بها عند الحاجة.

ب. أن الخير وإن قل فإنه تعالى يجازي به.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/865.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. النفقة: اخراج الشيء من الملك ببيع أو هبة أو صلة أو نحو ذلك، وقد غلب في العرف على اخراج ما كان من المال من عين أو ورق.

ب. السؤال: طلب الجواب بصيغة مخصوصة من الكلام

2. نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية.

3. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد ﴿مَاذَا﴾ اي أي شئ ﴿يُنْفِقُونَ﴾، والسؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عليه، فإنهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال، فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: مال، فدل على أن له مقدارا، وأنه مما ينتفع به، لأن ما لا ينتفع به لا يسمى خيرا.

4. ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ والمراد بالوالدين: الأب والأم، والجد والجدة وإن علوا، لأنهم يدخلون في اسم الوالدين، والمراد بالأقربين: أقارب المعطي ﴿وَالْيَتَامَى﴾ أي: كل من لا أب له مع صغره، ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾: الفقراء، ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: المنقطع به.

5. اختلفوا في هذه النفقة:

أ. قال الحسن: المراد به نفقة التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده، والزكاة لمن يجوز وضع الزكاة عنده، فهي عامة في الزكاة المفروضة، وفي التطوع، وهو أظهر لأنه لا دليل على نسخها.

ب. وقال السدي: الآية واردة في الزكاة، ثم نسخت ببيان مصارف الزكاة.

6. اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الأب والأم، والجد والجدة وإلى الأولاد، فأما النفقة فلا خلاف أن النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين واجبة، وأما النفقة على ذي الرحم فلا يجب عندنا(2) وعند الشافعي، ويجب عند أبي حنيفة.

﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: من عمل صالح يقربكم إلى الله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يجازيكم به من غير أن يضيع منه شئ، لأنه تعالى لا يخفى عليه شئ، النظم: ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الآية الأولى فيها دعاء إلى الصبر على الجهاد في سبيل الله، وفي هذه الآية بيان لوجه النفقة في سبيل الله، وكل ذلك دعاء إلى فعل البر والطاعة.

7. مسائل نحوية:

أ. موضع ما من قوله ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ يحتمل أن يكون مرفوعا أو منصوبا، فأما الرفع فيكون على تقدير ما الذي ينفقون أي: أي شئ الذي ينفقونه، والعائد من الصلة محذوف، ويكون ذا موصولا بمنزلة الذي، و﴿يُنْفِقُونَ﴾ صلته، والنصب على تقدير: أي شئ ينفقون، فيكون ما وذا بمنزلة شئ واحد، ويكون ذا لغوا، لأن ما مفيدة للمعنى.

ب. ما من قوله ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ﴾: اسم للشرط في محل الرفع بالابتداء، وأنفقتم: في محل الجزم بما، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾: جار ومجرور في موضع الحال، ومن للتبيين، وتقديره ما أنفقتم كائنا من خير، فذو الحال الضمير المحذوف من الصلة.

ج. ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف، والمبتدأ والخبر في محل الرفع لوقوعهما بعد الفاء، والفاء مع ما بعده: جواب للشرط، ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه ﴿مَا﴾ مع الشرط والجزاء في موضع رفع، لأنها خبر المبتدأ الأول.

د. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا﴾: ما اسم شرط في محل النصب بتفعلوا، ويجوز أن يكون ﴿مَا﴾ في أنفقتم أيضا منصوب الموضع بأنفقتم، فيكون مفعولا له.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/548.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾:

أ. أحدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاريّ، وكان له مال كثير، فقال: رسول الله بما ذا نتصدّق، وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

ب. الثاني: أن رجلا قال للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: إن لي دينارا، فقال: (أنفقه على نفسك)، فقال: إن لي دينارين، فقال: (أنفقهما على أهلك)، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: (أنفقها على خادمك)، فقال: إن لي أربعة، فقال: (أنفقها على والديك)، فقال: إن لي خمسة، فقال: (أنفقها على قرابتك)، فقال: إن لي ستة، فقال: (أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها)، فنزلت فيه هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.

2. ﴿مَاذَا﴾ في اللغة على ضربين(2):

أ. أحدهما: أن تكون (ذا) بمعنى الذي، و(ينفقون) صلته، فيكون المعنى: يسألونك: أيّ شيء الذي ينفقون؟.

ب. الثاني: أن تكون (ما) مع (ذا) اسما واحدا، فيكون المعنى: يسألونك: أيّ شيء الذي ينفقون، قال وكأنهم سألوا: على من ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق، فأعلمهم الله أن أولى من أفضل عليه الوالدان والأقربون.

3. الخير: المال، قاله ابن عباس في آخرين، وقال: ومعنى (فللوالدين): فعلى الوالدين.

4. أكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة، وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد؛ هي في النوافل، وهذا الظاهر من الآية، لأن ظاهرها يقتضي النّدب، ولا يصح أن يقال: إنها منسوخة، إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها.

__________

(1) زاد المسير: 1/180.

(2) الكلام هنا للزجّاج

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لما بالغ الله تعالى في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضا عن طلب العاجل، وأن يكون مشتغلا بطلب الآجل، وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام، وهو من هذه الآية إلى قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: 243] لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطا بعضها بالبعض، ليكون كل واحد منها مقويا للآخر ومؤكدا له.

2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾:

أ. قال عطاء: عن ابن عباس‏ نزلت هذه الآية في رجل أتى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال إن لي دينارا فقال: أنفقه على نفسك قال إن لي دينارين قال أنفقهما على أهلك قال إن لي ثلاثة قال أنفقها على خادمك قال إن لي أربعة قال أنفقها على والديك قال إن لي خمسة قال أنفقها على قرابتك قال إن لي ستة قال أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها.

ب. وروى الكلبي عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا هرما، وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم، فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت هذه الآية.

3. للنحويين في ﴿مَاذَا﴾ قولان:

أ. أحدهما: أن يجعل (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد ويكون الموضع نصبا بينفقون، والدليل عليه أن العرب يقولون: عما ذا تسأل؟ بإثبات الألف في (ما) فلولا أن (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد لقالوا: عما ذا تسأل؟ بحذف الألف كما حذفوها من قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: 1] وقوله: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ [النازعات: 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر (ما) علمت أنه مع‏ (ذا) بمنزلة اسم واحد ولم يحذفوا الألف منه لما لم يكن آخر الاسم والحذف يلحقها إذا كان آخرا إلا أن يكون في شعر كقوله:

غلاما قام يشتمني لئيم‏...كخنزير تمرغ في رماد

ب. الثاني: أن يجعل (ذا) بمعنى الذي ويكون (ما) رفعا بالابتداء خبرها (ذا) والعرب قد يستعملون (ذا) بمعنى الذي، فيقولون: من ذا يقول ذاك؟ أي من ذا الذي يقول ذاك، فعلى هذ يكون تقدير الآية: يسألونك ما الذي ينفقون.

4. سؤال وإشكال: القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم، فكيف أجابهم بهذا؟، والجواب عنه من وجوه:

أ. أحدها: أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود، وذلك لأن قوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ جواب عن السؤال، ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفا إلى جهة الاستحقاق، فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلا للبيان.

ب. ثانيها: قال القفال: إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ (ما) إلا أن المقصود: السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾.. ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: 70 ـ 71] وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا، فقوله: ﴿مَا هِيَ﴾ لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب.

ج. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم: هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالا حلالا وبشرط أن يكون مصروفا إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان، فقال للطبيب: ماذا آكل؟ فيقول الطبيب: كل في اليوم مرتين، كان المعنى: كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا هاهنا المعنى: أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك.

5. راعى الله تعالى الترتيب في الإنفاق، فقدم الوالدين، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾ [الإسراء: 23] وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والولدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق.

6. ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع‏ الفقراء، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض، والترجيح لا بد له من مرجح، والقرابة تصلح أن تكون سببا للترجيح من وجوه:

أ. أحدها: أن القرابة مظنة المخالطة، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كان اطلاع الفقير على الغني أتم، واطلاع الغني على الفقير أتم، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق.

ب. ثانيها: أنه لو لم يراع جانب الفقير، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعا للضرر عن النفس.

ج. ثالثها: أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد.

7. ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب وأشرب على الضياع.

8. ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى.

9. ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يقع في الاحتياج والفقر، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق.

10. ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالما يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران: 195] وقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]

11. المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8] وقال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: 180] فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر، وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة، وهذا أولى.

12. قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها:

أ. أحدها: قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال إنها منسوخة بآية المواريث، لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت، وأيضا فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة.

ب. ثانيها: أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع.

ج. ثالثها: أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة.

د. رابعها: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثا على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ.

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/382.

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحتها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك، ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير، فبما ذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾

2. ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ما في موضع رفع بالابتداء، و(ذا) الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت ما في موضع نصب ب ينفقون و(ذا) مع ما بمنزلة شي واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر:

وما ذا عسى الواشون أن يتحدثوا...سوى أن يقولوا إنني لك عاشق‏

فإن عسى لا تعمل فيه، فـ (لماذا) في موضع رفع وهو مركب، إذ لا صلة لـ (ذا)

3. قيل: إن السائلين هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه، قال السدى: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة، قال ابن عطية: ووهم المهدوي على السدى في هذا، فنسب إليه أنّه قال إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان، وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهى مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغنى أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك، قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغنى عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما، فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام.

4. ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ ما في موضع نصب ب أنفقتم وكذا ﴿وَمَا تُنْفِقُوا﴾ وهو شرط والجواب ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾، وكذا ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ شرط، وجوابه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وقد مضى القول في اليتيم والمسكين‏ وابن السبيل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾، وظاهر الآية الخبر، وهى تتضمن الوعد بالمجازاة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/37.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. السائلون هنا: هم المؤمنون، سألوا عن الشيء الذين ينفقونه ما هو؟ فأجيبوا:

أ. ببيان المصرف الذي يصرفون فيه، تنبيها على أنه الأولى بالقصد، لأن الشيء لا يعتدّ به إذا وضع في موضعه وصادف مصرفه.

ب. وقيل: إنه قد تضمن قوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ بيان ما ينفقونه وهو كل خير.

ج. وقيل: إنهم إنما سألوا عن وجوه البرّ التي ينفقون فيها، وهو خلاف الظاهر.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/249.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي: أيّ شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ قبل غيرهما ليكون أداء لحقّ تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ بعدهما ليكون صلة وصدقة ﴿وَالْيَتَامَى﴾ بعدهم لأنّ فيهم الفقر مع العجر ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ بعدهم لاحتياجهم‏ ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله.

2. سؤال وإشكال: كيف طابق الجواب السؤال، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف؟ والجواب: أنّ قوله: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ قد تضمّن بيان ما ينفقونه ـ وهو كلّ مال عدّوه خيرا ـ وبني الكلام على ما هو أهمّ وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلّا أن تقع موقعها، قال الشاعر:

إن الصنيعة لا تكون صنيعة...حتى يصاب بها طريق المصنع!

فإذا صنعت صنيعة فاعمد بها...لله أو لذوي القرابة أو دع

فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ [البقرة: 189]، فيما تقدم هذا، وقال القفال: إنّه وإن كان السؤال واردا بلفظ (ما)، إلّا أنّ المقصود السؤال عن الكيفية، لأنهم كانوا عالمين أنّ الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى؛ وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أنّ ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أنّ المطلوب بالسؤال: أنّ مصرفه أيّ شيء هو؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ [البقرة: 70 ـ 71] وإنما كان هذا الجواب موافقا لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أنّ البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا؛ فقوله (ما هي) لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيره، فبهذا الطريق قلنا: إنّ ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو ـ وجب أن يقطع بأنّ مرادهم من قولهم‏ ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾؟ ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب، وأجاب الراغب بجوابين:

أ. أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق؟ وعلى من ننفق؟ ولكن حذف حكاية السؤال أحدهما إيجازا ودلّ عليه بالجواب بقوله‏ ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ كأنه قيل: المنفق الخير، والمنفق عليهم هؤلاء؛ فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.

ب. الثاني: إنّ السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه، لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه، وسؤال تعلّم وحق المعلّم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم فيطلب ما يشفيه ـ طلبه المريض أو لم يطلب، فلمّا كان حاجتهم إلى من ينفق المال عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق من المال، بيّن لهم الأمرين جميعا.

3. سؤال وإشكال: كيف خصّ هؤلاء النفر دون غيرهم؟ والجواب: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم، لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكر في غير هذا الموضع.

4. لما بيّن الله تعالى وجه المصرف وفصّله هذا التفصيل الحسن الكامل، أردفه بالإجمال فقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي: وكلّ ما فعلتموه من خير ـ إمّا مع هؤلاء المذكورين وإمّا مع غيرهم ـ حسبة لله، وطلبا لجزيل ثوابه، وهربا من أليم عقابه، فإن الله به عليم، والعليم مبالغة في كونه عالما، يعني: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فيجازيكم أحسن الجزاء عليه، كما قال: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران: 195] وقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/98.

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾ أي وعلى من ينفقون بدليل قوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ إلخ، السائل: عمرو بن الجموح الأنصاري، وهو شيخ هرم ذو مال عظيم، وكان بصيغة الجمع؛ لأنَّه قال في سؤاله: (ماذا ننفق؟) ولرضا غيره بسؤاله وإعجابهم به، أو سألوا معه كما قال ابن جريج: ﴿قُلْ مَآ أَنفَقْتُم﴾ ما أردتم إنفاقه ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ جواب عن نفس ما ينفق في ضمن الشرط، يتضمَّن أنَّ الإنفاق يُتصوَّر بكلِّ ما أمكن من الحلال وهو الخير، أو الخير: المال، والحلال يعرف من المقام، لأنَّه لا يتقرَّب إلى الله بمعصية، ومن خارج، ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ بيان للمنفَق عليه تصريحًا لأنَّه الأهمُّ، وأجاب عن نفس ما يُنفَق بغرض التصريح لأنَّ الأَوْلى بهم أنْ يسألوا عن المنفَق عليه، والصحيح أنَّ الآية ليست في الزكاة كما هو ظاهر، وتجوز الزكاة للوالدين والولد بشرط الفقر والإسلام وعدم قرنها بمنفعة ترجع إلى المعطي، وتجوز من زوج لزوجها ومنه لها كذلك، لدَيْن عليها لا تجد خلاصه، لا لتتزيَّن بها، وإنَّما جازت لها منه لأنَّه ليس عليه قضاء ما عليها من الدَّيْن.

2. وقَدَّم الوالدين لعظم شأنهما وحقِّهما وفعلهما مع الولد، وأنَّهما أصله، وحتَّى إنَّه هما نفسهما وأنَّهما هو لا قرابة فقط، وذكر الأقرب بعدهما لأنَّه كبعض الوالدين فهو أولى إذ لا طاقة في الإنفاق على الناس كلِّهم، وذكر اليتامى لأنَّه لا يقوون على الكسب وهم أحقُّ، ولا سيما إنْ كان فيهم أيضًا قرابة، وأخَّر ابن السبيل إذ كان قويًّا حتَّى كان ابن سبيل، ولم يذكر السائلين والرِّقاب لدخولهم في المساكين.

3. قيل: نزلت في رجل قال: (يا رسول الله، لي دينار)، قال: (أنفقه على نفسك)، فقال: (اثنان) فقال: (أنفقه على أهلك)، فقال: (ثلاثة)، فقال: (على خادمك)، فقال: (أربعة) فقال: (على والديك)، فقال: (خمسة) فقال: (على قرابتك).

4. ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ إنفاق أو غيره كصلاة وصوم ﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ كناية عن المجازات إنْ كان من حلال وفي إخلاص، ولو حلالاً عند المنفِق لا عند الله ممَّا لا يُدرك بالعلم، والجملة جواب الشرط؛ لأنَّ المعنى: تُـثابوا عليه، أو دليل الجواب، أي: تثابوا لأنَّ الله به عليم، والإثابة على الإنفاق مستمرَّة بعد فرض الزكاة وقبله، فلا وجه لدعوى نسخه بالزكاة، ولا سيما أنَّ هذا شامل للزكاة وغيرها، وتعميم بعض تخصيص وليس أمرًا بل إخبار فلا يقبل النَّسخ.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/19.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. قلنا في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾: إن ما تقدم من أول السورة إلى تلك الآية كان في القرآن والرسالة، وإن تلك الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ في سرد الأحكام العملية، ثم أشرنا إلى هذا بعد ذلك وقلنا: إنه لا حاجة إلى التناسب بين كل آية وما يتصل بها، ويظهر هذا أتم الظهور إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت، أو كان من شأنها أن ترد للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية.

2. على أن ما تقدم من بيان التحام آيات القرآن والتئامها غريب، حتى في سرد الأحكام التي يظهر بادي الرأي أن لا تناسب بينها، فقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، متصل بما قبله في المغزى؛ فإن الآيات السابقة دلت على أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق والدين هم الذين يتحملون البأساء والضراء في سبيل الله وابتغاء مرضاته، ومنها ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم، وذلك مما يرغب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله، وبذل المال كبذل النفس كلاهما من آيات الإيمان، فكأن السامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه، فجاء بعده السؤال مقرونا بالجواب.

3. زعم كثير من المفسرين أن الجواب غير مطابق للسؤال؛ لأنه بيان لمن ينفق عليه لا لما ينفق، وخرجوها على أسلوب الحكيم، كأنه قال: إنه ينبغي السؤال عمن ينفق عليه لا عن جنس ما ينفق أو نوعه:

أ. وليس ما قالوا بصواب؛ فإن جعل السؤال بـ ﴿مَا﴾ خاصا بالسؤال عن الماهية والحقيقة من اصطلاح علماء المنطق لا من أساليب العربية، قال محمد عبده: ليس المراد السؤال عن جنس ما ينفق أو نوعه من ذهب أو فضة أو بر أو شعير، وإنما السؤال عن كيفية الإنفاق وتوجيهه إلى الأحق به، وذلك مفهوم لكل عربي، وليس أسلوب القرآن جاريا على مذهب أرسطو في منطقه وإنما هو بلسان عربي مبين، وسبق القفال إلى بيان ذلك فقال: (إنه وإن كان السؤال واردا بلفظ ﴿مَا﴾ إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال مصرفه أي شيء هو؟ حينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال، ونظيره قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾، وإنما كان الجواب موافقا لذلك السؤال؛ لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي نشأتها وصفتها كذا فقوله: ﴿مَا هِيَ﴾ لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا: إن الجواب مطابق لذلك السؤال، فكذا هاهنا؛ لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ليس هو طلب الماهية بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب)

ب. وقيل: إن السؤال كان عن الأمرين ـ ما ينفق وأين ينفق ـ كما في بعض الروايات، فذكر في إيراده عنهم الأول وحذف الثاني للعلم به ودلالة الجواب عليه، فإنه ذكر فيه الأمرين وهو قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ وهذا هو المنفق.

4. الخير هو المال، وتقدم في تفسير ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ أن الأكثرين قيدوه بالكثير، ولكن قوله هنا ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ يعم القليل والكثير لدخول ﴿مِنَ﴾ التبعيضية عليه وتنكيره، وقال بعضهم: إن التعبير عن المال بالخير يتضمن كونه حلالا، فكأنه قال: إن الإنفاق والتصدق يكون من فضل المال الكثير الحلال الطيب.

5. أما بيان المصرف فهو قوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قدم الوالدين لمكانتهما، وفسروا الأقربين بالأولاد وأولادهم، ولا شك أن أقرب الناس إلى المرء أولاده إن وجدوا، وإلا كان أقربهم إليه بعد والديه إخوته، وما اختير لفظ الأقربين هنا إلا لبيان أن العلة في التقديم القرابة، فمن كان أقرب كان أحق بالتقديم، وكأن الذين حملوا لفظ الأقربين على الأولاد خاصة أرادوا جعل الآية للنفقة الواجبة في الفقه، وهي تجب للوالدين والأولاد عند الحاجة بالإجماع، والنفقة في الآية أعم، وهؤلاء اليتامى والمساكين لا يجب على فرد معين من المكلفين الإنفاق على يتيم أو مسكين معين منهم من حيث إنه يتيم أو مسكين، ولكنهم أحق بالصدقة المفروضة والمندوبة بعد الأقربين، فالآية عامة في النفقة وأحق الناس بها.

6. من أغرب ما قيل في الآية الكريمة زعم بعضهم أنها منسوخة بآية المواريث، كأنها اشتبهت عليهم بآية الوصية للوالدين والأقربين على أن دعوى النسخ هناك لم تسلم لهم، فكيف بها هنا وقد ردها عليهم الجماهير؟

7. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ كالإنفاق في موضعه بتقديم الأحق فالأحق به ممن ذكر، وهو ما يوجد في كل زمان ومكان، وممن لم يذكر في هذه الآية وذكر في غيرها، كالرجل تعرض له الحاجة فتدفعه إلى السؤال ـ لا من يتخذ السؤال حرفة وهو قادر على الكسب ـ وكالمكاتب يساعد على أداء نجومه، وكغير الإنفاق من أعمال الخير ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ لا يغيب عنه فينسى الجزاء والمثوبة عليه، بل يجزي به مضاعفا.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/308.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. بعد أن ذكر الله تعالى فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه، ومن ثم جاء بعده السؤال مقرونا بالجواب.

2. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ أي أيّ شيء يتصدقون به من أصناف أموالهم؟ ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أي قل لهم: على المنفق أن يقدم الوالدين لأنهما قد ربياه صغيرا وتعبا في تنشئته، ثم الأولاد وأولادهم، ثم الإخوة لأنهم أولى الناس بعطفه ورعايته، ولأنه إذا تركهم يحتاجون إلى غيره كان في ذلك عار وشنار عليه، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الكسب لصغر سنهم، ثم المساكين وأبناء السبيل للتكافل العام بين المسلمين، فهم أعضاء أسرة واحدة فيجب أن يتعاونوا في السرّاء والضرّاء.

3. جاءت الآية في بيان نفقة التطوع لا في الزكاة المفروضة، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع، ولم يذكر سبحانه السائلين والرقاب لذكرهما في مواضع أخرى.

4. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أي وما تنفقوه في وجوه البرّ والطاعة في أي زمان وأيّ مكان على الأصناف المذكورة أو غيرها، فالله عليم به لا يغيب عنه شيء، فلا ينسى المثوبة والجزاء عليه، بل يضاعف عليه الجزاء.

__________

(1) تفسير المراغي: 2/130.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة، هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام.. وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك، ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شئون حياتهم اليومية، كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة.. وهذه آية المسلم: أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شئون حياته، فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه، فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه؛ وما لم يقره كان ممنوعا عليه حراما، وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة.

2. كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون، والمشركون كذلك حول بعض التصرفات؛ مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها، إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها، وإما تأثرا بتلك الحملات والدعايات المسمومة، فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل؛ فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين؛ وتبطل الدسائس، وتموت الفتن، ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم.. وهذا يصور جانبا من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين، وتارة في صف المسلمين، ضد الكائدين والمحاربين!

3. في هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة: سؤال عن الإنفاق، مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة، وسؤال عن القتال في الشهر الحرام، وسؤال عن الخمر والميسر، وسؤال عن اليتامى.. وبواعث، وهذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل، وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص.

4. لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال، فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها؛ ثم هو ضرورة من ناحية أخرى: من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة؛ وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجن دونه شيئا، ولا يحتجز عنه شيئا، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعوريا، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عمليا.

5. هنا يسأل بعض المسلمين: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾.. وهو سؤال عن نوع ما ينفقون.. فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق؛ ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾.. ولهذا التعبير إيحاءان:

أ. الأول أن الذي ينفق خير.. خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب.

ب. والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه؛ وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه، فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون، وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة، وللنفس التزكية، وللإيثار معناه الكريم.

6. على أن هذا الإيحاء ليس إلزاما، فالإلزام ـ كما ورد في آية أخرى ـ أن ينفق المنفق من الوسط، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده، ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير، والتحبيب فيه، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس، وإعداد القلوب..

7. أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، وهو يربط بين طوائف من الناس، بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب، وبعضهم رابطة الرحم، وبعضهم رابطة الرحمة، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في اطار العقيدة.. وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة: الوالدون، والأقربون، واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في اطار العقيدة المتين.

8. هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الآخرى، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديدا ووضوحا كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا..)، هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها.. إنه يأخذ الإنسان كما هو، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته؛ ثم يسير به من حيث هو كائن، ومن حيث هو واقف! يسير به خطوة خطوة، صعدا في المرتقى العالي: على هينة وفي يسر؛ فيصعد وهو مستريح، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها، لا يحس بالجهد والرهق، ولا يكبل بالسلاسل‏ طيرانا من فوق الآكام! إنما يصعدها به صعودا هينا لينا وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى، وروحه موصولة بالله في علاه.

9. علم الله أن الإنسان يحب ذاته؛ فأمره أولا بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها؛ وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة، فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)

10. علم الله أن الإنسان يحب ـ أول ما يحب ـ أفراد أسرته الأقربين.. عياله.. ووالديه، فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم؛ ليعطيهم من ماله وهو راض؛ فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه، بل فيه حكمة وخير؛ وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناسا هم أقرباؤه الأدنون، نعم، ولكنهم فريق من الأمة، إن لم يعطوا احتاجوا، وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد، وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول؛ وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير.

11. علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة ـ بدرجاتهم منه وصلتهم به ـ ولا ضير في هذا، فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع، فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين، تساير عواطفه وميوله الفطرية، وتقضي حاجة هؤلاء، وتقوّي أواصر الأسرة البعيدة، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة، مترابطة العرى وثيقة الصلات.

12. عند ما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء ـ بعد ذاته ـ فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة.. وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف؛ ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملا؛ ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال، ولكنهم انقطعوا عنه، وحالت بينهم وبينه الحوائل ـ وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء ـ وهؤلاء جميعا أعضاء في المجتمع؛ والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها، فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين، يبلغ أولا إلى تزكية نفوس المنفقين، فقد أنفقت طيبة بما أعطت، راضية بما بذلت، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم، ويبلغ ثانيا إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين‏ وكفالتهم، ويبلغ ثالثا إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة، في غير ما تضرر ولا تبرم.. قيادة لطيفة مريجة بالغة ما تريد، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد!

13. ثم يربط الله تعالى هذا كله بالأفق الأعلى، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي، وفيما يفعل، وفيما يضمر من نية أو شعور: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.. عليم به، وعليم بباعثه، وعليم بالنية المصاحبة له.. وهو إذن لا يضيع، فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء، والذي لا يبخس الناس شيئا ولا يظلمهم، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه.

14. بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله.. في رفق وفي هوادة، وفي غير معسفة ولا اصطناع.. وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير، ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان، كما هو، ويبدأ به من حيث هو؛ ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج، في هذا الطريق.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/220.

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما يبتلى به المؤمن أن يمتحن في ماله بقضاء الحقوق الواجبة عليه فيه، فالإنسان بطبعه ضنين بماله، حريص عليه، لما للمال من سلطان في هذه الحياة، يملك به كل شيء، ويطول به صاحبه أي شيء.

2. فرض الله على المؤمنين حقوقا في أموالهم: للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، فإذا واجه المؤمن حاجة محتاج ثم ضنّ بماله عن أن يسعفه ويسدّ حاجته: فقد قصر وأثم، وتحلل من عقد وثّقه الله معه!.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/239.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ استئناف ابتدائي لابتداء جواب عن سؤال سأله بعض المسلمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، روى الواحدي عن ابن عباس أن السائل عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان ذا مال فقال يا رسول الله: بما ذا يتصدق وعلى من ينفق؟ وقال ابن عطية: السائلون هم المؤمنون يعني أنه تكرر السؤال عن تفصيل الإنفاق الذي أمروا به غير مرة على الإجمال، فطلبوا بيان من ينفق عليهم وموقع هذه الآية في هذا الموضع إما لأن نزولها وقع عقب نزول التي قبلها، وإما لأمر بوضعها في هذا الموضع جمعا لطائفة من الأحكام المفتتحة بجملة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ وهي ستة أحكام، ثم قد قيل إنها نزلت بعد فرض الزكاة، فالسؤال حينئذ عن الإنفاق المتطوع به وهي محكمة، وقيل نزلت قبل فرض الزكاة فتكون بيانا لمصارف الزكاة ثم نسخت بآية ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ الآية في [سورة براءة: 60]، فهو بتخصيص لإخراج الوالدين والأقربين واليتامى، وإن كانوا من غير الأصناف الثمانية المذكورة في آية براءة.

2. ﴿مَاذَا﴾ استفهام عن المنفق (بفتح الفاء) ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية، فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال، فسألوا في الإسلام عن المعتدّ به من ذلك دون غيره، فلذلك طابق الجواب السؤال إذ أجيب: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، فجاء ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي.

3. الخير: المال كما تقدم في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180] آية الوصية، و﴿مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ شرط، ففعل‏ ﴿أَنْفَقْتُمْ﴾ مراد به الاستقبال كما هو مقتضى الشرط، وعبر بالماضي لإظهار الرغبة في حصول الشرط فينزل كالحاصل المتقرر.

4. اللام في‏ ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ للملك، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ [البقرة: 177] الآية.

5. الآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم، وفي تحديد القربى الموجبة للإنفاق خلاف بين الفقهاء، فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة، إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة، وابن السبيل هو الغريب عن الحي المار في سفره، ينفق عليه ما يحتاج إليه.

6. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ تذييل والمقصود من قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ الكناية عن الجزاء عليه، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه‏ وبين جزائه عليه حائل، وشمل عموم‏ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ الأفعال الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/301.

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. أخذ الله تعالى يبين أساس التكافل الاجتماعي، وهو معاونة الفقير والضعيف ودفع حاجته بالمال؛ ولذا قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ لقد سألوا عن نوع ما ينفقون، وقد تضافرت الآيات الحاثة على الإنفاق الداعية إليه، باعتبار أن التعاون الاجتماعي ركن من أركان الإسلام؛ فقد قرن سبحانه وتعالى الزكاة بالصلاة باعتبارهما صنوين لا يفترقان؛ سألوا عن نوع ما ينفقون ومقداره بعد أن سمعوا الدعوة إليه، ولكن الله سبحانه وتعالى قال في الإجابة عن هذا السؤال: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ وظاهر القول أن الجواب ليس عن السؤال؛ لأنهم سألوا عن النوع، فأجيبوا عن المصرف؛ وعلى حد تعبير علماء الاقتصاد: سألوا عن وعاء الفريضة فأجيبوا بموضع صرفها.

2. سؤال وإشكال: لما ذا عدل الله سبحانه وتعالى عن الإجابة عن سؤالهم إلى هذه الإجابة؟ والجواب: أن النوع والمقدار يبينه المصرف، فأجاب عن المصرف؛ ليعلموا أن المطلوب هو سد حاجة هؤلاء؛ والنوع الذي يسد حاجتهم مطلوب إنفاقه، فالإجابة ببيان‏ المصرف فيها أسلوب حكيم، وفيها إيجاز معجز؛ لأنه قد بين بها موضع الصرف، وإن لم يسألوا عنه، وبين فيها المقدار؛ لأن حاجة هؤلاء هي التي تعنيه؛ وفيها بين النوع، فإن كانوا محتاجين إلى ثياب يكسون، وإن كانوا محتاجين إلى طعام يطعمون، وإن كانوا محتاجين إلى مأوى يأوون، وفي هذه الإجابة فوق ذلك تصريح بحق هؤلاء على ذويهم وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه، وهو أن يمكنوا من العيش طاعمين كاسين آوين مطمئنين؛ وأي مقدار ينفق في ذلك من حقهم على ذويهم وعلى الناس.

3. ذلك الحق واجب على كل من عنده يسار بالنسبة لهم، واليسار يفهم من قوله تعالى‏ ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ فكلمة خير تطلق بالنسبة للمال على الوفير منه، لا على القليل؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة] فالخير هنا هو المال الوفير كالخير في تلك الآية الكريمة.

4. ذكر سبحانه أن موضع الإنفاق هم الوالدان، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل؛ ذكر هؤلاء بذلك الترتيب؛ وإذا كان العطف بالواو لا يفيد ترتيبا من الناحية النحوية فمن المؤكد أن الترتيب في الذكر يفيد معنى الأولوية من الناحية البلاغية؛ فالترتيب في الذكر إذن يشير بلا شك بأولوية البعض على البعض، فيسد حاجة الأبوين، ثم يسد حاجة الأقربين؛ ثم يسد حاجة المحتاجين من غير أسرته.

5. الآثار(2) تبين أن الترتيب في الذكر هنا يفيد الأولوية في العطاء إن ضاق الخير عن أن يشمل الأنواع كلها، وقد ذكر سبحانه الوالدين والأقربين من غير ذكر ما يدل على الحاجة، وذكر بقية الأصناف مع ذكر بقية الأوصاف الدالة على الحاجة؛ لأن الوالدين والأقربين يجب رعايتهم والإحسان إليهم، وإن لم تكن فيهم حاجة شديدة؛ فإن كانوا في حاجة شديدة فالإنفاق ألزم، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك)، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، والبر بذي الرحم مطلوب في القطيعة أشد منه عند المودة؛ فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة)

6. أما بقية الأصناف فإن العطاء فيها أساسه الحاجة، فاليتامى يعطون لاحتياجهم إن تركهم آباؤهم من غير مال، والمسكين: هو الفقير الذي أسكنته الحاجة، أو أسكنه المرض أو السن وجعله في عوز، وابن السبيل: المسافر الذي لا مأوى له، وقد انقطع عن ماله إن كان له مال؛ وأولئك يعطون ما يسد حاجتهم، وينقع غلتهم.

7. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ ذيّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية لبيان فضل عمل الخير، والحث عليه؛ لأنها تدل على فضل ذلك العمل وتدفع إلى الرغبة فيه؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى يعلمه؛ وإحساس المؤمن التقى بأن الله يرى عمله في الخير حين يعمله، وأنه يبصره وهو يقدم عليه، يشجعه على الاستمرار عليه؛ لأنه إذا كانت رؤية أي عظيم من الناس لعمل خير يعمله الإنسان يحمله على الاستمرار، فكيف إذا شعر المؤمن الذي يحس بعظمة خالق الكون بما فيه ومن فيه؟ ثم إنه فوق ذلك ينال جزاءين مع ذلك:

أ. أولهما: رضاه: وهو وحده جزاء ليس فوقه جزاء؛ ولذلك قال سبحانه بعد بيان ثوابه في الآخرة: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة]،.

ب. ثانيهما: النعيم المقيم يوم القيامة جزاء وفاقا لما قاموا من عمل صالح علمه رب العالمين وقت وقوعه، وحين أدائه.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/678.

(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، الخطاب موجه للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم، ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، المراد بالخير المال ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ المراد بهما الأب والأم والجد والجدة، لأنهم يدخلون في اسم الوالدين ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ هم أرحام المعطي ﴿وَالْيَتَامَى﴾ كل من لا أب له ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الفقراء ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المسافر المنقطع عن أهله ووطنه، ولا نفقة له.

2. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على ان القوم سألوا عن نوع النفقة، لا عن مصرفها، وعمن ينفقون عليه، فجاء الجواب عن المصرف، لا عن النوع، فما هو الوجه؟ والجواب: أجاب أكثر المفسرين عن ذلك بأن القصد من الجواب هو تنبيه السائلين الى انه ينبغي ان يسألوا عمن ينفقون عليه، لا عن نوع ما ينفقون.. ونقل الرازي عن القفال جوابا آخر، وهو ان السؤال وان كان بلفظ (ما) الا ان المسئول عنه هو مصرف النفقة، لا نوعها، لأن النوع معلوم.. وأيده الشيخ محمد عبده بقوله: (ان علماء المنطق هم الذين قالوا: السؤال بما يختص بالماهية والحقيقة، أما العرب فإنهم يسألون بما عن الماهية وعن الكيفية.. والقرآن لا يجري على مذهب أرسطو في منطقه، وإنما هو بلسان عربي مبين.. وهذا الجواب أرجح من الأول وان كانت النتيجة واحدة)

3. سؤال وإشكال: هل الإنفاق على من ذكرتهم الآية واجب أم مستحب؟ والجواب: تجب نفقة الأولاد على الوالدين، وبالعكس إذا كان أحدهما قادرا على الإنفاق، والآخر عاجزا عن الإنفاق على نفسه، ولو عن طريق الكسب.. وهذه النفقة لا تحسب من أصل الزكاة، لأن النفقة على الآباء والأبناء تجب وجوبا مستقلا عن وجوب الزكاة، أما اليتامى والمساكين وأبناء السبيل فيجوز اعطاؤهم من الزكاة الواجبة، كما يجوز إعطاء الجميع من الصدقات المستحبة، والصدقة المستحبة تعطى لكل محتاج، مسلما كان أو غير مسلم، لأن لكل كبد حرى أجرا، كما جاء في الحديث.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/321.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال، والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، وهو أن الآية مع ذلك متعرضة لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾، إجمالا، وثانيا بقولها: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، وأن ذلك فعل خير والله به عليم، لكنهم كان عليهم أن يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

2. من غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بما في قوله تعالى: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي أن ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، وأنهم كيف ينفقونه، وفي أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة! ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أن السؤال وإن كان بلفظ ما إلا أن المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم أن الذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، وتعين أن السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾، فكان من المعلوم أن البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين أن يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾

3. اشتبه الأمر على هؤلاء، فإن (ما) وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين، لكنه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقين للإنفاق: ماذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله: ﴿فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، فإن ذلك من أوضح اللحن، بل (ما) موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفا بالحد والماهية، أو معرفا بالخواص والأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشيء، ومنه يعلم أن قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾، سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عما يعرف الشيء ويخصه والجواب بذلك.. أما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطإ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.

4. يتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الأمرين جميعا: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

5. وكيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلا فكون الإنفاق من الخير والمال ظاهر، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾، وقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾، وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وقوله: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾، وقوله: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

6. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق وإن كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾، وإيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن والأذى كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾

7. قيل في الآية أنها نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية، ورواه في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن حيان‏، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه، ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت.. فذلك النفقة في التطوع، والزكاة سوى ذلك كله.. ونظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: (يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة)، وليست النسبة بين آية الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾، وبين هذه الآية نسبة النسخ وهو ظاهر إلا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/164.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. جاء في الدر المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219]، و﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 217]، و﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾‏ [البقرة: 220] و﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222]، و﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ [الأنفال: 1]، و﴿وَ يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 219]، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم، ونلاحظ في هذه الرواية:

أ. أولا: أن ابن عباس يؤكد على تحديد الأسئلة بالثلاثة عشر سؤالا، فلم يسألوا عن شيء آخر غيرها، وهو أمر يثير الغرابة باعتبار أن طبيعة القضايا التي طرحتها الدعوة الإسلامية ونوعية التحديات التي أطلقتها في الواقع، والمشاكل التي أثارتها، لا بد من أن تثير علامات استفهام كثيرة تتصل بالعقيدة والتشريع والحرب والسلم ونحو ذلك من الأمور الخاصة والعامة، هذا بالإضافة إلى أن الآخرين من المشركين واليهود كانوا يثيرون أكثر من مسألة حول أكثر القضايا، مما ينعكس على تصور المسلمين للإسلام في مفاهيمه، كما أن الذين يدخلون في الإسلام لا بد من أن يحملوا في ذهنيتهم أكثر من علامة استفهام في الدين الجديد الذي دخلوا فيه.

ب. وثانيا: إن رواية ابن عباس توحي بالذهنية الواقعية الجدية في الأسئلة التي يثيرونها أمام القضايا التي يجهلون تفاصيلها، أو تقع مثارا للجدل بين الناس، فلا يسألون عن الأمور التجريدية التي لا علاقة لها بالعقيدة أو بالعمل، لأنها لا تنفعهم في حياتهم الدنيوية والآخروية، بل يسألون عما ينفعهم في ما يعتقدون أو ما يعملون؛ حتى يكون للأفكار الجديدة في الأجوبة دور فاعل في إغناء التجربة الثقافية التي تبني لهم شخصيتهم الإسلامية الإنسانية، وتركزها على قاعدة ثابتة من حقائق الدين والحياة.

2. جاء في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حبان، قال (إن عمرا بن الجموح سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الآية، ونلاحظ أن الرواية ضعيفة ـ كما جاء في تفسير الميزان ـ وأنها لا تنطبق على الآية، حيث لم يوضع فيها إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.. وقد جاء في الدر المنثور أيضا، الرواية عن ابن جرير؛ وابن المنذر عن ابن جريج قال (سأل المؤمنون رسول الله أين يضعون أموالهم؟ فنزلت.. فذلك النفقة في التطوّع، والزكاة سوى ذلك كله)، ونظيرها، كما جاء في الميزان، ما رواه عن السدي، قال يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها، فنسختها الزكاة)، لكن هذا الاتجاه في الروايتين يوحي بوجود منافاة بين آية الصدقة وهذه الآية وآية الزكاة حتى تكون آية الزكاة ناسخة لها، أو شيئا آخر يختلف عنها، بينما نجد أن المسألة تمثّل تنوعا يكتفي فيه الإنفاق بالصدقة والزكاة معا في مسألة العطاء الإنساني كقيمة أخلاقية في وحي الله.

3. في ضوء ذلك كله، نجد في هذه النماذج المتعددة في تحديد المناسبة التي نزلت هذه الآية فيها، تأكيدا على أن أسباب النزول كانت تمثل لونا من ألوان الاجتهاد الذاتي، الذي يستوحيه هذا الراوي أو ذاك ليحوله إلى رواية عن الواقع القرآني في زمن الدعوة، مما يجعلنا لا نجد في الكثير من روايات أسباب النزول منطلقا للفهم القرآني في الاستيحاء والتفسير.

4. كان المسلمون يسألون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن بعض القضايا التي تشغل تفكيرهم في تفاصيل بعض الواجبات أو المحرمات، وكانت ـ في غالبها ـ كما ينقل عن ابن عباس ـ خفيفة لا تعقيد فيها، عملية لا ترف فيها ولا تكلف، انطلاقا من شعورهم بأن دور السؤال هو أن يحل للإنسان مشكلة يواجهها في حياته العقيدية أو العملية، فإذا لم تكن هناك مشكلة مطروحة في ساحة اهتماماته الطبيعية، فلا معنى لأن يبادر بالسؤال الذي يتحول إلى تكلف لا فائدة فيه، وعبث لا معنى له، وإضاعة لوقت السائل والمسؤول في ما لا جدوى منه..

5. هكذا نفهم الدور المطلوب للسؤال في الإسلام، أن يكون نافذة فكرية تطل على ما ينبغي للإنسان معرفته من شؤون الكون والحياة في ما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة، وهذا ما نستوحيه من الحديث القرآني عن الأسئلة التي لا يريد الله للإنسان أن يخوض فيها لأنها لا تتصل بالمعرفة المرتبطة بالمسؤولية، فلا تضيف للإنسان جديدا في حياته كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 42 ـ 45]، فقد أغلق القرآن باب السؤال عن توقيت يوم القيامة، لأنه لا يعود بفائدة عقيدية أو عملية، لأن من واجب الإنسان الاستعداد لها بعيدا عن أي توقيت معين من خلال مسئوليته أمام الله، كما أن مهمة النبي هي الحديث عما يحدث فيها لا عن وقتها الذي قد لا يكون محيطا بعلمه، كما توحي به بعض الآيات التي تقول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187] ونلاحظ ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، وفي بعض الأحاديث التي تقول: (سل تفقها ولا تسل تعنتا)، وفي الجانب المقابل، نجد أمامنا قول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وهكذا نستوحي الدور الإسلامي للسؤال الذي يجب أن يكون نافذة للمعرفة المتصلة بالعقيدة والعمل والحياة.

6. كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يستجيب لكل ما يوجه إليه من أسئلة، فلم يكن ليضيق في الردّ عن أي سؤال مما يريد المسلمون معرفته، لأنه يشعر أن مهمته الأساسية هي أن يعلم الناس الكتاب والحكمة في ما يجهلونه من شؤونهما المتصلة بحياتهم، ولكنه كان دقيقا في الإجابة من موقع رسالته، فيختار الجواب الذي يتناسب مع حاجاتهم، وإن كان بعيدا عن النص الحرفي للسؤال، لأن دوره هو دور الموجّه للسائل؛ فيوحي له ـ من خلال الجواب ـ بما ينبغي له أن يسأل‏ عنه، لا بما يحب أن يعرفه.

7. وهذا ما نستشعره من الجواب النبوي الذي علمه الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنه أجاب عمن يلزمهم الإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، بدلا من الجواب عما سألوا عنه مما يلزمهم الإنفاق منه من أنواع الطعام، فقد نلاحظ أنه مر بها مرورا خاطفا، ولم يتوقف عند التفاصيل، فقد يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء إليهم بأن نوع الطعام الذي يقدم ليس مشكلة تبحث عن حل، باعتبار أنه لا يقدم ولا يؤخر شيئا في هذا المجال ما دام خيرا ونافعا، بل القضية هي نوعية الناس الذين يتصدق عليهم، من حيث علاقاتهم القريبة به التي تجعل من صلته لهم صلة رحم، ومن حيث حاجتهم التي تجعل من صلتهم إنفاقا في حل المشكلة الاجتماعية؛ فإذا خلا الأمر عن هذين النحوين، أصبح شيئا لا معنى له أو لا منفعة له، ولذا كان التركيز الكبير على ذلك باعتبار أنه هو الخير، لأن كون الإنفاق خيرا لا يتصل بطبيعة المال الذي ينفقه، بل يتصل بطبيعة الحالة أو المشكلة التي عالجها، والإنسان الذي أعانه..

8. ثم انطلقت الآية في أسلوب تشجيعي للخير القائم على الإنفاق في موارده التي يحبها الله، لتقرر الحقيقة الإلهية في قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]، الأمر الذي يوحي إلينا بالاندفاع في هذا الاتجاه، لأنه لا يضيع عند الله الذي يعلم ما نعمل بكل دوافعه ونتائجه الخيّرة.

9. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد في حركة المعرفة التفصيلية في وجدان المسلمين الذين اتبعوك وتابعوا معك الوحي الإلهي في العقيدة والشريعة والحياة، وواجهوا ـ من خلال ذلك ـ أكثر من علامة استفهام حول هذا الموضوع، أو هذه القضية، أو ذاك الواقع، ليحصلوا على الطمأنينة الفكرية الوجدانية أمام الأسئلة الكثيرة عندهم، ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ من أنواع الأموال التي يملكونها في حياتهم من ألوان الطعام والشراب والألبسة والنقود وغيرها؟ هل هناك شيء معين يلتزمونه في إنفاقاتهم؟ وهل هناك فريضة محددة في نوعية خاصة منها؟ لأنهم يريدون أن تكون التزاماتهم العملية ـ حتى في العطاء ـ خاضعة لتعليماتك الرسالية التي تمتد إلى كل شؤون الإنسان في الواقع.

10. ﴿قُلْ﴾ لهم ـ يا محمد ـ جوابا عن هذا السؤال الذي لا يختزن في داخله أية أهمية في المفهوم الإنساني لقضية العطاء، إنه من الطبيعي أن ينفق الناس مما لديهم من الأموال التي تمثل حاجات الناس المتنوعة، ليكون الإنفاق على كل شخص بما يحتاجه في حياته الخاصة بالطريقة المألوفة في هذا السلوك الإنساني الذي يتصل بالآخرين، إلا أنّ الأهمية لتحديد الناس الذين نعطيهم من خلال تحديد الأولويات في الإنفاق، لأننا لا نملك الإنفاق على كل الناس، فهناك الناس الذين لا يجدون أيّة فرصة للحياة الكريمة وتأمين ما يحتاجونه من الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها، لأن أبواب الحياة أغلقت عليهم، ولأن الطرق التي يتحركون عليها إلى حاجاتهم سدّت في وجوههم؛ وهكذا عاشوا في حصار الظروف القاسية الخانقة التي منعتهم من أن يتنفسوا الهواء الطلق الذي يكفل لهم استمرار الحياة فالسؤال ينبغي أن يكون عمن هو الأولى بالإنفاق بين الناس، ولذلك كانت الحكمة الإلهية توحي إليك بالجواب عن السؤال الذي ينبغي لهم أن يسألوه، لا عما سألوه.

11. ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ من المال الذي تملكه وتعطيه، ليتحول إلى خير للناس لأنه يلبّي لهم حاجاتهم، ويحقق لهم مشتهياتهم، ويبلغ بهم أهدافهم من أي نوع من هذه الأنواع التي تمثل حاجة الناس باعتبار أن الخير هو عنوان العطاء في دلالاته الروحية المنفتحة على إنسانيته القيّمة في خط التكافل الاجتماعي لرعاية الحالات الصعبة أو المتصلة بالعاطفة الإنسانية.

12. وهذا ما تؤكده الفقرة التالية في الآية حيث الدعوة إليه كعنوان لا بد للناس من أن يحركوه في قضية الإنفاق، ف‏ ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ﴾ اللذين هما سر حياة الإنسان في وجوده الحيّ، مما يفرض عليه الاهتمام بهما ورعايتهما في شيخوختهما ومرضهما وتعبهما، والإحسان إليهما في كل أوضاعهما في الحياة كبادرة عرفان الجميل لما قاما به، على هدى ما جاء في قوله تعالى، في إثارة ذكريات الطفولة الأولى في وجدان الإنسان في شبابه عندما يتذكر ذلك كله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]

13. ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ من أرحامكم الذين يتصل نسبكم بنسبهم، وتجري في عروقكم دماؤهم، أو تجري دماؤكم في عروقهم؛ هؤلاء الذين يمثلون المجتمع الأول الذي ترتبطون به من الداخل في حركة الوجود، مما يجعل منه الخلية الاجتماعية الأولى التي تمنحكم الكثير من عناصر شخصيتكم وملامحها الداخلية والخارجية، وهذا ما أكد الله فيه شريعته في اعتبار صلة الرحم قيمة أخلاقية إيجابية، وقطيعة الرحم قيمة سلبية، لأن ذلك يوثق الرابطة الاجتماعية الإنسانية الأقرب في الواقع الإنساني بما يؤهّل المجتمع لتوثيق الروابط الآخرى.

14. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ الذّين فقدوا الآباء في طفولتهم، فلا يجدون الإنسان الذي يرعاهم ويحضنهم ويمنحهم الحب والحنان، ويضمهم إلى صدره، ويفتح لهم روحه، فيشبع جوعهم ويروي ظمأهم ويكسو عريهم، بما يجعل من الإنفاق عليهم تحصينا للمجتمع من ضياع الفئة الضعيفة فيه في متاهات الحياة، لتستند إلى قوة المجتمع في مسئوليته المجتمعية بعد أن فقدت قوة الأب أو الأم، فيمنحها الثقة بالذات وبالحياة.

15. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الذين ضاقت بهم سبل الحياة، فلم يحصلوا على العيش‏ الكريم من خلال الظروف القاسية التي مرّت بهم، والضغوط الصعبة التي أطبقت عليهم، والأوضاع المعقدة المتحركة في داخل حياتهم، الأمر الذي يجعل من الإنفاق عليهم إيجاد حالة من التوازن الاجتماعي وتحقيق نوع من التكافل الإنساني بما يحقّق للمجتمع الظروف الطبيعية في سلامته واستقامته وقوته، بدلا من الاهتزاز الواقعي الناشئ من اختلال الأوضاع الاقتصادية للناس بين إنسان يموت من التخمة وآخر يموت من الجوع.

16. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ الذي انقطع به الطريق، فلم يكن معه مال يستخدمه لقضاء حاجات السفر، ولم تكن له فرصة في الحصول عليه بأية طريقة؛ الأمر الذي يفرض على الواقع الإسلامي أن يجد له حلا في إدخاله في دائرة الكفالة الاجتماعية في الحياة العامة.

17. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ مما يمثله فعل الخير من انفتاح الإنسان في حياته على تفجير طاقاته في اتجاه حل مشكلة إنسان هنا وقضاء حاجته هناك، ورفع مستواه المادي والمعنوي، وتهيئة الظروف الملائمة لإيجاد واقع الخير والعدل للإنسان.. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يقوم به عباده في السر والعلانية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/168.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ ولعل سبب سؤالهم أنهم لا يجدون ذهباً ولا فضة وما لديهم من القوت ونحوه قليل؛ وبعضه يستبعدون أن يكون إنفاقها مأموراً به كالبيوت وآلة الحرث وآلة سقي النخل.

2. ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هذا الجواب اشتمل على إفادتهم في سؤالهم لأن قوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ مطلق يتناول القوت وغيره مما ينتفع به، واشتمل على زيادة بيان من يُعطَى، فإعطاء الوالدين مطلق؛ لأنهما إن كانا محتاجين عاجزين وجب إعطاؤهما الكفاية لهما، وإن كانا غنيين أعطيا ما تيسر براً لهما وصلة وكذا الأقربون.

3. هذه الآية تعم الوارث وغيره، كالآية الماضية: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل:90] فتدل هذه الآيات على وجوب إيتائه ولو لم يكن وارثاً؛ لوجود مسقط مثل الأخ مع وجود الأب، ولا جهالة في ذلك ولا التباس؛ لأنه إن كان محتاجاً فكيف يشكل الأمر بإيتائه وهو محتاج، وإن كان غنياً فلا إشكال في الأمر بإيتائه صلة له والإنفاق للحاجة على قدرها والإنفاق للصلة يكفي فيه ما يعد إحساناً وصلة ورعاية للرحامة ولو قليلاً من المُقِل لأنه لا يعاب إذا قلّت عطيّتُه بسبب إقلاله، وهذا لأن قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ وهو لا يخصص العموم إنما هو نص على بعض أفراده، وفيه دلالة على وجوب الإنفاق بسبب المولود على المرضع، وأن الإنفاق على الوارث أوجب، وأن وجوبه عليه قبل الوجوب على غيره، ولا يدل على أنه لا يجب على القريب إذا عجز الوارث أو امتنع ولم يمكن إجباره، أو كان غائباً يحصل الضرر بانتظاره أو انتظار مراسلته، ولا مال له حاضر ينفق منه الحاكم، أو لا حاكم ولا يتهيأ الأخذ منه، ففي هذه الأحوال ينتقل الوجوب إلى القريب لئلا يموت المولود أو يتضرر بالإهمال.

4. الأقربون: يعم الولد وولد الولد ذكورهم وإناثهم، والإخوة والأخوات، بدليل (آية المواريث) مع قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء:7] ففصل ميراث الأقربين بما في آية المواريث، وأما ذو القربى فهو يعم الأعمام وذريتهم.

5. الكلام في اليتامى كالكلام في الأقربين؛ فإن كانوا أجانب كان الوجوب على الأقربين أسبق إن أمكن الإنفاق من القريب هذا في الإنفاق للحاجة، فأما الإنفاق للتأنيس فيعم القريب والبعيد ويكفي منه القليل الذي يحصل به التأنيس بالنسبة إلى اليتم.

6. أما المساكين: فقد مرَّ الكلام فيهم في آية ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ وكذا ابن السبيل، هذا وأما وجوب الإنفاق في سبيل الله فقد سبق الأمر به ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ واجب أو تطوع ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وهذا ترغيب في فعل الخير كله.

7. قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على وجوب نفقة الوالدين، والأقربين، واليتامى، والمساكين، والمسافرين المنقطعين، حيث لم يجدوا النفقة، وعلى مواساتهم استحباباً حيث كانوا يجدون ذلك، فقد حث الله على ذلك في قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/316.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾

2. في الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثمّ تطرّقت أيضا إلى الأشخاص المستحقّين للنفقة، وسبب نزول الآية كما مرّ يبيّن أنّ السؤال اتّجه إلى معرفة نوع الإنفاق ومستحقّيه.

3. بشأن المسألة الاولى: ذكرت الآية كلمة (خير) لتبيّن بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كلّ عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كلّ رأسمال مادّي ومعنوي مفيد.

4. بالنسبة للمسألة الثانية: ـ أي موارد الإنفاق ـ فتذكر الآية أولا الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين ـ إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتّب على كلّ إنفاق ـ يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

5. ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، لعلّ في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطّلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا إنفاقهم تأكيدا لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الإحسان عليم بكلّ شيء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

6. ذهب البعض إلى أنّ مورد السؤال في هذه الآية عن الأشياء التي يجب الإنفاق منها، ولكنّ الجواب كان عن مصارف هذه النفقات والصّدقات، أي الأشخاص المستحقّين لها، وذلك بسبب أنّ معرفة موارد الصّرف أهم وأولى، لكنّ هذا الفهم من الآية اشتباه محض، لأنّ القرآن الكريم أجاب عن سؤالهم وكذلك بيّن موارد الإنفاق، وهذا من فنون الفصاحة والبلاغة بحيث يجيب على السؤال ويضيف عليه بيان مسألة مهمّة ضروريّة.

7. على أيّ حال فإنّ جملة ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ تبيّن أنّ الإنفاق أمر جميل وحسن في كلّ موضوع ومن كلّ شيء ويستوعب جميع الأمور الحسنة سواء كانت في الأموال أو الخدمات أو الموضوعات الماديّة أو المعنويّة.

8. ثمّ إنّ كلمة (خير) ذكرت بصورة مطلقة أيضا، وتدلّ على أنّ المال والثروة ليست شيئا مذموما بذاته، بل هي من أفضل وسائل الخير بشرط الاستفادة السليمة والصحيحة منها.

9. وكذلك فإنّ التعبير بكلمة (خير) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الإنفاق يجب أن يكون خاليا من كلّ أذى ومنّة بالنسبة إلى الأشخاص المعوزين حتّى يمكن أن يطلق عليه كلمة (خير) بشكل مطلق.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/99.

94. القتال والكره والفتنة

نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈94⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 216 ـ 217]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.

علي:

روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد.. الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله(1).

2. روي أنّه قال: أحاجّ الناس يوم القيامة بتسع: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعدل في الرعيّة، والقسم بالسويّة، والجهاد في سبيل الله، وإقامة الحدود وأشباهه(2).

3. روي أنّه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: يا علي إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي، كما كتب عليهم جهاد مع المشركين معي، فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني، فقلت: فعلام نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي(3).

__________

(1) نهج البلاغة: 3/244/375.

(2) المناقب 2/107.

(3) أمالي الطوسي: 1/63.

الخراساني:

روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾ كره إليكم حينئذ(1).

2. روي أنّه سئل عن قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾، قيل له: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه، فحلف عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك(2).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٤٦.

(2) ابن جرير: ٣/٦٦٣.

ابن عباس:

روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1.روي أنّه قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا [ابن عباس] ابن عباس (ت 68 هـ)، ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك، فإنه مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله، فأين وقد قرأت القرآن؟ قال ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾)(1).

2.روي أنّه قال: (عسى) من الله واجب(2).

3.روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾، أي: في الشهر الحرام(3).

4.روي أنّه قال: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، أي: عظيم(3).

5.روي أنّه قال: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وغير ذلك أكبر منه(4).

6.روي أنّه قال: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾: إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد، والشرك بالله أشد(4).

7. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾ نسختها: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥](5).

8. روي أنّه قال: قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، أي: عظيم، فكان القتال محظورا، حتى نسخته آية السيف في براءة: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥]، فأبيحوا القتال في الأشهر الحرام وفي غيرها(3).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٤٧.

(2) البيهقي في سننه: ٩/١٣.

(3) النحاس في ناسخه: ص١٢٢.

(4) ابن جرير: ٣/٦٥٧ ـ: ٦٥٨.

(5) ابن جرير: ٣/٦٤٤.

ابن عمر:

روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: بينا نحن حول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذ ذكر الفتنة أو ذكرت عنده الفتنة، فقال: إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفرت أمانتهم وكانوا هكذا ـ وشبّك بين أصابعه ـ الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك وخذ ما تعرف وذر ما تنكر، وعليك بأمر خاصّة نفسك وذر عنك العامّة(1).

__________

(1) كتاب التحصين عنه في المستدرك 2/323.

عروة:

روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، فحدثهم الله في كتابه: إن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وإن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك؛ من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم، ويعذبونهم، ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكفرهم بالله، وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام، وهم سكانه من المسلمين، وفتنهم إياهم عن الدين(1).

2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، أي: قد كانوا يفتنونكم في دينكم وأنتم في حرمة الله، حتى تكفروا بعد إيمانكم، فهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام(2).

3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين(2).

__________

(1) البيهقي في الدلائل: ٣/١٧ ـ: ١٨.

(2) ابن جرير: ٣/٦٥٣.

ابن جبير:

روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال في الآية: إن الله أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يكفوا أيديهم عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض، وأذن لهم في القتال، فنزلت: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾(1).

2. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، يعني: فرض عليكم، وأذن لهم بعد ما كان نهاهم عنه(1).

3. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾، يعني: القتال، وهو مشقة لكم(2).

4. روي أنّه قال: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ يعني: الجهاد وقتال المشركين، ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾ ويجعل الله عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة، ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ يعني: القعود عن الجهاد، ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُم﴾ فيجعل الله عاقبته شرا، فلا تصيبوا ظفرا(3).

5. روي أنّه قال: ﴿عَسَى﴾ على نحوين؛ أحدهما في أمر واجب، قوله: ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ [القصص: ٦٧]، وأما الآخر، فهو أمر ليس واجب كله، قال الله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾، ليس كل ما يكره المؤمن من شيء هو خير له، وليس كل ما أحب هو شر له(4).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٢.

(2) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٣.

(3) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٤.

(4) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

أبو مالك:

روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كل شيء من القرآن (عسى) فهو واجب، إلا حرفين؛ حرف في التحريم [٥]: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾، وفي بني إسرائيل: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُم﴾ [الإسراء: ٨](1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ التي أنتم عليها مقيمون، يعني: الشرك: ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾(2).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٣.

(2) آدم بن أبي إياس ـ كما في تفسير مجاهد: ص٢٣٢ ـ.

مقسم:

روي عن مقسم بن بجرة (ت 101 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٥٧.

الضحاك:

روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعلم من كل أحد ما لا تعلمون(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٤.

الشعبي:

روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ يعني به: الكفر(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٦٠.

مجاهد:

روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: كل شيء في القرآن (عسى)، فإن (عسى) من الله واجب(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، يعني: الكفر بالله وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله(2).

__________

(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.

(2) تفسير مجاهد: ص٢٣٢.

عكرمة:

روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾ قال نسختها هذه الآية: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٥](1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٢، والدرّ المنثور: ابن المنذر.

قتادة:

روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم﴾ شديد عليكم(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ من ذلك، ثم عير المشركين بأعمالهم؛ أعمال السوء، فقال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: الشرك بالله أكبر من القتل(2).

3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾، فأمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم أن لا يقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوا فيه بقتال، ثم نسخها: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧]، نسخ هاتين الآيتين جميعا في براءة قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥]، ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦](3).

__________

(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٨٧.

(2) ابن جرير: ٣/٦٦٠.

(3) ابن أبي شيبة: ٢٠/٣٠٠.

زيد:

روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿كُرْهٌ لَكُمْ﴾ معناه وهو شديد عليكم،(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ فالفتنة ها هنا: الشّرك،(1).

__________

(1) تفسير الإمام زيد، ص 98.

الزهري:

روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال في الآية: الجهاد مكتوب على كل أحد؛ غزا أو قعد، فالقاعد إن استعين به أعان، وإن استغيث به أغاث، وإن استغني عنه قعد(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٣.

السّدّيّ:

روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ لا يحل، وما صنعتم ـ أنتم يا معشر المشركين ـ أكبر من القتل في الشهر الحرام(1).

__________

(1) ابن جرير: ٣/٦٥٥.

الكلبي:

روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، علم أنه سيكون فيهم من يقاتل في سبيل الله، فيستشهد(1).

__________

(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢١٧.

مقاتل:

روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:

1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، يعني: فرض عليكم، كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] يعني: فرض(1).

2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، أي: والله يعلم من ذلك ما لا تعلمون(1).

3. روي أنّه قال: ثم أخبر تعالى عن رأي مشركي العرب في المسلمين، فقال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم﴾ يعني: مشركي مكة: ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُم﴾ يا معشر المؤمنين: ﴿عَنْ دِينِكُم﴾ الإسلام: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾(2).

4. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الإسلام يقول: ومن ينقلب كافرا بعد إيمانه: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت﴾ يعني: بطلت: ﴿أَعْمَالَهُم﴾ الخبيثة؛ فلا ثواب لهم في الدنيا ولا في الآخرة، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يعني: لا يموتون(3).

__________

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٤.

(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٦.

(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٨٧.

الثوري:

روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾، هذا شيء منسوخ، وقد مضى، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام وفي غيره(1).

__________

(1) ابن أبي حاتم: ٢/٣٨٥.

الماتريدي:

ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ الكراهة المذكورة هاهنا والمحبة: هي كراهة الطباع والنفس، ومحبة الطباع‏ والنفس، لا كراهة الاختيار، ولا يكون في كراهة الطباع خطاب؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن القتال والمجاهدة مع العدو، لا أنهم كرهوا ذلك كراهة الاختيار؛ لأنه لا يحتمل أن يكون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يؤمرون بالقتال والمجاهدة مع العدو ثم هم يكرهون عما أمروا اختيارا منهم؛ لأن ذلك دأب أهل النار، فثبت أنه على ما ذكرنا من نفور كل طبع عن احتمال الشدائد والمشقة وكراهيته.

2. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ يحتمل هذا في القتال خاصة، وهو أن يكونوا كرهوا القتال؛ لما فيه من المشقة والشدة، ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات في الآخرة.

3. قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ يحتمل وجهين:

أ. يحتمل: يعنى التعود على الجهاد، ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب في الآخرة.

ب. ويحتمل هذا في كل أمر يحب الرجل في الابتداء ويكون عاقبته شرّا له، ويكره أمرا فيكون عاقبته خيرا له، هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها؛ ليعلم أن ليس إلينا من التدبير في شيء.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: ويعلم] ما هو خير لكم في العواقب مما هو شر لكم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

5. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ معناه: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام، ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والكفر به، وإخراج أهله منه، لكن إذ فعلوا ذلك، لم يكن القتال بجنبه كبيرا، بل الكفر فيه أكبر من القتل، فكأنه ذكر هذه الأحرف وعنى به الكناية عن الكفر، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله مع المعرفة أن الذي يؤذيه أقل منه، ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين، والقتال بنفسه كبير؛ لأن فيه تفانى الخلق، ولم يخلقوا للفناء، ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين:

أ. أحدهما: أنه ذكر القتل، وجعل الكفر أكبر منه، ولو أوجب القتل التخليد، ما أوجب الكفر، لكان فيه التساوي، ولا يكون الكفر أكبر من القتل فبان أن الكبيرة لا توجب‏ التخليد ما أوجب الكفر، والله أعلم.

ب. الثاني: قال والكفر أكبر منه، فصيره أكبر، ثم لا يخلو أكبره إن استطاعوا، لكن الله بما أكرمهم وبشرهم من النصر وإظهار الدين لا يستطيعون على ذلك أظهر بقوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]

6. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ذكر إحباط الأعمال، بالموت على الكفر، والعمل يحبط بالكفر دون الموت، والوجه فيه: أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال، بل الكفر بنفسه إذا وجد؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد، والكفر فيه لهم اختيار، لم يجز جعل العمل حبطا بما لا صنع له فيه، دل أن الكفر هو المحبط، لا الموت، ولكن ذكر الموت في هذا لما فيه تمام الحبط والإبطال، وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسناته؛ لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات فأبطلها، فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلا، فصار مقابلا لسيئاته‏ بحسنات، فهو حالة الانتفاع به كما قال عزّ وجل: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70]

7. ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. أما في الدنيا: فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الحسن الذي يستوجب‏ بالخير والدين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله وصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير.

ب. وأما حبطه في الآخرة: فذهاب ثواب أعماله، وكأن ما يستوجب المرء من الثواب إنما يستوجب بما يأتي من الأعمال ويحضرها عند الله، لا بالعمل نفسه؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: 160]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 75 ـ 76]، دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند الله، لا بالعمل نفسه.

__________

(1) تأويلات أهل السنة: ‏2/113.

العياني:

قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الآية: أي القتال في الشهر الحرام عظيم عند الله، والصدُّ عن سبيل الله والكفرُ منهم به وإخراجُهم لأهل المسجد المؤمنين أعظمُ عند الله من قتالهم في الشهر الحرام،(1).

__________

(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 284.

الديلمي:

ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ أما الكره بضم الكاف فهو إدخال المشقة على النفس وغير إكراه أحد والكَره إدخال المشقة مع الإكراه وهو بالنصب، وكتب: فرض والقتال فرض على كل مكلف لا يسع أحد من أهل القبلة التخلف عن إمام إذا قام لمقاتلة أعداء الله.

2. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ أي مكروه لكم لأنه مما تنفر عنه الطباع ويشق على النفوس ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة وفي الآخرة بالأجر والمثوبة، ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ أي بالمتاركة والمسالمة والظهور عليكم في الدنيا والغلبة وفي الآخرة بنقصان أجوركم فهذا معنى ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾

3. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ أي يرجع لقوله: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف]، ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت وأصل الحبوط الفساد، وقيل في الأعمال حبطت لفسادها.

__________

(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/104.

الماوردي:

ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ بمعنى فرض، وفي فرضه ثلاثة أقاويل:

أ. أحدها: أنه على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. الثاني: أنه خطاب لكل أحد من الناس كلهم أبدا حتى يقوم به من فيه كفاية، وهذا قول الفقهاء والعلماء.

ج. الثالث: أنه فرض على كل مسلم في عينه أبدا، وهذا قول سعيد بن المسيب.

1. ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ والكره بالضم إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد، والكره بالفتح إدخال المشقة على النفس بإكراه غيره له، ثم فيه قولان:

أ. أحدهما: أنه فيه حذفا وتقديره: وهو ذو كره لكم وهذا قول الزجاج.

ب. الثاني: معناه وهو مكروه لكم، فأقام المقدّر مقامه.

2. ثم في كونه كرها تأويلان:

أ. أحدهما: وهو كره لكم قبل التعبد وأما بعده فلا.

ب. الثاني: وهو كره لكم في الطباع قبل الفرض وبعده، وإنما يحتمل بالتعبد.

3. ثم قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ وفي عسى هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه طمع المشفق مع دخول الشك.

ب. الثاني: أنها بمعنى قد.

4. قال الأصم: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ من القتال‏ ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ يعني من المتاركة والكف‏ ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، يعني في الدنيا بالظهور عليكم وفي الآخرة بنقصان أجوركم.

5. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما فيه مصلحتكم‏ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

6. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ والسبب في نزول هذه الآية أن عبد الله بن جحش خرج بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سبعة نفر من أصحابه وهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن البيضاء، وخالد بن الكبير، وسعد بن أبي وقاص، وواقد بن عبد الله، وعبد الله بن جحش كان أميرهم، فتأخر عن القوم سعد وعتبة ليطلبا بعيرا لهما ضلّ، فلقوا عمرو بن الحضرمي فرماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وغنمت العير، وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى الآخرة أو أول ليلة من رجب، فعيرت قريش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك وقدم عبد الله بن جحش فلامه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولامه المسلمون حتى أنزل الله فيه هذه الآية.

7. اختلفوا فيمن سأل عن ذلك على قولين:

أ. أحدهما: أنهم المشركون ليعيّروا بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، واستحلوا قتاله فيه، وهو قول الأكثر.

ب. الثاني: أنهم المسلمون سألوا عن القتال في الشهر الحرام ليعلموا حكم ذلك، فأخبرهم الله تعالى: أن الصد عن سبيل الله وإخراج أهل الحرم منه والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي الحرم، وهذا قول قتادة.

8. اختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا؟

أ. قال الزهري: هو منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾، وهو أصح لما تظاهرات به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا العاص إلى أوطاس لحرب من بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم، وكانت بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة.

ب. وقال عطاء: هو ثابت الحكم، وتحريم القتال فيه باق غير منسوخ.

9. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ أي يرجع، كما قال تعالى: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: 64] أي رجعا، ومن ذلك قيل: استرد فلان حقه.

10. ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت، وأصل الحبوط الفساد، فقيل في الأعمال إذا بطلت حبطت لفسادها.

__________

(1) تفسير الماوردي: ‏1/273.

الطوسي:

ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. معنى قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ فرض عليكم القتال، وهذه الآية دالة على وجوب الجهاد، وفرضه، وبه قال مكحول، وسعيد بن المسيب، وأكثر المفسرين، غير أنه فرض على الكفاية، وحكي عن عطا: أن ذلك كان على الصحابة، والصحيح الأول، لحصول الإجماع عليه اليوم، وقد انقرض خلاف عطا.

2. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ يقال: كره كراهة، وأكرهه إكراهاً: إذا أجبره، وتكرّه تكرّهاً، واستكره استكراهاً، وكرهه تكريهاً، والكراهة: المشقة التي يحمل عليها، والكره: المشقة من غير أن يحمل عليها، وقيل: هما لغتان، مثل ضَعف، وضِعف، وجمل كره: شديد الرأس، لأنه لا ينقاد إلا على كره، والكريهة: الشديد في الحرب، لأنه يدخل فيها على كره، وكراهية الدهر: نوازله، وكرهت الأمر كراهة وكراهية ومكرهة، وكرّه إليّ هذا الأمر تكريهاً: أي صيّره إليّ بحال كريهة، والكرهاء: صفحة الوجه، لأن الكره يظهر فيها.

3. سؤال وإشكال: كيف كره المؤمنون الجهاد، وهو طاعة لله؟ والجواب: عنه جوابان:

أ. أحدهما: أنهم يكرهونه كراهية طباع.

ب. الثاني:أنه كره لكم قبل أن يكتب عليكم، وعلى الوجه الأول يكون لفظ الكراهة مجازاً، وعلى الثاني حقيقة.

4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَسَى﴾:

أ. قيل: معناه الطمع، والإشفاق من المخاطب، ولا يكون إلا مع مثله في الأمر.

ب. وقيل: معناها هاهنا قد.

5. إنما قال ﴿عَسَى﴾ وقال في موضع آخر: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ فجمع، لأنه استغنى في الغائب عن الجمع كما استغني عن علامة الضمير في اللفظ، وليس كذلك المخاطب، فجرى في كل غائب على التوحيد، لامتناعه من التصريف، وتقول: عسى أن يقوموا، فإذا قلت: عسيتم أن تقوموا جمعت.

6. في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ حذف ـ في قول الزجاج وغيره ـ لأن تقديره وهو ذو كره لكم، ويجوز أن يكون معناه: وهو مكروه لكم، فوقع المصدر موقع اسم المفعول، ومثله قولهم: رجل رضى بمعنى ذو رضى، ويجوز أن يكون بمعنى مرضي.

7. ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ فالشر السوء، وهو ضد الخير، تقول: شرّ يشرّ شرارة، وشرار النار، وشررها لهبها، وشررت اللحم والثوب تشريراً: إذا بسطته، ليجف، وكذلك أشررته إشراراً، وأشررت الكتاب: إذا أظهرته، وشرّة الشباب: نشاطه.

8. إنما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ تنبيهاً على أنه يعلم مصالحكم، وما فيه منافعكم، فبادروا الى ما يأمركم به وإن شق عليكم.

9. الفرق بين الشهوة، والمحبة واضح، لأن الصائم في شهر رمضان يشتهي شرب الماء، ولا يكون مؤاخذاً به، ولا يحبه كما لا يريده، ولو أراده وأحبه، لكان مذموماً، ويكون مفطراً ـ عند كثير من الفقهاء ـ.

10. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يدل على فساد قول المجبرة، لأنه تعالى إنما رغبهم في الجهاد، لما علم من مصالحهم، ومنافعهم، فيدبرهم لذلك، لا لكفرهم وفسادهم يتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

11. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ اختلفوا فيمن السائل عن هذا السؤال: أهم أهل الشرك، أم أهل الإسلام:

أ. فقال الحسن، وغيره: هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام، وبه قال الجبائي، وأكثر المفسرين.

ب. وقال البلخي: هم أهل الإسلام، سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.

12. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ مجرور على البدل من الشهر، وهو من بدل الاشتمال، ومثله قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ وقال الأعشى:

لقد كان في حول ثواءٍ ثويته‏...تقضّي لبانات ويسأم سائم‏

والذي يشتمل عليه المعنى هو أحوال الشيء، وما كان منه بمنزلة أحواله مما يغلب تعلق الفعل به، فلا يجوز رأيت زيداً لونه، لأن لونه يجوز أن يرى كما يجوز أن يرى نفسه، ويجوز سرق زيد ثوبه، لأن تعلق السرقة إنما هي بالملك دون النفس في غالب الأمر، ويجوز أن تقول: رأيت زيداً مجيئه، ولا يجوز رأيت زيداً إياه، لأنه يجري مجرى حاله.

13. اختلف في إعراب قوله تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾:

أ. قيل: رفع بالابتداء، وما بعده معطوف عليه، وخبره‏ ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ هذا قول(2).

ب. وقال أبو علي الفارسي: لا يخلو أن يكون ارتفاع قوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ﴾ من أن يكون بالعطف على الخبر الذي هو (كبير) كأنه قال قتال فيه كبير وصدّ وكفر: أي القتال، قد جمع أنه كبير، وأنه صدّ، وكفر، ويكون مرتفعاً بالابتداء، وخبره محذوف لدلالة (كبير) المتقدم عليه، كأنه قال والصد كبير، كقولك: زيد منطلق وعمرو، أو يكون مرتفعاً بالابتداء، والخبر المظهر، فيكون الصدّ ابتداء، وما بعد من قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ﴾ مرتفع بالعطف على الابتداء، والخبر قوله: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ قال: ولا يجوز الوجهان الأولان ـ وقد أجازهما الفراء ـ

أما الوجه الأول، فلأن المعنى يصير: قل: قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله كبير، والقتال وإن كان كبيراً، ويمكن أن يكون صدّا، لأنه ينفر الناس عنه، فلا يجوز أن يكون كفراً، لأن أحداً من المسلمين لم يقل ذلك، ولم يذهب إليه، فلا يجوز أن يكون خبر المبتدإ شيئاً لا يكون المبتدأ، ويمنع من ذلك أيضاً قوله بعد: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ومحال أن يكون إخراج أهله منه أكبر من الكفر، لأنه لا شيء أعظم منه.

ويمتنع الوجه الثاني أيضاً، لأن التقدير: فيه يكون قتال فيه كبير وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به، وكذلك مثله الفراء، وقدره، فإذا صار المعنى: وإخراج أهل المسجد الحرام أكبر عند الله من الكفر، فيكون بعض خلال الكفر أعظم منه كله، وإذا كان كذلك امتنع كما امتنع الأول.

وإذا امتنع هذان ثبت الوجه الثالث، وهو أن يكون قوله‏ ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ابتداء ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ معطوفاً عليه (وأكبر) خبراً، فيكون المعنى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي منعهم لكم أيها المسلمون عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه ـ وأنتم ولاته، والذين هم أحق به منهم ـ وكفر بالله أكبر من قتاله في الشهر الحرام.

ج. قال الرماني، والفراء: إن التخلص من التأويل الثاني أن تقول: إخراج أهله منه أكبر من القتل فيه، لا من الكفر، لأن المعنى في إخراج أهله منه إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عنه، قال وأما التأويل الأول، فلا يجوز إلا أن يجعل‏ ﴿كُفْرٌ بِهِ﴾ يعني بالمسجد الحرام، لانتهاك حرمته، قال والتأويل الأول أجود.

14. هذا القتال في الشهر الحرام هو ما عابه المشركون على المسلمين، من قتل عبد الله بن جحش، وأصحابه عمر بن الحضرمي، لما فصل من الطائف، في عير ـ في آخر جمادى الآخر ـ وأخذهم العير، وهو أول من قتل من المشركين ـ فيما روي، وأول فيء أصابه المسلمون.

15. قوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قال الفراء: إنه محمول على قوله: يسألونك عن القتال، وعن المسجد الحرام هذا لفظه، قال أبو علي الفارسي: وهذا أيضاً يمتنع، لأنه لم يكن السؤال عن المسجد الحرام، وإنما السؤال عن قتال ابن جحش الحضرمي وأصحابه الذين عابهم المشركون وعيّروهم، فقالوا إنكم استحللتم الشهر الحرام، وهو رجب بقتلهم فيه، فكان السؤال عن هذا، لا عن المسجد الحرام وإذا لم يجز هذا الوجه، لم يجز حمله على المضمر المجرور، لأن عطف المظهر على المضمر غير جائز، لأنه ضعيف جداً، فيكون محمولا على الضمير في به، لأن المعنى ليس على كفر بالله أو بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والمسجد، فثبت‏ أنه معطوف على (عن) من قوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، لأن المشركين صدّوا المسلمين عنه، كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فكما أن المسجد الحرام محمول في هذه الآية على (عن) المتصلة بالصدّ ـ بلا إشكال ـ كذلك في هذه الآية، وهو قول أبي العباس، أيضاً قال الرماني: ما ذكره الفراء، واختاره الحسن ليس يمتنع، لأن القوم لما استعظموا القتال في الشهر الحرام، وكان القتال عند المسجد الحرام يجري مجراه في الاستعظام جمعوهما لذلك في السؤال، وإن كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصة، كأنهم قالوا: قد استحللت الشهر الحرام، والمسجد الحرام، وظاهر الآية يدل على أن القتال في الشهر الحرام كان محرماً لقوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وذلك لا يقال إلا فيما هو محرم، محظور.

16. الصدّ، والمنع، والصدف واحد، صدّ يصدّ صدوداً إذا صدف عن الشيء لعدوله عنه، وصددته عن الشيء، أصده صداً إذا عدّلته عنه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ قرئ بالضم، والكسر، قال أبو عبيدة: يصُدّون يعرضون، ويِصدّون: يضجون، وذلك لأنهم، يعدلون الى الصحيح، والصديد: الدم المختلط بالقيح يسيل من الجرح، والصدد، ما استقبلك وصار في قبالتك، لأنه يعدل‏، لأنه يعدل عنه استقذاراً له، وأصل الباب العدول.

17. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ معناه الفتنة في الدين، وهي الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام.

18. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قال قتادة وغيره، واختاره الجبائي: إن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ وبقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾

ب. وقال عطا: هو باق‏ على التحريم، وروى أصحابنا(3): أنه على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة، فإنهم لا يبتدءون فيه بالقتال، وكذلك في الحرم، وإنما أباح تعالى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم قتال أهل مكة وقت الفتح، ولذلك‏ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله أحلها في هذه الساعة، ولا يحلها لأحد بعدي الى يوم القيامة، ومن لا يرى ذلك، فقد نسخ في جهته وجاز قتاله أي وقت كان.

19. ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ قال الجبائي: هو مجاز هاهنا، لأن حقيقته: حتى ترتدّوا بإلجائهم إياكم الى الارتداد، والأولى أن يكون حقيقة ذلك بالعرف.

20. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ فالزوال: العدول، ولا يزال موجوداً، وما زال: أي ما دام، وزال الشيء عن مكانه يزول زوالا، وأزلته عنه، وزلته، وزالت الشمس زوالا، وزيالا، وزالت الخيل بركبانها زيالا، ورجل زول، وامرأة زولة، وهو الظريف الركبين‏ وأصل الباب الزوال.

21. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾، فهو على إظهار التضعيف، لسكون الثاني، ويجوز (يرتدّ) ـ بفتح الدال ـ على التحريك، لالتقاء الساكنين، والفتح أجود.

22. ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ معناه: أنها صارت بمنزلة ما لم يكن، لإيقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به، وليس المراد أنهم استحقوا عليها الثواب ثم انحبطت، لأن الإحباط ـ عندنا ـ باطل على هذا الوجه، ويقال: حبط عمل الرجل يحبط حبطاً وحبوطاً، وأحبطه الله إحباطاً، والحبط: فساد، يلحق الماشية في بطونها، لأكل الحباط، وهو ضرب من الكلاء، يقال: حبطت الإبل تحبط حبطاً إذا أصابها ذلك، وروي عن عطا عن ابن عباس: أن المسجد الحرام الحرم كله.

__________

(1) تفسير الطوسي: ‏2/202.

(2) الكلام هنا للزجّاج

(3) يقصد الإمامية

الجشمي:

ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الشر: نقيض الخير، والخير: النفع الحسن، والشر: الضرر القبيح هذا أصله، ثم يستعمل في غيره توسعًا.

ب. الشهر الحرام: سمي حرامًا؛ لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه، وقيل: لعظم حرمته، وأصل الحرمة المنع، ومنه الحَرَمُ.

ج. الاستطاعة والقدرة نظائر، وهو عرض يصير به الإنسان مستطيعًا للفعل.

د. لا يزال وما زال الشيء: دام، وأصله من الزوال.

هـ. الحبوط: بطلان العمل، يقال: حبط عمل الرجل، وأصله الحَبَط، وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الكلأ حتى تنتفخ أجوافها، وهو الحباط، فشبه فساد العمل بذلك من حيث لا ينتفع به.

2. لما تقدم الأمر بالجهاد بين أن ذلك مصلحة لهم، وإن كرهوا ولم يعلموا فقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي فرض: ﴿الْقِتَالُ﴾ أي الجهاد في سبيل الله.

3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: أي يشق عليكم، وتكرهونه كراهة طباع.

ب. وقيل: مكروه لكم قبل أن يكتب عليكم لا بعده، فهو على الأول مجاز، وفي الثاني حقيقة.

ج. وقيل: كره يعني شديد.

4. ﴿وَعَسَى﴾ بمعنى: (قد)، يعني قد تكرهون شيئًا وهو خير لكم، تكرهون الجهاد لحب الحياة، ومشقة الجهاد، ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ لأنكم بين حسنيين: إما الغلبة والظفر والغنيمة، أو الشهادة والجنة ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ أي قد تحبون ما هو شر لكم، وهو القعود عن الجهاد لمحبة الحياة، وهو شر؛ لما فيه من غلبة العدو، وحرمان الغنيمة في الدنيا، والثواب في الآخرة.

5. ﴿وَالله يَعْلَمُ﴾ يعني من مصالحكم وتدابيركم، وما فيه منافعكم: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فبادروا إلى أمر من يعلم المصالح وإن شق عليكم.

6. قيل: نزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ في قتل عمرو بن الحضرمي مشرك قتله واقد بن عبد الله الليثي رجل من المسلمين في قصة عبد الله بن جحش، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن جحش وجماعة من المهاجرين معه بعد بدر في جمادى الآخرة إلى بطن نخلة بين مكة والطائف، وأخذوا عيرًا، وقتلوا ابن الحضرمي، وجاءوا بالعير والأسارى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في أول رجب، فعيرهم المشركون بأنهم استحلوا الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

7. عاد الكلام إلى الجهاد فقال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد:

أ. قيل: السائل أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام، عن الحسن وأبي علي وجماعة أهل التفسير.

ب. وقيل: أهل الإسلام ليعلموا كيف الحكم في ذلك، عن أبي القاسم.

8. ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ قيل: رجب، ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ يعني يسألونك عن القتال في رجب ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ يعني في الشهر الحرام ﴿كَبِيرٌ﴾ يعني ذنب عظيم ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ الله﴾ يعني منع عن سبيله ودينه، وذلك لما منعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن البيت.

9. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَصُدَّ﴾:

أ. قيل: تم الكلام عند قوله: ﴿كَبِيرٌ﴾، ثم استأنف وقال: الصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، عن الأصم وجماعة.

ب. وقيل: هو متصل بما قبله، يعني قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني بِالله، ثم ابتدأ ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عن أبي علي والقاضي.

10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾:

أ. قيل: يسألونك عن الشهر الحرام والمسجد الحرام.

ب. وقيل: عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام.

11. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني بِالله وبالمسجد الحرام، يعني إنكارهم كونه قبلة، عن أبي علي: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ يعني أهل المسجد، وهم المسلمون؛ لأن الكفار ليسوا بأهل المسجد ﴿مِنْهُ﴾ يعني من المسجد ﴿أَكْبَرُ﴾ يعني أعظم وزرًا، ﴿عِنْدَ الله﴾، وذلك إخراجهم للمسلمين من مكة حتى هاجروا إلى المدينة، ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ أي الكفر ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ يعني: في الشهر الحرام.

12. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يعني: أن أهل مكة يقاتلونكم يا معشر المسلمين: ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ أي يصرفوكم عن دين الإسلام، ومعناه: يدعونكم إلى الردة حتى ترتدوا؛ لأن الردة ليست من فعل الكفار ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ أي إن قدروا على ذلك، فبين ـ تعالى ـ أنهم لا يستطيعون ذلك؛ لأنه تعالى ينصر رسوله والمؤمنين عليهم.

﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ ينصرف عن دين الإسلام بالعود إلى الكفر: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ يعني مات على كفره.

13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾:

أ. قيل: يعني: هلكت حسناتهم حيث لا يستحقون عليها ثوابًا لما أحبطوها بالكفر فصارت كأن لم تكن.

ب. وقيل: جزاء أعمالهم: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ دائمون.

14. نظم الآية وتقدير الكلام: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام فقل: ذلك كبير، ولكن الكفر بِالله وصد المسلمين عن بيت الله ودينه وإخراجهم عن أوطانهم، وهتك حرمتهم أعظم عند الله وأكبر وزرًا، وهَؤُلَاءِ الكفار مع هذه الأفعال وكفرهم يقاتلونكم ليردوكم عن الدين، فكل واحد من هذا أعظم مما سألوه عنه.

15. سؤال وإشكال: إذا كان دار الجزاء هو الآخرة فما معنى ذكر الدنيا؟ والجواب: من الجزاء المدح والتعظيم والتناصر في الدنيا وعصمة المال والدم والثواب في الآخرة، فبين تعالى أن جميعها تبطل بالردة.

16. سؤال وإشكال: هل تدل الآية على قول أصحاب الموافاة؛ لأن شرط استحقاق العقاب الموت على الردة؟ والجواب: لا، وإنما شرط الموت لأن عنده يستقر الإحباط لجواز أن يتوب ما دام حيًّا، ولأن عقوبة الآخرة إنما تستحق إذا مات مرتدًّا.

17. تدل الآيات الكريمة على:

أ. الآية من أقوى الدلالات في وجوب الجهاد، ثم اختلفوا فمنهم من قال: هي ناسخة لقتالهم إذا قاتلونا، وفي الشهر الحرام والحرم، ومنهم من قال: ليس بناسخ؟، إذ لا تنافي بين الحكمين.

ب. أن الإنسان قد يكره ما فيه صلاحه، ويحب ما فيه فساده، وأنه تعالى يدبر عباده على حسب علمه، لا على حسب مرادهم، وقد بينا معنى الكراهة.

ج. أن التعبد بالجهاد وغيره لطف، وأنه يجب علينا وإن كان فيه مشقة.

د. أن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام كبير، واختلفوا فقيل: إنه منسوخ ويجوز القتال مع الكفار في ذلك، عن قتادة وأبي علي، وهو اختيار القاضي، وقيل: التحريم ثابت لم ينسخ، عن عطاء وجماعة، والأول: الوجه.

هـ. أن الكفر بعضه يكون أكبر من بعض.

و. أن للوقت والبقاع تأثيرًا في كبر المعصية؛ ولذلك قلنا: الزنا في المسجد أعظم، وربما يبلغ درجة الكفر إذا قارن الاستخفاف بالدين.

ز. أن في عمل الجوارح ما يكون كفرًا، حيث بين إن القتال فيه كفر، ومن حيث بَيَّنَ أَن إخراجهم أكبر فهو أيضًا كفر، وكل ذلك من أفعال الجوارح فيبطل قول جماعة من المرجئة أن الكفر يدخل في أفعال القلوب فقط.

ح. يدل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ على إثبات الردة، وأن لها أحكامًا: منها: أنه تحبط الأعمال.. ومنها: أنه يبطل ذلك في الدنيا والآخرة فيوجب ذلك قتله وإباحة دمه؛ لأن الذي عظم دمه الإيمان، فإذا بطل عادت الإباحة.

ط. بطلان قول من يزعم أنه لا يجوز أن يموت المؤمن على كفر على ما زعمه بعض المتأخرين، وعندنا يجوز تبقية من يعلم أنه يكفر، ويجوز تبقية من يعلم أنه يؤمن، ويجوز اخترامه عند أبي هاشم، وقال أبو علي: لا يجوز اخترامه، وهو قول أبي القاسم من أصلين مختلفين.

ي. على التحذير من إبطال الطاعات بارتكاب الكفر والمعاصي.

ك. على الخلود في النار، وعلم ذلك من دين الرسول ضرورة، فبطل قول من يزعم أن الجنة والنار يفنيان.

18. القراءة الظاهرة: ﴿كَرِهَ﴾ بضم الكاف. وعن أبي عبد الرحمن السلمي بفتح الكاف، وكلاهما بمعنى، كضُعْف وضَعْف، وقيل: الكُرْهُ بالضم المشقة، وبالفتح الإجبار، وكره كرهه، وأكْرَهَهُ: أَجْبَرَهُ، وقيل: بفتح الكاف المشقة تحمل عليه، وبضمها المشقة من غير أن تحمل عليه.

19. مسائل نحوية:

أ. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ﴾ أي ذو كره، وقيل: مكروه، ونظيره: رجل رِضًا يحتمل ذو رِضًا، ويجوز مرضي.

ب. ﴿الْقِتَالُ﴾ رفع؛ لأنه اسم ما لم يسم فاعله، وإنما رفع لإسناد الفعل إليه، فصار كالفاعل.

ج. ﴿قِتَالٍ﴾: خفض على البدل من الشهر، وقيل: على تكرير: ﴿عَنْ﴾ عن ابن عباس، وعن: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾، وكذلك في قراءة ابن مسعود.

د. ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾: بالجر، وفيه قولان:

الأول: عطف على: ﴿سَبِيلِ الله﴾ تقديره: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، عن ابن عباس.

الثاني: عطف على: ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ تقديره: يسألونك عن الشهر الحرام والمسجد الحرام، عن الحسن والفراء.

هـ. ﴿وَصُدَّ﴾: رفع بالابتداء، وما بعده معطوف عليه، وخبره: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ الله﴾، عن الزجاج، وأجاز الفراء رفع الصد من وجهين: إن شئت جعلته مردودًا على الكبير تقديره: قل القتال فيه كبير وصد وكفر، وإن شئت جعلت الصد كبيرًا تقديره: قل القتال فيه كبير، وكبير الصد عن سبيل الله والكفر به.

و. ﴿يَرْتَدِدْ﴾ يجوز فيه ثلاثة أوجه:

يرتدد على إظهار التضعيف لسكون الثاني.

الثاني: يرتد بالفتح والإدغام على التحرك لالتقاء الساكنين بأخف الحركات لاطراده في تضعيف الأفعال.

الثالث: يجوز يرتد بالكسر على أصل الحركة لالتقاء الساكنين، والفتح أجود.

__________

(1) التهذيب في التفسير: 1/867.

الطَبرِسي:

ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. شرح مختصر للكلمات:

أ. الكره بالفتح: المشقة التي تحمل على النفس، والكره بالضم: المشقة حمل على النفس، أو لم يحمل، وقيل: الكره الكراهة، والكره المشقة، وقد يكره الانسان ما لا يشق عليه، وقد يشق عليه ما لا يكرهه، وقيل: الكره والكره لغتان مثل الضعف والضعف.

ب. الخير: نقيض الشر، والخير: النفع الحسن.

ج. الشر: الضرر القبيح، وهذا هو الأصل، ثم يستعملان في غير ذلك توسعا، يقال: شر يشر شرارة، وشرار النار وشررها: لهبها، وشرة الشباب: نشاطه، وتشرير اللحم أو الثوب: أن تبسطه ليجف، والأشرار: الإظهار.

و. الصد والمنع والصرف نظائر، يقال: صد عن الشيء يصد صدودا، وصدا: إذا أعرض وعدل عنه، وصد غيره يصده صدا: إذا عدل به عنه ومنعه، والصدد: ما استقبلك، وصار في قبالتك، لأنه يعدل إلى مواجهتك، والصدان: ناحيتا الشعب والوادي، والصداد: ضرب من الجرذان يعدل لك لشدة تحرزه، والصداد: الوزغ لأنه يعدل عنه استقذارا له، وأصل الباب العدول.

ز. لا يزال أصله من الزوال: وهو العدول، ومعنى لا يزال: يدوم موجودا، وما زال أي: دام.

ح. حبط عمل الرجل حبطا، وحبوطا، وأحبطه الله إحباطا، والحبط: فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط: وهو ضرب من الكلأ، يقال: حبطت الإبل تحبط حبطا: إذا أصابها ذلك، ثم سمي الهلاك حبطا وفي الحديث: (ان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا، أو يلم)

2. هذه الآية بيان لكون الجهاد مصلحة لمن أمر به، قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: فرض عليكم الجهاد في سبيل الله ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾:

أ. قيل: أي: شاق عليكم تكرهونه كراهة طباع لا على وجه السخط، وقد يكون الشيء مكروها عند الانسان في طبعه، ومن حيث تنفر نفسه عنه، وإن كان يريده، لأن الله تعالى أمره بذلك كالصوم في الصيف.

ب. وقيل: معناه أنه مكروه لكم قبل أن يكتب عليكم، لأن المؤمنين لا يكرهون ما كتب الله عليهم.

3. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ معناه وقد تكرهون شيئا في الحال، وهو خير لكم في عاقبة أموركم، كما تكرهون القتال لما فيه من المخاطرة بالروح ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لأن لكم في الجهاد إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة، ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ أي: وقد تحبون ما هو شر لكم، وهو القعود عن الجهاد لمحبة الحياة، وهو شر لما فيه من الذل والفقر في الدنيا، وحرمان الغنيمة والأجر في العقبى.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أي: يعلم ما فيه مصالحكم ومنافعكم، وما هو خير لكم في عاقبة أمركم ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به، وإن شق عليكم.

5. أجمع المفسرون إلا عطاء، أن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وفرضه، غير أنه فرض على الكفاية، حتى أن لو قعد جميع الناس عنه أثموا به، وإن قام به من في قيامه كفاية وغناء، سقط عن الباقين، وقال عطاء: إن ذلك كان واجبا على الصحابة، ولم يجب على غيرهم، وقوله شاذ عن الاجماع.

6. ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يا محمد، والسائلون:

أ. قيل: أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام، عن الحسن، وأكثر المفسرين.

ب. وقيل: السائلون أهل الاسلام، سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.

7. ﴿عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ يعني عن قتال في الشهر الحرام، وهو رجب، سمي بذلك لتحريم القتال فيه، ولعظم حرمته، ولذلك كان يسمى في الجاهلية منزع الأسنة ومنصل الأل، لأنهم كانوا ينزعون الأسنة والنصال عند دخول رجب، انطواء على ترك القتال فيه، وكان يدعى الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح، فسب الصمم إليه، كما قيل: ليل نائم، وسر كاتم، فكان الناس لا يخاف بعضهم بعضا، وتأمن السبل إلى أن ينقضي الشهر.

8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي: في الشهر الحرام ﴿كَبِيرٌ﴾ أي: ذنب عظيم، ثم استأنفه وقال: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: والصد عن سبيل الله، والكفر بالله ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: والصد عن المسجد الحرام، وعلى القول الآخر معناه: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وعند المسجد الحرام، وقيل: معناه والكفر والمسجد الحرام، عن الجبائي، فحمله عن الباء في قوله ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾

9. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ يعني أهل المسجد، وهم المسلمون و﴿مِنْهُ﴾ أي: من المسجد ﴿أَكْبَرُ﴾ أي: أعظم وزرا ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ يعني إخراجهم المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة.

10. الظاهر يدل على أن القتال في الشهر الحرام كان محرما لقوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وذلك لا يقال إلا فيما هو محرم محظور، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عقل ابن الحضرمي.

11. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ معناه الفتنة في الدين وهو الكفر، أعظم من القتل في الشهر الحرام، يعني قتل ابن الحضرمي.

12. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قال قتادة وغيره: إن تحريم القتال في الشهر الحرام، وعند المسجد الحرام، منسوخ بقوله ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ وبقوله: ﴿اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾

ب. وقال عطاء: هو باق على التحريم، وعندنا(2): إنه باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة، ولا يبتدئون فيها بالقتال، وكذلك في الحرم، وإنما أباح الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم قتال أهل مكة عام الفتح، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله أحلها لي في هذه الساعة، ولا يحلها لأحد من بعدي إلى يوم القيامة، ومن لا يرى منهم حرمة الحرم، وحرمة هذه الأشهر، جاز قتاله في وقت كان، والتحريم منسوخ في حقه.

13. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يعني أهل مكة يقاتلونكم يا معشر المسلمين ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ أي: يصرفوكم عن دين الاسلام، ويلجؤوكم إلى الإرتداد ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ أي: إن قدروا على ذلك ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ هذا تحذير عن الإرتداد ببيان استحقاق العذاب عليه ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ يعني مات على كفره.

14. ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ معناه: إنها صارت بمنزلة ما لم يكن لإيقاعهم إياها على خلاف التوجه المأمور به، لأن إحباط العلم وإبطاله، عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب، وليس المراد أنهم استحقوا على أعمالهم الثواب، ثم انحبط، لأنه قد دل الدليل على أن الإحباط على هذا الوجه لا يجوز، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي: دائمون.

15. نظم الآية وتقديرها يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وعند المسجد الحرام، فقل ذلك كبير، ولكن الكفر بالله، وصد المسلمين عن بيت الله ودينه، وإخراجهم عن أوطانهم، أعظم عند الله، وأكبر وزرا، وهؤلاء الكفار مع هذه الأفعال يقاتلونكم ليردوكم عن الدين، فكل واحد من هذا أعظم مما سألوا عنه.

16. مسائل نحوية:

أ. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾: فيه حذف، وتقديره: وهو ذو كره لكم، ويجوز أن يكون معناه وهو مكروه لكم، فوقع المصدر موقع المفعول ومثله: رجل رضا أي: ذو رضا، ويجوز أن يكون بمعنى مرضي.

ب. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا﴾ موضع أن تكرهوا: رفع بأنه فاعل عسى، وعسى هذه تامة، لأنها تمت بالفاعل، ولم تحتج إلى خبر.

ج. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾: مجرور على البدل من ﴿الشَّهْرَ﴾، وهو بدل الاشتمال لأن الزمان يشتمل على ما يقع فيه، ومثله في المكان قوله: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ النار، وقال الأعشى:

لقد كان في حول ثواء ثويته،...تقضى لبانات، ويسأم سائم

وقال الكوفيون: هو مجرور على إضمار عن، وقال بعضهم: هو على التكرير، وهذه ألفاظ متقاربة في المعنى، وإن اختلف في العبارة عنه.

د. ﴿قِتَال﴾: مرفوع بالابتداء، و﴿كَبِيرٌ﴾: خبره ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: مبتدأ، ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾: معطوف عليه، ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾: معطوف عليه أيضا، وخبره ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: هذه الأشياء أكبر عند الله أي: أعظم إثما، وأجاز الفراء رفعه على وجهين:

أحدهما: إنه مردود على ﴿كَبِيرٌ﴾ أي: قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به أي: القتال قد جمع أنه كبير، وأنه صد عن سبيل الله، وكفر به.

والآخر: أن يجعل الصد الكبير أي: القتال فيه كبير، والصد عن سبيل الله كبير فيكون مرتفعا بالابتداء، وخبره محذوف.

وخطأه العلماء بالنحو قالوا: لأنه يصير المعنى في التقدير الأول: قل القتال في الشهر الحرام كفر بالله، وهذا خطأ بالإجماع، ويصير التقدير في الثاني: وإخراج أهله منه أكبر عند الله من الكفر، وهذا أيضا خطأ بالإجماع، وللفراء أن يقول في هذه: المعنى وإخراج أهله منه أكبر من القتل فيه، لا من الكفر به، لأن المعني في اخراج أهله منه اخراج النبي والمؤمنين بعده فأما الوجه الأول فلا مخلص للفراء منه.

هـ. ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: مجرور عطف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كأنه قال وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وهو قول المبرد، وقيل: إنه عطف على ﴿الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ كأنه قال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام، وهو قول الفراء ولا يجوز حمله على الباء في قوله ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، إلا في ضرورة الشعر.

و. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ على إظهار التضعيف لسكون الثاني، ويجوز يرتد بفتح الدال على التحريك، لالتقاء الساكنين بأخف الحركات، ويجوز بكسر الدال على أصل التحريك لالتقاء الساكنين، والفتح أجود.

__________

(1) تفسير الطبرسي: ‏2/549.

(2) يقصد الإمامية

ابن الجوزي:

ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، قال ابن عباس: لما فرض الله على المسلمين الجهاد شقّ عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية، و(كتب) بمعنى: فرض في قول الجماعة، قال الزجّاج: كرهت الشيء أكرهه كرها وكرها، وكراهة وكراهية، وكلّ ما في كتاب الله من الكره، فالفتح فيه جائز، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضمّ هذا الحرف الذي في هذه الآية، وإنما كرهوه لمشقّته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى، وقال الفرّاء: الكره والكره: لغتان، وكأن النّحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك ممّا لم تكره عليه، فإذا أكرهت على الشيء استحبّوا (كرها) بالفتح، وقال ابن قتيبة: الكره بالفتح، معناه الإكراه والقهر، وبالضّم معناه: المشقّة.

2. من نظائر هذا: الجهد: الطّاقة، والجهد: المشقّة، ومنهم من يجعلهما واحدا، وعظم الشيء: أكبره وعظمه: نفسه، وعرض الشيء: إحدى نواحيه، وعرضه: خلاف طوله، والأكل: مصدر أكلت، والأكل: المأكول، وقال أبو عليّ: هما لغتان، كالفقر والفقر، والضّعف والضّعف، والدّفء والدّفء، والشّهد والشّهد.

3. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾، قال ابن عباس: يعني الجهاد، ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فتح وغنيمة أو شهادة، ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ وهو القعود عنه، ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾، لا تصيبون فتحا ولا غنيمة ولا شهادة، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أن الجهاد خير لكم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ حين أحببتم القعود عنه.

4. اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال:

أ. أحدها: أنها من المحكم النّاسخ للعفو عن المشركين.

ب. الثاني: أنها منسوخة، لأنها أوجبت الجهاد على الكلّ، فنسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾

ج. الثالث: أنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه، وقالوا: إن الحال في القتال كانت على ثلاثة مراتب:

الأولى: المنع من القتال، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾

الثانية: أمر الكلّ بالقتال، ومنه قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾، ومثلها هذه الآية.

الثالثة: كون القتال فرضا على الكفاية، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾، فيكون النّاسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه، والمنسوخ وجوب القتال على الكلّ.

5. روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين:

أ. أحدهما: هذا(2).

ب. الثاني: دخول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم مكة في شهر حرام يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام‏.

6. في السائلين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قولان:

أ. أحدهما: أنهم المسلمون، سألوه: هل أخطئوا أم أصابوا؟ قاله ابن عباس وعكرمة ومقاتل.

ب. الثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن، وعروة، ومجاهد، والشّهر الحرام: شهر رجب، وكان يدعى الأصمّ، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيما له، ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي: يسألونك عن قتال فيه، ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس: لا يحلّ، قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التّحريم.

7. اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو باق أم نسخ؟ على قولين‏:

أ. أحدهما: أنه باق، روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله: ما يحلّ للناس الآن أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا، وما نسخت.

ب. الثاني: أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار: القتال جائز في الشهر الحرام، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وبقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وهذا قول فقهاء الأمصار.

8. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾

9. في المراد بـ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ هاهنا قولان:

أ. أحدهما: أنه الحج، لأنهم صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، عن مكة، قاله ابن عباس والسّدّيّ عن أشياخه.

ب. الثاني: أنه الإسلام، قاله مقاتل.

10. في هاء الكناية في قوله ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى، قاله السّدّيّ عن أشياخه، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة.

ب. الثاني: أنها تعود إلى السبيل، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: وخفض (المسجد الحرام) نسقا على: ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾، كأنه قال وصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام.

11. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ لمّا آذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه؛ اضطرّوهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر.

12. ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ هاهنا بمعنى الشّرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة، والفتنة في القرآن على وجوه كثير، قد ذكرتها في كتاب (النّظائر)

13. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾، يعني الكفّار، ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يعني: المسلمين، و﴿حَبِطَتْ﴾ بمعنى: بطلت.

__________

(1) زاد المسير: 1/181.

(2) ذكر بعض الآثار التي سبق ذكرها

الرَّازي:

ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثم أذن له في قتال المشركين عامة، ثم فرض الله الجهاد.

2. اختلف العلماء في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾:

أ. فقال قوم: إنها تقتضي وجوب القتال على الكل، وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب، واحتجوا:

أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ يقتضي الوجوب وقوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يقتضيه أيضا، والخطاب بالكاف في قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]

ظاهر قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ يقتضي أن يكون واجبا على الأعيان لأن قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾

ب. نقل عن ابن عمر وعطاء: أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت فقط، واحتجوا:

أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ يقتضي الإيجاب، ويكفي في العمل به مرة واحدة.

وقوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت.

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك، بدلالة منفصلة وهي الإجماع، وتلك الدلالة مفقودة هاهنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلي.

ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء: 95] ولو كان القاعد مضيعا فرضا لما كان موعودا بالحسنى، اللهم إلا أن يقال: الفرض كان ثابتا ثم نسخ، إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: 122]

القول بالنسخ غير جائز على هذا.

والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات، إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل.

3. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ إشكال وهو أن الظاهر من قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أن هذا الخطاب مع المؤمنين، والعقل يدل عليه أيضا لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر، وإذا كان كذلك فكيف قال ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارها لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز، لأن المؤمن لا يكون ساخطا لأوامر الله تعالى وتكاليفه، بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده، والجواب: من وجهين:

أ. الأول: أن المراد من الكره، كونه شاقا على النفس، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلا شاقا على النفس، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، فلذلك أشق الأشياء على النفس‏ القتال.

ب. الثاني: أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم.

4. الكره بضم الكاف هو الكراهة بدليل قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ثم فيه وجهان.

أ. أحدهما: أن يكون المعنى وضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقول الخنساء: (فإنما هي إقبال وإدبار)، كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له.

ب. الثاني: أن يكون فعلا بمعنى مفعول، كالخبر بمعنى المخبور أي وهو مكروه لكم.

5. قرأ السلمي بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له، ومشقته عليهم، ومنه قوله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15]، وقال بعضهم: الكره، بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه، وإذا كان بالإكراه فبالفتح.

6. ﴿عَسَى﴾ فعل درج مضارعه وبقي ماضيه فيقال منه، عسيتما وعسيتم قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ [محمد: 22] ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل فتقول: عسى زيد، كما تقول: قام زيد ومعناه: قرب، قال تعالى: ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: 72] أي قرب، فقولك عسى زيد أن يقوم تقديره عسى قيام زيد أي قرب قيام زيد.

7. معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وهاهنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار، منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم، وحاول قتلكم، فإما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطرا إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة.

8. الحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت، ومنها وجدان الغنيمة، ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.

9. منافع الجهاد التي تتعلق بالدين كثيرة:

أ. منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقربا وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله.

ب. ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين.

ج. ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله.

د. ومنها أن من أقدم على القتال طلبا لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقنا بفضل‏ الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.

10. ثبت بهذا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾

11. الشر السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته، يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف، ومنه قوله: (وحتى أشرت بالأكف المصاحف)‏، والشرر اللهب لانبساطه فعلى هذا الشر انبساط الأشياء الضارة.

12. ﴿عَسَى﴾ توهم الشك مثل (لعل) وهي من الله تعالى يقين، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل، أما إن قلنا بأنها بمعنى (لعل) فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183] قال الخليل: (عسى) من الله واجب في القرآن قال: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ [المائدة: 52] وقد وجد ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ [يوسف: 83] وقد حصل.

13. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ المقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعا أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء كان مكروها للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

14. اختلفوا في السائل في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أكان من المسلمين أو من الكافرين، والقائلون بأنه من المسلمين فريقان:

أ. الأول: الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدا بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع؟ فنزلت الآية، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين.

ب. الثاني: وهم أكثر المفسرين: رووا عن ابن عباس أنّه قال إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين(2).

. وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه:

أحدها: أن أكثر الحاضرين عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كانوا مسلمين.

ثانيها: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ وهو خطاب مع المسلمين وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾.. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ [البقرة: 219، 220]

ثالثها: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾

15. القائلون أن السائل في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ كان من الكافرين قالوا: سألوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام‏ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال‏ ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى بعده قوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194] فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز.

16. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ خفض على البدل من الشهر الحرام، وهذا يسمى بدل الاشتمال، كقولك: أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله، وسلب زيد ثوابه، قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ [البروج: 4، 5]، وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير: يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه، وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع، ونظيره قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: 75] وقرأ عكرمة قتل فيه.

17. ﴿قِتَال فِيهِ﴾ مبتدأ و﴿كَبِيرٌ﴾ خبره، وقوله: ﴿قِتَال﴾ وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله: ﴿فِيهِ﴾ فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله: ﴿كَبِيرٌ﴾ أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: 5]

18. سؤال وإشكال: لم نكر القتال في قوله تعالى: ﴿قِتَال فِيهِ﴾ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6]، والجواب: نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم، بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقا للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب.

19. اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ:

أ. فنقل عن ابن جريج أنّه قال حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع.

ب. وروى جابر قال لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى واسأل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال نعم، قال أبو عبيد: والناس بالثغور اليوم جميعا على هذا القول يرون الغزو مباحا في الشهور كلها، ولم أر أحدا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك أحسب قول أهل الحجاز، والحجة في إباحته قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام.

20. قوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فردا واحدا، ولا يتناول كل الأفراد، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقا في الشهر الحرام، فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه.

21. للنحويين في قوله تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وجوه:

أ. الأول: قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج، أن قوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ كلها مرفوعة بالابتداء، وخبرها قوله: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ والمعنى: أن القتال الذي سألتم عنه، وإن كان كبيرا، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذرا ظاهرا، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 44]، ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2]

ب. الثاني: وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف بالواو على الشهر الحرام، والتقدير: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام، ثم بعد هذا طريقان:

أ. أحدهما: أن قوله: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ خبر بعد خبر، والتقدير: إن قتلا فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله، وبأنه كفر بالله.

ب. الثاني: أن يكون قوله: ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ جملة مبتدأ وخبر، وأما قوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهو مرفوع بالابتداء، وكذا قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه، والتقدير: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير، ونظيره قولك: زيد منطلق وعمرو، تقديره: وعمرو منطلق، وطعن البصريون في هذا الجواب فقالوا: أما قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعا عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا بالله، وهو خطأ بالإجماع، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ﴾ أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر، وهو خطأ بالإجماع.

ج. الثالث: في الآية قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ وجهه ظاهر، وهو أن قتالا فيه موصوف بهذه الصفات، وأما الخفض في قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزنا.

22. اختلفوا في الجر في قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وذكروا فيه وجهين:

أ. أحدهما: أنه عطف على الهاء في به، واعترضوا عليه بأنه لا يجوز العطف على الضمير، فإنه لا يقال: مررت به وعمرو.. وأجيب عن هذا بأنه لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير: وكفر به وبالمسجد الحرام، والإضمار في كلام الله ليس بغريب، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1] على سبيل الخفض، ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولا بالاتفاق، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولا.

ب. الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه عطف على‏ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالوا: وهو متأكد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الحج: 25]، واعترضوا عليه بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية: صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فقوله: عن المسجد الحرام صلة للصد، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزا..وأجاب هؤلاء: لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه هاهنا لوجهين:

الأول: أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى، فكأنه لا فصل.

الثاني: أن موضع قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ عقيب قوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إلا أنه قدم عليه لفرط العناية، كقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4] كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن له أحد كفوا إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا هاهنا.

23. اختلف في معنى الصد عن سبيل الله على وجوه:

أ. أحدها: أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.

ب. ثانيها: صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

ج. ثالثها: صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت.

24. سؤال وإشكال: الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش، وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة، والجواب: ما كان في معلوم الله تعالى كان كالواقع، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلا للرسل، مستحقا للعبادة، قادرا على البعث.

25. ﴿وَالْمَسْجِد الْحَرَام﴾

أ. إن عطفناه على الضمير في‏ ﴿بِهِ﴾ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام، ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع.

ب. ومن قال إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى: وصد عن المسجد الحرام، وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكفين والركع السجود.

26. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ المراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة، وإنما جعلهم أهلا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح: 26] وقال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: 34] فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد.

27. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام، وهذا تفريع على قول الزجاج، وإنما كان كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين:

أ. أحدهما: أن كل واحد من هذه الأشياء كفر، والكفر أعظم من القتال.

ب. الثاني: أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش، وهو ما كان قاطعا بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر.

28. في الفتنة في قوله تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قولان:

أ. أحدهما: هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين، وهو عندي ضعيف، لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك، فإنه تعالى قال ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾.. ﴿أَكْبَرُ﴾ فحمل الفتنة على الكفر يكون تكرارا، بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء.

ب. الثاني: أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وتارة بالتعذيب، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وهذا قول محمد بن إسحاق.

29. الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15] أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده، فصار ذلك مانعا له عن الإنفاق، وقال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1، 2] أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ [طه: 40] وإنما هو الامتحان بالبلوى، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10] والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ [البروج: 10] والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم، وقال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: 101] وقال: ﴿مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 162، 163] وقال: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: 7] أي المحنة في الدين وقال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49] وقال: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: 5] وقال: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 85] والمعنى أن يفتنوا بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم: 5، 6] قيل: المفتون المجنون، والجنون فتنة، إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول.

30. ثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان، وإنما قلنا: إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.

31. روي‏ أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام‏.

32. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ والمعنى ظاهر، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]

33. ما زال يفعل كذا، ولا يزال يفعل كذا، قال الواحدي: هذا فعل لا مصدر له، ولا يقال منه: فاعل ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو عسى ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك: ذو، وما فتئ، وهلم، وهاك، وهات، وتعال، ومعنى: ﴿لا يَزالُونَ‏﴾ أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي‏ فإذا أدخلت عليه: ما، كان ذلك نفيا للنفي فيكون دليلا على الثبوت الدائم.

34. ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى: ليردوكم، ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ وهو واثق بأنه لا يظفر به.

35. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾، قال الواحدي قوله: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللغة من الإدغام، وقوله: ﴿فَيَمُتْ﴾ هو جزم بالعطف على‏ ﴿يَرْتَدِدْ﴾ وجوابه‏ ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾

36. لما بين الله تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم، ذكر بعده وعيدا شديدا على الردة، فقال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ واستوجب العذاب الدائم في النار.

37. ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي.

38. البحث الأصولي هو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة، فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه، والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه، قالوا: لأن من كان مؤمنا ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي، فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال، وإما أن يقال: إن الطارئ يزيل السابق وهذا محال لوجوه:

أ. أحدها: أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارئ، فليس كون الطارئ مزيلا للسابق أولى من كون السابق دافعا للطارئ، بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع.

ب. ثانيها: أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين، كان شرط طريان الطارئ زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال.

ج. ثالثها: أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارئ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع، وإن ازداد أحدهما على الآخر، فلنفرض أن السابق أزيد، فعند طريان الطارئ لا يزول إلا ما يساويه، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية، فيكون ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو محال، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارئ الزائد، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجمع على الأثر الواحد مؤثرات يكون مستقلة وهو محال، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارئ دون البعض، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحا للمثل من غير مرجح وهو محال، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمنا ثم كفر، فذلك الإيمان السابق، وإن كنا نظنه إيمانا إلا أنه ما كان عند الله إيمانا، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيمانا، والكفر كفرا، وهذا هو الذي دلت الآية عليه، فإنها دلت على أن‏ شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة.

39. البحث الفروعي: هو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت:

أ. قال الشافعي: لا إعادة عليه، لأن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر، وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط، فوجب أن لا يصير عمله محبطا، فإن قيل: هذا معارض بقوله: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88] وقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5] لا يقال: حمل المطلق على المقيد واجب، لأنا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيد، فإنهم أجمعوا على أن من علق حكما بشرطين، وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجد، كمن قال لعبده: أنت حر إذا جاء يوم الخميس، أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة: لا يبطل واحد منهما، بل إذا جاء يوم الخميس عتق، ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول.

ب. وقال أبو حنيفة: لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج.

40. سؤال وإشكال: هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية، ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام: الخلود في النار، وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط، وإنما الخلاف في حبط الأعمال، وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه، والجواب:

أ. أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين، لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعا من تعليقه بالآخر، وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثرا في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلا في شيء من الأوقات، فعلمنا أن هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد.

ب. الثاني: جوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة، وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة، وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط.

41. ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئا يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث‏ (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم)، فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.

42. المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال، وإعدام المعدوم محال، ثم اختلف المتكلمون فيه:

أ. فقال المثبتون للإحباط والتكفير: المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي.

ب. وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثوابا فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعا بل يستفيد منه أعظم المضار يقال: إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط، وإما أن لا يكون، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه، وإن كان مجازا وجب المصير إليه، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال.

43. حبوط الأعمال:

أ. في الدنيا، هو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرا ولا ثناء حسنا، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين، ويجوز أن يكون المعنى في قوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة.

ب. أما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة، وعند المنكرين لذلك معناه: أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثوابا ونفعا في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار.

44. ثم بين الله تعالى كيفية تلك المضرة فقال تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

__________

(1) تفسير الفخر الرازي: 6/385.

(2) إلى آخر الأثر سبق ذكره

القرطبي:

ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ﴾ معناه فرض، هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة، والمراد بالقتال قتال الاعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾، ثم أذن له في قتال المشركين عامة.

2. اختلفوا من المراد بهذه الآية:

أ. فقيل: أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي، قال ا بن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك.

ب. وقال الجمهور من الامة: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته، وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي، قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين.

ج. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنّه قال الجهاد تطوع، قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع.

3. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع، قال ابن عرفة: الكره المشقة، والكره ـ بالفتح ـ ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها.

4. إنما كان الجهاد كرها لان فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الاطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى، وقال عكرمة في هذه الآية: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لان امتثال الامر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات.. ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.

5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾:

أ. قيل: (عسى) بمعنى قد، قاله الأصم.

ب. وقيل: هي واجبة، وعسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ﴾، وقال أبو عبيدة: (عسى) من الله إيجاب.

6. المعنى: (عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم)(2)، وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد!؟ وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:

رب أمر تتقيه‏...جر أمرا ترتضيه‏

خفى المحبوب منه‏...وبدا المكروه فيه‏

7. اختلف العلماء في نسخ قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾:

أ. الجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، واختلفوا في ناسخها:

فقال الزهري: نسخها ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾

وقيل: نسخها غزو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

ب. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لان الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق، وروى أبو الزبير عن جابر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى.

8. اختلف في إعراب قوله تعالى: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾:

أ. قيل: قتال بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لان السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه، قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقال القتبي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز؟ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه:

فما كان قيس هلكه هلك واحد...ولكنه بنيان قوم تهدما

وقرأ عكرمة (يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل) بغير ألف فيهما.

ب. وقيل: المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي.

ج. وقال الفراء: هو مخفوض على نية عن.

د. وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار، قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شي من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شي شاذ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان: جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شي من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها، قال ابن عطية: وقال أبو عبيدة: هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ.

هـ. قال النحاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل، وقرا الأعرج يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه بالرفع، قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه؟ فقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس:

أصاح ترى برقا أريك وميضه‏...كلمع اليدين في حبى مكلل‏

والمعنى: أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في (أصاح) تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر: (تروح من الحي أم تبتكر)، والمعنى: أتروح، فحذف الألف لأن أم تدل عليها.

9. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين، والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد.

10. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ابتداء ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ عطف على صد ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على سبيل الله‏ ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ عطف على صد، وخبر الابتداء ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره، وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها.

11. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي بالله، وقيل: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي بالحج والمسجد الحرام، ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ﴾ أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام، وقال الفراء: ﴿صَدَّ﴾ عطف على ﴿كَبِيرٌ﴾، و﴿الْمَسْجِدَ﴾ عطف على الهاء في ﴿بِهِ﴾، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لان المعنى يسوق إلى أن قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي بالله عطف أيضا على ﴿كَبِيرٌ﴾، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين‏ فساده.

12. معنى الآية على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله، وقال عبد الله بن جحش:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة...وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد...وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله‏...لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن غيرتمونا بقتله‏...وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا...بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا...ينازعه غل من القد عاند

13. اختلف في نسخ الآية الكريمة:

أ. قال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ وبقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾

ب. وقال عطاء: لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم.

14. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك، وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام.

15. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة، قال مجاهد: يعنى كفار قريش، و﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ نصب بحتى، لأنها غاية مجردة.

16. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ﴾ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ﴾ أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلا فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.

17. ذكر هنا(3) بعض المباحث المرتبطة بحكم المرتد، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

__________

(1) تفسير القرطبي: ‏3/38.

(2) الكلام هنا لأبي عبيدة

(3) تفسير القرطبي: ‏3/47.

الشوكاني:

ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتب﴾ أي: فرض، بين سبحانه أن هذا: أي: فرض القتال عليهم، من جملة ما امتحنوا به، والمراد بالقتال: قتال الكفار.

2. الكره بالضم: المشقة، وبالفتح: ما أكرهت عليه، ويجوز الضم في معنى الفتح، فيكونان لغتين، يقال: كرهت الشيء كرها، وكرها، وكراهة، وكراهية، وأكرهته عليه إكراها، وإنما كان الجهاد كرها: لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرّض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر وهو قوله: ﴿كَرِهَ﴾ مبالغة؛ ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه، كما في قولهم: الدرهم ضرب الأمير.

3. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ قيل: عسى هنا: بمعنى قد، وروي ذلك عن الأصم، وقال أبو عبيدة: عسى من الله إيجاب، والمعنى: عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من المشقة وهو خير لكم، فربما تغلبون، وتظفرون، وتغنمون، وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شرّ لكم، فربما يتقوّى عليكم العدوّ فيغلبكم، ويقصدكم إلى عقر دياركم، فيحلّ بكم أشدّ مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم، مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة والآجلة.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما فيه صلاحكم وفلاحكم‏ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

5. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ هو بدل اشتمال، قاله سيبويه، ووجه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلّا باعتبار ما وقع فيه من القتال، قال الزجّاج: المعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وأنشد سيبويه قول الشاعر:

فما كان قيس هلكه هلك واحد...ولكنّه بنيان قوم تهدّما

فقوله: هلكه، بدل اشتمال من قيس، وقال الفرّاء: هو مخفوض، يعني قوله: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ على نية عن، وقال أبو عبيدة: هو مخفوض على الجوار، قال النحاس: لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما وقع في شيء شاذّ، وهو قولهم: هذا جحر ضب خرب، وتابع النّحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة، قال النحّاس: ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه: أنه بدل، وقرأ ابن مسعود وعكرمة: ويسألونك عن الشّهر الحرام وعن قتال فيه، وقرأ الأعرج: قتال فيه بالرفع، قال النحاس: وهو غامض في العربية، والمعنى: يسألونك عن الشهر الحرام جائز قتال فيه، وقوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ مبتدأ وخبر، أي: القتال فيه أمر كبير مستنكر.

6. الشهر الحرام: المراد به الجنس، وقد كانت العرب لا تسفك فيه دما ولا تغير على عدوّ، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد.

7. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ معطوف على صدّ، وقوله: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على سبيل الله، وقوله: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ معطوف أيضا على صدّ، وقوله: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ خبر صدّ وما عطف عليه، أي: الصدّ عن سبيل الله، والكفر به، والصدّ عن المسجد الحرام، وإخراج أهل الحرم منه: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: أعظم إثما، وأشدّ ذنبا من القتال في الشهر الحرام، كذا قال المبرد وغيره.

8. الضمير في قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ يعود إلى الله، وقيل: يعود إلى الحج، وقال الفراء: إن قوله: ﴿وَصُدَّ﴾ عطف على كبير، والمسجد: عطف على الضمير في قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ فيكون الكلام منتسقا، متصلا غير منفصل، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: بالله، عطف أيضا على كبير، ويجيء من ذلك: أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله، وهذا بين فساده.

9. معنى الآية على القول الأوّل الذي ذهب إليه الجمهور: أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن الكفر بالله، ومن الصدّ عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه، أكبر جرما عند الله، والسبب يشهد لهذا؟، ويفيد أنه المراد، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم.

10. المراد بالفتنة هنا: الكفر، أي: كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقيل: المراد بالفتنة: الإخراج لأهل الحرم منه؛ وقيل: ﴿هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ‏﴾ إلى آخر الآية.

11. الردة: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بقوله: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر.

12. حبط: معناه بطل وفسد، ومنه: الحبط، وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ؛ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك؛ وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.

13. معنى قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا، فلا يأخذ شيئا مما يستحقه المسلمون، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئا من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله.

14. اختلف أهل العلم في الردّة: هل تحبط العمل بمجردها، أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر؟ والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد.

__________

(1) تفسير الشوكاني: ‏1/249.

القاسمي:

ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ﴾ أي: فرض‏ ﴿عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: قتال المتعرّضين لقتالكم، كما قال ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 190]، المراد بقتالهم الجهاد فيهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوّتهم.

2. قال بعض الحكماء(2): سيف الجهاد والقتال هو آية العزّ، وبه مصّرت الأمصار، ومدّنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وأيّدت الشرائع والقوانين؛ وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر؛ وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالا، وخط الاستواء جنوبا، وجدران الصين شرقا، وجبال البيرنه غربا، فيجب على المسلمين أن لا يتملّصوا من قول بعض الأوروبيين: إن الدين‏ الإسلاميّ قد انتشر بالسيف! فإن هذا القول لا يضرّ جوهر الدين شيئا؛ فإن المنصفين من الأوروبيين يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلّا لحماية الدعوة، وإنما التملص منه يضر المسلمين لأنه يقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل فيستخذون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتبتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدّنها السيف أو القوة، ويجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، لعلّهم يتحفّزون إلى مجاراة الأمم القوية المجاهدة في الأمم الضعيفة.

3. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ من الكراهة، فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقول الخنساء: (فإنما هي إقبال وإدبار) كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، أو هو فعل بمعنى مفعول ـ كالخبز بمعنى المخبوز ـ أي: وهو مكروه لكم، وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال ـ لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح والخوف ـ فلا ينافي الإيمان، لأنّ كراهة الطبع جبلية لا تنافي الرضاء بما كلف به، كالمريض الشارب للدواء البشع، وفي القاموس وشرحه: (الكره) بالفتح ويضمّ: لغتان جيدتان بمعنى الإباء والمشقة، قال ثعلب: قرأ نافع وأهل المدينة في سورة البقرة ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ بالضم في هذا الحرف خاصة، وسائر القرآن بالفتح، وكان عاصم يضم هذا الحرف والذي في الأحقاف: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15]، ويقرأ سائرهن بالفتح، وكان الأعمش وحمزة والكسائي يضمون هذه الحروف الثلاثة والذي في النساء: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: 19]، ثم قرؤوا كل شيء سواها بالفتح، قال الأزهريّ: ونختار ما عليه أهل الحجاز: أنّ جميع ما في القرآن بالفتح إلا الذي في البقرة خاصة، فإنّ القراء أجمعوا عليه!، قال ثعلب: ولا أعلم بين الأحرف التي ضمّها هؤلاء وبين التي فتحوها فرقا في العربية، ولا في سنة تتبع، ولا أرى الناس اتفقوا على الحرف الذي في سورة البقرة خاصة، إلا أنه اسم وبقية القرآن‏ مصادر، قال الأزهريّ: وقد أجمع كثير من أهل اللغة: أنّ (الكره والكره) لغتان، فبأيّ لغة وقع فجائز، إلا الفراء فإنه فرق بينهما بأنّ (الكره) بالضمّ ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه، تقول: جئتك كرها، وأدخلتني كرها، وقال ابن سيده: الكره: الإباء والمشقة تتكلفها فتحتملها، وبالضمّ: المشقة تحتملها من غير أن تكلفها، يقال: فعل ذلك كرها وعلى كره، قال ابن برّي: ويدل لصحة قول الفراء قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [آل عمران: 83]، ولم يقرأ أحد بضم الكاف، وقال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف، فيصير (الكره) بالفتح، فعل المضطر، و(الكره) بالضمّ: فعل المختار.

4. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ـ كالجهاد في سبيل الله تعالى ـ ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ إذ فيه إحدى الحسنيين: إمّا الظفر والغنيمة، وإمّا الشهادة والجنة ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ ـ كالقعود عن الغزو ـ ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر.

5. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ـ ما هو خير لكم‏ ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شقّ عليكم فهو رؤوف بالعباد لا يأمرهم إلا بخير، قال الحرّالي: فنفي العلم عنهم بكلمة (لا) أي: التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب، وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا، قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون ـ أي: الراسخون ـ فقد علّمهم الله من علمه ما علموا أنّ القتال خير لهم وأنّ التخلف شرّ لهم، حتى إنّ علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، حتى شاورهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في التوجه إلى غزوة بدر، فقام أبو بكر فقال وأحسن ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فو الذي بعثك بالحقّ لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له، ثم‏ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس! فقال له سعد بن معاذ الأنصاريّ: والله! لكأنّك تريدنا يا رسول الله! قال أجل، قال فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعلّ الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله‏.

6. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ قال الراغب: السائل عن ذلك، قيل: أهل الشرك قصدا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام، وقيل: هم أهل الإسلام.

7. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ بدل من الشهر، بدل الاشتمال، لأنّ القتال يقع في الشهر، وقال الكسائيّ: وهو مخفوض على التكرير، يريد أن التقدير: عن قتال فيه، وهو معنى قول الفراء: مخفوض بـ (عن) مضمرة، وهذا ضعيف جدا لأن حرف الجرّ لا يبقى عمله بعد حذفه في الاختيار وقال أبو عبيدة: هو مجرور على الجوار، وهو أبعد من قولهما، لأنّ الجوار من مواضع الضرورة والشذوذ ولا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة، وفيه يجوز أن يكون نعتا ل (قتال)، ويجوز أن يكون متعلقا به كما يتعلق بـ (قاتل)، وقد قرئ بالرفع في الشاذ، ووجهه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف معه همزة الاستفهام تقديره: أجائز قتال فيه؟

8. ﴿قُلْ﴾ في جوابهم‏ ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي: أمر كبير مستنكر؛ وقد كانت‏ العرب لا تسفك دما ولا تغير على عدوّ في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، وسنذكر، في تنبيه يأتي، التحقيق في كون تحريم القتال فيها محكما أو منسوخا.

9. سؤال وإشكال: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشرط النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها أن يعاد معرّفا نحو: سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا؟ والجواب(3): في ذكره منكرا تنبيه على أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإنّ قتال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، فقد قال أحلّت لي ساعة من نهار ولم تكن تحلّ لأحد قبلي‏.

10. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: عن دينه الموصل إلى رضوانه، أو عن البيت الحرام، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: سمّى الحجّ (سبيل الله)، قال الحراليّ: و(الصدّ): صرف إلى ناحية بإعراض وتكرّه، و(السبيل): طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكلّ سالك منهجه، وصدّ مبتدأ.

11. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: بالسبيل ـ أعني الدين ـ أو بالله، عطف عليه، ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على‏ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في‏ ﴿بِهِ﴾ أي: كفر به وبالمسجد الحرام.

12. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ أي: أهل المسجد الحرام ـ وهم: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الذين هم أولياؤه ـ وهو عطف على‏ ﴿صَدَّ﴾ أيضا ﴿مِنْهُ﴾ من المسجد الحرام؛ وخبر الأسماء الثلاثة ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ جرما مما فعلته السرية من قتلهم إياهم في الشهر الحرام، لأنّ الإخراج فتنة ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ في الشهر الحرام، أي: فقد فعلوا بكم في المسجد الحرام ما هو أكبر من القتل فيه، وحرمة المسجد كحرمة الشهر هذا، وقيل: خبر ﴿صَدَّ﴾ و﴿كَفَرَ﴾ محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وأشار الرازيّ إلى إعراب آخر وهو: إنّ‏ ﴿صَدَّ﴾ و﴿كَفَرَ﴾ معطوفان على‏ ﴿كَبِيرٌ﴾ أي: قتال فيه، موصوف بهذه الصفات، وعليه ف (أكبر) خبر (إخراج) فقط، وقد جنح لهذا المهايميّ حيث قال في (تفسيره)

13. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ من المعاصي الكبائر كيف (و) هو ﴿صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ‏﴾ أي: عن التجارة التي جعلها الله سبيل الرزق لعباده (و) لو استبيح هذا القتل فهو ﴿كُفْرٌ بِهِ‏﴾ وصدّ عن‏ ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ إذا قتل الحجاج الخارجون في الشهر الحرام، فهذا وجه تحريم القتال في هذا الشهر (و) لكن‏ ﴿إِخْراجُ أَهْلِهِ‏﴾ أي إخراجهم أهل المسجد الحرام وهم النبيّ والمؤمنون‏ ﴿مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾.. إلى آخره، وهذا الوجه من الإعراب بديع، والأكثرون على الأول، قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في تأويل هذه الآية: يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم ـ وإن كان كبيرا ـ فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصدّ عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين ـ الذين هم أهله ـ منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به ـ أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام.

14. قال ابن القيّم في (زاد المعاد): وأكثر السلف فسروا (الفتنة) هنا بالشرك، كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 39] ويدلّ عليه قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23] أي: لم يكن مآل شركهم وعاقبته وآخر أمرهم إلّا أن تبرأوا منه وأنكروه، وحقيقتها أنه الشرك الذي يدعو صاحبه إليه، ويقاتل عليه، ويعاقب من لم يفتتن به، ولهذا يقال لهم وقت عذابهم بالنار وفتنتهم بها: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: 14]، قال ابن عباس: تكذيبكم، وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم وغايتها ومصير أمرها، كقوله: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الزمر: 24]، وكما فتنوا عباده على الشرك، فتنوا على النار وقيل لهم: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: 14]، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ [البروج: 10]، فسّرت الفتنة ـ هنا ـ بتعذيبهم المؤمنين وإحراقهم إياهم بالنار، واللفظ أعمّ من ذلك، وحقيقته: عذّبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، فهذه الفتنة المضافة إلى المشركين، وأمّا الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه ويضيفها رسوله إليه كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: 53]، وقول موسى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: 155] فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشرّ، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب عليّ ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفّين، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا ـ لون آخر، وهي الفتنة التي‏ قال فيها محمد صلّى الله عليه وآله وسلم‏: ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي.. وأحاديث الفتنة ـ التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيها باعتزال الطائفتين ـ هي هذه الفتنة(4)، وتأتي الفتنة مرادا بها المعصية، كقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: 49]، يقوله الجدّ بن قيس لما، ندبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعرضي لبنات الأصفر فإني لا أصبر عنهنّ قال تعالى: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ أي: وقعوا في فتنة النفاق وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر، والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتل في الشهر الحرام، بل أخبر الله أنه كبير وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرّد القتال في الشهر الحرام، فهم أحقّ بالذم، والعيب والعقوبة، لا سيما أولياؤه، كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم، في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد...جاءت محاسنه بألف شفيع

فكيف يقاس ببغيض عدوّ جاء بكلّ قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟

15. اتفق الجمهور على أنّ حكم هذه الآية: حرمة القتال في الشهر الحرام، ثم اختلفوا أنّ ذلك الحكم هل بقي أم نسخ؟ قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في الفصل الذي عقده لما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية، ما نصه: منها محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة، فمكث بها ثم سار إلى خيبر في المحرم كذلك، قال الزهريّ عن عروة عن مروان والمسور، وكذلك قال الواقديّ: خرج في أوّل سنة سبع من الهجرة، ولكن في الاستدلال بذلك نظر، فإنّ خروجه كان في أواخر المحرم لا في أوله، وفتحها إنما كان في صفر، وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أصحابه تحت الشجرة بيعة الرضوان على القتال وأن لا يفروا، وكانت في ذي القعدة، ولكن لا دليل في ذلك، لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام دفعا، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء، فالجمهور جوّزوه وقالوا: تحريم القتال فيه منسوخ، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وذهب عطاء وغيره إلى أنّه ثابت غير منسوخ؛ وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ولا نسخ من تحريمه شيء وأقوى من هذين الاستدلالين، الاستدلال بحصار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم للطائف، فإنه خرج إليها في أواخر شوال فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، فبعضها كان في ذي العقدة، فإنه فتح مكة لعشر بقين من رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة، فخرج إلى هوازن وقد بقي من شوال عشرون يوما ففتح الله عليه هوازن وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصروه عشرين ليلة، وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك، وقد قيل إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة، (قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك) وهذا عجيب منه، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به..؟ وفي (الصحيحين) عن أنس بن مالك في قصة الطائف قال فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنّعوا، وذكر الحديث، فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب، ومع هذا، فلا دليل في القصة لأنّ غزو الطائف كان في تمام غزوة هوازن، وهم بدؤوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالقتال، ولما انهزموا دخل ملكهم ـ وهو مالك بن عوف النضريّ ـ مع ثقيف في حصن الطائف، فحاربت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فكان غزوهم من تمام الغزو التي شرع فيها، وقال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ [المائدة: 2]، وقال في سورة البقرة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام، وليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله ناسخ لحكمها، ولا اجتمعت الأمة على نسخه، ومن استدلّ على النسخ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]، ونحوها من العمومات، فقد استدلّ على النسخ بما لا يدلّ، ومن استدلّ عليه بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدلّ بغير دليل، لأنّ ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام.

16. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ ـ يعني أهل مكة ـ ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ ـ أيها المؤمنون ـ ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ أي: يرجعوكم عن دينكم الإسلام إلى الكفر ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ أي: قدروا على ردّتكم، وفيه استبعاد لاستطاعتهم، فهو كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ، وهو واثق أنه لا يظفر به، وجملة ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ إما معطوفة على‏ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ أو معترضة، والمقصود: تحذير المؤمنين منهم وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين، وفي الآية إشعار بأنكم أحقّ بأن لا تزالوا تقاتلونهم، لأنهم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون، وأنهم على الباطل وهم مخذولون، ولا بدّ وإن طال المدى، لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم، ومن وكل إلى نفسه ضاع، فالأمر الذي بينكم وبينهم أشدّ من الكلام، فينبغي الاستعداد له بعدّته، والتأهّب له بأهبته، فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعنا في الدين، وصدّا عن السبيل، أشار لذلك البقاعي.

17. ثم حذّر تعالى عن الارتداد بقوله: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ وهو الإسلام، وبناء صيغة الافتعال من الردّة المؤذنة بالتكلف، إشارة إلى أنّ من باشر دين الحقّ يبعد أن يرجع عنه، فهو متكلف في ذلك‏ ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي: بطلت جميع مساعيهم النافعة لهم، وردّت‏ ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ ـ إذ يرفع الأمان عن أموالهم وأهلهم ـ ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ ـ إذ يسقط ثوابهم فلا يجزون ثمّة بحسناتهم‏ ﴿و﴾ لا يقتصر عليه بل‏ ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي: أهل النار ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ مقيمون لا يموتون ولا يخرجون كسائر الكفّار.

__________

(1) تفسير القاسمي: ‏2/100.

(2) هذا الكلام يتضمن الكثير من المعاني المعارضة للقرآن الكريم، والمسيئة للإسلام

(3) الكلام هنا للراغب

(4) الصحيح هو أنها الفتنة التي أمر فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالوقوف مع فئة الحق ضد الفئة الباغية

أَطَّفِّيش:

ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ قتال الكفَّار، ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ مصدر بمعنى مكروه، أو وصف بمعنى: مكروه لكم في طبع النفس، أو ذو كره، أو نفس الكره مبالغةً، لِصرف المال والتعب والجراح والموت ومفارقة الأهل والولد، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله ليجرِّب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرِّب أحدُكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجَّاه الله من السيِّئات، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن).

2. ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا﴾ ممَّا كلِّفتم به، ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ دنيا كغَنْم وظَفَر، وأخرًى كثواب وشهادة، ﴿وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ ممَّا نُهيتم عنه للياقته بالطبع، ﴿وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ دنيا كجَلد ورجم وقطع وحبس، وأخرًى كعذاب القبر والبعث والنار والذلِّ والفقر وفوت الأجر، وذلك كالزنى وترك الجهاد، ففي تركه ضعفكم وسبي ذراريكم ونهب أموالكم وحرمان ثواب الآخرة، و(عسى) تليينٌ في الزجر والجلب، والنفس إذا ارتاضت أحبَّت مكروهها وكرهت محبوبها، وأمر الله تعَالَى ونهيه مَصالح، وإنْ لم نطَّلع عليها مشخَّصة، وأمَّا أفعاله فحكم وعدل، ولا نقول: كلُّها مصلحة للعبد.

3. ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ كلَّ شيء؛ فهو عالم بما يَصلح لكم، ﴿وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ إلَّا ما علَّمكم، فبادروا إلى ما أُمرتم به وإلى ترك ما نُهيتم عنه، فليس ينهاكم عن ما هو خير لكم، ولا يأمركم بما هو شرٌّ لكم، وكلُّ ما نهيتم عنه شرٌّ لكم وكلُّ ما أُمرتم به خير لكم.

4. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ﴾ بدل اشتمال، ﴿فِيهِ﴾ عن قتال في الشهر الحرام رجب، أمَرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سَرِيَّة في جمادى الأخيرة قبل بدر بشهرين، ليرصدوا عيرًا لقريش في بطن نخلة فيها عمرو بن عبد الله بن عباد الحضرمي، وهو أوَّل قتيل من المشركين قتله المسلمون، وكذا الأسر والغنم، وهم ثلاثة فقتلوه وأسروا اثنين عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب واحد نوفل بن عبد الله، واستاقوا العير وفيها تجارة الطائف، وفيها زبيبٌ وأدم لأهل الطائف وغير ذلك لقريش، وعلى السَّرِيَّة ابن عمَّته صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد الله بن جحش، وقد كتب له كتابًا وقال له: (لا تنظر فيه إلَّا بعد سير يومين)، فنظر بعدهما وفيه: (لا تكره أصحابك على السير)، وهم ثمانية رجال، منهم واقد بن عبد الله أشرف على أصحاب العير وقد حلَق رأسه، فقال بعض لبعض: (هم عمَّار لا بأس منهم)، فقالت قريش: استحلَّ محَمَّد الشهر الحرام شهرًا يتفرَّق فيه الناس لمعايشهم ويأمنون فيه؛ فشقَّ ذلك على عبد الله بن جحش ومن معه من السَّرِيَّة، وقالوا: لا نبرح حتَّى تنزل توبتنا، وردَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم العير بأحمالها والأسيرين، بالغوا لأنَّهم أبرار، وعدُّوا الخطأ كذنب، أو قبل أنْ يعرفوا أنَّ الخطأ والنسيان معفوٌّ عنهما، ظنُّوا أنَّهم في آخر جمادى وهم في أوَّل رجب، وعن ابن عبَّاس: أخذ الغنيمة والأسيرين ولم يردَّهم، وأنَّهم أوَّل غنيمة، ويُجمع بأنَّه ردَّها بمعنى أوقفها ولم يقبلها ثمَّ قبلها بالوحي، ولا ضُعف في هذا، والسائلون: أصحاب السَّرِيَّة، سؤالَ تحرُّج وتوبة لعلمهم بحرمة القتال في الشهر الحرام، كما قالوا: حتَّى تنزل توبتنا، وقيل: السائلون المشركون سؤالَ جدال، وعيَّروا من في مكَّة من المسلمين، ونسبوا ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يحضر لأنَّهم قومه ومتَّبعوه.

5. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي القتال فيه هو أمر كبير، أو ذنب كبير، إذا فُعل عمدًا، والسَّرِيَّة لم تقاتل عمدًا، وهو حرام من لدن إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والمذهب أنَّ شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، والذي عندي أنَّه شرع لنا، وأنَّه يقدَّم على الاجتهاد ما لم ينافه القرآن أو الحديث أو الإجماع بدليل راجح، ولا خلاف في أنَّه ليس شرعًا لنا إذا صُرِّح في ذلك بخلافه، ولا يصحُّ أنَّ شيئًا شرع لمن قبلنا إلَّا إنْ ذُكر عنهم في القرآن أو الحديث أو الإجماع أو رواه ثقة أسْلم منهم، كعبد الله بن سلَام، وقد قيل إنَّ تحريم القتال في الأشهر الحرُم منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الَاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5]، ولو كان عمومه في المكان لَمَا قيل: إنَّ عموم الأمكنة قرينة عموم الأزمنة، ولأنَّ الإيجاب المطلق يرفع التحريم المقيَّد، والنسخ مذهب الأكثر، وقد قيل: إنَّ الأشهر الحرم في تلك السَّنة لا في السنين بعدها، وقال عطاء: لا نسخ في ذلك لكن إنْ قاتلك فقاتله، وقيل: نسخت هذه الآية ولو كان (قِتَالٌ) نكرةً في الإثبات، كقوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: 14] ولا سيما أنَّها قيِّدت بما تعمُّ به وهو قوله: ﴿فِيهِ﴾، على أنَّه نعتها، أو متعلِّق بها فلمَّا عمَّت صحَّ نسخها بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ إلخ [التوبة: 5].

6. ﴿وَصَدٌّ﴾ مبتدأ خبره مع ما بعده [إلى] (أَكْبَرُ)، أي: منعٌ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ دينِه، ﴿وَكُفْرُم بِهِ﴾ أي: بالله، أي: إشراك بالله، لورود الضمير للمضاف إليه في القرآن بلا شرط كون مضاف كُلًّا، وإنْ ردَّ للسبيل كان كالتكرير، لأنَّ الصدَّ عن السبيل كفر به منهم لإشراكهم، وأمَّا الفاسق فقد يمنع من الشيء مع إيمانه به، وجاز ردُّه إليه لأنَّ فيه تصريحًا بأنَّ الصدَّ عنه كفر به.

7. ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على (سَبِيلِ) أي عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وجاز عطف (كُفْرٌ) على المصدر قبل عطف (الْمَسْجِدِ) على معموله، وهو (سَبِيل)؛ لأنَّ الصدَّ عن سبيل الله فرد من أفراد الكفر به؛ لأنَّه ليس بأجنبيٍّ محض، وعطف على الهاء بلا إعادة جارٍّ لجواز نسبة الكفر إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلِّق بها، وهو منع الناس عن المسجد الحرام نحو: ﴿فَمَنْ يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ [البقرة: 256] أي: بألوهيَّته.

8. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ النبيء والمؤمنين، سمَّاهم أهله لأنَّهم القائمون بحقوقه، أو لأنَّهم يصيرون أهله بعد الفتح، ﴿مِنْهُ﴾ من المسجد الحرام.

9. ﴿أَكْبَرُ عِندَ اللهِ﴾ من القتل والأسر والغَنْم الواقعات من السَّرِيَّة، أو مطلقًا في الشهر الحرام ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ الشرك وإخراج النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين من مكَّة ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ من قتل الحضرميِّ في الشهر الحرام؛ لأنَّهم قتلوه فيه ظنًّا منهم أنَّهم في جمادى، وهو حلال الدم لأنَّه مشرك محارِب.

10. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى﴾ إلى أنْ، أو كيْ ﴿يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُم﴾ إلى الكفر في ظنِّهم واعتقادهم، وخيَّب الله ظنَّهم واعتقادَهم ففشلوا، وماتوا قبل أنْ يَردُّوا المسلمين عن دينهم، وأسلم الكثير.

11. ﴿إِنِ اِسْتَطَاعُواْ﴾ متعلِّق بـ (يَرُدُّوكُمْ)، أو بـ (لَا يَزَالُونَ)، على معنى: يدومون على القتال إنْ استطاعوا الدوام عليه، وما في هذا من الابتذال يزول بالتلويح، إلَّا أنَّهم لا يستطيعون ذلك الدوام بل يفشلون.

12. ﴿وَمَنْ يَّرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ﴾ بقتل أو بلا قتل، ﴿وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَت﴾ بطُلت، قيل: كما تحبط الدابَّة: فسدت بأكل نباتٍ اسمه الحبط، أو أكثرت الأكل في مرعاها فتفسد، أو تموت، ﴿اَعْمَالُهُمْ﴾ أعمالهم الصالحة، وعوقبوا على أعمالهم السيِّئة ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ لا تعتبر لهم فيها بل تلغى، لا يعصم بها ماله الذي في بلد الإسلام، ولا دمه فإنَّه يقتل ولو امرأة، ولا يرث ولا يورث ولا يُمدح، وتَبِين زوجه، وتؤخذ أولاده عنه، ﴿وَالَاخِرَةِ﴾ لا يثابون عليها في الآخرة.

13. ﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ المرتدُّون، ﴿أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وإنْ تاب قبل موته قضى ما فعل قبل ردَّته عندنا وعند أبي حنيفة، وقيل: يُرجَعُ له كلُّه، وقيل: إلَّا الحجَّ فإنَّه يعيده، ولا ترجع له الصحبة إنْ لم يُدركها بعد توبته من الردَّة، وقيل: ترجع له ولو مات صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل توبته، ومذهب الشافعيِّ أنَّه إنْ تاب قبل الموت رجع إليه عمله، وصحَّ له ولم يُعده؛ لأنَّ الله تعالى قيَّد الإحباط بالموت على الردَّة، وعلى هذا القيد يُحمَل إطلاق قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّكْفُرْ بِالاِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: 5].

14. ومذهبنا كمذهب الشافعيِّ في حمل المطلق على المقيَّد، إلَّا أنَّا نقول: قَيْدُ الموت على الردَّة إنَّما هو لاعتبار الإِحباط في الآخرة واستحقاق النار، وعند أبي حنيفة: المطلق لا يُحمل على المقيَّد إلَّا إذا اتَّحد الحادثة والسبب، ودخل المطلق والمقيَّد على الحكم، بخلاف هذه الآية؛ لأنَّ الحكم والسبب ـ وهو الردَّة والكفر ـ وإن اتَّحدَا لكنَّ المطلق والمقيَّد دخلا على السبب، فيجوز أنْ يكون المطلق سببًا كالمقيَّد لإمكان الجمع فيحتجّ بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّكْفُرْ بِالاِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ على أنَّ الحسنات تحبط بنفس الردَّة، والموت عليها ليس بشرط، بناء على أصله من أنَّ المطلق يحمل على إطلاقه، كما أنَّ المقيَّد يحمل على تقييده.

__________

(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/21.

رضا:

ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقول محمد عبده: إن كلامه يفيد أن الآيات نزلت متفرقة، والصواب أن الآيات الثلاث نزلت في قصة واحدة مرة واحدة.

2. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، قالوا: إن هذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة، وقد كان القتال ممنوعا فأذن فيه بعد الهجرة بقوله تعالى في سورة الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ الآيات، ثم كتب في هذه السنة، ونقل عن ابن عمر وعطاء: أن القتال كان واجبا في ذلك الوقت على الصحابة فقط وأن هذا هو المراد من الآية، وذهب السلف إلى أن القتال مندوب إليه واستدلوا بقوله تعالى في سورة النساء: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ وهو مردود بأن القاعدين هنا هم أولو الضرر العاجزون عن القتال لما نطقت به الآية، وأما القاعدون كراهة في القتال فحكمهم في سورة براءة، وقيل: إن القتال يجب في العمر مرة واحدة، وقد انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف الذي كان في القرن الثاني على أن الجهاد من فروض الكفاية إلا أن يدخل العدو بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين.

3. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ عده بعضهم من المشكلات إذ كيف يكره المؤمنون ما يكلفهم الله تعالى إياه وفيه سعادتهم؟ ! وحمله جمهور المفسرين على الكره الطبيعي والمشقة، وهذا لا ينافي الرضى به والرغبة في القيام بأعبائه من حيث إنه مما أمر الله به وجعل فيه المصلحة لحفظ دينه كما قال في آيات الإذن به من سورة الحج: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾

4. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ معناه أن من الأشياء المكروهة طبعا ما تأتونه وأنتم ترجون نفعه وخيره كشرب الدواء البشع المر، ومن الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضر والأذى في نفسه أو من جهة منازعة الناس له فيه.

5. هذا تقرير ما قاله المفسرون، ولكن محمد عبده قال: إنه لا يظهر على هذا معنى وجيه لقوله عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأن هذا مما يعلمه الناس ويتوقعونه لا مما هداهم الكتاب إليه بعد أن كانوا غائبين عنه، والصواب أن ﴿عَسَى﴾ في مثل هذا المقام تفيد أن ما دخلت عليه من شأنه أن يقع، لا أنه مرجو من المتكلم ومتوقع، وأن الكره محمول على غير ما حملوه عليه، ذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث والعرب في قتال مستحر، ونزاع مستمر، وكان الغزو للسلب والنهب من أعظم أسباب الكسب، وكان الصحابة قد ألفوا القتال واعتادوه ومرنوا عليه، فلم يكن عندهم مكروها بالطبع ولكنهم:

أ. كانوا يرون أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، ويخشون أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا، ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه.

ب. ثم وجه آخر: وهو أن كرههم للقتال لم يكن خوفا على أنفسهم أن يبيدوا، ولا على الحق الذي حملوه أن يضيع، وإنما هو حب السلام والرحمة بالناس التي أودعها القرآن في نفوسهم، وثبتها الإيمان في قلوبهم، واختيار مصابرة الكفار ومجادلتهم بالدليل والبرهان دون مجالدتهم بالسيف والسنان، رجاء أن يدخلوا في السلم كافة ويتركوا خطوات الشيطان، وعلى هذا الوجه يظهر من معنى ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ ما لا يظهر في المعنى الذي قبله، ويفيد قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أن قياسكم جميع الكافرين على أنفسكم، وتوقعكم أن يزين لهم من الإيمان ما زين لكم، هو من الأقيسة الباطلة، فإن الاستعداد في الناس يتفاوت تفاوتا عظيما، فمنهم من ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، حتى لم يبق لروح الحق منفذ إلى عقله، ولا لحب الخير طريق إلى قلبه، فلا تنفع فيه الدعوة، ولا ترجى له الهداية ومثل هذا الفريق في الأمة كمثل الدم الفاسد في الجسم إذا لم يخرج منه فإنه يفسده، ولم يأمر الله بقتالهم إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم، فلا يقاسون على من سلمت فطرتهم وحسنت سريرتهم حتى كان وقوعهم في الباطل جهلا منهم بالحق، وإصابتهم بعض الشر لعدم التمييز بينه وبين الخير، وأنتم أيها المؤمنون لا تعلمون كنه استعداد الناس ولا ما يكون من أثره في مستقبلهم، وإنما الله هو الذي يعلم ذلك فامتثلوا أمره.

6. أما معناه على الوجه الأول مما أورد محمد عبده فهو أن سنة الله تعالى قد مضت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأحزابه ما استمسك حزب الله بحقهم فأقاموه ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءه ويطمعهم بالتنكيل بحزبه، حتى يتألبوا عليهم ويوقعوا بهم، وإنه قد سبق في علم الله تعالى أن الله لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وقد علم الله كل هذا وأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدونه في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.

7. من عجيب ما ترى العينان نقل المفسرين بعضهم عن بعض أن المراد بقوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ جميع التكاليف التي أمروا بها، وبقوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا﴾ جميع ما نهوا عنه، ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يكره طبعه وتستثقل نفسه جميع ما أمره الله تعالى به، وتحب جميع ما نهاه عنه، ولكن التقليد يذهل المرء عن نفسه وما تحب وتكره، وعما يراه ويعرفه في الناس بالمشاهدة والاختبار؛ فليتأمل القارئ الفرق بين هذا القول الذي يعرف بطلانه من نفسه، وبين ما قاله محمد عبده، يعرف قيمة استعمال العقل فيما خلق له من غير تقييد بالتقليد، وكم ترك الأول للآخر.

8. بعد ما بين سبحانه أن القتال كتب على هذه الأمة فلا مفر منه، وإن كرهه المؤمنون خشية أن يضيع الحق بهلاك أهله، أو لما أودع القرآن قلوبهم من الرحمة والرجاء بجذب الناس إلى الإيمان بجاذب الدليل والحجة ـ وهو الأرجح ـ بين سبحانه مسألة لا بد في هذا المقام من بيانها للحاجة إلى العلم بها، على أنه وقع السؤال عنها، وهي مسألة القتال في الشهر الحرام، فقد كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقر الناس على غير القبيح مما كانوا عليه، وترك القتال أربعة أشهر من السنة حسن؛ لأنه تقليل للشر؛ لذلك كان لما فعله عبد الله بن جحش وأصحابه وقع سيئ عند المسلمين والمشركين جميعا، على أنهم لم يكونوا يعلمون عند أخذ العير وقتل من قتلوا أن ذلك اليوم غرة رجب، قيل: إن السائلين هم المؤمنون، وقيل: هم المشركون وقد تقدمت الرواية في ذلك.

9. سياق الآية رد على المشركين، وإرشاد للمؤمنين، وهي: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي: عن القتال فيه، وقرئ (عن قتال فيه) بتكرير العامل وقدم ذكره للعناية به، ونكر القتال في السؤال والجواب لتنويعه كأنه قيل: أيصح أن يقع فيه قتال ما؟ ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي: إن أي قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر وقوعه فيه لعظم حرمته، وقال بعضهم: معناه ذنب كبير، وهذا تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، قال ابن جريج: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا على سبيل الدفع، وإن هذا حكم باق إلى يوم القيامة، وقال بعضهم: إنه منسوخ بقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وأنكر بعضهم هذا؛ لأنه نسخ للخاص بالعام وفيه خلاف، وقال آخرون: إن الآية لا تدل ـ وعبارة البيضاوي: والأولى منع دلالة الآية ـ على حرمة القتال في كل الشهر الحرام مطلقا؛ لأن لفظة ﴿قِتَالٍ﴾ فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم، وهذا القول غير ظاهر؛ فإن دلالة الآية على المنع المطلق لا يتوقف على كون لفظ القتال فيها عاما، وربما كانت دلالة النكرة فيها أدل على إطلاق الحكم في كل قتال في جنس الشهر الحرام كما بيناه في معنى تنكيرها وكونه للتنويع، ولهم في الآية كلام كثير.

10. الظاهر المتبادر أن إثبات كون القتال في الشهر الحرام كبيرا تمهيد للحجة على أن ما فعله عبد الله بن جحش وما عساه يفعله المسلمون من القتال فيه مبني على قاعدة لا ينكرها عقل، وهي وجوب ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن بد من أحدهما، ولا شك أن القتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، وإنما يرتكب لإزالة ما هو أعظم منه وذلك قوله تعالى: ﴿وصد على سبيل الله﴾ أي: وصد الناس ومنعهم عن الطريق الموصل إليه تعالى وهو الإسلام، وهو الذي يفعله المشركون من اضطهاد المسلمين وفتنتهم عن دينهم؛ إذ يقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله، ويمنعونه من الهجرة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي: بالله تعالى ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: وصد عن المسجد الحرام؛ وهو منع المؤمنين من الحج والاعتمار ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون، وذلك كقوله في آيات الإذن بالقتال في سورة الحج: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ كل واحدة من هذه الجرائم التي عليها المشركون ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ من القتال في الشهر الحرام فكيف بها وقد اجتمعت!

11. ثم صرح بالعلة العامة لمشروعية القتال، وهي فتنة الناس عن دينهم فقال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ وكان المشركون يفتنون المؤمنين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب، كما فعلوا بعمار بن ياسر وعشيرته، وبلال وصهيب وخباب بن الأرت وغيرهم:

أ. كان عمار يعذب بالنار؛ يكوى بها ليرجع عن الإسلام، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يمر به فيرى أثر النار به كالبرص، وعن أم هانئ قالت: إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله وسمية أمه كانوا يعذبون في الله، فمر بهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: (صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) وفي رواية (صبرا يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت)، مات ياسر في العذاب وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها ـ وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة وهو الذي عهد إليه بتعذيبها ـ فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت وكانت عجوزا كبيرة، وكان أبو جهل يقول لها مع ذلك: ما آمنت بمحمد إلا أنك عشقته لجماله، يؤذيها بالقول كما يؤذيها بالفعل، وكان يلبس عمارا درعا من الحديد في اليوم الصائف يعذبه بحره.

ب. وكان أمية بن خلف يعذب بلالا يفتنه، فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء؛ أي: يضعه على الرمل المحمى بحرارة الشمس الذي ينضج اللحم، ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وتعبد اللات والعزى، فيأبى ذلك، وهانت عليه نفسه في الله عز وجل، وكانوا يعطونه للولدان فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: (أحد، أحد)

ج. وحكى خباب في نفسه قال: لقد رأيتني يوما وقد أوقدت لي نار وضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك (دهن) ظهري.

12. هذا نموذج من فتنة المشركين لضعفاء المسلمين، وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه عز عليهم إبساله فمنعوه حمية وأنفة للقرابة، على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على منعة قومه وعناية الله تعالى به لم يسلم من إيذائهم، فقد وضعوا سلا الجزور (كرش البعير المملوءة فرثا) على ظهره وهو يصلي، وخاف أصحابه تنحيته عن ظهره حتى نحته السيدة فاطمة عليها السلام، وتعرضوا له بضروب من الإيذاء كفاه الله شرها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾

13. هذا ما كان المشركون يعاملون به المؤمنين في حال ضعفهم، ولما هاجروا وكثروا صاروا يقصدونهم بالقتال في مهجرهم لأجل الدين، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾

14. عاد إلى خطاب المؤمنين الذين كانوا يكرهون القتال لما تقدم، فأعلمهم أن أولئك المشركين لا هم لهم إلا منع الإسلام من الأرض، فترك قتالهم هو الذي يبيد الحق وأهله، وانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة، طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحتف بها غيرها من الآثام، كيف وقد قارنها الصد عن سبيل الله والكفر به، والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه، والاعتداء بالقتال والاستمرار عليه.

15. ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ يفيد الشك في استطاعتهم وعدم الثقة بها؛ لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة ـ وهو الحق الصريح ـ لا يرجع عنه إلى الكفر ـ وهو الباطل المفضوح ـ وهكذا كان وهكذا يكون، فلا يزال الكفار يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا، ولم يستطيعوا.

16. لما ذكر الله تعالى الردة التي يبغونها بقتالهم بين حكمها فقال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي: ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر حتى يموت عليه ـ فرضا ـ فأولئك المرتدون هم الذين بطلت وفسدت أعمالهم في الدارين حتى كأن واحدهم لم يعمل صالحا قط؛ لأن الرجوع عن الإيمان إلى الكفر يشبه الآفة تصيب المخ والقلب فتذهب بالحياة؛ فإن لم يمت المصاب بعقله وقلبه فهو في حكم الميت لا ينتفع بشيء، وكذلك الذي يقع في ظلمات الكفر بعد أن هدي إلى نور الإيمان تفسد روحه ويظلم قلبه، فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ولا يعطى شيئا من أحكام المسلمين الظاهرة، فيخسر الدنيا والآخرة، يقول بعض الفقهاء: إن المرتد تبطل أعماله حتى كأنه لم يعمل خيرا قط، وحتى إنه يجب عليه إعادة نحو الحج إذا رجع إلى الإسلام، وتطلق منه امرأته طلاقا بائنا فلا تعود إليه إذا هو عاد إلى الإسلام إلا بعقد جديد، ويقول غيرهم: إن حبوط العمل مشروط بالموت على الكفر؛ فإذا ارتد المسلم مدة ثم عاد لا تجب عليه إعادة نحو الحج، وأما امرأته فإنها تكون موقوفة إلى انتهاء العدة، فإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها كانت على عصمته، وإن عاد بعد انقضاء العدة فإنها لا ترجع إليه بعقد جديد، وللردة أحكام أخرى عند الفقهاء تطلب من كتبهم.

17. معنى الآية ظاهر، وهو أن المرتد لا ينتفع بأعمال الإسلام في دنياه ولا في أخراه، وذلك أن الرجوع عن الدين رجوع عن أصوله الأساسية الثلاثة وهي:

أ. الإيمان بأن لهذا الكون العظيم المتقن في وحدة نظامه وبديع إحكامه، ربا إلها أبدعه وأتقنه بقدرته وحكمته بغير مساعد ولا واسطة، فلا تأثير لغيره في شيء منه إلا ما هدى هو الناس إليه باطراد سننه في الأسباب والمسببات؛ فيجب عليهم أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئا، لا في الدعاء ولا في غيره من معاني العبادة التي بيناها في سورة الفاتحة وغيرها، وهذا الأصل هو منتهى ما يصل إليه ارتقاء العقل البشري في الاعتقاد، وتطهير الأنفس من الخرافات والأوهام.

ب. الإيمان بعالم الغيب والحياة الآخرة، ذلك أن العوالم الحية التي في هذا الكون لا تنعدم من الوجود ولا تنفذ من أقطار ملك الله بما نراه من فساد تركيبها وذهاب صورها، فإذا كان العدم المحض غير معقول، والتحول في الصور مألوفا منظورا فلا غرو أن يكون للناس حياة أخرى في عالم آخر بعد خراب هذا العالم، وهذا الإيمان ركن من أركان الارتقاء البشري؛ لأنه يبعث البشر إلى الاستعداد لذلك العالم الأوسع الأكمل، ويعرفهم بأن وجودهم أكمل وأبقى مما يتوهمون.

ج. العمل الصالح الذي ينفع صاحبه وينفع الناس.

18. هذه الأصول الثلاثة التي جاء بها كل نبي مرسل لا يتركها إنسان بعد معرفتها والأخذ بها إلا ويكون منكوسا لا حظ له من الكمال في دنياه ولا في آخرته، بل يكون من أصحاب النفوس الخبيثة والأرواح المظلمة التي لا مقر لها في الآخرة إلا دار الخزي والهوان، كما قال تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، كأنه تعالى يقول للمؤمنين الكارهين للقتال لا سيما في الشهر الحرام: إذا كان هؤلاء المشركون على ما ذكر من الكفر والطغيان، ومن إيذائكم وفتنتكم عن الإيمان، ومن منع إخوانكم عن الهجرة إليكم بعد طردكم من الأوطان، ومن القصد إلى قتالكم حتى يردوكم عن دينكم لتخسروا دنياكم وآخرتكم فلا ينبغي أن تحجموا عن قتالهم عند الإمكان، ولا أن تحفلوا بإنكارهم عليكم القتال في الشهر الحرام.

__________

(1) تفسير المنار: ‏2/313.

المراغي:

ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين في احتياج إلى مدّ يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان، وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكى منه عضو من الأعضاء، فيؤدى كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام، قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هي السفلى ونشر النور الإسلامي في أرجاء المعمورة لهدى الخلق ومعرفتهم للحق، ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت.

2. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين، إلا إذا دخل العدوّ بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين، وقوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾؛ أي شاقّ عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافى الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المرّ البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة.

3. هذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة، وقد كان القتال محظورا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مدة إقامته في مكة، فلما هاجر إلى المدينة أذن له في قتال من يقاتله من المشركين بقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ ثم أذن له في قتال المشركين عامة، ثم فرض الجهاد.

4. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى، كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه، أو من جهة منازعة الناس له فيه، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، وكفى بذلك خسرانا مبينا، إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدوّ، وحفظ بيضة الإسلام، وترغيب الناس في الدخول فيه، وإعلاء كلمة الحق، والثواب في الآخرة، ومرضاة الله‏ ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

5. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي إذا تصوّرتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم، فاشتغلوا بطاعة الله، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم، وقال بعض المفسرين: المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحقّ وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغرى به أعداءه، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألّب عليه للإيقاع به، وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.

6. بعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها، وهى القتال في الشهر الحرام فقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أيحلّ لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أولا؟

7. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي إن أيّ قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه، مبنىّ على قاعدة ارتكاب أخفّ الضررين إذا لم يكن من أحدهما بدّ، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه، وذلك ما ذكره تعالى بقوله: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي إنّ منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى، وهو الإسلام باضطهادهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تارة أخرى، ومنعهم المسلمين عن‏ المسجد الحرام في الحج والعمرة، وإخراجهم أهله منه، وهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون، وكفرهم بالله تعالى ـ كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فما بالك بها وقد اجتمعت معا.

8. ثم ذكر عزّ اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال، وهى فتنة المؤمنين عن دينهم فقال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بالكيّ بالنار ليرجع عن دينه، وعذّب أبوه وأخوه وأمه، فمرّ بهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ومات ياسر في العذاب، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت، وكان أمية بن خلف يعذب بلالا بالجوع والعطش ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمي بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيأبى ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه، وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فوضعوا سلا الجزور (الكرش المملوء بالفرث) على ظهره وهو يصلى حتى نحّته عنه فاطمة، وتعرّضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرّها كما قال تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم في الدين إن استطاعوا.

9. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ أي إن هؤلاء لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام إذا كان وحده، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله، والاعتداء بالقتال.

10. في قوله: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ استبعاد لاستطاعتهم، وشك في حصولها، وتنبيه إلى سخف عقولهم، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا.

11. ثم بين الله تعالى عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر، ويمت على هذه الحال ـ بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ويخسر الدنيا والآخرة، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة، إذ يقتل عند الظفر به، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم، وتبين منه زوجته، ويحرم الميراث، وأما خسارة الآخرة فيكفى في بيانها قوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

12. الردة تارة تحصل بالقول كإنكار شيء مما علم من الدين قطعا، وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك، وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر، وبه أخذ الشافعي، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾

__________

(1) تفسير المراغي: 2/132.

سيّد:

ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. على هذا المنهج ذاته، يجري الأمر في فريضة الجهاد، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.. إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة، ولكنها فريضة واجبة الأداء، واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم، وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها، وللحق والخير والصلاح.

2. الإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها، ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها، فالإسلام لا يماري في الفطرة، ولا يصادمها، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل.. ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير.. عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها، نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور.. إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا، ووراء المحبوب شرا، إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده، حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة، وعند ما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء.

3. هكذا يواجه الإسلام الفطرة، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف، ولكن مربيا لها على الطاعة، ومفسحا لها في الرجاء، لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها، ويعترف بمشقة ما كتب عليها، ويعذرها ويقدرها؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء.

4. وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة، ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها، وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء، ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ، فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب، وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق.

5. إنه منهج في التربية عجيب، منهج عميق بسيط، منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة، بالحق وبالصدق، لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع.. فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير، وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه، وفيه الشر كل الشر، وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وما ذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وما ذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وما ذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور!؟ إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه، وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه، وإنها لتتركه حين يستجيب لها طبعا في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راض قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان! إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط، في يسر وفي هوادة وفي رخاء، يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال، فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال.

6. إن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير.. إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها، ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها.. إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر.. لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة، لا فئة الحامية المقاتلة من قريش، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش! وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام، فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون! ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما ـ وهو الحوت ـ فتسرب في البحر عند الصخرة، ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا﴾.. وكان هذا هو الذي خرج له موسى، ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا، ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها! وكل إنسان ـ في تجاربه الخاصة ـ يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم، وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوّت عليه هذا المطلوب في حينه، وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها، ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.. إن الإنسان لا يعلم، والله وحده يعلم، فماذا على الإنسان لو يستسلم؟

7. إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية، لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف..

8. ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾.. وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش(2).. وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي بدوس مقدسات العرب، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية، فقطعت كل قول، وفصلت في الموقف بالحق، فقبض الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الأسيرين والغنيمة.

9. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾.. نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة، نعم! ولكن: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾.. إن المسلمين لم يبدؤوا القتال، ولم يبدؤوا العدوان، إنما هم المشركون، هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله، ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، ولقد كفروا بالمسجد الحرام، انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة، وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمنا، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.. وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل، وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام.

10. وضح الله تعالى موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستارا حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة! لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل، وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.

11. إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية ـ كما هي ـ بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد، يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة: لا تجدي على واقع الحياة شيئا! هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدسات وزنا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة، يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام!.. ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام! فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من‏ السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه، يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال، ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة، ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة! إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان! وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني‏ ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾.. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدإ الكريم الذي لا يستحقه! ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلى مستوى الأشرار البغاة، ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار.. وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله.

12. هذا هو الإسلام.. صريحا واضحا قويا دامغا، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور، وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله..

13. يمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة، وتمكين هذه القاعدة، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم.. يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾..

14. هذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل.. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم، فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد، إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد، ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون، ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة، ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام.

15. تتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتا.. أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها.. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

16. الحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت.. والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي.. يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره.. مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ! ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وغرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة ـ مهما بلغت ـ هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة، ثم ملازمة العذاب في النار خلودا.

17. إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا، إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له، وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة، فالله رحيم، رخص للمسلم ـ حين يتجاوز العذاب طاقته ـ أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان، ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله..

18. هذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله، والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله، فهو معوضهم خيرا: إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

__________

(1) في ظلال القرآن: ‏1/224.

(2) إلى آخر الأثر سبق ذكره

الخطيب:

ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. مما ابتلى به المؤمنون أيضا أن كتب عليهم القتال.. فذلك أمر لا محيص لهم عنه، ولا مفرّ لهم منه.. إذ أنهم في وجه عداوة مستعرة بينهم وبين أرباب الضلال، وأهل السوء، فالأخيار مبتلون دائما بأهل السوء، ومن هنا كان هذا الصراع المتلاحم بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، فالقتال فرض لازم على المؤمنين، إن أرادوا أن يكون لهم وجود وأن تكون للحق راية!.

2. القتال أيّا كان، وفي أي وجه يكون، هو مكروه، لا تقدم عليه النفوس إلا متكرهة له، ضائقة به، ولهذا كان قوله تعالى، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ عزاء للنفوس ومواساة في لها في حمل هذا المكروه، وإساغة ما فيه من مرارة، إذ ليس كل ما تستقبل النفوس من مكروه شرا لا خير فيه، وليس كل ما تستقبل من محبوب خيرا لا شرّ معه، فقد يركب المرء المكروه فيحمله إلى مواقع الخير، ويركب المحبوب فيسوقه إلى مهاوى الرّدى!، والأمور دائما بخواتيمها، المحجبة وراء الغيب، والكائنة في علم الله، والمحكومة بقضائه وقدره.. وما فرضه الله علينا فالخير كلّه فيه، وإن اقتضانا جهدا، وحمّلنا أعباء، فإنه لا أجر بلا عمل، ولا عمل إلا ببذل، وعلى قدر المشقة يكون الجزاء: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

3. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ شنّع المشركون على المسلمين لأن قاتلوهم في الشهر الحرام، ووقع في نفس المسلمين شيء من الحرج من القتال في الأشهر الحرم، وجالت في أنفسهم خواطر التساؤلات، فجاءت آيات الله تجلو هذا الموقف، وتكشف هذا الحرج.

4. بيّن القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ موقف المسلمين من حرمة الأشهر الحرم إذا بدأ هم العدو بقتال فيها، وأنه لا حرمة لهذه الأشهر حينئذ، إذ كانت حرمة دمائهم فوق كل حرمة!

5. هنا جاء قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ تحريرا للسؤال الدائر في شعور المسلمين وعلى ألسنتهم.. وقوله تعالى: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ بدل من الشهر الحرام.. أي يسألونك عن الشهر الحرام.. أي يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه.

6. كان قوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ ـ جوابا شافيا لهذا السؤال الحائر، ومفهوم هذا الجواب: أن القتال في الشهر الحرام إثم كبير.. ولكن الصدّ عن سبيل، والكفر بالله وبالمسجد الحرام بما استباح المعتدون من حرمته، وإخراج أهله المؤمنين به من جواره.. كل هذه الحرمات المستباحة أكبر في استباحتها إثما من استباحة القتال في الشهر الحرام.. إذ الفتنة أكبر من القتل، والمشركون يعرضون المؤمنين للفتنة في دينهم بصدّهم عن سبيل الله، وإخراجهم من ديارهم بالبلد الحرام.

7. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ما يكشف للمسلمين عن نوايا العدوان التي يبيتها لهم المشركون، وأنهم مصرّون على قتالهم حتى يبلغوا منهم ما يريدون، وهو ارتدادهم عن دينهم، وعودتهم إلى ما كانوا عليه من شرك، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وما مكّن لهم ضعاف الإيمان من تحقيق ما أرادوا.

8. ثم يتوعد الله سبحانه وتعالى أولئك الذين دخلوا في الإسلام، ثم لما أن مسّهم شيء من البأساء والضراء، ارتدوا على أدبارهم، وارتدوا لباس الشرك من جديد ـ توعدهم سبحانه بالبوار والخسران في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

9. ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ هو قيد وارد على الشرط في قوله سبحانه: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ فالحكم الواقع على المرتد هنا ـ وهو خسران أعماله في الدنيا وعذابه في الآخرة ـ ليس على إطلاقه، وإنما هو لمن ارتد ثم ثبت على ردته إلى أن مات.. أما من نظر إلى نفسه، واستنقذها من الشرك، وعاد إلى الإيمان بقلب سليم، ونفس لوّامة، فقد غسل حوبته بتوبته، ومسح بنور إيمانه على ظلام شركه: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

10. قوله سبحانه: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فهو حكم على حياتهم وهم في لباس الشرك، بالبوار والخسران في الدنيا والآخرة.. أما في الدنيا فلأنهم يعملون في تجارة خاسرة، وإن خيّل إليهم أنهم قد ملئوا أيديهم من دنياهم، وضمنوا السلامة في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فذلك كله إلى زوال، وأما في الآخرة فلأنهم يساقون إليها وقد صفرت أيديهم من كل شيء يعود عليهم نفعه في هذا اليوم، فضلا عما يثقل ظهورهم من أوزار الشرك والضلال.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن:‏1/239.

ابن عاشور:

ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ [البقرة: 214] فقد كلفت به الأمم قبلنا، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داوود، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.

2. لفظ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية، وآل في (القتال) للجنس، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموما عرفيا أي كتب عليكم قتال عدو الدين.

3. الخطاب للمسلمين، وأعداؤهم يومئذ المشركون، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: 39]، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] كما تقدم آنفا.

4. هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جحش، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 180]، فعلى المختار يكون قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ خبرا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله‏ ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ الآية، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده، أو إنشاء أنفا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ إذن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له.

5. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوما للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

6. الكره بضم الكاف: الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكره بالفتح على الأصح، وقيل: الكره بالضم المشقة ونفرة الطبع، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل ما بأذى أو مشقة، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العقيلي:

بكره سراتنا يا آل عمرو...نغاديكم بمرهفة النّصال‏

رووه بضم الكاف وبفتحها.

على أن قوله تعالى بعد ذلك‏ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الوارد مورد التذييل: دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيا من جزئيات أن تكرهوا شيئا، وقد تحمل الزمخشري لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الآخرى على المجاز، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء: (فإنما هي إقبال وإدبار) أي تقبل وتدبر، وقيل: الكره اسم للشيء المكروه كالخبز، فالقتال كريه للنفوس، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح، ولكن فيه دفع المذلّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم، وفي الحديث‏ (لا تمنّوا لقاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا)، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العقيلي:

ونبكي حين نقتلكم عليكم‏...ونقتلكم كأنّا لا نبالي‏

ومعلوم أن كراهية الطبع الفعل لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.

7. إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضى، يحتمل أن تكون جملة ﴿وَهُوَ كُرْهٌ﴾ حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر، ويكون في الآية احتباك، إذ الكلام على القتال، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حبّ لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: 217]

8. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.

9. جملة ﴿وَعَسَى﴾ معطوفة على جملة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، وجملة ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾: حالية من‏ ﴿شَيْئًا﴾ على الصحيح من مجيء الحال من النكرة، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل، لأنه يأمر فيطاع، ولكن في بيان الحكمة تخفيفا من مشقة التكليف، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه، وذلك باعتبار العواقب والغايات، فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح، وشأن جمهور الناس الغفلة عن‏ العاقبة والغاية أو جهلهما، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب.

10. سؤال وإشكال: ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة، وهلا جعل الله تعالى النّافع كلّه محبوبا والضار كلّه مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟ والجواب:

أ. إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين وأراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: 213]

ب. وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كوّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: 25]، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [100]، وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:

ولا فضل فيها للشجاعة والندى‏...وصبر الفتى لولا لقاء شعوب‏

فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.

ج. ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3] وأما حصوله في المعاني، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة، والفضائل جعلت متولدة من النقائص؛ فالشجاعة من التهور والجبن، والكرم من السرف والشح، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه، لأنه يكون أقل من الثلث، إذ ليس كلّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.

د. ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاما لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال: (الدنيا مزرعة الآخرة)

11. بهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضا وكلامنا هذا سندا وانقلابا إلى استدلال.

12. جملة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ تذييل للجميع، ومفعولا ﴿يَعْلَمُ﴾ و﴿تَعْلَمُونَ﴾ محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا، والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه.

13. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهر الحرم إذ كان محجرا في العرب من عهد قديم، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر؛ لأنه من المصالح قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 97] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام.

14. روى الواحدي في (أسباب النزول) عن الزهري مرسلا وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلا ومطوّلا، أن هذه الآية نزلت في شأن سريّة عبد الله بن جحش(2).. فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216] وآية ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالا لما اشتملت عليه الآيتان الآخريان، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة، والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 194]، والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾، وهذا هو المناسب لقوله هنا ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقيل: سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش، فالجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: 216] ظاهرة.

15. التعريف في (الشهر الحرام) تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في‏ قوله: ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله (فيه) يجعلها في قوة المعرفة، فالمراد بيان أيّ شهر كان من الأشهر الحرم وأيّ قتال، فإن كان السؤال إنكاريا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفسارا من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهو لا يختص بشهر دون شهر.

16. إنما اختير طريق الإبدال هنا ـ وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ـ لأجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيها على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لا لأجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآئلان، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام، وهذه نكتة لإبدال عطف البيان تنفع في مواقع كثيرة، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل.

17. تنكير (قتال) مراد به العموم، إذ ليس المسئول عنه قتالا معينا ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس، و(فيه) ظرف صفة لقتال مخصصة له.

18. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف (فيه)، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلّا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد، قال التفتازاني: فالمسئول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن، والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارا من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثوّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض.

19. الكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه القوي في نوعه بعظيم‏ الجثة في الأفراد، لأنه مألوف في أنه قوى، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام، مثل تسمية الذنب كبيرة، وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم‏ (وما يعذّبان في كبير وإنه لكبير) الحديث، والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين، ولا لقتل في شهر دون غيره، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم، لأن المسئول عنه حكم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحا هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسئول عنه وهو الذي وقع التحرج منه، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذ.

20. الآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدّته، وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 97] الآية.

21. تحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ إلى قوله: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: 191، 194]، وأما نسخة فبقوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ إلى قوله‏ ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: 1، 5] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الآخرى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: 13]، ثم إن الله تعالى أجّلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس، لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج‏ المشركون للحج فقال لهم‏ ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة، ثم قال: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ أي تلك الأشهر الأربعة ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق، ولذلك قاتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح، وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.

22. سؤال وإشكال: إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى‏ قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع‏ (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)، فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر، والجواب: إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها، والقتال الظلم محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم، وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال: ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الحجّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة، وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلّا للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج، فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم.

23. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيّة بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرّم لأجل حجها الأشهر الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحرياء بالتحميق والمذمة، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها، وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ (عجبا لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض)، ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق:

أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا...جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم‏

والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثما عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام.

24. العندية في قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ عندية مجازية وهي عندية العلم والحكم، والتفضيل في قوله: ﴿أَكْبَرُ﴾: تفضيل في الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثما، والمراد بالصد عن سبيل الله: منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى: ﴿تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ [الأعراف: 86]، والكفر بالله: الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 6] إلخ، وقوله: ﴿بِهِ﴾ الباء فيه لتعدية ﴿كَفَرَ﴾ وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة، و ﴿كَفَرَ﴾ معطوف على‏ ﴿صَدَّ﴾ أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيرا، و(المسجد الحرام) معطوف على (سبيل الله) فهو متعلق بـ (صد) تبعا لتعلق متبوعه به.

25. مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصدّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قدم قوله (وكفر به) فجعل معطوفا على (صد) قبل أن يستوفي صد ما تعلق به وهو (والمسجد الحرام) فإنه معطوف على (سبيل الله) المتعلق بـ (صد) إذ المعطوف على المتعلّق متعلّق فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلّق به، لأنّ المعطوف على المتعلّق به أجنبي عن المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلّق فهو من صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمّ فالأهمّ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم‏ ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5] فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دلّ عليه الصدّ عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه، ولا يصح أن يكون (والمسجد الحرام) عطفا على الضمير في قوله (به) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد وما هو دين وما يتضمن دينا، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.

26. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ أي إخراج المسلمين من مكة؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، على‏ أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكما يخصه.

27. الأهل: الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ، فمنه أهل الرجل عشيرته، وأهل البلد المستوطنون به، وأهل الكرم المتصفون به، أراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: 34] وقوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ تذييل مسوق مساق التعليل، لقوله: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى، لأن تلك أعظم جرما من جريمة إخراج المسلمين من مكة.

28. الفتنة: التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل، ومنعهم من إظهار عبادتهم، وقطيعتهم في المعاملة، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالؤ على قتل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحدا من رجال المشركين وهو عمرو الحضرمي وأسرهم رجلين منهم.

29. ﴿أَكْبَرُ﴾ أي أشد كبرا أي قوة في المحارم، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.

30. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولها المسلمون والمشركون، إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلّا بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: 39] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتلين بفتح التاء، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة، لأنهم‏ كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله‏ ﴿لا يَزالُونَ‏﴾ وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل، و(حتى) للغاية وهي هنا غاية تعليلية، والمعنى: أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم.

31. ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله: ﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ﴾ ولهذا جاء الشرط بحرف (إن) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.

32. الرد: الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعن، وقد حذف هنا أحد المتعلّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]، وقال: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ [النساء: 89]

33. تعليق الشرط بأنّ للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعد الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردّ واحد من المسلمين عناء باطلا.

34. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا﴾ اعتراض ثان، أو عطف على الاعتراض الذي قبله، والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقّبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة ﴿يَرْتَدِدْ﴾ وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلّا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلّا بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيّ دين ومن يومئذ صار اسم الردة لقبا شرعيا على الخروج من دين‏ الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.

35. فعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثرا بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.

36. حبط الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعا، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾:

أ. فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين، وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]

ب. وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.

37. المراد بالأعمال: الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضا، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلّا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.

38. ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾، وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.

39. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالردة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.

40. سؤال وإشكال: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، والجواب: تلك الآي الآخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ [المائدة: 5] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88] وآية ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتداد المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار.

__________

(1) التحرير والتنوير: 2/303.

(2) إلى آخر الأثر سبق ذكره

أبو زهرة:

ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ بين سبحانه الطريق لدفع الضراء، والآلام الداخلية، وهو التعاون، ثم بين بعد ذلك ما يدفع البأساء، وهى الشدائد التي تدهم الجماعة من الخارج، وهو أخذ الأهبة والاستعداد للقتال؛ فقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وهُوَكُرْهٌ‏﴾ وقد قرئ بضم الكاف وفتحها:

أ. والضم أكثر، وهو بمعنى الكراهة؛ أي القتال لشدة ويلاته وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها ويصح أن يكون كره بمعنى المكروه أي خبز بمعنى المخبوز، أي هو أمر مكروه فى‏ ذاته.

ب. وعلى قراءة الفتح يكون فيه معنى الإكراه، فيكون المعنى عليه: كتب عليكم القتال، وهو أمر أنتم تلجئون إليه إلجاء، وتضطرون إليه اضطرارا؛ إذ إن الكره ضد الطوع؛ فكأنكم لا تدخلون الحرب طائعين، بل تدخلونها مكرهين كارهين، مضطرين غير مختارين، ألجأكم إليها الاعتداء عليكم، وانتهاك الحرمات والفتنة في الدين، فأنتم مضطرون مكرهون على القتال؛ لإزالة الفتنة وصونا للحرمات، وذودا عن الدين؛ تقاتلون حتى يكون الدين كله لله.

2. سؤال وإشكال: الأمر على قراءة الفتح واضح؛ لأن القتال في الإسلام أمر غير مرغوب فيه لذاته، إنما اضطر إليه المسلمون اضطرارا، كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج‏]، وأما على القراءة المشهورة، وهى قراءة ضم الكاف، فكيف كان القتال مكروها، مع أن الصحابة كان الموت في سبيل الله أحب إليهم، وكانوا يرون الشهادة في سبيل الحق غنما وليست غرما؟ والجواب:

أ. قال المفسرون: إن القتال مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد تتلوها شدائد، ومشقات تتلوها مشتقات؛ فلا يمكن أن يكون محبوبا مع ما فيه من صعاب، ومع ما يكتنفه من شدائد، فهو كان مكروها لشدائده، والعافية أحب، ولكن ذلك لا يتفق مع ما عرف عن العرب عامة من أنهم أهل بأس وقوة، وعزيمة ونجدة، ولا ما عرف عن أصحاب محمد خاصة من أنهم كانوا يتنافسون على أماكن الردى، يلقون بأنفسهم في مواطن الموت، لا يهمهم إلا أن يغنموا النصر أو يغنموا الشهادة، ففي كليهما فضل عظيم.

ب. ولذا لا بد أن نبحث عن سبب آخر للكراهة؛ وذلك السبب هو الذي يتفق مع الهدى المحمدي، والمنزع الإسلامي؛ ذلك أن الإسلام أودع قلوب المؤمنين رأفة ورحمة، وإلفا وائتلافا، وسلاما واطمئنانا، وبرا بالرحم، وحنانا على الأقربين؛ وتلك المبادئ لا تلتقى في قلب مع الحب في إزهاق الروح، وقتل النفوس، وإلقاء الحتوف في ميادين القتال؛ فليس من خلق المؤمن المحب للسلام، أن يكون محبا للقتال، ولعله كان من الصحابة من يؤثرون مطاولة المشركين، رجاء إيمانهم، ورغبة في هدايتهم، مساوقا بذلك الهدى الإسلامي؛ ولكن الله سبحانه وتعالى كتب القتال مع هذه الكراهة، لأنه الأهدى سبيلا بعد أن قامت الحجة، ووضحت المحجة، واستطالوا على المؤمنين بالأذى، وأخرجوهم من ديارهم، وألبوا العرب عليهم، وجمعوا الجموع.

3. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ أي عسى أن تكرهوا القتال رحمة بمخالفيكم ورجاء هدايتهم، ورجاء الخير منهم، وهم لا يريدون لكم إلا خبالا، ولو سكتم عنهم لكان أمرهم وأمركم وبالا، وفسدت أمورهم وأموركم، واضطربت حالهم وحالكم؛ فكانوا يغيرون عليكم، وأنتم ساكتون؛ ولو قاتلتموهم وأريتموهم الحق مؤيدا بالسلاح يقمع رؤوس المعاندين المعتدين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويحاولون نشر الفساد، لكان ذلك خيرا لكم ولهم:

أ. ووجه الخير لكم أنه رد الاعتداء، ووقف الأعداء، والذود عن الحياض؛ وأما وجه الخير لهم فهو أنهم عساهم يهتدون؛ فإن الناس أقسام ثلاثة في قبول الحق: نوع يقنعه الدليل ويهديه البرهان، ونوع تجديه الموعظة الحسنة، ونوع جائر بائر طاغ فاسد مفسد لا تجدى فيه الموعظة ولا يقنعه الدليل، فقال الله فيه: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد] فبقتاله قد يسكت عن الشر واللجاجة فيه، ويتدبر الأمر من جديد.

ب. ثم عسى أن تحبوا الأمن والسلام وتؤثروا المحبة على الخصام، وأعداؤكم يتربصون بكم الدوائر، ويرتعون في الشر رتعا شديدا، فلو تركتموهم وأمرهم لكان ذلك شرا لكم، ولكانوا هم قوما بورا، لا يرشدون ولا يسترشدون؛ فمن الرحمة ما تحوى في نفسها أقسى الظلم، ومن الرفق ما يشجع أشد العنف؛ ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فالله يعلم مغيب الأمور ومكنون المستقبل وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه وأنتم لا تعلمون، والله يعلم ما تصلح به أمور الناس في الدنيا والآخرة وأنتم لا تعلمون؛ وأنى يكون علم المخلوق كعلم الخالق، وعلم الناقص كعلم الكامل، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير!.

4. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ هي قضية عامة في كل التكليفات الشرعية يجب أن نقر صاغرين بها، وأن نقبلها طائعين ما دامت قد ثبتت بدليل قطعي لا شبهة فيه، وألا نمكن أهواءنا من التحكم في أمور ديننا، فعسى أن يكون ما نحب شرا، وما نكره خيرا؛ كما يجب ألا نتململ بأحكام الشارع بدعوى معارضتها للمصالح، أو لروح العصر، فقد يكون ذلك هوى لا مصلحة، وفسادا ومضرة، وليس صلاحا ومنفعة!.

5. هذه الآية فيها فرضية القتال؛ وظاهرها أنها تفرض الجهاد على جميع الناس القادرين عليه، وقد قال بعض العلماء لهذا: إن الجهاد فرض عين على القادرين عليه؛ ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية) وقال بعض العلماء: إن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين؛ وقد قال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسلمين، كل بمقدار قدرته؛ وقد ابتلى الله أكثر البلاد الإسلامية بالعدو نزل بساحتها، فالجهاد حق على كل مسلم حتى لا يكون فيها عدو متحكم، وتكون العزة لله ولرسوله، وللمؤمنين.

6. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ شرع الله القتال دفعا للأذى، ومنعا للفتنة، ونصرا للحق وخفضا للباطل، ولقد بين سبحانه أن المؤمنين الذين أرهف وجدانهم ومازج حب البشرية قلوبهم، كرهوه، فقال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ كرهه المؤمنون المخلصون، وتمنوا لو أن قومهم آمنوا طائعين أو كفوا عن أذاهم حتى لا تزهق أرواح، ولا تخضب الأرض بالدماء، ولكن الله سبحانه بين لهم أنه لا سبيل لرفع الحق إلا بعزة أهله، ولا عز له بين المشركين إلا بنور الحق، وبريق السيف، وإن ذلك في مصلحتهم، كما فيه إعلان الحق لهم، ومنع الأذى عن المؤمنين، وزوال الفتنة في الدين، حتى يصير الدين كله لله، يطلبه من يريده حرا، ويريده من يريده مخلصا، لا لوم ولا تثريب، ولا فتنة ولا تعذيب، والمؤمنون الذين كرهوا القتال في ذاته كرهوه أيضا لملابساته، فقد يكون في زمان له حرمة وتقديس، أو في مكان مقدس قد حرم فيه القتال جاهلية وإسلاما، فتتضاعف الكراهة؛ إذ تجتمع الكراهة الذاتية، والكراهة الإضافية لزمان القتال أو مكانه، فبين الله سبحانه ما يطمئن قلوب المؤمنين، وإن من يرد الاعتداء بر لا فاجر، ولو اضطر إلى القتال في الشهر الحرام أو البيت الحرام ولذا قال سبحانه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾

7. الشهر الحرام ـ قد بيناه في تفسير قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة]، وإنه مفرد أريد به الجمع وإن الأشهر الحرم أربعة، هي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وبينا البلاغة التي أدركناها في التعبير بالمفرد في معنى الجمع.

8. ﴿قِتَالٍ فِيهِ﴾ بدل اشتمال من الشهر الحرام، قد وقعت كلمة قتال في موضع الجر على البدلية، والمعنى: أن السؤال عن القتال في الشهر الحرام، لا عن ذات الشهر، وإنما ابتدأ بذكر الشهر لأنه موضع القداسة في نفوسهم، ولأنه أساس التحريم، فالقتال في ذاته لم يعد موضع تفكير، بعد أن اطمأنت قلوبهم إلى أمر ربهم، وأنه سبيل الدفاع عن نفوسهم، إنما موضع السؤال هو القتال في تلك الأزمنة، فابتدئ بذكرها، لأنها الباعث على السؤال: وهو الذي سارع إلى الخاطر، فكان الابتداء به مجاوبة للمسارعة الفكرية بالسبق البياني.

9. من هم الذين سألوا؟ أهم المشركون، فيكون السؤال تشنيعا، أم هم المؤمنون فيكون السؤال تحرجا وتأثما من الوقوع، أو ندما أن فرط ذلك منهم؟ إن ذلك أمر لا يعرف إلا من صحيح الآثار، لقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والبيهقي في سننه بسند صحيح أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا على رأسه عبد الله بن جحش ليتبع عيرا لقريش قبل غزوة بدر(2).. وهذا الخبر يفيد فائدتين:

أ. أولاهما ـ أن تلك السرية قاتلت في الشهر الحرام جاهلة بدخوله، أو مضطرة، وكلتا الحالين تحمل العذر أو المسوغ.

ب. الثانية ـ إن قريشا عيرت المسلمين بذلك وأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم توقف عن التصرف حتى ينزل قرآن فنزل، وعلى ذلك يصح أن يكون السؤال من المشركين، وهو أوضح.

10. مهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه، ولقد قال جابر: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ‏.

11. قال بعض العلماء: إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة]، وبقتال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف فيه، ولكن قال عطاء: إنه لم ينسخ، والحقيقة إنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال، وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختارا قط، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة] ولأن الأشهر الحرام نص عليها في خطبة الوداع، وكل ما جاء فيها غير منسوخ، وقد بينا حكمة تحريم القتال في الأشهر الحرم عند تفسير قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة]

12. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ عير المشركون المؤمنين بأنهم قتلوا أو قاتلوا في الأشهر الحرم مع أنهم كانوا معذورين، لجهلهم بالميقات، أو لدفع الضرر عن أنفسهم بمبادرة عدوهم قبل أن يقتلهم، وما سوغ أحد ترك الدفاع عن النفس إن هاجمه العدو، فرد الله سبحانه قولهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ فهو رد بالموافقة؛ أي أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير على النفوس تستثقله القلوب المؤمنة فكيف إذا كان هو أمرا مكروها في الجاهلية والإسلام؛ لأن الشهر الحرام مقدس في الإسلام، أو يقال إن المعنى القتال فيه ذنب كبير، وعمل خطير؛ لأن فيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس.

13. هذا التسليم ليس لأن المؤمنين جديرون بأن يعيروا، لأنهم معذورون، بل إن التسليم ليأخذ الكفار من نواصيهم إلى الحق، ويبين لهم مقدار ضلالهم وفسادهم، فإذا كان كبيرا وخطيرا وذنبا وإثما قتال في الشهر الحرام لأنه اعتداء عليه هو، فكيف يكون الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، والكفر بالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، وكيف تكون الفتنة في دين الله، وحمل الناس على الخروج منه؟ إن ذلك يكون بلا شك أعظم وأخطر لأنه اعتداء على الله وعلى بيت الله، وعلى الأنفس، وعلى الأهل والعشيرة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ﴾ أي أن هذه الأمور مجتمعة ومنفردة أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومع ذلك ارتكبوها وأخذوا على الناس القتال الشريف اضطرارا في هذا الزمان، والكلام مستقيم تمام الاستقامة على أن السؤال كان من المشركين، والإجابة له مفحمة ملزمة موجهة باعثة على الخير، وإذا كان السؤال من المؤمنين كالسؤال في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾، وكالسؤال فيما يأتى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ إذا كان السؤال من المؤمنين إعلانا لندمهم على صنيعهم، فقوله تعالى: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فيه بيان معذرتهم، وأنهم مضطرون لا مختارون وإن الذين قاتلوهم ارتكبوا معهم الشر بكل صنوفه، فإن أخطأتم غير قاصدين فأولئك ارتكبوا أصناف الشر قاصدين، وهم لا يرقبون فيكم إلّا ولا ذمة.

14. الأصناف التى ذكرها الله سبحانه من اعتدائهم خمسة: هى الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، والكفر بالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، والفتنة فى دين الله:

أ. أما الصد عن سبيل الله فمعناه المنع من سبيل الله، أى السنن المستقيم الذى سنه الله سبحانه وتعالى لخلقه ليسيروا على الفضيلة متآخين متحابين وابتدأ الله ببيان صدهم عن سبيله للإشارة إلى أنهم يعاندون الحق فى ذاته ويمنعون أن تقام العلاقات بين الناس على أسس من الفضيلة، والفعل صد: يستعمل لازما ومتعديا، فيقال: صد عن هذا الأمر أو عن فلان صدودا إذا أعرض عنه وانصرف، ويقال: صده عن هذا الأمر صدا أى منعه وصرفه.

ب. والكفر بالله يشمل الشرك، ويشمل كفر النعم التى غمرهم الله بها وأسبغها عليهم، سواء أكانت مادية ببسط الرزق، أم كانت معنوية بآياته البينات، وبعث الرسالة فيهم تهديهم وترشدهم، وكون الرسول صلى اللّه عليه وسلم منهم‏ ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾

ج. والكفر بالمسجد الحرام عدم شكر الله على نعمته إذ جعلهم فى حرم آمن والناس يتخطفون من حولهم: ﴿أَ ولَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾، ومن الكفر أنه بيت الله ومع ذلك يقيمون عليه الأصنام وهى الأحجار التى يشركونها بالله فى العبادة، ومن الكفر به أن يمنعوا الناس من القيام بحقه فى الزيارة والطواف فى الحج والاعتمار، ومن الكفر أن يؤذوا الناس حوله ويقتلوهم ويفتنوهم عن دينهم فى بطحاء مكة، وهكذا لم يقيموا للبيت‏ أى حرمة ويتمسحون بالشهر الحرام والقتال فيه، فيعيبون ناسا اضطروا إلى القتال غير قاصدين، وقد ارتكبوا هم معهم المنكر والزور.

د. وإخراج أهل المسجد منه، فإن إخراج الآمنين من مستقرهم جريمة كبيرة، وإخراج الساكنين حول البيت أكبر جرما وأعظم إثما؛ لأنه اعتداء عليهم، واعتداء على البيت واعتداء على الأمن الذى بقى لهم من شريعة إبراهيم عليه السلام، إذ قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم‏] فهم تعدد اعتداؤهم عليه: فأزالوا الأمن الذى أوجبه الله، ووضعوا حوله الأصنام، وأخرجوا أهله منه.

هـ. هذه الأمور الأربعة كلها جرائم متتالية، وكل واحدة منها جريمة بذاتها، ولكنها فى مجموعها تساوى جريمة واحدة قائمة بذاتها وهى الفتنة فى دين الله، ولذلك خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر كأنها وحدها تساوى الكل أو تزيد وهى مبعث أكثرها، فقال سبحانه: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، فالفتنة فى دين الله، بإنزال الشدائد بالمؤمنين ليحملوهم على ترك دينهم وتضليلهم وصرفهم عن الحق الذى اختاروه بالمحن والشدائد، وتوهين نفوس الضعفاء ليرتدوا عن دينهم.

15. أصل اشتقاق كلمة الفتنة من الفتن، وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل فى إدخال الإنسان النار، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ أى عذابكم، وتستعمل الفتنة فى الاختبار ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾، وجعلت الفتنة كالبلاء فى أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما فى الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد جاء فيهما قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، وقال فى الشدة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾، ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾

16. الفتنة التى أنزلها المشركون بالمؤمنين، وهم مستضعفون بمكة كانت أكبر من القتل؛ لأنها أذى شديد يلحق الروح، وأذى الروح وبخعها بحملها على الكفر بعد الهداية لا يقل عن القتل، فهذا موت مادى، وذلك موت أكبر وأعظم، ولقد قال تعالى‏ ﴿أَ ومَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها﴾، فالضلال كالموت، بل هو أشد الموت، والهداية حياة أى حياة.

17. الفتنة فوق ذلك محاربة الفضيلة، ومحاربة قيام الجماعة على أسس من الخير فهى تؤدى إلى موت الجماعة؛ لأن حياة الأمم بروابط الفضيلة بين أحدها وكيف يكون قتل واحد أو اثنين أو عشرة مساويا لقتل أمة، وذهاب وحدتها وتحكم الأشرار وسيادة الظلم وانتشار الفوضى!؟ وإن الحرية الدينية هى معنى الإنسانية، فقتلها بالفتنة قتل لأقدس معانى الإنسانية، ولقد كان أولئك المشركون يفتنون المسلمين الأولين عن دينهم بصنوف الأذى، والابتلاء لم يسلم من أذاهم ضعيف أو ذو عصبة، فذوو العصبة كانوا يستهزءون بهم ويثيرون السخرية حولهم، وقد تمتد أيديهم بالأذى إليهم، وقد كانوا يقاطعونهم ويمتنعون عن معاملتهم كما فعلوا ببنى هاشم عند ما ناصروا النبى صلى اللّه عليه وسلم ولم يسلموه إليهم ليقتلوه.

18. كان أشد الأذى بالضعفاء وخصوصا الموالى، وقد حفظ التاريخ بلاء شديدا لكثيرين من المؤمنين أمثال عمار بن ياسر وأبيه وأمه، وقد مات الأب والأم فى العذاب الأليم، وبقى الابن وقد خرج من المحنة مصقول النفس قوى الجنان ثابت الإيمان، وكذلك نزل بخباب بن الأرت وبلال وغيرهم.

19. إن أولئك الذين فتنوا المؤمنين الأولين وهم مستضعفون، ولا يزالون على نيتهم، وقد صار الإسلام فى عزة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ فهؤلاء المشركون أعداؤكم لا تأخذكم بهم هوادة، ولا تجعلوا لهم عندكم إرادة، لأنهم أعداء دينكم، فتنوكم فيه فى الماضى، وأخرجوكم من دياركم، وما زالوا على هذه النية فى الحاضر، لا يودون لكم إلا خبالا، وهم دائما فى قتال معكم، فالتعبير بالفعل الدال على الاستمرار مع التعبير بالمضارع يدل على الدوام والبقاء، فهم مستمرون على القتال معكم، وأنتم معهم فى قتال دائم، فإن قاتلتموهم فى الشهر الحرام، فأنتم لم تبتدءوهم، بل هم الطغاة المبتدءون، وإن تركتموهم لم يتركوكم، وإن تركتموهم زمنا فقد مكنتموهم من فرصة ينتهزونها، وسهلتم لهم رغبتهم التى يضعونها نصب أعينهم وهى أن يردوكم عن دينكم.

20. بين الله سبحانه أيضا غايتهم من هذا القتال، وأمنيتهم التى يتمنونها، وهى أن يردوكم عن دينكم الذى ارتضيتم؛ لأنهم رأوا أن هذا الدين يهدم طغيانهم، ويأتى بنيانهم من قواعده، ولأنه دين الفضيلة وهم أعداؤها ودين المساواة وهم لا يحبونها، ودين العدل وهم لا يرتضونه، ودين النور وهم يطمسونه، لكن الله سبحانه وتعالى لا يمكنهم وهو ناصركم، ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾

21. عقب الله سبحانه وتعالى الجملة الكريمة بقوله: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، والتعبير ب (إن) يفيد الشك فى قدرتهم، بل إن الزمخشرى يقول إن قوله تعالى: ﴿إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ دالة على عدم قدرتهم على ذلك أو استبعاد ذلك، فهو كقول الرجل لعدوه، لا تبق علىّ إن ظفرت بى وهو واثق أنه لن يظفر به، وكأنه قيل لهم وأنى لهم أن يستطيعوا ذلك، والله محيط بهم، ولهذا الدين رب يحميه، ولن يذل قوم الله ناصرهم!

22. بيد أنهم إن عجزوا عن ذلك بالنسبة للجماعة فلن ترد تلك العصابة المطهرة عن دينها، قد يميل معهم من يكون فى قلبه مرض، أو فيه ضعف، أو لم يكن قوى الإيمان بحيث يصبر على المحن، وتصقله التجارب، وتضى‏ء قلبه الشدائد، ولقد حذر الله سبحانه وتعالى أولئك الضعفاء، فقال تعالت كلماته: ﴿وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ وأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ‏﴾ بين الله سبحانه وتعالى فى تلك العبارات السامية حال من يرتد، ويستمر على ردته إلى أن يموت، ولقد أشار في قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾ إلى أنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين، وهى أن يردوكم أجمعين، بل أقصى ما يصلون أن ينالوا ضعيف الإيمان، فيعيدوه إليهم ولا خير فيهم ولا فيه، والنار أولى بهم جميعا.

23. ذكر الله سبحانه وتعالى الردة عن الدين وحكمها، والردة أن يكفر بالله بعد إذ آمن، أو بالرسول بعد أن أذعن لما جاء به أو ينكر شيئا مما جاء بالكتاب من أخبار النبيين، أو الأعمال التكليفية، وبالجملة ينكر شيئا مما علم من الدين بالضرورة، ولقد عقب الله سبحانه وتعالى الردة بالموت كافرا غير مؤمن؛ ولذا عطف بالفاء، وكأن الردة يترتب عليها الموت كافرا، وذلك لأن الشخص إذا كان مضطربا غير مستقر، يؤمن ثم يكفر، ليس من شأنه أن يموت مستيقنا ثابتا قارا على حال، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ فالمضطرب العقيدة يغلب عليه ألا يموت مستقرا على حال، بل يموت كافرا، وإذا كان الشرع الإسلامى قد أوجب استتابة المرتد فلكيلا يكون ثمة عذر فى قتله، ولقد منع الإمام مالك استتابة الزنادقة لكيلا يتخذوا التوبة الظاهرة ذريعة لدسهم الخبيث.

24. ذكر الله سبحانه جزاء المرتدين، فذكر عقوبتين:

أ. إحداهما: بطلان أعمالهم الصالحة فى الدنيا، فلا يكونون أمام الناس مؤمنين، وفوق ذلك تفسد نفس المرتد، فيذهب عنه نور البصيرة الذى يستفيده بالإيمان، فإن العقيدة الصحيحة توجه الفكر والعمل توجيها صحيحا يكون إشراقا فى العقل، واستقامة فى الأفعال والأقوال، وفوق ذلك يفقد المرتد الثقة بنفسه وثقة الناس به، وأما بطلان أعماله فى الآخرة فبعدم الجزاء عليها، وهو النعيم المقيم الذى خصص للمتقين، وعبر عن بطلان أعمال المرتدين بقوله تعالى: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ وأصل الحبط من الحبط وهو أن تأكل الدابة أكلا حتى تنتفخ بطنها، فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها، وكذلك الأعمال التى يحبطها الله يكون فسادها من صاحبها وتكون ضررا له وقد كان الأصل أن تكون خيرا.

ب. الثانية: ملازمة النار فى الآخرة والخلود، ولذا قال سبحانه: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أن هذا التعبير فيه تأكيد نزول العذاب بهم من ثلاثة وجوه:

أولها ـ الإشارة إلى سببه، فإن الإشارة فى قوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى هؤلاء الذين يرتدون باضطراب قلوبهم وفساد خلقهم، وذكر السبب مع الحكم تأكيد له.

الثانى ـ أنه ذكر أنهم ملازمون للنار ملازمة الصاحب لصاحبه، وكأنهم مختصون بها وهى مختصة بهم.

الثالث ـ التعبير بالجملة الاسمية مع التأكيد بضمير الفصل، وإن ذلك التعبير السامى كثير الورود فى كتاب الله تعالى فى مقام العقاب ومقام الثواب، والتعبير عن العقاب والثواب بالنسبة للكافرين والمؤمنين بالخلود، يدل على الدوام السرمدى والبقاء الابدى؛ لأن ذلك صريح، ولكن فهم بعض العلماء أن المراد طول المدة لا البقاء الدائم، وأولئك يحسبون أن عذاب النار غير دائم، وذلك لا دليل عليه بل عبارات القرآن صريحة قاطعة، وأحاديث النبى صلى اللّه عليه وسلم لا تقبل الشك فى دلالتها. وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا.

25. إن أولئك المشركين قد اعترضوا على القتال فى الشهر الحرام مع أنهم المعتدون ولا يبغون إلا أن يرتد المؤمنون عن دينهم، وقد تألم المجاهدون لقتالهم فى الشهر الحرام مع أنهم مدافعون، ولم يكونوا قاصدين القتال فيه وقد رد الله سبحانه كيد الضالين فى نحورهم، وبين عقاب من يجيبون رغبتهم.

__________

(1) زهرة التفاسير: ‏2/681.

(2) إلى آخر الأثر سبق ذكره

مُغْنِيَّة:

ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، فرض الله القتال على المسلمين لا لأنه مطلوب ومحبوب‏ لذاته، ولا ليتسع ملكهم، ويمتد سلطانهم، ويعيشوا على حساب غيرهم من الشعوب، وإنما فرضه عليهم لنصرة الحق، والدفاع عنه، فان الحق من حيث هو ليس إلا مجرد فكرة ونظرية، أما تطبيقها والالتزام بها فيحتاج الى العمل الجاد، وهو أولا الدعوة بالحكمة، والطرق المألوفة، فإن لم تجد وجب تنفيذ الحق بالقوة.. وأية نظرية لا تعتمد على القوة التنفيذية فوجودها وعدمها سواء، ومن أجل هذا فرض الله على المسلمين في هذه الآية وغيرها جهاد كل معتد على الحق، حيث لا يجدي معه الأمر بالمعروف والموعظة الحسنة.. ولولا السلطة التنفيذية لكانت السلطة التشريعية مجرد كلام ملفوظ أو مكتوب.

2. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، قال المفسرون: ان أصحاب الرسول كرهوا القتال، لأن الإنسان بطبعه يشق عليه أن يعرض نفسه للهلاك، ولكنهم في الوقت نفسه يستجيبون لأمر الله تعالى طلبا لمرضاته، تماما كالمريض يشرب الدواء بغية الشفاء، وان الله سبحانه قد نبههم بقوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الى أن ثمرة القتال والجهاد تعود اليهم، لا اليه.. هذا ملخص ما قاله أهل التفاسير، وظاهر اللفظ يتحمله ولا يأباه.

3. لكن إذا نظرنا الى سيرة الأصحاب الخلص وبطولاتهم في الجهاد والفداء من أجل الدين، وسيطرته على مشاعرهم، وكيف استهانوا بالحياة طلبا للاستشهاد، حتى ان من كان ينجو من القتل، ويرجع من الجهاد سالما يرى نفسه شقيا سيء الحظ ـ إذا نظرنا الى هذه الحقيقة، وأدخلناها في حسابنا، ونحن نفسر هذه الآية نجد ان ما قاله المفسرون من كراهية الأصحاب للقتال غير وجيه، وانه لا بد من تفسير الآية بمعنى آخر يساعد عليه الاعتبار، ويتحمله اللفظ، ويتلخص هذا المعنى في أن الأصحاب كانوا يرون أنفسهم دون المشركين عدة وعددا، فخافوا إذا قاوموهم بالقوة أن يهلكوا عن آخرهم، ولا يبقى للإسلام من ناصر، وتذهب الدعوة الاسلامية سدى.. فكراهيتهم للقتال جاءت من الخوف على الإسلام، لا على أنفسهم، فبين الله لهم ان القتال الذي دعيتم اليه، وكرهتموه هو خير لكم وللإسلام، وان القعود عنه يؤدي الى ذهابكم وذهاب الإسلام.. وأنتم تجهلون هذه الحقيقة، ولكن الله بها عليم، لأنه لا تخفى‏ عليه خافية، فالآية أشبه بقوله جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾

4. ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، كان العرب يحرمون القتال في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذه العادة، لأن فيها تقليلا للشر وسفك الدماء، وقد أقر الإسلام بوجه عام كل عادة مستحسنة أو غير قبيحة كانوا عليها في الجاهلية، ولكن العرب الذين كانوا يقدسون هذه الأشهر قد انتهكوا حرمتها، وأعلنوا فيها الحرب على الرسول سنة ست من الهجرة، وصدوه مع أصحابه عن زيارة بيت الله الحرام، وفتنوا من أسلم عن دينه، وعذبوه بشتى أنواع العذاب طوال ثلاثة عشر عاما، كما فعلوا ببلال وصهيب وخباب وعمار بن ياسر وأبيه وامه، حتى إذا أراد المسلمون أن يدافعوا عن أنفسهم، أو يقتصوا من المشركين في الأشهر الحرم رفع هؤلاء عقيرتهم بالدعاية المضللة، وأظهروا المسلمين بمظهر المعتدي على المقدسات، فبيّن الله سبحانه ان الجرائم التي ارتكبها المشركون في حق المسلمين هي أكبر وأعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، ومن أجل هذا أباح للمسلمين قتال المشركين في أي مكان وزمان يجدونهم فيه عملا بمبدإ القصاص، والمعاملة بالمثل.

5. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، أي فتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب تارة، ومحاولة إلقاء الشبهات في قلوبهم تارة أخرى، هذه الفتنة أشد جرما من القتال في الشهر الحرام.

6. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، فالهدف للمشركين ان لا يبقى للإسلام عين ولا أثر على الكرة الأرضية، ومن أجل هذا وحده يقاتلون المسلمين، ويداومون على قتالهم، فإذا كره المسلمون قتال المشركين تحقق الهدف الذي يبتغيه أعداء الدين.

7. لا زالت هذه الروح الكافرة العدائية لكل ما فيه رائحة الإسلام، لا زالت‏ حية الى اليوم في نفوس الكثيرين من الشرقيين والغربيين، لأن الإسلام بإنسانيته وعدالته، ومقاومته للبغي والفساد هو السبب الأول للعداء، ولهذا وحده يضمرون لأهله كل شر، ويحاربونهم بشتى الوسائل، ويتفننون فيها حسب ما تقتضيه الظروف والتطورات.. وعلينا أن نتنبه لهؤلاء الأعداء، ونقاتلهم بنفس السلاح الذي يقاتلوننا به.

8. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، هذا تحذير وتهديد من الله سبحانه لمن يستجيب لأعداء الدين، ويرتد عن دينه فإنه بذلك يخسر الدنيا والآخرة، ومآله جهنم وبئس المصير.

9. قوله تعالى: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ يدل بصراحة على ان المرتد إذا تاب قبل الموت يقبل الله منه، ويسقط العقوبة عنه، والعقل حاكم بذلك.. ولكن فقهاء الشيعة الإمامية قالوا: إذا كان المرتد رجلا، وكان ارتداده عن فطرة ثم تاب يسقط عنه العذاب الاخروي، أما العقوبة الدنيوية، وهي القتل، فلا تسقط بحال، اما إذا تاب المرتد عن ملة فيسقط القتل عنه مستندين في هذا التفصيل الى روايات عن أهل البيت عليه السلام، ومعنى حبط الأعمال في الدنيا انه يعامل معاملة الكافر، بالإضافة الى استحقاق القتل، أما الحبط في الآخرة فالعذاب والعقاب.

10. إذا تاب المرتد، وعاد الى الإسلام قبل موته يقبل الله توبته بحكم العقل، وبظاهر قوله تعالى: ﴿فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ حيث قيد إحباط العمل بالموت على الكفر، ويتفرع على ذلك مسألتان:

أ. الأولى: هل تصح العبادة، كالصلاة والحج والصوم والزكاة، من المرتد بعد عودته الى الإسلام أو لا؟ وقد اتفق فقهاء السنة على انها تصح وتقبل منه، واتفق فقهاء الشيعة على انها تقبل من المرتد عن ملة بعد إسلامه، واختلفوا في صحتها من المرتد عن فطرة بعد عودته الى الإسلام، فذهب أكثرهم الى انها لا تصح منه بحال، وان إسلامه بعد الارتداد لا يجديه شيئا في الدنيا أبدا، بل يعامل معاملة الكافر، وإنما ينفعه إسلامه بعد الارتداد في الآخرة فقط، حيث يسقط عنه العذاب.. وقال المحققون منهم، ونحن معهم: بل تصح عبادته، وينفعه إسلامه، ويعامل معاملة المسلم دنيا وآخرة.

ب. الثانية: هل يجب على المرتد أن يقضي بعد عودته الى الإسلام ما كان قد أتاه من العبادة قبل أن يرتد، فلو كان قد صلى وحج، وهو مسلم، ثم ارتد، ثم تاب، فهل عليه أن يعيد الصلاة والحج بعد العودة الى الإسلام؟ قال الحنفية والمالكية: يلزمه القضاء، وقال الشافعية: لا يلزمه، أما فقهاء الشيعة الذين قالوا بصحة عبادة من تاب بعد أن ارتد فإنهم ذهبوا إلى أنه لا يقضي شيئا مما كان قد أتى به من العبادة حال الإسلام، وقبل الارتداد، وإنما يقضي خصوص ما فاته أثناء الارتداد فقط.

11. قال جمهور المعتزلة، ومن وافقهم، ان المؤمن المطيع يسقط ثوابه المتقدم بكامله إذا صدرت منه معصية متأخرة، حتى ان من عبد الله طول عمره، ثم شرب جرعة من خمر فهو كمن لم يعبد الله قطّ.. وكذا الطاعة المتأخرة تسقط الذنوب المتقدمة، وهذا هو معنى الإحباط، واتفق الامامية والاشاعرة على بطلان الإحباط، وقالوا: لكل عمل حسابه الخاص، ولا ترتبط الطاعات بالمعاصي، ولا المعاصي بالطاعات.. بل من‏ يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.. فمن أساء وأحسن، وهو مؤمن بالله يوازن بين حسناته وسيئاته، فان كانت الاساءة أكثر كان كمن لم يحسن، وان كان الإحسان أكثر كان كمن لم يسئ، إذ الأكثر ينفي الأقل، وان تساويا كان كمن لم يصدر عنه شيء، والإحباط بعيد عن هذا المعنى كل البعد، ومعناه الصحيح ان من مات على الكفر بعد الإسلام يكشف كفره هذا عن ان أعماله التي أتى بها حين إسلامه لم تكن على الوجه المطلوب شرعا، ولا يستحق عليها شيئا منذ البداية، لا انه استحق الثواب، ثم ارتفع ونسخ بعد ثبوته، بل هو من باب الدفع، لا من باب الرفع.

__________

(1) التفسير الكاشف: 1/323.

الطباطبائي:

ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾، وغير ذلك من الآيات والأدلة.

2. لم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.

3. الكره‏ بضم الكاف المشقة التي يدركها الإنسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، والكره‏ بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كان يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه قال تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، وكون القتال المكتوب كرها للمؤمنين:

أ. إما لأن القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضار المالية وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أن فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، ومعلوم أن من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

ب. وإما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الإسلام والمسلمين، وأن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإن لله أمرا في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا وجه آخر.

ج. وإما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك، بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفار من الهلاك الأبدي والبوار الدائم، فبين ذلك أنهم مخطئون في ذلك، فإن الله ـ وهو المشرع لحكم القتال ـ يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، وأنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمى به، وهذا أيضا وجه.

4. هذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: (﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ إلا أن الأول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.

5. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، قد مر فيما مر أن أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

6. تكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطئهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم)، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، وأما من أخطأ خطاءين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطئه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا وهو خير لك وعسى أن تحب شيئا وهو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، نبههم الله بالخطئين بالجملتين المستقلتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبوا.

7. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، تتميم لبيان خطئهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطئهم في كراهتهم للقتال بقوله: ﴿عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا﴾، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، وزوال صفة الجهل المركب كر عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلموا إليه سبحانه الأمر.

8. الآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفي العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾

9. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمه بأنه صد عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أن إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأن الفتنة أكبر من القتل، يؤذن‏ بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأن هناك قتلا، وأنه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه.

10. ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، الصد هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

11. الآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وليس بصواب، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

12. ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، أي والذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين، وهم أهل المسجد الحرام، منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

13. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ إلى آخر الآية ﴿حَتَّى﴾ للتعليل أي ليردوكم، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الآية، تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار.

14. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بإحباط الأعمال، وما يتعلق بها من مسائل، وقد نقلناها إلى محلها من السلسلة.

15. في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كنت رديف رسول الله ص فقال يا ابن عباس ـ ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك ـ فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرأت القرآن؟ قال:‏ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ في الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإنما يختلف باختلاف الاعتبار، وأما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مر أن‏ عسى‏ في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شيء في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب! وأعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أن كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾، وفي بني إسرائيل‏ ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾

16. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.

__________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ‏2/164.

الحوثي:

ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي فرض عليكم، كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ أي تكرهه النفوس من الناحية الطبيعية، وهذا هو الأصل في الطبيعة ولا ينافيه رغبة السابقين فيه؛ لأنهم يرغبون فيما يشق عليهم رغبة في فائدته، فهو مكروه من ناحية المشقة، مرغوب من ناحية الفائدة.

2. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي يقرب أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم لأن الكره يكون لما يشق على النفس وإن كانت فيه فائدة عظيمة إذا كانت مغيبة يجهلها الإنسان أو يغفل عنها والنفس مولعة بحب العاجل، فالإنسان بطبعه يكره فراق بيته وأهله وماله وأصحابه ولا يدري يعود إليهم إذا ذهب للجهاد أم لا، مع أن الجهاد في سبيل الله خير له.

3. ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لأن نفوسكم تنظر إلى وجه الرغبة وتجهل ما فيه من الشر أو تغفل عنه.

4. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأنه علام الغيوب؛ فهو يعلم الشيء في حال أنا لا نعلمه لكثرة ما نجهل؛ وما أوتينا من العلم إلا قليلاً، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما هو الخير لنا وما هو الشر، ونحن نجهل كثيراً من ذلك، فما دلنا عليه من الخير كالجهاد في سبيله؛ فعلينا أن نؤمن بخيره ونرغب فيما دلنا عليه لأنه الخير في الواقع وإن شق على النفوس؛ لأن المشقة تنتهي وتبقى الفائدة أبداً.

5. قال الشرفي في (المصابيح): (وقال ـ أي الإمام القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (هذا نص صريح في أن الجهاد فريضة من الله وإن كان كرهاً للناس)، وقد دل القرآن على وجوب الجهاد في هذه الآية وفي غيرها، ودل على أنه من شأن المؤمن.. الفارق بينه وبين مدّعي الإيمان.. وإنما آمن بلسانه دون قلبه، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:14 ـ 15] وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء:76]

6. هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ ترد على من يمنّي نفسه أن قد قام بفريضة الجهاد؛ لأنه يجاهد نفسه وهو الجهاد الأكبر، أو لأنه يجاهد بقلمه، ويحتج فيما يكتب على بطلان أقوال الكفار، ويدافع عن الإسلام بقلمه ولسانه، وهذا كله وإن كان جهاداً فهو لا يكفي عن بذل النفس في سبيل الله، وإذا صدق في جهاد نفسه فمنه بيعها من الله وحملها على القتال في سبيل الله، وتعريضها للقتل أو الغلبة؛ للقيام بما فرض الله عليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة:111]

7. من الناس من يقول: لو كان جهاد لجاهدت، ويظن أن نيته لذلك تكفيه دون أن يعمل لتحصيل الأنصار والقوة؛ بل يكتفي بانتظار اجتماع جيش ذي عدة ولعل الآخرين مثله، كل منهم ينتظر وينوي أن يجاهد إذا جاء جهاد.

8. لعل كثيراً من الناس لو علم وجوب الجهاد وإعداد القوة لاستعد للجهاد ولكن الناس لا يذكرون له الجهاد ولا يأمرونه بالإعداد، فهل الجهاد يأتي الناس وهم قاعدون لا يدعو إليه أحد ولا يستعد له أحدٌ كما يأتيهم شهر رمضان، وشهر الحج، وأوقات الصلاة! إذاً فانتظار الجهاد كانتظار الصلاة، أما إذا كان الجهاد لا يكون إلا بالاجتماع له والإعداد له والتداعي إليه والتواصي به والحث عليه والتخويف من الاتكال على الأعذار فإنه يلزم الذين يريدون امتثال أمر الله والقيام بفرضه تحصيل ما لا يتم إلا به، والتماس الأنصار والقوة، والعمل على جلب المحبة والإخاء وتأليف القلوب للقيام بالواجب، وأن يحذروا أن يكونوا كمن أمر بطلوع السطح فقال لا أستطيع ليس عندي سلم؛ وهو يستطيع التماس السلم والصعود عليه، وليعتبروا بالإمام القاسم بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم في جهاده وصبره ومصابرته حتى انتصر، وكذلك الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وكذلك الناصر الأطروش، وغيرهم من أئمة الهدى الذين باعوا أنفسهم من الله صادقين.

9. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ ما حكمه؟ وما حرمته؟ أي هل يجوز القتال فيه؟! ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إثم عظيم ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قوله تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وما عطف عليه مبتدأُ؛ خبره قوله: ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾

10. ﴿وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أي بالله ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي صد عن المسجد الحرام ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ هذه الأربع الجرائم كلها ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ من القتال في الشهر الحرام، فالجاهلية كانوا يحرمون القتال في الشهر الحرام ويستحلون تلك الجرائم؛ فيصدون الناس عن الدخول في الإسلام الذي هو سبيل الله، ويكفرون بالله بإنكارهم للبعث، ويصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية وأخرجوا أهل المسجد الحرام منه؛ حيث ألجئوهم إلى الهجرة من مكة وحرموهم البيت العتيق وهم أهله وأولياؤه؛ وليس للكفار من ولاية المسجد الحرام شيء، فهذه الجرائم أكبر عند الله.

11. روي أن سبب نزول الآية هذه: أن بعض المسلمين قتلوا رجلاً وهم لا يعلمون أن قد دخل شهر رجب وادعى المشركون أن شهر رجب قد كان دخل وأنهم قتلوه في رجب وضجوا من قتله في الشهر الحرام؛ فردّ الله عليهم بأنه لا يحل القتال في الشهر الحرام، وأنهم يفعلون ما هو أكبر عند الله.

12. ﴿وَالْفِتْنَةُ﴾ لمن أسلم بتعذيبهم له ليرجع عن الإسلام إلى الشرك ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ وقد كان الكفار يفتنون من أسلم ولا يبالون في ذلك بحرمة الشهر الحرام ولا حرمة الحرم.

13. ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ فهم في جرائمهم مستمرون، وعليكم أن تقاتلوهم كما أمرتم في الآية الأولى، وتصبروا وتصابروا حتى لا يستطيعوا ردكم عن دينكم.

14. ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت وذهبت كما يموت الحيوان إذا حبط من بعض المأكول، ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ فلا تبقى لهم حرمة الإسلام بل يقتلون إن لم يتوبوا قبل أن يموتوا ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ فلا ينفعهم إسلامهم قبل الردة أي نفع ولا شيء من عملهم ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أصحاب النار هي لهم مستقر ومقام وهم أهلها ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هم فيها باقون لا يموتون ولا يخرجون.

__________

(1) التيسير في التفسير: 1/318.

فضل الله:

ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. لم يكن القتال مفروضا على المسلمين، أو مأذونا فيه لهم في صدر الدعوة الإسلامية في مكة، فكانت وصايا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين الذين يضطهدون ويعذبون، تتلخص بالصبر، والهجرة، والتحمل، والتضحية.. بل قد تصل إلى الإذن لهم بأن يقولوا ما يراد منهم أن يقولوه من كلمات الكفر تحت ضغط التعذيب والإكراه، كما حدث لعمّار الذي نزلت فيه هذه الآية: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106] بعد أن قال كلمة الكفر أمام حالة العذاب الصعبة، ويمكن التوقف عند احتمالات أربعة حالت دون تشريع القتال في هذه المرحلة:

أ. الأول: ربما كان ذلك خاضعا للمرحلة الأولى التي أراد الله لدينه أن ينطلق منها في حياة الناس، فقد يبدو من الضروري أن يعيش المؤمنون الأولون المعاناة الداخلية والخارجية في ما يتعرضون له من ضغوط نفسية وحياتية من قبل المشركين، وقد يساهم ذلك في خلق جوّ من التساؤل والاهتمام والتطلع والتعاطف لدى الناس الآخرين من خلال المؤثرات المتنوعة التي تحكم حالة السلم في الدعوة.

ب. الثاني: قد يكون الدخول في صراع عنيف مع قريش أمرا غير عملي من خلال حسابات توازن القوى؛ باعتبار أن الدعوة الجديدة انطلقت من المركز الخاضع لسيطرة قريش، مما يجعل من العسير أو المستحيل الدخول في صراع القوة معها.

ج. الثالث: حاجة الدعوة إلى الأجواء التي تسمح بالكلمة الهادئة التي لا تضيع في صخب القتال والسلاح لتترك تأثيرها الإيجابي في داخل النفوس، ولو من خلال المواقف السلبية ضدها، فإن أية دعوة تحتاج إلى فترة من الهدوء الذي يحملها إلى الأسماع والأفكار، بعيدا عن أية عناصر أخرى ضاغطة، لأن عظمة الدعوة الإسلامية أنها جاءت لتخاطب العقول فتفرض عليها قناعاتها بالحجة والحوار بدلا من القوة والضغط، وذلك ما يفرض أن تعمل على تهيئة الوسائل العملية التي تكفل ذلك كله، ولعلّ هذه النقطة هي التي فرضت هذا الأسلوب السلمي الصابر المهاجر في أجواء مكة، باعتبارها المكان الأمثل الذي يمكن فيه للدعوة أن تصل إلى كل قلب وإلى كل أذن، لأنها عاصمة الجزيرة العربية الثقافية والدينية، مما يجعلها مركزا للتجمع في المواسم الثقافية والدينية كموسم عكاظ والحج، أو في المواسم التجارية عقيب رحلة الشتاء والصيف، الأمر الذي لا بد فيه للدعوة من أن تحافظ على وجودها في مكة أطول مدة ممكنة لاستغلال ذلك في تحقيق الهدف الكبير، بحيث نستطيع الوصول إلى بعض الأجواء العربية التي لا يمكن أن تصل إليها لولا ذلك.

د. الرابع: لعلّ هدف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في منع المؤمنين في مكة من الدخول في صراع مسلّح مع قريش، هو إعطاء المؤمنين الذين يدخلون في الدين ـ وهم ضعفاء ـ الفرصة للحصول على القوة بطريقة تدريجية خالية من الفروض‏ الصعبة الضاغطة على إرادتهم وحيلتهم، لئلا يشعروا بالحرج في البداية بالتكليف في القتال، وبذلك يستطيعون أن يتعمّقوا أكثر في إيمانهم، ويسيروا في مدارج النمو في العقيدة والعمل بأسلوب واقعي متحرك يوحي لهم بالامتداد والحركة في جوّ من الفكر الهادئ والخطوات الهادئة الواقعية.

2. هكذا استطاع الإسلام أن يركز قواعده بخلق جيل من الدعاة الذين عاشوا المعاناة بأعمق معانيها وأرحب مجالاتها وأشد ظروفها، فانطلقوا مع النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، ليركزوا قواعد المجتمع الإسلامي الجديد.

3. بدأت المرحلة الجديدة للإسلام في عملية التقدم إلى الأمام من خلال صنع القوة الذاتية التي تواجه التحدي بمثله، وتخترق الحواجز الموضوعة أمامها في الطريق من أجل أن تمنعها من التقدم، وكان القتال شريعة هذه المرحلة.

4. بدأت الصعوبات النفسية تقف أمام هذه الشريعة في نفوس بعض المسلمين الذين استراحوا ـ أو هكذا توحي الآية ـ للدعوة المسالمة التي تتلقى الضربات دون أن ترد عليها، فإن الجهد الذي كانوا يلاقونه من خلال الاضطهاد لم يكن ليعرضهم للخطر الكبير الذي يتعرضون له من خلال القتال، بل كل ما هناك أنه يثير فيهم حالات نفسية صعبة ضاغطة كانوا يتحملونها بصبر وإيمان، مع الاحتفاظ بخط السلامة الوديع في الحياة، وقد يبدو أنهم تأففوا من هذه الفريضة الصعبة، أو اعترضوا، أو حاولوا التخلص منها، كما توحيه كلمة كما ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾، لأنه كان يعني السير إلى الموت باختيار، كما يعني الاستمرار فيه مدى استمرار التحديات الكافرة المشركة.

5. كانت طريقة الإسلام أن يدفع المسلمين إلى الممارسة العملية من خلال القناعة الفكرية والاستجابة الروحية، بالإضافة إلى الاستسلام الإيماني الذي تفرضه العقيدة الإسلامية المرتكزة على التسليم لله في كل الأمور، فكانت هذه الآية من أجل تقرير الحقيقة الواقعية في ما يحبه الإنسان مما لا يكون فيه كبير مصلحة له، أو في ما يكرهه الإنسان مما لا يكون فيه أية مضرة له، الأمر الذي يوحي للإنسان بأن الحالات النفسية الانفعالية لا يمكن أن تكون مقياسا للحركة السلبية أو الإيجابية في الحياة، لأن الانفعال منطلق من السطح لا من العمق، باعتباره يمثل حالة ردّ فعل لصدمة طارئة، أو نزوة سريعة، أو عاطفة ساذجة فلا بد من التعمق في دراسة القضايا والمواقف والأشياء، من أجل النفاذ إلى واقعها لمعرفة طبيعة المصالح والمفاسد الواقعية الكامنة فيه، لينتهي إلى النتيجة الحاسمة التي تبعده عن الاستسلام لانفعالاته السريعة.

6. قد يستطيع الإنسان اكتشاف ذلك من دراسة تاريخ حياته الشخصي في ما واجهه من حوادث الانفعال، وما اكتشفه من خطأ الاعتماد عليها في ظهور السلبيات في ما إذا كان الانفعال يتجه إلى الإيجابية، أو ظهور الإيجابيات في ما إذا كان يتجه إلى السلبية، فليست الكراهة مؤشرا لضد الحق في ما يكرهه، وليست المحبة مؤشرا للحق في ما يحبه، إنه شيء يكتشفه الإنسان من خلال تجاربه الشخصية، فإذا تحرك في خط الإيمان فإنه يكتشف، من خلال النافذة التي تطل به على الحقيقة الإيمانية، أن الله يعلم حقائق الأشياء، ويعلم ما يضر الإنسان وما ينفعه منها، ويعرف كيف يشرّع للإنسان ما ينسجم مع مصلحته على أساس الحكمة والرحمة، أما الإنسان فهو لا يعلم إلا القليل القليل منها، ولذلك نراه يتمرد، ويشك، وينفعل، ومن خلال ذلك، انطلق القرآن في معالجة الموقف من ناحية فكرية ترتكز على التجربة، ومن ناحية إيمانية ترتكز على العقيدة، فطريقة القرآن، في حلوله لمشاكل الإنسان الداخلية، تتمثل في قيادته إلى القناعة من خلال الواقع والإيمان، ويبقى أن الآية توحي بأن هناك سؤالا مكبوتا يتحرك في الداخل بعد تشريع القتال، أو سؤالا مطروحا بطريقة مليئة بالمرونة والاستيحاء، فكانت الآية جوابا عن ذلك كله.

7. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ أي: فرض الله عليكم القتال في فريضة الجهاد في سبيل الله، بعد أن منعكم منه مدة من الزمن في مرحلة قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر، والدفع بالكلمة الطيبة، والبعد عن ردّ التحدي بمثله حتى يمتد الإسلام في ساحته، ويستعد لتركيز قواعده في موقع قوة جديد، بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوتهم، لأنّه يملك آنذاك قوة الرد في ساحة المجابهة.

8. ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ من خلال الطبيعة الإنسانية التي لا تنسجم مع كل الأعمال الشاقة أو الخطرة التي قد تؤدي إلى الألم أو الجرح أو الموت، فإن الإنسان مفطور على حب الراحة والحياة، فيكره ـ بطبيعته ـ كل ما يسلبه ذلك.

9. في ضوء ذلك، فإن هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلبا لمرضاة الله، وطمعا في الحصول على ثوابه، لأن الإنسان يرغب في الأعمال الشاقة، أو الأسفار الخطرة، أو نحو ذلك، من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة، أو القرب من الله تغليبا للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة.

10. ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ من خلال بعض المشاكل التي يثيرها في حياتكم كالمخاطرة بالروح في الجهاد، والمشقة في السفر في التجارة، والسهر في الليل لطلب العلم.

11. ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لما يترتب عليه من النتائج الكبيرة المتصلة بالدرجات الرفيعة التي تبلغونها في الأخذ بما تكرهونه، فإن الجهاد يضع المؤمنين بين خيارين كلاهما خير: إما النصر، الذي يؤدي إلى الكثير من امتداد الإسلام في حركة الإنسان في الحياة وسيطرته على الواقع مما يجعل المسلمين في الموقع الكبير في الناس، وإما الشهادة التي ترفع درجة المؤمنين عند الله، فيحصلون ـ من‏ خلال ذلك ـ على رضوانه وعلى جنته.

12. ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لأن النتائج السلبية التي تحصل لكم، من خلال ذلك، قد تكون أشد خطورة، وإيلاما، مما تأملونه، أو تحبونه منه، من النتائج الإيجابية، فإن القعود عن الجهاد ـ انطلاقا من حب الحياة ـ يؤدي إلى سيطرة الكفر على الإسلام، وخضوع المسلمين للكافرين، مما يوجب الذل والهوان والسقوط المعنوي والسياسي والأمني والاقتصادي، والحرمان ـ من جانب آخر ـ من ثواب الله ونعيمه في جنته.

13. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما يصلحكم ويفسدكم، مما قد تكون بداياته سيئة ونهاياته حسنة، أو بالعكس، لأنه يعلم عمق الأمور وجوهرها، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ إلا السطح البارز منها فتقبلون على البداية الحلوة في غفلة عن النهاية المرة، وتتحركون نحو الأمور من خلال ظواهرها، ولا تبحثون عن بواطنها، فتقعون في الشر وأنتم تريدون الخير، أو تخسرون الخير حيث يخيل إليكم أنه الشر، ولذلك فعليكم أن تنطلقوا إلى ما يأمركم به لأن فيه الخير كله في الدنيا والآخرة، وأن تبتعدوا عما ينهاكم عنه لأن فيه خسران الدنيا والآخرة، قال الطبرسي في مجمع البيان: (أجمع المفسرون ـ إلا عطاء ـ أن هذه الآية دالة على وجوب الجهاد وفرضه، غير أنه فرض على الكفاية حتى أن لو قعد جميع الناس أثموا به، وإن قام به من في قيامه كفاية وغناء سقط عن الباقين، وقال عطاء: إن ذلك كان واجبا على الصحابة، ولم يجب على غيرهم، وقوله شاذ عن الإجماع)

14. الإيحاءات والدروس المرتبطة بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾:

أ. أولا: لا بد للعاملين في سبيل الله من استيحاء هذه الآية في غير هذا الجانب من قضايا التشريع أو العمل في سبيل الله، مما قد يثير احتجاج البعض، واستنكار البعض الآخر، أو يدفعهم إلى التمرد وعدم الانضباط، وذلك بأن تنطلق التربية الإيمانية على أساس الإحساس بضرورة التحرك من واقع التجربة، وحركة العقيدة، ليستوحيهما الإنسان في كل أموره العملية قبل أن يندفع في اتخاذ المواقف السلبية والإيجابية، وبذلك تتأكد الشخصية الإسلامية في مواقعها الصلبة الواعية، فلا تهتز أمام حالات الانفعال، ولا تسقط تحت تأثير ردود الفعل الطارئة السريعة، ولا تندفع في طريق لا تعرف نهاياته وأبعاده؛ بل تقف أمام الأشياء وقفة تأمل وتفكير ـ من دون فرق بين حالات التحدي أو حالات الاسترخاء ـ لتدرس كل شيء من مواقعه الذاتية بكل تجرد وموضوعية، فلا يمكن للأعداء أن يقودوها إلى معركة لم تحدد مسارها ومنطلقاتها وأوقاتها، ولا يمكن للأصدقاء أن يدفعوها في طريق لا تعرف كيف تتعامل معه في خطواته البطيئة والسريعة، بل تقف وسطا بين الخطوط لتختار الخط الذي يناسبها من خلال دراسة موضوعية واعية مبنية على العلم والإيمان.

ب. ثانيا: إن الإسلام يواجه الواقع في تشريعاته، فهو يعترف بالواقع الصعب والتجربة المرّة، ولكنه يوحي للإنسان بالأسرار العميقة، والأرباح الكبيرة، والنهايات السعيدة التي تكمن في القضية التي يعالجها التشريع، بحيث تحقق للإنسان رغباته المادية أو المعنوية التي يتجاوز ـ من خلال الانفتاح عليها ـ كل الصعوبات والمرارات، فيرحب بها بدلا من أن يتعقد منها.

ج. ثالثا: أن تتحرك حسابات الخير والشر لدى الإنسان على أساس النظرة الواسعة العميقة لما عند الله، مما يدركه العقل بالتأمّل أو يكشفه الوحي، لتكون الموازين لدى الإنسان المؤمن منطلقة من موازين السماء، فلا تستغرق في خصوصيات موازين الأرض.

د. رابعا: الاطمئنان إلى حكمة التشريع الإلهي من خلال الحقيقة الإيمانية، وهي أن الله هو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها ونهاياتها، فلا بد من الثقة بالتشريع بأنه يختزن الخير كله للإنسان بعيدا عن المشاعر والانفعالات الذاتية التي يثيرها في النفس سلبا أو إيجابا، فلا يرفض الحكم الشرعي لعدم انسجامه مع رغباته، لأن عنصر الرغبة لا يتصل بالعمق من المصالح والمفاسد، بل يتصل بالجانب السطحي من حياة الإنسان.

15. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ جاء في أسباب النزول أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أرسل جماعة من المسلمين في بداية عهد الهجرة، قبل موقعة بدر، ليعرضوا لبعض قوافل قريش كوسيلة من وسائل الضغط عليهم، في عملية عرض للقوّة الجديدة لإضعاف قريش اقتصاديا وعسكريا، في مجتمع يتعامل أفراده ويتحركون من خلال موازين القوى المطروحة في الساحة، فيتحالفون ويخضعون للأقوى، ويتخاذلون أمام دعوة الأضعف، فكانت هذه السرية الأولى بقيادة عبد الله بن جحش، وأمر القوم بالسير معه من دون أن يعرّفهم مهمة القافلة، بل قال لهم: ائتمروا بأمره عندما تصلون إلى مكان معين، فلما اصطدموا بالقافلة، طلب منهم القتال، فاستعد بعضهم له تنفيذا للأمر، وامتنع البعض الآخر تقديسا للشهر الحرام الذي كان قد دخل آنذاك، ووقع القتال بينهم وبين القافلة، فقتل نفر من هؤلاء ونفر من أولئك، ولما رجعوا إلى المدينة، خطّأهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الدخول في القتال في الأشهر الحرم، لأنه كان خطأ حقيقيا، لأنهم لم يكونوا واعين لطبيعة الأمر التي تفرض عليهم أن لا يتجاوزوا جوانب التحريم الآخرى، فلم يكن من المفروض عليهم أن يتأخروا إلى الشهر الحرام.

16. كانت هذه الحادثة فرصة ذهبية لقريش للتشهير بالمسلمين في الأوساط العربية من جهة انتهاكهم لقدس من أقداس الأوضاع المحترمة لديهم، كما أنها أو جدت بلبلة في أوساط المسلمين لأن الإسلام لم يعترض على تحريم القتال في الأشهر الحرام الذي كان سائدا في المجتمع العربي، بل أقرّه انطلاقا من اعتباره شريعة دينية مستمدّة من الشرائع السابقة ككثير من العادات العربية الدينية التي كانت من بقايا رسالة إبراهيم عليه السّلام، الذي كانوا يعظمونه ويحترمونه، لا سيما قريش التي كانت ترى نفسها من ذريته، وكان لا بد للمسلمين من أن يفهموا طبيعة الحدود التي تجاوزها هذا الفريق منهم، ويعرفوا ما إذا كان هذا التصرف بداية لإلغاء هذا التشريع، أو أنه يمثل تغليبا لجهة غالبة على جهة أقلّ منها مصلحة، وكان لا بد للإسلام من أن يجيب عن هذه التساؤلات ليوضح الحقيقة للمسلمين من أجل تركيز إيمانهم، وليقف ضد حملة التشهير بالإسلام التي قادتها قريش ضده، فكان هذا السؤال الذي أفسح القرآن المجال له في آياته‏.

17. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾، فقد انطلق السؤال عن الشهر الحرام من جهة شريعة القتال فيه، هل هو محرم كما كان أو أنه حلال في تشريع جديد!؟ وكان الجواب: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إنه أمر كبير في ما يمثله من انتهاك حرمة من حرمات الله، التي أراد أن تحفظ وتصان لما يترتب عليها من المصالح العامة للأمة من خلال الحاجة إلى فترة سلام تستريح فيها من الخلافات، وتعيش من خلالها تجربة الأمن والطمأنينة، ويضيف القرآن إلى‏ ذلك: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وربما كان ذلك إشارة إلى بعض أشهر الحج التي كان يريد للناس أن يمارسوا شعائر الحج فيها، من أجل الرجوع إليه في هذه العبادة التي تفتح قلوبهم على معنى الخير وإرادته، وإلى شهر رجب الذي أراد الله للناس أن يعتمروا فيه فيرجع إليه المذنب، ويلجأ إليه الخائف في طريق التوبة والإيمان، فكأن الله يحب للناس أن يحافظوا على حرية الوصول إلى المسجد الحرام من أجل تحقيق المعاني الروحية والاجتماعية التي تحصل لهم من خلال الحج والعمرة، وبذلك يكون القتال صدا عن سبيل الله وكفرا به وبالمسجد الحرام في ما يقتضيه من الانحراف عن خط الله، وقد يعبر الله عن الانحراف العملي بالكفر حيث إن الإيمان الذي لا يتمثل في العمل يعتبر بمنزلة الكفر، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97] وبهذا المعنى جاءت الأحاديث التي تسمى تارك الصلاة كافرا.

18. ثم تدخل الآية في عملية مقارنة بين ما حدث من القتال في الشهر الحرام، وبين ما قامت به قريش من إخراج أهل المسجد الحرام منه وفتنتهم عن دين الله بكل ما يملكون من وسائل الضغط والتهديد: ﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ فإن ما قام به المسلمون على سبيل الخطأ كان اعتداء على حرمة زمن ما، بينما كانت قريش تعتدي على حرمة المؤمنين وتخرجهم من مكة التي هي بلدهم بمختلف وسائل الضغط الجسدي والمعنوي الموجهة إليهم، وتحارب الله في دينه فتفتن المؤمنين عنه، وتمنعهم من السير في طريق الله، ثم تتحدث الآية عن خطورة ما تقوم به قريش، وتعتبر أنه أكبر من القتل الذي قام به المسلمون في الشهر الحرام.

19. ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، لأن ذلك يمثل الاعتداء على حرية الدين الذي يريد الله أن تحفظ وتحترم، وعلى حرية الإنسان في السير في خط الله دون ضغط، وبذلك يكون اعتداء على الحياة في ما يمثله الدين من حماية لها ورفع لمستواها، فلا يقاس به القتال في الشهر الحرام الذي لم ينطلق من جانب ذاتي، بل انطلق من محاولة لحماية المسيرة التي بدأها الإسلام في مكة، ووقفت قريش حاجزا بينها وبين الامتداد، فكان القتال ردا للعدوان بشكل غير مباشر وليس عدوانا ابتدائيا.

20. ثم تتوجه الآية إلى المسلمين لتعرفهم طبيعة الصراع الذي يدور بينهم وبين قريش، فليس هو صراعا تفرضه الخلافات الطارئة التي تحدث بين الناس في المجتمع العربي، على طريقة الخلافات العشائرية الخاضعة لمصالح خاصة، ليكون لها فترة معينة وتسوية خاصة، بل هو صراع على العقيدة التوحيدية التي تمثل خطأ ممتدا في الحياة، يختلف اختلافا كبيرا عن عقيدة الشرك التي تمثل خطأ مباينا لا مجال للالتقاء به في أية مرحلة من مراحل الطريق، ولذا كان الموقف حاسما لا يخضع لأنصاف الحلول.

21. هذا ما فهمته قريش من واقع هذا الصراع، وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون في ما يستقبلون من قضايا الصراع، فإن قريشا، وكل قوى الشرك والكفر، لن تهدأ ولن تستريح إلا بعد أن يتم القضاء على الإسلام بالقضاء على المسلمين أو على العقيدة في داخلهم، وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، وبذلك كان القتال مفروضا على المسلمين، وكانت الساحة مفتوحة على مستوى الزمان والمكان، فلا خيار لهم في التوقف، بل لا بد لهم من أن يتحركوا على كل المحاور والاتجاهات والأوقات، وإن أدى ذلك إلى اختراق حرمة الشهر أو المكان، لأن حرية الدين في التحرك وفي حماية نفسه لا تحتمل المساومة والاسترخاء والوقوف عند أي حاجز من الحواجز المطروحة في الطريق في غير هذا المجال.

22. ثم تتوجه الآية إلى المسلمين الذين قد يستسلمون للضعف أمام الضغط الهائل الذي تمثله قوى الشرك، فيرتدون عن دينهم، فتعرفهم خطورة الارتداد في حساب المصير، تبعا لأهمية الإيمان بالله في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فتقرر الآية ـ في هذا الجو ـ أن الإنسان الذي يموت كافرا في خط الارتداد يسقط من حساب الله في كل المجالات، لأن قيمة أي عمل من أعمال الإنسان تتحدد بالانطلاق به من خلال الإيمان بالله، فلا قيمة لأي عمل لا ينطلق من تلك القاعدة، ولذا فإن الارتداد يحبط أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة، ويؤدي به إلى الخلود في النار، وعلى ضوء ذلك، كان الإسلام يلغي كل الأعمال السيئة المتقدمة عليه، كما ورد (أن الإسلام يجبّ ما قبله)، وكان الكفر يلغي كل الأعمال الصالحة المتقدمة عليه، لأن الإسلام يتعامل مع الأعمال من موقع القاعدة التي ينطلق منها العمل لا من موقع العمل نفسه، لأن القاعدة الفكرية هي التي تعطي العمل معناه الإيجابي أو السلبي في خط الاستقامة والانحراف، وفي هذا الإطار، يحدد القرآن الموقف للاتجاه المعاكس لخط الكفر والارتداد، وهو خط المؤمنين الذين عاشوا الإيمان بالله في موقف الهجرة والجهاد في سبيل الله، وتحركوا من القاعدة الصلبة التي تحرك خطواتهم في الحياة.

23. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بإحباط الأعمال، وما يتعلق بها من مسائل، وقد نقلناها إلى محلها من السلسلة.

24. مما نستوحيه من قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ﴾ أن الإسلام قد أقرّ فكرة (زمن السّلام) كحقيقة دينية مقدسة، لتكون واحة زمنية يستريح فيها الناس من المشاكل والخلافات والحروب، ويعيدون النظر في ما عاشوه ومارسوه في ضوء النتائج المرعبة التي تؤدي إلى إزهاق النفوس، وتلف الأموال، وتحطيم العلاقات الإنسانية على أساس الحقد والبغضاء، وبذلك، تنفتح هذه العلاقات في اتجاه سليم يركز قواعد المحبة والسّلام ما أمكن ذلك، وهكذا يمكن لهم أن يحصلوا في فرص السّلام على ما لم يحصلوا عليه في فرص الحرب، ولا بد للمسلمين من أن يأخذوا بهذا التشريع في علاقات الحرب والسّلام في المجالات التي يملكون فيها أمر تقرير أحدهما في المعركة، ما لم يكن هناك ظروف ضاغطة تفرض فيها طبيعة الموقف أن يستمر القتال من أجل الوصول إلى نتائج حاسمة في نطاق القضية الإسلامية الكبرى.

25. القاعدة العقلية التي أقرّها الفكر الإسلامي الفقيه، انطلاقا من آيات الله وسنة رسوله، تفرض اختيار الجانب الأهم في حسابات المصالح والمفاسد إذا تعارض حكمان شرعيان يأمرنا أحدهما بشيء وينهانا الآخر عنه ولم يكن هناك مجال لامتثالهما معا، لأن الحكم الشرعي ينطلق من المصلحة الأساسية للإنسان، من خلال ما ثبت لدينا من أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فإذا رأينا المصلحة الأهم في جانب، فمعنى ذلك أن الحكم الذي لا يصل الموقف فيه إلى هذا المستوى من الأهمية، يفقد معناه في‏ حدود ذلك، وتكون النتيجة تقييد فاعلية الحكم الشرعي وحركته في غير هذا المجال، وهذا ما واجهناه في الآيات السابقة التي تتحدث عن القتال في المسجد الحرام في ما إذا قاتل المشركون المسلمين فيه، وفي هذه الآية التي تتحدث عن القتال في الشهر الحرام في صور مبرراته الإسلامية، فلو دار الأمر بين أن تهتك حرمة الشهر أو المكان وبين أن تهتك حرمة الإسلام ويسقط صريعا أو مهزوما أمام ضربات الكفر، فإن من الممكن أن نتجاوز حرمة الشهر والمكان لمصلحة حرمة الإسلام العليا، بل قد يجب ذلك في بعض المجالات، إذ وإن كانت حرمتهما جزءا من التشريع الإسلامي، لكن لا يمكن أن تتقدم على سلامة الإسلام نفسه، وهذا ما يعبر عنه علماء الأصول، بحالة (التزاحم بين الحكمين)، وقد نجد هذه القاعدة متمثلة في أكثر من مسألة فقهية في نطاق المحرمات الشرعية، التي جاءت الرخصة فيها في بعض مواردها، وقد تعددت نماذجها حتى أصبحت بمثابة (القاعدة الثانوية الاستثنائية)، حتى قال الأصوليون: (ما من عام إلا وقد خصّ)، مما يوحي بأن التخصيصات الواردة في العموميّات القرآنية والنبوية تحولت إلى ظاهرة شرعية من خلال تزاحم المصالح العامة، والتي يعبّر عنها بالخاص في دائرة الخصوصيات الحاكمة على العنوان العام.

26. هذا ما نراه في الغيبة التي جاء الاستثناء فيها في قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148] فجعل حالة الظلم استثناء من حرمة الغيبة التي جاء فيها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12] فأطلق للمظلوم الحرية في أن يتحدث عن ظالمة بالسوء من أجل الضغط عليه لرفع ظلمه، باعتبار أن مصلحة رفع الظلم عن المظلوم أكبر من مفسدة الغيبة في إظهار عيب الظالم، كما جاء الاستثناء في مقام النصيحة للمؤمنين، لأن إغلاق باب النصيحة في التحدث عن عيوب الإنسان الذي قد يقع الناس في مشاكل كثيرة نتيجة كتمان عيوبه، أكثر من مشاكل الحديث السلبي عنه، وفي مقام تجاهر الإنسان بالفسق الذي تمثل الغيبة وسيلة من وسائل الضغط عليه، وإبعاد الناس عن التأثر به من أجل إصلاحه أو إنقاذ الناس من أضراره، وفي مقام تترّس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين، ليمنعوهم من الهجوم عليهم، خوفا من تأدية ذلك إلى قتل إخوانهم، وبذلك يفقد المسلمون فرصة النصر، فأجاز الإسلام قتل الأسرى المسلمين إذا توقف النصر أو الدفاع على ذلك، وهكذا نجد ذلك في كثير من الموارد الشرعية.

27. هذا باب ينفتح على أكثر من قضية من قضايا الناس العامة والخاصة، التي قد تؤكد الكفرة القائلة بأن الغاية الكبرى تبرر الوسيلة المحرمة، بمعنى أنها تجمدها وتنظفها من خلال ارتباطها بسلامة الخط العام، فلا يتجمد الإنسان المسلم في أخلاقياته إذا تحولت إلى خطر على حياته أو على مصير الإسلام والمسلمين، كما لو أريد له أن يتحدث، وهو في سجن الكافرين والمستكبرين، عن أسرار المسلمين السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمثل إظهارها خطرا على السلامة العامة، فيجب عليه في هذه الحالة، أن يكذب من أجل حماية القضية الكبرى، ويحرم عليه الصدق الذي يؤدي إلى السقوط الكبير، لأن الكذب يمثل القيمة السلبية الأخلاقية، كما يمثل الصدق القيمة الإيجابية الأخلاقية في الخط العام.

28. لا يجوز للإنسان أن يكذب باختياره، بل يجب عليه أن يأخذ بالصدق في أحاديثه في الحالة الطبيعية العامة، لكن الحالات الطارئة الضاغطة تفقد الكذب سلبيته ليكون قيمة إيجابية كما تفقد الصدق إيجابيته ليكون قيمة سلبية، لأن المسألة في السلب والإيجاب لا تنطلق من الطبيعة الذاتية للصدق والكذب، بحيث يكون علة تامة للسلب هنا أو للإيجاب هناك، بل تنطلق من‏ الحالة الاقتضائية المنفتحة على النتائج بشكل عام، ولكنها قد تصطدم ببعض الموانع التي تمنعها عن التأثير في المقتضى بدرجة فعلية، وهذا ما يجعلنا نؤكّد أن الأخلاق في الإسلام لا تمثل قيمة إيجابية، بل تمثل قيمة سلبية قابلة للتغير في حركتها في الواقع الإنساني تبعا للعناوين الثانوية الطارئة التي تختلف الأحكام الشرعية باختلافها، ولا بد في هذه الحالة من التدقيق كثيرا في المواقف والقضايا قبل الدخول في عملية الموازنة بين الأحكام، لأن المسألة تحتاج إلى وعي عميق واسع في فهم أسس الحكم الشرعي وفي فهم الواقع الذي يتحرك فيه، ولا يمكن إخضاعها للأفكار السريعة الانفعالية في مواجهة الواقع في ضغوطه العملية على حركة الإنسان في الحياة.

29. الآية توحي للمسلمين بأن عليهم أن ينطلقوا في الحياة على أساس وعي الحقيقة التالية، وهي أن قوى الكفر والشرك تخطط لإخراج المؤمنين عن دينهم بكل الوسائل والقدرات التي يملكونها، بحيث انهم يبادرون إلى الدخول في قتال مستمر لتحقيق هذه الغاية، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ فلا بد لهم من أن يستعدوا لمواجهة هذه الخطط بالوسائل الوقائية والدفاعية، ليحفظوا إيمانهم الذي يمثل القاعدة الصلبة لنجاتهم في الدنيا والآخرة، لأن القضية التي يعالجها القرآن ليست قضية تاريخية تخضع للظروف المحدودة الموجودة في التاريخ، بل هي قضية مستمرة ما دام هناك كفر وإسلام، وحق وباطل، وما دامت التحديات تفرض نفسها على الساحة، مما يجعل من هدف إضعاف الكفار للدين بإضعاف‏ القاعدة الدينية، وبإخراج الناس من دينهم وإضلالهم وإبعادهم عن الخط المستقيم، هدفا يوميا لكل القوى المعارضة للدين، من خلال الوسائل المتنوعة المادية والمعنوية، مما يجعل من عملية الاستعداد للمواجهة عملا يوميا للمؤمنين لا مجال فيه للشعور بالأمن، ولا للاستسلام والاسترخاء، ولا للوقوف فيه على موقع هدنة، وهذا ما واجهه المسلمون، ولا يزالون يواجهونه، من مخططات الكفر الذي يستهدف عزتهم وكرامتهم ومواردهم الطبيعية وثقافتهم ووعيهم الشامل للامتداد الديني في خط الحياة، بمختلف الوسائل الثقافية والتربوية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، وقد ساهم ذلك في كثير من الفجوات الواسعة في حاضر المسلمين ومستقبلهم، وأدى إلى إحداث بعض الأوضاع الشديدة الباعثة على الاهتزاز والانحراف، وقد يختلف الحال، في ما لدينا من وسائل العمل، عما كان الأمر عليه في صدر الدعوة الإسلامية، ولكن المبدأ لا يزال واحدا من حيث الدوافع والأعمال، وذلك هو سبيل الوعي الإسلامي الذي ينطلق من فهم المسؤولية وفهم الواقع الذي يحيط به، في ما يريده الله لعباده المؤمنين في الحياة.

30. إن قضية الإيمان والكفر هي قضية الحياة الواسعة بكل امتدادها وعمقها، فلا يمكن للإنسان أن يتسامح بها، أو يعيش أجواء اللامبالاة معها، أو يعتمد على عمل صالح بعيد عن خط الإيمان، كما يفعله البعض ممن ينطلقون في تقييم الأعمال من موقعها الذاتي لا من موقعها الإيماني، فيتحركون على أساس اعتبار الإيمان شيئا غير ذي قيمة كبيرة، وقد يدفعهم‏ ذلك إلى تفضيل الكافرين على المؤمنين لبعض الأعمال الصالحة عند أولئك، ولبعض الأعمال السيئة عند هؤلاء، مع أن القضية لا تسير في هذا الاتجاه إسلاميا ـ كما توحيه الآية ـ.

31. لا بد من دراسة إيحاءات الأسلوب الذي واجه به المشركون من قريش قتال المسلمين لبعض المشركين في الشهر الحرام، بالدعاية المضادة التي حاولوا فيها تشوية صورة المسلمين بأنهم لا يرعون للمقدسات حرمة، فيسفكون الدم الحرام، وينتهكون حرمة الشهر الحرام بالعدوان على الناس بأخذ الأموال وأسر الرجال ونحو ذلك، فقد نلاحظ أن أعداء الله من الكافرين والمستكبرين يعملون على الاستفادة من بعض الأخطاء التي يقع فيها المسلمون من خلال الغفلة، أو الظرف الضاغط عليهم الذي يفرض عليهم الوقوع في الخطأ، أو الاجتهاد الحركي في النظرة إلى الواقع في مواجهة القوى الطاغية التي تصادر حرياتهم، وتضعف مواقعهم وتهدد وجودهم ومصالحهم ومواقعهم، وتعمل على أن تحشرهم في الزاوية الحرجة، فيلجئون إلى تجاوز الأساليب المألوفة في الصراع إلى أساليب أخرى لا تمثل قيمة أخلاقية في المطلق، ولكنها تمثل قيمة أخلاقية في الحالة الطارئة ـ في الخط العام ـ باعتبار أن التخفف من خطر الضغط الكافر أو الاستكباري لا يمكن الوصول إليه إلا بهذه الطريقة، وهنا يقف الاعلام الكافر أو المستكبر ليثير حربا إعلامية شعواء على الإسلام والمسلمين، على أساس إلصاق تهمة الإرهاب الوحشية والإساءة إلى حقوق الإنسان، وليخفي كل الظروف التي فرضت عليهم ذلك، مما يمثل تبريرا في الواقع الإنساني في العام، لأن القضية ـ عندهم ـ أن يشوهوا الصورة العامة للإسلام والمسلمين، بعيدا عما هي الحقيقة في طبيعة الملامح الحقيقية لحركة الصورة في الواقع، إنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الدفاع عن الحرمات والمقدسات، وذلك في دائرة حرماتهم ومقدساتهم، ولا يسمحون لأحد بالحديث عن انتهاكهم لحرمات المستضعفين ـ من المسلمين وغيرهم ـ بل يحاولون تبريرها بعنوان الدفاع عن الحضارة والإنسان، لأنهم يرون أنهم وحدهم أصحاب الحق الحضاري في الوجود، أما الآخرون فهم الهوامش التي لا ضرورة لها في أكثر الحالات إلا بالمقدار الذي يحفظ حياتهم.

32. إن علينا أن نستوحي من الآية الكريمة الثقة بالموقف، والابتعاد عن كل الحرب النفسية التي يشنّونها علينا باسم القيم الإنسانية الكبرى، بل أن نواجه ذلك بكل قوة، انطلاقا من وعي الأسس التي يرتكز عليها العاملون في سبيل الله في خط المواجهة والوقوف عندها، في دراسة دقيقة للسلبيات والإيجابيات، والاقتصار بها على ظروفها الخاصة، لنؤكد للجميع أن الإسلام لا يريد للعدوان أن يأخذ حريته في الاعتداء على الناس من دون أن يقفوا بقوة للرد عليه، ويطوروا أساليبهم في هذا الاتجاه، فلا يقتصروا على وسيلة واحدة، بل يمكن لهم أن يستوحوا الشرع في تنويع الوسائل، حتى التي لا تملك شرعية في ذاتها، ولكنها تملكها بلحاظ حالات الطوارئ الضاغطة، فإن الإسلام يؤكد القيمة ما دامت في مصلحة الإنسان، فإذا تحوّلت إلى خطر عليه، أسقطها وجعل القيمة في الاتجاه الآخر.

33. لا بد للعاملين في الدعوة إلى الله في دائرة الاعلام السياسي والثقافي من توعية المسلمين، لا سيما البسطاء والساذجين منهم، حتى لا يقعوا في قبضة الاعلام الاستكباري باستثارة القيم الروحية والأخلاقية الإنسانية في وجدان المسلمين، ليقفوا ضد إخوانهم المجاهدين عندما يقومون ببعض الأعمال التي ينطلقون بها في خط الشرعية على أساس فهمهم للواقع، فيتهمونهم بانحرافهم عن الإسلام، كما يحدث ذلك في مرحلتنا الحاضرة، التي يعيش فيها المسلمون الحركيون في صراع دائم مع القوى الاستكبارية في‏ الداخل والخارج، ويعيشون الضغوط الهائلة التي تضغط على حرياتهم وحركتهم لمنعهم من أن يؤكدوا القوة الإسلامية التي تجعل الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، من دون أن يفهم المسلمون خلفيات هذه الأعمال، لأن الاعلام المستكبر هو الذي يتولى مهمة توزيع الاتهامات وإصدار الأحكام.

34. إن من واجب القائمين على شؤون الدعوة الإسلامية أن يقوموا بتثقيف المسلمين بالحدود الفاصلة بين الحالات الطبيعية، في العناوين الأولية في الأحكام الشرعية، والحالات الاستثنائية الصعبة في عناوينها الثانوية التي قد تحلل ما كان محرما، وقد تحرم ما كان حلالا، فإن التوعية الإسلامية الثقافية قد تفوّت على المستكبرين والكافرين كل الفرص التي يستغلونها للإضرار بالإسلام والمسلمين، بينما يتحرك الجهل، والسذاجة، والخواء الثقافي، ليمنحهم أكبر فرصة للوصول إلى أهدافهم الشيطانية على الاستكبارية.

__________

(1) من وحي القرآن: ‏4/177.

الشيرازي:

ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):

1. الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل الله، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء، فتقول الآية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾

2. التعبير بكلمة ﴿كُتُبٌ﴾ إشارة إلى حتميّة هذا الأمر الإلهي ومقطوعيّته.

3. (كره) وإن كان مصدرا، إلّا أنّه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل الله أمر مكروه وشديد على الناس العاديّين، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقّات والمصائب، وأمّا بالنّسبة لعشّاق الشّهادة في سبيل الحقّ ومن له قدم راسخ في المعركة فالحرب مع أعداء الحقّ بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولا شكّ في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصّة في بداية الإسلام.

4. ثمّ تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة وتقول: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهرا، إلّا أنّه‏ ﴿وعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾

5. ثمّ تضيف الآية وفي الختام‏ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فهنا يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب ومعلوماتهم بالنّسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر، وكما أنّ الناس لم يدركوا شيئا من أسرار الخلقة في القوانين التكوينيّة الإلهيّة، فتارة يهملون شيئا ولا يعيرونه اهتماما في حين أنّ أهميّته وفوائده في تقدّم العلوم كبيرة، وهكذا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها، وقد يكره شيئا في حين أنّ سعادته تكون فيه، أو أنّه يفرح لشيء ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته، فهؤلاء النّاس لا يحقّ لهم مع الالتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم الله اللّامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة، بل يجب أن يعلموا يقينا أنّ الله الرّحمن الرّحيم حينما يشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحجّ فكلّ ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم، ثمّ إنّ هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين الإلهيّة وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه‏ بالعالم اللّامحدود يعني علم الله تعالى.

6. سؤال وإشكال: الجهاد الّذي هو أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة كيف أصبح مكروها في طبع الإنسان مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة امور فطريّة وتتوافق مع الفطرة، فالمفروض على الأمور المتوافقة مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟ والجواب: في الجواب عن هذا السؤال يجب الالتفات إلى ما يلي:

أ. أنّ المسائل والأمور الفطريّة تتناغم وتوافق مع طبع الإنسان إذا اقترنت بالمعرفة، مثلا الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في موارد أن يعرف الإنسان مصاديق النفع والضرر ويتجنب الضرر بالنّسبة له، فلو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق ولم يميّز بين الموارد النافعة من الضّارة، فمن الواضح أنّ فطرته ونتيجة لهذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح.

ب. في مورد الجهاد نجد أنّ الأشخاص السطحيّين لا يرون فيه سوى الضرب والجرح والمصائب، ولهذا قد يكون مكروها لديهم وأمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وعظمته وافتخاره وحريّته تكمن في الإيثار والجهاد، وبذلك يرحبون بالجهاد ويستقبلوه بفرح وشوق، كما هو الحال في الأشخاص الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفرّة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابي في سلامتهم ونجاتهم من المرض، فحين ذاك يتقبّلوا الدّواء برحابة صدر.

7. ما ورد في الآية الشريفة آنفا لا ينحصر بمسألة الجهاد والحرب مع الأعداء، بل أن الآية تكشف عن قانون كلّي وعام، وهو أنّ الآية تجعل من جميع الشدائد والمصاعب في سبيل الله سهلة وميسورة ولذيذة للإنسان بمقتضى قوله تعالى‏ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، فعلم الله تعالى ورحمته ولطفه لعباده يتجلّى في كلّ أحكامه المقدّسة فيرى ما فيه نجاتهم وسعادتهم، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمنون هذه الأوامر والأحكام الإلهيّة فيعتبروها كالأدوية الشافية لهم ويطبّقونها بمنتهى الرضا والقبول.

8. كما مرّ بنا في سبب النّزول ويشير إلى ذلك السياق أيضا فإنّ الآية الاولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثنائات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ ثمّ تعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ أي إثم كبير، وبهذا يمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة الّتي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم‏ (رجب، ذي القعدة، ذي الحجّة، محرم)

9. ثمّ تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلوا من الاستثنائات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرّغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكنّ الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثما وجرما عند الله‏ ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾

10. ثمّ تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل الله ودينه أعظم من القتل‏ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ لأنّ القتل ما هو إلّا جناية على جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه‏، ثمّ إنّ الآية تحذّر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنّهم لا يقنعون منكم إلّا بترككم لدينكم إن استطاعوا ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بجزم وقوّة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم، ثمّ تنذر الآية المسلمين وتحذّرهم من الارتداد عن دين الله‏ ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

11. ما أشدّ عقاب المرتد عن الإسلام، لأنّ ذلك يبطل كلّما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي، ومن الواضح أنّ الأعمال الصّالحة لها آثار طيّبة في الدنيا والآخرة، والمرتدّون سوف يحرمون من هذه البركات بسبب ارتدادهم، مضافا إلى محو جميع معطيات الإيمان الدنيويّة للفرد حيث تنفصل عنه زوجته وتنتقل أمواله إلى ورثته فور ارتداده.

12. (حبط) في الأصل كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى أنّ الحيوان قد يأكل كثيرا حتّى تنتفخ بطنه، وبما أنّ هذه الحالة تؤدّي إلى فساد الغذاء وعدم تأثيره الإيجابي في الحيوان استعملت هذه الكلمة بمعنى البطلان وذهاب الأثر، ولذلك ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّ معنى هذه الكلمة هو البطلان، ومن ذلك ما ورد في آية من سورة هود حيث أوردت هذه الكلمة مساوقة للبطلان‏ ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ و﴾ ﴿حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ‏﴾، أمّا (الإحباط) فكما يقول علماء العقائد والمتكلّمون أنّها تعني إبطال ثواب الأعمال السابقة بسبب ارتكاب الذنوب اللّاحقة، ويقابله (التكفير) بمعنى زوال العقوبات وآثار الذنوب السابقة بسبب الأعمال الصالحة بعد ذلك.

13. هناك بحث بين علماء العقائد في صحّة الإحباط والتكفير بالنّسبة لثواب الأعمال الصالحة وعقوباتها وعقاب الأعمال الطالحة والمشهور بين المتكلّمين الإماميّة كما يقول العلّامة المجلسي هو بطلان الإحباط والتكفير، غاية الأمر إنهم يرون أنّ تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى النهاية، والعقاب مشروط كذلك بأن يرحل من هذه الدنيا بدون توبة، لكنّ العلماء المعتزلة يعتقدون بصحّة الإحباط والتفكير بالنّظر إلى ظواهر بعض الآيات والروايات‏.

14. يرى الخواجة نصر الدين الطوسي في كتاب (تجريد العقائد) بطلان القول بالإحباط، واستدلّ على ذلك بالدليل العقلي والنقلي، أما الدليل العقلي فهو أنّ الإحباط نوع من الظلم (لأنّ الشخص الّذي قلّت حسناته وكثرت ذنوبه سيكون بعد الإحباط بمنزلة من لم يأت بعمل حسن إطلاقا وهذا نوع من الظلم بحقّه)، وأمّا الدليل النقلي فالقرآن يصرّح‏ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾

15. بعض علماء المعتزلة مثل (أبو هاشم) ذهب إلى اقتران الإحباط والتكفير بشكل متوازن، بهذا المعنى أنّه جمع بين العقاب والثواب في ميزان واحد وبعد حدوث الكسر والانكسار بينهما يتمّ الحصول على النتيجة النهاية.

16. لكنّ الحقّ هو أنّ الإحباط والتكفير من الأمور الممكنة، ولا تستلزم الظلم‏ مطلقا، وتدل على ذلك الآيات والرّوايات الصّريحة، والظاهر أنّ ما ذهب إليه المنكرون هو نوع من الالتباس اللّفظي، وتوضيح ذلك: تارة يعمل الإنسان سنوات طويلة بمشّقة كبيرة وينفق رأس مال كثير، ولكنّه قد يخسر كلّ تلك الأفعال بخطإ بسيط، فهذا يعني أنّ حسناته السابقة قد أحبطت، وعلى العكس من ذلك فيما لو كان قد خسر كثيرا في السابق لارتكابه بعض الأخطاء والحماقات، ولكنّه يجبر ذلك بعمل عقلائيّ واحد، فهذا نوع من أنواع التكفير (التكفير نوع من أنواع التغطية والجبران) وكذلك يصدق هذا الأصل في المسائل المعنوية أيضا.

__________

(1) تفسير الأمثل: ‏2/102.