...
13. جزاء الكافرين وقتلة الصالحين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈13⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 21 ـ 22]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم من آخر النهار(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٥٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ كل شيء وجع(1).
2. روي أنّه قال: بعث عيسى يحيى في اثني عشر رجلا من الحواريين، يعلمون الناس، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ، وكان ملك له بنت أخ له تعجبه، فأرادها، وجعل يقضي لها كل يوم حاجة، فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجتك فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال الملك: حاجتك؟ قالت: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا، قالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به فذبح في طست، فبدرت قطرة من دمه، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصّر، فدلت عجوز عليه، فألقي في نفسه: أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفا؛ فسكن(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢١.
(2) ابن جرير: ١٤/٥٠٣.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: أقحط الناس في زمان ملك من ملوك بني إسرائيل، فقال الملك: ليرسلن علينا السماء، أو لنؤذينه، فقال له جلساؤه: كيف تقدر على أن تؤذيه أو تغيظه وهو في السماء؟ قال أقتل أولياءه من أهل الأرض؛ فيكون ذلك أذى له، قال فأرسل الله عليهم السماء(1).
__________
(1) ابن المنذر: ٣٢٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، يعني: بطلت أعمالهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: هم الكفار الذين كانوا يعبدون الأصنام، كانوا يقتلون النبيين، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢١.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعا ـ وذكر ما أحدثوا وابتدعوا ـ من اليهود والنصارى، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ إلى قوله: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦] (1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٨٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكرونهم بالله، فيقتلونهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٩٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الأليم: الموجع(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب؛ كان الوحي يأتي إليهم، فيذكرون قومهم؛ فيقتلون على ذلك، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٩٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾، يعني: بالقرآن، وهم ملوك بني إسرائيل من اليهود ممن لا يقرأ الكتاب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ فعلوا ذلك ﴿حَبِطَتْ﴾ يعني: بطلت ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ فلا ثواب لهم، ﴿في الدنيا و﴾ لا في ﴿الْآخِرَةِ﴾؛ لأن أعمالهم كانت في غير طاعة الله تعالى، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يعني: من مانعين يمنعونهم من النار(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٦٨.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: الذين أمروا بالقسط من الناس هم خلفاء الأنبياء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢١.
الفضيل:
روي عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) في قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾: ما بال الذين كانوا يأمرون بالقسط من الناس كانوا يقتلون في ذلك الزمان، وهم اليوم يقربون ويكرمون!؟ أما ـ والله على ذلك ـ ما فعلوا ذلك بهم حتى أطاعوهم، أما ـ والله ـ ما أطاعوهم حتى عصوا الله(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٥٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾
أ. قيل: بآيات الله التي في كتابهم: من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وصفته.
ب. وقيل: ﴿بِآيَاتِ الله﴾ بالقرآن، وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
2. قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل قوله: ﴿وَيقْتَلُونَ﴾ أي: يهمون يريدون قتلهم؛ كقوله: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191]، فلو كان على حقيقة القتل، فإذا قتلونا لم نقدر على قتلهم؛ وكقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله﴾ [النحل: 98] أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ وكقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة: 6] كذا، أي: إذا أردتم أن تقوموا إلى الصّلاة؛ لأنه إذا قام إلى الصّلاة لم يقدر على الغسل؛ فكذلك الأوّل.
ب. ويحتمل أن يريد: الرضا بقتل آبائهم الأنبياء، فأضاف ذلك إليهم.
ج. وقيل: إنه أراد آباءهم الذين قتلوا الأنبياء.
د. وقيل: جاء أنهم كانوا يقتلون ألف نبي كل يوم.. ولا أعرف هذا، فإن صح فهو على أنهم تمنوا ذلك، أو قتلوا نبيّا وأنصاره، فسمّوا أنبياء؛ لما كان ينبئ بعضهم بعضا.
3. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لو كان أراد آباءهم كيف يأمر رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بالبشارة وهم موتى!؟ دل هذا على أن التأويل هو الأوّل: أنهم هموا بقتلهم، أو رضوا بصنع آبائهم، والبشارة المطلقة إنما تستعمل في السّرور والخيرات خاصّة، إلا أن تكون مقيّدة؛ فحينئذ تجوز في غيرها؛ كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ قيدها هنا؛ لذلك قال أصحابنا(2): أن ليست الحقائق أولى من المجاز، ولا الظاهر أولى من الباطن؛ إلا بدليل على ما صرفت أشياء كثيرة عن حقائقها بالعرف؛ من نحو: الإيمان، وغيرها.
4. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أعمالهم التي فعلوا؛ قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما بعث كفروا به، فبطلت تلك الأعمال.
ب. ويحتمل: ما كان لهم من الأعمال: من صلة المحارم، والقربات، والصدقات، فبطلت لما لا قوام لها إلا بالإيمان، فلما لم يأتوا به ـ بطلت.
5. قوله تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أمّا في الآخرة: فثوابها، وأمّا في الدنيا: فحمدها وثناؤها.
ب. ويحتمل في الدنيا: ثواب الدنيا؛ كقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النساء: 134]
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ فالآيات أعلام وحجج، وهنّ أنواع:
أ. منها حسّيات، نحو: الخلائق؛ في الدلالة على وحدانية الله تعالى، والخارجة منها عن احتمال وسع البشر يظهر عند أداء الرسل الرسالة، يشهد على أن الذي أرسلهم هو الذي تولاها؛ ليعلم بها محجة ويوضح بها رسالتهم.
ب. ومنها: السمعيات: وهي التي جاءت بها الرسل من الأنباء؛ عما لا سبيل إلى الوقوف عليها، إلا بالتعلم بلا تقدم تعليم، أو ما لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله؛ ليعلم أن الله هو الذي أطلعهم عليها؛ ليكون آية لهم.
ج. ومنها العقليات: وهي التي تعرف بالمحن، والبحث عنها مما بها يوصل إلى معرفة التوحيد والرسالة ونحوها، ثم قد جعلها كلها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فمن يكفر بها يخرج على وجهين:
• أحدهما: على الكفران بحقيقة الآيات؛ أن يكون هن آيات لما أقيمت له، وهن من الوجوه التي ذكرت، فقضى الله ـ تعالى ـ لمن يكفر بها بما ذكرت؛ لتعنتهم ومعاندتهم.
• الثاني: أن يريد بالكفر بالآيات: الكفر بمن له الآيات؛ فنسب إلى الآيات؛ لما بها تعلم الحقيقة، كما تنسب الأشياء إلى أسبابها التي بها يوصل إليها، فذلك معنى الكفر بالآيات، ثم كانت الكتب السماوية، وما فيها من النعوت، وما أعجزهم عن إتيان مثل القرآن، وغير ذلك من الحسّيات.
7. على ما ذكرنا يخرج معنى الكفر بالآيات؛ لأنها بحيث يأخذها الحواس، ويحيط بها الأوهام والعقول؛ ولكن على أنهن آيات للذي دلّكم عليه، أو على الكفر بالذي له آيات توجب تحقيقه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/340.
(2) يقصد أهل السنة، وخصوصا الماتريدية
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيئين} وقرئ ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو إماماً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر) ثم قرأ: {وَيَقْتُلُونَ النبيئين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثني عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر ذلك النهار ومن ذلك اليوم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/137.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ قرأ حمزة: ويقاتلون الذين يأمرون، وقيل: إنها كذلك في مصحف ابن مسعود.
2. في قوله تعالى: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ هنا وجهان:
أ. أحدهما: العدل.
ب. الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ روي عن أبي عبيدة بن الجراح قال قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثم قرأ هذه الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم.
4. ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ أي فأخبرهم، والأغلب في البشارة إطلاقها على الإخبار بالخير، وقد تستعمل في الإخبار بالشّر كما استعملت في هذا الموضع وفي تسميتها بذلك وجهان:
أ. أحدهما: لأنها تغير بشرة الوجه بالسرور في الخير، وبالغم في الشر.
ب. الثاني: لأنها خبر يستقبل به البشرة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/382.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة ونصير (ويقاتلون الذين يأمرون) بالف لأن في مصحف عبد الله (وقاتلوا) والأجود ما عليه الجماعة.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ معناه يجحدون ﴿بِآيَاتِ الله﴾ يعني حججه وبيناته ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾، روى أبو عبيدة بن الجراح قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال: رجل قتل نبياً أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر، ثم قرأ رسول الله ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ثم قال يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكرهم الله.
3. استدل الرماني بذلك على جواز انكار المنكر مع خوف القتل، وبالخبر الذي رواه الحسن عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليها)، وقال عمرو بن عبيد: (لا نعلم عملا من أعمال البشر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه)، وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لأن من شرط إنكار المنكر ألا يكون فيه مفسدة، وألا يؤدي إلى قتل المنكر، ومتى أدى ذلك إلى قتله، فقد انتفي عنه الشرطان معاً فيجب أن يكون قبيحاً، والاخبار التي رووها أخبار آحاد لا يعارض بها على أدلة العقول على أنه لا يمتنع أن يكون الوجه فيها وفي قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ هو من غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤدي إلى مفسدة فحسن منه ذلك، بل وجب وإن تعقب ـ في ما بعد ـ القتل، لأنه ليس من شرطه أن يعلم ذلك بل يكفي فيه غلبة الظن.
4. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لا يدل على أن قتل النبيين يكون بحق، بل المراد بذلك أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كما قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، والمعنى ان ذلك لا يكون عليه برهان كما قال امرؤ القيس:
çعلى لا حب لا يهتدى بمناره...إذا سافه العود الديا في جرجراé
وتقول: لا خير عنده يرجى، وأنت تريد لا خير عنده أصلا، وكذلك أراد امرؤ القيس أنه لا منار هناك، فيهتدى به قال أبو ذؤيب:
çمتفلق انشاؤها عن قاني...كالقرط صاو غيره لا يرضعé
أي ليس له بقية لبن فيرضع، ومعنى صاو في البيت صوت يابس النخلة.
5. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ معناه الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
6. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ إنما خاطبهم بذلك وإن كان الخبر عن أسلافهم من حيث رضوا هم بأفعالهم، فأجملوا معهم على تقدير فبشر أخلافهم بأن العقاب لهم، وكأسلافهم.
7. سؤال وإشكال: لم جاز أن تقول إن الذي يقوم، فيكرمك، ولم يجز ليت الذي يقوم فيكرمك؟ والجواب: لأن دخول الفاء لشبه الجزاء، لأن الذي يحتاج إلى صلة فصلتها قامت مقام الشرط، فلذلك دخل الفاء في الجواب كما دخل في جواب الشرط، وليت تبطل معنى الجزاء وليس كذلك أن لأنها بمنزلة الابتداء.
8. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ حبوط العمل ـ عندنا(2) ـ هو إيقاعه على خلاف الوجه المأمور به، فإذا أوقعه كذلك لم يستحق عليه الثواب، فجاز لذلك أن يقال: أحبط عمله، ومتى أوقعه على الوجه المنهي عنه، استحق مع ذلك العقاب، وليس المراد بذلك بطلان ما يستحق عليه من الحمد والثناء، ولا بطلان الثواب بما يستحق من العقاب، لأن الثواب إذا ثبت فلا يزول على وجه بما يستحق صاحبه من العقاب، لأنه لا تنافي بين المستحقين، ولا تضاد، وأما حبوطها في الدنيا، فلأنهم لم ينالوا بها مدحاً ولا ثناء.
9. أصل الحبوط مأخوذ من قولهم: حبطت بطون الماشية: إذا فسدت من مآكل الربيع، فعلى ما حررناه إنما تبطل الطاعة حتى تصير بمنزلة ما لم تفعل إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به وعند المعتزلة، ومن خالفنا في ذلك أن أحدهما يبطل صاحبه إذا كان ما يستحق عليه من الثواب أو العقاب أكثر مما يستحق على الآخر فإنه يبطل الأقل على خلاف بينهم في أنه يتحبط على طريق الموازنة أو غير الموازنة، قال الرماني: والفرق بين حبوط الفريضة وحبوط النافلة أن النافلة من الفاسق لا بد عليها من منفعة عاجلة، لأن الله رغب فيها إن أقام على فسقه أو لم يقم، والترغيب من الحكيم لا يكون إلا لمنفعة، فأما الفريضة من الفاسق، فلانتقاض المضرة التي كان يستحقها على ترك المضرة، وهذا ـ على مذهبنا ـ لا يصح على ما فصلناه، ولا على مذهب شيوخه، لأن المستحق على النوافل لا يكون إلا ثواباً والثواب لا يصح فعله في دار التكليف، فكيف يصح ما قاله.
10. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يدل على أنه تعالى لا ينصر كافراً لأنه لو نصره، لكان أعظم ناصر والله تعالى نفى على وجه العموم أن يكون لهم ناصر، ولأن مفهوم الكلام أنه لا ينفعهم نصر لكفرهم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/423.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. حبط العمل يحبط إذا بطل، وأحبط الله أعمال الكفار أي أبطلها.
ب. القِسْطُ: العدل، والقَسْطُ: الجور، وأصله من العدول، يقال: قسط جار، وأقسط عدل.
2. ثم بَيَّنَ الله تعالى وعيد من اختلف في الحق فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ أي يجحدون ﴿بِآيَاتِ الله﴾:
أ. قيل: حججه وإعلامه.
ب. وقيل: هو ما في كتبهم، وفيه نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
ج. وقيل: هو القرآن.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾:
أ. قيل: المراد بهم اليهود والنصارى، عن الأصم.
ب. وقيل: سائر أصناف الكفار وهو الوجه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾:
أ. قيل: هم اليهود، وعن أبي عبيدة بن الجراح قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد عذابًا يوم القيامة؟ فقال: رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم تلا هذه الآية)، ثم قال: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا في أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعًا في آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكر الله تعالى)
ب. وقيل: أراد ملوك بني إسرائيل، عن مقاتل.
ج. وقيل: أراد قتل يحيى بن زكريا.
5. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿مِنَ النَّاسِ﴾:
أ. قيل: يحتمل أن يكون المراد به أسلافهم.
ب. ويحتمل أن يكون المراد به الَّذِينَ كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، عن أبي مسلم.
6. ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ أي أخبرهم ﴿بِعَذَابٍ﴾ معد لهم ﴿أَلِيمٍ﴾ موجع.
7. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ والخبر عن أسلافهم بقتل الأنبياء؟ والجواب:
أ. قيل: لأنهم رضوا بأفعالهم واقتدوا بهم فأجملوا معهم، تقديره: بشر أخلافهم بأن العذاب لهم ولأسلافهم.
ب. وقيل: قوله: ﴿يَقْتُلُونِ﴾ يحتمل رضوا بقتلهم، ويحتمل من شأنهم القتل، ويحتمل على الحاضرين، عن الأصم.
8. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾:
أ. قيل: بطلت أعمالهم يعني إيمانهم ببعض الكتب وببعض الأنبياء.
ب. وقيل: المراد ما يستحقونه على أعمالهم في الدنيا من الحمد والثناء وولاية المؤمنين، وفي الآخرة بطلان الثواب واستحقاق العقاب.
ج. وقيل: بطلت أعمالهم التي طلبوا أنهم يتقربون بها إلى الله، عن أبي مسلم.
9. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾؟ وقتل النبي يكون بغير حق؟ والجواب:
أ. قيل: بغير جرم.
ب. وقيل: ادعوا أنه أذن لهم في قتلهم، فبين أنهم قتلوهم بغير حق استحقوا ذلك منهم.
ج. وقيل: بغير حق يعني ظلمًا وعدوانًا ذكر ذلك تغليظًا لذنبهم، عن أبي مسلم.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. عظم حال من أمر بالمعروف وعظيم ذنب من قتله، وأنه بمنزلة من قتل نبيًا لذلك قرنه به.
ب. أن الأمر بالمعروف يحسن، وإن خاف القتل؛ لأنه أطلق فيدل على صحة ما يقوله مشايخنا أنه إذا خاف على نفسه، فالأولى أن يقوم بذلك لما فيه من إعزاز الدين، وقد روى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه)، وقال عمرو بن عبيد: (لا يعلم عملاً من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه)
ج. يدل قوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ على بطلان قول أصحاب الموافاة لأنه تعالى أثبت حبوط أعمالهم في الدنيا، ولا يكون كذلك إلا وقد استحقوا اللعن والعقاب، ولو كان ينتظر الموافاة لما صح ذلك.
د. أن من استحق العقاب، فلا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة.
11. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة: (يقاتلون الَّذِينَ) بالألف، وقيل: إنما قرأها اتباعًا لمصحف عبد الله، لأن فيه بالألف، وتقديره: يقتلون النبيين، وقد قاتلوا الَّذِينَ يأمرون، لأنه لا يجوز عطف الماضي على المستقبل، وقرأ الباقون ﴿يَقْتُلُونِ﴾ بغير ألف، وهي القراءة الظاهرة، وفي المصحف بغير ألف، وأجمع القراء على التخفيف فيهما، وروي عن الحسن بالتشديد فيهما للتكثير.
ب. القراءة الظاهرة ﴿حَبِطَتْ﴾ بكسر الباء، وعن بعضهم بفتحها، وهما لغتان.
12. دخلت الفاء في ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ لأن قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وضع موضع الجزاء؛ لأنه لا يقال: إن زيدًا فقائم، وقيل: أدخلت الفاء على إلغاء ﴿أَنْ﴾ تقديره الَّذِينَ يكفرون، ويقتلون فبشرهم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/196.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما قدم سبحانه ذكر الاحتجاج على أهل الكتاب، وحسن الوعد لهم إن أسلموا، وشدة الوعيد إن أبوا، فضل في هذه الآية كفرهم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ أي: يجحدون حجج الله تعالى، وبيناته.
2. ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ قيل: هم اليهود، فقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ فقال: رجل قتل نبيا، أو رجلا أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، ثم قرأ ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ ثم قال صلّى الله عليه وآله وسلم: يا أبا عبيدة! قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله تعالى.
3. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: أخبرهم بأن لهم العذاب الأليم، وإنما قال (بشرهم) على طريق الاتباع والاستعارة، والبشارة تكون في الخير دون الشر، لأن ذلك لهم مكان البشارة للمؤمنين، ولأنها مأخوذة من البشرة، وبشرة الوجه تتغير بالسرور في الخير، وبالغم في الشر.
4. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ وإنما قتل الأنبياء أسلافهم؟ والجواب:
أ. لأنهم رضوا بأفعالهم، واقتدوا بهم، فأجملوا معهم.
ب. وقيل: معناه بشر هؤلاء بالعذاب الأليم لأسلافهم.
5. قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لا يدل على أن في قتل النبيين ما هو حق، بل المراد بذلك أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كقوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، والمراد بذلك تأكيد النفي والمبالغة فيه كما يقال: فلان لا يرجى خيره، والغرض في ذلك أنه لا خير عنده على وجه من الوجوه، وكما قال أبو ذؤيب:
çمتفلق أنساؤها عن قانئ... كالقرط صاو، غيره لا يرضعé
أي: ليس له بقية لبن فيرضع.
وعلى هذا فقد وصف القتل بما لا بد أن يكون عليه من الصفة، وهو وقوعه على خلاف الحق، وكذلك الدعاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وصفه بأنه لا يكون إلا من غير برهان.
6. استدل علي بن عيسى بهذه الآية على جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وبالخبر الذي رواه الحسن عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه) وهذا فيه نظر، لأن من شرط حسن إنكار المنكر، أن لا يكون فيه مفسدة، ومتى أدى إلى القتل، فقد انتفى عنه هذا الشرط، فيكون قبيحا، والوجه في الآية والأخبار التي جاءت في معناها، أن يغلب على الظن أن إنكار المنكر لا يؤدي إلى مفسدة، فيحسن ذلك، بل يجب، وإن تعقبه القتل، لأنه ليس من شرطه أن يعلم ذلك، بل يكفي فيه غلبة الظن.
7. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ كفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، والآمرين بالمعروف ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يريد بأعمالهم ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة، وإقامة شريعة موسى عليه السلام، وأراد ببطلانها في الدنيا أنها لم تحقن دماءهم وأموالهم، ولم ينالوا بها الثناء والمدح، وفي الآخرة أنهم لم يستحقوا بها مثوبة، فصارت كأنها لم تكن، لأن حبوط العمل عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب والأجر والمدح وحسن الذكر، وإنما تحبط الطاعة حتى تصير كأنها لم تفعل إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يدفعون عنهم العذاب.
8. قرأ حمزة ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ بالألف، وقيل: إنما قرأها اتباعا لمصحف عبد الله بن مسعود، لأن فيه (وقاتلوا الذين يأمرون)، والباقون ﴿يَقْتُلُونِ﴾ وهي القراءة الظاهرة.
9. إنما دخلت الفاء في قوله ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ لشبه الجزاء، وإنما لم يجز: ليت الذي يقوم فيكرمك، وجاز: إن الذي يقوم فيكرمك، لأن الذي إنما دخلت الفاء في خبرها لما في الكلام من معنى الجزاء، وليت تبطل معنى الجزاء، وليس كذلك أن، لأنها بمنزلة الابتداء.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/720.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ قال أبو سليمان الدّمشقيّ: عنى بذلك اليهود والنّصارى، قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمّد والقرآن، وقد تقدّم في (البقرة) شرح قتلهم الأنبياء.
2. القسط، والعدل، وقرأ الجمهور ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ وقرأ حمزة (ويقاتلون) بألف، وروى أبو عبيدة بن الجرّاح عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار) فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم.
3. إنما وبخ بهذا الذين كانوا في زمن النّبيّ عليه السلام لأنهم تولّوا أولئك، ورضوا بفعلهم، ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ بمعنى: أخبرهم، وقد تقدّم شرحه في (البقرة)
4. معنى ﴿حَبِطَتْ﴾: بطلت.
__________
(1) زاد المسير: 1/269.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾ أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات:
أ. الصفة الأولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾
ب. الصفة الثانية: قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾
ج. الصفة الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾
2. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد، والجواب: من وجهين.
أ. الأول: أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. الثاني: أن نحمله على العموم، ونقول إن من كذب بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع.
3. ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبياً أو رجلًا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلًا من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى، وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء.
4. سؤال وإشكال: إذا كان قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته.
ب. الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقتل المؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا هاهنا لا يصح أن يكون إلا كذلك.
5. سؤال وإشكال: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك؟ والجواب: ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة، والمراد منه شرح عظم ذنبهم، وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
6. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف، والجواب: الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق.
7. ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء، وروي أن رجلًا قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)
8. كما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الثلاثة، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وإنما دخلت الفاء في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ مع أنه خبران، لأنه في معنى الجزاء والتقدير: من يكفر فبشرهم، وهذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: 25]
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ بيّن الله تعالى بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ بيّن الله تعالى بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية، وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 7/177.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾:
أ. قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله تعالى فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم، ففيهم نزلت هذه الآية.
ب. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجئ إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون.
ج. وقد روي عن ابن مسعود قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية)
د. وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذين ذكرهم الله في هذه الآية، ذكره المهدوي وغيره.
هـ. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم من آخر، النهار.
2. سؤال وإشكال: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا، والجواب: أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته، وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾
3. دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة، قال الحسن قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه)، وعن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه)، وفي التنزيل: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾، ثم قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه.
4. الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزيز إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾
5. ليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل، وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس، فإن تشبثوا بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ وقوله: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر، ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾
6. أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فيقلبه ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك، قال: والأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، ولكنها مقيدة بالاستطاعة، قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم، فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله، وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره، وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يقوم له)، وخرجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكلاهما قد تكلم فيه، وروي عن بعض الصحابة أنه قال: (إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات اللهم إن هذا منكر)، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي (أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده، والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي)، هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع، وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل، وقال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾، وهذا إشارة إلى الاذاية.
7. روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس، فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تلقي من قول الله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله﴾، وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شي عليه، ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به، حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا قودا، وقيل: (كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى)
8. روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: (إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم)، قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: (الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم)، قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق، خرجه ابن ماجه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/47.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿بِآيَاتِ الله﴾ ظاهره: عدم الفرق بين آية وآية ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يعني: اليهود قتلوا الأنبياء ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: بالعدل، وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون، فدعوهم إلى الله، فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام، فقتلوهم، ففيهم نزلت الآية.
2. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ خبر ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ الآية، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، وذهب بعض أهل النحو: إلى أن الخبر قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن وإن تضمن اسمها معنى الشرط، لأنه قد نسخ بدخول إن عليه، ومنهم سيبويه، والأخفش وذهب غيرهما: إلى أن ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول إن عليه، ومثل المكسورة المفتوحة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ﴾
3. ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ قد تقدم تفسير الإحباط، ومعنى كونها حبطت في الدنيا والآخرة: أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات، بل عوملوا معاملة أهل السيئات، فلعنوا، وحل بهم الخزي والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/377.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ وهم اليهود، قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام، قتله قاض يهوديّ لما نهاه عن منكر فعله، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم.
2. في قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق، في اعتقادهم أيضا، فهو أبلغ في التشنيع عليه ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾
3. ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ﴾ أي بطلت أعمالهم التي اعملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن والخزي، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة، فإبدال الثواب بالعذاب الأليم، ﴿وما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾ ينصرونهم من عذاب الله.
4. دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف، وعظم ذنب قاتله، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى، وقتل الأنبياء، قال الحاكم: وتدل على صحة ما قيل، أنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه، وأن ذلك يكون أولى لما فيه من إعزاز الدين، في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/300.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ خبر (إنَّ) هو قوله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتَ اَعْمَالُهُمْ﴾، وأمَّا ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ فمعترض، أو عطف طلب على إخبار وهو الصلة، والمراد: قوم مخصوصون من اليهود لا كلُّ من يفعل ذلك، فليس فيه عموم الشرط، فلا تقل: الخبرُ (بَشِّرْهُمْ)، وقُرِن بالفاء لشبهه بالشرط، ﴿يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللهِ﴾ هذا المضارع وما بعده لحكاية الحال الماضية، وهم اليهود الماضون، إذ كفروا ببعض التوراة وقتلوا الأنبياء، كما قال: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيئِينَ﴾ (ال) للحقيقة هكذا، أو للحقيقة المعهودة في غير هذه الآية مِمَّا فيه أنَّهم قتلوا الأنبياء، ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ توكيد لخطَئِهم، كقولك: أمس الدابر، لأنَّ قتل الأنبياء لا يكون إِلَّا بغير حقٍّ، أو بغير حقٍّ في اعتقادهم، كما أنَّه غير حقٍّ في نفس الأمر، ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ العدل، وهو الإيمان والعمل الصالح وترك الظلم، ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ اليهود، تقدَّم ذكر قتلهم الأنبياء.
2. يروى أنَّهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيئا أوَّل اليوم فنهاهم مائة وسبعون، وقيل: مائة واثنا عشر من عبَّادهم فقتلوهم آخر يومهم، ذكر الله جلَّ وعلا كُفرَ أوائلهم وقتلَهم من لا يحقُّ له القتل تعنيفا لهم لرضاهم عنهم، ومَدْحِهِم الجملةَ مع تلك المساوئ، ويجوز أن يكون المراد بالذين يكفرون ويقتلون النبيئين ويقتلون الذين يأمرون بالقسط: اليهود الذين في عصره صلّى الله عليه وآله وسلم ، وصفهم بالقتل وبالكفر بالآيات لرضاهم عمَّن كفر بها من أسلافهم، ولعدم خلوِّهم عن الكفر ببعض التوراة، ولرضاهم عمَّن قتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط، ولقصدهم قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالسمِّ وإلقاء الصخرة عليه وبالسحر وغير ذلك، وقتلهم بعض المؤمنين، ولقصدهم قتل المؤمنين الآمرين بالقسط من جملة الناس: رضَّ واحدٌ رأس مؤمنة، وأكل صحابيٌّ مع النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم من الشاة المسمومة فمات؛ وعليه فالمضارع للاستمرار على قصد ذلك، وعلى فعله لو وجدوه كما قصدوه.
3. كرَّر ذكر القتل للتفاوت بين قتل الأنبياء وقتل مَن دونَهم من الآمرين بالقسط، أو لاختلافهما في الوقت، ولأنَّ الأوَّل على تبليغ الوحي والثاني على الأمر بالعدل.
4. ﴿فَبَشِّرْهُم﴾ أخبرهم، استعمالٌ للمقيَّد في المطلق، أو تهكُّمٌ بهم؛ لأنَّ التبشير إنَّما هو في الخير، وأصله من ظهور أثر الفرح على البشرة، أي: الجلدة من الوجه، ﴿بِعَذَابٍ اَلِيمٍ اُوْلَئِكَ﴾ الكافرون بالآية القاتلون للأنبياء وللآمرين بالقسط، ﴿الَّذِينَ حَبِطَتَ﴾ بطلت ﴿اَعْمَالُهُمْ﴾ كصدقة وصلة رحم ومكارم الأخلاق، ﴿فِي الدُّنْيَا وَالَاخِرَةِ﴾ لا تحقن دماؤهم بها، ولا يحترمون عليها في الدنيا، ولا يثابون عليها في الآخرة.
5. قال بعض قومنا: إنَّ الأعمال التي تحتاج إلى نيَّة تنفع الكافر في الآخرة بأن تنقص من عذابه، كالصدقة وصلة الرحم، وهو خطأ من حيث إنَّ النصوص أنَّهم لا ينتفعون بعمل مَّا، وحديث شرب أبي لهب في مثل نقرة الأبهم، وهي أسفل الأبهم لعتقه ثويبة إذ بشَّرته بولادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يصحَّ، وإن صحَّ فشاذٌّ، ومن حيث إنَّه لا عمل لا يحتاج إلى النيَّة، والصدقة وصلة الرحم لا تصحَّان إِلَّا بالنيَّة.
6. ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ مانعين من العذاب، كما لم يكن فيهم ناصر للأنبياء والآمرين بالقسط.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/242.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل: إن المراد بهذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ اليهود خاصة، وقد نسب إليهم قتل النبيين الذي كان من سابقهم لاعتبار الأمة في تكافلها وجري لاحقها على أثر سابقها، كالشخص الواحد ـ على ما مر بيانه عن محمد عبده غير مرة ـ على أن اليهود همت بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في زمن نزول الآية، والسورة مدنية ـ كما علمت ـ وهمّ بذلك قومه الأميون من قبل في مكة، ثم كان كل من الفريقين حربا له وهم المعتدون.. ولذلك قال آخرون: إن الآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين به، والظاهر الأول حتى على قراءة حمزة (ويقاتلون الذين) لأن محاولة قتل نبي لا يعبر عنه بـ {يقتلون النبيين}، والقتال غير القتل ولما في آيات أخرى من إطلاق مثل هذا التعبير على اليهود خاصة، ولا حاجة إلى القول بأن المراد مجموع الكافرين الذين يقتل بعضهم النبيين وبعضهم الذين يأمرون بالقسط، فالآية وما بعدها انتقال إلى خطاب اليهود خاصة، فاليهود هم الذين جروا على الكفر بآيات الله من عهد موسى إلى عهد محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وبذلك تشهد عليهم كتبهم قبل القرآن، وعلى قتل النبيين كزكريا ويحيى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ولكن محمد عبده وجه القول بالعموم وجعله بالنسبة إلى مشركي العرب الذين حاولوا قتل نبي واحد على حد كون قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس.
2. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بيان للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقا كما قال المفسّرون.. وهذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع الحق وجودا وعدما لا مع الأشخاص والأصناف، وإذا قلنا: إن كلمة ﴿حَقٌّ﴾ هنا المنفية تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن متعمدا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة، واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفا.
3. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ أي الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة في كل شيء، ويجعلونها روح الفضائل وقوامها، ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء وأثرهم في ذلك يلي أثرهم؛ ذلك أن جميع طبقات الناس تنتفع بهدي الأنبياء، كل صنف بقدر استعداده، وأما الحكماء فلا ينتفع بهم إلا بعض الخواص المستعدين لتلقي الفلسفة، ألم تر كيف اصطلم التوحيد وثنية العرب في مدة قليلة بدعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكيف عجزت دعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد عن مثل ذلك أو ما يقاربه فلم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا قليل من طلاب الفلسفة؟ ذلك بأن دعوة النبي على ما تختص به من التأييد الإلهي وتأثير روح الوحي لها ثلاثة مظاهر بينها الله تعالى في قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فالحكمة ما يدعى به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج، والموعظة ما يدعى به العوام السذج، والجدل بالتي هي أحسن للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة، بل يبحثون بحثا ناقصا، فلا بد من الحسنى في مجادلتهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم، وأما الحكماء فإن لهم طريقة واحدة في الدعوة إلى الحق، والفضيلة مبنية على طلب العدل في الأفكار والأخلاق، وقد يكون الحكيم الذي يدعو إلى ذلك متدينا ويجري في الإقناع بالدين على الطريقة المذكورة آنفا، وقد يكون غير متدين وهو مع ذلك يدعو إلى القسط والعدل من العقل بحسب ما وصل إليه علمه مع الصدق والإخلاص، والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل ومقت العدل، وأقبح بذلك جرما وكفى به إثما.
4. لم يفسر محمد عبده الذين يأمرون بالقسط بالحكماء، بل قال: إن مرتبة هؤلاء تلي مرتبة الأنبياء، وقال: إن قوله تعالى: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ يشعر بقلتهم.. وعلى ما تقدم من الاختيار: نشعر بشمول قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن به، ومن لم يكن كذلك، وإلا لقال: والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين، وفي هذا تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب.
5. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يحملون مثله على التهكم، وعدوه من المجاز بالاستعارة على ما في مفردات الراغب؛ لأن التبشير من البشارة والبشرى وهي الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، وقد يقال: إنه ما ظهر أثره في البشرة بانبساط أو انقباض وكآبة، ولكنه غلب في الأول، وهذا العذاب يصيب من كان منهم في زمن البعثة في الدنيا ثم يشاركون من سبقهم بمثل ذنوبهم في عذاب الآخرة، وأي الناس أحق بالعذاب الأليم من هؤلاء القساة الطغاة المسرفين في الشر إسرافا جعلهم على منتهى البعد عن النبيين والآمرين بالقسط حتى كان منهم الذين قتلوهم بالفعل، ومنهم الذين نفوسهم كنفوس من قتلوا وما يمنعهم عن الفعل إلا العجز ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ فهذه النفوس قد أحاطت بها خطاياها حتى لم يبق فيها منفذ لنور آيات الله التي بها يبصر الحق ويهتدي إلى إقامة القسط؛ ولذلك قال فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، فلا ينتفعون بشيء منه، لأن العمل الصالح إنما ينفع بحسن أثره في النفس، ونفوس هؤلاء قد أوغل فيها الفساد ـ كما تقدم ـ ففقدت الاستعداد والقبول لكل خير، وقد تقدم مثل هذه الجملة بالتفصيل في سورة البقرة.
6. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ينصرونهم من الله وقد أبسلتهم ذنوبهم بما لها من التأثير في إفساد نفوسهم، فأي ناصر يدفع عنهم العذاب وهو مما اقتضته طبيعتهم؟
__________
(1) تفسير المنار: 3/262.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
بعد أن بين الله تعالى في الآيات السابقة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركي العرب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ، انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعيّر الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لا حقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة.
1. قد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم همّوا بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما همّ بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم، وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجئوا إليه، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما، لا مع الأشخاص والأصناف.
3. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شيء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها، ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة.
4. انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقار به، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة، وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم)، وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هي أحسن لمن هم في المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم، والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق، فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.
5. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن أحقّ بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز؟ كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ﴾ ـ يحبسوك ـ ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾
6. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس، إذ هم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله، وذلك هو حبوطها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ثواب لها، بل قد أعد لهم العذاب الأليم، والخلود في الجحيم.
7. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ينصرونهم من بأس الله وعذابه، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم ـ جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين.
8. جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف:
أ. اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم.
ب. زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا بإبدال لمدح بالذم والثناء باللعن، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾
ج. دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 3/123.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، فهذا هو المصير المحتوم: عذاب أليم، لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة، فهو متوقع هنا وهناك، وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور، فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتا مسموما، توطئة لهلاكها.
2. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين، ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام! وذكر الكفر بآيات الله مصحوبا بقتل النبيين بغير حق ـ وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق ـ وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ـ أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط.
3. ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجها لليهود، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت! ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجها للنصارى كذلك، فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من أصحاب المذاهب المخالفة الدولة الرومانية المسيحية ـ بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام ـ وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط.. كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع.. وكثير ما هم في كل زمان.
4. يحسن أن نتذكر دائما ماذا يعني القرآن بوصف ﴿الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾.. فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر، إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية، وقصر العبودية عليها، وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرّف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين.. فمن جعل لغير الله شيئا من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته، ولو قالها ألف مرة باللسان! وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/382.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هاتان الآيتان لتقرير أمر واقع.. ففيهما كشف عن جرائم أهل الكتاب من اليهود، الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، وأشياع أنبيائه، ولهذا أحصت الآيتان الكريمتان، تلك الجرائم الغليظة التي ارتكبوها، وهى الكفر بآيات الله التي حملها إليهم رسل الله، وهى آيات لا يكذّب بها إلا كل معتد أثيم.. كفلق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الصخر بها، على يد موسى عليه السّلام.. فكفروا بتلك الآيات وعبدوا العجل من دون الله، وكذلك فعلوا مع الآيات التي أجراها الله سبحانه على يد عيسى ـ عليه السّلام ـ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.. فكفروا بتلك الآيات، ورموا عيسى بالبهت والشعوذة، حتى دفعهم ذلك إلى السعي في قتله، وتقديمه للمحاكمة والصلب، ولكن الله أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم، وهم يحسبون أنهم صلبوه: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾
2. فهؤلاء هم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، ومنهم زكريا عليه السلام، وقتلوا كثيرا من صلحائهم ودعاة الخير فيهم.. وقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم، على أن واحدة من هذه الجرائم المنكرة تكفى في تجريم صاحبها، وفي سوقه إلى العذاب الأليم، فالكفر وحده، يحبط كل عمل: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، والقتل العمد وحده، يوجب الخلود في النار: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ فكيف بقتل أنبياء الله ورسله؟
3. لكن ما ذكر من هذه الجرائم هو تسجيل للواقع الذي حدث ـ كما ذكرنا من قبل ـ وهو تشنيع على أولئك اليهود الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحادّة والخلاف، كما وقف أسلافهم من قبل، مع أنبياء الله فيهم، ورسله إليهم، فما أشبه الأبناء بالآباء، والخلف بالسّلف، في المكر بآيات الله والزيغ عن الهدى، والإعنات للأنبياء.. وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف الذي يصل حاضرهم بماضيهم، على طريق الكفر والضلال، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، فهل يلتقى الإيمان وقتل المؤمنين؟ بل وقتل حملة الإيمان ودعاته، من الأنبياء والرسل؟
4. في قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ تقرير لما حدث، وإعلان لما تكشف من تلك الحرائم الشنعاء، التي أريقت فيها دماء الأنبياء، إذ قد ثبت لهؤلاء اليهود أنفسهم أن آباءهم الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم إنما قتلوا أنبياء حقيقيين، لم يكونوا من الأنبياء الكذبة كما ادّعوا عليهم، وهذا ما كان في قتل يحيى عليه السّلام، قتله اليهود بأيديهم، وآمن به اليهود وبعد ذلك، نبيا صادقا، ورسولا كريما في كتابهم المقدس التوراة، فشهدوا بذلك على أنفسهم وبلسان أبنائهم أنهم قتلوا هذا النبيّ الكريم ظلما وعدوانا بغير حق، فقوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ هو من اعتراف القتلة أنفسهم، بما شهد به عليهم بعضهم، وهم أبناؤهم من بعدهم.
5. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هو غاية في التيئيس من كل أمل في نفحة من خير، أو عافية، من هذا البلاء المطبق عليهم.. إذ كان ما تحمله البشرى إليهم هو العذاب الأليم، فكيف بما يساق إليهم بين يدى النّذر والفواجع؟ ذلك شيء لا يمكن تصوره من الأهوال والشدائد، التي أخفها وأهونها، هو العذاب الأليم!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/423.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلام الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن.. والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جعلوا جميعا في قرن قوله: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾ [آل عمران: 20]
2. جيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة اللفظية، وليس المراد إفادة التجدّد؛ لأنّ ذلك وإن تأتّى في قوله: ﴿يَكْفُرُونَ﴾ لا يتأتّى في قوله: ﴿وَيُقْتَلُونَ﴾ لأنّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمن مضى.
3. المراد من أصحاب هذه الصلات يهود العصر النبوي: لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم، وإنّما حمل هؤلاء تبعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليص ابنه يحيى من القتل، وقتلوا يحيى لإيمانه بعيسى، وقتلوا النبي أرمياء بمصر، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه، وقتل منشأ ابن حزقيال، ملك إسرائيل، النبي أشعياء: نشره بالمنشار لأنّه نهاه عن المنكر، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، ولم يحموه، فكان هذا القتل معدودا عليهم، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنّهم رضوا بها، وألحّوا في وقوعها.
4. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملة {يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} إذ لا يكون قتل النبيّين إلّا بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحتراز؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حيّز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273]، وقوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وقد تقدم في سورة البقرة [41]، والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم.
5. لما كان قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ مومئا إلى وجه بناء الخبر: وهو أنّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع.
6. الفاء في ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ فاء الجواب المستعملة في الشرط، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنّه ليس المقصود، قوما معيّنين، بل كل من يتّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يعلم أنّ له عذابا أليما، واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّما.
7. حقيقة التبشير: الإخبار بما يظهر سرور المخبر (بفتح الباء) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلّا على معنى التهكّم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم، اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله:
çنزلتم منزل الأضياف منّا...فعجّلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجّلنا قراكم...قبيل الصّبح مرداة طحوناé
قال السكاكي: وذلك بواسطة انتزاع شبه التضادّ وإلحافه بشبه التناسب.
8. جيء باسم الإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صلات الموصول أكمل تمييز، وللتنبيه على أنّهم أحقّاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة.
9. اسم الإشارة مبتدأ، وخبره ﴿الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، وقيل هو خبر (إنّ) وجملة ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقا، وحبط الأعمال إزالة آثارها النافعة من ثواب ونعيم في الآخرة، وحياة طيّبة في الدنيا، وإطلاق الحبط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحبط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به، وتقدم عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ في سورة البقرة [217]، والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يرجون من أعمالهم الصالحة النفع بها في الآخرة بالنجاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلمّا كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وصوّبوا الذين قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم، ولذلك ابتدئ به بقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، فلا جرم تحبط أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا، ومعنى ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به، وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلّا يترك لهم مدخل إلى التأويل.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/62.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرت تلك الأعمال للدلالة على أنهم لا يطلبون الحق، وإنما يلجون في الباطل، وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة أن يقتلوا الداعين إلى الحق، فقتلوا بعض النبيين، وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط، وقد ذكر سبحانه لهم وصفا، ثم ذكر من أعمالهم عملين يتصلان بوصفهم.
2. أما الوصف فهو أنهم يكفرون بآيات الله، أي يكفرون بالحجج والبينات المثبتة لوحدانية الله، ولرسالة رسله وصدق دعواتهم، فهم لا يكفرون فقط بالله، بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة، وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون، لا يهتدون إلى الحق، ويغلقون عقولهم فلا يمكن أن تصل إليها دعوة الحق، ويمنع الغرض مداركهم من أن تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لا تجدى معهم محاجة، فهم قوم بور، كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم.
3. وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم، وصم آذانهم عن أن تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما: قتل النبيين، وقتل الدعاة إلى القسط؛ والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شيء.
4. سؤال وإشكال: هؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين كيحيى بن زكريا عليهما السلام فكيف يقال إنهم قتلوا النبيين، ولم يقل بعض النبيين؟ والجواب: أنهم استهانوا بمقام النبوة، ومقام الدعوة إلى الحق، فاعتدوا ذلك الاعتداء على بعض النبيين، ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة]
5. سؤال وإشكال: لماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ مع أن قتل الأنبياء لا يمكن أن يكون بحق أبدا؟ والجواب: أن هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة إلى أنهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه.
6. ذكر سبحانه كلمة الحق بصيغة التنكير فقال: ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ لعموم النفي بحيث يشمل الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا أنه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون أنهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
7. هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شيء، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من أهل الحق والتبرم بهم، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشى المؤمن بينهم بالتقية)! وروى أن أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (رجل قتل نبيا، أو من أمر بمعروف ونهى عن المنكر)
8. سؤال وإشكال: لماذا قال سبحانه: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ مع أنهم حتما من الناس؟ والجواب: أن هذا للإشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء بل من الناس غير المبعوثين، وفي قرنهم بالأنبياء، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس؛ فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شيء.
9. ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي أن جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم، وفي هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان:
أ. أحدهما: دخول الفاء في خبر الذين وهو: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من الأحيان؛ ولأن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
ب. الثاني: هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾
10. سؤال وإشكال: كيف قال تعالى: عن العذاب: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ مع أن البشارة لا تكون إلا في الأخبار السارة؛ لأن البشارة والبشرى الخبر السارّ الذي تنبسط له بشرة الوجه؟ والجواب: أن هذا التعبير من قبيل التهكم؛ وذلك لأن هؤلاء الضالين من بنى إسرائيل وغيرهم مع أنهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لا بعملهم؛ فالله يقول له: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي أن البشرى التي يرتقبونها بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم؛ ولذا قال سبحانه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق؛ هؤلاء بسبب هذه الصفات.
11. هذه الأعمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وحبط الأعمال أن لا تنتج خيرا لصاحبها، وأن يكون الجزاء عليها شرا، وأن تكون نتيجتها سوءا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا الأعمال باسم الخير، وهى للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شرّ في الآخرة بعذاب أليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم؛ لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، من شأنه أن يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد أنه لا يمكن أن يكون لمن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا؛ لأن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن أن يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (خير الناس آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1157.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: الشرائع بكاملها السماوية والوضعية تحرم القتل، بل جميع الناس يرون القاتل مجرما، بخاصة إذا كان المعتدى عليه من أهل الخير والصلاح، وعلى هذا يكون الاخبار بأن القاتل مجرم يستحق العذاب والعقاب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، أشبه بتوضيح الواضحات، مع العلم بأن كلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل؟ والجواب: ان المقصود بالآية اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ورفضوا الإسلام، وقد أشارت الآية إلى أنه لا غرابة في رفضهم وعنادهم للإسلام، لأن أسلاف اليهود قتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى، وأسلاف النصارى قتلوا من جاهر بالوحدانية وبشرية المسيح، قتلوهم لا لشيء إلا لأنهم أمروا بالقسط والعدل وعملوا به، فالآية تقريع وتوبيخ، كما هي تهديد ووعيد.
2. سؤال وإشكال: ان القتل لم يقع من أهل الكتاب الذين كانوا في زمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فكيف صحت نسبته اليهم؟، والجواب: الأمة في تكافلها تجري مجرى الشخص الواحد، وان الخلف قد رضي بفعل السلف، ومن رضي بفعل قوم شاركهم فيه، وكثيرا ما يضاف صنع الأب إلى الابن.
3. سؤال وإشكال: ان قتل الأنبياء لا يكون الا بغير حق، فما الفائدة من هذا القيد؟ والجواب: للإشارة إلى أن فظاعة قتل الأنبياء لم تكن لمكانتهم وعظمتهم، بل لأنه لا مبرر له إطلاقا.. وبكلمة ان المسألة ليست مسألة أشخاص وفئات، وإنما هي مسألة حق وعدم حق.
4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أما الحبط في الدنيا فلأنهم ملعونون على كل لسان، لما تركوه من سوء الآثار، وأما في الآخرة فلأنهم معاقبون.
5. ذكر الفقهاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطا، منها أن لا يخاف الآمر الضرر على نفسه وأهله وماله.. وبعض الفقهاء أنكر هذا الشرط، وأوجب الأمر بالمعروف، وان أدى إلى القتل، واستدل بهذه الآية، ووجه الدلالة بزعمه ان الأنبياء قد أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقتلوا في هذه السبيل بشهادة القرآن الكريم، والذي نراه ان للأنبياء في التبليغ عن الله شأنا غير شأن العلماء، لأنهم يقدمون ويحجمون بوحي من الله سبحانه، فإذا قتلوا في سبيل التبليغ فإنهم قد أقدموا بأمر منه تعالى، أما العلماء فيعتمدون على ما يفهمونه من مدارك الأحكام ومصادرها، والذي نفهمه نحن من هذه الأدلة والمصادر ان أي انسان يسوغ له السكوت عن المنكر إذا غلب على ظنه ان الإنكار لا يحقق أية فائدة دينية، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى المضرة والمفسدة، أما إذا غلب على ظنه ان وجود المنفعة الدينية من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع تضرره منه فتجب، والحال هذه، المقارنة بين دفع الضرر عن النفس، وبين المنفعة المترتبة على الأمر والنهي، فإن كانت المنفعة الدينية أهم، كالقضاء على الكفر والظلم والفساد في الأرض جاز تحمّل الضرر في هذه السبيل، وقد يجب.. وان كان دفع الضرر عن النفس أهم من انكار المنكر، كالنهي عن أكل المتنجس ـ مثلا ـ جاز الاحجام دفعا للضرر، وقد يجب، فالمسألة، اذن، تختلف باختلاف الموارد، وبهذا يتبين معنا ان قياس غير الأنبياء على الأنبياء في هذا المقام قياس مع وجود الفارق.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/32.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ إلى آخر الآية، الكلام في الآية وإن كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصة اليهود.
2. ﴿يَكْفُرُونَ﴾، و﴿يَقْتُلُونِ﴾، في موضعين للاستمرار ويدلان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغيا، وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حق، وقتل الذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأبا وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود، فقد قتلوا جمعا كثيرا وجما غفيرا من أنبيائهم وعبادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجراهم.
3. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ تصريح بشمول الغضب ونزول السخط، وليس هو العذاب الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ الآية فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي والأخروي معا، أما الأخروي فأليم عذاب النار، وأما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل والإجلاء وذهاب الأموال والأنفس، وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.
4. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، دلالة:
أ. أولا: على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر.
ب. وثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/124.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ يقولون لا تدل على ما جعلها الله آية له ويجحدون كونها آية له ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ظلماً وعدواناً، وهذا يدل على أن الواقع من اليهود كذلك، وفيه إشارة إلى أن ﴿النَّبِيِّينَ﴾ عباد من عباد الله تجري عليهم أحكام العدالة كما تجري على غيرهم، فلو فرض أن قتلهم كان بحق كالقصاص ما ضر القاتلين كونهم أنبياء، وهذا لأنه لا يكون قتل النبيئين إلا ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وعلى هذا فالواجب التسوية بين الشريف والدنيء في إقامة أحكام الله عليهم.
2. ﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ ولعل أكثر ما يكون ذلك حرصاً على الرئاسة، لأن الجماهير تحب الأبرار الذين يأمرون بالقسط أي العدل من الناس فالرؤساء الظلمة يخافون أن يغيروا عليهم رئاستهم.
3. ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأن سعيهم المذكور هو في الواقع سعي للعذاب الأليم ومن سعى لأمر يبشر بحصول ما سعى له، فهذه عبارة عن إخبارهم بأنهم يصيرون إلى عذاب أليم، وتسمية هذا الإخبار المفجع بشارة مُشَاكلَةٌ وتمْلِيْحٌ، وفي هذا دلالة واضحة على أن الرضا بالظلم مشاركة فيه؛ لأن الذين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يباشروا قتل النبيئين فأمره صلّى الله عليه وآله وسلم بتبشيرهم بالنار لأجل قتلهم، إنما هو لمشاركتهم لأسلافهم بالرضا منهم بقتل النبيئين، وكذلك قال الله في (قوم صالح): ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود:65] والخطاب لقومه جملة والكلام فيهم جملة، مع أن القاتل للناقة واحد منهم بأمر طغاتهم.
4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أصل الحَبوطُ: حُبُوطُ الدابة من الغنم أو الإبل، تأكل مأكولاً كثيراً أو زرعاً صغاراً يضرها فتموت، فشبهت بها أعمال هؤلاء المذكورين من أهل الكتاب، فلعلهم كانوا يصلون ويصومون ويفعلون بعض أعمال البر، لكنها حابطة لا تفيدهم ثواباً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
5. ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ لا ينصرهم من عذاب الله أحد من أتباعهم أو أهل دينهم، ولا من شركائهم مثل عزير والأحبار والرهبان الذين اتخذوهم ﴿أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة:31]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/440.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في أجواء هذه الآيات حديث عن تاريخ أهل الكتاب في إطار الحديث عن الحواجز التي تحول بين الإسلام وبين الانطلاق بعيدا في حياة الآخرين من خلال مؤامرات اليهود وانحرافهم وتعقيدهم ضد كل الرسالات التي لا تحقق لهم ما يريدونه لأنفسهم من امتيازات وتمنيات وأطماع، بل تعمل على أن تحقق للحياة وللمستضعفين فيها، الفرص الطيّبة التي تهيئ لهم سبل الكرامة والنمو والرخاء، فهم لا يوافقون على ذلك، فقد تحوّل الكتاب عندهم إلى ما يشبه الميزة القومية، التي لا تغني لهم شيئا إلّا بمقدار ما تضيف إلى رصيدهم من امتيازات ذاتية في مقابل الشعوب الأخرى، وبهذه النفسية المعقدة واجهوا الرسول محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم في رسالته كما واجهوا بقية الرسالات والرسل، فقد انطلقت كل الرسالات لتقودهم إلى كتاب الله، ولكنهم وقفوا جميعا ليحتفظوا بالكتاب كتراث وميزة ومصدر تجارة واستغلال وابتزاز وتأكيد للشخصية المستعلية التي تعتبر نفسها من شعب الله المختار، وتلك هي قصة الصراع بينهم وبين النبيين والذين اتبعوهم ممن يأمر بالقسط، إنه الصراع بين التجارة والرسالة، وبين الشكل والمضمون، وهذا ما جمّد اليهودية عن الانطلاق في الحياة كدعوة ورسالة تدعو الآخرين إلى اعتناقها والدخول فيها، بل حاولت أن تغلق الباب على الذين يدخلون فيها، وتحوّلت إلى قومية تبحث عن اليهودية في نقاء الدم وفي صفاء النسب بعيدا عن الجانب الفكري والعملي، وقد أنزل الله آياته على رسوله، ليعالج هذا الوضع المعقّد، بالحديث عن التاريخ الدموي الإجرامي لهؤلاء الذين يتظاهرون بالسلام والرحمة والقيم الروحية في الحياة من أجل الخداع والغش والحيلة والمكر، وبالتأكيد على خطأ المفاهيم المنحرفة التي يوحون بها إلى أنفسهم مما لا يرجع إلى أساس متين.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ إن القضية تبدأ بالعناد والتعصب والتنكّر للرسل، وتتحرك بالكفر بآيات الله الذي ينطلق من الرفض النفسي للاقتناع مهما كانت وسائل الإقناع التي تقدم إليهم، وتتحول إلى عقدة إجرامية، فهم يواجهون آيات الله، ويحسون في أعماقهم بأنها الحق الذي لا جدال فيه، ولكنهم يرفضونه بألسنتهم ومواقفهم ركونا إلى أطماعهم وشهواتهم وتعقيداتهم المرضيّة، ويخافون أن تنطلق الدعوة إلى الله في حياة الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى الإيمان والعدل، ويعمدون إلى النبيين، فيطلبون منهم أن يسكتوا ويتنازلوا عما يدعون إليه على أساس الرغبة والرهبة، ويمتد الأنبياء في صبر الرسالة وهدوء الإيمان ويستمرون في الدعوة وفي الموقف، ويتعاظم الخطر على المنحرفين، فهذه الأصوات المؤمنة قد بدأت ترتفع من هنا وهناك، فهذا صوت يرتفع بالإيمان، وهذا صوت ينطلق بالعدل، وذاك صوت يهجم على الظلم والبغي والطغيان، وبدأت الأصوات تدق عليهم الأبواب التي يعيشون خلفها، وتقتحم عليهم حالة الأمن والطمأنينة والاسترخاء، وارتفعت الأصوات واشتدت حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة، أو هكذا خيّل إليهم في استشرافهم للمستقبل.. فماذا يفعلون؟ لا سبيل إلّا إلى إخماد الصوت الأول الذي فتح للإنسان كل هذه الآفاق، لتخمد الأصوات الأخرى، ولا طريق إلى ذلك إلا بقتل النبيّ الرسول، وبدأت المذبحة، مذبحة النبيين في كل صباح ومساء، واختفى النبيون من الساحة ولم تختف الأصوات، فقد تحوّل كل واحد منها إلى آلاف الأصوات التي تنطلق بالكلمة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد، وضجّت الساحة من جديد بالأمر بالعدل والإنكار على الظلم، وأي ظلم أفظع من ظلم الذين يأمرون بالقسط، وبدأت مذبحة المؤمنين في كل يوم.
3. ما زال التاريخ الدامي يفرض نفسه على ساحة الرسالات، فالظلم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بالحجة والبرهان، لأنه يفقد المبرّر لكل أفكاره وقناعاته، والرسالات لا تستخدم القوة بل الإقناع، لأنها تريد أن تفتح قلوب الناس على الله، وعيون الناس على النور، قبل أن تخضع الواقع لما تريد، وقد تجد في الشهادة روحا جديدة تعطي الدم للرسالة، ويظل التاريخ الدامي للرسالات، يفتح لها آفاقا جديدة قد لا يلمحها الذين يصنعونها، ولكنها تشرق على الذين لا يزالون يواصلون الخطى من بعيد.
4. وبعد ذلك.. ماذا استفاد هؤلاء المجرمون؟ إنها أيام يعيشونها في استرخاء، ويبدأ العذاب القاتل في الدنيا، في ضمائرهم، وفي الآخرة، عند الله، ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ونلاحظ في التعبير بالبشارة بالعذاب أسلوبا من أساليب الاستهزاء بهم وبأفكارهم والتهديد لهم، وذلك لأن البشارة ـ في مفهومها ـ تعني الإخبار بالخبر السارّ الذي يرتاح إليه ويسرّ به.
5. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، إن الجريمة بقتل النبيين وقتل الذين يأمرون بالقسط، لا ترقى إليها جريمة أو معصية، فقد يغفر الله لعباده بعض ذنوبهم ومعاصيهم، ويحتفظ لهم بأعمالهم الصالحة التي عملوها ليجزيهم عليها في الدنيا والآخرة، ولكن هؤلاء هم الذين أحبط الله أعمالهم فلم يبق لهم منها شيء، وليس لهم يوم القيامة شفيع أو ناصر، فما أشد الخسارة، وما أعظم العذاب.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/282.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تعقيبا للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولا يستسلمون للحق، ففي الآية الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾، وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الّذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكلّ واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معاندا ومتصلّبا بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كلّ صوت يدعو إلى الحقّ.
2. التعبير بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾ و﴿يَقْتُلُونِ﴾ جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة إلى أنّ كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرّة (لأنّ الفعل المضارع يدلّ على الاستمراريّة)، وبطبيعة الحال إنّ هذه الأعمال كانت تصدر عادة من اليهود حيث نلحظ استمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر، ولكنّ هذه لا يمنع من عموميّة مفهوم الآية أيضا.
3. ثمّ إنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على ارتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ثمّ تقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها، والثالث أنّ الآية تقول: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.
4. سبق وأن قلنا في تفسير الآية 61 من سورة البقرة أنّ هذه الآية تشير إلى تاريخ اليهود المضطرب، فهم فضلا عن إنكارهم آيات الله تجرّؤا على قتل الأنبياء، كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين، ولكنّ هذا العمل لا يختصّ بهم وحدهم، بل يصحّ بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم.
5. وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصافّ الأنبياء، وترى الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل هؤلاء، على مستوى واحد، وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع.
6. يتبيّن من الآية الثانية شدّة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء الرجال الصالحين، وقد سبق أن قلنا إنّ (الحبط) لا يشمل جميع الذنوب، بل للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة وأخيرا عدم قبول أيّة شفاعة بحقّهم، كدليل على عظم ذنوبهم.
7. المقصود من ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ليس إمكان جواز قتلهم بحق، بل المقصود هو القول بأنّ قتل الأنبياء كان دائما ظلما وبغير حقّ، فعبارة (بغير حقّ) قيد توضيحيّ للتوكيد.
8. يستفاد من عبارة ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أنّها تشمل الكفّار المعاصرين للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أيضا، مع أنّا نعلم أنّ هؤلاء لم يقتلوا أحدا من الأنبياء، ذلك أنه إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم، فإنّه يكون شريكا لهم في أعمالهم الخيّرة والسيّئة، ولمّا كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبيّ من الكفّار ـ وخاصّة اليهود ـ تؤيّد أعمال أسلافهم وجرائمهم، فهم يشاركونهم فيما ينتظرهم من العقاب أيضا.
9. (البشارة) هي إخبار الرجل خبرا سارّا يبسط أسارير وجهه، واستعمال هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنّما هو نوع من التهديد والاستهزاء بأفكار المذنبين، وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم، إذ نقول ـ مستهزئين ـ لمن أساء الفعل: حسنا، سوف نكافؤك على ذلك.
10. ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنّه قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن أيّ الناس أشدّ عذابا في الآخرة؟ فقال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن منكر، ثمّ قرأ: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ ثمّ قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهو الذي ذكره الله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/437.
14. الإعراض عن الحاكمية الإلهية والاغترار
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈14⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 23 ـ 25]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: حبيب بن أبي ثابت: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان؛ فيما استجابوا له، وفيما فارقوه، وفيما استحل قتالهم؟ قال كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف، وادعه إلى كتاب الله، فإنه لن يأبى عليك، فجاء به رجل، فقال: بيننا وبينكم كتاب الله، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾، فقال الإمام علي: نعم، أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله، قال فجاءته الخوارج ـ ونحن ندعوهم يومئذ: القراء ـ وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين على التل؟ ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فتكلم سهل بن حنيف، فقال: يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية ـ يعني: الصلح الذي كان بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين ـ ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى)، قال ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم!؟ فقال: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني أبدا)، قال فرجع وهو متغيظ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال بلى، قال ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم!؟ فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولن يضيعه أبدا، قال فنزلت سورة الفتح، قال فأرسلني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى عمر، فأقرأها إياه، قال يا رسول الله، وفتح هو؟ قال: نعم(1).
2. روي أنّه قال: الأمانيّ تعمي عيون البصائر(2).
3. روي أنّه قال: كثرة الأماني من فساد العقل(2).
4. روي أنّه قال: سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور(3).
5. روي أنّه قال: الشّقيّ من اغترّ بحاله وانخدع لغرور آماله(4).
6. روي أنّه قال: أحمق الحمق الاغترار(4).
7. روي أنّه قال: جماع الغرور في الاستنامة إلى العدوّ(4).
8. روي أنّه قال: طوبى لمن لم تقتله قاتلات الغرور(4).
9. روي أنّه قال: كم من مغرور بالسّتر عليه(4).
10. روي أنّه قال: كفى بالمرء غرورا أن يثق بكلّ ما تسوّل له نفسه(4).
__________
(1) أحمد: ٢٥/٣٤٩، ٦/١٣٦.
(2) غرر الحكم: ص65.
(3) غرر الحكم: ص265.
(4) غرر الحكم: ص310.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال في هذه الآية: إن الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهدى، فأعرضوا عنه(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٣٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَرِيقٌ﴾ يعني: طائفة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَوُفِّيَتْ﴾ يعني: توفى ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ بر وفاجر ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ ما عملت من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ يعني: من أعمالهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٢.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٣.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿نَصِيبًا﴾ حظا ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ التوراة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: يهوي أهل النار في النار أربعين يوما، ثم يقال لهم: بلغتم الأمد، وأنتم في الأبد، وهي الأربعون التي قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ غرهم قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يعنون: الأيام التي خلق الله فيها آدم عليه السلام(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٩٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا﴾ الآية، هم اليهود، دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ثم تولوا عنه وهم معرضون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عن كتاب الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾(3).
4. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٩٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٢.
(3) ابن جرير: ٥/٢٩٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يوما، يعني: اليهود(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٣.
(2) ابن جرير: ٥/٢٩٧.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: في الآية: كان أهل الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق، وفي الحدود، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام فيتولون عن ذلك(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٢٩٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: أعطوا حظا من التوراة، يعني: اليهود ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ يعني: التوراة، ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يعني: ليقضي بينهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ يعني: يأبى ﴿فَرِيقٌ﴾ يعني: طائفة ﴿مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: يقول: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ عفو الله ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، يعني: الذين كذبوا؛ لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه(2).
4. روي أنّه قال: خوفهم الله، فقال: ﴿فَكَيْفَ﴾ بهم ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يعني: يوم القيامة لا شك فيه بأنه كائن، ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ بر وفاجر ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ من خير أو شر، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في أعمالهم(2).
5. روي أنّه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: اليهود؛ كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ويحيى بن عمرو، ونعمان بن أوفى، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو نافع بن قيس، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لهم: (أسلموا تهتدوا، ولا تكفروا)، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: نحن أهدى وأحق بالهدى منكم، ما أرسل الله نبيا بعد موسى، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لم تكذبون وأنتم تعلمون أن الذي أقول حق!؟ فأخرجوا التوراة نتبع نحن وأنتم ما فيها، وهى بينكم، فإني مكتوب فيها أني نبي ورسول)، فأبوا ذلك؛ فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ يعني: التوراة؛ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يعني: ليقضي بينهم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٦٨.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٦٩.
الهادي إلى الحق:
سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله سبحانه فيما يحكي عن من قال: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: 24]، فقال: نزلت في اليهود، كانوا يقولون: إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن الله يعذب أهل النار بدل كل ألف سنة يوماً واحداً، فذلك سبعة أيام، ثم ينقضي عذاب جهنم، فأنزل الله أكذابهم في ذلك وزور قولهم عنهم(1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/166.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾، قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إنما يتكلم به لأحد معنيين:
أ. إما للتعجب من الأمر العظيم؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر فلانا يقول كذا، أو يعمل كذا!؟ يقول ذلك له؛ لعظيم ما وقع عنده.
ب. وإمّا للتنبيه.
2. أيّهما كان ففيه تحذير للمؤمنين؛ ليحذر المؤمنون عن مثل صنيعهم؛ كقوله: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحديد: 16] من قبل الآية؛ حذر المؤمنين أن يكونوا مثل أولئك الذين أوتوا الكتاب، ولا يخالفوا كتابهم كما خالفوا هم.
3. قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون أراد بالكتاب: التوراة؛ على ما قيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لهم: (أسلموا تهتدوا، ولا تتكبّروا) فقالوا: نحن أهدى وأحق بالهدى منك، وما أرسل الله رسولا بعد موسى عليه السلام، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (بيني وبينكم التّوراة والإنجيل؛ فإنّه مكتوب فيهما) يعني: وإني رسول الله، فأبوا ذلك خوفا وإشفاقا على ظهور كذبهم.
ب. وقيل: أراد بالكتاب: القرآن، دعوا إليه؛ لأنه مصدّق لما معهم من الكتاب، فأبوا ذلك.
4. قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: الأيام التي عبد آباؤهم العجل، فظنوا أنهم إنما يعذبون بقدر ما عبد آباؤهم العجل، وأنهم لا يخلدون في النار؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه.
ب. ويحتمل أن يكون آباؤهم قالوا لهم: إنكم لا تعذبون في النار إلا قدر عبادتنا العجل؛ فأخبر ـ عزّ وجل ـ أن قد غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، ثم خوفهم فقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
5. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، وقال في ذلك الكتاب: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2]، وقد ارتاب فيها أكثر أهل الأرض؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ قد يتكلم به على تثبيت المقول به عند قائله، لا على نفي الشك عن كل من سمعه؛ إرادة التأكيد؛ فعلى ذلك أمكن أن يخرج معناه؛ إذ هو مخاطبة على ما عليه كلامهم؛ وكذلك قولهم أبدا على دوامه وامتداده، لا على حقيقة الأبدية؛ وكذلك يقولون: ﴿هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: 11]، وأمر قديم: لا على حقيقة القدم؛ التي تخرج على الكون بعد أن لم يكن.
ب. الثاني: على أنه لا يرتاب فيه المتأمّل المنصف بما جعل الله لذلك من الآيات، وعليه من الأدلة التي من تدبر فيها ـ أظهرته له، حتى يصير كالمعاين، ولا قوة إلا بالله.
ج. الثالث: أن يخبر به رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم عن قوم مخصوصين مما كانوا ينازعون فيه، بعد علمهم بصدقه؛ ليعرف به تعنتهم، ويؤيسه عن الطمع فيهم، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/344.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي حظاً لأنهم علموا بعض ما فيه ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ أي إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الدين.
2. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أي بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعنى التولي في قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن الداعي والإعراض عما دعي إليه.
3. ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أي بقدر الأيام التي عبدوا فيها العجل وقيل إن الأيام المعدودة عندهم سبعة أيام لأنهم زعموا أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فلا يعذبون على كل ألف سنة إلا يوم واحد ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ في قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:18]
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/137.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني حظا لأنهم علموا بعض ما فيه.
2. ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ في الكتاب الذي دعوا إليه قولان:
أ. أحدهما: أنه التوراة، دعي إليها اليهود فأبوا، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: القرآن، لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الدين، قاله الحسن وقتادة.
3. في قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. الثاني: أمر إبراهيم وأن دينه الإسلام.
ج. الثالث: أنه حد من الحدود.
4. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ قال ابن عباس: هذا الفريق المتولي هم زعماء يهود بني قينقاع: النعمان بن أوفى، وبحري بن عمرو بن صوريا تولوا عنه في حد الزنى لمّا أخبرهم أنه الرجم، ورجم اليهوديين الزانيين.
5. سؤال وإشكال: التولّي عن الشيء هو الإعراض عنه، والجواب: معناه يتولّى عن الداعي ويعرض عما دعي إليه.
6. ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ هذا من قول اليهود، واختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوما، قاله قتادة، والربيع.
ب. الثاني: أنها سبعة أيام، وهذا قول الحسن.
ج. الثالث: أنها أيام متقطعة لانقضاء العذاب فيها، وهذا قول بعض المتأخرين.
7. في قوله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة.
ب. الثاني: هو قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، قاله مجاهد.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/383.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا﴾ معناه الذين أعطوا ﴿نَصِيبًا﴾ أي حظاً وإنما قيل ﴿أُوتُوا نَصِيبًا﴾ منه، لأنهم يعلمون بعض ما فيه.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قال ابن عباس، والزجاج، والجبائي: إنه التوراة دعي إليها اليهود فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة عليهم بما فيه من الدلالة على نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم وتصديقه.
ب. وقال الحسن، وقتادة: دعوا إلى القرآن، لأن ما فيه موافق ما في التوراة في أصول الديانة وأركان الشريعة، وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها.
3. الحكم الذي دعوا فيه إلى الكتاب يحتمل ثلاثة أشياء:
أ. أحدها: أن يكون نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. الثاني: أن يكون أمر إبراهيم فان دينه الإسلام.
ج. الثالث: أن يكون حداً من الحدود، لأنهم نازعوا في ذلك.
وليس في القرآن دليل على تعيين ذلك وإنما هو محتمل لكل واحد منها.
4. الفرق بين الدعاء إلى الشيء والأمر به أن الأمر له صيغة مخصوصة، وفيه زجر عن المخالفة عند من قال إنه يقتضي الإيجاب، والدعاء قد يكون بالخبر وغيره من الدلالات على معنى الخبر وإنما دعوا إلى المحاكمة لتظهر الحجة فأبوا إلا المخالفة.
5. الحكم هو الخبر الذي يفصل الحق من الباطل بامتناعه من الإلباس وهو مأخوذ من الحكمة، وهو الخبر الذي توجب صحته الحكمة، وإنما يقال حكم بالباطل لأنه جعل موضع الحق باطلا بدلا منه، وقولهم ليس هذا حكم كذا معناه ليس هذا حقه فإنما دعوا إلى كتاب الله ليفصل الحق من الباطل فيما اختلفوا فيه.
6. ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ التولي عن الشيء هو الاعراض عنه، فليس على وجه التكرار لأن معناه يتولى عن الداعي، وهو معرض عما دعا إليه، لأنه قد كان يمكنه أن يتولى عنه وهو متأمل لما دعا إليه، فلما لم يفعل كان العيب له ألزم والذم على ما فعل أعظم.
7. في الأيام المعدودات في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: هي الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوماً، ذكره قتادة، والربيع، والحسن إلا أن الحسن قال سبعة أيام.
ب. الثاني: قال الجبائي: أرادوا أياماً منقطعة لانقضاء العذاب فيها وانقطاعه.
8. ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ الغرور الاطماع في ما لا يصح، غره يغره غروراً، فهو مغرور واعتره اغتراراً، والغرور: الشيطان، لأنه يغر الناس، والغار: الغافل، لأنه كالمغتر، والغرارة: الدنيا، لأنها تغر أهلها، والغر: الغمر الذي لم يجرب الأمور، ومصدره الغرارة، لأن من شأنه أن يقبل الغرور، والغرر: الخطر الذي يقدم فيه على ما لا ينبغي، لأنه كحال الغرور في الطمع المذموم، والغرارة: الوعاء، لأنها تغر بعظمها وخفاء ما فيها، والغر: آثار طي الثوب، أطوه على غره أي على آثار طيه، والغرغرة: التغرغر في الحلق، والغرغرة: حكاية صوت الراعي، والغر: زق الطائر فرخه، غره يغره غراً: إذا زقه وذلك، لأنه كالغرغرة في الحلق، والغُرة: الجبهة، وأصل الباب الغرور الطماع في غير مطمع.
9. ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فالافتراء: الكذب، وفرى فلان كذباً يفريه فرية، والفري: الشق، فريت الأديم فرياً، وفرية، مفرية: مشقوقة، وقد تفرو بجورها أي تشق، والفري: الإصر العظيم، لأنه يشق على النفس، وأصل الباب: الفري: الشق، ومنه الافتراء، لأنه يشق على النفس.
10. في الافتراء الذي غرهم قولان:
أ. أحدهما: قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ في قول قتادة.
ب. وقال مجاهد: غرهم قوله: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
11. ليس في الآية ما يدل على خلاف ما نذهب إليه من جواز العفو وإخراج المعاقبين من أهل الملة من النار من حيث أن الله ذم هؤلاء بأنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات، وذلك أنا لا نقول أن الأيام التي يعاقب فيها الفاسق بعدد أيام عصيانه، بل إنما نقول: إن عقاب من ثبت دوام ثوابه لا يكون إلا منقطعاً وإن لم يحط العلم مقداره، والله تعالى عاب أهل الكتاب بذلك من حيث قطعوا على ما قالوه وحكموا به وذلك بخلاف ما قلناه.
12. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (كيف) موضوعة للسؤال عن الحال، ومعناها هاهنا التنبيه بصيغة السؤال عن حال من يساق إلى النار، وفيه بلاغة، واختصار شديد، لأن تقديره أي حال يكون حال من اغتر بالدعاوي الباطلة حتى أداه ذلك إلى الخلود في العقوبة؟ ونظيره قول القائل: أنا أكرمك وإن لم تجئني فكيف إذا جئتني؟ معناه فكيف إكرامي لك إذا جئتني، والتقدير: كيف حالها إذا جمعناهم؟ لأنه خبر ابتداء محذوف.
13. ﴿لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ معناه لجزاء يوم، واللام يدل على هذا التقدير، ولو قال جمعناهم في يوم لما دل على ذلك، ومثله جئته ليوم الخميس أي لما يكون في يوم الخميس، وقال الفراء، معناه في يوم.
14. في قوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: {وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} من ثواب أو عقاب.
ب. الثاني: ما كسبت من ثواب أو عقاب بمعنى اجتلبت بعملها من الثواب أو العقاب، كما تقول كسب فلان المال بالتجارة والزراعة.
15. سؤال وإشكال: كيف قال {وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} وما كسبت، لا نهاية له، لأنه دائم وما لا نهاية له لا يصح فعله؟ والجواب: معناه أنه توفى كل نفس ما كسبت حالا بعد حال، فأما أن يفعل جميع المستحق فمحال لكن لا ينتهي إلى حد ينقطع ولا يفعل فيما بعده.
16. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ معناه لا يبخسون، فلا يبخس المحسن جزاء إحسانه، ولا يعاقب مسيء فوق جزائه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/426.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النصيب: الحظ من الشيء، وهو القسم المجعول لمن أضيف إليه.
ب. الدعاء استدعاء الفعل منه، ثم قد يكون بصيغة الأمر وبالخبر وبالدلالة.
ج. الحكم: الخبر الذي يفصل الحق من الباطل مأخوذ من الحكمة وهي المنع.
د. الغرور: الأطماع فيما لا يصح، غره يغره غرورًا فهو مغرور، والغرور الشيطان؛ لأنه يغر الناس، والغرارة الدنيا؛ لأنها تغر أهلها، والغرر الخطر أخذ منه.
هـ. الافتراء: الكذب، وفرى فلان كذبًا يفريه فرية.
و. وفيت الشيء أوفيه وأوفيته: أعطيته على التمام، ومنه: وفيت حقه إذا أعطيته جميع ما يجب له.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾:
أ. عن السدي قال: دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اليهود إلى الإسلام فقالوا: هلم نخاصمك إلى الأحبار، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: بل إلى كتاب الله، ففالوا: بل إلى الأحبار، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دخل بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الإسلام، وفيهم نعيم بن عمرو والحارث بن زيد فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، فقالا: إن إبراهيم كان يهوديًّا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ج. وعن ابن عباس أن رجلاً وامرأة زنيا وكانا ذَوَيْ شرف، وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ورجوا أن يكون عنده رخصة، فحكم بالرجم فقالوا: ليس عليهما الرجم، فقال، صلّى الله عليه وآله وسلم: بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟ قالوا: ابن صوريا الفدكي فأتوا به، ودعوا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله، فرفع كفه عنها فوجدوه أنه الرجم، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بهما فرجما، فغضب اليهود لذلك غضبًا شديدًا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: أنا أولى بأخي موسى، وأنا أول من أحيا سنة أماتوها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما تقدم ذكر القرآن وكفرهم بين تعالى إعراض اليهود عن كتابهم الذي يزعمون أنهم تمسكوا به، فقال تعالى معجبا نبيه من حالهم ومبينًا أنهم إذا لم يجيبوا إذا دعوا إلى كتابهم فكيف يأمل أن يجيبوا القرآن.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾:
أ. قيل: معناه ألم تعلم.
ب. وقيل: بل المراد به رؤية العين.
ج. وقيل: هو تعجيب، عن الأصم.
د. وقيل: بل تقريع لهم ووعيد.
5. ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا﴾ أعطوا ﴿نَصِيبًا﴾ حظّا ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: الكتاب التوراة، والَّذِينَ أوتوا نصيبًا اليهود، عن ابن عباس والزجاج وأبي علي.
ب. وقيل: الكتاب التوراة والإنجيل، والَّذِينَ أوتوا اليهود والنصارى، عن أبي مسلم.
6. إنما قال: ﴿نَصِيبًا﴾ لأنهم يعملون ببعض ما فيه دون كله ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ إلى الإيمان به واتباع أحكامه:
أ. قيل: التوراة دعا إليها اليهود فأبوا وامتنعوا منَ الإجابة لعلمهم بلزوم الحجة، عن ابن عباس وجماعة.
ب. وقيل: دعوا إلى القرآن عن الحسن وقتادة والسدي وأبي مسلم لأن ما فيه يوافق ما في التوراة من أصول الديانة والصفة التي تقدمت بها البشارة.
7. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ ليفصل بينهم الحق من الباطل، واختلفوا في الحكم المدعو إليه:
أ. فقيل: بنبوة محمد وما في كتبهم من البشارة به، عن أبي مسلم وجماعة.
ب. وقيل: دين إبراهيم.
ج. وقيل: في أمر الرجم وليس في الكتاب بيان ذلك.
د. وقد وقعت المنازعة في جميع ذلك فيجوز حملها على الجميع.
8. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ يعرض ﴿فَرِيقٌ﴾ جماعة ﴿مِنْهُمْ﴾ وهم العلماء؛ لأن العوام لا معرفة لهم بالكتاب ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ وإنما ذكر التولي والإعراض:
أ. لأن معناه يتولى عن الداعي ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عما دعا إليه وكل واحد غير الآخر.
ب. وقيل: ذكر ذلك تأكيدًا.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾:
أ. قيل: يعني ذلك الإعراض والعناد من علمائهم إنما كان لقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾
ب. وقيل: ذلك الجزاء لهم على قولهم ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾، يعني لأنهم ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ أي لا تصيبنا على مخالفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم النار.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾:
أ. قيل: الأيام التي عبدوا فيها العجل، وهي أربعون يومًا، عن الحسن وقتادة والربيع، غير أن الحسن قال: سبعة أيام.
ب. وقيل: أيامًا منقطعة ينقضي العذاب بانقضائها، عن أبي علي.
11. ﴿وَغَرَّهُمْ﴾ أطمعهم فيما لا مطمع ﴿فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يكذبون:
أ. قيل: هو قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾
ب. وقيل: هو قولهم ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، عن مجاهد.
ج. وقيل: غرهم قولهم: إنا على الحق وأنت على الباطل.
12. ﴿فَكَيْفَ﴾ تنبيه بصيغة السؤال على حال من يساق إلى النار يعني كيف حالهم ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ حشرناهم جميعًا للجزاء:
أ. قيل: لجزاء يوم.
ب. وقيل: في يوم.
13. ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في كونه، وهو يوم القيامة، ﴿وَوُفِّيَتْ﴾ وفرت؛ أي أعطيت تامًا ﴿كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾:
أ. قيل: جزاء ما كسبت من خير أو شر.
ب. وقيل: ما كسبت من ثواب أو عقاب على معنى اجتلبت بعملها كقولهم: كسب المال بالتجارات والغلات بالزراعة، والمراد بالتوفية أنه يتوفر عليه في كل وقت ما يستحقه من ثواب، أو عقاب، فأما ما يستحقه فلا نهاية له، فلا يجوز إيصالها إليه.
14. ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ عملت ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: لا يبخس عن حقهم شيء.
ب. وقيل: لا ينتقص عن ثوابهم ولا يزاد على المستحق من عقابهم.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه دعاهم إلى الكتاب فتولوا لما علموا من لزوم الحجة، والأظهر أنه دعاهم إلى التوراة في صفته بثبوت نبوته فإنهم علموا ذلك فتولوا، قال القاضي: وقد خصهم بأنهم أوتوا الكتاب ولا يليق ذلك إلا بالتوراة، فالدعاء واقع إلى ذلك الكتاب.
ب. وجوب إجابة من دعا إلى كتاب البه.
ج. أن في اليهود من يقول بانقطاع العذاب، وإنكاره عليهم يدل على أن من حق العقاب أن يدوم في كل شريعة؛ لأن ما ذكره من النكير لا يختص، عن أبي علي.
د. أن الثواب والعقاب جزاء على الأعمال، وأن كل نفس تجازى بما عملت فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المسألتين.
هـ. نفي الظلم عنه.
و. عناد اليهود، قال الأصم: وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأنهم إذا لم يجيبوا إلى كتابهم، فكيف يجيبون إلى كتابك؟.
16. مسائل نحوية:
أ. ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ خبر ابتداء محذوف تقديره: فكيف حالهم إذا جمعناهم.
ب. ﴿وَأَيَّامًا﴾ نصب على الظرف؛ لأن مس النار يكون بتلك الأيام، وهو في موضع نصب إلا أن التاء زائدة، فلا يدخله النصب.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/199.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النصيب: الحظ من الشئ، وهو القسم المجعول لمن أضيف إليه.
ب. الدعاء: استدعاء الفعل ثم قد يكون بصيغة الأمر وبالخبر وبالدلالة والحكم، والخبر الذي يفصل الحق من الباطل مأخوذ من الحكمة: وهي المنع.
ج. الغرور: الإطماع فيا لا يصح غره يغره غرورا فهو مغرور، والغرور: الشيطان، لأنه يغر الناس، والغار: الغافل، لأنه كالمغتر، والغرارة: الدنيا تغر أهلها، والغر: الغمر الذي لم يجرب الأمور، ومصدره الغرارة، لأنه من شأنه أن يقبل الغرور، والغرر: الخطر، أخذ منه، والغر: آثار طي الثوب، أطوه على غره أي: على آثار طيه، والغر: زق الطائر فرخه.
د. الافتراء: الكذب، وفرى فلان كذبا يفريه فرية، والفري: الشق، وفرية مفرية أي: مشقوقة، وقد تفرى خرزها أي: تشقق، وفريت الأرض: سرتها وقطعتها.
هـ. كيف: موضوعة للسؤال عن الحال، ومعناه هاهنا: التنبيه بصيغة السؤال على حال من يساق إلى النار، وفيه بلاغة واختصار شديد، لأن تقديره: أي حال يكون حال من اغتر بالدعاوي الباطلة، حتى أداه ذلك إلى الخلود في النار؟ ونظيره قول القائل: (أنا أكرمك وإن لم تجئ فكيف إذا جئتني) معناه: فكيف إكرامي لك إذا جئتني؟ يريد عظم الإكرام، والتقدير: فكيف حالهم إذا جمعناهم أي: في وقت جمعهم، لأنه خبر مبتدأ محذوف.
2. لما قدم تعالى ذكر الحجاج، بين أنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة، وأعرضوا عن المحجة فقال ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ معناها: ينته علمك ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ أي: أعطوا نصيبا أي: حظا ﴿مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿كِتَابِ الله﴾:
أ. قيل: معناه التوراة، عن ابن عباس دعا إليها اليهود، فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة لهم لما فيه من الدلالات على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وصدقه، وإنما قال: (أعطوا نصيبا من الكتاب) لأنهم كانوا يعلمون بعض ما فيه.
ب. وقيل: معناه القرآن، عن الحسن وقتادة، دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة، من أصول الديانة، وأركان الشريعة، وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها.
4. قوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يحتمل ثلاثة أشياء:
أ. أحدها: إن معناه ليحكم بينهم في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، عن أبي مسلم وجماعة.
ب. والثاني: إن معناه ليحكم بينهم في أمر إبراهيم، وأن دينه الإسلام.
ج. والثالث: معناه ليحكم بينهم في أمر الرجم، فقد روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكانا ذوي شرف فيهم، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله رخصة في أمرهما، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله، فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى، وبحري بن عمرو: جرت عليهما يا محمد، ليس عليهما الرجم فقال لهم رسول الله: بيني وبينكم التوراة، قالوا: قد أنصفتنا، قال: فمن أعلمكم بالتوراة؟قالوا: رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول الله، فقال له رسول الله: أنت ابن صوريا؟ قال: نعم، قال: أنت أعلم اليهود؟ قال: كذلك يزعمون، قال: فدعا رسول الله بشئ من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له: إقرأ، فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: يا رسول الله! قد جاوزها، وقام إلى ابن صوريا، ورفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وعلى اليهود، بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
5. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أي: طائفة منهم، عن الداعي ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن اتباع الحق ﴿ذَلِكَ﴾ معناه: شأنهم ذلك، فهو خبر مبتدأ محذوف.
فالله تعالى بين العلة في إعراضهم عنه، مع معرفتهم به، والسبب الذي جرأهم على الجحد والإنكار، ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ أي: لن تصيبنا النار ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وفيه قولان:
أ. أحدهما: إنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وهي أربعون يوما، عن الربيع وقتادة والحسن، إلا أن الحسن قال سبعة أيام.
ب. والثاني: إنهم أرادوا أياما منقطعة، عن الجبائي.
6. ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ أي: أطمعهم في غير مطمع ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي: افتراءهم وكذبهم، واختلفوا في الافتراء الذي غرهم على قولين:
أ. أحدهما: قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، عن قتادة.
ب. والآخر: قولهم ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، عن مجاهد.
7. هذا لا يدل على خلاف ما نذهب إليه(2) من جواز العفو، وإخراج المعاقبين من أهل الصلاة من النار، لأنا نقول إن عقاب من ثبت دوام ثوابه بإيمانه، لا يكون إلا منقطعا، وإن لم يحط علما بقدر عقابه، ولا نقول أيام عقابه بعدد أيام عصيانه، كما قالوا، وبين القولين بون ظاهر.
8. ثم أكد سبحانه ما تقدم، فقال ﴿فَكَيْفَ﴾ حالهم ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ أي: وقت جمعهم، وحشرهم ﴿لِيَوْمٍ﴾ أي: لجزاء يوم ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه لمن نظر في الأدلة، إذ ليس فيه موضع ريبة وشك، ولو قال جمعناهم في يوم، لم يدل على الجزاء، واللام يدل على ذلك، كما يقال: جئته ليوم الخميس أي: لما يكون في يوم الخميس، ولا يعطي جئته في يوم الخميس هذا المعنى.
9. في قوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن معناه ووفرت على كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب.
ب. والثاني: أعطيت ما كسبت أي: اجتلبت بعملها من الثواب والعقاب، كما يقال: كسب فلان المال بالتجارة، والزراعة.
10. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: لا ينقصون عقا استحقوه من الثواب، ولا يزادون على ما استحقوه من العقاب.
11. مسائل نحوية:
أ. ﴿يُدْعَوْنَ﴾: جملة في موضع الحال من ﴿أُوتُوا﴾
ب. ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ﴾: جملة معطوفة على ﴿يُدْعَوْنَ﴾
ج. ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾: في موضع نصب أيضا على الحال من ﴿يَتَوَلَّى﴾
د. ﴿أَيَّامًا﴾: نصب على الظرف لأن مس النار يكون في تلك الأيام.
هـ. ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ صفة الأيام.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/722.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أيّ دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا: فإنّه كان يهوديا، قال فهلمّوا إلى التّوراة، فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ رجلا وامرأة من اليهود زنيا، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النّبيّ عليه السلام رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليهما بالرّجم، فقالوا: جرت علينا يا محمّد، ليس علينا الرّجم، فقال: بيني وبينكم التّوراة، فجاء ابن صوريا، فقرأ من التّوراة، فلمّا أتى على آية الرّجم، وضع كفّه عليها، وقرأ ما بعدها، فقال ابن سلام: قد جاوزها، ثم قام، فقرأها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم باليهوديّين، فرجما، فغضب اليهود، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال نعمان بن أبي أوفى: هلمّ نحاكمك إلى الأحبار، فقال: بل إلى كتاب الله، فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ.
د. الرابع: أنّها نزلت في جماعة من اليهود، دعاهم النبيّ إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحقّ بالهدى منك، وما أرسل الله نبيّا إلّا من بني إسرائيل، قال فأخرجوا التّوراة، فإنّي مكتوب فيها أنّي نبيّ، فأبوا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن سليمان.
2. النّصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التّوراة، وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان:
أ. أحدهما: أنه التّوراة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين.
ب. الثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة.
3. في الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال:
أ. أحدها: ملّة إبراهيم.
ب. الثاني: حدّ الزّنى، رويا عن ابن عباس.
ج. الثالث: صحّة دين الإسلام، قاله السّدّيّ.
د. الرابع: صحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، قاله مقاتل.
4. سؤال وإشكال: التّولّي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ والجواب: من أربعة أوجه:
أ. أحدها: التأكيد.
ب. الثاني: أن يكون المعنى: يتولّون عن الدّاعي، ويعرضون عمّا دعا إليه.
ج. الثالث: يتولّون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم.
د. الرابع: أن يكون الذين تولّوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباريّ.
5. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ يعني: الذي حملهم على التّولي والإعراض أنهم قالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وقد ذكرناها في (البقرة)
6. ﴿يَفْتَرُونَ﴾: يختلقون، وفي الذي اختلقوه قولان:
أ. أحدهما: أنه قولهم: لن تمسّنا النار إلا أياما معدودات، قاله مجاهد، والزّجّاج.
ب. الثاني: قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، قاله قتادة، ومقاتل.
7. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ﴾ معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ﴿لِيَوْمٍ﴾ أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، وقيل (اللام) بمعنى: (في)
__________
(1) زاد المسير: 1/269.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما نبّه الله تعالى على عناد القوم بقوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله﴾ [آل عمران: 20] بيّن في هذه الآية ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ غاية عنادهم، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون، ويتولون، وذلك يدل على غاية عنادهم.
2. ظاهر قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دلّ دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113]
3. ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق، ومن عند الله.
4. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ على وجوه:
أ. أحدها: روي عن ابن عباس أن رجلًا وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟ قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. الثانية: أنه صلّى الله عليه وآله وسلم دخل مدرسة اليهود، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: هلموا إلى التوراة، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ج. الثالثة: أن علامات بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوّته موجودة فيها، فدعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 93] وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
د. الرابعة: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى، وذلك لأن دلائل نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
5. ﴿نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ المراد منه نصيباً من علم الكتاب، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب، لأن من لا علم له بذلك لا يدعى إليه.
6. في قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول ابن عباس والحسن أنه القرآن، سؤال وإشكال: كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به؟ والجواب: إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
ب. الثاني: وهو قول أكثر المفسرين: إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه:
• الأول: أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون.
• الثاني: أنه تعالى عجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم من تمردهم وإعراضهم، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته، ويقرون بحقيته.
• الثالث: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية، وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب، والبعد عن قبول الحق.
7. ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ المعنى: ليحكم الكتاب بينهم، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور، وقرئ ﴿لِيَحْكُمَ﴾ على البناء للمفعول، قال الزمخشري: وقوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعا فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء.
8. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ وجهان:
أ. الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأجل تولي علمائهم.
ب. الثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل.
9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ الكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة.
10. وجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ قال في هذه الآية: ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات.
11. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، قال الجبائي: (وفيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن أهل النار يخرجون من النار، لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً، ولما استحق الذم، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل)، كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم، وإن سلمنا أنه يلزم ذلك، لكن لم قلتم: إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار، بل هاهنا وجوه أخر:
أ. الأول: لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: مدة عذابنا سبعة أيام، ومنهم من قال بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل.
ب. الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ، لأن عندنا المخطئ في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم، لأنه كافر، والكافر عذابه دائم.
ج. الثالث: أنهم لما قالوا ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فقد استحقروا تكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحا بتكذيب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة.
12. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾:
أ. فقيل: هو قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]
ب. وقيل: هو قولهم ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
ج. وقيل: غرهم قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
13. ثم إنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾، وفي الكلام حذف، والتقدير: (فكيف صورتهم وحالهم)، ويحذف الحال كثيرا مع كيف لدلالته عليها تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني.. وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: لو زارني، وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
14. قال تعالى: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ﴾ ولم يقل في يوم، لأن المراد: لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه، قال الفرّاء: اللام لفعل مضمر إذا قلت: جمعوا ليوم الخميس، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلًا وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب، ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك فيه.
15. ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾:
أ. إن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف، والتقدير: ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب.
ب. وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.
16. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فلا ينقص من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات.
17. قوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ يستدل به القائلون بالوعيد، ويستدل به أهل السنة، ومن وافقهم القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار:
أ. أما الأولون قالوا: لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة، والآية دلّت على أن كل نفس توفى عملها وما كسبت، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.. والجواب: أن هذا من العمومات، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة، ومن وافقهم بالعمومات.
ب. أما أهل السنة، ومن وافقهم، فإنهم يقولون: إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله تعالى: ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع، وإما أن يقال: يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبدا مخلدا وهو المطلوب.
18. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يقال: إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟، والجواب: هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة، وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر، والمنازع فيه مكابر، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر، وكان يحيى بن معاذ يقول: ثواب إيمان لحظة، يسقط كفر سبعين سنة، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة، ولا شك أنه كلام ظاهر.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 7/179.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾:
أ. قال ابن عباس: هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إني على ملة إبراهيم)، فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم)، فأبيا عليه فنزلت الآية.
ب. وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (هلموا إلى التوراة ففيها صفتي) فأبوا.
2. في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالف والمخالف، وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية، وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة النور في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ـ إلى قوله ـ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له)، قال ابن العربي: وهذا حديث باطل، أما قوله (فهو ظالم) فكلام صحيح، وأما قوله (فلا حق له) فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق، قال ابن خويز منداد المالكي: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يحيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداوة من المدعي والمدعى عليه.
3. في الآية الكريمة دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وإنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لأن من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته، ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها.. والأخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في ذلك.
4. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ إشارة إلى التولي والإعراض، واغترار منهم في قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ إلى غير ذلك من أقوالهم.
5. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم، واللام في قوله ﴿لِيَوْمٍ﴾ بمعنى ﴿فِي﴾، قاله الكسائي، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم، وقال الطبري: لما يحدث في يوم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/50.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ فيه تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء، وهم: أحبار اليهود، والكتاب: التوراة، وتنكير النصيب للتعظيم، أي: نصيبا عظيما، كما يفيده مقام المبالغة، ومن قال إن التنكير للتحقير فلم يصب، فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ الذي أوتوا نصيبا منه وهو التوراة ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ والحال معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به واعترافهم بوجوب الإجابة إليه.
2. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما مر من التولّي والإعراض بسبب ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وهي مقدار عبادتهم العجل، وقد تقدم تفسير ذلك: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول.
3. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب، أي: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه؟، فإنهم يقعون لا محالة، ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب.
4. ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي: جزاء ما كسبت، على حذف المضاف ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بزيادة ولا نقص، والمراد: كل الناس المدلول عليهم بكل نفس قال الكسائي: اللام في قوله: ﴿لِيَوْمٍ﴾ بمعنى: في، وقال البصريون: المعنى: لحساب يوم، وقال ابن جرير الطبري: المعنى: لما يحدث في يوم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/377.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ﴾ التوراة، والمراد بهم أحبار اليهود ﴿يُدْعَوْنَ﴾ إِلى كِتابِ اللهِ وهو القرآن ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذ قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله ﴿وهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ حال من فريق، أي معرضون عن قبول حكمه، أو اعتراض، أي وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق، والإصرار على الباطل.
2. من المفسرين من حمل قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ﴾ على التوراة، وأن الآية إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما بالرجم، فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التحميم، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم، فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية.
3. قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان:
أ. الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء: يستحب أن يقول سمعا وطاعة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]
ب. الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم رجم اليهوديين، ونزلت الآية مقررة له على القول بذلك.
4. ﴿ذلِكَ﴾ إشارة إلى التولي والإعراض ﴿بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ﴾ أي بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم ﴿وغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من قولهم ذلك، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمّع بما لا يكون.
5. ثم رد قولهم المذكور، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعدّ لهم، وتهويله، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله: ﴿فَكَيْفَ﴾ يصنعون، وكيف تكون حالتهم ﴿إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ﴾ أي في يوم ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك، وهو يوم القيامة ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ﴾ أي جزاء ما عملت من خير أو شر ﴿وهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ الضمير لكل نفس على المعنى، لأنه في معني كل إنسان، أي لا يظلمون بزيادة عذاب، أو بنقص ثواب، ثم علّم تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/301.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعجيب له صلّى الله عليه وآله وسلم أو لكلِّ من يصلح له، ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا﴾ بعضًا، وذكره بلفظ النصيب إشعارا بكمال اختصاصه بهم، وأنَّه حقٌّ من حقوقهم، ﴿مِّنَ الْكِتَابِ﴾ أي: هو الكتاب، وهو التوراة، أو بعضا من جنس كُتُبِ الله، فيشمل التوراة وغيرها، قيل: أو جاء من الكتاب الذي هو اللَّوح المحفوظ، وعلى هذين فالتنكير تعظيم، ويجوز أن يكون تحقيرا، ووجهه أنَّه ولو لم يكن معهم إِلَّا نصيب قليل ينقادون به لأمر الله لو استعملوا عقولهم فكيف لو كان لهم كثير؛ وفيه أنَّ المقام لتقبيحهم لا لبيان أنَّ القليل منه كاف، ولو كان وجه هو ما ذكرته، قلت: أو بعضا من علم التوراة لأنَّهم لا يدركون كلَّ علمها، وإنَّما عَلِمَه كلَّه اللهُ، وكأنَّه قيل: ما شأن هؤلاء المؤتين نصيبا من الكتاب؟ فاستأنف جوابا بقوله: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ﴾ القرآن كما هو اصطلاح الشرع، وذلك أنَّهم علموا أنَّه القرآن ولو أنكروه بألسنتهم، أو هذه الجملة حال، والداعي سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلم ، أو بعض اليهود راجيا أن لا يكون الرجم في القرآن، أو كتَاب الله: التوراة، وهو أوفق لقوله: ﴿أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ﴾، والدعوة إلى التوراة دعوة إلى القرآن لكونه مصدِّقا لها، ومن جملة ما أوتوا من علومها وأحكامها نعوت النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم وحقِّيَّة الإسلام.
2. سبب النزول: دخل صلّى الله عليه وآله وسلم مدرسة لليهود فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيِّ دين أنت؟ فقال: (على دين إبراهيم)، فقالا له: إنَّ إبراهيم كان يهوديًّا، فقال: (هلمَّا إلى التوراة فإنَّها بيننا وبينكم)، فأبيا، فنزل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ﴾
3. ﴿لِيَحْكُمَ﴾ أي: الكتاب، أو الله، ﴿بَيْنَهُمْ﴾ فيما اختلفوا فيه من الرجم، أو بينهم وبين الرسول في إبراهيم، أو بين من لم يسلم وبين من أسلم منهم، والوعيد لمن لم يسلم، ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ بأبدانهم عن مجلسه صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ بقلوبهم عن حكمه.
4. سبب النزول: وروي أنَّ أهل خيبر كرهوا رجم رجل وامرأة منهم زنيا لشرفهما، فترافعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجاء لرخصة، فأمر برجمهما، فقال النعمان بن أوفى وعديُّ بن عمْرو: جُرْتَ عليهما يا محمَّد، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم : (بيننا التوراة)، قالوا: أنصفت، فقال: (مَن أعلمُكُم بالتوراة؟)، قالوا: أعور يسكن فدك يسمَّى عبد الله بن صوريا، فأرسلوا إليه، فجاء المدينة، وقد وصفه جبريل عليه السلام له صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: (أنت ابن صوريا؟)، فقال: نعم، فقال: (أنت أعلم اليهود بالتوراة؟) فقال: كذلك يزعمون، فدعا صلّى الله عليه وآله وسلم بالتوراة، وقال له: (اِقرأ)، وَلَمَّا أتى على آية الرجم وضع يده عليها وقرأ ما بعدها، فقال: عبد الله بن سلام: يا رسول الله، قد جاوزها، ثمَّ قام ورفع كفَّه عنها، وقرأها على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وعلى اليهود وفيها: (إنَّ المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيِّنة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تُرُبِّص بها حتَّى تضع ما في بطنها)، فأمر صلّى الله عليه وآله وسلم بهما فرجما وليست حبلى، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم : (إِنَّمَا أحكم بكتابكم)، أي: إِنَّمَا أحكم بما ثبت فيه ولم ينسخ؛ لأنَّه موافق لِمَا في كتاب الله إليَّ، وليس المُرَاد: إنِّي تركت ما أوحي إليَّ، بل حكمت بما أوحي إليَّ، وهو نصُّ كتابكم، وَلَمَّا رُجما غضبت اليهود لذلك غضبا شديدا فنزلت الآية: ﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ إلخ؛ فالخلاف بين عبد الله بن صوريا ومن معه وبين عبد الله بن سلام مع النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم ، أو بين أحدهما معهم أيرجمان أم يسخَّمان، وبينه صلّى الله عليه وآله وسلم وبينهم في إبراهيم أيهوديٌّ ـ حاشاه ـ أم حنيف مسلم؟.
5. ﴿ذَالِكَ﴾ أي: ما ذكر من التولِّي والإعراض، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنَّهم تساهلوا في العقاب كما قال الله تعالى : ﴿قَالُواْ﴾ اعتقدوا وتلفَّظوا على طبق اعتقادهم، ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ ندخلُها جزما من أجل عبادة آبائنا العجل، تطهِّرنا من عبادتهم ومن ذنوبنا، فلا فائدة في اتِّباع حكم محمَّد، مع أنَّا داخلونها جزما وخارجون منها بعد الأيَّام المعدودات: أربعين يوما عدد أيَّام عبادة آبائهم العجل، أو سبعة أيَّام عدد الأسبوع، وزعموا أنَّ مدَّة الدنيا سبعة آلاف عام يوم لألف، ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي: كونهم يفترون؛ أو ما كانوا يفترونه مِنْ خروجهم منها بعد الأيَّام المعدودات، أو مِن أنَّ آباءَهم الأنبياء يشفعون لهم كلِّهم: من كان الأنبياء آباءهم، ومن ليسوا بآبائهم، ولا شفاعة لهم البتَّة، أو مِنْ قولِهِم: ﴿نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ﴾ [سورة المائدة: 18]، أو من كان ذرِّية نبيء شفع له نبيئه ومن لم يكن خرج بعد الأيَّام، أو مِنْ دعوى أنَّ الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذِّب أولاده إِلَّا تحلَّة القسم، وفيه أنَّه لا عذاب في تلك التحلَّة، بل الورود إمَّا رؤيتها كما هو الحقُّ، ويزيد الشقيُّ بالعذاب وهو الحقُّ، وإمَّا دخولها بلا عذاب للسعيد فيخرج.
6. ﴿فَكَيْفَ﴾ حالهم هي حال فظيعة لا يحيط بها إِلَّا الواحد القهَّار، ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ﴾ في يوم؛ أو لقضاء يوم؛ أو جزاء يوم؛ ﴿لَّا رَيْبَ فِيهِ﴾ واضح لا يستحقُّ الشكَّ فيه ولا في وقوع ما فيه، ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ صالحة أو عاصية، ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ أي: جزاء ما كسبت، أو أراد بما كسبت الجزاء، لأنَّه سببه، أو ﴿وُفِّيَتْ﴾ إلخ مجاز عقليٌّ، روي أنَّ أوَّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفَّار راية اليهود، فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد، ثمَّ يأمر بهم إلى النار، ﴿وَهُمْ﴾ أي: كلُّ نفس، أي: كلُّ أحد، ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثوابٍ، بل يُزاد، ولا بزيادة عذاب.
7. والكبائر محبطة للأعمال، فالفاسق خالد في النار كالمشرك إذ وُفِّيَ جزاء إصراره المبطل لعمله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/228.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان سابق الكلام في تقرير التوحيد وإقامة الدلائل عليه وعلى الحشر وبيان ثواب العاملين، وقيام الحجة على المعاندين؛ لأن البلاغ قد أوضح المحجة للناس، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فحسابهم على الله تعالى، ثم ذكر أشد ما كان من أهل الكتاب الذين تولوا عن الدعوة من قبل إذ كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وكان يحزنه إعراضهم؛ ولذلك التفت إلى خطابه بأعجب شأنهم في الدين لذلك العهد فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
2. أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأنزل الله: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله: يفترون ذكر هذا التخريج السيوطي في لباب النقول وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره، فكتاب الله الذي يدعون إليه هو التوراة على هذا الوجه، قال ابن جرير: وقيل بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ليحكم بينهم بالحق فأبت، روي ذلك عن قتادة وابن جريج ورجح الأول، ومعناه: ألم تر يا محمد إلى هؤلاء الذين تعجب لعدم إيمانهم بك على وضوح ما جئت به كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟
3. وقائع الأحوال في عصر التنزيل تتفق مع كل من القولين، فقد كانوا يتولون عن حكم التوراة إذا خالف أهواءهم كما يفعل أهل كل دين في طور انحلال الدين وضعفه، وكانوا ربما تحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عازمين على قبول حكمه، حتى إذا كان على غير ما أحبوا خالفوه، كما فعلوا يوم زنا بعض أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولوا وأعرضوا عن قبول حكمه؛ لأنهم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.
4. ﴿أُوتُوا نَصِيبًا﴾ علم ما هو تفسيره المختار عندنا فيما تقدم أول السورة من تفسير التوراة والإنجيل، وقال محمد عبده في تفسير هذه الآية: إنه مبين لقوله تعالى: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وهو بمعنى: ﴿لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ فالنصيب عبارة عن تمسكهم بالألفاظ بتعظيمها وتعظيم ما تكتب فيه مع عدم العناية بالمعاني بفقهها والعمل بها، ولك أن تقول: إن ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم (أو قال الكتب) وقد فقدوا سائره وهم مع ذلك لا يقيمونه بحسن الفهم له والتزام العمل به، ولا غرابة في فقد بعض الكتاب؛ فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام التي يسمونها التوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها ولا هي محفوظة عنه، بل قام الدليل عند الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بمئات من السنين (أراه قال خمسمائة سنة) وكذلك يقال في سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء في المجموع الذي يسمونه (الكتاب المقدس).. ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة، ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية، فأين هي التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنها؟
5. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ فللتراخي فيه وجهان أحدهما: استبعاد توليهم لأنه خلاف الأصل الذي يكون عليه المؤمن، ثانيهما: أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولى ذلك الفريق بعد تردد وترو في القبول وعدمه، وكان من مقتضى الإيمان ألا يتردد المؤمن في إجابة الدعوة إلى حكم كتابه الذي هو أصل دينه، أورده محمد عبده وقال: على أنهم لم يكتفوا بالتردد حتى تولوا بالفعل، ولم يكن التولي عرضا حدث لهم بعد أن كانوا مقبلين على الكتاب خاضعين لحكمه في كل حال وآن، بل هو وصف لهم لازم، بل اللازم لهم ما هو شر منه وهو الإعراض عن كتاب الله في عامة أحوالهم، فجملة ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ليست مؤكدة للتولي ـ كما قيل ـ بل هي مؤسسة لوصف الإعراض الذي هو أبلغ منه، وإنما قال: ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ لأن هذا الوصف ليس عاما لكل فرد منهم، بل كان منهم ﴿أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾، ومنهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم.. وهذا مما عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والاحتراس في الحكم على الأمم، فتارة يحكم على فريق منهم في مقام بيان شئونهم وتارة يحكم على أكثرهم، وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناء الأقل كقوله: ﴿تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾
6. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ روى جرير وغيره من المفسرين أن بعض اليهود قالوا ذلك، وأن هذه الأيام المعدودات هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، وقال محمد عبده: إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء، وليس في كتب اليهود التي في أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد، فكل ما وعدت به على العمل بالكتاب هو الخير والخصب والسلطة في الأرض، وما أوعدت به هو سلب هذه النعم وتسليط الأمم عليهم، ولكن الإسلام بين لنا أن كل نبي أمر بالإيمان باليوم الآخر ووعد وأوعد، فهذا هو الحق سواء أوجد في كتبهم أم لم يوجد، يعني أننا نعد هذا مما أضاعوه ونسوه على ما بينا في تفسير التوراة والإنجيل، قال والجملة عبارة عن استسهال العقوبة والاستخفاف بها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء واعتمادا على مجرد الانتساب إلى الدين، وكانوا يعتقدون أن ذلك كاف في نجاتهم، ومن استخف بوعيد الدين زاعما أنه خفيف في نفسه أو أنه غير واقع بمن يستحقه حتما تزول حرمة الأوامر والنواهي من نفسه فيقدم على ارتكاب المحارم بلا مبالاة ويتهاون في الطاعات المحتمة، وهكذا شأن الأمم عندما تفسق عن دينها وتنتهك حرماته، ظهر في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين.
7. لعل المراد بعبارة الآية أنهم كانوا يعتقدون أن الإسرائيلي إذا عوقب فإن عقوبته لا تكون إلا قليلة كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم، إذ يقولون: إن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات، وإما تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان، فإن فاته كل ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ومهما كانت أعمالهم، والقرآن لا يقيم للانتساب إلى دين ما وزنا، وإنما ينوط أمر النجاة من النار والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار بالإيمان الذي وصفه، وذكر علامات أهله وصفاتهم، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأما المغفرة فهي خاصة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته، وأما من أحاطت به حتى استغرقت شعوره ورانت على قلبه فصار همه محصورا في إرضاء شهوته ولم يبق للدين سلطان على نفسه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون؛ لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالانتساب إليه أو الاتكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم مفتر يقول على الله بغير علم، كما قال هنا: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي بما زعموا من تحديد مدة العقوبة للأمة في مجموعها، وهذا من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم، ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر؛ لأنه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلا بوحي من الله، وليس في الوحي ما يؤيده ولا يوثق به إلا بعهد من الله عز وجل، ولا عهد بهذا وإنما عهد الله هو ما سبق في سورة البقرة ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
8. ثم توعدهم تعالى على هذا الافتراء بقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه، وهو يوم الدين ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ بأن رأت ما عملته محضرا موفى لا نقص فيه، فكان منشأ الجزاء ومناط السعادة أو الشقاء، دون الانتماء إلى دين كذا ومذهب كذا أو الانتساب إلى فلان وفلان من النبيين والصالحين، ألا إنهم يرون يومئذ أن الجزاء يكون بشيء من داخل نفوسهم لا من شيء خارج عنها، يكون بما أحدثته أعمالهم فيها من الصفات الحسنة أو القبيحة ومقدرة بقدر ذلك، ويرون أن الناس سواء في هذا الجزاء لا امتياز فيه بين الشعوب وإن سمي بعضها بشعب الله، ولا بين الأفراد وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، بل يرون هنالك العدل الأكمل؛ ولذلك قال: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي الناس المشار إليهم بلفظ كل نفس أي لا ينقص من جزاء أحد بما كسب شيء وإن كان مثقال ذرة.
9. قال المفسرون في هذه الجملة كلمة أحب التنبيه على ما فيها، قالوا: فيها دليل على أن العبادة لا تحبط، وأن المؤمن لا يخلد في النار؛ لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها، فإذن هي بعد الخلاص منها، والعبارة للبيضاوي ونقلها أبو السعود كعادته، وأقول: إن الكسب هنا ليس خاصا بالعبادة والإيمان، بل هو عام شامل لكل ما عمله العبد من خير، فإذا أرادوا أن الآية تدل على أنه لا بد من الجزاء على الكسب ـ كما هو ظاهر الآية ـ لزمهم أن الكافر إذا أحسن في بعض الأعمال ـ ولا يوجد أحد من البشر لا يحسن عملا قط ـ وجب أن يجازى عليه وهم لا يقولون بذلك؛ ولذلك خصصوا وأخرجوا الآية عن ظاهرها، وإذا نحن جمعنا بين هذه الآية التي وردت ردا لقول الذين زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة وآية البقرة التي وردت في ذلك أيضا علمنا أن مراد الله في الجزاء على كسب الإنسان بحسبه، وهو أن العبرة بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بعلمها وشعورها واستغرق وجدانها كانت خالدة في النار؛ لأن العمل السيئ لم يدع للإيمان أثرا صالحا فيها يعدها لدار الكرامة، بل جعلها من أهل دار الهوان بطبعها، وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة بأن غلب عليها تأثير العمل الصالح أو استوى الأمران، فكانت بين بين جوزيت على كل بحسب درجته كما قررناه آنفا، وليس عندنا شيء عن محمد عبده في هذه الآية ولكن ما قلناه موافق لما قرره في سورة البقرة.
__________
(1) تفسير المنار: 3/265.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر الله تعالى مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم ـ انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصي ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة.
2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود ـ كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟ وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها، وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهم ماضو العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم، فقد زنى بعض أشرافهم وحكّموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.
3. ﴿نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به، فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية، وإنما كانت لغته المصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة، ومن ترجمها؟
4. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع، وقد كان من دواعي الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه، إذ هو أصل دينهم، وعليه بنيت عقيدتهم، وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم في عامة أحوالهم، وإنما جيء بكلمة ﴿فَرِيقٌ﴾ للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
5. ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب.
6. خلاصة ذلك ـ إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم، ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه ـ تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون في أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم.
7. القرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته، أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
8. المراد بالأيام المعدودات هي أربعون يوما وهى مدة عبادتهم للعجل، وقال محمد عبده: إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شيء.
9. الخلاصة ـ إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأي ولا بالفكر، بل بالوحى من الله، والعهد منه كما قال في سورة البقرة: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
10. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون، واستعظام لما أعدّ لهم، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه، وأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمّع بما لا يكون.
11. ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاصّ، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة.
12. ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ فهناك العدل الكامل، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شيء، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها، واستغرق وجدانها، كانت خالدة في النار، لأن عملها لم يدع للإيمان أثرا صالحا يعدّها لدار الكرامة، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح، أو استوى الأمران، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/126.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب، موقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى، وكل منهما (نصيب) من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته، فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيبا منه، وأوتي النصارى نصيبا منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعا لأصول الدين كله، ومصدقا لما بين يديه من الكتاب.. سؤال التعجيب من هؤلاء ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾.. ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم، وليحكم بينهم في شئون حياتهم ومعاشهم، فلا يستجيبون جميعا لهذه الدعوة، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته، الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله؛ والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
2. هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم ـ لا كلهم ـ عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة، فكيف بمن يقولون: إنهم مسلمون، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها، ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون! إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضا كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام؛ ويحذروا أن يكونوا موضعا لتعجيب الله وتشهيره بهم، فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدّعوا الإسلام، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله، فكيف يكون الاستنكار إذا كان ﴿الْمُسْلِمُونَ﴾ هم الذين يعرضون هذا الإعراض.. إنه العجب الذي لا ينقضي، والبلاء الذي لا يقدر، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله! والعياذ بالله!
3. ثم يكشف الله تعالى عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، هذا هو السبب في الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله؛ والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب.. إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل، يتجلى هذا في قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، وإلا فلما ذا لا تمسهم النار إلا أياما معدودات؟ لماذا وهم ينحرفون أصلا عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله؟ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقا بعدل الله؟ بل إذا كانوا يحسون أصلا بجدية لقاء الله؟ إنهم لا يقولون إلا افتراء، ثم يغرهم هذا الافتراء: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
4. حقا إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله، والشعور بحقيقة هذا اللقاء، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله، وحقا إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله، مع الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتحكيمه في كل شأن من شئون الحياة.
5. مثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون، ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون، وفيهم من يتبجحون ويتوقحون، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين! وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل العائلية، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون! ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيرا من المعاصي، ثم يساقون إلى الجنة! أليسوا مسلمين؟ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين.. وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله: الإسلام.. الاستسلام والطاعة والاتباع، والتلقي من الله وحده في كل شأن من شئون الحياة:
6. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؟ كيف؟ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله، وجدية عدل الله؛ ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة.. وهو بعد تهديد قائم للجميع.. مشركين وملحدين، وأهل كتاب ومدعي إسلام، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام! ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾.. وجرى العدل الإلهي مجراه؟
7. ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ بلا ظلم ولا محاباة؟ ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.. كما أنهم لا يحابون في حساب الله؟ سؤال يلقى ويترك بلا جواب.. وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/383.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، هم اليهود، وعلماء اليهود خاصة، والنصيب من الكتاب هو جزء وبعض منه، وذلك أن الكتاب الذي في أيديهم، وهو التوراة، ليس هو كل كتاب الله، إذ حرّفوا فيه، وبدّلوا وحذفوا، وأضافوا، فما بقي من كتاب الله في أيديهم هو بعض من كلّ.
2. في قوله تعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ تنويه بشأن القران الكريم، وأنه كتاب الله، الذي يستحق أن يضاف إلى اسمه الكريم، حيث ظل ـ وسيظل أبدا ـ محتفظا بالصورة التي نزل عليها دون أن يمسه تبديل أو تحريف.. مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
3. هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وحظا من العلم، حين يدعون إلى القرآن الكريم ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، وليريهم الوجه الصحيح من الكتاب الذي بين أيديهم، ـ يأبون أن يسمعوا، ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ تصوير لحالهم التي استقبلوا بها دعوة داعيهم إلى كتاب الله، وأنهم على خلاف مبيّت على الإعراض عن القرآن، والاستماع إليه، والنزول على حكمه، فإذا سمعوا هذه الدعوة الكريمة الموجهة إليهم أعطوها ظهورهم، منصرفين عنها، حاملين معهم عقدة الإعراض والخلاف التي انعقدت عليها قلوبهم.
5. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ هذا التمادي في الضلال، والإعراض عن آيات الله، وعدم التوقف للتثبت من الحق، هو مما دخل على القوم من غرور، بسبب ما بدلوا وغيروا في دين الله، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار، لهم عند الله فضل ومنزلة، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسّه النار إلا أياما معدودة، على حين يخلد غيره في النار ممن ليس منهم! وبهذا اجترؤوا على الله، واستباحوا حرماته، لأنهم كما صوّر لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم ـ لا ينالهم الله بعذابه! وأن العصاة الغارقين منهم في العصيان لن يمسّهم عذاب الله إلا مسّا رفيقا، وكذبوا وافتروا، وقد فضحهم الله تعالى في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
6. في قوله تعالى في هذه الآية: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وفي آية البقرة ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ هو حكاية لأقوالهم التي تختلف في أسلوبها، وإن لم تختلف في مضمونها، فكل واحد منهم له أسلوبه في التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم.. ففريق يقول ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وفريق آخر يقول ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وذلك بلسانهم العبرىّ، وتلك ترجمته الصادقة الأمينة.
7. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ تنتقل هذه الآية بهؤلاء المفتونين في دين الله، والمتألّين على الله ألا تمسّهم النار إلا أياما معدودات ـ تنتقل بهم في لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة، حيث الحساب والجزاء، وحيث توفّى كل نفس ما كسبت من خير أو شر، وفي هذا المشهد يرون سوء المصير الذي ينتظرهم، وأنهم قد مكروا بآيات الله، وخانوا أنفسهم، ووجدوا أعمالهم السيئة بين أيديهم، توزن بميزان العدل المطلق، حيث لا محاباة لأحد.. عندئذ يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وعندئذ يمضغون الندم، ويبتلعون الحسرة، ثم يساقون إلى عذاب جهنم، وبئس المصير!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/425.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ استئناف ابتدائي: للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم، فالاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للتقرير والتعجيب، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلا على نفي الفعل والمراد حصول الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضا للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله، وقد تقدم عند قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ في سورة البقرة [258]
2. الرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى: الذي يتعدى به فعل النظر، وجوز الزمخشري في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ في سورة النساء [44]: أن تكون الرؤية قلبية، وتكون (إلى) داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه، فتكون مثل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 258]
3. عرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم، أعني اليهود: لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم؛ لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم، على ما في هذه الصلة أيضا من توهين علمهم المزعوم.
4. الكتاب: التوراة فالتعريف للعهد، وهو الظاهر، وقيل: هو للجنس، والمراد بالذين أوتوه هم اليهود، وقيل: أريد النصارى، أي أهل نجران، والنصيب: القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا﴾ في سورة البقرة [202]
5. تنكير ﴿نَصِيبًا﴾ للنوعية، وليس للتعظيم؛ لأنّ المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل، و﴿مِنَ﴾ للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابهم، والمراد: أوتوا بعض كتابهم، تعريضا بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلّا حظّا يسيرا، ويجوز كون من للبيان، والمعنى: أوتوا حظّا من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه.
6. جملة ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله﴾ في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها، وهو، قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله، وإذا جعلت (تر) قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمت بعده.
7. ﴿كِتَابَ الله﴾: القرآن كما في قوله: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: 101]، فهو غير الكتاب المراد في قوله: ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ كما ينبئ به تغيير الأسلوب، والمعنى: يدعون إلى اتّباع القرآن والنظر في معانيه ليحكم بينهم فيأبون، ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنّما غير اللفظ تفنّنا وتنويها بالمدعوّ إليه، أي يدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحه إلى صفاته، روي، في سبب نزول هذه الآية: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دخل مدراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت ـ قال على ملة إبراهيم ـ قالا: فإنّ إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما: إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبيا.
8. ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ (ثم) عاطفة جملة ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ على جملة ﴿يُدْعَوْنَ﴾ فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت (ثم) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولّون ثم يتولّون؛ لأنّ المرء قد يعرض غضبا، أو لعظم المفاجأة بالأمر غير المترقّب، ثم يثوب إليه رشده، ويراجع نفسه، فيرجع، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخ حاصل بفحوى الخطاب، فدخول ﴿ثُمَّ﴾ للدلالة على التراخي الرتبي؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتوا الكتاب ونقلوه، فإذا دعوا إلى كتابهم تولّوا، والإتيان بالمضارع في قوله: يتولون للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن علبة الحارثي:
çولا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرة...يرى غمرات الموت ثم يزورهاé
والتولّي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان.
9. جملة ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ حال مؤكّدة لجملة ﴿يَتَوَلَّى فَرِيقٌ﴾ إذ التولّي هو الإعراض، ولما كانت حالا لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض، منهم المفاد أيضا من المضارع في قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾
10. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ الإشارة إلى تولّيهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي إنّهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنّهم في أمان من العذاب إلّا أياما قليلة، فانعدم اكتراثهم باتّباع الحق؛ لأنّ اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرّأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض، وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضا بسفالة همّتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس، وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أنّ هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنّه قول مفتري مدلّس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود، كما تقدم في البقرة.
11. ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي ما تقوّلوه على الدّين وأدخلوه فيه، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية، ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، وكانوا أيضا يزعمون أنّ الله وعد يعقوب ألّا يعذّب أبناءه، وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأنّ المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجو، أما المغرور فلا يترقّب منه إقلاع، وقد ابتلي المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال.
12. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ تفريع عن قوله: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ﴾ أي إذا كان ذلك غرورا فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازا، (وكيف) هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق، و﴿إِذَا﴾ ظرف منتصب بالذي عمل في مظروفه: وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك: كيف أنت إذا لقيت العدوّ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ في سورة النساء [41]
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/65.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ماضي اليهود من أهل الكتاب أنهم اختلفوا بغيا بينهم مع أن أسباب العلم متوافرة بين أيديهم، ولكن البغي ومجاوزة الحد إن سكنا في رؤوس قوم أذهب عنهم الهداية، وتحكمت فيهم الغواية مهما تكن أسباب العلم قائمة؛ وبين سبحانه أيضا أنهم قوم غير مخلصين في طلب الحقيقة، وأنهم لو أخلصوا لوصلوا، وأن محاجتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم منبعثة عن الهوى والغرض، وفي هذه الآيات يبين سبحانه صورة حسّية عن مناقشتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم؛ يكون الحق محسوسا بين أيديهم ويعرضون بعد أن تتبين الحجة ناصعة.
2. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ هذه الآية نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الدين الحق فأعرضوا، ودعاهم ليحكم بينهم كتاب الله فأعرضوا، ولكن ما كتاب الله الذي دعاهم إليه؟ روى في ذلك ابن جرير الطبري روايتين:
أ. إحداهما: أن المراد من كتاب الله التوراة، فهي في أصلها كتاب من عند الله، وإن حرفوه وغيروه؛ ويروى في ذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم دخل مدراس اليهود، وهو بيت تدارسهم، فدعاهم إلى الله، فقال قائلهم له: على أي دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم، فقال القائل: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم: (هلمّ إلى التوراة فهي بيننا وبينكم) هذه هي الرواية الأولى، وإطلاق كلمة ﴿كِتَابَ الله﴾ على التوراة باعتبار أصلها، وباعتبار أن الجزء الذي كان التحاكم إليه فيها هو من الجزء الباقي الذي لم يدخله تحريف.
ب. والرواية الثانية: أن كتاب الله هو القرآن؛ وذلك لأن طائفة من اليهود تحاكموا إليه صلّى الله عليه وآله وسلم ليحكم بينهم بحكم القرآن، فلما تبين لهم الحكم وأنه على غير هواهم أعرضوا ونأوا بجانبهم عن سماع قول الحق والإنصات إليه.
3. وأيامّا كان الكتاب المشار إليه في الآية فالأمر دليل على أنهم لا يذعنون لحق ولا يهتدون بهدى، بل هم قوم غلبت شقوتهم، وغلب هواهم على تفكيرهم وطمس الله على أبصارهم وبصائرهم، فهم لا يهتدون، ولا ترجى منهم هداية، فلا تعجب إذا لم يؤمنوا.
4. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هذا تعبير قرآني معناه لقد رأيت وتحققت وعجبت من أمر أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف يدعون إلى حكم الحق فيتولون ويعرضون، والاستفهام داخل على الفعل المنفى، وهو استفهام إنكاري تعجبى، فهو نفى دخل على فعل منفى، ونفى النفي إثبات، إذ إن نفى عدم الرأي معناه ثبوت الرؤية، وسيق الكلام على ذلك النحو لتأكيد الأمر، وللتعجب، ولبيان أنه ما كان يصح أن يقع، ولكنه وقع.
5. قوله تعالى: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ يشير إلى أمرين:
أ. أولهما: أنهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لا يأخذون به؛ فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو أنهم تلقوا كتاب التوراة وأخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان.
ب. ثانيهما: أنهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه، فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه، وليس كل الكتاب.
6. عبر هنا بقوله تعالى: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ وفي الآيات السابقة قال سبحانه: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران] وذلك لأن الكلام هنا في الذين كانوا يعاصرون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، والذين كانوا يعاصرون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكن عندهم قطعا إلا حظ من الكتاب، ولم يكن عندهم كل الكتاب؛ أما في الآيات السابقة فقد كان الكلام في الذين عاصروا النبيين السابقين من بنى إسرائيل، وقد كان عندهم الكتاب كله، ومع ذلك ضلوا على علم، وذلك لسيطرة الهوى على قلوبهم، وغلبته على نفوسهم، فبغوا وطغوا، وقتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس.
7. دعي أولئك اليهود إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، وقد كانت النتيجة أنهم لم يذعنوا للحق كما قررنا، بل تولوا عنه، أو تولى فريق منهم عن الحق؛ ولذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أصل تولى الأمر أو الشخص الإقبال عليه، والانصراف إليه؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة] أي من يتخذ منهم ولاية ونصرة، ويقبل عليهم فهو منهم، وإذا عدّى هذا الفعل بـ (عن) أو قدرت في القول كانت بمعنى الانصراف عن الأمر وعدم الإقبال عليه؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران] وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد]، والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل، أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم، بدل أن يولوه قلوبهم.
8. عبر هنا بثمّ التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم؛ وذلك لأنهم ليسوا أمّيين أو جاهلين فيعذروا، بل هم قوم أهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء، فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل أن يخضعوا ويذعنوا أعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون، فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي وما هو كائن، سببا في التعبير بثم المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا أو معنى.
9. ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ قال بعض المفسرين: إنه تأكيد لمعنى التولي، والحق أنها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين:
أ. أولهما: أن حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليهم إذ دعوتهم إلى أن يحكم كتاب الله بينهم أمر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
ب. الثاني: أن تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم.
10. القرآن الكريم ينصف الحق في أخباره، كما هو الحق في ذاته؛ ولذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولي كان من فريق منهم، ولم يكن من كلهم؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة]
11. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ في هذه الآية يبين سبحانه السبب في أنهم لا يقبلون على الخير ولا يعملون بالحق، وهو اعتقاد أنهم لن يعاقبوا عقابا أليما، ولن يعذبوا عذابا شديدا؛ وذلك لما ركز في نفوسهم من أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم لا يحاسبون إلا بمقدار ما يحاسب الأب ولده المدلل، وحبيبه المختار، إذا رأى مخالفة أو عنادا فإنه لا يجافيه ولا يعاقبه، ولكن يقربه ويعاتبه؛ فمعنى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ ذلك الإعراض عن الحق، والتولي عن الداعي إليه، واللجاجة في الباطل؛ بسبب أنهم يقولون لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، وليس المراد إحصاء الأيام، بل المراد الاستخفاف بالعقاب والاستهانة به، وعدم الالتفات إلى وعيد الله، وزعمهم الباطل أنهم ينالون ما وعد به من ثواب ونعيم مقيم من غير عمل يعملونه، ولا كسب يكسبونه، فهم بهذا قد استناموا إلى الأماني وغرتهم الأوهام.
12. سؤال وإشكال: لماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق؟ والجواب: أن الحق يصل إليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة: إما بإشراق النفس، واستقامة القلب، وسلامة الفكر من الهوى والغرض، وذلك شأن من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم؛ وإما شكر للنعمة، ووفاء لحق المنعم، وذلك شأن عباد الله الأخيار؛ وإما خوف العقاب والحساب، وذلك شأن المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني، فلم يبق إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بورا.
13. المؤمن يجب أن يصون نفسه دائما بخوف العقاب، وأن يغلب الخوف على الرجاء؛ فإنه إن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة إلى النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأركست في السيئات، وارتكبت الموبقات؛ وذلك شأن كثيرين من المنتسبين للأديان، وشأن كثيرين من المسلمين في هذه الأيام، وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر، ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب، ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم أنهم لا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة]
14. ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك، والغرة: الغفلة والغفوة، ومعنى ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين.
15. الأوهام التي ترد على النفس وتستولى على القلب تدفع إلى الضلال، وكذلك شأن هؤلاء اليهود: تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، وأبغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لا يتصور أن يهوديا أحب غير يهودي لغير مأرب من مآرب الدنيا، أو غاية من غاياتها؛ وحتى لقد حسبوا أن الديانة جنس، واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم، فاعتقدوا ما لا يعتقد؛ اعتقدوا أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، واعتقدوا أن الجزاء بالجنس لا بالعمل؛ وهذا ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل.
16. رد الله سبحانه وتعالى زعمهم بإثبات أن الثواب والعقاب بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ كيف: يستفهم بها عن الحال، أي ما حالهم وما شأنهم إذا جمعهم الله رب العالمين، ليوم لا ريب فيه؟ لا شك أنهم يفاجئون بذهاب غرورهم الذي اغتروه، وضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذي أحدثوه فدلاهم في غرورهم؛ وإنه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت، وهم لا يظلمون أي لا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، وبالشر السوأى.
17. في الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير إليها واحدا واحدا؛ لأن في بيانها توجيها إلى معان دقيقة في النص الكريم:
أ. الفاء في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ﴾ فإنها هي ما تسمّى فاء الإفصاح، وهى التي تفصح عن شرط مقدر، أي أنه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات في اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التي لم تقدروها وطمس عليكم فلم تعلموها؟.
ب. التعبير بلفظ الجمع في قوله تعالى: ﴿جَمَعْنَاهُمْ﴾ إشارة إلى معنى المساواة التامة، وأنه لا فضل لجنس على جنس، وإضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكى هذه المساواة؛ لأنه خالق الجميع، ورب الجميع، وجامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء في الأصل والتكوين وفي الربوبية والحفظ، وفي الجمع يوم القيامة فيكونون سواء في الحساب والعقاب والثواب، وكل وعمله.
ج. تنكير (يوم) في قوله تعالى: ﴿لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فإن ذلك التنكير للتهويل، وبيان عظم شأنه وأنه يوم عبوس، وأنه مع شدته وشدة
د. الحساب لا ريب في وجوده ولا شك، وذكر قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ في هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لأجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة في دين الله، الخارجة على كل أديان السماء، والباقون إن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
هـ. التعبير بقوله تعالى: {وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكأن المثاب يوفّى عمله، لا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما، وقد أكد سبحانه وتعالى معنى العدالة وأن كل شيء بالقسطاس المستقيم بقوله: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أي سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، ولا ظلم، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم بل هو العدل، وإن سبب ضلال اليهود أنهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.. فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، وجنّبنا الاغترار في ديننا، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1160.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال المفسرون: المقصود من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، وإنما قال هنا أوتوا نصيبا من الكتاب، ولم يقل أوتوا الكتاب، أو أهل الكتاب، كما في الكثير من الآيات، لأن اليهود الذين حاجوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى التوراة لتحكم بينهم لم يحفظوا كل ما فيها، وإنما حفظوا بعضا منها، كما قال كثير من المفسرين، أو حفظوا ألفاظ التوراة، ولم يتدبروا معانيها، كما قال الشيخ محمد عبده.
2. كثيرون هم الذين يدعون الايمان بالكتب السماوية والقيم الانسانية، ولا يعملون بها، وإذا احتج عليهم بما يؤمنون توانوا أو تأولوا، والأمثلة على ذلك لا تحصيها كثرة:
أ. منها: ان الذين أثاروا الحروب وقتلوا الملايين يزعمون انهم من أنصار السلام.
ب. ومنها: ان الدول التي اضطهدت الأحرار والملونين تدعي الايمان بالحق والعدالة.
ج. ومنها: اليهود الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى كتابهم وتوراتهم، وقال لهم: هلموا اليها، فإن فيها صفتي، فاعرضوا وعاندوا.. فنزلت هذه الآية: ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
3. مهما يكن سبب النزول، فان الآية جارية وشاملة لكل من أعلن شعارا، ثم تجاهله، وأعرض عنه عند العمل، لأن العبرة بالأعمال، لا بالسمات والشعائر، قال الإمام علي عليه السلام: لن يفوز بالخير الا عامله، ولا يجزى جزاء الشر الا فاعله.
4. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، لقد سجل الله على اليهود في كتابه العزيز ألوانا من القبائح والرذائل:
أ. منها: قتلهم الأنبياء الذي ذكره في العديد من الآيات.
ب. ومنها عبادتهم العجل.
ج. ومنها: قولهم: لن يدخل الجنة الا من كان هودا.
د. ومنها: انهم أبناء الله وأحباؤه، ومنها: زعمهم بأن النار لن تمسهم الا قليلا.
5. نقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه قال: (ليس في كتب اليهود التي بين أيديهم وعد بالآخرة ولا وعيد).. ونقل عن اليهود عدم ايمانهم بالآخرة كثيرون من أهل التتبع والتثبت، وهذا النقل يتنافى مع قول القرآن عنهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا﴾.. وغير بعيد أن أسلاف اليهود كانوا مؤمنين بالآخرة، ثم حرّف الخلف وحذف من كتبهم الدينية كل ما له صلة بالآخرة.. وفي تفسير المنار نقلا عن الشيخ عبده أيضا ان الباحثين الأوروبيين أثبتوا ان التوراة كتبت بعد موسى عليه السلام بمئات السنين.
6. أغرب من كل ذلك ادعاء اليهود بأن الله متحيز لهم، وانه لهم وحدهم، وانه خلق من عداهم من الناس لخدمتهم ومصلحتهم، تماما كالحيوانات.. ومن أجل هذا يسمّون أنفسهم بشعب الله المختار، وبصرف النظر عن استحالة هذا الزعم وبطلانه بحكم العقل فإنه رجم بالغيب، وتحكّم على الله، حيث لا يعرف أمر من أمور الغيب الا بوحي من الله تعالى.
7. نطق الوحي بلعنهم وخزيهم وعذابهم، وسيتجلى لهم هذا الخزي والعذاب في يوم لا حيلة لهم في دفعه.. والى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، فلا ينقص من ثواب المطيع شيئا، وقد يزداد، ولكن لا يزاد أبدا على عقاب العاصي، وقد ينقص العقاب، بل قد يعفو الله ويصفح، واني على علم اليقين بأن من رجا الله في دنياه هذه، ولم يرج سواه، متكلا عليه وحده في النوائب مهما تكن النتائج، مؤمنا ان من عداه ليس بشيء الا أن يكون وسيلة وأداة، أنا على يقين ان هذا سيجد عند الله ما يرضيه لا محالة برغم ما له من سيئات وهفوات(2).
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/34.
(2) لا أستحسن مثل هذه الدعاوى، وكان الأولى أن يدعو إلى التوبة، بدل أن يطلق القول فيشجع على الإرجاء
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ إلى آخر الآية يومئ إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنها إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا﴾ الآية وبما افتروه على الله في دينهم.
2. والمراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب وإنما لم يقل: أوتوا الكتاب، وقيل: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لأن تحريفهم له وتغييرهم وتصرفهم في كتاب الله أذهب كثيرا من أجزائه كما يومئ إليه قوله في آخر الآية التالية: ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، وكيف كان فالمراد ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازا بما قالوا واغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم واستغناء به عن الكتاب.
3. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ﴾ الآية معناه واضح، واغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين، وعلى هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم أمة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض، وإما لأن الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية باطلة وذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصة ببعيد وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ على أن الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية، والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة، وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا للتفكر والاجتناب، ونظائر ذلك كثيرة، فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم، وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه.
4. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ إلى آخر الآية، مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه، وفي الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه أخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون عنه، ولهذا أخذ بالمحاذاة بين الكلامين، وعبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله: ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ الآية دون أن يقال: إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك، والمعنى ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم واستكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل، والحكم الحق ووفيت كل نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون، وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله وما هي إلا أيام مهلة وفتنة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/125.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعجيب من قصتهم أنهم أهل كتاب ينتمون إليه وقد قرؤوا نصيباً منه وفهموه، ومع ذلك ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ عن تحكيم كتاب الله ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ يمتنع من الإجابة للتحاكم إلى كتاب الله ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن كتاب الله منشغلون بدنياهم من قبل ذلك، فحالهم مستمرة على الإعراض.
2. ﴿ذَلِكَ﴾ التولي والإعراض ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فكان قولهم هذا، أو اعتقادهم أنها لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات سبباً لجرأتهم على التولي عن تحكيم كتاب الله والإعراض عنه.
3. ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من الروايات المكذوبة على أنبيائهم أومَنْ قوله عندهم حجة، والإنسان العاقل ليس من العادة أن يغترّ بما يفتريه هو، فليس المراد: أنهم يتعمدون الكذب على أنبيائهم ويغترون، هم الكاذبون أنفسهم بما افتروه على أنبيائهم لأنهم يعلمون أنه كذب افتروه هم، فليس المراد إلا: أن بعضهم اغتر بما يفتريه البعض الآخر مما يوافق أهواءهم ويرضون به من أكاذيب يبنون عليها أمانيهم كقولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، فدل ذلك: على أن الروايات التي لا يعلم صدقها لا يصح قبولها لمخالفة ما جاء في كتاب الله، وأن الواجب تحكيم كتاب الله، وأن اعتماد الروايات المفيدة للظن اغترار خلاف الصواب، وهذا لأن الإنسان لا يغتر إلا بما يظنه صدقاً، فتخصيص حكم الكتاب بها أو تبيين مجمل فيه أو اتباع متشابهه لأجل الروايات خطأ مبني على اغترار، وهذا في الوعيد واضح من نص الآيات وسياقها.
4. ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿فَكَيْفَ﴾ يصنعون إذا انكشف لهم اغترارهم ووضح الحق وقد أحضروا لموقف الحساب والجزاء الكامل حيث توفى ﴿كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ كما وعد الله، وخلق له السموات والأرض، وجعل القيامة والجزاء، قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الجاثية:22]، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم:31]، وقال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [إبراهيم:49 ـ 51] فالجزاء الأوفى دستور الملك الذي بني عليه خلق السموات والأرض.
5. هذا والتعجيب من أهل الكتاب ـ فيما أرى والله أعلم ـ ليس في مجرد توليهم عن كتاب الله وإعراضهم من حيث توليهم عن الحق وإعراضهم عنه فليس ذلك عجيباً منهم، ولا في توليهم عنه وإعراضهم عنه مع كونه كتابهم الذي ينتمون إليه فهذا ليس عجيباً لأن حب الدنيا يميل بالناس، ولا في اغترارهم بما يرويه أسلافهم لأن كثيراً من الناس يغترون بما يظنون صدقه، وإنما العجيب هو اعتلالهم وتسهيلهم لميلهم وتسويفهم لرفضهم كتاب الله بما هو حقيق أن يكون زاجراً لهم عن ذلك؛ لأن بقاءهم في جهنم أياماً معدودات ليس بالأمر السهل؛ لأن الساعة الواحدة بل الدقيقة الواحدة تنسيهم لذات الدنيا كلها، ولا يعادلها ملك الدنيا كله لو نالوه ودام لهم حتى قامت القيامة، كيف وهي ﴿نَارُ الله الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ [الهمزة:6 ـ 7] وصاحبها {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَبِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17].. تأمل قوله تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ لتفهم أن كل جزء من الإنسان فيه من الألم ما هو سبب للموت لو كان يموت لكنه لا يموت، فما أعجب هؤلاء المغترين يستعدون للبقاء فيها أياماً من أجل أغراض هذه الدنيا الحقيرة التي هي ﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ وهي لا تبقى لهم ولا يبقون لها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/441.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا نموذج من النماذج السلبية للتصرفات المنحرفة المتحدية التي يمارسها أهل الكتاب ضد الدعوات الإسلامية للموقف الواحد أمام القضايا المشتركة، فإذا كان هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في معلوماتهم عنه، يؤمنون به، فإن هذا الإيمان يفرض عليهم الالتزام بأحكامه، باعتباره المرجع الأول والأخير لهم، ولكنهم لا يلتزمون ولا يتعاطفون مع الدعوة المخلصة إلى أن يكون هو الأساس في الحكم بينهم عندما يكون هناك خلاف ونزاع يبحث عن أساس للحل، فيعرضون عنه عصيانا وتمرّدا، مما يوحي بأن ارتباطهم به يمثل العصبية ولا يمثل الإخلاص للعقيدة، وبأنهم يستريحون إلى فكرة خاطئة، وهي أن النار لا تمس اليهودي إلا أياما معدودات، فليس هناك زمن طويل للعذاب فضلا عن الخلود فيه، فلا مشكلة صعبة من هذه الجهة، ولا موجب للانضباط في خط الطاعة في الدنيا على أساس التخلص من العذاب في الآخرة.
2. لكن القرآن يقرر بأن هذا افتراء وغرور، افتروه على الله وغرّوا به أنفسهم، تماما كمن يكذب ثم يقنع نفسه بصدق الكذبة على امتداد الزمن، فيتحمل نتائجها السيئة بدون شعور، إن الحقيقة تفرض نفسها على علاقة الخالق بالمخلوقين، فليس هناك أحد أولى به من أحد، ليحصل شخص ما على امتياز دون آخر، أو شعب دون شعب، إنما القضية مسئولية وطاعة، فمن حمل المسؤولية بصدق وأطاع الله بيقين، كان قريبا لله، مهما كان حجمه صغيرا في الجسم والموقع، ومن لم يكن كذلك كان بعيدا عن الله، مهما كان كبيرا في حجمه وفي موقعه الاجتماعي في الحياة.
3. ثم يوحي القرآن لهم بالصورة المرعبة الهائلة التي تنتظرهم في يوم الجمع الذي يجمع الله فيه الخلائق ليحاسب كل نفس على ما عملت، بعيدا عن أيّة صفة أو امتياز، إنه العمل، ثم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شر وهم لا يظلمون، فقد جعل الله شعار ذلك الموقف لا ظلم اليوم، وهو سبحانه أعظم من أن يظلم عباده في قليل أو كثير.
4. نلاحظ أن الله عبر عن هؤلاء بقوله: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ ولم يقل: أوتوا الكتاب، وربما كان ذلك إشارة إلى أنهم لا يملكون المعرفة الشاملة للكتاب كله، لأنهم أخذوا ما ينفعهم ويحقق لهم السيطرة على الناس من خلال بعض النصوص المتشابهة التي يمكن لهم أن يؤولوها كما شاءوا أو يحرفوها كما أرادوا، وتركوا النصوص الواضحة الصريحة التي لا مجال فيها للالتباس والاشتباه والتحريف والتأويل لئلا يطلّع الناس عليها فتكون حجة عليهم، وهكذا أضاعوا بعض أجزائه من خلال ذلك فلم يبق منه إلا القليل.
5. مما نستوحيه من ذلك كله فيما نواجه من واقع الحياة في حركة الدعوة إلى الله:
أ. أن هناك نماذج متعددة من الفئات التي تمارس الأعمال التي كان يمارسها اليهود، ومنهم اليهود الذين اغتصبوا أرض المسلمين وشردوا أهلها وعاثوا في الأرض فسادا وما زالوا يقتلون الذي يأمر بالعدل وينهى عن الظلم.. ومنهم الحاكمون الذين ينتسبون إلى الإسلام بالاسم ولكنهم يحملون مبادئ وشعارات غير إسلامية، فيحكمون الناس بغير ما أنزله الله طغيانا وظلما، ويقتلون الدعاة إلى الله من دون أيّ أساس للعدل، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم، ومنهم الفئات التي تملك بعض وسائل القوة التي تمكنها من فرض السيطرة على منطقة معينة، وتتحرك من موقع شعارات كافرة لا تتصل بالإسلام من قريب أو من بعيد، فتحاول أن تعتدي على العاملين للإسلام.. وهكذا ينبغي للمؤمن أن يتلمّس في النماذج الواقعية الموجودة على الساحة السياسية والاجتماعية والدينية، الأفق الواسع للآية في حركة الحياة، فلا تبقى مجرد حدث يعيش في التاريخ، بل تكون، كما هو القرآن في آياته، حدثا متجددا يمتد مع الحياة في المتقبل كما عاش في الماضي، وبذلك يظل الوحي مشيرا بيده إلى الإنسان في عملية تجدد وانطلاق، ويبقى لنا أن نحتفظ بمشاعرنا المضادة لهؤلاء الذين يصنعون مأساة الناس الذين يأمرون بالقسط في الحاضر والمستقبل، لنستطيع من خلال ذلك أن نمنع وقوع المأساة بالمزيد من الضغوط التي نملك إمكاناتها العاطفية والواقعية.
ب. أن موقف هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، في امتناعهم عن الخضوع إلى حكم الكتاب، يشبه كثيرا موقف بعض المسلمين في رفضهم للتحاكم على أساس حكم القرآن، لأنه لا يتفق مع مصالحهم الخاصة، ويتعلّلون لذلك بالمزيد من الأسباب الواهية التي لا تثبت أمام النقد، وقد نجد بعض النماذج التي ترفض الخط الذي يعمل من أجل الدعوة إلى أن تحكم الحياة شريعة الله، فيثيرون أمامه المشاكل والعقبات التي تعطل فاعليته وتشل حركته، لأن ذلك قد يحرمهم بعض الامتيازات، أو يدفعهم لبعض التضحيات، أو يسبّب لهم بعض المتاعب الذاتية، وقد يفكر مثل هؤلاء بأن المسلمين لا يخلدون في النار من جهة بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، وبذلك يعطون لأنفسهم الحرية في ممارسة المعاصي التي سوف لا تكلفهم خسارة الجنة في نهاية المطاف، إن الله يتحدث مع هؤلاء المسلمين، كما تحدث مع اليهود، لأن منطقهم واحد، والردّ عليه هو نفسه؛ والله العالم.
ج. إذا صحت الروايتان اللتان تقدّمتا في (أسباب النزول)، كانتا دليلا على أن الله ينزل آياته في المفاصل التاريخية التي تمثل الخلل الذي يصيب المجتمع اليهودي في انحرافه عن التوراة التي هي كتاب الله في عقيدتهم، فلا يلتزمون أحكامها إذا كانت المطالبة بذلك من قبل غيرهم، فإذا ألزمهم ببعض ما فيها من الشرائع التي تفرض عليهم الحكم القاسي الذي لا يريدونه لأشرافهم الذين يملكون بعض الامتيازات الاجتماعية التي تنأى بهم عن الخضوع للقانون الإلهي في التوراة، وقفوا في حالة الإحراج الديني لإخفاء الآيات التي تتحدث عن ذلك:
• ونجد في الرواية الأولى، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يزور مدراس اليهود ليدخل في حوار معهم، باعتبار أنها مركز الفكر اليهودي الذي يفرض على طلابه والقائمين عليه أن يؤكدوا التزامهم بالتوراة، ليكون الحوار من خلالها باعتبار أنها ملزمة لهم في مضمونها الشرعي، ولكنهم ـ بدلا من ذلك ـ رفضوا الاحتكام إليها للتدليل على دعواهم أن إبراهيم كان يهوديا، عندما أراد رسول الله منهم أن يخرجوا التوراة ليقرأوها، لأنه واثق من زيف هذه الدعوى عند هم، وهكذا نلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يؤكد الانتماء إلى ملة إبراهيم ودينه ليجرّهم إلى الاقتراب منه، لأنهم كانوا يؤمنون بإبراهيم كنبيّ ويزعمون أنه يهودي، كأسلوب نبويّ في الوقوف مع الآخرين عند مواقف اللقاء في العنوان العام للذين، كما في القضايا الأخرى المشتركة بين الأديان، ولكنهم كانوا يرفضون الدخول في الحوار معه ويتهربون من ذلك.
• ونلاحظ ـ في الرواية الثانية: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان في حكمه على المجرمين من اليهود، يحاول أن يؤكد لهم أن حكمه الشرعي في الزنى، لا يختلف عما لديهم من أحكام الزاني المحصن، تدليلا على مواقع الوفاق بين الشريعتين، باعتبار أن الإسلام جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ولكن عنادهم كان يحول بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأسلوبه في تحقيق الانفراج الفكري والشرعي في علاقته بهم، لتقريبهم إلى الإيمان بالإسلام.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/288.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله، مع أنّ كتابهم كان صريحا في بيان حكم الله بغير إبهام، وقد دعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾، لكن عصيانهم كان ظاهرا ومصحوبا بالإعراض والطغيان واتّخاذ موقف المعارض لأحكام الله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾
2. يمكن الاستنتاج من ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملا، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حرّف، وهذه الآية تؤيّدها آيات أخرى في القرآن، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه.
3. في الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضا يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري، كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم (أبناء الله) كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية 18 من سورة المائدة قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وبناء على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه، لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلّا لأيّام معدودات: ﴿قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
4. لعلّ القصد من (الأيام المعدودات) هي الأربعون يوما التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى عليه السّلام، وكان هذا ذنبا لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره، أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم ارتكبوا فيها ذنوبا كبيرة غير قابلة للإنكار، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها.
5. هذه الامتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله، صارت شيئا فشيئا جزءا من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأة لا مزيد عليها ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
6. تدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول: لا شكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوما يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
7. يتّضح من ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو، ولا يؤثّر فيه شيء آخر، هذه حقيقة أشير إليها في كثير من الآيات الكريمة.
8. سؤال وإشكال: أيمكن للإنسان أن يختلق كذبا أو افتراء وينسبه إلى الله، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إيها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود؟ والجواب: ليس من العسير الردّ على هذا السؤال، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر، إنّ العقل الإنساني يسعى أحيانا إلى استغفال الضمير بأنّ يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره، كثيرا ما نشاهد أناسا ملوّثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تماما قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءا كاذبا على ضمائرهم، وكثيرا ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها، ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والافتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها.
9. يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد (بالعذاب لأيام معدودات) منتشر بيننا نحن المسلمين أيضا، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيرا من العذاب، ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط، بل إنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلّا الله، إلّا أنّ عذابهم لا يكون أبديا خالدا، وإذا وجد حقّا بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاءون من الذنوب، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته، ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ امتياز خاصّ للمسلمين، بل نعتقد أنّ كلّ أمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضا، بغضّ النظر عن عنصرها، أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري، وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/441.
15. الله والملك والتدبير
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈15⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 26 ـ 27]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ قصر أيام الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ يأخذ الصيف من الشتاء، ويأخذ الشتاء من الصيف(2).
3. روي أنّه قال: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾، قال: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: سعيد بن منصور، وابن المنذر.
(2) ابن المنذر: ٣٣٥.
(3) الدرّ المنثور: ابن مردويه مرفوعًا، وابن جرير: ٥/٣١٠.
سلمان:
روي عن سلمان الفارسي (ت 34 هـ) أنّه قال (1): خمّر الله طينة آدم أربعين يوما، ثم وضع يده فيه، فارتفع على هذه كل طيب، وعلى هذه كل خبيث، ثم خلط بعضه ببعض، ثم خلق منها آدم، فمن ثم يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؛ يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن(2).
__________
(1) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم إلا إذا أول معناه
(2) ابن جرير: ٥/٣١٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كل مالك غيره مملوك(1).
2. روي أنّه قال في أسمائه تعالى: أما وضع الأسماء، فإنه ـ تبارك وتعالى ـ اختار لنفسه الأسماء الحسنى فسمى نفسه: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ وغير ذلك، وكل اسم يسمى به فلعلة ما، ولما تسمى بالملك: أراد تصحيح معنى الاسم لمقتضى الحكمة، فخلق الخلق وأمرهم ونهاهم ليتحقق حقيقة الاسم ومعنى الملك، والملك له وجوه أربعة: القدرة والهيبة والسطوة والأمر والنهي.. فأما القدرة فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فهذه القدرة التامة التي لا يحتاج صاحبها إلى مباشرة الأشياء، بل يخترعها كما يشاء سبحانه ولا يحتاج إلى التروي في خلق الشيء، بل إذا أراده صار على ما يريده من تمام الحكمة، واستقام التدبير له بكلمة واحدة، وقدرة قاهرة بان بها من خلقه، ثم جعل الأمر والنهي تمام دعائم الملك ونهايته، وذلك أن الأمر والنهي يقتضيان الثواب والعقاب والهيبة والرجاء والخوف، وبهما بقاء الخلق، وبهما يصح لهم المدح والذم، ويعرف المطيع من العاصي، ولو لم يكن الأمر والنهي لم يكن للملك بهاء ولا نظام، ولبطل الثواب والعقاب، وكذلك جميع التأويل فيما اختاره سبحانه لنفسه من الأسماء(2).
3. روي أنّه قال في بيان معنى قول المؤذن (حي على الصلاة): أي هلموا إلى خير أعمالكم ودعوة ربكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وإطفاء ناركم التي أوقدتموها على ظهوركم، وفكاك رقابكم التي رهنتموها بذنوبكم، ليكفر الله عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ويبدل سيئاتكم حسنات؛ فإنه ملك كريم، ذو الفضل العظيم(3).
4. روي أنّه قال في معنى قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله ـ: إنا لا نملك مع الله شيئا، ولا نملك إلا ما ملكنا، فمتى ملكنا ما هو أملك به منا كلفنا، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا(4).
5. روي أنّه قال: الحمد لله الخافض الرافع، الضار النافع، الجواد الواسع، الجليل ثناؤه، الصادقة أسماؤه، المحيط بالغيوب(5).
6. روي أنّه قال: لا إله إلا الله العزيز المنيع الغالب في أمره فلا شيء يعادله، لا إله إلا الله الحميد الفعال ذو المن على جميع خلقه، لا إله إلا الله ذو البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه، لا إله إلا الله العالي في ارتفاع مكانه فوق كل شيء قوته، لا إله إلا الله الجبار المذل كل شيء بقهر عزه وسلطانه، لا إله إلا الله نور كل شيء وهداه، لا إله إلا الله القدوس الظاهر على كل شيء فلا شيء يعادله(6).
7. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه(7).
8. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد، الذي لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان، قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه(8).
9. روي أنّه قال في دعائه المعروف بدعاء كميل: اللهم عظم سلطانك، وعلا مكانك، وخفي مكرك، وظهر أمرك، وغلب قهرك، وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك(9).
10. روي أنّه قال: في خطبة يذكر فيها صفات الله جل جلاله: قادر إذ لا مقدور(10).
11. روي أنه قيل له: هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ فقال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون(11).
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة: 65.
(2) بحار الأنوار: 93/41 نقلا عن رسالة النعماني.
(3) التوحيد: ص 239.
(4) نهج البلاغة: الحكمة: 404.
(5) الكافي: 8/170.
(6) الدروع الواقية: ص 255.
(7) نهج البلاغة: الخطبة: 91.
(8) الكافي: 1/134.
(9) مصباح المتهجد: ص 845.
(10) نهج البلاغة: الخطبة: 152.
(11) التوحيد: ص 130.
الحسن:
سئل الإمام الحسن (ت 50 هـ) عن الموت، ما هو؟ فقال: هو التصديق بما لا يكون.. إن المؤمن إذا مات لم يكن ميتا، وإن الميت هو الكافر، إن الله عز وجل يقول: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يعني المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن(1).
__________
(1) معاني الأخبار: 290/10.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: المهاجرين، والأنصار، ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: فارس، والروم(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ٢/٢٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اسم الله الأعظم: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ ما نقص من الليل يجعله في النهار، وما نقص من النهار يجعله في الليل(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ يخرج النطفة الميتة من الحي، ثم يخرج من النطفة بشرا حيا(3).
4. روي أنّه قال: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم؛ قالت المنافقون، واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم!؟ هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية(4).
5. روي أنّه قال: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ النبوة(1).
6. روي أنّه قال: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ إلى آخر الآية(5).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٤.
(2) ابن جرير: ٥/٣٠٥.
(3) ابن المنذر: ٣٣٩.
(4) أورده الواحدي في أسباب النزول: ص١٠٠.
(5) الطبراني في الكبير: ١٢/١٧١.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في دعائه في الصباح والمساء: اللهم إني اشهدك وكفى بك شهيدا، وأشهد سماءك وأرضك ومن أسكنتهما من ملائكتك، وسائر خلقك، في يومي هذا، وساعتي هذه، وليلتي هذه، ومستقري هذا، أني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، قائمٌ بالقسط، عدلٌ في الحكم، رؤوفٌ بالعباد، مالك الملك، رحيمٌ بالخلق، وأن محمدا عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك، حملته رسالتك فأداها، وأمرته بالنصح لامته فنصح لها(1).
2. روي أنّه قال: الحمد لله الذي من علينا.. بقدرته التي لا تعجز عن شيء وإن عظم، ولا يفوتها شيء وإن لطف(2).
__________
(1) الصحيفة السجادية: ص39.
(2) الصحيفة السجادية: ص 25.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل(1).
__________
(1) الثوري في تفسيره: ص٧٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ يأخذ النهار من الليل حتى يكون أطول منه، ويأخذ الليل من النهار حتى يكون أطول منه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٠٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ ما نقص من أحدهما في الآخر، متعاقبان أو يتعاقبان ذلك من الساعات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ الناس الأحياء من النطف، والنطف ميتة تخرج من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنبات كذلك(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٠٥.
(2) ابن جرير: ٥/٣٠٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ﴾ يجعله في الليل، وما ينقص من الليل يجعله في النهار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ هي البيضة؛ تخرج من الحي وهي ميتة، ثم يخرج منها الحي(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٥.
(2) ابن جرير: ٥/٣١٠.
(3) ابن جرير: ٥/٣٠٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ الليل اثنتا عشرة ساعة، والنهار اثنتا عشرة ساعة، فإذا أولج الليل في النهار أخذ النهار من ساعات الليل؛ فطال النهار، وقصر الليل، وإذا أولج النهار في الليل، أخذ الليل من ساعات النهار؛ فطال الليل، وقصر النهار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾: يعني: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٦٠.
(2) ابن جرير: ٥/٣١٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: اللهم أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، وأنت مليك الحق، أشهد أن لقاءك حق، وأن الجنة حق والنار حق، والساعة حق آتية لا ريب فيها(1).
2. روي أنّه قال: قال الله عز وجل لآدم: أنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، وأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت(2).
3. روي أنّه قال: إن ربي تبارك وتعالى لم يزل حيا بلا حياة، وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا، وملكا جبارا بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق لشيء، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها، كان حيا بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف، ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئا، بل حي يعرف وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته(3).
__________
(1) مصباح المتهجد: ص 165.
(2) الكافي: 2/10.
(3) الكافي: 1/88.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، أي: رب العباد الملك، لا يقضي فيهم غيرك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾، أي: بتلك القدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء، وتنزعها ممن تشاء، ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، لا يقدر على ذلك غيرك، ولا يصنعه إلا أنت، أي: وإن كنت سلطت عيسى عليه السلام على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله ـ من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، وخلق الطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لأجعله به آية للناس، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه ـ فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليك الملوك بأمر النبوة، ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، ورزق من شئت من بر وفاجر بغير حساب، وكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، أفلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة؛ أن لو كان إلها كان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد!؟(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٠٢.
(2) ابن جرير: ٥/٣١٤.
ميمون:
روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ غدقا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم سأل ربه: أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٠٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ معناه تنقص من اللّيل فتزيد في النّهار وكذلك النّهار في اللّيل(1).
2. روي أنّه قال: {تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} معناه الطّيب من الخبيث والمسلم من الكافر.. ويقال: تخرج الحيّ من النطفة الميتة، وتخرج النطفة الميتة من الحيّ(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 108.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 109.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، آتى الله الأنبياء، وأمر العباد بطاعتهم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٤٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يخرجه بحساب يخاف أن ينقص ما عنده، إن الله لا ينقص ما عنده(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾: محمدا وأصحابه(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٤٢.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في دعائه في الصباح: بسم الله الرحمن الرحيم، أصبحت بالله ممتنعا، وبعزته محتجبا، وبأسمائه عائذا من شر الشيطان والسلطان، ومن شر كل دابة ربي آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، اللهم ارزقني من فضلك ولا تجعل لي حاجة إلى أحد من خلقك، اللهم ألبسني العافية وارزقني عليها الشكر، يا واحد يا أحد يا صمد، يا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدٌ، يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مالك الملك، ويا الله يا لا إله إلا أنت، اشفني بشفائك من كل داء وسقم، فإني عبدك وابن عبدك أتقلب في قبضتك(1).
2. روي أنه قيل له: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أليس قد آتى الله عز وجل بني امية الملك؟ فقال: ليس حيث تذهب، إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو امية، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر، فليس هو للذي أخذه(2).
3. روي أنّه قال: المال مال الله عز وجل، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصدا ويشربوا منه قصدا، ويلبسوا منه قصدا، وينكحوا منه قصدا، ويركبوا منه قصدا، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدى ذلك كان أكله منه حراما، وما شرب منه حراما، وما لبسه منه حراما، وما نكحه منه حراما، وما ركبه منه حراما(3).
4. روي أنه قيل له: ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: ألا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله إليه ملكا؛ لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله تعالى به.. فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه(4).
5. روي أنّه قال: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا تقدر قدرته، ولا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه علمه، ولا مبلغ عظمته، وليس شيء غيره(5).
6. روي أنّه قال: لم يزل الله عز وجل ربنا... والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم على المعلوم... والقدرة على المقدور(6).
7. روي أنّه قال: لم يزل الله ـ جل اسمه ـ عالما بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور(7).
8. روي أنّه قال للمفضل بن عمر: انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه؛ فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء، وإن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه.. ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه؟ أنظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل، فيغشي السهل والجبل والبدو والحضر، حتى يستر نور الشمس بكثرته، فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي متى كان يجتمع منه هذه الكثرة؟ وفي كم من سنة كان يرتفع؟ فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤودها شيء ويكثر عليها(8).
__________
(1) الكافي: 2/524.
(2) الكافي: 8/266.
(3) أعلام الدين: ص 269.
(4) مشكاة الأنوار: ص 563.
(5) التوحيد: ص 128.
(6) الكافي: 1/107.
(7) الأمالي للطوسي: ص 168.
(8) بحار الأنوار: 3/108 عن توحيد المفضل.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الملك، والعز، والذل: ﴿قَدِيرٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، يقول سبحانه: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك؛ أعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني(2).
3. روي أنّه قال: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم في أمته، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ يعني: الروم، وفارس(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، وأمته، ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ يعني: الروم، وفارس(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٦٩.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٠.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يقدر على ذلك غيرك، ولا يصنعه إلا أنت، وترزق من تشاء برا وفاجرا حيا بغير حساب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ملك النبوة الذي أعز به من اتبعه، وأذل به من خالفه(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٦٣ مُطَوَّلًا، وابن أبي حاتم: ٢/٦٢٨ من طريق سلمة.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٢٤.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال: إن الله تعالى القادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب(1).
__________
(1) التوحيد: ص 76.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟ فقال: لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة؛ لأنك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة، فكأنك قد جعلت القدرة شيئا غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك، وإذا قلت: خلق الأشياء بغير قدرة، فإنما تصفه أنه جعلها باقتدار عليها وقدرة، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره، بل هو سبحانه قادر لذاته لا بالقدرة(1).
2. روي أنه قيل له: لم خلق الله عز وجل الخلق على أنواع شتى ولم يخلقه نوعا واحدا؟ قال لئلا يقع في الأوهام أنه عاجز، فلا تقع صورة في وهم ملحد إلا وقد خلق الله عز وجل عليها خلقا، ولا يقول قائل: هل يقدر الله عز وجل على أن يخلق على صورة كذا وكذا إلا وجد ذلك في خلقه ـ تبارك وتعالى ـ، فيعلم بالنظر إلى أنواع خلقه أنه على كل شيء قدير(2).
3. روي أنه قيل له: هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك، وهي أقل من البيضة؛ لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها(3).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: 1/117.
(2) عيون أخبار الرضا: 2/75.
(3) التوحيد: ص 130.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت: عن قوله سبحانه: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، والملك هاهنا الذي يؤتيه من يشاء هو: جبايات الدنيا وأموالها، والذين يشاء أن يؤتيه إياهم فهم: الأنبياء ثم الأئمة من بعدهم، والذين يشاء أن ينزعه منهم فهم: أعداؤه من جبابرة أرضه، ومعنى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ هو: الحكم بالملك لهم صلوات الله عليهم، فمن حكم له بالنبوة أو بالإمامة حكما، وأوجب له الطاعة على الأمة باستحقاقه لذلك الموضع إيجابا ـ فقد آتاه الملك؛ لأن الملك هو: الأمر والنهي، والجبايات والأموال التي تقبض، التي بها قوام العساكر، واتخاذ الخيل والرجال والسلاح، وجميع أداة الملك؛ فمن أجاز الله له قبض جبايات الأرض، وإقامة أحكامها، وحدودها، وأوجب له الطاعة على أهلها ـ فقد آتاه الملك حقا؛ أولئك السابقون بالخيرات صلوات الله عليهم.
2. ومن لم يحكم له بشيء من ذلك، ولم يجزه له، ويطلق يده فيه، ولم يوجب له الطاعة على أحد من خلقه ـ فقد نزع ملك أرضه منه، وأبعده عنه؛ أولئك أعداؤه، وجبابرة أرضه، الحاكمون بغير حكمه، المغتصبون ما جعل الله سبحانه لأوليائه، المعتدون لما حكم به في خلقه وبلاده؛ أولئك يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا؛ فسبحان من لم يقض بشيء من ذلك لأعدائه، ولم يؤته غير أولياءه، وفي نفي الحكم منه بشيء من ذلك لأعدائه: ما يقول لإبراهيم صلى الله عليه: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، والعهد هو: العقد بالأمانة، والحكم لهم بالطاعة، ومعنى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ هو: لا يبلغهم ولا يجيزهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/151.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مراد الله سبحانه بهذا: أنه يعطي النبوة من اصطفاه، ومعنى اصطفاه: اختاره على علم منه بقيامه بأمره، وطهارته، وإخلاصه له في الدين؛ فحكم سبحانه لأنبيائه بالملك، وجعله لهم، وقد حكم أيضا بالملك لغير الأنبياء، من: الأئمة الملوك، الذين أخذوا الملك من جهة الطاعة له، مثل: طالوت، وذي القرنين، فمن دونهما؛ فإنهما لم يكونا نبيئين، وكانا بقيامهما بأمر الله وطاعتهما إياه مستحقين للملك؛ فأما من تغلب بالكفر والمعاصي لله على الناس، فلم يعطهم الله ذلك الملك الذي تغلبوا عليه.
2. {تنزع الملك ممن تشاء} فذلك: تسليطه الأنبياء والمرسلين على من تغلب بالناس فملكوهم؛ حتى انتزعوا الملك منهم: بأمر الله وحكمه؛ وذلك في مثل كسرى وغيره، أو بموتهم، فإنه إذا أماتهم، فقد انتزع منهم ملكهم في كل شيء.
3. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ فذلك العز: إعزاز الأنبياء بالأمن من سخطه، وبطاعتهم إياه، وبما معهم من الحجج والبراهين، وبولايته إياهم، وكذلك جميع المؤمنين، وبمحبته لهم، وبما أعد لهم من كراماته في الجنة ودار البقاء من حسن الجزاء، وبما قتلوا وطردوا في هذه الدنيا.
4. ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾: فإنه قد أذل من كفر به وعصاه: بلعنه له، وعداوته إياه، وضعف حججه، وتسليطه أولياءه عليه، وأمرهم بقتله، وتصييره بعد ذلك إلى النار الدائم عذابها، فلا يكون أذل من أعداء الله وإن عاشوا في الدنيا قليلا، وتمتعوا منها يسيرا، والحمد لله على جميع بيانه، ولطيف إحسانه وامتنانه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/151.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: مالك ملك كل ملك في الدنيا له حقيقة الملك.
ب. الثاني: أن الملك له، يؤتي من يشاء من ملكه، وينزع ممن يشاء الملك، وهو المالك لذلك، والقادر عليه.
2. الآية ترد على القدرية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يعطي الكافر الملك، وهو قد أخبر ـ عزّ وجلّ ـ أنه يؤتي من يشاء الملك، وقد يؤتي الكافر به الملك، فإن قالوا: أراد ب ﴿الْمُلْكُ﴾: الدين، فقد أخبر ـ عزّ وجل ـ أيضا أنه ينزع، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا.
3. في الآية تقوية لمن قرأ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] بالألف:
أ. لأنه أعمّ وأجمع؛ لأنه قال ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ وهو أعمّ.
ب. الثاني: أن (الملك) إنما يعبّر عن الولاية والسلطان، و(المالك): إنما يعبر عن حقيقة الملك، ومن له في الشيء حقيقة الملك ـ فله ولاية التغلب والتصرف فيه ولاية السلطان، ولا كل من له ولاية السّلطان يكون له ولاية التغلب فيه؛ لذلك كان بالألف أقرب.
4. من قرأ: (ملك يوم الدين) بغير ألف ذهب إلى أن هذا كقوله: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ [الحج: 56] ومن الملك يقال: ملك؛ لا يقال: مالك؛ لذلك كان ما ذكر والمالك ـ على الإطلاق ـ لا يقال إلا على الله ومالكها
5. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾:
أ. قال قائلون: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خاصّة.
ب. وقال آخرون: الخطاب بذلك لكل عاقل؛ وهو كقوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] إلى آخر الآية، ذلك الخطاب لكل أحد لا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خاصّة..
ج. وقيل: وليس هو خطاب؛ ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد؛ لأنه لو خوطب به لم يذكر (قل) عند قراءته.
6. اختلف في قوله تعالى: ﴿اللهمَّ﴾:
أ. قال قائلون: (اللهم): يعني: يا آلهتهم.
ب. وقال آخرون: (الله) ـ على القطع ـ (أمّنا) اقصدنا بالخير.
7. قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية: كأنه ـ عزّ وجل ـ امتحن من رغب في الملك، أو نال حظّا منه ـ أن يصرفوا وجه الرغبة إليه، أو يروا حقيقة ما نالوه منه؛ فيوجهون إليه الشكر، ويخضعون له بالعبادة والطاعة فيما أمرهم به؛ لينالوا شرفه ويدوم له عزّه؛ وذلك كقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النساء: 134] ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم، ومنعتكم عن القيام بحقه ـ هو الذي يملك ذلك؛ فإليه فاصرفوا سعيكم، وبشكره استديموا، الذي له اخترتم جل كدحكم؛ فإنه يملك ذلك دون غيره؛ وجملة ذلك في قوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ [النحل: 53] ومعقول فيما عليه طبع البشر، وإليه دعاهم عقولهم: أن كل شيء تؤثره أنفسهم ـ كان الذي يحق عليهم طلبه عند من به يوصل إليه، واختيارهم ما به يبلغون ما يأملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك، فمثله يلزم أمر الملك ولذّات الدّنيا، وتقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم؛ لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة، وطلب ذلك من الوجوه التي يطلب بها البشر ـ لم صرفوا كدحهم، وجعلوا له سعيهم؛ فيكون لله في كل أمر ممّا عليه أمر البشر آية عظيمة، وعلامة لطيفة على تفرده بملك ذلك، وتوحّده بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده على ذلك إذ ثبتت في ذلك أدلة التوحيد، ولزوم الاعتبار به؛ ليعرف من له الحق ـ ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة؛ أن الملك الذي ناله الجبابرة، والسعة التي تصل إلى الكفرة ـ لم يكن نالوه بتقدير الله، ولا وصلوا إليه بتدبيره؛ إذ حقه ما ذكرت من عظيم ما فيه من النعم؛ ليلزمهم به أرفع المحن وأعلى الشكر، وله أن يبلو بالحسنات والسّيئات؛ كما وعد عزّ وجل؛ وجملته: أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء، فليس الذي يعطي منه على الاستحقاق، ولا ما يمنع على العقوبة ـ وإن احتمل الدفع والمنع لذلك ـ ولكن له وللمحن، والمحنة أكثرها على مخالفة الأهواء، وتحمل المكاره، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم، أو التمكين ليمتحنوا؛ فيتبين الإيثار والترك لوجه الله، والرغبة فيمن إليه حقيقة ملك كل شيء، أو الميل إلى من إليه أنواع التغرير والمخادعات من غير تحقيق، ولا قوة إلا بالله، وعلى ذلك قوله: ﴿أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258] يبيّن ذلك احتجاجه على إبراهيم [عليه السلام] بالذي ذكر، وإغضاء إبراهيم عنه، ولو كان الذي آتاه [الله] لم يكن ليجترئ على تلك المقالة بقوله: ﴿أَنَا أُحْيِي﴾
8. ثم على قول المعتزلة، ومن وافقهم: إنّ الله تعالى إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه، وينزع عن أعدائه في الجملة، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك، وكان الوجوب على ضدّ ذلك!؟ أيظن المعتزلة أن الملحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول، أو يمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ مما لقنتهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد، واستترت بستره في الظاهر، ثم أعطت للملحدة هذا؛ ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد، ودفع حجج أهله، جل الله عما وصفته الملحدة، وتعالى، فبه العصمة والنجاة، ولما أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم به إبليس، حتى كانوا بمثله يحتجون؛ فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم، بما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا؛ فظنوا أنهم أجل عند الله تعالى وأرفع في المنزلة منهم، من لم يكن ليؤثرهم بالرسالة عليهم، لكن أولئك حققوا حقائق النعم لله، ونيل ما نالوا من الملك والشرف به، والمعتزلة رامت إزالة ذلك عن الله؛ ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له، والطاعة لمن بعثه الله، وأسأل الله تمام نعمه في الدين والدنيا.
9. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ وقوله: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ ونحو ذلك: وجوه من الأدلة:
أ. أحدها: أن يعلم أن الله ـ عزّ وجل ـ أنه القادر على اجتماع ما شاء مما شاء بلا معونة من ذلك ولا توليد، ولا قوة إلا بالله.
ب. الثاني: أنه جرى تقدير ذلك على ما لا تفاوت له، ولا اختلاف في اختلاف الأعوام؛ ليعلم أنها مسوّاة على التدبير، أحكمه على ذلك العزيز الحكيم، الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ وليعلم أن الذي قدر على ذلك واحد؛ إذ لم يختلف ولم يتناقض، ولا قوة إلا بالله.
ج. وأيضا، أنه قد صيّر كل جوهر بأحداث الآخر؛ كأنه لم يكن قط، ولا كان بقى له أثر، ثم رده بالوصف الذي كان؛ حتى لا يفوت منه شيء، حتى لا سبيل إلى العلم بالتفصيل بينهما؛ ليعلم أن قدرته على البعث، بعد أن يفنى كل الأجزاء والآثار، على ما كان، ولا قوة إلا بالله.
د. وأيضا، أنه إذ بنى الأمر على ما فيه من عظيم الحكمة، وعجيب التدبير ـ لم يجز أن يكون فعله خارجا على العبث، ثم في رفع المحنة، وإبطال الرسالة في تعليم ما في ذلك من الحكمة، وما يلزم بمكان ذلك التدبير من الشكر والمعرفة، ثم من الترغيب فيما يملك من النعمة، والترهيب عما عنده من النقمة ـ إبطال الحكمة، وتقرير العالم مع ما ذكرت على العبث، وذلك فاسد في العقول، وموجود في الجواهر عظيم حكمة منشئها، ثبت بذلك العبادة والرسالة والجزاء، ولا قوة إلا بالله.
10. قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ الآية يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن تؤتي ابتداء من غير أن كان آتاهم مرة؛ وكذلك تنزع ـ أي تمنع ـ ابتداء من غير أن كان آتاهم، ثم ينزع؛ كقوله: ﴿رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ [الرعد: 2] رفع ابتداء من غير أن كانت موضوعة فرفعها؛ وكقوله: ﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257] إخراج الابتداء، لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم، فعلى ذلك هذا، وعلى ذلك قوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ إيلاج ابتداء، لا أن كان أحدهما في الآخر؛ كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القصص: 71] و﴿النَّهَارَ سَرْمَدًا﴾ [القصص: 72] أخبر أنه لم يجعل واحدا منهما مؤبّدا؛ وكذلك قوله: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ إخراج ابتداء؛ أن يخلق الحي من الميت ابتداء، ويخلق الميت من الحي من غير أن كان فيه.
ب. ويحتمل هذا كله أن كان يؤتي الملك بعد أن لم يكن، ويعزّ بعد الذل، وينزع الملك بعد أن كان، ويذل بعد أن كان العز؛ وكذا قوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أن يدخل بعض هذا في هذا، وهذا في هذا.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾:
أ. قيل: أن يخرج حي الأقوال من ميت الأفعال، وميت الأفعال من حي الأقوال، يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ على ما سمى الله تعالى الكافر ميتا، والمؤمن حيّا في غير موضع من القرآن.
ب. وقيل: يخرج حي الجوهر من ميت الجوهر، وميت الجوهر من حي الجوهر.
ج. وقيل: يخرج الحي من المني، ويخرج المني من الحي.
د. وقيل: البيضة من الحي، والحي من البيضة.
هـ. وقيل: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:
أ. قيل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يعرف الخلق عدده ومقداره.
ب. وقيل: بغير تبعة ولا طلبة؛ أي: لا يحاسبهم فيما أعطاهم من بعد ما أعطاهم.
ج. ويحتمل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: لا يعطيهم بحساب أعمالهم، ولكن بتفضل، خلافا للمعتزلة.
د. ويحتمل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ في الآخرة.
هـ. وعن ابن عباس: (بغير هنداز ـ فارسية معربة)
و. وعن مقاتل: (لا يقدر ذلك غيره؛ يقول: ليس فوقى ملك يحاسبني، أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني)
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/347.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي مَلِك الدنيا والآخرة مالك العباد وما ملكوا ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي النبوة والإمامة ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ يعني تنزعهما ممن تشاء وتختار لهما من تشاء ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بالطاعة ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بالمعصية ويحتمل تعز من تشاء بالنصرة وتذل من تشاء بالقهر ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي أنت قادر عليه وفاعل له.
2. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ أي تدخل نقصان النهار في زيادة الليل وزيادة النهار في نقصان الليل ويحتمل أن يكون وتجعل النهار بدلاً لليل وتجعل الليل بدلاً للنهار.
3. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يقرأ بتشديد الميت وتخفيفه والميت واحد الأموات قال الشاعر:
çليس من مات فاستراح بميت... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا... كاسفاً باله قليل الرجاءé
أي يخرج الحيوان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الحيوان الحي، وقد يحتمل أن يكون الحي بمعنى المؤمن والميت بمعنى الكافر أي تخرج من الكافر المؤمن ومن المؤمن الكافر.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/384.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يريد به ملك أمر الدنيا والآخرة.
ب. الثاني: مالك العباد وما ملكوه، قاله الزجاج.
ج. الثالث: مالك النبوة، قاله مجاهد.
2. في قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن الملك هنا النبوة، قاله مجاهد.
ب. الثاني: أنه الإيمان.
ج. الثالث: أنه السلطان، روى قتادة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية.
3. قوله تعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: تعز من تشاء بالطاعة، وتذل من تشاء بالمعصية.
ب. الثاني: تعز من تشاء بالنصر، وتذل من تشاء بالقهر.
ج. الثالث: تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر.
4. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي أنت قادر عليه، وإنما خصّ الخير بالذكر وإن كان قادرا على الخير والشر، لأنه المرغوب في فعله.
5. في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه تدخل نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل، وهو قول جمهور المفسرين.
ب. الثاني: أن معناه تجعل الليل بدلا من النهار، وتجعل النهار بدلا من الليل، وهو قول بعض المتأخرين.
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ قرأ نافع وحمزة والكسائي: الميّت بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، واختلفوا في معناه بالتخفيف والتشديد، فذهب الكوفيون إلى أن الميت بالتخفيف الذي قد مات، وبالتشديد الذي لم يمت بعد، وحكى أبو العباس عن علماء البصريين بأسرهم أنهما سواء، وأنشد لابن الرعلاء القلابي:
çليس من مات فاستراح بميت...إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا...كاسفا باله قليل الرجاءé
6. في تأويل إخراج الحي من الميت قولان:
أ. أحدهما: أنه يخرج الحيوان الحي من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الحيوان الحي، وهذا قول ابن مسعود، ومجاهد، وقتادة، والسدي.
ب. الثاني: أنه يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وهذا قول الحسن.
ج. وقال قتادة: وإنما سمّى الله يحيى بن زكريا بيحيى لأن الله عزّ وجل أحياه بالإيمان.
7. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فيه ثلاثة أقاويل مضت.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/384.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل في زيادة الميم في ﴿اللهمَّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الخليل: إنها عوض من ياء التي هي أداة للنداء بدلالة أنه لا يجوز أن تقول غفر اللهم لي، ولا يجوز أيضاً مع (يا) في الكلام.
ب. الثاني: ما قاله الفراء: إنها الميم في قولك يا الله أمنا بخير فألقيت الهمزة وطرحت حركتها على ما قبلها، ومثله هلم وإنما هي هل أم، قال وما قاله الخليل لا يجوز لأن الميم إنما تزاد مخففة في مثل فم وابنم، ولأنها قد اجتمعت مع (يا) في قول الشاعر:
çوما عليك أن تقولي كلما...سبحت أو صليت يا اللهما
اردد علينا شيخنا مسلما...فإننا من خيره لن نعدماé
قال الرماني: لا يفسد قول الخليل بما قاله، لأنها عوض من حرفين فشددت كما قيل قمتن وضربتن لما كانت النون عوضاً من حرفين في قمتم، وذهبتم، فأما قمن وذهبن فعوض من حرف واحد، وأما البيت فإنما جاز فيه لضرورة الشعر، وأما هل، فلا تدخل على (أم) بوجه من الوجوه، والأصل في (ها) أنها للتنبيه دخلت على (لم) في قول الخليل.
2. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أكثر النحويين على أنه منصوب بأنه منادى مضاف وتقديره يا مالك الملك، وقال الزجاج: يحتمل هذا ويحتمل أيضاً أن يكون صفة من اللهم، لأن اللهم منادى، والميم في آخره عوض من ياء في أوله ثم وصفه بعد ذلك كما تقول يا زيد ذا الحجة.
3. في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن الملك هاهنا النبوة ذكره مجاهد.
ب. الثاني: قال الزجاج: مالك العباد، وما ملكوا.
ج. الثالث: قال قوم: مالك أمر الدنيا والآخرة.
د. الرابع: أنه أفاد صفة لا تجوز الاله من أنه مالك كل ملك.
4. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ تقديره من تشاء أن تؤتيه وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه، كما تقول: خذ ما شئت واترك ما شئت، ومعناه ما شئت أن تتركه.
5. النزع: قلع الشيء عن الشيء، نزع ينزع نزعاً، ومنه قوله: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ قال أبو عبيدة هي النجوم تنزع أي تطلع والنزع الشبه للقوم نزع إلى أخواله أي نزع إليهم بالشبه، فصار واحداً منهم بشبهه لهم، والنزاع: الحنين إلى الشيء والمنازعة: الخصومة، والنزوع عن الشيء الترك له، والنزع: ذهاب الشعر عن مقدم الرأس، والمنزعة: آلة النزع، وأصل الباب النزع: القلع.
6. قال البلخي والجبائي: لا يجوز أن يعطي الله الملك للفاسق لأنه تمليك الأمر العظيم من السياسة والتدبير مع المال الكثير، لقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ والملك من أعظم العهود، ولا ينافي ذلك قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾ لأمرين:
أ. أحدهما: قال مجاهد الهاء كناية عن إبراهيم والملك المراد به النبوة والتقدير أن آتى الله إبراهيم النبوة.
ب. الثاني: أن يكون المراد بالملك المال دون السياسة، والتدبير.
7. سؤال وإشكال: ما الفرق بين تمليك الكافر العبيد والإماء وبين تمليكه السياسة والتدبير؟ والجواب: لأن لا يجعل للجاهل أن يسوس العالم، وهذا الذي ذكره البلخي بعينه يُستدل به على الامام يجب أن يكون معصوماً، ولا يكون في باطنه كافراً، ولا فاسقاً.
8. سؤال وإشكال: إن ذلك عادة وجاز أن يكلفنا الله اختياره على ظاهر العدالة فإذ أبان فسقه انخلعت إمامته وإنما لا يجوز أن يختار الله تعالى من في باطنه فاسق، لأنه يعلم البواطن لما جاز منا أن نختاره؟ والجواب: عن ذلك جوابان:
أ. أحدهما: أن الامام ـ عندنا (2) ـ الله (تعالى) يختاره، فوجب أن يكون مأمون الباطن على ما قلتموه، وما الفرق بين أن يختار من في باطنه فاسق وبين أن يكلفنا ذلك مع علمه بأنا لا نختار إلا الفاسق.
ب. الثاني: أنه إذا كانت علة الحاجة إلى الامام ارتفاع العصمة فلو كان الامام غير معصوم لاحتاج إلى امام آخر وأدى ذلك إلى التسلسل وذلك باطل.
9. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ معناه إنك قادر على الخير، وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده كل شيء من خير أو شر، لأن الغرض ترغيب العبد، وإنما يرغب في الخير دون الشر.
10. قال الحسن، وقتادة: هذه الآية نزلت جواباً لما سأل الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لأمته ملك فارس والروم فأنزل الله الآية.
11. قرأ بتشديد الياء ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾ نافع وحمزة والكسائي وحفص الباقون بالتخفيف.
12. الإيلاج: الإدخال يقال: أولجه ايلاجاً، وولج ولوجاً، ومنه قوله: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ والوليجة بطانة الرجل لأنه يطلعه على داخل أمره، ومنه قوله: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ الله وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ والتولج كناس الظبى لأنه يدخله ليأوي إليه والولجة شيء يكون بين يدي فناء القوم لأنه مدخل إلى أفنائهم وأصل الباب الدخول.
13. في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ما روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، والضحاك، وابن زيد: انه يجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخر.
ب. وقال الجبائي: معناه يدخل أحدهما في الآخر بإتيانه بدلا منه في مكانه.
14. في قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يخرج الحي من النطفة، وهي ميتة، والنطفة من الحي وكذلك الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، هذا قول عبد الله بن مسعود، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وقتادة، وابن زيد.
ب. الثاني: ما قاله الحسن وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام أنه إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
15. الفرق بين تخفيف الياء وتشديدها أن الميت بالتخفيف الذي قد مات وبالتثقيل الذي لم يمت قال المبرد: ولا خلاف بين علماء البصريين أنهما سواء وأنشد لابن الرعلاء الغساني:
çليس من مات فاستراح بميت...انما الميت ميت الأحياء
انما الميت من يعيش كئيباً...كاسفاً باله قليل الرخاءé
فجمع بين اللغتين وإنما كرر في عدة مواضع في القرآن لما فيه من عظم المنفعة وجزيل الفائدة.
16. في قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها: قال الحسن والربيع: بغير نقصان، لأنه لا نهاية لما في مقدوره فما يوجد منه لا ينقصه، ولا هو على حساب جزء من كذا وكذا جزءاً منه، فهو بغير حساب التجزئة.
ب. الثاني: بغير حساب التقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب، لأن من عادة المقتر ألا ينفق إلا بحساب ذكره الزجاج.
ج. الثالث: ما قاله الجبائي: ان معناه بغير حساب الاستحقاق، لأنه تفضل وذلك، لأن النعيم منه بحساب ومنه بغير حساب فأما العقاب فجميعه بحساب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/429.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النزع: قلع الشيء، نزع يَنْزع نزعًا، والنزع: الشبه بالقوم، يقال: نزع إلى أخواله أي نزع إليهم بالشبه فصار واحدًا منهم بشبهه لهم.
ب. الإيلاج: الإدخال، أولجه يولجه إيلاجًا، وولج ولوجًا، وفي التنزيل: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾
ج. الحساب: أن يأخذ ما له ويعطي ما عليه، وقد يطلق ويراد به القليل، وقال: ما ينبغي يعطى وقد أوتيته في اليوم غير مضر ومحسوب.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سأل ربه أن يجعل لأمته ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مكة، وعد أمته ملك فارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع، ألم يكفه مكة والمدينة حتى طمع في فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس وأنس بن مالك.
ج. وقيل: في يوم الخندق ظهر حجر عظيم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وضربه ثلاث ضربات، وكسرها بمعول، وكان بَرَقَ منها في كل ضربة برق عظيم، ويكبر تكبير الفتح، فسئل عن ذلك فقال: أخبرني جبريل أن أمتي ستظهر على ملك فارس والروم) فاستبشر المسلمون، فقال المنافقون: إنه يعدكم الباطل، إنما يحفر الخندق من الفَرَق، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما تقدم ذكر التوحيد والإيمان علم رسوله كيف يدعوه ويثني عليه فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿اللَّهُمَّ﴾ يا الله ﴿مَا لِكَ الْمُلْكِ﴾:
أ. يعني مالك كل ملك، وهذه صفته لا تصح إلا له.
ب. وقيل: مالك أمر الدنيا والآخرة.
ج. وقيل: مالك العباد وما ملكوا.
د. وقيل: الملك ههنا النبوة، عن مجاهد وسعيد بن جبير.
4. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ فيه محذوف أي من تشاء أن تؤتيه ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أي تنتزعه عنه كقولك: خذ ما شئت ودع ما شئت، واختلف المفسّرون:
أ. فقيل: تؤتي الملك محمدًا وأصحابه وأمته، وتنزعه من صناديد قريش.
ب. وقيل: تنزعه من الروم وفارس، وتعطيه العرب.
ج. وقيل: تؤتي النبوة من تشاء من عبادك وتوليه أمرهم، وتنزعه من الجبارين، عن السدي.
د. وقيل: تعطي الملك من تشاء بالأموال وأسباب الدنيا، وتنزعه ممن تشاء بالموت أو تلاشي سبب الملك.
هـ. وقيل: تؤتي ملك الجنة من تشاء من المؤمنين، وتنزع عمن تشاء من الكافرين والمنافقين.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾:
أ. قيل: تعز المؤمنين بالطاعة، وتذل الكافرين بكفرهم.
ب. وقيل: تعز من تشاء بالنعمة، وتدل من تشاء بسلب النعمة، عن الأصم.
ج. وقيل: تعز النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار، وتدل كفار قريش يوم بدر.
د. وقيل: هو عام في إعزاز الأنبياء والمؤمنين، وإذلال الكافرين في الدارين.
6. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ يعني أنت قادر على كل خير في الدارين ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَعِيل من قادر، فهو القادر على جميع الأشياء، لا يعجزه شيء، قادر على إيجاد المعدوم، وإفناء الموجود، وإعادة ما كان موجودًا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾:
أ. قيل: تدخل أحدهما في الآخر حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات، ثم تنقص من هذا، وتزيد في الآخر حتى يصير على الضد.
ب. وقيل: تجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخر، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي.
ج. وقيل: يأتي بالليل بعد النهار، والنهار بعد الليل، فيدخل أحدهما في الآخر بإثباته بدلاً منه، عن أبي علي.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾:
أ. قيل: الحي من النطفة وهي ميتة، والنطفة من الحي، فكذلك الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، عن عبد الله ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وابن زيد وهو الوجه؛ لأن حمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على المجاز.
ب. وقيل: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، عن الحسن.
ج. وقيل: السنبلة من الحبة والنخل من النواة، والنواة من النخلة والسنبلة من الحب.
9. ﴿وَتَرْزُقُ﴾ أي تعطي الرزق ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ من عبادك.
10. في قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: بغير نقصان، عن الحسن والربيع؛ وذلك لأنه لا نهاية لها في مقدوره كما يؤخذ منه ما ينقصه، ولا هو على حساب جزء شيء فهو بغير حساب من التجزئة.
ب. الثاني: بغير تقتير، يقال: فلان ينفق ماله بغير حساب؛ لأن من عادة المقتر ألَّا ينفق ماله إلا بحساب، عن الزجاج.
ج. والثالث: بغير حساب الاستحقاق لأنه تَفَضُّل؛ لأن النعم منه ما هو بحساب، ومنه ما هو بغير حساب، فأما العقاب فجميعه بحساب.
11. تدل الآية الكريمة على:
أ. أنه لا ملك إلا والله تعالى مالكه، وأن من جهته يملك ما يملك، وهذا يدل على قولنا: إن كل نعمة بالعبد من عنده.
ب. أن الملك لا يحصل في الحقيقة بالغصب والغلبة ووجوه الظلم؛ لأن ما يحصل كذلك لا يكون من جهته تعالى، من حيث منع من هذا حاله من التصرف، وأمر الانتزاع منه ومحاربته.. أما الذي يعطيه الله تعالى فينقسم:
• فمنه ملك يمين في الدنيا، نحو ما يرزق من المباحات والأموال العظيمة بأسباب مشروعة، والعبيد والغلمان، ونحو ما يرزق من قوة النفس، وحسن الرأي إلى سائر ما يتقدم به الملوك في الدنيا، فجميع ذلك مضاف إليه تعالى، ويجوز أن يؤتيه المؤمن والكافر بحسب ما يرى من المصلحة.
• ومنه ما يرجع إلى أمور الدين كالنبوة والإمامة، وما يتفرع منها من الولايات، فإذا وضع في موضعه كان بأمره مضافًا إليه تعالى، وإلا فلا.
ج. أن الإمامة ليست بمستحقة؛ لأن إطلاق الآية ينبئ عن تخيير.
د. أن نعمه تعالى سابغة على المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، خلاف قول الْمُجْبِرَةِ: إنه لا نعمة على الكافرين.
هـ. يدل قوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ على وجوب إضافة كل خير إليه، ومن أقوى النعم ما يحصل من الإيمان والطاعة من حيث مكن وهدى وأزاح العلة، وسهل السبيل ولطف، فأما نفس الإيمان والطاعة ففعل العبد، فكل نعمة منه إما بأن فعلها أوْ فعل سببيا أو التمكن منها.. وخص الخير، وقد يفعل الأمراض والشدائد، لأن جميع ذلك من باب الخير من حيث يعوض عليها ويكون لطفًا، وإنما لم يذكر العقوبات واللعن والإهانة؛ لأنَّهُ قصد ذكر ما يرغب به في المسألة، ويقع عنده التضرع.
و. يدل قوله: ﴿تُولِجُ﴾ على تدبير عظيم في تمام فصول السنة وتحصيل النماء والخير على ما نشاهده، وعلم الحساب والتواريخ.
ز. أنه في الآخرة يرزق بغير حساب، ولا يجوز حمله على الدنيا؛ لأنه ثبت أنه يحاسب عِلى الجميع ثم يعاقب على الحرام.
12. قرأ نافع وحمزة والكسائي ﴿الْمَيِّتِ﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف وهما لغتان بمعنى، وقيل: الميت بالتشديد الذي لم يمت بعد، وبالتخفيف الذي قد مات، قال أبو العباس: أجمع البصريون أنهما سواء، وأنشدوا: إنما الميت ميت الأحياء.
13. الميم في ﴿اللَّهُمَّ﴾ زائدة، وفيه قولان:
أ. قال الخليل: هو عوض من ياء النداء، ودليله أنه لا يجوز في الإخبار نحو: غَفَرَ اللَّهم، ولا يجوز مع نداء في الكلام.
ب. وقال الفراء: الميم هو الميم في الله أمَّنَا بخير، فألقيت الهمزة وطرحت حركتها على ما قبلها، ومثله: هلم، إنما هي ﴿هَا﴾ و﴿لَمْ﴾، قال: وما ذكره الخليل لا يصح؛ لأن الميم تزاد مخففة مثل فم، ولأنها قد تجتمع مع ياء النداء قال الشاعر:
çوما عليك أن تقولي كلما... سبحت أو صليت يا اللَّهمّ ماé
قلنا: هو عوض من حرفين، فشددت، كما قيل: فمي، لما كانت النون عوضًا من حرفين في فمنوا شدد، فأما فم فعوض عن حرف واحد، فأما البيت فجاء لضرورة الشعر، وأما [﴿هَلْ﴾ فلا] تدخل على ﴿لَمْ﴾ بوجه، ولكن الأصل هاء التنبيه دخلت على ﴿لَمْ﴾ في قول الخليل.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/203.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النزع: قلع الشئ عن الشئ، يقال: نزع فلان إلى أخواله أي: نزع إليهم بالشبه، فصار واحدا منهم بشبهه لهم، والنزاع: الحنين إلى الشئ، والنزوع عن الشئ: الترك له.
ب. الإيلاج: الإدخال، يقال أولجه فولج ولوجا وولجا ولجة، والوليجة: بطانة الرجل، لأنه يطلعه على دخلة أمره، والتولج: كناس الظبي، لأنه يدخله، والولج والولجة: شئ يكون بين يدي فناء القوم.
2. مما روي في فضل هذه الآية الكريمة:
أ. روى جعفر بن محمد عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لما أراد الله أن ينزل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، و﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾، و﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك، ونحن معلقات بالطهور وبالعرش؟ فقال: وعزتي وجلالي ما من عبد قرأ كن في دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو، ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلا أن يموت(2).
ب. وقال معاذ بن جبل: احتبست عن رسول الله يوما، لم أصل معه الجمعة، فقال: يا معاذ! ما يمنعك عن صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله! كان ليوحنا اليهودي علي أوقية من تبر، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك، قال: أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: قل ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ إلى قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يا رحمان الدنيا ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء، إقض عني ديني، فإن كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك.
3. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات من أين لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم ملك فارس والروم؟ ألم يكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس؟ ونزلت هذه الآية، عن ابن، عباس، وأنس بن مالك.
ب. وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان، رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: سلمان منا أهل البيت، قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة ونعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب، أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة، كسرت حديدنا، وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان! إرق إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيه بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال: فرقي سلمان إلى رسول الله وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة، من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع سلمان الخندق، والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المعول من يد سلمان، فضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى كان لكأن مصباحا في جوف ليت مظلم! فكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تكبيرة فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله الثانية، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم! فكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تكبيرة فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله الثالثة، فكسرها، فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم! فكبر رسول الله تكبيرة فتح، وكبر المسلمون، وأخذ بيد سلمان، ورقي، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط! فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى القوم وقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أن أمتي طاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل القرآن: {وإذ يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}، وأنزل الله في هذه القصة ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ الآية، رواه الثعلبي بإسناده عن عمرو بن عوف.
4. لما ذكر سبحانه مكائد أهل الكتاب، علم رسوله محاجتهم، وكيف يجيبهم إذا سألوا وأجابوا، فقال ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿اللَّهُمَّ﴾ يا الله ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾:
أ. قيل: مالك كل ملك وملك، فكل مالك دونك هالك، وكل ملك دونك يهلك.
ب. وقيل: مالك العباد وما ملكوا، عن الزجاج.
ج. وقيل: مالك أمر الدنيا والآخرة.
د. وقيل: مالك النبوة، عن مجاهد، وسعيد بن جبير.
5. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ تعطي الملك من تشاء، وفيه محذوف أي: من تشاء أن تؤتيه ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أن تنزعه منه، كما تقول: خذ ما شئت، ودع ما شئت، ومعناه: وتقطع الملك عمن تشاء أن تقطعه عنه، على ما توجبه الحكمة، وتقتضيه المصلحة، واختلف في معناه:
أ. فقيل: تؤتي الملك وأسباب الدنيا محمدا وأصحابه وأمته، وتنزعه عن صناديد قريش، ومن الروم وفارس، فلا تقوم الساعة حتى يفتحها أهل الاسلام، عن الكلبي.
ب. وقيل: تؤتي النبوة والإمامة من تشاء من عبادك، وتوليه التصرف في خلقك وبلادك، وتنزع الملك على هذا الوجه من الجبارين بقهرهم، وإزالة أيديهم، فإن الكافر والفاسق وإن غلب أو ملك، فليس ذلك بملك يؤتيه الله لقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ وكيف يكون ذلك من إيتاء الله، وقد أمر بقصر يده عنه، وإزالة ملكه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾:
أ. قيل: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بالإيمان والطاعة ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بالكفر والمعاصي.
ب. وقيل: تعز المؤمن بتعظيمه والثناء عليه، وتذل الكافر بالجزية والسبي.
ج. وقيل: تعز محمدا وأصحابه، وتذل أبا جهل وأضرابه من المقتولين يوم بدر في القليب.
د. وقيل: تعز من تشاء من أوليائك بأنواع العزة في الدنيا والدين، وتذل من تشاء من أعدائك في الدنيا والآخرة، لأن الله تعالى لا يذل أولياءه وإن أفقرهم وابتلاهم، فإن ذلك ليس على سبيل الإذلال، بل ليكرمهم بذلك في الآخرة، يعزهم ويجلهم غاية الإعزاز والإجلال.
7. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ اللام للجنس أي: الخير كله في الدنيا والآخرة من قبلك، وإنما قال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ وإن كان بيده كل شئ من الخير والشر، لأن الآية تضمنت إيجاب الرغبة إليه، فلا يحسن في هذه الحالة إلا ذكر الخير، لأن الترغيب لا يكون إلا في الخير، وهذا كما يقال: أمر فلان بيد فلان.
8. {إنك على كل شئ قدير} أي: قادر على جميع الأشياء، لا يعجزك شئ تقدر على إيجاد المعدوم، وإفناء الموجود، وإعادة ما كان موجودا.
9. في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن معناه ينقص من الليل، فيجعل ذلك النقصان زيادة في النهار، وينقص من النهار، فيجعل ذلك النقصان زيادة في الليل، على قدر طول النهار وقصره، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعامة المفسرين.
ب. والآخر: معناه يدخل أحدهما في الآخرة بإتيانه بدلا منه في مكانه، عن أبي علي الجبائي.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾:
أ. قيل: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أي: من النطفة وهي ميتة بدليل قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ أي: النطفة من الحي، وكذلك الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والسدي.
ب. وقيل: إن معناه تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، عن الحسن، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام، وأبي عبد الله عليه السلام.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:
أ. قيل: معناه: بغير تقتير، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب، ذكره الزجاج.
ب. وقيل: معناه بغير مخافة نقصان لما عنده، فإنه لا نهاية لمقدوراته، فما يؤخذ منها لا ينقصها، ولا هو على حساب جزء من كذا، كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة، والمائة من الألف.
ج. وقيل: إن المراد بمن يشاء أن يرزقه، أهل الجنة، لأنه يرزقهم رزقا لا يتناوله الحساب، ولا العد، ولا الإحصاء، من حيث إنه لا نهاية له، ويطابقه قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
12. قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب ﴿الْمَيِّتِ﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف.. قال المبرد: لا خلاف بين علماء البصرة أنهما سواء، وأنشد لابن رعلاء الغساني:
çليس من فات فاستراح بميت... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا... كاسفا باله، قليل الرجاءé.
فجمع بين اللغتين، وما مات، وما لم يمت في هذا الباب، يستويان في الاستعمال، وقال بعضهم: الميت بالتشديد الذي لم يمت بعد، وبالتخفيف: الذي قد مات، والصحيح الأول ألا ترى أنه قل ما جاء: çومنهل فيه الغراب ميت... سقيت منه القوم، واستقيتé
فهذا قد مات.
13. مسائل نحوية:
أ. ﴿اللَّهُمَّ﴾ بمعنى يا الله، والميم المشددة عند سيبويه والخليل عوض عن يا لأن يا لا يوجد مع الميم في كلامهم، فعلم أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها والضمة التي في أولها ضمة الاسم المنادى المفرد، والميم مفتوحة لسكونها، وسكون الميم التي قبلها، وقال الفراء: أصله يا الله أم بخير، فألقيت الهمزة وطرحت حركتها على ما قبلها ومثله هلم إنما أصله هل أم، واعترض على قول الخليل بأن الميم إنما تزاد مخففة في مثل فم وابنم، وبأنها اجتمعت مع يا في قول الشاعر:
çوما عليك أن تقولي كلما... سبحت، أو صليت: يا اللهما
اردد علينا شيخنا مسلما...فإننا من خيره لن نعدماé
قال علي بن عيسى: هذا ليس بشئ، لأن الميم هاهنا عوض من حرفين، فشددت كما قيل: قمتن وضربتن، لما كانت النون عوضا من حرفين في قمتموا، أو ضربتموا، فأما قمن وذهبن فالنون هناك عوض عن حرف واحد، وأما البيت فإنما جاز ذلك فيه لضرورة الشعر، وأما هلم: فإن الأصل فيه أن حرف التنبيه وهي ها دخلت على لم عند الخليل.
ب. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أكثر النحويين على أنه منصوب بأنه منادى مضاف، قال الزجاج: ويحتمل أن يكون صفة من اللهم، لأن اللهم بمنزلة يا الله، فيكون مثل قولك: يا زيد ذا الجمة.
ج. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾: فعل وفاعل في موضع النصب على الحال، والعامل فيه حرف النداء، وذو الحال اللهم، أو مالك.
د. ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾: مفعول ثان، والتقدير: تؤتي الملك من تشاء أن تؤتيه، وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، وكذا الباء في ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾: مبتدأ وخبر، في موضع الحال أيضا، والعامل فيه تؤتي وتنزع وتعز وتذل، وذو الحال الضمير المستكن فيها.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/725.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، لما فتح مكة، ووعد أمّته ملك فارس والرّوم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك.
ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم سأل ربّه أن يجعل ملك فارس والرّوم في أمّته، فنزلت هذه الآية، حكاه قتادة.
ج. الثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
2. ﴿اللَّهُمَّ﴾ قال الزّجّاج: قال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم: (اللهمّ) بمعنى (يا الله)، و(الميم) المشددة زيدت عوضا من (يا) لأنهم لم يجدوا (يا) مع هذه (الميم) في كلمة، ووجدوا اسم الله عزّ وجلّ مستعملا ب (يا) إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة (ياء) في أولها والضّمة التي في (الهاء) هي ضمّة الاسم المنادى المفرد.
3. قال أبو سليمان الخطّابيّ: معنى ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾: أنه بيده، يؤتيه من يشاء، قال وقد يكون معناه: مالك الملوك، ويحتمل أن يكون معناه: وارث المالك يوم لا يدّعيه مدّع، كقوله تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، وفي هذا الملك قولان:
أ. أحدهما: أنه النّبوة، قاله ابن جبير، ومجاهد.
ب. الثاني: أنه المال، والعبيد، والحفدة، ذكره الزّجّاج.
ج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء، يعني محمّدا وأمّته، وتنزع الملك ممن تشاء، يعني فارس الرّوم.
5. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ محمّدا وأمّته ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ فارس والرّوم، وبما ذا يكون هذا العزّ والذّلّ؟ فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: العزّ بالنّصر، والذلّ بالقهر.
ب. الثاني: العزّ بالغنى، والذلّ بالفقر.
ج. الثالث: العزّ بالطّاعة، والذلّ بالمعصية.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾:
أ. قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة.
ب. وقيل: معناه بيدك الخير والشر، فاكتفى بأحدهما، لأنه المرغوب فيه.
7. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ أي: تدخل ما نقّصت من هذا في هذا، قال ابن عباس، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر، قال الزّجّاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجا وولجا وولجة.
8. في قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه إخراج الإنسان حيّا من النّطفة، وهي ميتة، وإخراج النّطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة من الطائر، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، والجمهور.
ب. الثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان، روى نحو هذا الضّحّاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء.
ج. الثالث: أنه إخراج السّنبلة الحيّة من الحبّة الميّتة، والنّخلة الحيّة من النّواة الميّتة، والنواة الميّتة من النّخلة الحيّة، قاله السّدّيّ، وقال الزّجّاج: يخرج النبات الغضّ من الحبّ اليابس، والحبّ اليابس من النبات الحيّ النّامي.
9. ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير تقتير، قال الزّجّاج: يقال للذي ينفق موسعا: فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا.
__________
(1) زاد المسير: 1/271.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد والنبوّة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20] ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 23]، ثم ذكر شدة غرورهم بقوله: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [آل عمران: 24]، ثم ذكر وعيدهم بقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [آل عمران: 25] أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
2. اختلف النحويون في قوله: ﴿اللَّهُمَّ﴾ فقال الخليل وسيبويه ﴿اللَّهُمَّ﴾ معناه: يا الله، والميم المشددة عوض من: يا، وقال الفرّاء: كان أصلها، يا الله أم بخير: فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء، وحذفوا الهمرة من: أم، فصار ﴿اللَّهُمَّ﴾ ونظيره قول العرب: هلم، والأصل: هل، فضم: أم إليها، حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه:
أ. الأول: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال: اللهم افعل كذا إلا بحرف العطف، لأن التقدير: يا الله أمنا واغفر لنا، ولم نجد أحدا يذكر هذا الحرف العاطف.
ب. الثاني: وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال لجاز أن يتكلم به على أصله، فيقال (الله أم) كما يقال (ويلم) ثم يتكلم به على الأصل فيقال (ويل أمه)
ج. الثالث: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفا، فكان يجوز أن يقال: يا اللهم، فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي.
3. أجاب الفراء عن هذه الوجوه، فقال:
أ. أما الأول فضعيف، لأن قوله (يا الله أم) معناه: يا الله اقصد، فلو قال واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين، أحدهما: قوله ﴿فَآمَنَّا﴾ والثاني: قوله ﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ [البقرة: 286] أما إذا حذفنا العطف صار قوله: اغفر لنا تفسيراً لقوله: أمنا، فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد، ونظائره كثيرة في القرآن.
ب. أما الثاني فضعيف أيضاً، لأن أصله عندنا أن يقال: يا الله أمنا، ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك، وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله: ما أكرمه، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا هاهنا.
ج. وأما الثالث: فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقال: يا اللهم وأنشد الفرّاء:
çوأما عليك أن تقولي كلما...سبحت أو صليت يا اللهماé
وقول البصريين: إن هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن.. وأما قوله: كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ [يوسف: 46] فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف.
4. ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه:
أ. الأول: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى، وهذا غير جائز ألبتة، فإنه لا يقال ألبتة (الله يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك.
ب. الثاني: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء، حتى يقال: زيدم وبكرم، كما يجوز أن يقال: يا زيد ويا بكر.
ج. الثالث: لو كان الميم بدلًا عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه.
د. الرابع: لم نجد العرب يزيدون هذه الميم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.
5. في نصب ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ وجهان:
أ. الأول: وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزمر: 46]، ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله ﴿اللَّهُمَّ﴾ لأن قولنا ﴿اللَّهُمَّ﴾ مجموع الاسم والحرف، وهذا المجموع لا يمكن وصفه.
ب. الثاني: وهو قول المبرد والزجاج أن ﴿مَالِكُ﴾ وصف للمنادى المفرد، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه (يا) ولا يمتنع الصفة مع الميم، كما لا يمتنع مع الياء.
6. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك.
ب. روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب) ثم ضرب الثانية، فقال: (أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم) ثم ضرب الثالثة فقال: (أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا) فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية.
ج. وقال الحسن: إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم.
7. ﴿الْمُلْكُ﴾ هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال الزمخشري: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون.
8. في قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ وجوه:
أ. الأول: المراد منه: ملك النبوّة والرسالة، كما قال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54]، والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولًا فحكى الله عنهم قولهم: ﴿أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 94] وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام: 9]، وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولًا من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون: إن محمداً فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، وأما اليهود فكانوا يقولون: النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 37]، وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 12] أن اليهود تكبروا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، سؤال وإشكال: إذا حملتم قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ على إيتاء ملك النبوّة، وجب أن تحملوا قوله ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً، ومعلوم أن ذلك لا يجوز، والجواب: من وجهين:
• الأول: أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل، فإذا أخرجها الله من نسله، وشرّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف الله تعالى محمداً صلّى الله عليه وآله وسلم بها، صح أن يقال: إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.
• الثاني: أن يكون المراد من قوله ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط، وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88] وأولئك الأنبياء قالوا: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: 89] مع أنهم ما كانوا فيها قط.
ب. الثاني: أن يكون المراد من الملك، ما يسمى ملكاً في العرف، وهو عبارة عن مجموع أشياء:
• أحدها: تكثير المال والجاه، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع، والحرث، والنسل، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيبا عند الناس، مقبول القول، مطاعا في الخلق.. ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى: أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد، والعناء العظيم قليل من المال، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب، ينقاد له الصغير والكبير، ويتواضع له القاصي والداني.
• الثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، وتحت أمره ونهيه.. ومعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده.
• الثالث: أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلك المنازع، وعلى غلبته.. ومعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾
ج. الثالث: أن قوله ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز.
9. للمعتزلة، ومن وافقهم، هاهنا رأي خاص، حيث قال الكعبي: قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ ليس على سبيل المختارية، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] وقال في حق العبد الصالح: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 247] فجعله سبباً للملك، وقال الجبائي: هذا الحكم مختص بملوك العدل، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك، فأما الظالمون فلا.. ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا هاهنا.. وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه: منها بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدر والحواس، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى، لأنه وقع عن أمره، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب.
10. الجواب على ما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم أن حصول الملك للظالم، إما أن يقال: إنه وقع لا عن فاعل، وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب، أو إنما حصل بالأسباب الربانية.. والأول: نفي للصانع، والثاني: باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى، وهذا الكلام ظاهر، ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس، وتميل إليه القلوب، ويكون النصر قرينا له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى، ولذلك قال حكيم الشعراء:
çلو كان بالحيل الغنى لوجدتني...بأجل أسباب السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى... ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه...بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمقé
11. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا:
أ. أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]، وإذا ثبت هذا فنقول: لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه، ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله، وهذا وجه قوي في المسألة.
ب. قال القاضي: الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملًا على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة، وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق(2).
12. ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ قال الجبائي في (تفسيره): إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحدا من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة، إما بالثواب، وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما: إنهما تعذيب، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 54]..وإذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة، ومنها بأن يجعلهم خولًا لأهل دينه، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة.
13. هذا جملة كلام المعتزلة، ومن وافقهم، ومذهب أهل السنة، ومن وافقهم أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة، ويذل البعض بالكفر والضلالة، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه:
أ. الأول: وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل، لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد.
ب. الثاني: وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال: يفعله العبد ابتداء، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال، فبقي أن يقال: تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب ألبتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه.
ج. الثالث: ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالا، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى.
14. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ المراد من اليد هو القدرة، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات، وأيضا فقوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك، كما أن قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرين: 6] أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه.
15. أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد، وهذا استدلال ظاهر، ومن أهل السنة، ومن وافقهم من زاد في هذا التقدير فقال: كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائدا في الخيرية على الله تعالى، وفي الفضيلة والكمال، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
16. سؤال وإشكال: هذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله، والجواب: أن قوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي: كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى، ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وذلك على خلاف هذا النص.
17. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال.
18. في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلًا في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك.
ب. الثاني: أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر، والأول أقرب إلى اللفظ، لأنه إذا كان النهار طويلًا فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلًا في الليل.
19. في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ وجوه:
أ. أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام.
ب. الثاني: يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس.
ج. الثالث: يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس.
د. الرابع: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس.
هـ. قال القفال: والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122] يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيمانا، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [الروم: 19] وقال: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: 9] وقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: 28]
20. في قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وجوه:
أ. الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب.
ب. الثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال: فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان: عنده مال لا يحصى.
ج. الثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/186.
(2) ذكر هنا ردا على ما ذكره المعتزلة، ومن وافقهم لا نراه سليما من حيث أسلوبه، وهو واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لا نعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال فأما العبد، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم
ابن حمزة:
ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾، الكلام في ذلك، ومن الله نستمد التوفيق: أن الله تعالى مالك الملك على الحقيقة؛ إذ هو الغني الذي لا يفتقر، والعادل الذي لا يجوز عليه العجز، ولا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب؛ وهذا هو الملك على الحقيقة، فهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء بالحكم والأمر إن كان محقا، وبالتخلية والتمكين وتهيئة الأسباب إن كان مبطلا؛ لتكمل عليه الحجة، ويطالبه بموجب شكر النعمة، فإن عمل بالملك بما أمره أعطاه خير الدنيا وثواب الآخرة، وإن خالف ذلك أنزل به عقوبة الكافرين في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة، ولا يمتنع ذلك في الحكمة، ولا تلحقه بالجور؛ إذ الباري سبحانه قد أعطى الكفار ابتداء ما يمثل لك الدنيا جميعا لو خيره أهل العقول، من: العاقبة، والجوارح السليمة، والعقل الذي به كمال النعمة؛ فإذا جاز فعل ذلك لمن لا يستحقه؛ لتكمل عليه الحجة، فإضافة ما هو دونه إليه: لا مانع منه في الحكمة؛ لمثل ذلك، ولأنا قد شاهدنا الملك منتظما لإنسان دون إنسان ممن طلبه، وربما أن المحروم أحرم وأكمل ممن ناله وأدركه؛ بمساعدة المقادير، وتهيئة الأسباب.
2. والكلام في قوله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله: {تعز من تشاء وتذل من تشاء} على نحو ذلك، ومعناه ظاهر، جعل بعض خلقه ملكا، وبعضهم سوقة، وبعضهم مالكا، وبعضهم مملوكا، وبعضهم ذكرا في موضع العزة والتصرف، وبعضهم أنثى في موضع الذلة والانقياد، وكل هذا لحكمة ومصلحة تعود على العباد؛ فأراد سبحانه من الغني والملك والعزيز: الشكر، وأراد من الرعية والفقير والضعيف: الصبر والشكر؛ تكليف وتعبد يعود نفعه على العبد؛ لأن التكليف نصفان، نصف: صبر، ونصف: شكر؛ والصبر أفضلهما؛ فهذا ما يتوجه عندنا في معنى هذه الآية.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/154.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في فضل هذه الآية الكريمة:
أ. قال علي قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لما أراد الله أن ينزل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، و﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾، و﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك، ونحن معلقات بالطهور وبالعرش؟ فقال: وعزتي وجلالي ما من عبد قرأ كن في دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو، ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلا أن يموت(2).
ب. وقال معاذ بن جبل: احتبست عن رسول الله يوما، لم أصل معه الجمعة، فقال: يا معاذ! ما يمنعك عن صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله! كان ليوحنا اليهودي علي أوقية من تبر، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك، قال: أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: قل ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ إلى قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يا رحمان الدنيا ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء، إقض عني ديني، فإن كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك.. خرجه أبو نعيم الحافظ، وعن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم آيات من القرآن ـ أو كلمات ـ ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فذكره، غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قال ابن عباس وأنس بن مالك: لما، افتتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم! هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شي منها، قال ابن إسحاق: أعلم الله تعالى في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وأن عيسى صلّى الله عليه وآله وسلم وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله تعالى هو المنفرد بهذه الأشياء، من قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، وقوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه، فكان في ذلك اعتبار وآية بينة.
3. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ اختلف النحويون في تركيب لفظة ﴿اللَّهُمَّ﴾ بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى، وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى:
كدعوة من أبي رباح...يسمعها اللهم الكبار
قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا ألله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو ﴿يَا﴾ جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد، وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة، قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قال الخليل وسيبويه، قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمة أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى، قال ابن عطية: وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا ألله أم، ولا تقول العرب يا اللهم، وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على ﴿اللَّهُمَّ﴾ وأنشدوا على ذلك قول الراجز: (غفرت أو عذبت يا اللهما)، وقال آخر:
çوما عليك أن تقولي كلما... سبحت أو هللت يا اللهم ما
اردد علينا شيخنا مسلما...فإننا من خيره لن نعدماé
وقال آخر:
çإني إذا ما حدث ألما...أقول يا اللهم يا اللهماé
قالوا: فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا، قال الزجاج: وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، وقد ورد مثله في قوله:
çهما نفثا في في من فمويهما...ما على النابح العاوي أشد رجامé
قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد، وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ، لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال: ﴿اللَّهُمَّ﴾ ويقتصر عليه لأنه معه دعاء، وأيضا فقد تقول: أنت اللهم الرزاق، فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر، قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها، وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء.
4. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ قال قتادة: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سأل الله تعالى أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية، وقال مقاتل: سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء، وقد تقدم معناه، و﴿مَالِكُ﴾ منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، ومثله قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم، وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا: ﴿مَالِكُ﴾ في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قال أبو علي، هو مذهب أبي العباس المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شي على حد ﴿اللَّهُمَّ﴾ لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف، نحو غاق وما أشبهه، وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع، فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت، نحو حيهل فلم يوصف.
5. ﴿الْمُلْكُ﴾ هنا النبوة، عن مجاهد، وقيل، الغلبة، وقيل: المال والعبيد، الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا، وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة.
6. معنى ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ أي أي الإيمان والإسلام، ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:
çألا هل لهذا الدهر من متعلل...على الناس مهما شاء بالناس يفعلé
قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل.
7. {تعز من تشاء} يقال: عز إذا علا وقهر وغلب، ومنه،﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾
8. ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر، قال طرفة:
çبطيء عن الجلى سريع إلى الخنا...ذليل بأجماع الرجال ملهدé
9. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي بيدك الخير والشر فحذف، كما قال: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾، وقيل: خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله، قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة، وقال أهل الإشارات: كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب: يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء، أي صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم، بيدك الخير ما منعكم من عجز ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إنعام الحق عام يتولى من يشاء.
10. قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي في معنى قوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ الآية، أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون، وكذا تولج النهار في الليل، وهو قول الكلبي، وروي عن ابن مسعود، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر.
11. اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ فقال الحسن: معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي، وروى معمر عن الزهري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دخل على نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة قال: من هذه؟ قلن إحدى خالاتك، قال: ومن هي؟ قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: سبحان الذي يخرج الحي من الميت، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا، فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن، فالموت والحياة مستعاران، وذهب كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقتان، فقال كرمة: هي إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية، وقال ابن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة، وقال عكرمة والسدي: هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة من النخلة والنخلة تخرج من النواة، والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه.
12. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، كأنه لا يحسب ما يعطي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/52.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾، قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو (يا)؛ جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاؤوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف؛ والضمة في الهاء: هي ضمة الاسم المنادى المفرد، وذهب الفراء والكوفيون: إلى أن الأصل في اللهم يا الله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين؛ والضمة التي في الهاء: هي الضمة التي كانت في أمنا، لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة.
2. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي: مالك جنس الملك على الإطلاق، ومالك: منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، أي: يا مالك الملك، ولا يجوز عنده أن يكون وصفا لقوله: ﴿اللَّهُمَّ﴾ لأن الميم عنده تمنع الوصفية، وقال محمد بن يزيد المبرد، وإبراهيم بن السري الزجاج: إنه صفة لاسم الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، قال أبو علي الفارسي: وهو مذهب المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف، نحو: غاق وما أشبهه، قال الزجاج: والمعنى مالك العباد وما ملكوا؛ وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة؛ وقيل: الملك هنا: النبوة؛ وقيل: الغلبة؛ وقيل: المال والعبيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص.
3. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: من تشاء إيتاءه إياه ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ نزعه منه، والمراد بما يؤتيه من الملك وينزعه: هو نوع من أنواع ذلك الملك العام.
4. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، يقال: عزّ، إذا غلب، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، وقوله: ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، يقال: ذلّ ذلا، إذا غلب وقهر.
5. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تقديم الخبر للتخصيص، أي: بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشرّ: لأن الخير بفضل محض، بخلاف الشرّ فإنه يكون جزاء لعمل وصل إليه، وقيل: لأن كل شرّ من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير، فأفعاله كلها خير، وقيل: إنّه حذف كما حذف في قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ وأصله: بيدك الخير والشرّ؛ وقيل: خص الخير لأن المقام مقام دعاء.
6. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: تعليل لما سبق وتحقيق له، ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي: تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر؛ وقيل: المعنى: تعاقب بينهما، ويكون زوال أحدهما ولوجا في الآخر.
7. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ قيل: المراد إخراج الحيوان وهو حيّ من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حيّ؛ وقيل: المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية؛ وقيل: المراد إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير تضييق ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، والباء: متعلقة بمحذوف وقع حالا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/379.
المتوكل على الله:
قال الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ): تأويل الآية: أن الله تعالى يؤتي الملك من يستحقه، وهو: النبوءة والرسالة والإمامة، كما قال تعالى: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، وينزعه ممن لا يستحقه، ويعز أولياءه، ويذل أعداءه(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/153.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي مالك جنس الملك على الإطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء، إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، وتعذيبا وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع.
2. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، وكون مالكية غيره بطريق المجاز، كما ينبئ عنه إيثار (الإيتاء) الذي هو مجرد الإعطاء على (التمليك) المؤذن بثبوت المالكية حقيقة ـ أفاده أبو السعود ـ وفي التعبير بـ (من) العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينوّل ملك فارس والروم العرب، كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي، إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها، من سائر الأمم الذي دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم، وصنوف أهل الأقطار، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين ـ كذا في البقاعيّ ـ
3. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي تدخل أحدهما في الآخر، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ كالحيوان من النطف والنطف منه، والبيض من الطير وعكسه، وقيل: إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس، قال القفال: والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: 122]، يريد كان كافرا فهديناه، فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعلها قبل ذلك ميتة، فقال: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [الروم: 50]، وقال: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: 9]، وقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]
4. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي رزقا واسعا غير محدود.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/303.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ﴾ منادى، والميم عوض عن أصل حروف النداء، وهو ياء، ولكونه حرفين: ياءً وألفًا شدِّدت الميم فتكوِّن حرفين، وخصَّت الميم لشبهها بالواو التي هي حرف علَّة، كثرت زيادتها، وتكون مع الألف حرف نداء في الندبة؛ وقلَّت في غيرها، ولأنَّها أخت الياء التي هي بعض (يا)
2. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ كلِّه، يتصرَّف في الأشياء بما يشاء، إيجادا وإعداما، وإماتة وإحياء، وتعذيبا وإثابة، وتنبئة وإرسالا، وغير ذلك عَلَى الإطلاق بلا مشاركة، وزعم بعض أنَّه النبوءة، وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وقيل المعنى: مالك الملوك ووارثهم، كما جاء: (أنا الله مَلِكُ الملوك، ومَالِك المُلْكِ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإِنِ العبادُ أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم)
3. نُصب (مَالِكَ) عَلَى النداء؛ وقيل: على النعتيَّة لله، إذ محلُّه النصب، وهو قول المبرِّد والزجَّاج، ويبحث فيه بأنَّ اتِّصَال الميم به شبَّهه باسم الصوت واسم الفعل، وخالف سائر المركَّبات التي تنعت كـ (سيبويه)، فإنَّ حرف البناء فيه قبل الميم وهو الهاء المضمومة، وضمَّة النداء تشبه حركة الإعراب؛ قيل: ولو نعت لكان الميم بعد النعت، لأنَّها عوض حرف النداء وهو لا يكون وسطا.
4. ﴿تُوتِي الْمُلْكَ﴾ المعهود في الأذهان، وهو بعض الملك العامِّ، أو تؤتي الملك العامَّ المذكور، أي: بعضه، ﴿مَن تَشَآءُ﴾ من عبادك، ﴿وَتَنزِعُ الْمُلْكَ﴾ المعهود في الأذهان، أو العامَّ المذكور، أي: بعضه، ﴿مِمَّن تَشَآءُ﴾ منهم.
5. سبب النزول: قال البيهقي وابن جرير: إنَّه صلّى الله عليه وآله وسلم لَمَّا خطَّ الخندق وقطع لكلِّ عشرة أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون ظهرت فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجَّهوا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يخبره، فجاء، فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأنَّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبَّر وكبَّر معه المسلمون فقال: (أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنَّها أنياب الكلاب)، أي: بياضا وصفرة وانضماما وتمايزا بشرافات، ثمَّ ضرب الثانية فقال: (أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم)؛ لأنَّها بالآجر، ولِقِدَمها، ثمَّ ضرب الثالثة، فقال: (قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أنَّ أمَّتي ظاهرة عليها كلِّها، فأبشروا)، فقال الكافرون: ألا تعجبون!؟ يُمَنِّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنَّه يرى من يثرب قصور الحيرة، وأنَّها تفتح لكم، وإنَّما تحفرون الخندق من الخوف!، فنزلت الآية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، وبسَطت الحديث في شرح النونيَّة لابن الونان:
çتيمَّم نجدا في تلهُّفه الجاني...يؤمُّ رسول الله للإِنس والجانé
وَلَمَّا فتح مكَّة ذكر أنَّه سيفتح الله الروم والفرس له، فقال بعض المنافقين: يكفيه مكَّة والمدينة، وأمَّا فارس والروم فَهُم أبعد شيء أن ينالهم، فقيل: نزلت الآية في هذا متأخِّرة عن زمان الحفر، والخندق معرَّب كندة، قيل: و(أنياب الكلاب) ذمٌّ لهم وإهانة لِمَا لهم، والمراد بالكافرين: المنافقون بإضمار الشرك، كما صرَّح في رواية بالمنافقين.
6. المراد بالنزع: ترك الإعطاء من أوَّل، كقولك: (ضيِّقْ فَمَ البئر) أي: اِحفِرْه ضيِّقا، أو مطلق الترك فيشمل النزع بعد الإعطاء وعدم الإعطاء من أوَّل، فهو من عموم المجاز، أو هو على ظاهره عَلَى أنَّ الملك الثاني النبوءة، والرسالةُ بعض الملك العامِّ، أو معهود ذهنا، والثالث عهد الثاني، أي: تنزع النبوءة والرسالة من بني إسرائيل وتؤتيهما العربَ، ولا ضعف في وصف هذا بالنزع والنقل، بل جاء مثله في أحاديث، أو أريد الترك من أوَّل، نَعَم، إطلاق الملك على النبوءة مجاز يحتاج لقرينة تخصُّها، لكن قد فسِّر بذلك قوله تعالى: ﴿فَقَدَ ـ اتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء: 54]، والنزع بالموت والجنون والمرض وإزالة القوى والحواسِّ وتلف الأموال وقوَّة النزاع، ومن المسلم للكافر ومن الكافر للمسلم، ومن كافر لكافر ومسلم لمسلم، ومن عادل لجائر أو عادل، ومنه لعادل أو جائر.
7. ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ بإيتاء الملك، كالنبيء والمؤمنين، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ بنزعه، كفارس والروم والمشركين من العرب وغيرهم، واليهود والنصارى بالقتل والجزية، أو تعزُّ من تشاء في الدنيا بالنصر والتوفيق، أو بهما في الدنيا والآخرة، وتذلُّ من تشاء فيهما بعدم النصر أو بعدم التوفيق أو بهما، أو تعزُّ من تشاء في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما، وتذلُّ من تشاء كذلك.
8. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ والشرُّ دينا دنيًا، وأخرى؛ وخصَّ الخير بالذكر لأَنَّهُ مرغوب فيه وأنسب بما نزلت فيه الآية من ملك الحيرة والروم واليمن، ولأنَّه مقضيٌّ بالذات، والشرُّ بالعرض؛ ولأنَّه أَنسَبُ بالخطاب المراد به الجلب باللين، ﴿إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
9. ومن قدرته ما في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ﴾ تدخل، ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بإدخال ما ينقص من أحدهما في الآخر، ولا حصر في الآية، فلا يشكل يوم الاستواء وليلته، ولا استواؤهما دائما عند خطِّ الاستواء، والمعتبر الغالب، وقيل: الإيلاج تعقيب كلٍّ بالآخر، والقادر على ذلك قادر أن ينزع الملك من الأقوياء الكثيرين عددًا ومالا وبدنا كالروم وفارس، ويعطيه الأقِلَّاء الضعفاء في ذلك، وقدَّم الليل لتقدُّم الظلمة على النور.
10. ﴿وَتُخْرِجُ﴾ أي: تنشئ ﴿الْحَيَّ﴾ كالإنسان ونحوه، والطائر ونحوه، والحوت ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كالنطفة لسائر الدوابِّ والإنسان، وكالبيضة للطائر والحيَّة ونحوهما، كالماء للحوت والجراد الخارج من البحر، ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ﴾ كالنطفة والبيضة، ﴿مِنَ الْحَيِّ﴾ أو يخرج المسلم من الكافر، والكافر من المسلم؛ فالإسلام كالروح، والكفر كسلب الروح؛ قال الله جلَّ وعلا: ﴿أَوَمَن كَان مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [سورة الأنعام: 122]، وهو حقٌّ، إِلَّا أنَّ الآية سيقت للاستدلال، والكافر لا يعتبر بهذا، أو كلُّ ذلك، جمعا بين الحقيقة والمجاز، أو حملا على عموم المجاز، فتخرج النطفة من الحيوان، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة؛ والطيِّب من الخبيث، والخبيث من الطيِّب؛ والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم؛ والذكيُّ من البليد، والبليد من الذكيِّ، لَمَّا خلق الله آدم أخرج ذرِّيته فقبض قبضة فقال: (هؤلاء أهل الجنَّة ولا أبالي)، وقبض قبضة فقال: (هؤلاء أهل النار ولا أبالي)، فخلطهم أهلَ الجنَّة وأهل النار، فيخرِج الكافرَ من المؤمن، والمؤمنَ من الكافر، فذلك قوله تعالى: ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ إلخ، رواه ابن مردوديه عن سلمان مرفوعا.
11. ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: رزقا واسعا في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما أو بغير استحقاق وبلا تبعة، وقد يكون التوسيع في الدنيا استدراجا، وكثيرا ما يوسع على الأبله والمجنون والطفل، ويضيِّق على الحاذق المحتال.
çلو كان بالحيل الكثير وجدتني...بأجلِّ أسباب السماء تعلُّقي
لكن مَن رُزِق الحِجَى حُرِم الغنى...ضدَّان مفترقان أيَّ تفرُّق
ومن الدليل على القضاء وكَونِهِ...بؤسُ اللبيب وطيبُ عيش الأحمقé
12. روى الديلمي أنَّه قال عليٌّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : لَمَّا أمر الله تعالى أن تنزل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، و﴿شَهِدَ اللهُ﴾، و﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إلى قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تعلَّقن بالعرش وقلن: (يا ربِّ تهبطنا إلى دار الذنوب وإلى من يعصيك!)، فقال الله تعالى: (وعزَّتي وجلالي لا يقرؤكنَّ عبد عقب كلِّ صلاة مكتوبة إِلَّا أسكنته حظيرة القدس، عَلَى ما كان منه ـ أي: بتوفيقه للتوبة ـ وإلَّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلِّ يوم سبعين نظرة، وإلَّا قضيت له في كلِّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلَّا أعذته من عدوِّه بنصرته عليه، ولا يمنعه من دخول الجنَّة إِلَّا أن يموت)
13. قال معاذ بن جبل: (شكوت إلى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم دَينا كان عليَّ، فقال: (يا معاذ، أتحبُّ أن يُقضَى دينك)؟ قلت: نعم قال: (قل: (﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُوتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ رحمنَ الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما من تشاء، وتمنع منهما من تشاء، اقضِ عنِّي ديني، فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا قضاه الله)، رواه ابن أبي الدنيا، ورواه الطبراني لكن إلى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، والباء متعلِّق بـ (تَرْزُقُ)، بمعنى (مع)، أو بمحذوف حال من ضمير (تَرْزُقُ)، كأنَّه قيل: غير محاسِب (بكسر السين)، أو مِن (مَنْ)، كأنَّه قيل: غير محاسَب (بفتحها)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/232.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام متصل بما قبله(2) ـ صح ما قيل في سبب النزول أم لم يصح ـ والكلام في حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل، وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين، وتذكيره بقدرته تعالى على نصره وإعلاء كلمة دينه، فهذه الآية من هذا القبيل كأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عن بيانك ولم ينظروا في برهانك وظل المشركون منهم على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء، وهذا يناسب ما تقدم في الرد على نصارى نجران من أمره بالالتجاء إليه ـ سبحانه ـ بقوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ﴾
2. على هذا التفسير يصح أن يكون الملك بمعنى النبوة أو لازمها، ولا شك أن النبوة ملك كبير لأن سلطانها على الأجساد والأرواح على الظاهر والباطن، قال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، فإن لم يكن هذا الملك عين النبوة فهو لازمها، ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمة التي كان يبعث فيها الأنبياء كأمة إسرائيل فقد نزعت منها النبوة ببعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يفسر النزع هنا بالحرمان؛ فإنه تعالى يعطي النبوة من يشاء ويحرم منها من يشاء.
3. سؤال وإشكال: إن النزع إنما يكون لشيء قد وجد، والجواب: هذا على حد قوله تعالى حكاية عن لسان الرسل: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾ فإنهم لم يكونوا في ملتهم، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء.
4. هذا ما ذكره محمد عبده، وقد تبع فيه الرازي إلا أنه زاد عليه كلمة (أو لازمها)، والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني، والآية حكاية عن شعيب عليه السلام وهي جواب عن قول قومه: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾، فهم قد طلبوا منه وممن آمن معه أن يعودوا في ملتهم وكان أولئك المؤمنون في ملتهم، ففي جوابه عليه السلام تغليب للأكثر وهو متعين، ومثل الرازي أيضا بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ وفيه ما فيه.
5. الظاهر المتبادر أن المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور، والله ـ سبحانه وتعالى ـ صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده، إما بالتبع لما يختصهم به من النبوة كما وقع لآل إبراهيم، وإما بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك بأسبابه الاجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس، وينزعه ممن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكبهم سننه الحافظة للملك، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوة كما نزعه من بني إسرائيل ومن غيرهم بالظلم والفساد، ذلك أننا لا نعرف ما قضت به مشيئته عز وجل إلا من الواقع؛ لأنه لا يقع في الوجود إلا ما يشاء، وقد نظرنا فيما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ الآية، وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله تعالى من سورة إبراهيم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [13، 14] وقد فصلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل.. وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين، وقد قال أبو سفيان للعباس يوم رأى جيش المسلمين زاحفا إلى مكة: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقال العباس: كلا إنها النبوة، وكان أبو سفيان يعني أن الأمر كله تأسيس ملك وما كان الملك مقصودا، ولكنه جاء معناه، والمراد منه تابعا لا أصلا، والفرق عظيم، والغرض من النبوة غير الغرض من الملك؛ ولذلك لم يسم الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجع سياستهم ملكا، بل سموه خليفة.
6. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ العز والذل معروفان:
أ. ومن آثار الأول: حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة، ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان.
ب. ومن آثار الثاني: الضعف عن الحماية، والرضى بالضيم والمهانة ـ كذا قال محمد عبده ـ وقد يكون الضعف سببا وعلة للذل لا أثرا معلولا وهو غالب، ولا تلازم بين العز والملك، فقد يكون الملك ذليلا إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير، حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد، وكم من ذليل في مظهر عزيز، وكم من أمير أو ملك يغر الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين، فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل (التياترات)
7. هذا ولا عز أعلى من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا اتبع المجتمعون سنة الله تعالى فأعدوا لكل أمر عدته، وقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين يقولون ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان بهذا ويفقهوا معنى كون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
8. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ قال محمد عبده: قدر المفسرون هنا كلمة (والشر) هربا من المعتزلة على أنه ليس في العبارة نفي لكون الشر بيده كما أنه ليس فيها إثبات له فلا معنى لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي في إثبات أن كل شيء بيده لا يعجزه شيء، والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصا وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته صلّى الله عليه وآله وسلم أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا أو عاما وهو حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع المنكرين فإنه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوة والاستهانة بدعوة الحق إلا فقر الداعي وضعف من اتبعه من المسلمين وقلتهم، فأمره الله تعالى أن يلجأ هو ومن اتبعه إلى مالك الملك والمتصرف التصرف المطلق في الإعزاز والإذلال، وذكرهم في هذا المقام بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما وعدهم، وأن يعزهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ على هذا الأصل أمر الله نبيه بأن يدعوه ـ والمؤمنون تبع له ـ بهذه الكلمات ويلجئوا إليه بهذه الرغبة، فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط، وأنه بيده وحده.
9. لا يسند إلى يده تعالى أو يديه إلا النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة، فلا يقال: إن الشر بيد الله تعالى، على أن جميع ما خلقه الله تعالى ودبره هو خير في نفسه، والشر أمر عارض من الأمور الإضافية؛ فلا توجد حقيقة هي شر في ذاتها وإنما يطلق لفظ الشر على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك، ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم، وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري، ومن غير الغالب أن تقوض الريح لهم بناء أو يجرف السيل لهم رزقا، وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما، ومن الخير والنعم ما قدرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيئ، فإن ذلك أعظم مرب للناس وعون لهم على الارتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة، ومن تدبر سورة الرحمن فقه ما نقول.
10. لابن القيم كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا، قال في كتاب (شرح منازل السائرين) ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه: إن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة خير، وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا، فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه؛ فإنه ـ سبحانه ـ لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده، بل الواقع منحصر في ذلك، فلا يمكن في جناب الحق ـ جل جلاله ـ أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه ـ سبحانه ـ بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا.
11. سؤال وإشكال: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ والجواب(3): هو من الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير، فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد، فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله، وإعداده خير وهو إليه أيضا، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده.
12. سؤال وإشكال: فهلا أمده إذا وجده؟ والجواب(3): ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه ـ سبحانه ـ يوجده ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.
13. سؤال وإشكال: فهلا أمد الموجودات كلها؟ والجواب(3): هذا سؤال فاسد يظن مورده أن تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت.. فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل:
çإذا لم تستطع شيئا فدعه... وجاوزه إلى ما تستطيعé
14. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك، أي إنك بحكمتك في تدبير الأرض وتكويرها وجعل الشمس بحسبان تزيد في أحد الجديدين ما يكون سببا لنقص الآخر، فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته، وتنزعهما ممن تشاء كبني إسرائيل، فإنك تتصرف في شئون الناس كما تتصرف في الليل والنهار وتخرج الحي من الميت كالعالم من الجاهل، والصالح من الطالح، والمؤمن من الكافر وتخرج الميت من الحي كالكافر من المؤمن، والجاهل من العالم، والشرير من الخير.
مثّل المفسرون للحياة الحسية بخروج النخلة من النواة والعكس، وخروج الإنسان من النطفة، والطائر ونحوه من البيضة وبالعكس، والتمثيل صحيح وإن أثبت علماء هذا الشأن أن في النطفة حياة، وكذا في البيضة والنواة؛ لأن هذه الحياة اصطلاحية لأهل الفن في عرفهم دون العرف العام الذي جاء التنزيل به، ومن الأمثلة الصحيحة في العرفين خروج النبات من التراب، وقد جاء القرآن بتسمية ما يقابل الحي ميتا سواء كانت الحياة حسية أو معنوية، وسواء كان ما أطلق عليه لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا وهو استعمال عربي صحيح فصيح.
15. الجملة كسابقتها مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء إلى آخر ما في الآية السابقة، وكل شيء عنده بمقدار فقد أخرج من العرب الأميين خاتم النبيين والمرسلين كما أخرج من سلائل الأنبياء والصديقين أولئك الأشرار المفسدين؛ ذلك أن سننه تعالى في الاجتماع قد أعدت الأمة العربية لأن يظهر خاتم النبيين منها ـ أعدتها لذلك بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة واستقلالها، حتى صارت هذه الأمة أقوى أمم الأرض استعدادا لقبول الدين الذي هدم بناء التقليد والاستعباد، واستبدل به بناء الاستدلال والاستقلال، من حيث كان بنو إسرائيل كغيرهم من الأمم يرسفون في قيود التقليد للأحبار والرهبان، مرتكسين في أغلال الاستبداد من الملوك والحكام، فما أعطى ـ سبحانه ـ ما أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي هي قوام النظام ومناط الإبداع والإحكام.
16. {وترزق من تشاء بغير حساب} يطلب منه؛ لأن الأمر كله بيده، وليس فوقه أحد يحاسبه، أو بغير تضييق ولا تقتير، أو بغير حساب من هذا المرزوق ولا تقدير، ولكنه بقدر وحساب ممن وضع السنن والأسباب.
__________
(1) تفسير المنار: 3/270.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
(3) تتمة لكلام ابن القيم
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام في حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب؛ فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشى في الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبيّ من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء.
2. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوىّ الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بنى إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.
3. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ للعزة آثار وللذل مثلها، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق، والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدّوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم، وما ذاك إلا لفشوّ الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، والسعي في إزالة طغيانه، وتحكمه في الرقاب والبلاد.
4. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك، ولا يملكه أحد سواك، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله:
5. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز، وأن يذكّره بأن الخير كله بيده، فلا يعجزه أن يعطى نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
6. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي إنك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك، والخلاصة ـ إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الملوين (الليل والنهار) ما يكون سببا في نقص الآخر، فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتى النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعهما ممن تشاء كبنى إسرائيل، فما مثل تصرفك في شئون الناس إلا مثل تصرفك في الليل والنهار.
7. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر (والحياة والموت معنويان) والنخلة من النواة والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة (والحياة والموت حسيان)، ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر، وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل، قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث: قيل في تفسير ذلك: كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان؛ ولكن النطفة هي حيوانات حية، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حي من حي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم، فإذا قيل: إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حيّ من ميت فهذا صحيح، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم، لأنها تشير إلى أن الخلق شيء عادى يحصل يوميا بدليل ورودها بعد ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بالتعاقب وهذا شيء اعتيادى، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا، والتفسير الحقيقي هو:
أ. (إخراج الحي من الميت) كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شيء ميت، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى لحمها، وهذه أهم علامة على أنها حية، وكذا الطفل يتغدى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.
ب. وأما إخراج الميت من الحي، فهو الإفرازات مثل اللبن (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات) فإن اللبن سائل ليس فيه شيء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والله أعلم بمراده.
8. استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا، وهذه العبارة ـ ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ ـ إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام، وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام، وبها الإبداع والإحكام.
9. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك؛ فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شيء عليك، وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه:
أ. بمعنى التعب كما في هذه الآية.
ب. بمعنى العدد كما في قوله ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:
ج. بمعنى المطالبة كما في قوله ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 3/131.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعدئذ يلقن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وكل مؤمن، أن يتجه إلى الله، مقررا حقيقة الألوهية الواحدة، وحقيقة القوامة الواحدة، في حياة البشر، وفي تدبير الكون، فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه.
2. نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء، وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال، وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس، وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف! ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾
3. إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو (مالك الملك) بلا شريك.. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه، يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء، فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه، إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل.
4. وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه ـ سبحانه ـ هو الله.. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله.
5. وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير.. فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل، فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾.. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
6. وهذه القوامة على شئون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شئون الكون والحياة على الإطلاق: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
7. التعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة، حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق.
8. سواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول.. أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح.. سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء.. شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار، وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام.. شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء، وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف.. وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
9. كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج، كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل، وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة، وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت.. هذا في كيان الحي الواحد.. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة.. وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.. ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا، ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير! حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك، حركة خفية عميقة لطيفة هائلة، تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر؟ وأنّى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
10. ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى، حقيقة الألوهية الواحدة، حقيقة القوامة الواحدة، وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد، وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد، ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/384.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحسد هو الذي يفسد على كثير من الناس أمورهم، فلا يرونها على وجهها الصحيح، وإنما تبدو لهم على الوجه الذي تصوره أوهامهم وأهواؤهم، وقد استشرى هذا الداء في بنى إسرائيل، فحسدوا أنبياءهم، الذين اصطفاهم الله للسفارة بينه وبين عباده، ورموهم بالكذب والبهتان، وبلغ بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى قتلهم، شفاء لما في صدورهم من نار الحسد لهم، وموقفهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وخلافهم عليه، وبهتهم له، لم يكن إلا عن حسد، أعمى قلوبهم عن الحق الذي كانوا على علم به وانتظار له، ونسى هؤلاء القوم أن نعم الله ونقمه إنما هي بيد مالك الملك، الحكم العدل، وأن الحسد لنعمة يلبسها الله عبدا من عباده، أو الشماتة في نقمه ينزلها على عبد من عباده كذلك ـ هو اعتراض على الله، ومشاركة له في تدبيره وتقديره.
2. أما طريق المؤمنين فهو قائم على التسليم لحكم الله، والرضا بقضاء الله ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وفي قوله تعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ إشارة إلى أن كل ما يأتي من عند الله هو خير، وإن بدا لنا في صورة الشر الخالص: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
3. في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ استعراض لقدرة الله، وعجائب تصريفه في ملكه، إذ يؤلّف بين المتناقضات.. يولج الليل في النهار، ويولج النّهار في الليل، ويستخرج من الشيء نقيضه، فيخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحىّ.. وذلك من تمام القدرة، التي لا تكون إلا لله رب العالمين.
4. في الآية إشارة إلى ما في الآية التي قبلها من قوله تعالى ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا، ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، فالذي يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/428.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والملك.
2. ﴿اللَّهُمَّ﴾ في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء، ومعناه يا الله، ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة: إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلّا عند إرادة الدعاء صار غنيّا عن جلب حرف النداء اختصارا، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء، والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة (اللهم) من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لا هم مرادف إله، ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى:
çكدعوة من أبي رباح...يسمعها اللهم الكبيرé
وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقول أبي خراش الهذلي:
çإنّي إذا ما حدت ألمّا...أقول يا اللهمّ يا اللهمّاé
وأنّهم يقولون يا الله كثيرا، وقال جمهور النحاة: إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي: وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ، وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها (يا الله أمّ) أي أقبل علينا بخير، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه.
3. المالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يقصد له من ذواتها، ومنافعها، وثمراتها، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد، وهو الأكثر، وقد يكون بمشاركة: واسعة، أو ضيّقة، والملك بضم الميم وسكون اللام نوع من الملك بكسر الميم ـ فالملك بالكسر ـ جنس والملك ـ بالضم ـ نوع منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرّف التدبير للشئون، وإقامة الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة، وانظر قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ في سورة البقرة [247] وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك (بالضم) بما يشاء، بأن يراد بالملك هذا النوع.
4. التعريف في الملك الأول لاستغراق الجنس: أي كل ملك هو في الدنيا، ولما كان الملك ماهية من المواهي، كان معنى كون الله مالك الملك أنّه المالك لتصريف الملك، أي لإعطائه، وتوزيعه، وتوسيعه، وتضييقه، فهو على تقدير مضاف في المعنى، والتعريف في الملك الثاني والثالث للجنس، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس الملك، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن، ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26] فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك: إيجابا، وسلبا، وكثرة وقلّة.
5. النزع: حقيقة إزالة الجرم من مكانه: كنزع الثوب، ونزع الماء من البئر، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الأعراف: 43] بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان، وتشبيه إزالته بالنزع، ومنه قوله هنا: {تَنْزِعُ الْمُلْكَ} أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء.
6. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تمثيل للتصرّف في الأمر؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده، ولو كان لا يوضع في اليد، قال عنترة بن الأخرس المعني الطائي:
çفما بيديك خير أرتجيه...وغير صدودك الخطب الكبيرé
وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة، ولا تشابه فيه: لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي.
7. الاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: 81] أي والبرد، وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعرض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور: (وخص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخير من الله، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل: (مصائب قوم عند يوم فوائد)، أي (الخير مقتضى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتبع لما أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل، لصار تركها شرّا كثيرا، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ)
8. حقيقة ﴿تُولِجُ﴾ تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل، فكأنّ أحدهما يدخل في الآخر، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلّا العلماء، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة: (كان بعضهم يقول: القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلّا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام)، وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات، ولذلك ابتدئ بقوله: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾، ليكون الانتهاء بقوله: ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ الآية، والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله: ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية.
9. إخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة، ومن مح البيضة، وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله: ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ في سورة يونس [31]، وهذا رمز إلى ظهور الهدى والملك في أمّة أمية، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين، وزوال الملك من خلفهم يعد أن كان شعار أسلافهم، بقرينة افتتاح الكلام بقوله: ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية.
10. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ هو كالتذييل لذلك كلّه، والرزق ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمار كقوله: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] وقوله: ﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: 19]، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ ـ ثم قال ـ ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ [ص: 51 ـ 54] وقوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقا: لأنّ بها يعوض ما هو رزق، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/68.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم، وذكر أنهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد، واعتزازه بقهره لشعبه، وطغيانه فى ملكه؛ إذ يقول: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف]، ثم أشار سبحانه إلى طغيان أهل الكتاب، واختلافهم على النبيين، وقتلهم بعض الأنبياء، وقتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، وما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد أن تبين لهم إلا لأن حب السلطان والغلب قد استولى عليهم واستغرق نفوسهم، ولذلك كانوا إذا حاجّهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أو حاجّوه نظروا في محاجتهم إلى الأمر من وراء ذلك الغرض، وتلك الشهوة؛ وقد أمر الله سبحانه نبيه بأن يقابل هواهم بإعلان إخلاصه في طلب الحق، وإسلامه وجهه لله سبحانه، وفي هذه الآية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ إشارة إلى أن الإخلاص للذات العلية، وطلب الحق إرضاء لله، لا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى مالك الملك الذي يؤتى الملك من يشاء، فالإخلاص للحق جل جلاله، يؤدى إلى السلطان الحق من مالك الملك.
2. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق، أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة؛ فإنها الحق في هذا الوجود، ولا يعرف مؤمن سواها؛ والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة إلى الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذات السلطان، يؤتيه ويعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء؛ أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده، والملك هنا هو السلطان، وفسره بعضهم بالنبوة، وعبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار أن الملك الحق لازم من لوازمها؛ ولذا قال سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء] والظاهر أن المراد هو السلطان.
3. ﴿اللَّهُمَّ﴾ نداء إلى الذات العلية بلفظ الجلالة، والميم المشددة في الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل وسيبويه، وقال بعض الكوفيين: إن الميم المشددة هي (أمّ) بمعنى قصد، أي أقصدك يا مولاى بضراعتى، وأنت صاحب السلطان، ولكن خطّأ ذلك النظر الزجاج، وقرر أن معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء والدعاء.
4. ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء، أي يا مالك الملك، فكأن في النص دعاءين: دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، وقد اشتمل على كل معانى العبودية، والتنزيه والتقديس، والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معانى الألوهية؛ والدعاء الثاني لمالك الملك، وفيه كل معانى الإحساس بالربوبية، والضعف أمام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته.
5. قوله تعالى: ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أبلغ من صاحب الملك أو صاحب السلطان؛ لأن من يملك شأن أمة لا يملك ملكها، ولكنه يستولى على ملكها ويده فيها ليست يد ملك ولكنها يد عارية؛ أما سلطان الله تعالى ذي الملكوت فسلطان مالك متصرف في السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، ويمنعه ممن يشاء، ويسترد عاريته ممن يشاء؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما:
أ. أولهما: التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة إلى أنه يأخذه منه بعد أن استقر فيه وثبت له وظن أنه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب، ويأخذ ملكه أخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة إلى أن من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا، بل لا بد أن يمكّن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه (ومن مأمنه يؤتى الحذر)، وفي كثير من الأحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه.
ب. الثاني: أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سنّ من نظم في هذا الوجود، وما تسير عليه أعماله في خلقه، لا يعطى الملك إلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه، ويقصد به رفعة قومه، ولا ينزعه إلا ممن يسيء ويطغى، ويفهم أن الملك متعة تشته وليس تبعات تؤدى، فينزعه منه غيره، وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس: من لا يسوس الملك يخلعه، ومن حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
6. كلمة ﴿الْمُلْكُ﴾ ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة، إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغلب، أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة، أم ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان.
7. ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة، فقال: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ العزة ليست مرادفة للسلطان، وإن كان الأصل في كلمة عزّ معناها غلب؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، ولكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك في معنى نفسي، وهو عدم الخضوع إلا للحق، والتسامي عن الخضوع الذي ينافى المروءة والخلق الكريم، وقد يكون ذلك في ضعيف في بدنه مستضعف عند الناس، ما دام قد علا عن الخضوع إلا لذات الله تعالى؛ وإن صهيبا وآل ياسر، وخباب بن الأرتّ وغيرهم، كانوا وهم المستضعفون في مكة الأعزاء في أنفسهم؛ لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة إلا مع الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده؛ ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء، ولما قال المنافقون في شأن المؤمنين: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون]، نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون]، وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره؟ فهو قد سلب كل شيء حتى قلبه ولسانه.
8. مشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطى العزة إلا لمن خلّص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة، فالشهوات مردية، ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته؛ فإن العزة تبتدئ من النفس، فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا؛ ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة، وكان الذليل وإن ظهر أنه العزيز؛ ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم: (أذلّ الحرص أعناق الرجال)
9. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا تسليم بأن ما يفعله الله تعالى دائما خير، وأن الخير كله بيده سبحانه، وقوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ معناه إنك وحدك الذي تملك الخير كله، ف (ال) في قوله (الخير) للاستغراق الشامل؛ فكل خير هو بيد الله سبحانه، والتعبير ب (يد) هنا إشارة إلى الملكية التامة السيرة، فهو استعارة تمثيلية، فقد قرب سبحانه ـ ولله تعالى المثل الأعلى ـ لأذهاننا معنى سلطانه وكمال ملكه لكل الأمور، بحال من يكون الأمر في يده وقبضته، ولا سلطان لأحد من الناس فيما بيده، وفي قبضته.
10. معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ شمول قدرته على الأشياء كلها: ما يتخذه الناس سببا للخير عندهم، وما يتخذونه سببا للشر عندهم.
11. في الجمع بين قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ و﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إشارة إلى أمرين:
أ. أولهما: أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير، فلا يقال إن بيده الخير والشر، فإن الشر معنى نسبى بالنسبة للعبيد، ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا، ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه: (إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه)
ب. الثاني: إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب، وهى الأشياء التي يستخدمها الناس للخير والشر، يحسنون فلا يقصدون إلا النفع فيكون ما مكّن الله لهم في الأرض نفعا للناس وخيرا، ويسيئون فيقصدون إلى نواحي الفساد فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما، وهذا أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فكل ما في هذا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكّن الله تعالى في هذه الأرض، وإنه يلاحظ دائما أن الشر نسبى للناس، ولا يصح أن يقال في فعل الله إلا أنه خير.
12. بيّن سبحانه مظاهر قدرته في الكون المحسوس فقال سبحانه مبتدئا بآياته جل شأنه في الليل والنهار: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ هذا مظهر حسى لقدرة الله تعالى في هذا الكون، تولج معناها تدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل، وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل، وفقد فسر الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا.
13. سؤال وإشكال: كيف نسمى ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل؟ والجواب: أن الليل لا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، يبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع؛ وكذلك لا يجيء الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجيء الغروب، ثم تجيء العشية، فيكون ظلام وتمحى آية النهار.
14. إن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى الأول أم كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الفلك الدوار المستمرة الدائبة بقدرة الله تعالى وقيامه على كل شيء، وفي الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
15. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ هذا مظهر كونى حسى يدل على عظيم قدرة الله، وبيان أنه لا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وأنه القادر على كل شيء، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما؛ فالله سبحانه يخرج الحىّ من الميت، ويجعل من هذا الحىّ الذي أخرجه ميتا:
أ. وإخراج الحىّ من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج؛ إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد؛ وإخراج الله الحىّ من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون: إنه إخراج الجسم النامى الذي يسير في مدارج الحياة، من الجسم الجاف الذي لا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة.
ب. وإخراج الميت من الحى هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحىّ النامى، وإخراج البذرة الجافة من العود الحى الرطب.
16. سؤال وإشكال: قد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس، والجواب: قد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر.
17. في الحق إن إخراج الحىّ من الميت أمر محسوس مرئي كل يوم؛ فإن تلك الشجرة أو ذلك العود النامى يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحى، فهي إخراج الحى من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لا حياة فيه؛ وإن إخراج الميت من الحى أمر واضح لا مجال للشك فيه؛ فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا، وعلى هذا نقول إن إخراج الحى من الميت ليس فلق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحى وأكثرها من جماد؛ ولذا قال سبحانه في آية أخرى: ﴿إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ الله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام]
18. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ هذا مظهر رابع من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم جاها، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين، ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان أم أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى؛ يقال أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [المنافقون] أي أنفقوا من المال والجاه والعلم)
19. الله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم؛ فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من أعطاه مالا وحرمه من نعمة العلم، ومنهم من أعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقربهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس، ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول:
çكم عاقل عاقل أعيت مذاهبه...وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة...وصيّر العالم النّحرير زنديقاé
فما في ذلك حيرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة: حرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد وأعطاه ذكرا بين الناس.. وهكذا؛ ولو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.
20. ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ معناه أنه ليس فوقه أحد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وأن عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطى من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شيء، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله، روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1167.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ان ظاهر الآية ينطبق تماما على حال المسلمين في بدء الدعوة الاسلامية، حيث لم يكن لهم آنذاك شيء من الملك وعزة السلطان، فلقد بدأ الإسلام غريبا، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان الملك والسلطان موزعا بين الفرس والروم، وبعد أن جاء نصر الله انعكست الآية، وأصبح الذليل عزيزا، والعزيز ذليلا، وصار الفرس والروم محكومين للمسلمين بعد أن كانوا حاكمين، والمسلمون حكاما بعد أن كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، وتحققت ارادة الله تعالى التي بيّنها بقوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
2. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، المراد بملك الله للملك قدرته على كل شيء، فكأنه قال الله مالك القدرة، وإنما أطلق لفظ الملك على القدرة، لأن أبرز آثار الشيء المملوك هي قدرة المالك على التصرف فيه، ولا أحد يقدر على شيء، أو يملك شيئا إلا أن يملكه الله إياه، ويمنحه القدرة عليه.. شأن الممكن مع الواجب: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
3. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ وقد أعطاه المسلمين الأول، حين استجابوا لدعوة الإسلام، وبه كانوا يعملون، ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، نزعه من الفرس والروم لكفرهم بالله والحق، ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، وهم المسلمون، ﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، الفرس والروم ومشركو العرب.
4. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾، المراد بيد الله قدرته، والخير يشمل كل ما فيه منفعة محللة معنوية كانت أو مادية، وقد ساق الله للمسلمين خيرا كثيرا ببركة الإسلام، ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ومن دلائل قدرته سبحانه انه نزع الملك من الأقوياء، وأعطاه للضعفاء.
5. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾، حيث تتحرك الأفلاك بقدرته وعنايته، ويدور بعضها حول بعض، فتتعدد الفصول، ويأخذ الليل من النهار في فصل، حتى يصير 15 ساعة، والنهار 9 ساعات، ويأخذ النهار من الليل في فصل، حتى يصير 15 ساعة، والليل 9.
6. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ من ذلك إخراج المؤمن من الكافر، والعزيز من الذليل، ﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾، ومنه إخراج الكافر من المؤمن، والذليل من العزيز، {تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}، تماما كما رزق المسلمين الأول الملك وعلو الشأن ببركة الإسلام.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/37.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم وذهب باستقلالهم في السؤدد، على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعز من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.
2. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه لأنفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجئ نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.
3. الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله:
أ. فمن الملك بكسر الميم ما هو حقيقي وهو كون شيء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض والبسط، والأخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه ولا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان ومن هذا القبيل ملكه تعالى (بكسر الميم) للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق، فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.
ب. ومن الملك (بكسر الميم) ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعية، وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني، ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.
4. أما الملك (بالضم) فهو وإن كان من سنخ الملك (بالكسر) إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك، وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده، ولهذا كان للملك (بالضم) من الأقسام ما ذكرناه للملك (بالكسر)
5. الله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا:
أ. أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء وإله كل شيء، قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، وقال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شيء وهذا هو الملك (بالكسر) كما مر.
ب. وأما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، والأشياء تملك قواها الفعالة، والقوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضاءه وقواه الفعالة من سمع وبصر وغير ذلك، وهي تملك أفعالها، وإذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، ويملك ما يملكه، وهذا هو الملك (بالضم) فهو مليك على الإطلاق، قال تعالى: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾، وقال تعالى: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك والملك.
6. أما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال، ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ﴾
7. وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لَا تُحْصُوهَا﴾، وقال: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾، وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقال: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه.
8. من التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى: ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، مسوق:
أ. أولا: لبيان ملكه تعالى (بالكسر) لكل ملك (بالضم) ومالكية الملك (بالضم) هو الملك على الملك (بالضم فيهما) فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى: ﴿أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾
ب. وثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبرياؤه وهو ظاهر.
ج. وثالثا: أن المراد بالملك في الآية الشريفة والله أعلم ما هو أعم من الحقيقي والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ على ما سنوضحه من شئون الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا.
9. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، الملك بإطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن ﴿الْمُلْكُ﴾ (كما تقدم بيانه في قوله: ﴿أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾ الآية) في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لأن يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة فيه، والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، وإنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا وغصبا، وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، ويرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول، وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده، وقد تقدم: أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وإن جرى فعله على المصلحة دائما.
10. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله، ولذا يقال للشيء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة، وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل صعوبة كما يقال: يعز علي كذا، قال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، أي صعب عليه، واستعمل في كل غلبة كما يقال، من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، أي غلبني والأصل في معناه ما مر، ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}، وقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾، وقال تعالى ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
11. العزة من لوازم الملك على الإطلاق وكل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك وملكه، وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا وما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه وإفضاله، قال تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز، قال تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ ولذا أردفه بقوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾، وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى {تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ}
12. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنما نسمي الشيء خيرا لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة، وإن كنا أردناه أيضا لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، وغيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها وترددنا في اختياره من بينها، فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شيء آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل: إنه صيغة التفضيل وأصله أخير، وليس بأفعل التفضيل، وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد أفضلهما، ويقال: زيد خير من عمرو، وزيد خيرهما، ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، ويقال أفضل وأفاضل وفضلي وفضليات، ولا يجري ذلك في خير بل يقال: خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال: شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة، ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ﴾، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل، وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، وهو كما ترى، فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.
13. يظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء، ويرجع إليه كل شيء، ويطلبه ويقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، وإنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: ﴿وَالله خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، وكقوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: ﴿وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وقوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، وقوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾، وقوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾، ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابة، وأما التسمية عند الإضافة والنسبة، وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.
14. الجملة ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر، والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، وأنت المعطي المفيض إياه، فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ الآية من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك والعزة، وهو ظاهر.
15. كما يصح تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك والإذلال فإنهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.
16. بالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة، والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر وله الحمد، وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن إعطاءه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.
17. هناك خير وشر تشريعيان وهما أقسام الطاعات والمعاصي، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولولا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
18. تبين: أن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل وجدان وحرمان وخير وشر، وقد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ إيجازا بالحذف، والتقدير: بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾، أي والبرد، وكان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى، وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، والمعتزلة وإن أخطئوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، وقد تقدم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.
19. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى إياه على ذلك، ولو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شيء، وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، وكان أيضا كل خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده، وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
20. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾، الولوج هو الدخول، والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع والأمكنة على بسيط الأرض، واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول والأيام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء، كل ذلك في البقاع الشمالية، والأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.
21. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حياة ونورا والكفر موتا وظلمة كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، ويمكن أن يراد الأعم من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي إلى الميت، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾، إلى غيرها من الآيات.
22. ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحياة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور، وذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحياة فتبدل الحياة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما.
23. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾.. وصف لتصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ الآية تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه.
24. وضع الله تعالى في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل، فوضع في الأولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه، ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه، وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، ونزع الملك بالعكس من ذلك، وكذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج الحي من الميت، والإذلال بالعكس من ذلك، وفي العزة حياة وفي الذلة ممات.
25. هنا وجه آخر: وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة قال تعالى: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾، ومظهر هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك والسلطنة وزواله، وعد الحياة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾، وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهم الذين يذكرهم بالحياة فصارت العزة والذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة والموت، ولهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه، ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وما ذكره في الآية الأولى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾، كما سيجيء بيانه.
26. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: ﴿وَتَرْزُقُ﴾ الآية بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، والمعنى: أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.
27. الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فلم يعد الكسوة رزقا، ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا وإن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك، قال تعالى: ﴿تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وقال فيما يحكي عن شعيب: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾، والمراد به النبوة والعلم، إلى غير ذلك من الآيات.
28. المتحصل من قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَالرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، والمقام مقام الحصر:
أ. أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: ﴿وَالله خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم، وقوله: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.
ب. وثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه، ويدل على ذلك ـ مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها ـ آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والأمر والحكم والملك (بكسر الميم) والمشية والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه.
ج. وثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الله لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ إلى أن قال: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وحاشاه سبحانه أن ينهى عن شيء ثم يأمر به أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه، ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين، وليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾
29. على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية، وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح، ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير، قال تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ﴾، وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، مع قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾
30. أما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾، وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.
31. بالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، وربما أشار إليه قوله تعالى ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾
32. من هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير ومخلوق، وكل خلق رزق وخير، وإنما الفرق: أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾
33. الخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته، والقوة الغاذية خير للإنسان، ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا، وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، وكذا القوة الغاذية مخلوقة، والإنسان مخلوق.
34. لما كان كل رزق لله، وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا، ولا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا﴾، وقال: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾، فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق، ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.
35. توضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه، وكما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر، ومتق وفاجر، وإنسان وغير إنسان، ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، ومنه ما هو رزق خاص، وهو الواقع في مجرى الحل، وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾، كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران، وكما أن الهدى ـ وهو رحمة خاصة ـ مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَالرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾، فالعبادة وهي تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا، كذلك الرزق الخاص ـ وهو الذي عن مجرى الحل ـ مقضي مقدر، قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ الله افْتِرَاءً عَلَى الله قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾، وقال تعالى ﴿وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾، والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.
36. من الواجب أن يعلم: أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته، وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾
37. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى، وأما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.
38. تحصل من الآيتين:
أ. أولا: أن الملك (بضم الميم) كله لله كما أن الملك (بكسر الميم) كله لله.
ب. وثانيا: أن الخير كله بيده ومنه تعالى.
ج. وثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.
د. ورابعا: أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.
39. في الكافي، عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: (ليس حيث تذهب، إن الله عز وجل آتانا الملك، وأخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه).. وإيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني، وهو انبساط السلطنة على الناس، ونفوذ القدرة فيهم، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود: ﴿أَنْ آتَاهُ الله الْمُلْكَ﴾ وأثره نفوذ الكلمة ومضي الأمر والإرادة، وسنبحث عن معنى كونه تكوينيا، وإيتاء تشريعي، وهو القضاء بكونه ملكا مفترض الطاعة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾، وأثره افتراض الطاعة، وثبوت الولاية، ولا يكون إلا العدل، وهو مقام محمود عند الله سبحانه، والذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الأول وأثره وقد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأول وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعي، والحمد الديني فنبهه عليه السلام أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أمية بل هو لهم ولهم أثره، وبعبارة أخرى: الملك الذي لبني أمية إنما يكون محمودا إذا كان في أيديهم عليه السلام، وأما في أيدي بني أمية فليس إلا مذموما لأنه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.
40. اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الإرشاد، في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطف قال المفيد: ولما وضعت الرؤوس وفيها رأس الحسين عليه السلام قال يزيد:
çنفلق هاما من رجال أعزة...علينا وهم كانوا أعق وأظلماé
قال: ثم أقبل على أهل مجلسه فقال: إن هذا كان يفخر علي ويقول: أبي خير من أب يزيد، وأمي خير من أمه، وجدي خير من جده، وأنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، وأما قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما قوله: جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد، وأما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية، وردت زينب بنت علي عليه السلام عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق عليه السلام في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس وغيره، فقالت فيما خاطبته: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض ـ وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى ـ أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة، وإن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورا ـ حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلا مهلا، أنسيت قول الله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ الخطبة.
41. ذكر هنا بحثا حول معنى الملك واعتباره، وبحثا حول استناد الملك وسائر الأمور الاعتبارية إليه تعالى، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناه إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/129.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لتبين لهم أن الأمر لله وحده ﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فبيّن لأهل الكتاب وغيرهم أنهم لا يستطيعون من ذلك شيئاً وأن الأمر لله وحده، وهو الغالب على أمره، فلا يستطيعون إبطال نبوة محمد ورسالته صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا رد نقل الملك في محمد وآل محمد عن بني إسرائيل وإعزاز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وإذلال حساده الذين حاولوا إبطال أمره: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة:32]
2. قال الشرفي في (المصابيح) في تفسير هذه الآية: (قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش عليه السلام: فإن مراد الله سبحانه بهذا: أنه يعطى النبوة من اصطفاه، ومعنى اصطفاه: اختاره على علم منه بقيامه بأمره وطهارته وإخلاصه له في الدين، فحكم سبحانه لأنبيائه بالملك وجعله لهم، وقد حكم ـ أيضاً ـ لغير الأنبياء من الأئمة الملوك الذين أخذوا الملك من جهة الطاعة له مثل طالوت وذي القرنين فمن دونهما، فإنهما لم يكونا نبيين وكانا بقيامهما بأمر الله وطاعتهما إياه مستحقين للملك، فأما من تغلب بالكفر والمعاصي لله على الناس فلم يعطهم الله ذلك الذي تغلبوا عليه، وقوله: ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ فذلك تسليطه الأنبياء والمرسلين على من تغلّب بالناس، فملكوهم حتى انتزعوا الملك منهم بأمر الله وحكمه، وذلك في مثل كسرى وغيره، أو بموتهم فإنه إذا أماتهم فقد انتزع منهم ملكهم في كل شيء)، ويدل على هذا التفسير ما مر في (قصّة طالوت) ففيها: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ إلى قوله: ﴿وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:247] فدل ذلك على أن إيتاءه الملك: توليته عليهم.
3. قال الشرفي في (المصابيح): (قال الإمام الهادي: والملك: هو جبايات الدنيا وأموالها، والذين يشاء أن يؤتيها إياهم، فهم الأنبياء، ثم الأئمة من بعدهم، والذين يشاء أن ينزعه عنهم، فهم أعداؤه من جبابرة أرضه، ومعنى ﴿تُؤْتِي﴾ فهو الحكم بالملك لهم صلوات الله عليهم فمن حكم له بالنبوة أو بالإمامة فقد آتاه الملك، لأن الملك هو الأمر والنهي والجبايات والأموال التي بها قوام العساكر واتخاذ الخيل والرجال والسلاح)
4. فأما إعزاز من يشاء، فالراجح: أن معناه نصر أوليائه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ فبالنصر ذهبت الذلة وصاروا في عزة، وإذلال من يشاء، مثل: إذلال كفرة أهل الكتاب، حيث صاروا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وحين أخرجهم من ديارهم ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر:2] فالإعزاز: بالحكم، والنصر، والإذلال: بالحكم، والقهر، ويؤكد هذا التفسير قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ فإيتاء الملك الذي هو خير إيتاء أولياء الله الذين هم ولاة العدل والإحسان، فالملك خير لهم بما ينالون به من ثواب عناء القيام بمصالح الناس، ودفع الفساد، والجهاد في سبيل الله، وخير لرعاياهم بدفع التظالم بينهم، ونشر العلم النافع، والإرشاد وصلاح الدين والدنيا، بخلاف تمكين الجبابرة فليس خيراً لهم ولا لرعاياهم؛ لأنهم يفسدون في الأرض، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وذلك سبب لشيوع الباطل، وخمول الحق ونزع البركات، وظلم الضعيف، وتضييع أحكام الله وكل ذلك سبب لعذاب الآخرة للملوك وأعوانهم ومن أفسدوه من رعاياهم؛ ومثل المعنى هذا في إيتاء الملك يأتي في نزع الملك والإعزاز والإذلال، فظهر: أن قوله تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ يؤكد ما ذكرنا من التفسير، وأن كل ما ذكر نعمة ورحمة من الله الذي هو على كل شيء قدير، فهو يقلب الأحوال ويأتي باليسر بعد العسر بقدرته.
5. أتبع الله تعالى هذه الآية الدليل على قدرته على تقليب الأحوال، فقال تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فبينا ترى النهار مبصراً في الآفاق كلها قبيل غروب الشمس، ترى الليل مقبلاً بسواده من المشرق يتخلل سواده ضوء النهار طالعاً في أفق المشرق حين غروب الشمس، ثم ينتشر سواد الليل حتى يعم الآفاق التي تراها، وهكذا في آخر الليل يكون الظلام في كل أفق، ففي السحر تطلع نخلة الفجر ثم نور الفجر متخللاً سواد الليل وذلك بقدرة القادر على تقليب الأحوال؛ وهذا في تفسير ﴿تُولِجُ﴾ أظهر عندي، وقد فسر: بإدخال بعض وقت الليل في النهار، وإدخال بعض الليل أي بعض وقته في النهار، وذلك اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر في الشتاء والصيف ـ والله أعلم.
6. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كإخراج الشجر الحي من الحب والنوى الميت، كما ذكر الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ [الأنعام:95] فقد يموت الحمل في بطن أمه فيخرج ميتاً بقدرة الله تعالى.
7. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ رزقاً تفضلاً محضاً لا يحاسب فيه المرزوق لأن الحساب إنما يكون في القرض وما في معناه أما رزق الله لعبده فليس كذلك، فهو يرزقه طفلاً وشاباً وكهلاً وشيخاً، ولا يمنعه قلة شكره عن رزقه، بل يرزق الكافرين والغافلين عن نعمه اللاهين عن ذكرها، وإن طالت مدة الرزق وطالت معه مدة الكفران، وإنما يحاسب العبد على أعماله ليجزى بما يستحق من ثواب أو عقاب ولا حساب على الرزق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/444.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار في سبب النزول التي سبق ذكرها، وعلق عليها بقوله: نلاحظ أنّ هذه الروايات قد تكون واردة على سبيل الاجتهاد من قبل أصحابها، ولذا اختلف هؤلاء في زمن نزولها بين من جعله بعد فتح مكة، ومن جعله في وقعة الخندق، لأن القضية التي تتضمنها الآيتان واردة في تأكيد قدرة الله وهيمنته على الأمر كله والخلق كله، باعتبار ذلك من أسس العقيدة الإسلامية التوحيدية مما لا يحتاج فيه إلى مناسبة معينة، تماما، كما هو التوحيد في مضمونه الفكري والروحي، ولعل الآية الثانية الواردة في سياق الآية الأولى تؤكد ذلك، فإن الظاهر أنها نزلت في وقت واحد، ولكنها ـ في كل حال ـ يمكن أن توحي ببعض الأجواء التي كان يثيرها المنافقون في الساحة الإسلامية الداخلية من أجل إثارة الشك في الرسالة والرسول في استغلال سيّئ لبعض حالات الضعف الموجودة في الواقع الإسلامي مما يتصل بالخطاب الإسلامي المستقبلي الذي لا يجد المسلمون أيّة إشارة إليه في مجريات الواقع، كما توحي بأن النبي كان يربي المسلمين على الثقة بالله من خلال الإيمان بالغيب على أساس وعد الله في وحيه القرآني، وهناك ملاحظة مهمّة، وهي أن الرواية الأولى تحدثت عن اليهود والمنافقين في الوقت الذي لم يكن لليهود وجود بارز في المجتمع المدني، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان قد أجلاهم عن المدينة.
2. في هاتين الآيتين تقرير لحقيقة كونية إلهية تدخل في صلب النظام الكوني للأشياء، للإيحاء للعاملين من أجل تغيير الواقع الفاسد بأن إرادة التغيير عندما تتحرك في اتجاه الواقع العملي، فإنها ستلتقي بالنتائج الحاسمة في نهاية المطاف إن عاجلا أو آجلا، لأن الله قد خلق الحياة في مظاهرها الكونية سواء في ذلك الظواهر الكونية، كما في الليل والنهار، أو الحياة والموت، أو الظواهر الإنسانية الاجتماعية، كالملك والعز والذل، أو الظواهر الحياتية في حركة الحياة، كالرزق، وجعلها خاضعة لسنّة التغيير من خلال الأسباب الطبيعية التي زوّد بها الكون، فجعل بعضها خاضعا لإرادة الإنسان في نطاق الظروف الموضوعية المحيطة به وبالأشياء، بينما ظل بعضها خاضعا للأسباب الطبيعية المودعة في الكون الواسع، وإذا كانت القضية سائرة في هذا الاتجاه، فلا بد من التطلع إلى المستقبل من قاعدة خضوعه لهذه السنّة التي تجعله قابلا للتغيير والتبديل، كما تدفع الإنسان إلى تحريك هذه السنّة بتحريك إرادته نحو ذلك.
3. هذا ما نستوحيه من هذه الآية في خطواتنا العملية نحو تغيير الحياة على أساس شريعة الله، وهذا ما استوحاه المفسرون في نزول هذه الآية في أجواء المعارك الإسلامية التي كانت تستشرف المستقبل الذي تنطلق فيه الدعوة الإسلامية قويّة فاتحة حاكمة للأرض في ما يصل إليه الفاتحون الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في نطاق القوة الرحيمة الحكيمة العادلة الواعية.
4. سؤال وإشكال: إنه ـ سبحانه ـ يملك الملك في كل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني القدرة والسلطان والقوّة، فهو الذي يملك ذلك كله، ولا يملكه غيره، وهو الذي يملك العطاء والمنع، وهو الذي يمنح العزّة للإنسان بمنحه أسبابها، وهو الذي يسلبها عن إنسان آخر، بإبعاد ظروفها عنه، ولكن كيف ذلك؟ هل يتمّ ذلك بشكل مباشر، فيكون الملك منحة للحاكم الظالم ويكون العز عطيّة للإنسان الكافر، بينما يعيش المؤمن الحرمان من هذا وذاك؟ هل الظالمون والطغاة والمستكبرون هم القضاء الذي لا يملك الإنسان معه أن يختار أو يتجه نحو التغيير؟ كيف نفهم القصة في ما نريد أن نعيه ونفهمه من مفاهيم العدالة في الإرادة الإلهية في الكون؟ والجواب: لنا أن نجيب عن هذا من خلال فهمنا للأسلوب القرآني الذي يتحدث عن أفعال الله المتعلقة بحركة الإنسان في الأرض، فقد تعرضنا في هذا التفسير ـ أكثر من مرّة ـ للحديث حول هذا الموضوع، وقلنا إن نسبة أيّ فعل من أفعال الإنسان إلى الله لا يمنع من نسبته إلى الإنسان، تماما كما أن نسبة الظواهر الطبيعية من الحر والبرد واختلاف الليل والنهار إلى الله لا يمنع من نسبتها إلى أسبابها الطبيعية الخاضعة للقوانين المودعة في الكون، ففي كلا الموردين، لا يقتضي ذلك المباشرة للفعل، بل كل ما هناك هو تعلق إرادة الله بوجوده من خلال سببه الذي قد يكون اختياريا كما في إرادة الإنسان التي هي إحدى الأسباب المباشرة لفعله، وقد يكون غير اختياري، كما في الظواهر الكونية أو الأحداث التي تعرض للإنسان من خلال أوضاع غير إراديّة، وفي هذا الإطار، تحدث الله عن الرزق والخلق والصحة والمرض وتغيير الواقع، فنسبه إلى نفسه كما نسبه إلى الإنسان، كما تحدث عن الأشياء الأخرى، وعلى ضوء ذلك، نفهم أن الله قد جعل للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قوانين تحكمه في مسيرته، وجعل لإرادة الإنسان الدور الكبير في حركة الواقع، وذلك في ما قاله الله سبحانه في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فإذا كان هناك حكم عادل، فإنه يكون منطلقا من الظروف الموضوعية المتحركة في حياة الناس وإراداتهم، وإذا كان هناك حكم ظالم، فإنه يكون راجعا إلى الأسلوب والاتجاه نفسيهما.
5. وهكذا الحال في تغيّر الأمور في الجوانب العامة والخاصة في قضايا الفرد والمجتمع، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في الحديث المعروف: (كما تكونون يولّ عليكم..)، أو الحديث الآخر: (لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطن الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، والحديث الآخر: (من عذر ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، وإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته)، وهكذا نلتقي بالآيات الكريمة التي تقول: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، وقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، فإن الأحاديث المتقدمة لا تعني أن الله يولّي على الناس أمثالهم، أو يسلّط عليهم شرارهم، أو يسلّط على الإنسان من يظلمه بالمعنى المباشر للكلمة التي توحي بأن ذلك يمثل جانب الجزاء أو العقوبة، بل تعني أن كثيرا من النتائج تأتي تلقائيا عند حصول مقدماتها، فإذا كان المجتمع شريرا، فإنه ينتج الحاكم الشرير، لأن الحاكم نتاج مجتمعة في الغالب، كما أنّ ترك المنكر دون ردع سينتهي بالنتيجة إلى امتداد المنكر وقوة فاعليه الأشرار وضعف الخيّرين الذين يستريحون في حياتهم للدعة والطمأنينة وحب الراحة، من دون أن يعملوا على صنع القوّة الخيّرة وإضعاف القوة الشريرة، وبذلك يكون تسلّط الأشرار نتيجة حتمية لذلك، أمّا هؤلاء الذين يعذرون الظالم بظلمه، فإنهم يسمحون للظلم بالامتداد من خلال إيجاد المبررات له، وهكذا يتحول الظلم إلى قوة ترتد على المشجعين لها، وهذا ما نستوحيه من الآيتين اللتين تحدثنا عن الأوضاع القلقة للحياة في واقع الناس الفاسد من الخوف والجوع والفساد، كنتيجة طبيعية لأعمال الناس.
6. في هذا الجوّ، يمكننا أن نقول إن الأشياء كلها ترجع إلى الله لأنه الذي خلق السبب وربط بينه وبين المسبّب، ولكنه ترك للإنسان فرصة المباشرة بإيجاد السبب، فلولا أنه خلق الإنسان وخلق معه الإرادة، لما كانت هناك معصية ولا طاعة، ولولا أنه خلق العلاقة بين الإرادة المحاطة بظروفها العادية وبين الفعل المراد، لما تحقق الفعل، ولكن ذلك كله لا يمنع من نسبة الفعل إلى الإنسان الذي يملك أن يريد أو لا يريد، فيصنع المأساة، أو يصنع الفرح، وبهذا الأسلوب يؤتي الله الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء، من خلال الظروف السلبية والإيجابية الاختيارية وغير الاختيارية من دون أن يعني ذلك موافقة على نتائج هذا أو ذاك في ما إذا كانت النتائج بعيدة عن خط الخير، وهكذا إذا تحدثنا عن العز والذل، فإن الله يذلّ من يذل نفسه ويعز من يعز نفسه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويظلل الإنسان هو الذي يصنع مصيره من خلال حسن اختياره للأسباب وسوء اختياره لها، سواء في ذلك الإنسان ـ الفرد في القضايا المتصلة بالمصير الفردي، أو الإنسان ـ المجتمع في القضايا المرتبطة بالمصير الجماعي.
7. بعد ذلك، لا معنى للسؤال كيف يؤتي الله الظالم الملك، وكيف ينزع الملك من العادل، فإن القضية واقعة في نطاق إرادة الله من خلال طبيعة الربط بين النتائج والمقدمات، ولكنها تنطلق في خط إرادة الإنسان من خلال ممارسته للمقدمات التي توصل إلى تلك النتائج، وقد جاءت الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام في موضوع العز والذل في مدلولهما الروحي والمادي ورجوعهما إلى سوء اختيار الإنسان وحسن اختياره، فقد ورد في بعض الكلمات المأثورة: (من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته..)، وفي بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، أن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه، قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض لما لا يطيق، أو يدخل في ما يعتذر منه)، وجاء في الكلمات القصار في نهج البلاغة: (الطامع في وثاق الذل)
8. قل يا محمد، أو يا كلّ من انفتح على التوحيد فكرا وروحا وإيمانا في وعيه للذات الإلهية في المعنى المطلق لها، المهيمن على الوجود كله، لأنه خالق الوجود في ذاته وفي كل كلياته وجزئياته، قل، وأنت تبتهل إلى الله لتؤكد إيمانك في نفسك في عملية إيحائية داخلية تنفذ الكلمة فيها إلى الداخل، بحيث يتعمق الإحساس بالفكرة كلما تكرر ذكرها في اللسان، وأعلنه للآخرين الذين يطلقون الشك من جهة، ويحركون الحرب النفسية من جهة أخرى لإيجاد حالة من الاهتزاز الروحي والفكري في إيمان المسلمين الطيبين الذين قد يعيش بعضهم بساطة العقيدة وسذاجة الفكر، بما لا يتيح لهم الدخول في متاهات الجدل الفكري الذي يثيره الآخرون، وذلك من أجل تعزيز الثقة بربهم في هذا الموقف الإيحائي القوي الصادر من النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أو من الشخص المسؤول أو من المجتمع، في ابتهال جماعي يوحي بالقوة وبإسقاط روحية المنافقين والمشككين الذين يطمعون في إثارة السلبيات داخل المجتمع المسلم، ـ ليفهموا من قوة الموقف ـ أن خطتهم لا تؤدّي إلى النتيجة التي يريدونها، لأن الواقع الإسلامي أقوى من مخططاتهم.
9. ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ إنه نداء لله الذي تحيا عقولنا وقلوبنا معه وتستمد حياتنا امتدادها منه وتعيش حيويتها وحركيتها وإمكاناتها من امتداد رحمته ولطفه، أنت مالك الملك كله ومبدع الوجود الذي يستمد وجوده منك، فكلّ الملك منك ومرجعه إليك، سواء كان ملكا حقيقيا في معنى الاحتواء أو ملكا اعتباريا كأنظمة وقوانين تحكم العلاقات بين الناس.
10. ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ من خلال إرادتك التي أخضعت النظام الكوني للقوانين الطبيعية والسنن الكونية وجعلت السببية أساس حركة الوجود كله في الإنسان والحيوان والنبات والجماد، فلا تتحقق النتائج إلا من خلال مقدماتها، ولا تحصل المسببات إلا بأسبابها، وهذا ما يجعل الأمور تتحرك من خلال طبيعتها الذاتية، فقد تكون النتائج سلبية في موقع، كما قد تكون إيجابية في موقع آخر، ولكنها في الخط العام تمثل الإيجابية النظامية التي تتمثل في انتظام الوجود في خط واحد لا بد له من أن يلتقي ببعض الحدود التي تمثل حاجزا أمام الخير والصلاح في جزئياته، لأن المحدود لا يمكن أن ينتج المطلق أو يتحرك من خلاله، وتلك هي حكمتك ـ يا ربـ التي يلتقي في حركتها الملك الصالح والملك الفاسد، وينطلق معها الخيّرون والشريرون، ليكون الصراع هو سنة الحياة التي تتمثل في داخلها مسيرة التجربة الإنسانية التي يكبر فيها الإنسان وينمو ويتطور وينطلق في اتجاه النتائج الإيجابية في نهاية المطاف، من حيث إن السلب في حركيته الصراعية قد ينتج في عناصر الضغط معنى الإيجاب.
11. ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ في إرادتك التي تتصل بالشيء مباشرة أو بواسطة السنن الكونية، لأن حكمة الله اقتضت أن لا يدوم الملك لأحد، وأن لا تستمر الحياة على وتيرة واحدة، لأن مسألة التغيير هي التي تمنح الحياة حيويتها وتساعدها في نموّها وتطوّرها، وبذلك يحدث زوال الملك عن شخص، كما يحدث زوال الحياة عن شخص آخر، لأن قانون الحياة والموت يحكم الموجودات في وجودها الذاتي وفي عوارض هذا الوجود ومتعلقاته.
12. ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ بقدرتك الغيبية التي تعطي إنسانا كل العناصر التي تجمع له ظروف العزة في الذات وفي الموقع والموقف، كما تمنع إنسانا آخر ذلك، فيعيش الذل من خلال عدم توفر عناصر العز، أو من خلال الظروف الموضوعية التي تفرض عليه الذل من خلال اختياره الذاتي الذي قد يحسن وقد يسوء تبعا لإرادته ولحركة علاقته بالحياة وبالظروف وبالأشياء، أو من خلال الأجواء المحيطة به، وهذا ما يجعل عبادك يتوجهون إليك في ابتهالاتهم الخاشعة ودعواتهم الخاضعة لتفيض عليهم رحمتك، فتمنحهم الملك الذي يحتاجونه والعز الذي يتطلعون إليه، وتمنع عنهم سطوة المستكبرين وإذلال الظالمين.
13. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو المهيمن على كل ما يكفل للحياة امتدادها من خيرات ونعم، فهي بيده لا بيد غيره، وهو القادر على كل شيء منها في جانب المنع والعطاء.
14. ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ إن عملية إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل، تشير إلى نقصان كل منهما لحساب زيادة الآخر، وبالعكس، حسب اختلاف الفصول، فكأنّ أحدهما داخل في الآخر باعتبار أنه أخذ المساحة التي كان يحتلها هذا الآخر، وهو من دلائل قدرته المطلقة التي تتصرف في خط الزمن من دون اختلال في التوازن، بل هو التغيير الخاضع لنظام الكون القائم على أساس الحكمة والتدبير.
15. أمّا إخراج الحي من الميت، فإنه يتمثل في الوضع الطبيعي في إخراج الأحياء من النبات والحيوان من الأرض الميتة العديمة الشعور، وقد ورد في هذه الآية تفسير آخر، بأن يكون المراد من الميت الكافر والحي المؤمن، باعتبار أن الله تعالى سمّى الإيمان حياة ونورا والكفر ظلمة، كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122]، ولكن الظاهر أن التفسير وارد مورد الاستيحاء لا مورد بيان المعنى من اللفظ، فإن سياق الآية وارد في ما هو من مظهر القدرة من خلال ما يشتمل عليه من عجائب الخلق مما يناسب أن يكون متعرضا للظاهرة في حركتها الكونية.
16. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فالله هو مصدر الرزق للناس وللموجودات كلها، فهو الذي يعطيها حاجاتها التي يتوقف عليها وجودها وامتدادها، من خلال ما أودعه في الأرض من أنواع العناصر الساكنة والمتحركة، التي تهيّئ الفرص لإنتاج الحاجات وتوفير الشروط اللازمة لذلك، من غير فرق بين الإنسان المؤمن والكافر، بل إن ذلك يمتد إلى كل الموجودات التي تكفّل الله برزقها ـ في حاجاتها الوجودية ـ منذ خلقها، وهذه هي سنته الكونية التي أودعها في الكون ليكون منتجا لكل الحاجات الوجودية من موقع المعنى الوجودي التكويني الذي تتحرك فيه الأشياء من خلال قوانينها الطبيعية التي فرضتها الإرادة الإلهية الغيبية، من دون أن يعني ذلك ـ في سلبياته وإيجابياته ـ ثوابا ولا عقابا، أو تحليلا أو تحريما، لأن القضية مرتبطة بذاتيات الحركة الوجودية في النظام الكوني.
17. إذا كان الإنسان يحوّل عناصر الرزق المنفتحة على الخير في إمكاناتها الطبيعية إلى شرّ، أو الحلال إلى حرام، فإن ذلك لا يعني أن الله يرضى بالشر أو بالحرام في فعل الإنسان، بل إنه يرفضه من خلال تشريعه الذي يحدد فيه للإنسان ما يفعله أو يتركه تبعا للمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء، فنحن لا يمكن أن ننسب إلى الله الرزق الحرام من ناحية تشريعية، لأن الله لم يخلق الرزق حراما، بل خلقه في نطاق قابليته للخير وللشر من الناحية التكوينية، وأعطى الإنسان حريته في إدارة ذلك من موقعه الوجودي ليواجه مسئولياته أمام الله في تحريكه الأمور في الاتجاه المرسوم.
18. في ضوء هذا، نعرف أن الرزق خير كله، ولكنه ككل وجود محدود، يحمل في داخله التنوع الذي يجعله متحركا في أكثر من بعد من أبعاد الواقع في الإرادة الإنسانية.
19. لعل من الواضح ـ من خلال ما ألمحنا إليه ـ أن الرزق لا يختص بأي جانب من جوانب الحاجات الإنسانية، بل يشمل الحاجات المادية والمعنوية معا مما يتصل بحياة الإنسان الجسدية أو الروحية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غير ذلك.
20. أما كلمة ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فقد فسرها الزجاج بأن المعنى (بغير تقتير، كما يقال: ينفق بغير حساب، لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب، وقيل: معناه بغير مخافة نقصان لما عنده، فإنه لا نهاية لمقدوراته، فما يؤخذ منها لا ينقصها ولا هو على حساب جزء من كذا كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة والمائة من الألف، وقيل ـ كما اختاره صاحب تفسير الميزان ـ إن توصيف الرزق بكونه بغير حساب، إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق، لكون ما عندهم من استدعاء وطلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا، فلا يقابل عطيته منهم شيء، فلا حساب لرزقه تعالى، وأما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدّر، فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2 ـ 3]، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض، لكنه مقدر على ما يريده تعالى.
21. لعل الأقرب إلى جوّ الآية أن تكون الكلمة كناية عن عدم محدودية رزقه من حيث عدم محدودية ملكه، فإنه يعطي كل موجود حاجاته مهما كثرت واتسعت، فكلما تطورت حاجاته ازداد رزقه، فلا حاجة به إلى الحساب، لأنه شأن المحدود الذي قد تختل موارده باتساع الأمور والحاجات في عطائه، أمّا الله ـ سبحانه ـ فهو المطلق في ذاته والمطلق في غناه، فلا ينفد ما عنده بالإنفاق والعطاء، لأنه لا حدّ له في ملكه.
22. في ضوء ذلك، قد تكون إيحاءات هذه الفقرة أن على العباد أن يلجأوا إلى الله في حاجاتهم، فلا يتحرجوا من طلب أيّ شيء مهما ازدادت حاجاتهم، لأن عطاءه لا حدّ له ولا حساب، وربما يلتقي هذا المعنى بالمعنى الثاني وببعض إيحاءات المعنى الأول، ولا ينافي ذلك تقدير الله للأمور ـ ومنها الرزق ـ، فإن تقدير كل شيء بحسبه من خلال طبيعة الحاجات في تطوراتها تبعا لتطور الحياة والإنسان، فهو الذي يقدّر رزقه بحسب الحاجات المتطورة والمتغيرة، ليلاحق ذلك بحكمته ورحمته، أما ما ذكره العلامة الطباطبائي، فإننا لا نجد له وجها، لأن مسألة العوضية ليست مطروحة في الجانب العقيدي، ولا في المدلول السياقي، إذ لا معنى للحديث عن أن الله يعطي الإنسان بدون عوض ولا استحقاق، لأنها من بديهيات الأمور، من حيث إن الله هو الخالق والرزاق وإن الإنسان لا يملك شيئا ذاتيا أمام الله، ولكن الحديث هو عن سعة عطاء الله وشمولية كرمه وعدم نفاد رزقه، وربما نستوحي هذا المعنى من الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، حيث إن المقصود منها بلا حصر، لأن الله يعطيهم ما لا يعطي أحدا من ثوابه في مقابل الطاعات التي جعل الله لها ثوابا معينا.
23. سؤال وإشكال: الآية تحدثت عن كل هذه الظواهر بأسلوب يدعو إلى أن يتمثل الإنسان ذلك في دعاء خاشع يتوجه فيه إلى الله، في توجّه المؤمن الذي يناجي ربّه بالتأكيد على إيمانه بعظمة القدرة من خلال عظمة الحق، فكيف نفهم ذلك؟ والجواب: إن هذه الآية ـ في عقيدتنا ـ تمثل نموذجا من نماذج الخط الإسلامي في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء، فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره، فإن للدعاء الإسلامي جانبا يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى، وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة، بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد، وهذه الآية هي نموذج حيّ لهذا الأسلوب، فإن انطلاق هذه الصفات بأسلوب الدعاء، يوحي للإنسان بالانتفاح على هذه الحقيقة كما لو كانت ماثلة أمامه في جوّ شعوري رائع ينطلق من موقع الاعتراف الإنساني الذي يشعر الإنسان معه بشعورين مختلفين، ولكنهما يكمّلان بعضهما البعض، فهناك الشعور بالانسحاق أمام الألوهية المطلقة التي تملك الملك كله وتتصرف فيه بالإعطاء والمنع، وتملك الكون فتغيّره على حسب الحكمة، وتملك حاجة الإنسان فترزقه بغير حساب من دون أن تكون لأيّة قوّة هناك، أيّ دخل في ذلك كله، وهناك الشعور بالأمن والطمأنينة والقوة عندما يعيش الإنسان في ظلال هذه الألوهية منسجما مع ينبوع العطاء المتدفق منها بدون حدود في آفاق الرحمة الألوهية المطلقة، وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب في التربية والتوجيه، وذلك بالتأكيد على المؤمنين أن يتمثلوا تفاصيل العقيدة في صفات الله التي ترتبط بها حياتهم باختيار الأدعية المناسبة التي تثير في داخلهم الشعور بالامتلاء الروحي والفكري إلى جانب الإحساس بالأمان في ظل الإيمان بالله من خلال ذلك، وبذلك يمتزج جانب الروح بالفكر والممارسة في حركة العقيدة داخل النفس الإنسانية.
24. هناك فهم خاطئ للآية قد يستخدمه الحكام الظالمون الذين ملكوا السلطة بأساليبهم ووسائلهم المنحرفة، للإيحاء بأنهم يمثلون القيمة الخيّرة عند الله، لأن الله آتاهم الملك، فهو حق شرعي لهم، باعتبار أن الله هو الذي يمنح الشرعية لمواقع عباده، وذلك من خلال هذه الآية، وقد روي أن يزيد بن معاوية استشهد بهذه الآية في الردّ على الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام في حوارة معه، فقد جاء في الإرشاد للمفيد نقلا عن كلام يزيد: (وأما قوله، أي علي بن الحسين ـ إنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية، وقد جاء في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه السّلام قال قلت له: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ أليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: (ليس حيث تذهب، إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية، بمنزلة الرجل يكون له الثواب فيأخذه الآخر، فليس هو للذي أخذه..)، وقد أشرنا في ما قدمناه من حديث التفسير إلى أن الآية تتجه إلى تأكيد الفكرة التي تربط الواقع الخارجي في حياة الإنسان في الماضي والحاضر، بالله في الدائرة التكوينية التي تتحرك فيها الأشياء من حيث ارتباطها بأسبابها الطبيعية في وجودها العيني والحركي، فقد تكون النتيجة خيرا عندما تكون الأسباب الموجودة منتجة للخير، وقد تكون شرّا عندما تلتقي بأسباب الشر، وليست واردة في مجال الحديث عن اعتبار الواقع صورة للإرادة الإلهية التشريعية التي تعبّر عن شرعية الواقع من حيث كونه مظهرا لرضا الله، فقد أطلق الله للناس أن يأخذوا بالعدل، وأن يكونوا مع العادلين، وأن يكونوا مع الساعين نحو إقامة العدل وإسقاط الظلم في الأرض، وجعل المسألة تابعة لاختيارهم في حركة المسؤولية، لأن حكمته اقتضت أن يمارس الإنسان القضايا باختياره وإرادته ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]، وهذا هو ميزان الشرعية في تقويم الواقع.
25. لكن الناس تركوا هذا الخط الإلهي، واندفعوا نحو الاختيار السيئ الذي يتناسب مع أطماعهم وشهواتهم، فخذلوا الحق، ونصروا الباطل، وأخذوا بالأسباب الواقعية التي جعلها الله بين أيديهم ـ في ساحة الواقع ـ، فاستعملوها للشر بدلا من الخير، فكانت النتائج أن الظالمين وصلوا إلى الملك من خلال الوسائل الإلهية التكوينية للنجاح، بقطع النظر عن المضمون، فكان أن حصلوا على الملك من إيتاء الله لهم من خلال الأسباب الطبيعية، لأن الله أجرى الأمور في الكون على أساس حصول المسبب عند إيجاد السبب، ولكنه لا يمثل إرادة الله في المعنى الشرعي الذي يحبه ويرضاه، بل هو مناف لها ومنحرف عنها، ولا يعني هذا عجزا في الخالق وقدرة لدى المخلوق، ولكنه القانون الطبيعي الذي صنعه الله للوجود، وجعل للإنسان أن يوجّهه للخير باختياره، فوجّهه للشر بسوء اختياره عصيانا وانحرافا، وسيجزيه الله العقاب على ذلك كله.
26. روى السيد ابن طاووس، كما في تفسير الميزان ـ أن السيدة زينب بنت علي عليه السّلام ردّت على يزيد منطقه، فقالت في خطابها له: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلا مهلا، أنسيت قول الله: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، فإن استشهادها بهذه الآية يمثل الفكرة بأن الله لا يترك للكافرين حريتهم في العبث بالقيم الخيّرة، من خلال الرضا بذلك، تقويما لهم في ميزان القيمة الإيجابية للذات في أفعالها، بل إن حكمته اقتضت أن يتركهم لاختياراتهم السيّئة لإقامة الحجة عليهم، فيزدادوا إثما بإفاضة النعم عليهم مع استمرارهم في هذا الاختيار.
27. في ضوء ذلك، كان هذا الخط التكويني الذي يربط الأشياء بأسبابها، يجعلنا نفكر ـ كعاملين في حقل التغيير على أساس الدعوة إلى الإسلام ـ بأن نهيّئ الظروف الموضوعية للانتصار في ساحة الصراع، لنحقق ـ بذلك ـ النتائج الكبيرة، حتى تلتقي لدينا الإرادة التكوينية في سنن الله بالإرادة التشريعية في تعاليمه.. إن الله قد فتح لنا النافذة التي نطل بها على النصر، فعلينا أن نعمل على أن نطل منها على الساحة التي تحقق لنا الوصول إلى أهدافنا الكبرى.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/293.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام، فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾
2. إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها، وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأمور، ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
3. لا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموما، وبناء على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.
4. ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ (خير) صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضا على كلّ شيء حسن، بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه، وعبارة ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين:
أ. الألف واللام في (الخير) هما للاستغراق.
ب. أنّ تقديم الخبر (بيدك) وتأخير المبتدأ (الخير) دليل على الحصر كما هو معلوم، فيكون المعنى: (كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك)
5. كذلك يستفاد من (بيدك الخير) أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحدا أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل، ولا شرّ فيه، فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحرارا، وبعبارة أخرى: أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعند ما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقا.
6. ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذه الآية جاءت دليلا على الآية السابقة، أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعا لمشيئته.
7. سؤال وإشكال: قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله، ومن هنا فلا بدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيزخان وهتلر وغيرهما، بل أنّنا نقرأ في التاريخ أنّ (يزيد بن معاوية) ـ تبريرا لحكمه الشائن الظالم ـ استشهد بهذه الآية، والجواب: نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة، من ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة، أو أنّها تقتصر على حكومة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم التي أنهت حكم جبّاري قريش، لكن الآية تطرح في الواقع مفهوما عامّا يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الاستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله، وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل، فإذا قام ظلمة وطغاة ـ مثل جنكيز ويزيد وفرعون ـ باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل: كيفما كنتم يولّى عليكم، ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضا نتيجة لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.
8. في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أناس غير صالحين.
9. خلاصة القول: إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.
10. في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾، وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار، بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة، وهو ما عبّر عنه بدخوله في النهار، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة، وهو دخول وولوج النهار في الليل، وكذلك إخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض، كلّها من علائم قدرته المطلقة.
11. (الولوج) بمعنى الدخول، والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة، هذا التغيير ناشئ عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها، لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الإستواء تطول أيّامه تدريجيا، وتقصر لياليه تدريجيا، حتّى أوائل الصيف، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء، أمّا في جنوب خطّ الإستواء فالتناظر يكون معكوسا، وبناء على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، دائما، أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.
12. سؤال وإشكال: إنّ الليل والنهار في خطّ الإستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما، فالليل والنهار في خطّ الإستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما اثنتي عشرة ساعة على امتداد السنة، وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار، لذلك فإنّ الآية ليست عامّة، والجواب: إنّ خطّ الإستواء الحقيقي خطّ وهمي، والناس عادة يعيشون على طرفي الخط، كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان، وسكّان القطبين ـ إن كان فيهما سكّان ـ يعيشون في مناطق أوسع طبعا من نقطة القطب الحقيقة، وعليه فالاختلاف موجود في كلّ الحالات.
13. قد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر، وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأة في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات (الجو) حولها، فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر، ويبدأ الليل من حمرة الأفق الغربي والغسق، ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء.
14. إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار ـ بأيّ معنى كان ـ آثارا مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأخرى على الأرض، لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة، فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحراراتها، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها، ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة، فإنّ حاجتها هذه تلبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة، فلو كان الليل والنهار كما هو دائما، لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس، ولخسر الإنسان فوائد ذلك.
15. كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي، لا فجائي، وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما، فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض، لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء، وبذلك تتطابق قواهم الجسمية وحياتهم الاجتماعية مع هذا التغيير، وإلّا حدثت حتما مشاكل لهم.
16. ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ إنّ معنى خروج (الحيّ) من (الميّت) هو ظهور الحياة من كائنات عديمة الحياة، فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت كائنات حيّة من كائنات عديمة الحياة، أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح باستمرار أجزاء من خلايانا الحيّة وخلايا جميع الكائنات الحيّة في العالم، وتتبدّل إلى مواد حيّة، أمّا خروج (الميّت) من (الحيّ) فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.
17. إنّ الآية ـ في الواقع ـ إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.
18. لهذه الآية تفسير آخر أيضا ـ لا يتعارض مع التفسير السابق ـ وهو مسألة الحياة والموت المعنويّين، فنحن كثيرا ما نرى أنّ بعض المؤمنين ـ وهم الاحياء الحقيقيّون ـ يخرجون من بعض الكافرين ـ وهم الأموات الحقيقيّون ـ، وقد يحدث العكس، حين يخرج الكفار من المؤمن، إنّ القرآن يعبّر عن الحياة والموت المعنويّين بالإيمان الكفر في كثير من آياته، وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة، فالإنسان يتميّز بحريّة الارادة وليس مثل الكائنات غير الحيّة في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعا إجباريا، وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس أبناء الكافرين ـ أولئك الذين يريدون حقّا أن يكونوا مؤمنين ـ ويغسل آثار الإيمان من أبناء المؤمنين ـ الذين يريدون حقّا أن يكونوا كافرين ـ، وهذا الاستقلال في الإرادة، القادر على الانتصار، حتّى في ظروف غير مؤاتية، من مظاهر قدرة الله أيضا.
19. ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ هذه الآية تعتبر من باب ذكر (العام) بعد (الخاص)، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النعم على وجه العموم، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنعم أيضا.
20. تعبير ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يشير إلى أنّ بحر النعم الإلهية من السعة والكبير بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات، فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان، فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئا، لئلّا تتبدّدا ثرواتهم، أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده، ولا أحد يحاسبه، ولا حاجه له بالحساب، ويتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة.
21. سؤال وإشكال: إنّنا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء، فكيف تقول هذه الآية أنّ كلّ هذه الأمور بيد الله؟ والجواب: إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس لبلوغ العزّة والسعادة، وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة، وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأمور إليه، وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر، لأنّ الإنسان هو الذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفا صحيحا أو خاطئا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/446.
16. الولاء والبراء والتقية
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈16⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال يوصي بعض أصحابه: آمرك أن تصون دينك، وعلمنا الذي أودعناك، فلا تبد علومنا لمن يقابلها بالعناد، ولا تفش سرنا إلى من يشنع علينا، وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: 28]، وقد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه وفي إظهار البراءة إن حملك الوجل عليه وفي ترك الصلوات المكتوبات إن خشيت على حشاشة نفسك الآفات والعاهات، فإن تفضيلك أعداءنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرنا، وإن إظهارك براءتك منا عند تقيتك لا يقدح فينا ولا ينقصنا، ولئن تبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك، لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها، ومالها الذي به قيامها، وجاهها الذي به تمسكها، وتصون من عرف بذلك أولياءنا وإخواننا، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين، وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها، فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال، ومذل لهم في أيدي أعداء دين الله، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا(1).
2. روي أنّه قال: أما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار، فإن الله نهى المؤمن أن يتخذ الكافر وليا، ثم من عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر، قال الله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28] فهذه رحمة تفضل الله بها على المؤمنين، رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه(2).
3. روي أنّه قال: قولوا الخير تعرفوا به، واعملوا بالخير تكونوا من أهله، ولا تكونوا عجلا مرائين مذاييع، فإن خياركم الذين إذا نظر إليهم ذكر الله، وشراركم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة المبتغون للبراء المعايب(3).
4. روي أنّه قال: في خطبة له: الزموا الأرض، واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجل الله لكم، فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلائه بسيفه، فإن لكل شيء مدة وأجلاً(4).
__________
(1) الاحتجاج: 238.
(2) المحكم والمتشابه: 36.
(3) الكافي: 2/178/12.
(4) نهج البلاغة: 2/156/185.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار(1)، ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾(2).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ فالتقية باللسان: من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان(3).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ التقاة: التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان، ولا يبسط يده فيقتل، ولا إلى إثم، فإنه لا عذر له(4).
4. روي أنّه قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم؛ لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر؛ فأنزل الله فيهم: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(5).
5. روي أنّه قال: نزلت في المنافقين؛ عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم(6).
__________
(1) يقصد المعتدين
(2) ابن جرير: ٥/٣١٦.
(3) ابن جرير: ٥/٣١٨.
(4) ابن جرير: ٥/٣١٧.
(5) البيهقي في دلائل النبوة: ٢/٥٧٥.
(6) أورده الثعلبي: ٣/٤٧.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النزق، وقلة الكتمان(1).
__________
(1) الكافي: 2/175/1.
ابن جبير:
روي عن يحيى البكاء قال: قلت لسعيد بن جبير (ت 95 هـ) في أيام الحجاج: إن الحسن كان يقول لكم: التقية باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان؟ فقال سعيد بن جبير: ليس في الإسلام تقية، إنما التقية في أهل الحرب(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٤٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: وأما قوله: ﴿أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ فهو أن يحمل الرجل على أمر يتكلم به، هو لله معصية، فتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فلا إثم عليه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٨ من طريق عبيد، وابن المنذر: ١/١٦٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ إلا مصانعة في الدنيا، ومخالقة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ التقية أوسع مما بين السماء إلى الأرض(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٧.
(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٢٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ ما لم يهرق دم مسلم، وما لم يستحل ماله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لا يتخذ المؤمن كافرا وليا من دون المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، قال صاحبهم في الدنيا معروفا؛ الرحم وغيره، فأما في الدين فلا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ ذلك في المشركين يكرهونهم على الكفر، وقلوبهم كارهة، ولا يصبرون لعذابهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ التقية جائزة إلى يوم القيامة، إلا من قتل النفس التي حرم الله ظلما(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٧.
(2) ابن جرير: ٥/٣٣٠.
(3) ابن المنذر: ١/١٦٦.
(4) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ التقية في كل ضرورة(1).
2. روي أنّه قال: إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج، فبعث إلى رجل من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقر لي أنك عبد لي إن شئت بعتك، وإن شئت استرققتك.. إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إيّاي بأعظم من قتل الإمام الحسين، فأمر به فقتل، ثم أرسل إلى الإمام السجاد، فقال له مثل مقاله للقرشي، فقال له الإمام السجاد أنّه قال: أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد: بلى، فقال الإمام السجاد أنّه قال: قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فأمسك، وإن شئت فبع، فقال له يزيد: أولى لك، حقنت دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك(2).
3. روي أنّه قال: وأي شيء أقر لعيني من التقية، إن التقية جنة المؤمن(3).
4. روي أنّه قال: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية، إنه من كانت له تقية رفعه الله، ومن لم تكن له تقية وضعه الله، إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا(4).
5. روي أنّه قال: لا خير فيمن لا تقية له، ولقد قال يوسف عليه السلام: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: 70] وما سرقوا(5).
6. روي أنّه قال: التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به(6).
7. روي أنّه قال: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له(7).
8. روي أنّه قال: خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية(8).
9. روي أنه قيل له: رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما: ابرآ من أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر، فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة(9).
10. روي أنّه قال يوصي بعض أصحابه: ليقوّ شديدكم ضعيفكم، وليعد غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا(10).
__________
(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٢٧.
(2) الكافي: 8: 234/313.
(3) الكافي: 2/174/14.
(4) الكافي: 2/172/4.
(5) علل الشرائع: 51/1.
(6) الكافي: 2/174/13.
(7) الكافي: 2/175/18.
(8) الكافي: 2/175/20.
(9) الكافي: 2/175/21.
(10) الكافي: 2/176/4.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نهى الله المؤمنين أن يوادوا الكفار، ويتولوهم من دون المؤمنين، إلا أن يتقوا منهم تقاة، والتقاة: الرحم من المشركين من غير أن يتولوهم، إلا أن يصل الرجل رحما له من المشركين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ إلا أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك(2).
__________
(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٢٦.
(2) عبد الرزاق: ١/١١٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ معناه خوف وكذلك تقية(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 109.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ﴾ إلى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أما ﴿أَوْلِيَاءُ﴾: فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ إلا أن يتقي منهم تقاة، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم والبراءة من المؤمنين(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣١٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنّه قال: إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له(1).
2. روي أنّه قال: أنّه قال: احذروا عواقب العثرات(2).
3. روي أنّه قال: أنّه قال: اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أن الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم إنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا(3).
__________
(1) الكافي: 2/172/2.
(2) الكافي: 2/175/22.
(3) الكافي: 2/172/5.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ المؤمنون يظهرون للمشركين المودة بمكة؛ فنهاهم الله عن ذلك، قال ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ إلا أن يكون معهم أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه، ولا يكون في قلبه لهم مودة(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٦٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ فيتخذونهم أولياء من غير قهر، ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ثم استثنى تعالى، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، فيكون بين أظهرهم، فيرضيهم بلسانه من المخافة، وفي قلبه غير ذلك(1).
3. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، يعني: عقوبته في ولاية الكفار(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ في الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم(1).
5. روي أنّه قال: قوله سبحانه: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٠.
الأوزاعي:
روي عن الأوزاعي (ت 157 هـ) أنّه قال: كنت باليمامة، وعليها وال يمتحن الناس برجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أنه منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق، والعتق، والمشي أنه ليسميه منافقا وما يسميه مؤمنا، فجعلوا له ذلك، قال: فخرجت في ذلك الغور، فلقيت عطاء، فسألته عن ذلك، فقال: ما أرى بذلك بأسا؛ يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾(1).
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/٣١٢.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ من رأفته بكم تحذيره إياكم نفسه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٠.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه سئل عن القيام للولاة؟ فقال: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له(1).
__________
(1) الكافي: 2/174/12.
الناصر:
ذكر الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن قوله عز وجل: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، وقلت: إنما النفس تكون للمخلوقين؟ ومعنى ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، يعني: إياه، وذلك موجود في لغة العرب؛ يقول الرجل: (نزلت في نفس الجبل)، أي: في الجبل، و(في نفس الوادي)، وليس للوادي نفس ولا للجبل، وتقول أيضا: (هذا نفس الخبر)، وليس للخبر نفس.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/154.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿لَا يَتَّخِذِ﴾ أي: لا يكونون أولياء لهم، وإن اتخذوا أولياء؛ بل هم لهم أعداء؛ كقوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [المجادلة: 22] إلى آخر الآية.
ب. ويحتمل: على النهي، أي: لا تتخذوا أولياء؛ كقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]؛ وكقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51]
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾:
أ. قيل: إلا أن يكون بينكم وبينهم قرابة ورحم؛ فتصلون أرحامهم من غير أن تتولوهم في دينهم.
ب. ويحتمل قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا﴾ على أنفسكم ﴿مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ إلا أن تخافوا منهم فتظهروا لهم ذلك مخافة الهلاك، وقلوبكم على غير ذلك، وعن ابن عباس: (التّقيّة: التّكلّم باللّسان، وقلبه مطمئنّ بالإيمان)
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾:
أ. قيل: عقوبته.
ب. وقيل: نقمته؛ يقول الرجل لآخر: احذر فلانا، إنما يريد نقمته وبوائقه؛ فعلى ذلك قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ عقوبته وبوائقه، التي تكون من نفسه لما يكون ذلك به لا بغيره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/353.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾، من الثواب، ولا ينال من الله إلا السخط والعقاب.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، أي ويحذركم الله ذاته أن تعصوه، فيعذبكم إذا لم تطيعوه.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 257.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الفراء، والحسن، ومجاهد: (تقية) وبه قرأ يعقوب، الباقون (تقاة) وأمال (تقاة) الكسائي، وقرأ حمزة، ونافع بين بين، الباقون بالتفخيم، وهو الأجود، لأن فيه حرفاً مستعلياً، وهو القاف، ومن أمال، ليؤذن أن الالف منقلبة من الياء، معنى قوله: ﴿يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ نهي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء يعني أنصاراً، وكسر الذال لالتقاء الساكنين، ولو رفع، لكان جائزاً بمعنى لا ينبغي لهم أن يتخذوا.
2. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من لابتداء الغاية، وتقدير الآية لا تجعلوا ابتداء الولاية مكاناً دون المؤمنين لأن مكان المؤمن الأعلى ومكان الكافر الأدنى، كما تقول زيد دونك ولست تريد أنه في موضع مسفل، وأنك في موضع مرتفع لكن جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع والخيانة كالاستفال.
3. في الآية دلالة على أنه لا يجوز ملاطفة الكفار، قال ابن عباس: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾، وقال: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾، وقال: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وقال ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، وكل ذلك يدل على أنه ينبغي أن يعاملوا بالغلظة والجفوة دون الملاطفة، والملاينة إلا ما وقع من النادر لعارض من الأمر.
4. وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما بين عظيم آياته بما في مقدوراته مما لا يقدر عليه سواه، دل على أنه ينبغي أن تكون الرغبة في ما عنده وعند أوليائه من المؤمنين دون أعدائه الكافرين، فنهى عن اتخاذهم أولياء دون أهل التقوي الذين سلكوا طريق الهدى.
5. الولي هو الأولى، وهو أيضاً الذي يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة، وتجري على وجهين:
أ. أحدهما: المعين بالنصرة.
ب. والآخر ـ المعان فمن ذلك قوله: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي معينهم بنصرته، والمؤمن ولي الله أي معان بنصرة الله.
6. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني من اتخذ الكافرين أولياء ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي ليس هو من أولياء الله الصالحين والله بريء منهم ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ فالتقية الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق فان كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقاً.
7. {تقاة} أصله وقاة فأبدلت الواو المضمومة تاء استثقالا لها، لأنهم يفرون منها إلى الهمزة تارة وإلى التاء أخرى فأما التاء فلقربها من الواو مع أنها من حروف الزيادة، وأما الهمزة فلأنها نظيرتها في الطرف الآخر من مخارج الحروف مع حسن زيادتها أولا، ووزن تقاة فعله مثل تؤدة، وتخمة وتكأة، وهي مصدر اتقى تقاة، وتقية، وتقوى، واتقاء.
8. التقية ـ عندنا(2) ـ واجبة عند الخوف على النفس وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها، روى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فقال له: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم ـ قالها ثلاثاً كل ذلك تقية ـ فتقول ذلك فضرب عنقه فبلغ ذلك، فقال: أما هذا المقتول فمضى على صدقه وتقيته وأخذ بفضله فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه فعلى هذا التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة، وظاهر أخبارنا يدل على أنها واجبة، وخلافها خطأ.
9. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ يعني إياه فوضع نفسه مكان إياه، ونفسه يعني عذابه، وأضافه إلى نفسه على وجه الاختصاص، والتحقيق كما لو حققه بصفة بأن يقول يحذركم الله المجازي لكم، وقوله: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ معناه إلى جزاء الله المصير أي المرجع.
10. ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ قيل في انتصاب يوم ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه منصوب ب (يحذركم) الله أي يحذركم نفسه يوم تجد.
ب. الثاني: بالمصير وتقديره وإلى الله المصير يوم تجد.
ج. الثالث: اذكر يوم تجد، وقوله: (ما عملت) معنى (ما) هاهنا الذي لأنه عمل فيها (تجد) وتكون في موضع نصب، ويحتمل أيضاً أن تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر، وتقديره: يوم تجد كل نفس عملها، بمعنى جزاء عملها.
11. ﴿مَا عَمِلَتْ﴾ يجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي، ويقوي ذلك قوله: ﴿تَوَدُّ﴾ بالرفع ويجوز أن يكون بمعنى الجزاء، وتود على هذا يحتمل أن يكون مفتوحاً أو مكسوراً، والرفع جائز على ضعف.
12. معنى تجد النفس عملها يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: جزاء عملها من الثواب أو العقاب.
ب. الثاني: تجد بيان عملها بما ترى من صحائف الحسنات، والسيئات.
13. حكم الآية جار على فريقين ولي الله وعدوه، فأحدها يرى حسناته، والآخر يرى سيئاته، ويحتمل أيضاً أن يكون متناولا لمن جمع بين الطاعة والمعصية، فان من جمع بينها فإنه يرى استحقاقه للعقاب على معاصيه حاصلا، فإنه يود أيضاً أنه لم يكن فعلها.
14. الأمد الغاية التي ينتهي إليها قال الطرماح:
çكل حي مستكمل عدة العمر...ومردّ إذا انقضى أمدهé
أي غاية أجله.
15. سؤال وإشكال: كيف يتصل التحذير بالرأفة؟ والجواب: قال الحسن: إن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقد بينا أن معنى قوله ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ عذابه، وفسرنا معنى رؤوف في ما مضى، وإن معناه رحيم بعباده.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/434.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. تقاة: وزنه فُعَلَة نحو تُؤَدَة وتُخَمَة، وهي مصدر اتقى يتقي تقاة وتقية وتقوى واتقاء، وأصلها وُقاة إلا أن الواو المضمومة أبدلت تاء استثقالاً لها؛ لأنهم قد يفرون منها إلى الهمزة وإلى التاء إما لقربها من الواو مع أنها من حروف الزيادة، والتقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس، وهي من وقيت الشيء أقيه، والوقاية ما يقي الشيء كأنه يقي الشيء مما يظهر.
ب. الأولياء: جمع ولي، والولاء القرب، وكل من ولي أمر أحد فهو وليه، والولي: المعتِق، والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والناصر والجار ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ناصرهم وأولى بهم، والمؤمن ولي الله أي معان؛ لأنه أولى بنصرة الله، والولاية النصرة أيضًا، والسلطان.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس وابن زيد جاؤوا إلى نفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الرحمن بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اخشوا ولاء اليهود واحذروهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن ابن عباس.
ب. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم عن ذلك، عن مقاتل.
ج. وقيل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر على رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم، عن أبي صالح عن ابن عباس.
د. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت، وكان له حلفاء من اليهود، فلما كان يوم الأحزاب قال: يا نبي الله معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فنزلت الآية، عن جويبر والضحاك عن ابن عباس.
3. لما بَيَّنَ الله تعالى أنه مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه، فنهى عن اتخاذهم أولياء، ثم بين في الآية الثانية أنه يعلم السرائر تحذيرًا لهم أن يبطنوا موالاتهم وإن أظهروا خلافه، ثم ختم الآيات ببيان قدرته على ما يشاء ليعلموا قدرته على عقابهم تحذيرًا من مخالفة أمره.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾:
أ. قيل: نهي عن موالاة الكفار، والمراد موالاتهم في الدين، ومعاونتهم على المسلمين.
ب. وقيل: نهاهم أن يلاطفوا الكفار، عن ابن عباس.
5. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني يجب أن تكون الموالاة مع المؤمنين ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني موالاة الكفر ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾:
أ. قيل: يعني ليس من ولاية الله في شيء؛ لأنه برئ الله منهم.
ب. وقيل: ليس من دين الله في شيء.
6. ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ إنما قال تقاة، ولم يقل اتقاء؛ لأن العرب إذا كان معنى الكلمتين واحدًا، واختلف ألفاظهما أخرجوا مصدر آخر اللفظين على مصدر اللفظ الآخر، يقولون: لتقيت فلانًا لقاء حسنًا، قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ والمعنى إلا أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين، فيداريهم تقية وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، وعن مجاهد: كانت التقية في ابتداء الإسلام، فأما الآن فقد أعز الله الإسلام، فليس ينبغي للمؤمن أن يتقي.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾:
أ. قيل: فيه محذوف تقديره: عذاب نفسه.
ب. وقيل: ويحذركم الله إياه.
ج. وقيل: ويحذركم الله نفسه أن تعصوه فتستحقوا عقابه، عن أبي مسلم.
8. ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ المرجع:
أ. قيل: إلى جزائه.
ب. وقيل: إلى حكمه.
9. تدل الآيات الكريمة على:
أ. النهي من موالاة الكفار، وهو تولي النصرة فيما يعود إلي باب الدين.
ب. أن المُكْرَه على ذلك في سعة، وأنه مستثنى من الوعيد، وما قاله مجاهد غير صحيح؛ لأنه مطلق عام.
ج. أنه يجوز إظهار تعظيم الظلمة اتقاء لشرهم، وجميع ذلك إنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب، ويقصد به وجهًا صحيحًا.
10. قرأ الكسائي ﴿تُقَاةً﴾ بالإمالة، وقرأ نافع وحمزة بين التفخيم والإمالة، وقرأ الباقون بالتفخيم، وهو الاختيار من أجل الحرف المستعلي وهو القاف، وإنما جازت الإمالة ليوزن أي الألف من الياء، وقراءة العامة ﴿تُقَاةً﴾ بضم التاء وتخفيف التاء، وقرأ مجاهد والحسن ويعقوب: تَقِيَّة) بفتح التاء وتشديد الياء وكسر القاف.
11. مسائل نحوية:
أ. كسرت الذال من ﴿يَتَّخِذَ﴾ لأنها مجزومة بالنهي، وحركت لالتقاء الساكنين كقولك: لا يذهبِ الرجلُ.
ب. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معنى ﴿مِنَ﴾ ابتداء الغاية على تقدير: لا تجعلوا ابتداء الولاية للكافرين دون المؤمنين.
ج. ﴿أَوْلِيَاءُ﴾ لا ينصرف؛ لأنه أفعلاء.
د. ﴿يَعْلَمَهُ﴾ جزم لأنه جواب قوله: ﴿إِنْ تُخْفُوا﴾ ومعناه يعلمه كائنا، وتصح الصفة بذلك قبل أن يكون.
هـ. ﴿وَيَعْلَمُ﴾ رفع على الاستئناف كقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ﴾ ثم قال: ﴿وَيَتُوبَ﴾ بالرفع على الاستئناف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/207.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين سبحانه أنه مالك الدنيا والآخرة، والقادر على الإعزاز والإذلال، نهى المؤمنين عن موالاة من لا إعزاز عندهم، ولا إذلال من أعدائه، ليكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين، فقال ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم، وأن يستعينوا بهم، ويلتجئوا إليهم، ويظهروا المحبة لهم، كما قال في عدة مواضع من القرآن نحو قوله ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية، وقوله: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ولا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾:
أ. قيل: معناه: يجب أن يكون الموالاة مع المؤمنين، وهذا نهي عن موالاة الكفار، ومعاونتهم على المؤمنين.
ب. وقيل: نهي عن ملاطفة الكفار، عن ابن عباس.
3. الأولياء: جمع الولي، وهو الذي يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة، ويجري على وجهين:
أ. أحدهما: المعين بالنصرة.. فقوله تعالى ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ معناه: معينهم بنصرته.
ب. والآخر: المعان.. يقال: المؤمن ولي الله أي: معان بنصرته.
4. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ معناه من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾:
أ. أي: ليس هو من أولياء الله، والله بريء منه.
ب. وقيل: ليس هو من ولاية الله تعالى في شيء.
ج. وقيل: ليس من دين الله في شيء.
5. ثم استثنى فقال ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ والمعنى إلا أن يكون الكفار غالبين، والمؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه، ومداراتهم تقية منه، ودفعا عن نفسه، من غير أن يعتقد ذلك.
6. في هذه الآية دلالة على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا(2): إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين:
أ. قال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وتكون فرضا، ويجوز أحيانا من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل، وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه، متفضلا عليه بترك اللوم عليها.
ب. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ظاهر الروايات تدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده، وروى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، ثم قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم قالها ثلاثا، كل ذلك يجيبه بمثل الأول، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه، فعلى هذا تكون التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة.
7. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ يعني إياه، فوضع نفسه مكان إياه ومعناه: ويحذركم الله عقابه على اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وعلى سائر المعاصي، وذكر نفسه لتحقيق الإضافة، كما يقال: احذر الأسد أي: صولته وافتراسه دون عينه ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ معناه: وإلى جزاء الله المرجع، وقيل: إلى حكمه.
8. قرأ يعقوب وسهل: (تقية) وهو قراءة الحسن ومجاهد، والباقون ﴿تُقَاةً﴾، وأمال الكسائي ﴿تُقَاةً﴾، وقرأ نافع وحمزة بين التفخيم والإمالة، والباقون بالتفخيم.. والأجود في ﴿تُقَاةً﴾ التفخيم من أجل الحرف المستعلي، وهو القاف، وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف منقلبة من الياء، وتقاة: وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة، فهما جميعا مصدرا اتقى تقية وتقاة واتقاء وتقوى، وأصله وقاء، إلا أن الواو المضمومة أبدلت تاء استثقالا لها، فإنهم يفرون من ضمة الواو إلى الهمزة، وإلى التاء، فأما التاء فلقربها من الواو مع أنها من حروف الزيادات، وأما الهمزة فلأنها نظيرتها في الطرف الآخر من مخارج الحروف مع حسن زيادتها أو لا، والتقية: الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب، للخوف على النفس.
9. مسائل نحوية:
أ. معنى ﴿مِنَ﴾ ابتداء الغاية من قوله ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على تقدير: لا تجعلوا ابتداء الولاية مكانا دون المؤمنين، لأن مكان المؤمن الأعلى، ومكان الكافر الأدنى، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد أن زيدا في موضع مستفل، أو أنه في موضع مرتفع، لكن جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع، والخسة كالإستفال.
ب. ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ من في ﴿مِنَ اللهِ﴾: يتعلق بمحذوف، وهو حال، والعامل فيه ما يتعلق به في، وتقديره: فليس في شيء من الله، فمن الله: في موضع الصفة لشئ، فلما تقدمه انتصب على الحال.
ج. ﴿إِنْ تَتَّقُوا﴾ في محل الجر بباء محذوف، أو في محل النصب بحذف الباء على ما مر أمثاله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/730.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن عبادة بن الصّامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين كانوا يتولّون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظّفر من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن قوما من اليهود، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس أيضا.
د. الرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودّة لكفار مكة، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، وابن حيّان.
2. قال الزّجّاج: معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان، كما تقول: زيد دونك، ولست تريد المكان، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسّة كالاستفال في المكان، ومعنى ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: فالله بريء منه.
3. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ قرأ يعقوب والمفضّل عن عاصم (تقيّة) بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدّنيا، قال أبو العالية: التّقاة باللسان لا بالعمل.
4. التّقيّة رخصة، وليست بعزيمة، قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال لا، وقال: إذا أجاب العالم تقيّة، والجاهل بجهل، فمتى يتبيّن الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في (النحل) عند قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾، إن شاء الله.
__________
(1) زاد المسير: 1/272.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في علاقة الآية الكريمة بما قبلها قولان:
أ. الأول: أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله قال: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
ب. الثاني: لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده، وعند أوليائه دون أعدائه.
2. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الرحمن بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية.
ب. الثاني: قال مقاتل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية.
ج. الثالث: أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود، ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية.
3. سؤال وإشكال: إنه تعالى قال ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ وهذه صفة الكافر، والجواب: معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين.
4. أنزل الله تعالى آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: 118]، وقوله ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾، وقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]
5. كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة، سؤال وإشكال: أليس أنه تعالى قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾؟ والجواب: هذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلًا تحت هذه الآية، لأنه تعالى قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فلا بد وأن يكون خطاباً في شيء يبقى المؤمن معه مؤمنا.
ب. ثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
ج. الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة، والمظاهرة، والنصرة إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾
6. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه، وأيضاً فقوله ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ فيه زيادة مزية، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته، والجواب: هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين.
7. إنما كسرت الذال من ﴿يَتَّخِذَ﴾ لأنها مجزوم للنهي، وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج: ولو رفع على الخبر لجاز، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً، ومعنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر، ومتى كان منهياً عن ذلك، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك.
8. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي من غير المؤمنين كقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [البقرة: 23] أي من غير الله، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه، ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملًا في معنى غير.
9. ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ وفيه حذف، والمعنى:
أ. فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر:
çتود عدوي ثم تزعم أنني...صديقك ليس النوك عنك بعازبé
ب. ويحتمل أن يكون المعنى: فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ.
10. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ قرأ الكسائي: تقاة بالإمالة، وقرأ نافع وحمزة: بين التفخيم والإمالة، والباقون بالتفخيم، وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء، وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة، ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف، قال الواحدي: تقيته تقاة، وتقى، وتقية، وتقوى، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الأتقياء، وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر، كما يقال: جلس جلسة، وركب ركبة، وقال الله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: 37] وقال الشاعر: (وبعد عطائك المائة الرتاعا)، فأجراه مجرى الإعطاء، قال ويجوز أن يجعل تقاة هاهنا مثل رماة فيكون حالًا مؤكدة.
11. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، وللتقية أحكام كثيرة، منها:
أ. الأول: أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
ب. الثاني: هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل، ودليله ما قال الحسن: أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم نعم نعم، فقال: أفتشهد أنى رسول الله؟/ قال نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة، ومحمد رسول قريش، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم، قال أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
ج. الثالث: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز ألبتة.
د. الرابع: ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
هـ. الخامس: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (حرمة مال المسلم كحرمة دمه)، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز هاهنا.
و. السادس: قال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا، وروى عوف عن الحسن: أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
12. في قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ قولان:
أ. الأول: أن فيه محذوفاً، والتقدير: ويحذركم الله عقاب نفسه، وقال أبو مسلم المعنى ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد.
ب. الثاني: أن النفس هاهنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار، أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل.
13. ثم قال ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ والمعنى: إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/192.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار فيتخذوهم أولياء، ومثله ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ وهناك يأتي بيان هذا المعنى.
2. ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي فليس من حزب الله ولا من أوليائه في شي، مثل ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وحكى سيبويه (هو مني فرسخين) أي من أصحابي ومعي.
3. ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، واختلفوا:
أ. قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم.
ب. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثما.
ج. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل.
د. وقيل: إن المؤمن إذا كان قائما بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم، ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في ﴿النَّحْلِ﴾ إن شاء الله تعالى.
4. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا تقيا وكان له حلف من اليهود، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية.
ب. وقيل: إنها نزلت في عمار بن ياسر حين تكلم ببعض ما أراد منه المشركون، على ما يأتي بيانه في [النحل]
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾:
أ. قال الزجاج: أي ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل، قال تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك.
ب. وقال غيره: المعنى ويحذركم الله عقابه، مثل ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، وقال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي مغيبي، فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون.
6. ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ أي وإلى جزاء الله المصير، وفيه إقرار بالبعث.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/58.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ﴾ فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ وقوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ الآية، وقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾
2. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في محل الحال، أي: متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا، والإشارة بقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ إلى الاتخاذ المدلول عليه بقوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ﴾ ومعنى قوله: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال.
3. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ على صيغة الخطاب بطريق الالتفات، أي: إلا أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وتقاة: مصدر واقع موقع المفعول، وأصلها: وقية، على وزن فعلة، قلبت الواو تاء والياء ألفا، وقرأ رجاء، وقتادة تقية، وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا، وخالف في ذلك قوم من السلف، فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام.
4. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي: ذاته المقدسة، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ وفي غيرها، وذهب بعض المتأخرين، إلى منع ذلك إلا مشاكلة، وقال الزجاج: معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل، قال: وأما قوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ فمعناه: تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك، وقال بعض أهل العلم: معناه: ويحذركم الله عقابه مثل: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي هذه الآية تهديد شديد، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/381.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ جمع وليّ، ومعانيه كثيرة، منها المحب والصديق والنصير، قال الزمخشريّ: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]، ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51]، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [المجادلة: 22] الآية، ـ والمحبة في الله، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان.
2. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال، أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة.
3. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأسا، وهذا أمر معقول، فإن موالاة الوليّ وموالاة عدوه متنافيان، قال:
çتود عدوّي ثم تزعم أنني...صديقك، ليس الحمق عنك بعازبé
4. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي تخافوا منهم محذورا، فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، كما قال البخاريّ عن أبي الدرداء أنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)، وأصل ﴿تُقَاةً﴾ وقية، ثم أبدلت الواو تاء، كتخمة وتهمة وقلبت الياء ألفا، وفي المحكم: تقاة يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون جمعا، والمصدر أجود، لأن في القراءة الأخرى: تقية.
5. قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾، ثم استثنى تعالى (التقية) فرخص في موالاتهم لأجلها، فتجوز معاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع، وقد قال الحاكم: في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة، اتقاء لشرهم، قال: وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب، وقال الصادق: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني، وعن الحسن: تقية باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان.
6. الموالاة، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار، لا تجوز.
7. سؤال وإشكال: قد جوّز كثير من العلماء نكاح الكافرة، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف، والجواب: المراد موالاتهم في أمر الدين، وفيما فيه تعظيم لهم.
8. في سبب نزول الآية أنه صلّى الله عليه وآله وسلم منع عبادة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش، وقد حالف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم اليهود على حرب قريش، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم، وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين، قال: وقد حالف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب، وحدّ صلّى الله عليه وآله وسلم الحلف بينه وبين خزاعة، قال الراضي بالله: وهو ظاهر عن آبائنا عليهم السلام، وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان، ولعل الجواب ـ والله أعلم ـ أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها، ويحمل على هذا استعانة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لليهود، وممنوعة مع عدم الحاجة، أو خشية مضرة منهم، وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت، فصارت الموالاة المحظورة تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين والمودة للكفار على كفرهم، ولا لبس في تحريم ذلك، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء، والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين، فظاهر كلام الزمخشريّ أنه لا يجوز إلا للتقية، فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاص، ولكن أين تبلغ معصيته؟ يحتاج إلى تفصيل: إن كانت الموالاة بمعنى الموادة، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية، وإن كانت الموالاة كفرا، كفر، وإن كانت فسقا، فسق، وإن كانت لا توجب كفرا ولا فسقا، لم يكفر ولم يفسق، وإن كانت الموالاة بمعنى المحالفة والمناصرة، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم، ويخالفونهم على ذلك، فهذا لا حرج فيه بل هو واجب، وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم، فهذه معصية بلا إشكال، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحبّ سلامة الكافرين لا لكفرهم بل ليد لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك، فهذا معصية بلا إشكال، لكن لا تبلغ حدها الكفر لأنه لم يرو أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة.
9. وقال الراضي بالله: إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال للعباس: ظاهرك علينا، وقد اعتذر بأنه خرج مكرها، وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين، ولا لإيناسه، وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم، فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر، والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق، إن قيل: فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم؟ قلنا: عاص بلا إشكال، وفاسق بلا إشكال لأنه صار من جملتهم، وفسقهم معلوم، فإن قيل: فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين؟ قلنا: صار باغيا، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم، فإن قيل: حكي عن المهديّ عليّ بن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته، قلنا: هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعيّ، وإن ساغ أن نقول ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملا.
10. من هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق) فقال ما نصه: (وزاد الحق غموضا وخفاء أمران، أحدهما: خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوّا لأكثر الخلق، وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم، وما زال الأمر في ذلك يتفاحش، وقد صرح الغزاليّ بذلك في خطبة (المقصد الأسنى) ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح (الرحمن الرحيم) فأثبت حكمة الله ورحمته، وجوّد الكلام في ذلك، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة، ولذلك طوى ذلك، وأضرب عنه في موضعه، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار، وأشار إلى التقية الجوينيّ في مقدمات (البرهان) في مسألة قدم القرآن، والرازيّ في كتابه المسمّى (بالأربعين في أصول الدين)) إلى آخر ما ساقه المرتضى فانظره.
11. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي ذاته المقدسة، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه، وموالاة أعدائه، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهيّ في القبح، وذكر النفس، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ أي المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/304.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُومِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ﴾ في القلب ولا في الخارج لقرابة أو صداقة جاهليَّة، أو طمع في مال أو جاه أو محافظة على مال، أو مصاهرة أو طلب تزوُّج أو نحو ذلك، وخوف أن تكون الدائرة على المؤمنين، والاستعانة بهم في الغزو أو غيره من أمور الدين، وجعلهم عمَّالا، وذلك مذهبنا ومذهب الشافعيَّة والمالكيَّة والحنابلة، وقالت الحنفيَّة ونسب للجمهور: إنَّه يجوز الاستعانة بهم في الغزو وسائر أمور الدين بشرط الحاجة، وأن يؤمَنَ مكرهم، وأن يكونوا أذلَّاء، والمؤمنون أعزَّة، لا أن يُجعلوا عمَّالا ويعطى لهم قليل من الغنيمة إذا غزوا، ولا يستعان بهم على البغاة الموحِّدين، ولنا أنَّه جاء عن عائشة أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خرج لبدر فتبعه مشرك ذو جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم فقال له النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم : (ارجع فلن نستعين بمشرك)، ورجع ثمَّ جاء وردَّه ولم يقبله حتَّى أسلم، وأجاب الحنفيَّة بأنَّ هذا لم يؤمَن مكرُه، أو بأنَّ هذا الحكم منسوخ باستعانته صلّى الله عليه وآله وسلم بيهود بني قينقاع ورضخ لهم، واستعان بصفوان بن أميَّة في هوازن، ويناسبه: أنَّا نتَّخذ الكفَّار عبيدا وخدما وننكح الكتابيَّات.
2. ﴿مِن دُونِ الْمُومِنِينَ﴾ لا شكَّ أنَّ اتخاذ الكافرين أولياء غير اتِّخاذ المؤمنين أولياء، فنهوا عنه، سواء أَتَّخذوا معهم المؤمنين أولياء أم لا، وأنَّ اتِّخاذهم أولياء ـ ولو مع المؤمنين ـ إبطال لموالاة المؤمنين، ولا إشكال ولا حاجة إلى دعوى أنَّ الآية في قوم والوا الكفَّار وحدهم، وممَّا يزول به الإشكال أيضًا جعل الظرف نعتا لـ (أَوْلِيَاءَ)، وذلك يفيد أنَّ الأحقَّاء بالموالاة المؤمنون، ﴿وَمن يَّفْعَلْ ذَالِكَ﴾ الاتِّخاذ، ولم يقل: (ومن يتَّخذ منهم أولياء) اختصارا واستهجانا له، ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: في شيء من ولاية الله أو من دين الله، أو من أهل الله، لأنَّهم أعداء الله، ولا تتصوَّر موالاة المتعادين في حال واحدة، ومن اتَّخذ عدوَّ الله وليًّا حُرِم ولاية الله.
3. ﴿اِلَّآ أَن تَتَّقُواْ﴾ عائد إلى (لَا يَتَّخِذ)، أي: لا يتَّخذ في حال من الأحوال إِلَّا حال أن تتَّقوا، أو بتعليل، أي: لا يتَّخذ لشيء مَا إِلَّا لأن تتَّقوا، أو [عائد] إلى: ﴿فَلَيْسَ﴾ إلخ، وهو أولى لقربه، وأولى من ذلك أنَّ الاستثناء منقطع؛ لأنَّ الاتِّقاء ليس ولاية بل مداراة، اللهمَّ إِلَّا تشبيها، ﴿مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ اتِّقاءً، أو أمرا يجب اتِّقاؤه، تداروهم وتلاينوهم للخوف منهم باللِّسان حيث كانوا غالبين مع الإنكار بالقلب، من غير أن يُحلَّ حراما أو يُحرِّم حلالا، أو يدلَّ على عورة، ومن صبر ولم يتَّق فهو أولى أجرا، ولا وجه لإنكار قوم التقيَّة اليوم إذ تقرَّر الإسلام، كان بعض المؤمنين يوادُّون اليهود باطنا كالحجَّاج بن عمرو، وكهمس بن أبي الحُقَيق، وقيس بن زيد وغيرهم من اليهود لعنهم الله، أظهروا الحبَّ لهم ليفتنوهم فنهاهم رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة أن يأمنوهم فأبوا.
4. سبب النزول: كان عبد الله بن أبيٍّ وأصحابه يوالون المشركين واليهود، ويخبرونهم بأخبار المؤمنين راجين الدائرة على المؤمنين، وكان لعبادة بن الصامت حلفاء من اليهود فقال يوم الأحزاب: (يا رسول الله، إنَّ معي خمسمائة من اليهود قد رأيت أن أستظهر بهم على العدو؟ فنزل قوله: ﴿لَا يتَّخِذِ الْمُومِنُونَ الْكَافِرِينَ﴾ الآية، وغلِط ابن حجر في إجازة القيام لأهل الذمَّة، وفي عدَّة ذلك من قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الممتحنة: 8]، إنمَّا الآية فيمن يراد جلبه إلى الإسلام أو كسر شوكته، وفيما لا يدخلون به في قلوب الناس شيئًا.
5. التاء عن واو، والأصل (وُقَيَة) قلبت الياء لفتح ما قبلها بوزن: تُخَمة وتُؤَدة بضمِّ أوَّلهما وفتح ثانيهما، وهو اسم مصدر.
6. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي: عقاب نفسه، والنفس يُشعر بالتعظيم؛ لأَنَّه لو قيل: عقاب الله لاحتمل أن يلي اللهُ العقابَ أو يجريه على يد مخلوق، فَذَكَرَ النفسَ ليكون بصورة عقاب يليه، سواء بلا واسطة أو بها، فهو عقاب عظيم استأثر الله بعلمه، وَأَيضًا قولك: عقاب يصدر من نفس الله ولو بواسطة أهول من قولك: عقاب الله، وذلك جزاء مَن خَالفَ أحكامَ الله ووالَى أعداءَه.
7. النفس: الذات، أجازه قوم مطلقًا في حقِّ الله تعالى، وقيل: لا، إِلَّا لمشاكلة نحو: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ إلخ [سورة المائدة: 116]، وأجيز عود الهاء للاتِّخاذ، وهو ضعيف، ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ للجزاء، أو إلى جزاء الله المصير.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/238.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
جاء قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعد تلك الآية التي نبه الله فيها النبي والمؤمنين إلى الالتجاء إليه معترفين أن بيده الملك والعز ومجامع الخير والسلطان المطلق في تصريف الكون يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كانت العزة والقوة له ـ عز شأنه ـ فمن الجهل والغرور أن يعتز بغيره من دونه، وأن يلتجأ إلى غير جنابه، أو يذل المؤمن في غير بابه، وقد نطقت السير بأن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام كان يقع منهم قبل الاطمئنان بالإيمان اغترار بعزة الكافرين وقوتهم وشوكتهم، فيوالونهم ويركنون إليهم، وهذا أمر طبيعي في البشر(2).
1. وذكروا في سبب نزول الآية(3) أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وقصته معروفة وقيل: إنها نزلت في ابن أبي ابن سلول (زعيم المنافقين) وقيل في جماعة من الصحابة كانوا يوالون بعض اليهود، ومهما كان السبب في نزولها فإنا نعلم أن من طبيعة الاجتماع في كل دعوة أن يوجد في المستجيبين لها القوي والضعيف، على أن مظاهر القوة والعزة تغر بعض الصادقين، وتؤثر في نفوس بعض المخلصين فما بالك بغيرهم! ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ الأولياء من الكافرين، وقد ورد بمعنى هذه الآية آيات أخرى فلا بد من تفسيرها تفسيرا تتفق به معانيها.
2. يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي أن آية آل عمران وما في معناها من النهي العام أو الخاص كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ يدل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يخالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وإن كان الخلاف أو الاتفاق لمصلحتهم، وفاتهم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان محالفا لخزاعة وهم على شركهم، بل يزعم بعض المتحمسين في الدين ـ على جهل ـ أنه لا يجوز للمسلم أن يحسن معاملة غير المسلم أو معاشرته أو يثق به في أمر من الأمور، وقد جاءتنا ونحن نكتب في هذه المسألة إحدى الصحف فرأينا في أخبارها البرقية أن الأفغانيين المتعصبين ساخطون على أميرهم أن عاشر الإنكليز في الهند وواكلهم ولبس زي الإفرنج، وأنهم عقدوا اجتماعا حكموا فيه بكفره ووجوب خلعه من الإمارة، فأرسلت الجنود لتفريق شملهم، فأمثال هؤلاء المتحمسين الجاهلين أضر الخلق بالإسلام والمسلمين، بل أبعد عن حقيقته من سائر العالمين، وماذا فهم أمثال أولئك الأفغانيين من القرآن، على عجمتهم وجهلهم بأساليبه وبعمل الصدر الأول به!
3. قال محمد عبده في تفسير الآية ما مثاله مبسوطا: الأولياء: الأنصار، والاتخاذ يفيد معنى الاصطناع، وهو عبارة عن مكاشفتهم بالأسرار الخاصة بمصلحة الدين، وقوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قيد في الاتخاذ، أي لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء وأنصارا في شيء تقدم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، أي كما فعل حاطب بن أبي بلتعة لأن في هذا اختيارا لهم وتفضيلا على المؤمنين، بل فيه إعانة للكفر على الإيمان ولو بطريق اللزوم، من شأن هذا ألا يصدر من مؤمن ولو كان فيه مصلحة خاصة له؛ لذلك همّ عمر بقتل حاطب وسماه منافقا لولا أن نهاه صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وذكره بأنه من أهل بدر.
4. إذا كان الشارع لم يحكم بكفر حاطب في موالاة المشركين التي هي موضع النهي فكيف نكفر باسم الإسلام مثل أمير الأفغان الذي لم يفعل إلا ما أباحه الله له، من أكل ولباس ومجاملة لحكومة من أهل الكتاب ـ وهم أقرب إلينا من المشركين ـ ومجاملته لها ليست موالاة لها من دون المؤمنين (أي: ضدهم كما يقول أهل العصر) وإنما هي موالاة لمصلحتهم التي تتفق مع مصلحتها، وهم أحوج إليها منها إليهم.
5. قال تعالى في آية أخرى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ الآية، فالموادة مشاركة في الأعمال، فإن كانت في شأن من شؤون المؤمنين من حيث هم مؤمنون، والكافرين من حيث هم كافرون فالممنوع منها ما يكون فيه خذلان لدينك وإيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النفي؛ لأنها ليست معاملة في محادة الله ورسوله، أي في معاداتهما ومقاومة دينهما.
6. إذا رجع المؤمن إلى سورة الممتحنة التي فصلت فيها هذه المسألة ما لم تفصل في غيرها يجد الآية الأولى ـ وقد تقدم صدرها في قصة حاطب ـ تقيد النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله وإلقاء المودة إليهم بكونهم كفروا كفرا حملهم على إخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم؛ لأنهم مؤمنون بالله، فكل شعب حربي يعامل المؤمنين مثل هذه المعاملة تحرم موالاته قطعا، ثم وصف هؤلاء الذين نهى عن موالاتهم بأنهم إن يثقفوا المؤمنين يعادوهم ويؤذوهم بأيديهم وألسنتهم ثم قال: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [6 ـ 9] فالبصير يرى أن القرآن يجعل المودة بين المؤمنين وأولئك المشركين الذين آذوا الرسول ومن آمن به أشد الإيذاء وأخرجوهم من ديارهم وبين هؤلاء المؤمنين مرجوة، وقال: إنه لا ينهاهم عن البر والقسط إلى من ليسوا كذلك من المشركين وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين أيضا، وأبعد عنهم من أهل الكتاب، ثم أكد ذلك بحصر النهي في الذين قاتلوهم في الدين؛ أي لأنهم مسلمون وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم منها، ولكنه خص هذا النهي بتوليهم ونصرهم لا بمجاملتهم وحسن معاملتهم بالبر والإحسان والعدل، وهذا منتهى الحلم والسماح بل الفضل والكمال.
7. لا تنس أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة، وكان المشركون في عنفوان طغيانهم واعتدائهم، وقد عمل صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح بهذه الوصايا فعفا عن قدرة، وحلم عن عزة وسلطة، وقال: أنتم الطلقاء وأحسن إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر، ومثله أهل للفضل والإحسان، ولقد كان للمؤمنين فيه أسوة حسنة ولكن بعد متحمسو المسلمين اليوم عن سنته وعن كتاب الله الذي تأدب هو به، اللهم اهد هؤلاء المسلمين بهداية كتابك ليكونوا بحسن عملهم حجة له بعد ما صار أكثرهم بسوء العمل حجة عليه.
8. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ فيتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين فيما يخالف مصلحتهم من حيث هم مؤمنون ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي فليس من ولاية الله في شيء قاله البيضاوي وغيره، وولاية الله من العبد طاعته ونصر دينه، ومن الله مثوبته ورضوانه، وقال محمد عبده: معنى العبارة أنه يكون بينه وبين الله غاية البعد؛ أي تنقطع صلة الإيمان بينه وبين الله تعالى؛ أي فيكون من الكافرين كما قال في آية أخرى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أو معناه فيكون عدوا لله.
9. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ استثناء من أعم الأحوال؛ أي إن ترك موالاة الكافرين على المؤمنين حتم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منه، فلكم حينئذ أن توالوهم بقدر ما يتقى به ذلك الشيء؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه الموالاة تكون صورية؛ لأنها للمؤمنين لا عليهم، والظاهر أن الاستثناء منقطع، والمعنى ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين، ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم، وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فجوازها لأجل منفعة المسلمين يكون أولى؛ وعلى هذا يجوز لحكام المسلمين أن يحالفوا الدول غير المسلمة لأجل فائدة المؤمنين بدفع الضر أو جلب المنفعة، وليس لهم أن يوالوهم في شيء يضر بالمسلمين وإن لم يكونوا من رعيتهم، وهذه الموالاة لا تختص بوقت الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.
10. استدل بعضهم بالآية على جواز التقية وهي ما يقال أو يفعل مخالفا للحق لأجل توقي الضرر، ولهم فيها تعريفات وشروط وأحكام، فقيل: إنها مشروعة للمحافظة على النفس والعرض والمال، وقيل: لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال، وقيل: إنها خاصة بحال الضعف، وقيل: بل عامة، وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقا ـ وإن أكره المؤمن وخاف القتل ـ لأن الدين لا يقدم عليه شيء، ويرد عليهم قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [106، 107] فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحا بالكفر صدرا ولا مستحسنا للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافرا، بل يعذر كما عذر عمار بن ياسر وفيه نزلت هذه الآية، وكما عذر الصحابي الذي سأله هذا السؤال فقال: (إني أصم) ثلاثا(4).
11. قصارى ما تدل عليه هذه الآية أن للمسلم أن يتقي من مضرة الكافرين، وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل ما تقدم آنفا، وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصول الدين المتبعة؛ ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن علامة المؤمن الكامل ألا يخاف في الله لومة لائم، قال تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ وقال: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في ذات الله ويصبرون.
12. أما المدارة فيما لا يهدم حقا ولا يبني باطلا فهي كياسة مستحبة، يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق ويستجز فيها الدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونا من سفههم، واتقاء لفحشهم، وفي الصحيح عن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأنا عنده ـ فقال: بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة، ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت، ثم ألنت له القول، فقال: (يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه) رواه البخاري في صحيحه، وفيه من حديث أبي الدرداء: (إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم)، وفي رواية الكشميهني: (وإن قلوبنا لتقليهم)، أي تبغضهم، ولا يجهل أحد أن إلانة القول أو الكشر في الوجوه، أي التبسم هما من أدب المجلس ينبغي بذلهما لكل جليس، ولا يعدان من النفاق ولا من الدهان، ولا ينافيان أمر الله لنبيه بالإغلاظ على الكافرين؛ لأنه ورد في مقام الأمر بالجهاد لدفع إيذائهم وحماية الدعوة وبيان حقيقتها، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس أدبا في مجلسه وحديثه.
13. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ روي عن ابن عباس أن معناه عقاب نفسه، وذكر النفس ليعلم أن الوعيد صادر منه، وهو القادر على إنفاذه إذ لا يعجزه شيء، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فلا مهرب منه، قالوا: وفيه تهديد عظيم يشعر بتناهي المنهي عنه من الموالاة في القبح.
__________
(1) تفسير المنار: 3/276.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده
(3) علق محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) على هذا بقوله: لم أر أحدا قال إن الآية التي نفسرها نزلت في قصة حاطب، فلعل ما قاله محمد عبده سهو؛ سببه أن هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين، وما نزل في قصة حاطب ـ وهو معظم سورة الممتحنة ـ يفسر لنا أو يفصل جميع الآيات التي وردت في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء؛ لأن ما في سورة الممتحنة مفصل، وهو من آخرها أو آخرها نزولا، وما عداه مجمل يبينه المفصل
(4) قال بعد هذا: ينقل عن الشيعة أن التقية عندهم أصل من أصول الدين جرى عليه الأنبياء والأئمة، وينقل عنهم في ذلك أمور متناقضة مضطربة وخرافات مستغربة، وقلما يسلم نقل المخالف من الظنة لا سيما إذا كان نقله بالمعنى، وليس في تفسيرنا هذا موضع للمناقشات والجدل في مسائل الخلاف.. وهو دليل على أن مصادره عن الشيعة كتب المخالفين
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن نبّه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء ـ أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجئ إلى غير جنابه.
2. روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعي في البشر، وروى عن ابن عباس أنه قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون (يلازمون) نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية.
3. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشئون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.
4. خلاصة هذا ـ نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين، فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها، فقد حالف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.
5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شيء، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
6. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية (أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.
7. استنبط العلماء من هذه الآية جواز التّقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقى ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال، فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه ملئ بالإيمان وفيه نزلت الآية ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة: أتشهد أنى رسول الله؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إني أصمّ (ثلاثا) فقدّمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه، وهى من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائما، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه.
8. يدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع؛ فقد أخرج الطبراني قوله صلّى الله عليه وآله وسلم (ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة)، وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة) ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة: (إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه) رواه البخاري، وروى قوله صلّى الله عليه وآله وسلم (إنا لنكشر (نبتسم) في وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم) تبغضهم.
9. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر (نفسه) الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شيء عنه، وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته، ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيجزى كلا بما عمل.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/136.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر.. وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين.
2. ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول، والأمر كله بيد الله، وهو ولي المؤمنين دون سواه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شيء ـ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ـ ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ ويَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ واللهُ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ}
3. لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله.. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾
4. هكذا.. ليس من الله في شيء، لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية.. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات.
5. ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات.. ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل، قال ابن عباس: (ليس التقاة بالعمل إنما التقاة باللسان).. فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر ـ والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا ـ كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية، فما يجوز هذا الخداع على الله!
6. ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/386.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الصلة التي ينبغي أن تقوم بين المؤمنين، هي صلة أخوة ومودة، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن.. فقد جمعهم الإسلام في نسب يعلو على نسب الدّم والجنس والوطن، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وإنه لمن قلب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين، وينحاز إلى الكفار، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته.
2. والإسلام الذي يدعو إلى الحبّ والسلام.. إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخي فيما بينهم، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغي أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس.. وفي هذا يقول الله تعالى في وصايته للمسلمين، في تحديد صلتهم بغير المسلمين: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فما بين المسلم وغير المسلم هي صلات إنسانية، فيها المودة والألفة والإحسان، إلّا أن يقع بين المسلم وغير المسلم قتال في سبيل الدين، ومن أجل الدين.. عندئذ ينبغي ألا يعطى المسلم ولاءه لمن قاتله في دينه، فذلك خيانة لدينه، فوق أنه خيانة لنفسه ولجماعة المسلمين معه.
3. في قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نهى عن أن يكون ولاء المؤمن كلّه للكافرين في الوقت الذي لا ولاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، فذلك يقطع صلته بأهل الإيمان والتقوى، على حين يدعم صلته بأهل الإلحاد والكفر، وليس يأمن مع هذا أن تنضح عليه آثار الإلحاد والكفر، وأنه كلما مضى الزمن به كلما ازداد من الإيمان بعدا، وازداد من الكفر قربا.
4. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي بعد عن الله، وقطع صلته به، إذ بعد عن المؤمنين وقطع صلته بهم، وقرب من الكفر ووثق صلته بالكافرين.
5. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ استثناء وارد على النهى عن مولاة الكافرين، وهو أنه لا بأس ـ في ظروف خاصة قد يضطر فيها الإنسان إلى أن يوالى غير المؤمنين ـ لا بأس أن يفعل الإنسان ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك لدفع مكروه محقق، عنه أو عن جماعة المسلمين، على أن يكون ذلك موقوتا بوقته، محكوما بظروفه، ينتهى متى مضى الوقت، وتغيرت الظروف، فيعود إلى ولائه الكامل للمؤمنين، فإذا قامت بينه وبين غير المؤمنين صلة، فلتكن بحساب وحذر!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/430.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ استئناف عقب به الآي المتقدمة، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم، وتولّيهم عنه من قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾إلى هنا.. فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها.
2. نهى الله المؤمنين ـ بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم ـ أن يتخذوا الكفّار أولياء من دون المؤمنين؛ لأنّ اتّخاذهم أولياء ـ بعد أن سفّه الآخرون دينهم وسفّهوا أحلامهم في اتّباعه ـ يعدّ ضعفا في الدين وتصويبا للمعتدين.
3. شاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودّات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم، وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين، وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين مثل المراد من قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]، فلذلك كله:
أ. قيل: إن الآية نزلت في (حاطب بن أبي بلتعة) وكان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين، إلا أنه تأول فكتب كتابا إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة، وقيل: نزلت في أسماء ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في برّ والدتها وصلتها، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة؛ فإنّه ثبت في الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لها: صلي أمّك.
ب. وقيل: نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولّين لكعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وهما يهوديان بيثرب، وقيل: نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود؛ إذ هم كفّار جهتهم، وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود، فلما كان يوم الأحزاب، قال عبادة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو.
ج. زقيل: نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذابا شديدا، فقال ما أرادوه منه، فكفّوا عنه، فشكا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: (كيف تجد قلبك) قال (مطمئنا بالإيمان) فقال: فإن عادوا فعد.
4. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (من) لتأكيد الظرفية، والمعنى: مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ لأنّه نفي لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال، والعرب تقول: (أنت منّي وأنا منك) في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة: لست منّي ولست منك؛ قال النابغة: (فإنّي لست منك ولست منّي)
5. ﴿فِي شَيْءٍ﴾ تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال التي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل: إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين، وممّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 144، 145]
6. قيل: لا مفهوم لقوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لأنّ آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقا، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51] ـ وقوله ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 57] وإلى هذا الوجه مال الفخر.
7. اسم الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ بمعنى ذلك المذكور، وهو مضمون قوله: ﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
8. الآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقا، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال:
أ. الأولى: أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفته، أولياء له في باطن أمره، ميلا إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالك: أنّ قائلا قال في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أين مالك بن الدّخشن)، فقال آخر: (ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله) فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا تقل ذلك أما سمعته يقول لا إله إلّا الله يبتغي بذلك وجه الله) فقال القائل: (الله ورسوله أعلم فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين)، فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلّا الله.
ب. الثانية: الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وإذا هم كما كان معظم أحوال الكفّار، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلّا أنّ ارتكبها إثم عظيم، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام، على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام، والغيرة عليه، كما قل العتابي:
çتودّ عدوّي ثم تزعم أنّني...صديقك إنّ الرأي عنك لعازبé
وفي مثلها نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 9] قال ابن عطية: كانت كفّار قريش من المستهزئين) وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة: 9] الآية وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ [آل عمران: 118] الآية نزلت في قوم كان، بينهم وبين اليهود، جوار وحلف في الجاهلية، فداوموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحقيق، وكانا يؤذيان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
ج. الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: 82]، وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلّا أنّه منهيّ عنه، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين.
د. الرابعة: موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك، في الجاسوس يتجسس للكفّار على المسلمين: إنّه يوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب لأنّ التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غرورا، ويفعله طمعا، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأبا وعادة، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفار، إذا اطّلع عليه، وقال ابن وهب ردّة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر، وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمتونيين، فيقال: إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أمير المسلمين عليا بن يوسف بن تاشفين، بكفر ابن عبّاد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه.
هـ. الخامسة: أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعرضهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدوّنة قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم لكافر تبعه يوم خروجه إلى بدر: (ارجع فلن أستعين بمشرك)، وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب: أنّ مالكا قال لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البر: وحديث (لن أستعين بمشرك) مختلف في سنده، وقال جماعة: هو منسوخ، قال عياض: حمله بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاص واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذ غير مسلم، واحتجوا أيضا بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود: (إنّا وأنتم أهل كتاب وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإمّا قاتلتم معنا وإلّا أعرتمونا السلاح)، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم: لأنّ الإذن كالطلب، ولكن إذا أخرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة: أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد: وهذا لا وجه له، وعن أصبغ المنع مطلقا بلا تأويل.
و. السادسة: أن يتّخذ واحد من المسلمين واحدا من الكافرين بعينه وليّا له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] واستأذنت أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في برّ والدتها وصلتها، وهي كافرة، فقال لها: (صلي أمّك)، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8] قيل نزلت في والدة أسماء، وقيل في طوائف من مشركي مكة: وهم كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة، وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبي، والتردّد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية.
ز. السابعة: حالة المعاملات الدنيوية: كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه.
ح. الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾
9. الاستثناء في ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا﴾ منقطع ناشئ عن جملة ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ لأنّ الاتّقاء ليس ممّا تضمنه اسم الإشارة، ولكنّه أشبه الولاية في المعاملة، والاتّقاء: تجنّب المكروه، وتعديته بحرف (من) إمّا لأنّ الاتّقاء تستّر فعديّ بمن كما يعدّى فعل تستّر، وإمّا لتضمينه معنى تخافوا.
10. ﴿تُقَاةً﴾ قرأه الجمهور: بضم المثنّاة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف، وهو اسم مصدر الاتّقاء، وأصله وقية فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعا لفعل اتّقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتّى إدغامها في تاء الافتعال، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتّجاه والتكلة والتؤدة والتخمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلّا هذا، وشذّ تراث، يدل لهذا المقصد قول الجوهري: (وقولهم تجاهك بني على قولهم اتّجه لهم رأي)، وفي (اللسان) في تخمة، (لأنّهم توهّموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال)، ويدل لذلك أيضا قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية، ونحو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: 102] وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشدّدة بوزن فعيلة.
11. فائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا: الإشارة إلى تحقّق كون الحالة حالة تقية، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يجدوا سبيلا للهجرة، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106] ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدوّ، وكذلك يجب أن تكون التّقاة غير دائمة لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري.
12. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها، وانتصاب ﴿نَفْسِهِ﴾ على نزع الخافض وأصله ويحذّركم الله من نفسه، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسد، وأصله أحذّرك من الأسد.
13. جعل التّحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعمّ في الأحوال، لأنّه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهّم أنّ لله رضا لا يضرّ معه، تعمّد مخالفة أوامره، والعرب إذا أرادت تعميم أحوال الذات علّقت الحكم بالذات: كقولهم لولا فلان لهلك فلان، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: 25] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا، وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافا إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: 116]، وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه.
14. ﴿الْمَصِيرُ﴾: هو الرجوع، وأريد به البعث بعد الموت وقد علم مثبتو البعث لا يكون إلّا إلى الله، فالتقديم في قوله: ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ لمجرد الاهتمام، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/71.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يعطى بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم إن لم يحسنوا القيام عليه؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه أنه لا يصح للمؤمن أن يستعين بسلطان غير المؤمن على المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا؛ فكأن الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة؛ أي أنه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن أن يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته؛ لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه؛ ولذا قال سبحانه: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
2. الأولياء جمع ولى، وهو من الولاء، وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال: (الولاء والتوالى: أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، والاعتقاد، والولاية (بكسر بالواو) النصرة، والولاية (بالفتح) تولى الأمر، وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدّلالة والدّلالة)، وعلى ذلك تكون كلمة ولى تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى أمر غيره.
3. الظاهر أن المراد هو من يتولى أمر غيره، فمعنى ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نهى المؤمنين عن أن يدخلوا في ولاية الكافرين وتحت سلطانهم وفي ظلهم دون ظل المؤمنين وسلطانهم؛ فإن على المؤمنين أن يكوّنوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على أن أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم؛ فالمعنى إذن أنه لا يجوز لطائفة من المؤمنين أن يكونوا في ولاية غير المؤمنين.
4. هنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ وفي قوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنه من المقررات البيانية أن اللفظ إذا أعيد معرفا بـ (أل) كان الثاني هو عين الأول، فإذا قلت: خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف بال إشارة إلى أن الثاني هو عين الأول، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
5. النهى عن تولى المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يشير إلى أن تولى المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهى معللا تعليلا صريحا؛ فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال]، ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهى عن أن يكون المؤمنون أو بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين، والذى يستفاد من هاتين الآيتين أن السبب في أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتولّوا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور:
أ. أولها: أن غير المؤمنين لا يمكن أن يرعوا حقوق المؤمنين حق الرعاية، بل لا يألونهم خبالا، وقد حققت الأيام ذلك؛ فإن المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمى يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
ب. ثانيها: أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ إذ تكون كل قوته وكل نشاطه الإنساني والاجتماعى لهم، وليس للإسلام منه شيء.
ج. ثالثها: أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أى فساد؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
6. هذا، ويجب التنبيه إلى أن تولى المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب إن تحقق السبب الموجب للبر؛ فقد قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة]
7. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما؛ لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى؛ وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى: فليس من ولاية الله في شيء، وبعضهم قال فليس من الصلة بالله في شيء.
8. سؤال وإشكال: لم حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة؟ والجواب: هو الإشارة إلى أن من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران]
9. هذا حكم الجماعة الإسلامية أو بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، وقد ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين، فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد.
10. معنى: ﴿أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر؛ وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال: ﴿أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي يكون الضرر ثابتا لا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة، و(تقاة) مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
11. هذا النص يستفاد منه أن التقية جائزة، والتقية أن يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على أن يكون نزول الأذى مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل] على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين أن يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء]
12. هذا، وإن التقية الأحادية أمر لا يعلمه إلا الله، وقد يمالئ بقلبه ولسانه رجاء رجاء كما يفعل بعض ملوك المسلمين ويدعى أنه يفعل ذلك تقية ودفعا للضرر؛ ولذا قال سبحانه محذرا هؤلاء، ومحذرا من يوالى الكفار بشكل عام: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾، والتحذير: هو التخويف لأجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر المخوف قبل وقوعه، والتحذير لا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد أنه لا مخاف، ولا ما يثير الخوف؛ وإن مقام التحذير هنا واضح بين؛ لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون أن ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم إن أمنوا الكفار ومالئوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم أن يحذروه.
13. معنى ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ قال بعض العلماء فيه: إن الكلام على حذف مضاف وهو: عقاب الله أو نقمته، وعندى أنه لا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضى الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى: احذر الأسد؛ فإنه لا يقدر: صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة.
14. عبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل: خاصمت زيدا نفسه، وغاضبت عمروا نفسه؛ وللإشارة إلى أن ما ينزله الله تعالى مغيب غير معلن الآن؛ إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة]
15. هذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمرارا؛ ولذا قال بعد ذلك: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ أي إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين؛ فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1175.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، لم يكتف سبحانه بالنهي عن موالاة الكافر، لنقول: انها محرمة، وكفى، كالكذب والغيبة، بل اعتبرها كفرا بدليل قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ فإن الظاهر منه ان الله بريء ممن يتولى الكافرين، ومن تبرأ الله منه فهو كافر، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾، وقوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾، فهذه الآيات تدل بظاهرها على ان من يتولى الكافر فهو كافر.. أجل، ان لموالاة الكافر أقساما شتى، منها ما يستوجب الكفر، ومنها لا يستوجبه.
2. كل من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم إلا في حالات، منها أن يتولى الكافرين على التفصيل التالي:
أ. أن يكون راضيا عن كفرهم، وهذا يستحيل أن يكون مسلما، لأن الرضى بالكفر كفر.
ب. أن يتقرب إلى الكافرين على حساب الدين.. فيؤوّل آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم بما يتفق مع أهواء الكفار أعداء الله والرسول، على ان يتنافى تأويله مع أصول الإسلام والعقيدة.. يفعل ذلك عن علم وعمد، وهذا كافر أيضا، سؤال وإشكال: ان الذي يفعل ذلك جاحدا للإسلام يكون كافرا بلا ريب، أما إذا فعله عن تهاون فينبغي أن يكون فاسقا، لا كافرا، تماما كمن ترك الصلاة، وهو مؤمن بوجوبها، وشرب الخمر، وهو جازم بتحريمها؟ والجواب: ان التفصيل بين المتهاون والجاحد انما يتأتى في الفروع، كالصلاة وشرب الخمر، أما فيما يعود إلى أصول الدين والعقيدة، كالوحدانية، ونبوة محمد، وما اليهما فإن النطق بإنكار شيء منها يستوجب الكفر، سواء أكان الناطق متهاونا أو جاحدا، جادا أو هازلا.
ج. أن يكون عينا وجاسوسا للكافرين على المسلمين.. وهذا ينظر في أمره، فإن فعل ذلك طمعا في المال أو الجاه فهو مجرم فاسق، وان فعله حبا بالكافرين، بما هم كافرون، وبغضا للمسلمين بما هم مسلمون فهو كافر من غير شك.
د. أن يلقي بالمودة إلى أهل الكفر، وهو على يقين انهم حرب على المسلمين، يعملون على إذلالهم واستعبادهم ونهب مقدراتهم.. وهذا مجرم آثم، وشريك للظالم في ظلمه، حتى ولو كان الظالم مسلما.
هـ. أن يستعين بالكفار المسالمين على الكفار المحاربين.. وهذه الاستعانة جائزة بالإجماع، فقد نقل أهل التاريخ والتفسير ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حالف خزاعة، مع انهم كانوا مشركين، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن، كما استعان بيهود بني قنيقاع، وخصهم بشيء من المال، بل جاء في تذكرة العلامة الحلي ان جماعة من الفقهاء أجازوا الاستعانة بالكفار على حرب أهل البغي من المسلمين، لأن الاستعانة بهم كانت لاحقاق الحق، لا لأبطال الباطل.
و. أن يصادق المسلم الكافر، لأسباب عادية، ومألوفة، كالجوار، وتلاؤم الأخلاق، والزمالة في الدرس، والمشاركة في المهنة، أو في التجارة، وما اليها مما لا يمس بالدين.. وهذه الصداقة جائزة أيضا بالإجماع، لأن مودة الكافر انما تكون حراما إذا استدعت الوقوع في الحرام، أما إذا لم تكن وسيلة للمعصية فلا تحريم، بل قد تكون راجحة إذا عادت بالنفع والخير على بلد من البلدان، أو أي انسان كان، بل ان الله سبحانه أمر بالحب والالفة والتعاون بين الناس أجمعين من غير نظر إلى دينهم وملتهم، قال سبحانه: ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، ونحن لا نشك ان في (الكافرين) من هو أحسن سيرة وأنبل خلقا ـ من حيث الصدق والأمانة والوفاء ـ، أحسن بكثير من الذين نسميهم ويسمون أنفسهم (مسلمين) وان صداقته خير للانسانية والصالح العام من العملاء الخونة الذين يتظاهرون بالدين والإسلام.. وألف صلاة وسلام على من قال: القريب من قربته الأخلاق.. رب قريب أبعد من بعيد، ورب بعيد أقرب من قريب، وهذه حقيقة يدركها الإنسان بفطرته وينساق معها بغريزته من غير شعور.
3. يبتدئ تاريخ التقية بتاريخ الإسلام يوم كان هذا الدين ضعيفا.. وبطلها الأول الصحابي الشهير عمار بن ياسر، حيث أسلم هو وأبوه وأمه، وعذبوا في سبيل الله، فاحتملوا الأذى والعذاب من غير شكاة.. مر رسول الله بآل ياسر، وهم يعذبون، فلم يزد ياسر على ان قال: الدهر هكذا يا رسول الله، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: صبرا آل ياسر، فان موعدكم الجنة، وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام.. وأكره المشركون عمارا على قول السوء في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقاله دفعا للضرر عن نفسه، فقال بعض الأصحاب: كفر عمار، فقال النبي: كلا، ان عمارا يغمره الايمان من قرنه إلى قدمه.. وجاء عمار إلى النبي، وهو يبكي نادما، فمسح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عينيه وقال له: لا تبك ان عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزل في عمار قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾)، ولم يختلف اثنان في أن هذه الآية نزلت في عمار، وبديهة ان العبرة بعموم اللفظ، لا بسبب النزول، واللفظ هنا عام يشمل كل من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ثم نزلت الآية 28 من سورة آل عمران التي نحن في صددها تؤكد آية عمار ابن ياسر، ومثلها الآية 27 من سورة المؤمن: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾، والآية 119 من سورة الانعام: ﴿إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾
4. كما جاءت الرخصة في كتاب الله بالتقية فقد جاءت أيضا في سنة رسوله، قال الرازي في تفسيره الكبير، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار، وغيرهما كثير: ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله، فقال لأحدهما: أتشهد اني رسول الله؟ قال نعم، فأطلقه، وقال للثاني: أتشهد اني رسول الله؟ فلم يشهد، فقتله، ولما بلغ رسول الله ذلك قال أما المقتول فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئا له، وأما الآخر فقبل الرخصة فلا تبعة عليه، وجاء في تفسير المنار: (ان البخاري نقل في صحيحه عن عائشة ان رجلا استأذن على رسول الله، فقال النبي: بئس ابن العشيرة، ثم اذن له، ولما دخل ألان له الرسول القول، وبعد أن خرج قالت عائشة للنبي: قلت في هذا الرجل ما قلت، ثم ألنت له القول؟ فقال: ان من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه، وفي البخاري أيضا في حديث أبي الدرداء: إنّا لنكشر ـ أي نبتسم ـ في وجوه قوم، وان قلوبنا لتلعنهم)
5. هذا، بالإضافة إلى أحاديث أخرى تدل بعمومها على جواز التقية مثل حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وحديث: (رفع عن أمتي ما اضطروا اليه)، وهذان الحديثان متواتران عند السنة والشيعة.
6. استنادا إلى كتاب الله، وسنة نبيّه المتواترة أجمع السنة والشيعة قولا واحدا على جواز التقية، قال الجصاص ـ من أئمة الحنفية ـ: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها.. وعليه جمهور أهل العلم)، ونقل الرازي في تفسيره عن الحسن البصري انه قال: (التقية جائزة إلى يوم القيامة)، وأيضا نقل عن الشافعي انه أجاز التقية وعممها للمسلم إذا خاف من المسلم لما بينهما من الاختلاف فيما يعود إلى مسائل الدين، وقال صاحب تفسير المنار عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾: (من نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، لا شارحا للكفر صدرا، ولا مستحبا للدنيا على الآخرة لا يكون كافرا، بل يعذر، كما عذر عمار بن ياسر)، وقال الشيخ مصطفى الزرقا في كتاب الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد: (التهديد بالقتل للإكراه على الكفر يبيح للشخص التظاهر به مع اطمئنان قلبه بالإيمان)، إلى غير ذلك كثير.
7. وبالاضافة إلى كتاب الله، وسنّة رسوله، واجماع المسلمين سنّة وشيعة على جواز التقية فإن العقل يحكم بها أيضا ويبررها لقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)
8. بهذا يتبين معنا ان التقية قاعدة شرعية يستند اليها المجتهد الشيعي والسني في استنباط الأحكام، وان الدليل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وعليه تكون التقية مبدأ اسلاميا عاما تؤمن به جميع المذاهب الإسلامية، وليست مذهبا خاصا بفريق دون فريق، ومذهب دون مذهب، كما يتوهم ـ الا الخوارج ـ
9. سؤال وإشكال: إذا كانت التقية جائزة كتابا وسنة وعقلا واجماعا من الشيعة والسنة فلماذا نسبت إلى الشيعة فقط، حتى ان كثيرا من شيوخ السنة شنعوا على الشيعة، ونسبوهم إلى البدعة من أجلها؟ والجواب: أما نسبتها إلى الشيعة فقط، أو اشتهار الشيعة بها فقد يكون سببه ان الشيعة اضطروا للعمل بها أكثر من غيرهم بالنظر لما لا قوه من الاضطهاد في العصر الأموي والعصر العباسي، وما تلاهما ومن أجل اضطرار الشيعة إلى الأخذ بالتقية كثيرا أو أكثر من غيرهم اهتم بها فقهاؤهم، وذكروها في مناسبات شتى في كتب الفقه، وحددوا مفهومها، وبينوا قيودها وحدودها، متى تجوز ومتى لا تجوز.. وخلاصة ما قالوه: انها تجوز لرفع الضرر عن النفس، ولا تجوز لجلب المنفعة، ولا لادخال الضرر على الغير، أما من خصّ التقية بالشيعة فقط، وشنّع بها عليهم فهو اما جاهل، واما متحامل، ومهما يكن، فلا موضوع اليوم ولا موجب للعمل بالتقية من غير فرق بين السنة والشيعة فتوى وعملا بعد أن ولّى زمن الخوف والاضطهاد.
10. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، أي ذاته التي تعلم كل شيء، وتقدر على كل شيء، وتجازي كل انسان حسب عمله، ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾، والمرجع، وهناك توفى كل نفس ما عملت.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/39.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي بالمشركين وبهم جميعا، وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم ودعوة إلى تركهم، والاتصال بحزب الله، وحب الله وطاعة رسوله.
2. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، الأولياء جمع الولي من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم وأمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم، ثم استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين في أمور الآخر لإفضائه إلى التقرب والتأثر عن إرادة المحبوب وسائر شؤونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حيوته، فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم والتأثر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحياة وتصرفهم في ذلك، ويدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فإن فيه دلالة على إيثار حبهم على حب المؤمنين، وإلقاء أزمة الحياة إليهم دون المؤمنين، وفيه الركون إليهم والاتصال بهم والانفصال عن المؤمنين.
3. تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه، ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بعد قوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾، واشتمال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ الآية، على قوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وتعقب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ الآية، بقوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إلى آخر الآيات، وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ للدلالة على سبب الحكم وعلته، وهو أن صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحياة لا يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج، وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة، وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان وآثاره ثم فساد أصله، ولذلك عقبه بقوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾، ثم عقبه أيضا بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، فاستثنى التقية فإن التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.
4. دون في قوله: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور، والمعنى: مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا، والظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك وأخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله: ﴿إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ﴾، وقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون، كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيدا أي الزمه، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي.
5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾، أي ومن يتخذهم أولياء من دون المؤمنين، وإنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به إلا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح، وهو شائع في اللسان، ولذلك أيضا لم يقل: ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.
6. من في قوله: ﴿مِنَ اللهِ﴾، للابتداء، ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾، وكما فيما حكاه عن إبراهيم عليه السلام من قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، أي من حزبي، وكيف كان فالمعنى والله أعلم: ليس من حزب الله مستقرا في شيء من الأحوال والآثار.
7. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾، الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل، والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان ومتنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
8. في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليه السلام كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
9. بالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة، والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين، ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها، وإنكار ذلك مكابرة وتعسف.
10. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾، التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾، وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾، وقال: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾، وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين، وليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية، أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن، وإنما هو الله الذي لا عاصم منه، ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي ولا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد ويؤكده تذييله أولا بقوله: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾، وثانيا بقوله: {وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ}
11. من جهة أخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية، ورفض لولاية الله سبحانه، ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المباين طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر، وأما الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون، وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.
12. بالجملة هو طغيان، وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع.
13. من هنا يظهر: أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده، ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، وهذه آية ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنها شيبته ـ على ما في الرواية ـ فإن الآيتين ـ كما هو ظاهر للمتدبر ـ ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه.
14. من هنا يظهر أيضا: أن في قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضاء حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم حائل يحول في البين، ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود: ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾
15. في قوله: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له، ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.
16. والآيات أعني قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن، وسيجيء بيانه إن شاء الله في سورة المائدة.
17. تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور:
أ. أحدها: الرخصة في التقية في الجملة.
ب. ثانيها: أن مؤاخذة تولي الكفار والتمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة، وهي من القضاء الحتم.
ج. ثالثها: أن تولي الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الأصول ككفر مانع الزكاة وتارك الصلاة ويمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولي على ما مر بيانه، وسيأتي في سورة المائدة.
18. ذكر بعض الآثار التي سبق ذكرها في التقية، وعلق عليها بقوله: الأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت حد التواتر، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/152.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا نهى عن طريقة المنافقين الذين يتخذون ﴿الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهي الموالاة الشَّنِيعَة لأن معناها: أنهم جعلوا الكافرين أخصّ بهم وعلاقتهم بهم أقوى وأدخل، فكأنهم جعلوا الكافرين في مكان أقرب إليهم يليهم والمؤمنين أبعد خلف الكافرين.
2. الحاصل: أنهم جعلوا الكافرين بينهم وبين المؤمنين، وهذا معنى ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علاقة بالكافرين وعلاقة بالمؤمنين والواقع صورة علاقة بالمؤمنين، وقد نهى الله عن هذه الطريقة وشدد فيها؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ فهو عدو لله ليس له بالله أي صلة، وفي (سورة النساء): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:144 ـ 145]
3. فائدة التأكيد في التحذير ظاهرة؛ لأن الدواعي كانت تتوفر إلى النفاق؛ لأن المسلمين كانوا قليلاً بالنظر إلى الكفار فمن لا يكون راسخ الإيمان يطمع في الاتصال بهم ليأمن على نفسه حين تنقلب الحال على ما يتوقع من سقوط دولة الإسلام، كما قال تعالى: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة:52]
4. سؤال وإشكال: موالاة الكفار حرام على كل حال، فما فائدة التقييد بقوله تعالى: ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾!؟ والجواب: فائدتها: التنبيه على أنه لا يمكن الجمع بين اتخاذ الكافرين أولياء والمؤمنين أولياء؛ لتضاد الطريقتين، لأن من كان مع الكافرين في شؤونهم المهمة فليس مع المؤمنين، وفي ذلك فائدة: تحديد المنهي عنه وتوضيحه؛ لئلا يتوهم منه تحريم الإحسان إلى من لم يقاتل المسلمين والعدل في معاملتهم، كما قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:8]، وكذلك التنبيه على أنها لا تحرم مصانعتهم لضرورة التقية، كما استثناه تعالى فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ لأنه ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] والتحذير من توليهم باسم التقية والواقع النفاق أو إظهار الولاية لمن قد قاتل في الدين لغير ضرورة التقية.
5. سؤال وإشكال: كيف صح استثناء التقية من توليهم دون المؤمنين!؟ والجواب: هو استثناء منقطع، وفائدته: التحقيق للرخصة فيما صورته توليهم دون المؤمنين للضرورة واتقاء القتل أو نحوه، وإطلاق التقية يدخل فيه التقية على النفس وعلى الولد وعلى كل من يشق على النفس مشقة عظيمة؛ فما يقال من أنه لا يجوز الكذب ولو كان فيه نجاة نبي من القتل مبالغة للتحذير من الكذب، والأقرب: أنه يجوز، أو أنه معفوٌ عنه كالنطق بكلمة الكفر لنجاة من في قتله ضرر ومشقة عظمى من سائر المؤمنين فضلاً عن الأنبياء والأئمة بدلالة هذه الآية، لأن الاتقاء عليهم اتقاء على النفس لما يلحقها من الحزن عليهم والغيظ لقتلهم، فأما الأئمة الذين في قتلهم ذلة وهوان لأتباعهم فقتلهم أضر عليهم، فالاتقاء عليهم اتقاء على النفوس التي تذل وتظلم بسبب عدم من يدفع عنهم.
6. ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ قال المنصور بالله عليه السلام في (حديقة الحكمة): (و﴿الْمَصِيرُ﴾ المنتهى.. ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/447.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآيات دعوة الجماعة الإسلامية، للارتباط العضوي بين أفرادها من موقع الإيمان الواحد، وللتأكيد على الفواصل التي تفصلهم عن الكافرين، في ميزان العلاقات الحميمة التي تعبّر عن الإخلاص والولاية، لأن العقيدة لا تعتبر رباطا فكريا يجمع أتباعها، بل تمثل ـ إلى جانب ذلك ـ رباطا روحيّا شعوريا يجمع القلوب على المحبة، ويوجهها إلى الاندماج العاطفي في علاقة روحية حميمة، ولا بد لها ـ في هذا الجو ـ من أن تتحوّل إلى حاجز يفصل الفكر والشعور عن الآخرين الذين يعيشون الفكر والشعور المضادّ، لأن اللامبالاة ـ في هذا المجال ـ توحي بأن الإنسان لا يعيش الاهتمامات الإيمانية بالمستوى المطلوب، ولا يجد للمواقف المضادة لفكره الإيماني، في كل ما يمثله الفكر من رموز الإيمان وقضاياه وتطلعاته، أيّ أثر سلبي في داخله.
2. إن الآيات ـ في ما نفهم ـ تريد أن تقرر للمؤمنين قضية ترتبط بحقيقة الإيمان، وهي أن الإيمان لا بد من أن يتحوّل إلى موقع يحكم الفكر والعاطفة والسلوك، لئلا يبقى مجرّد فكرة تعيش في زحام الأفكار الراقدة في ذهن الإنسان من دون أن تمثّل أيّ حضور وجداني في حياته الشعورية والعاطفية.
3. في ضوء ذلك، نتعلم أن الفكرة التي تتحول إلى إيمان، تعني انطلاق الشخصية الإنسانية في خطّ الفكر في إيجابياته وسلبيّاته، في مواقع اللقاء، وفي مواقع الافتراق، بحيث تتحرك النظرة إلى الأحداث والأشخاص والعلاقات، تبعا لحركة الفكرة في مسارها الواقعي، فلا معنى ـ في هذا الجو، للشعور العميق الشخصي بالمودة والموالاة للأشخاص الذين يمثّل فكرهم وشعورهم وسلوكهم التحدي المضاد للفكرة، أو للحالة النفسيّة المعقّدة سلبيا إزاء الأشخاص الذين يعيشون في حياتهم الفكرية والعاطفية والعمليّة، الخط المستقيم مع الفكرة.
4. إن المدلول الطبيعي لهذا السلوك، هو اعتبار الصفات الذاتية التي يملكها هذا الشخص في الجانب الإيجابي أو السلبي، هي الأساس للتقييم والتفضيل والاندماج بعيدا عن الجوانب الإيمانية التي لا تمثل إلّا شيئا شخصيا يعيش في زاوية ساذجة من زوايا الشخصيّة، بحيث لا تترك أيّ تأثير على طبيعتها ونوعيتها، وهذا ما يحاوله الكثيرون في هذا العصر ممن يعملون على أن يعزلوا العلاقات الإنسانية عن الجوانب العقيدية للإنسان، فيقررون المبدأ الذي يقول: إن اختلاف الأفكار والمبادئ لا يمنع من إقامة أيّة علاقة طبيعية حميمة يسودها الودّ والإخلاص، وقد عبر أحد الشعراء عن هذا الاتجاه بقوله: (اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة)، لكننا نحاول ـ في التعليق على هذا الرأي ـ التفريق بين الخلافات الفكرية التي لا تترجم خلافا في المواقف العملية، بل تعبّر عن بعض القضايا العامة والخاصّة التي تمثّل نظرة معيّنة في تفسير أو تحليل حقيقة فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو نفسية، وبين الخلافات الفكريّة التي تتصل بالجانب الروحي والفكري والعملي للإنسان، حيث تتمثل في الصراع المتحرك في جميع الاتجاهات بحيث يترك تأثيره على الفكر والشعور والممارسة، وفي التفاعل الشعوري بين الذات والفكرة، بحيث تتحول الفكرة إلى جزء حيّ من الذات يحمل معنى القداسة في ما توحي به من رموز مقدسة تحمل معنى الرفض الحاسم للرموز الأخرى، بحيث لا يمكن لها أن تلتقي في الموقع الواحد، بالإخلاص لكل الرموز، أو بالإخلاص لرموز معين مع التساهل في طبيعة الموقف من الرمز الآخر:
أ. وذلك كما هي الحالة في قضية الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، فإن الإيمان يمثل الارتباط بالله في حضور فكري وروحي خاشع عميق، بينما يمثّل الكفر النفي الحازم للفكرة، في استهانة بكلّ ما تمثله من معان وقيم، كما أن التوحيد يعني فكرة الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا بد من أن تكون العبادة له وحده، كنتيجة طبيعيّة لكون الإيمان به وحده، أمّا الشرك، فهو الذي يمثّل الإخلاص لفكرة الصنميّة في العقيدة، أو في العبادة.
ب. وهكذا في الأفكار الأخرى المشابهة في الحقول الأخرى، كفكرة العدل والظلم، أو الحريّة والعبودية، أو الاستقلال والاستعمار، فإن مثل هذه الخلافات تفرض التزاما يحمل معنى التحدي للفكر أو للواقع الذي يمثّله، والتحرك الصارخ في هذا الاتجاه، مما يقتضي أن يعيش أصحابها مستوى كبيرا من التوتر الروحي للفكرة ليتحقق لهم الارتفاع على الضغوط الكبيرة التي يواجهونها.
5. في مثل هذه الحال، لا يمكن أن تبقى العلاقات الحميمة بين الفرقاء المختلفين مع إخلاص كلّ منهم لموقعه ومواقفه والتزاماته.. أمّا الخلافات الفكريّة المجرّدة التي تعيش في نطاق الحياة العلمية للإنسان، أو في نطاق الحياة العملية البعيدة عن القضايا الأساسية لديه، فإنها لا تترك أيّ تأثير على العلاقات، لأنها لا تعيش في عمقها، بل تظل بعيدة عنها في حركتها الفكرية أو في مسارها العملي.
6. جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب حاسم يضع القضية أمام علاقة الإنسان بالله بين أن تكون أو لا تكون، من دون أن يكون هناك حلّ وسط، ممّا يعطي القضية أهميتها الكبرى في حساب الإيمان، ثم تصاعد الأسلوب في الإيحاء للإنسان، بأن عليه أن لا يسترخي فيشعر بالأمن والطمأنينة في إحسان الله إليه وترك عقوبته في الدنيا، لأنّ ذلك لا يمثل الرضا والتسامح في ما يتمرد فيه الإنسان على الله، بل يجب أن يحذر، فإن الله يحذر المنحرفين عن الخط المستقيم من نفسه، فقد يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون.
7. ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الذين عاشوا الإيمان عقيدة والتزموه عملا، وانفتحوا عليه روحا وعقلا وحركة حياة، فكان الله أحب إليهم من أنفسهم ومن كل شيء آخر الكافرين الذين جحدوا الله في وجوده وتوحيده ورسله ورسالاته واتبعوا الشيطان في خططه وحبائله ووساوسه، فكانت الحياة في وجدانهم الفرصة الأولى والأخيرة للهو وللبعث والتمرّد على الله وعلى رسوله والانحراف عن القيم الأصيلة في الإنسان الواعي، وكانت دروبهم دروب المتاهات الصحراوية التي لا تأوي إلى ظل ولا تسكن إلى واحة، أوليآء يلقون إليهم بالمودة ويمحضونهم الإخلاص، ويتبعونهم في أوامرهم ونواهيهم، ويتحركون معهم في خططهم وتعاليمهم، ويعادون من عادوا ويوالون من والوا، فيكونون طوع إرادتهم في السرّاء والضرّاء، حتى يذوبوا فيهم وفي كفرهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم، ويفضلونهم على المؤمنين، فلا ينفتحوا عليهم ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، بل لا بد لهم من تفضيل المؤمنين على غيرهم في كل الأمور، فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق الذي يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله.
8. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي يوالي الكافرين من دون المؤمنين ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ فلا علاقة بينه وبين الله في دائرة ولاية الله تعالى، فإن الله بريء منه، فلا يعتبره من أوليائه ما دام وليا لأعدائه وعدوّا لأوليائه، وتلك هي قمة السقوط والشقاء، لأن ذلك يفصله عن الأساس الذي انطلقت منه حياته، وامتد به وجوده.
9. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ وذلك بإظهار الانسجام معهم في الالتزام بما يريدونه ويفرضونه من أوامر ونواه وتعليمات وأوضاع، والإيحاء لهم بأنهم معهم في خطهم الفكري والعملي، وذلك تحت ضغط التهديد الخفيّ أو المعلن، والتعسف السلطويّ الذي يمارسونه ضدّهم في أساليب الظلم والعدوان التي يوجهها المستكبرون ضد المستضعفين، فإن الله قد رخص للمستضعفين الذين ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 98]، أن يدرسوا ظروفهم الموضوعية في عملية مقارنة بين واقعهم الضعيف وموقع الأقوياء الظالمين القوي، ليتعرفوا المواقف التي تفرض عليهم إظهار الالتزام بما يريده المستكبرون، مع الرفض لهم في العمق الخفي من شخصيتهم، حفاظا على وجودهم وعلى حريتهم في الحركة في الجوانب الأخرى، وليتعرفوا المواقع التي يملكون فيها التخفف من الضغوط والابتعاد عن مجال التعسف، واكتشاف الثغرات التي تتيح لهم مجال الهرب، ليعيشوا التزاماتهم، ويهربوا من التزامات المستكبرين، فإن الله لا يريد أن يجعل الناس المستضعفين في حرج من أمرهم ولا يفرض عليهم أن يتحملوا عناء الضغوط التي لا يتحملونها جسديا أو معنويا، فإنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.
10. في ضوء هذا، نعرف أن التقية ليست سقوطا تحت تأثير المستكبرين والتزاما بأوضاعهم وانسجاما مع انحرافاتهم، بحيث ينتقلون من الهدى إلى الضلال، بل هي عملية ظاهرية شكلية مرحلية تنطلق من المرونة العملية في مواجهة التحديات الكبرى التي تطبق على الإنسان الضعيف بحيث تتحدى وجوده أو ما يمثل المصادرة لحريته الإنسانية في وجوده، ويبقى يعيش في نفسه الرفض للظلم وأهله، وللكفر ودعاته، وللاستكبار وقادته، رفضا يثير في نفسه المواجهة النفسية العقلية التي تكبر في عقله لتعود حيّة فاعلة في حركته عندما تتبدل الظروف وتتغير المواقف والمواقع، إنها الأسلوب الواقعي العملي في حماية الموقف الكبير على مستوى الهدف على حساب الموقف الصغير في حركة الوسيلة، وهذا أسلوب إنساني عقلائي يرخص للإنسان الوقوع في المفسدة المهمّة إذا عارضتها المصلحة الأهم، على قاعدة التزاحم التي تقرر تقديم الأهم في الحسابات العملية وإسقاط المهم وتجميده في مرحلة معينة.
11. في هذا الجو، نعرف أن التقية تتحرك حيث يشتد الضغط ليصل إلى المستوى الأعلى، وتكبر المصلحة في موقع الأهمية، وتتجمد حيث تكون الأمور في مستوى عاديّ لا يمثل أيّة مشكلة كبيرة أو أيّة أهميّة عظمي، من دون فرق بين أن تكون التقيّة في العقيدة أو الشريعة أو في الموقف السياسي أو الاجتماعي أو نحو ذلك.
12. لكن الرخصة في التقية لا تعني فقدان الموقف الواضح الصريح المتحدي المنفتح على التضحية، للشرعية، فإن الله قد رخص للناس أن يأخذوا بها، كما جعل لهم الحرية في الأخذ بموقف القوة والتحدي في مواجهة الأعداء ووعدهم الثواب الكبير على ذلك، لدلالته على مدى الإخلاص لله ورسوله ولدينه في الالتزام بالقضايا الكبرى.
13. قد تمثّل التقيّة الموقف المتنوع، فقد مارسها عمار بن ياسر حين نطق بكلمة الكفر، فأنزل الله فيه ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، وفي موقف أبويه ياسر وسمية اللذين استشهدا تحت التعذيب وصبرا فكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يمر عليهما ويقول: صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة، وهكذا نجد أن الإسلام يستجيب لرغبة الإنسان المسلم بالشهادة كما يستجيب لرغبته بالحياة.
14. لا بد للإنسان المستضعف في هذا المجال من أن يدرس ـ دائما ـ في موقفه العملي بين الأخذ بالرخصة أو الاندفاع في التحدي، مصلحة الأمة أو المجتمع أو الدين، لأن التحدي قد يؤدي إلى مشاكل كبيرة وسلبيات كثيرة على المصلحة العليا، وربما كانت التقية سببا في ذلك عندما توحي بالسقوط الكبير للموقف الرسالي، وللأمة في مرحلتها الحساسة، ليراعي ذلك بشكل واع، لأن التقية تمثل الموضوع المتحرك في ساحة المصالح والمفاسد، ولا تمثل الموضوع الثابت الذي يخضع لحكم واحد وخط واحد، بل إنه يتغير بتغير الظروف والأوضاع ومستوى تأثيره على المصلحة العليا في القضايا الكبرى سلبا أو إيجابا، فإذا كان الإقدام على التحدي يؤدّي إلى إبادة للأمة أو للمعارضة أو للخط، فإن التقية هي الخيار الذي يجب على الناس أن يلتزموه، وإذا لم تكن التقية تؤدّي إلى السقوط الكبير، فإن المواجهة هي الموقف الذي يجب عليهم أن يقفوه، وإذا لم تكن المسألة بهذا المستوى، فإنهم مخيرون بين التقية والتحدي حتى الشهادة، ولا بد لولي الأمر من أن يتخذ الموقف المناسب في وعيه للواقع وتحريكه الأمة باتجاه الحركة الواعية السليمة.
15. جاء استثناء التقيّة التي تعبّر عن حالة الاضطرار التي لا يكون الانسجام فيها مع الخط عملا واقعيا، ليدلّل على أن الموالاة لا تعبّر عما في الداخل من العاطفة الحميمة، بل تتجسد في الموقف العملي الذي يتمثّل في الالتزام بالمودّة، ليكون الاستثناء، متصلا أو منقطعا، منسجما مع جوّ المستثنى منه، وفي هذا الاستثناء نعرف شرعيّة التقيّة في ظروفها الموضوعية التي يخضع لها الإنسان من خلال الضغوط الصعبة التي تشل حياته فتعرضها للخطر، من دون فرق بين أن يكون الجوّ هو جوّ الكفر أو جوّ الانحراف عن الإسلام ضمن الصيغة الإسلامية، لأن القضية هي قضية إعطاء المجال للإنسان لكي يحافظ على نفسه أو على قضيته بالأسلوب الذي يوحي للآخرين بأنّه معهم، خلافا لما يعتقد من فكر أو سلوك.
16. جاءت الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام في الحثّ على التقيّة للمحافظة على خط المعارضة للانحراف، من وجهة النظر الإسلامية التي يرونها ممثّلة للخط الإسلامي المستقيم، وذلك من خلال الضغوط الشديدة التي كان يمارسها الحكم الأموي والعباسي ضدّهم، ليمنعهم من الامتداد في مسيرتهم، وقد شنّع بعض المسلمين على الشيعة الإماميّة في ذلك، حتى نسبوا إليهم ما لم يقولوه في هذا المجال، في سعة موارد التقية وطبيعتها، ولكنهم لو بحثوا عن ذلك في كتب الشيعة التي عرضت للتقيّة بإسهاب وتحقيق، لعرفوا أين تبدأ وأين تنتهي بعيدا عن أجواء الحقد والضوضاء.
17. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ من الانحراف عن صراطه المستقيم في رفض ولاية الكافرين والالتزام بولاية المؤمنين، فلا تستهينوا بعقابه، ولا تستسلموا لإمهاله لكم وعدم الأخذ بالعقاب الفعلي، لأنه قد يمهل ولكنه لا يهمل، فإذا كان هو الرحمن الرحيم، فإنه القوي العزيز الجبار.
18. ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ وهكذا ينطلق الإيحاء باليوم الآخر الذي يرجع فيه الناس إلى الله، ليكون إيحاء بالحذر الذي يتحرك في خط الالتزام في طريق الحصول على رضا الله.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/314.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكرت الآيات السابقة أن العزّة والذلّة وجميع الخيرات بيد الله تعالى، وبهذه المناسبة فإنّ هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدّة من موالاة الكفّار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزّة والقدرة والثروة، فإنها جميعا بيد الله عزّ وجلّ، ولذلك تقول الآية: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولو ارتكب أحد المؤمنين ذلك فإنه يقطع ارتباطه مع الله تماما ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.
2. هذه الآية درس سياسيّ واجتماعيّ مهمّ للمسلمين، فتحذّرهم من اتّخاذ الأجنبيّ صديقا أو حاميا أو عونا ورفيقا، في أيّ عمل من أعمالهم، ومن الانخداع بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبّة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.
3. لو أنّنا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أنّ المستعمرين جاؤوا دائما في لبوس الصداقة والترحّم وحبّ الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع، إنّ كلمة (استعمار) التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع، فهم بعد أن يتمكنّوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمر، يبدؤون بامتصاص دمائه بكلّ قسوة وبغير رحمة.
4. ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الاجتماعية لا بدّ لهم من اتّخاذ الأولياء والأصدقاء، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين، لا من بين الكافرين.
5. ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ تقول الآية: إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله، ليسوا من الله في أيّ شيء من الأشياء، أي أنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر الله وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحّدة، وانقطعت ارتباطاتهم من جميع الجهات.
6. ﴿إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ هذا استثناء من الحكم المذكور، وهو أنّه إذا اقتضت الظروف ـ التقية ـ فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم.
7. لكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول: {يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} فالله ينذر الناس أوّلا بغضب منه وبعقاب شديد، ثمّ إنّ مرجع الناس جميعا إلى الله، وإن تولّوا أعداء الله نالوا عاجلا نتيجة أعمالهم.
8. صحيح أنّ الإنسان قد يضحّي حتّى بحياته من أجل هدف كبير ولصيانة الشرف ونصرة الحقّ وقمع الباطل، ولكن هل يجيز عاقل لنفسه أن تتعرّض للخطر دون أن يكون أمامه هدف هام؟ الإسلام يجيز الإنسان صراحة أن يمتنع عن إعلان الحقّ مؤقّتا وأن يؤدّي واجبه في الخفاء حين يعرضه ذلك لخطر في النفس والمال والعرض وحين لا يكون للإعلان نتيجه مهمّة وفائدة كبيرة، كما جاء في هذه الآية، وكما جاء في الآية 106 من سورة النحل حيث يقول: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾
9. إن كتب التاريخ والحديث الإسلامي ما زالت تحفظ حكاية (عمّار) وأبيه وأمّه إذ وقعوا في قبضة عبدة الأصنام الذين راحوا يعذّبونهم لكي يرتدّوا عن الإسلام، فرفض والدا عمّار ذلك فقتلهما المشركون، غير أنّ عمّارا قال بلسانه ما أرادوا أن يقوله، ثمّ هرع باكيا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خوفا من الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن عادوا لك فعد لهم)، أي إذا قبضوا عليك مرّة أخرى وطلبوا منك أن تقول شيئا فقله، وبهذا هدأ روعه وزال عنه خوفه.
10. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حكم التقية يختلف باختلاف الظروف، فهي قد تكون واجبة، وقد تكون حراما، وقد تكون مباحة، وتجب التقية حيثما تتعرّض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر، أمّا إذا كانت التقية سببا في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظالم فهي هنا حرام، وهذا جواب لجميع الاعتراضات التي ترد بهذا الشأن.
11. لو أنّ المعترضين دقّقوا في البحث لأدركوا أنّ الشيعة ليسوا منفردين بهذا الاعتقاد، بل إنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية، فجميع عقلاء العالم ـ حين يرون أنفسهم أمام طريقين: إمّا الإعلان عن عقيدتهم والمخاطرة بالنفس والمال والكرامة، أو إخفاء معتقداتهم ـ يمعنون النظر في الظروف القائمة، فإن كان الإعلان عن العقيدة يستحقّ كلّ هذه التضحية بالنفس والمال والكرامة اعتبروا إعلانها عملا صحيحا، وإن لم يكن للإعلان نتيجة تذكر تركوا ذلك.
12. في تاريخ النضالات الدينية والاجتماعية والسياسية حالات إذا أراد فيها المدافعون عن الحقّ أن يناضلوا علانية، فإنّهم يتعرّضون للإبادة هم ومبادؤهم أو يواجهون الخطر على الأقلّ، مثل الحالة التي مرّ بها شيعة علي عليه السّلام على عهد بني أميّة، في مثل هذه الحالة يكون الطريق الصحيح والمعقول هو أن لا يبدّدوا قواهم، وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر في الخفاء، التقية في مثل هذه الحالات أشبه بتغيير أسلوب النضال الذي يجنّبهم الفناء ويحقّق لهم النصر في الكفاح، إنّ الذين يرفضون التقية كلّية ويفتون ببطلانها لا ندري ما الذي يقترحونه في مثل هذه الحالات؟ أيرون الفناء خيرا، أم استمرار النضال بشكل صحيح ومنطقي؟ هذا الطريق الثاني هو التقية، وأمّا الطريق الأوّل فليس بمقدور أحد أن يجيزه.
13. يتضح ممّا تقدّم أن التقية هي أصل قرآني مسلّم، ولكنّها تكون مشروعة في موارد معينة ووفق ضوابط خاصّة، وما نرى من بعض الجهلاء أنّهم تصوّروا أن التقية من اختلاقات أتباع أهل البيت عليهم السّلام فهو دليل على عدم اطلاعهم على القرآن بصورة كافية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/456.
17. علم الله وأعمال العباد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈17⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 29 ـ 30]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم(1).
2. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: يعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا(2).
3. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات(3).
4. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: قد علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء(4).
5. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: قد أحاط علم الله سبحانه بالبواطن، وأحصى الظواهر(5).
6. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: كل باطن عند الله جلت آلاؤه ظاهر(6).
7. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: إن الله سبحانه عند إضمار كل مضمر، وقول كل قائل، وعمل كل عامل(7).
8. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: قسم أرزاقهم، وأحصى آثارهم وأعمالهم، وعدد أنفسهم، وخائنة أعينهم، وما تخفي صدورهم من الضمير(8).
9. روي أنّه قال في وصف الله تعالى: علمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرض السفلى وعلمه بكل شيء، لا تحيره الأصوات، ولا تشغله اللغات(9).
__________
(1) نهج البلاغة: الحكمة: 203.
(2) نهج البلاغة: الخطبة: 128.
(3) نهج البلاغة: الخطبة.
(4) نهج البلاغة: الخطبة: 86.
(5) غرر الحكم: رقم: 6677.
(6) غرر الحكم: رقم: 6890.
(7) غرر الحكم: رقم: 3447.
(8) نهج البلاغة: الخطبة: 90.
(9) حلية الأولياء: 1/73.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: إن المؤمن يوم القيامة إذا بدل الله سيئاته حسنات؛ ود أن سيئاته كانت أكثر.. قال فذكرت ذلك لمجاهد، فلم يقل: إنه ليس كما قال وقرأ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا، يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ من رأفته بهم حذرهم نفسه(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٣.
(2) ابن جرير: ٥/٣٢٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ موفرا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾ مكانا بعيدا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٣.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من التكذيب، أو تظهروه بحربه وقتاله؛ يعلمه الله، ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٤٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم خوفهم ورغبهم، فقال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، يعجل لها كل خير عملته، ولا يغادر منه شيء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، يعني: أجلا بعيدا بين المشرق والمغرب(1).
3. روي أنّه قال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ يعني: إن تسروا ما في قلوبكم من الولاية للكفار، ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ يعني: أو تظهروا ولايتهم، يعني: حاطبا وأصحابه، ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المغفرة والعذاب: ﴿قَدِيرٌ﴾، نظيرها في آخر البقرة(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ يعني: عقوبته في عمل السوء، ﴿وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يعني: بربهم، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ما تخفوا من ولاية الكفار وتبدوه ـ يعلمه الله، فيه إخبار أن في قلوبهم شيئا.
ب. ويحتمل: أن يكون أراد جميع ما يخفون ويبدون ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية.
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ قيل: تجد ثواب ما عملت من خير حاضرا؛ لأن عمله إنما كان للثواب لا لنفس العمل.
3. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ يحتمل: ما عملت من سوء تجده مكتوبا يتجاوز عنه؛ لأن الله ـ عزّ وجلّ ـ وعد المؤمنين، وأطمع لهم قبول حسناتهم، والتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: 16]؛ فيجد المؤمن ثواب ما عمل من خير حاضرا، ويتجاوز عن مساوئه، وأمّا الكافر: فيجد عقاب ما عمل من سوء في الدنيا؛ كقوله: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [الكهف: 49] فلا يتجاوز عنهم، ويبطل خيراتهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾:
أ. قيل: بعيدا من حيث لا يرى.
ب. وقيل: بعيدا تودّ: ليت أن لم يكن، ما من نفس مؤمنة ولا كافرة إلا ودّوا البعد عن ذنبه، وأنه لم يكن.
5. {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} إن أراد رأفة الآخرة ـ يعنى بالمؤمنين خاصّة، وإن أراد رأفة الدنيا ـ فهو بالكل.. والرحمة من الله ـ جلّ ثناؤه ـ والرأفة نوعان:
أ. أحدهما: في حق الابتداء، أن خلق خلقا ركب فيهم ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة؛ بل رحم وأمهل للتوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة لا يخلو عنها عبد.
ب. ورحمة في حق الجزاء؛ من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل، فهذه لا ينالها أعداؤه؛ لما يوجب التجهيل في التفريق بين الذي جعل في العقول التفريق؛ ولما يكون وضع الإحسان في غير أهله، والإكرام لمن لا يصرف الكرم به؛ ولما في الحكمة تعذيبهم تخويفا وزجرا عما يختارون، وينالها من تقرب واعتقد الموالاة، وكان هو أعظم في قلوبهم وطاعته من جميع لذّات الدارين، وإن كانوا يبلون بالمعاصي على الجهالة، أو على رجاء الرحمة والعفو؛ إذ هو كذلك في شرطهم الذي به والوه، وبالغلبة، والله أعلم، فهي رحمة خاصّة، أي: هي بالمؤمنين، وبالعباد الذين بذلوا أنفسهم له بالعبودة بحق الاختيار، وإن كانوا يغلبون على ذلك في أحوال.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/353.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، أنه لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار أولياء خوفوا من الإعلان بخلاف الاظهار في ما نهوا عنه بأن الله (تعالى) يعلم الأسرار كما يعلم الإعلان.
1. الصدر معروف، والصدر: أعلى مقدم كل شيء، والصدر: الانصراف عن الماء بعد الري، تقول: صدرت الإبل عن الماء فهي صادرة، والمصدر: الحوض الذي تصدر عنه الإبل، والتصدير: حزام الرجل لميله إلى الصدور، والصدار: شبيه بالفقيرة تلبسها المرأة لأنه قصير يغطى الصدر وما حاذاه وكذلك الصدرة، وأصل الباب الصدر المعروف.
2. ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ جزم، لأنه جواب الشرط، وان كان الله يعلمه كان أو لم يكن، ومعناه يعلمه كائناً، ولا يصح وصفه بذلك قبل أن يكون، والمعنى: وما تفعلوا من خير يجاز الله عليه، لأنه يعلمه، فلا يذهب عليه شيء منه.
3. إنما قال ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ليذكر بمعلومات الله على التفصيل بعلم الضمير وإنما رفعه على الاستئناف، وقوله: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ معناه التحذير من عقاب من لا يعجزه شيء أصلا من حيث أنه قادر على كل شيء يصح أن يكون مقدوراً له.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/436.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأمد: الأجل والغاية التي ينتهى إليها.
ب. الرأفة: الرحمة، ورَؤُفَ على وزن فعُل ورَعُف، ورؤوف على وزن فعُول، وهو ذو رأفة، ورآفَة على وزن رعافة.
2. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ ﴿إِنْ تُخْفُوا﴾ تستروا ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ تظهروه، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب، والمراد:
أ. قيل: تبدوا موالاة اليهود.
ب. وقيل: هو عام.
ج. وقيل: تخفوا أو تبدوا، يعني تخفوا من تكذيب الرسول أو تبدوه بمحاربته.
د. وقيل: أراد تخفوا من الكفر أو تبدوه.
3. ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني إذا كان لا يخفى عليه شيء من ذلك، فكيف تخفى أفعالكم؟ ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على أخذكم ومجازاتكم، حذرهم غاية التحذير من حيث علم أفعالهم، وقَدَرَ على مجازاتهم.
4. لما حذر الله تعالى عقابه فيما تقدم بين وقت العقاب فقال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ يعني يوم القيامة ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ﴾:
أ. قيل: صحائف الأعمال من الحسَنات والسيئات فكلها مكتوبة، عن أبي مسلم وجماعة، وهو اختيار القاضي.
ب. وقيل: جزاء ما عملت من الثواب والعقاب، فأما أعمالهم فهي أعراض قد بطلت، ولا يجوز عليها الإعادة، فيستحيل أن ترى محضرة، فيحمل على أحد الوجهين الذي ذكرنا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾:
أ. قيل: إنه يتصل بما قبله أي تجد الخير والشر محضرًا، وهو على الولي والعدو، فأحدهما يرى حسناته والآخر سيئاته، عن الحسن.
ب. وقيل: يعني الجملة من الناس أن منهم من يرى الصغائر والحسنات المكفرة، ومنهم من يرى السيئات والطاعات المحبطة، وكل واحد يرى حسنة وسيئة.
6. ثم استأنف: ﴿تَوَدُّ﴾ يعني المجرم، وقيل: ابتداء الكلام من قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ يعني من معصية ﴿تَوَدُّ﴾ تريد وتحب ﴿لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا﴾ وبين النفس ﴿وَبَيْنَهُ﴾ وبين السوء ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾:
أ. قيل: أي غاية بعيدة.
ب. وقيل: مكانًا بعيدًا، عن السدي.
ج. وقيل: ما بين المشرق والمغرب، عن مقاتل.
د. وقيل: تود أنه لو لم يعمله.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾:
أ. قيل: عذاب نفسه.
ب. وقيل: نفسه أي تعصوا فتستحقوا العقاب.
8. {وَاللهُ رَؤُوفٌ} عطوف ﴿بِالْعِبَادِ﴾:
أ. قيل: بالمؤمنين.
ب. وقيل: بالجميع.
9. إنما ذكر الرأفة:
أ. لأن من رأفته أن حذرهم وأنذرهم، ووعدهم وأوعدهم، وبين طريق نجاتهم ليستحقوا الثواب ويتقوا العقاب.
ب. وقيل: لرأفته لم يستأصلهم مع كفرهم وأمهلهم للتوبة، عن الأصم.
10. سؤال وإشكال: لم كرر ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾؟، والجواب:
أ. قيل: تأكيدًا وإبلاغًا في الإنذار.
ب. وقيل: الأول: تحذير للمنافقين من موالاة الكفار، والثاني تحذير للجميع بيوم القيامة.
11. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في وقوع المؤاخذة بها.
ب. أنه تعالى مختص بعلم الغيب والسرائر.
ج. إثبات المعاد، وعلى إعادة من يستحق الثواب والعقاب.
د. عظيم تمني العاصي وندمه على ما سلف.
هـ. أن الطاعة خير، وإن كانت مشقة على النفس من حيث تؤدي إلى نفع عظيم، وأن المعاصي من باب السوء وإن كانت لذة عاجلة؛ حيث كانت تؤدي إلى مضار عظيمة.
و. أن إخباره بذلك لطف للمكلفين؛ لذلك قال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ﴾ وهو {رَؤُوفٌ} فجمع بين التخويف من عقابه ووصف نفسه بالرأفة واللطف، وتدل على فساد الجبر؛ لأن الأفعال لو كانت خلقًا له لما أضافها إليهم، ولكان لا يصح تمنيهم ألا يفعلوها.
12. القراءة الظاهرة ﴿مُحْضَرًا﴾ بفتح الضاد على المفعول، كقوله: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ وعن عبيد بن عمير ﴿مُحْضَرًا﴾ بكسر الضاد من الإحضار أي يحضر الجنة،.
13. مسائل نحوية:
أ. في نصب ﴿يَوْمَ﴾ أربعة أقوال:
• الأول: يحذركم نفسه يوم.
• الثاني: بالمصير، أي: وإليه المصير يوم تجد.
• الثالث: اذكر يوم تجد.
• الرابع: بنزع حرف الصفة، أي في يوم.
ب. ﴿مَا﴾ الأولى بمعنى الذي لا غير؛ لأنه عمل فيها ﴿تَجِدُ﴾، والثانية: يصلح فيها معنى الذي، ويصلح معنى الجزاء إلا أن رفع ﴿يَوَدُّ﴾ يدل على أنهما بمعنى الذي، ولو كان بمعنى الجزاء لكان ﴿يَوَدُّ﴾ مفتوحًا أو مكسورًا، وهو جائز في العربية.
ج. ﴿مَا عَمِلَتْ﴾ في محل النصب، والعامل فيه ﴿تَجِدُ﴾، وتقديره: تجد عملها، وقيل: الواو في قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ﴾ واو العطف، عن أبي مسلم، وقيل: واو الاستئناف، عن الأصم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/210.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصدر: معروف، وهو أعلى مقدم كل شيء، والصدر: الانصراف عن الماء بعد الري، والتصدير: حسام الرجل لميله إلى الصدر، والصدار: شبيه بالبقيرة تلبسها المرأة لأنه قصير يغطي الصدر وما حاذاه.
ب. الأمد،: الغاية التي ينتهى إليها، قال النابغة:
çإلا لمثلك، أو من أنت سابقه... سبق الجواد إذا استولى على الأمدé
2. لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار أولياء، خوفوا من الابطان بخلاف الإظهار فيما نهوا عنه، فقال سبحانه ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنْ تُخْفُوا﴾ أي: إن تستروا ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ يعني ما في قلوبكم، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب، ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ أي: تظهروه ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ فلا ينفعكم إخفاؤه، وهو مع ذلك ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وإنما قال ذلك ليذكر بمعلوماته على التفصيل، فيتم التحذير، إذ كان من يعلم ما في السماوات وما في الأرض على التفصيل، يعلم الضمير، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدر على أخذكم ومجازاتكم.
3. ثم لما حذر العقاب في الآية المتقدمة، بين وقت العقاب، فقال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ في الدنيا ﴿مِنَ﴾ طاعة و﴿خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ ونظيره قوله ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾، و﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾
4. اختلف في كيفية وجود العمل محضرا:
أ. فقيل: تجد صحائف الحسنات والسيئات، عن أبي مسلم وغيره، وهو اختيار القاضي.
ب. وقيل: ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب، فأما أعمالهم فهي أعراض قد بطلت، ولا يجوز عليها الإعادة، فيستحيل أن ترى محضرة.
5. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ معناه: تجد كل نفس الذي عملته من معصية محضرا ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ﴾ أي: بين معصيتها ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾:
أ. قيل: أي: غاية بعيدة، أي: تود أنها لم تكن فعلتها.
ب. وقيل: معناه مكانا بعيدا، عن السدي.
ج. وقيل: ما بين المشرق والمغرب، عن مقاتل.
6. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ قد مر ذكره، ﴿وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي: رحيم بهم، قال الحسن: ومن تمام رأفته بهم أن حذرهم عقابه على معاصيه.
7. مسائل نحوية:
أ. ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾: جزم لأنه جواب الشرط، وإن كان الله يعلمه، كان أو لم يكن، ومعناه يعلمه كائنا، ولا يصح وصفه بذلك قبل أن يكون، ورفع ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ على الاستئناف.
ب. في انتصاب ﴿يَوْمَ﴾ وجوه أحدها: إنه منصوب بيحذركم أي: يحذركم الله نفسه يوم تجد والثاني: بالمصير تقديره: إلى الله المصير يوم تجد والثالث: اذكر يوم تجد.
ج. ﴿مَا عَلِمْتُ﴾ ما هاهنا بمعنى الذي، لأنه عمل فيه ﴿تَجِدُ﴾، فهي في موضع نصب، ويحتمل أن يكون مع ما بعدها بمعنى المصدر، وتقديره: يوم تجد كل نفس عملها بمعنى جزاء عملها.
د. ﴿مُحْضَرًا﴾: منصوب على الحال من ﴿تَجِدُ﴾ إذا جعلته من الوجدان، فإن جعلته من العلم، فهو مفعول ثان.
هـ. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ يصلح فيها معنى الذي، ويقويه قوله ﴿تَوَدُّ﴾ بالرفع، ولو كان بمعنى الجزاء لكان ﴿تَوَدُّ﴾ مفتوحا أو مكسورا، والرفع جائز على ضعف.
و. جواب ﴿لَوْ﴾ هنا محذوف، وتقدير الكلام: تود أن بينها وبينه أمدا بعيدا لو ثبت ذلك، لأن ﴿لَوْ﴾ يقتضي الفعل، ولا يدخل على الاسم، وأن مع اسمه وخبره بمنزلة مصدر، فيكون تقديره: لو ثبت أن بينها وبينه أمدا بعيدا، فيكون في ذكر فاعل الفعل المقدر بعد ﴿لَوْ﴾ دلالة على مفعول ﴿تَوَدُّ﴾ المحذوف، وفي لفظ ﴿تَوَدُّ﴾ دلالة على جواب ﴿لَوْ﴾، هذا مما سنح لي الآن، وهو واضح بحمد الله تعالى، ومنه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/732.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ قال ابن عباس: يعني من اتّخاذ الكافرين أولياء.
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ قال الزّجّاج: نصب (اليوم) بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ في ذلك اليوم، قال ابن الأنباريّ: يجوز أن يكون متعلّقا بالمصير، والتقدير: وإلى الله المصير يوم تجد، ويجوز أن يكون متعلّقا بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد.
3. في كيفية وجود العمل وجهان:
أ. أحدهما: وجوده مكتوبا في الكتاب.
ب. الثاني: وجود الجزاء عليه.
4. الأمد: الغاية، قال الطّرمّاح:
çكلّ حي مستكمل عدة العم...ر ومود إذا انقضى أمدهé
يريد: غاية أجله.
__________
(1) زاد المسير: 1/273.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه.
2. سؤال وإشكال: هذه الآية جملة شرطية فقوله: ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ شرط وقوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى، والجواب: أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
3. سؤال وإشكال: محل البواعث والضمائر هو القلب، فلم قال: ﴿إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم؟ والجواب: لأن القلب في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال: ﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: 5] وقال: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]
4. سؤال وإشكال: إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق؟ والجواب: ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله ﴿لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾ [البقرة: 284]
5. ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، رفع على الاستئناف، وهو كقوله ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ﴾ [التوبة: 14] جزم الأفاعيل، ثم قال: ﴿وَيَتُوبَ اللهُ﴾ فرفع، ومثله قوله: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ﴾ [الشورى: 24] رفعاً.
6. في قوله: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفي عليه شيء فيهما فكيف يخفي عليه الضمير.
7. ثم قال تعالى: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إتماماً للتحذير، وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه، وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب، ثم بين أنه قادر على جميع المقدورات، فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
8. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ هذه الآية من باب الترغيب والترهيب، ومن تمام الكلام الذي تقدم، وذكروا في العامل في قوله ﴿يَوْمَ﴾ وجوهاً:
أ. الأول: قال ابن الأنباري: اليوم متعلق بالمصير والتقدير: وإلى الله المصير يوم تجد.
ب. الثاني: العامل فيه قوله ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ في الآية السابقة، كأنه قال ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم.
ج. الثالث: العامل فيه قوله ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وخص هذا اليوم بالذكر، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلًا له لعظم شأنه كقوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]
د. الرابع: أن العامل فيه قوله ﴿تَوَدُّ﴾ والمعنى: تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم.
هـ. الخامس: يجوز أن يكون منتصباً بمضمر، والتقدير: واذكر يوم تجد كل نفس.
9. العمل لا يبقى، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين:
أ. الأول: أنه يجد صحائف الأعمال، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29] وقال: ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: 6]
ب. الثاني: أنه يجد جزاء الأعمال.
10. قوله تعالى: ﴿مُحْضَرًا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة.
ب. ويحتمل أن يكون المعنى: أن جزاء العمل يكون محضراً، كقوله ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [الكهف: 49] وعلى كلا الوجهين، فالترغيب والترهيب حاصلان.
11. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ قال الواحدي: الأظهر أن يجعل ﴿مَا﴾ هاهنا بمنزلة الذي، ويكون ﴿عَمِلَتْ﴾ صلة لها، ويكون معطوفاً على ﴿مَا﴾ الأول، ولا يجوز أن تكون ﴿مَا﴾ شرطية، وإلا كان يلزم أن ينصب ﴿تَوَدُّ﴾ أو يخفضه، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع، فكان هذا دليلًا على أن ﴿مَا﴾ هاهنا بمعنى الذي، سؤال وإشكال: فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله، ودت، والجواب: لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة.
12. في الواو في قوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: الواو واو العطف، والتقدير: تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء، وأما قوله ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ ففيه وجهان:
• الأول: أنه صفة للسوء، والتقدير: وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه.
• الثاني: أن يكون حالًا، والتقدير: يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها.
ب. الثاني: أن الواو للاستئناف، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلًا على القطع بوعيد المذنبين، وموضع الكرم واللطف هذا، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد.
13. الأمد، الغاية التي ينتهي إليها، ونظيره قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ [الزخرف: 38]، والمراد من هذا التمني معلوم، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان، إذ المقصود تمني بعده.
14. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ هو لتأكيد الوعيد، ثم قال: {وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} وفيه وجوه:
أ. الأول: أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يهمل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه، قال الحسن: ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه.
ب. الثاني: أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي.
ج. الثالث: أنه لما قال ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ وهو للوعيد أتبعه بقوله ﴿وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته، غالب على وعيده وسخطه.
د. الرابع: وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63] وقال تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ﴾ [الإنسان: 6] فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال: {وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} أي كما هو منتقم من الفساق، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/195.
ابن حمزة:
ذكر الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
5. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه؛ معناه: ويحذركم الله عذاب نفسه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/154.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شي، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة.
2. ﴿يَوْمَ﴾ منصوب متصل بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾،﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾، وقيل: هو متصل بقوله: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾، وقيل: هو متصل بقوله: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ﴾ ويجوز أن يكون منقطعا على إضمار اذكر، ومثله قوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾
3. ﴿مُحْضَرًا﴾ حال من الضمير المحذوف من صلة ﴿مَا﴾ تقديره يوم تجد كل نفس، ما عملته من خير محضرا، هذا على أن يكون ﴿تَجِدُ﴾ من وجدان الضالة، و﴿مَا﴾ من قوله ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ عطف على ﴿مَا﴾ الأولى، و﴿تَوَدُّ﴾ في موضع الحال من ﴿مَا﴾ الثانية، وإن جعلت ﴿تَجِدُ﴾ بمعنى تعلم كان ﴿مُحْضَرًا﴾ المفعول الثاني، وكذلك تكون ﴿تَوَدُّ﴾ في موضع المفعول الثاني، تقديره يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ الثانية رفعا بالابتداء، و﴿تَوَدُّ﴾ في موضع رفع على أنه خبر الابتداء، ولا يصح أن تكون ﴿مَا﴾ بمعنى الجزاء، لأن ﴿تَوَدُّ﴾ مرفوع، ولو كان ماضيا لجاز أن يكون جزاء، وكان يكون معنى الكلام: وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، أي كما بين المشرق والمغرب، ولا يكون المستقبل إذا جعلت ﴿مَا﴾ للشرط إلا مجزوما، إلا أن تحمله على تقدير حذف الفاء، على تقدير: وما عملت من سوء فهي تود، أبو علي: هو قياس قول الفراء عندي، لأنه قال في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الانعام]: إنه على حذف الفاء.
الأمد: الغاية، وجمعه آماد، ويقال: استولى على الأمد، أي غلب سابقا.. والأمد: الغضب، يقال: أمد أمدا، إذا غضب غضبا.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/59.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ الآية، فيه أن كل ما يضمره العبد ويخفيه، أو يظهره ويبديه، فهو معلوم لله سبحانه، لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك.
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ منصوب بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ وقيل: بمحذوف، أي: اذكر، و﴿مُحْضَرًا﴾ حال، وقوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ معطوف على ما الأولى، أي: وتجد ما عملت من سوء محضرا تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، فحذف محضرا لدلالة الأول عليه، وهذا إذا كان ﴿تَجِدُ﴾ من وجدان الضالة، وأما إذا كان من: وجد، بمعنى: علم، كان محضرا هو المفعول الثاني.
3. يجوز أن يكون قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ جملة مستأنفة، ويكون ﴿مَا﴾ في: ما عملت، مبتدأ، ويودّ خبره، والأمد: الغاية، وجمعه آماد، أي: تودّ لو أن بينها وبين ما عملت من السوء أمدا بعيدا؛ وقيل: إن قوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ منصوب بقوله: ﴿تَوَدُّ﴾ والضمير في قوله: ﴿وَبَيْنَهُ﴾ لليوم، وفيه بعد.
4. كرر قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم، وفي قوله: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفا بهم، وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/382.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا توعد، وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم وإظهارها، أو تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، أو الكفر.
2. في هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ بصور تناسبه، أو في صحف الملائكة، أو المعنى جزاء ما عملت {و} تجد {ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ} أي عملها السوء ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾ أي غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر، و(تود) في موضع الحال، والتقدير: وتجد ما عملت من سوء محضرا، وادّة ذلك ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ كرره ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه كذا في الكشاف، وقال أبو السعود: تكرير لما سبق وإعادة له، لكن لا للتأكيد فقط، بل لإفادة ما يفيده قوله عزّ وجلّ: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم، ورحمته الواسعة، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه، وأن تحذيره ليس مبنيّا على تناسي صفة الرأفة، بل هو متحقق مع تحققها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/307.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ ان تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُم﴾ من موالاتهم وغيرها، ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ ذكرهما إشعارا بأنَّ ما في الصدور وما في الخارج سواء في علمه تعالى، ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ فلا يفوت جزاؤه، وصداقة عدوِّ الله عداوة الله، قيل:
çتودُّ عدوِّي، ثمَّ تزعم أنَّني...صديقك ليس النُّوك عنك بعازبé
و(النوك): الحمق، و(عازب) بعيد غائب، وقيل:
çإذا والى صديقك من تُعادِي...فقد عاداك وانقطع الكلامé
والأصدقاء ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدوُّ عدوِّك، والأعداء ثلاثة: عدوُّك، وعدوُّ صديقك، وصديق عدوِّك، والأشياء إمَّا خير لا شرَّ فيه، وإمَّا ما غلب خيره شرَّه، وإمَّا شرٌّ لا خير فيه، وإمَّا ما غلب شرُّه خيرَه، وإمَّا ما تساوى فيه الشرُّ والخير، والموجود في الخارج الأوَّلان، والمبدأ الفيَّاض جواد، وفيضانه لحكمة، والحكمة تقتضي الخير المحض والخير الغالب، والشرُّ فيه مغمور.
2. ﴿وَيَعْلَمُ﴾ عطف على مجموع (إِن تُخْفُوا)، أو حال، أي: وهو يعلم، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ﴾ وما في غيرهنَّ على حدِّ ما مرَّ، فلا يفوته عقاب عاص، كما لا يفوته ثواب مطيع، ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيعذِّب من والى الكفَّار.
3. ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ اذكُرْ وقتَ تلقى أو تعلم، والأوَّل الراجح، ولا يتعلَّق بـ (مَصِير) لبعده، أو بـ (قَدِيرٌ) لإيهامه العجز في غير ذلك اليوم، ولو جاز لظهور قدرته عَلَى العموم، ولأنَّه إذا قدر ذلك اليوم فغير اليوم أولى، ولا بـ (تَوَدُّ) لأنَّ للموصول والشرط والموصوف الصدر لا تعمل أخبارهنَّ فيما قبلهنَّ، ويجوز نصبه بـ (يُحَذِّرُكُم) محذوفا على المفعوليَّة.
4. ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ﴾ عبادة الله، ﴿مُحْضَرًا﴾ يبيَّن لها، فتذكر ما نسيت منه وتفرح به.
5. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ معصية، (مَا) مبتدأ خبره الجملة بعده عَلَى أنَّ هاء (بَيْنَهُ) لـ (مَا)، ﴿تَوَدُّ لَوَ اَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا﴾ مدَّة أو طرف النهاية الذي ليس بعده جزء، والمراد: مدَّة طويلة أو العمر، أو سير ما بين المشرق والمغرب وهو المسافة، وهو أنسب بقوله تعالى: ﴿يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ [الزخرف: 38]
6. (أنَّ) وما بعدها في تأويل مصدرٍ فاعلٌ لمحذوف، أي: لو ثبت ثبوت أمد بعيد بينه وبينها، و(تَوَدُّ): تحبُّ، ومفعوله محذوف، أي: تودُّ البعد، و(لَوْ) للتمنِّي على تقدير القول، أي: قائلة: لو أنَّ بينها، أو يضمَّن (تَوَدُّ) معنى القول، ﴿بَعِيدًا﴾ كما بين المشرق والمغرب، كقوله تعالى: ﴿يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾، و(مَا) موصولة أو موصوفة أو شرطيَّة، ولو رفع جوابها على ما قاله ابن مالك؛ لأنَّ الشرط ماضٍ، ولك عطف (مَا) على (مَا) فيقدَّر (مُحْضَرًا) معطوفا على (مُحْضَرًا) عطف معمولين على معمولي عامل، وهذا متعيِّن إذا رجَّعنا الهاء لليوم، تودُّ أن يبعد عنها بَعد وقوعه لِمَا رأت من شرٍّ سبَب لشِقوتها، فلا يقال: كيف تتمنَّى أن يبعد مع أنَّ فيه خيرا أيضًا.
7. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ تأكيد للأوَّل، وليكون على بال لا يغفل عنه، أو لكون الأوَّل منعا من موالاة الكفرة، والثاني حثًّا على عمل الخير وترك الشرِّ، وليقرنه بالرأفة فيفيد أنَّ رأفته لا تمنع عذابه، وعذابه لا يمنع رأفته، وهما متحقِّقان معًا كما قاله، وقال مُتَّصِلاً به: ﴿وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ فإنَّما نهاهم وحذَّرهم العقاب رأفة بهم ومراعاة لمصالحهم، كما قال الحسن: (رأفته بهم أَن حذَّرهم نفسه)، ويجوز أن يكون المراد الترجية في الرحمة بالتوبة فلا ييأسوا بقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبـَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ اَلِيمٍ﴾ [فصلت: 43]، ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ [غافر: 3]
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/240.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ المراد بما في الصدور: ما في القلوب من الانشراح والميل للكفر أو الكره له والنفور منه، فهو كقوله تعالى في الآية التي ذكرت آنفا: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾.. أي أنه ـ سبحانه ـ يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم وما تختلج به قلوبكم إذ توالون الكافرين أو توادونهم وإذ تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك بميل إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جناية فيه على دينكم ولا إيذاء لأهله، فهو يجازيكم على حسب علمه المحيط بما في السماوات والأرض؛ لأنه الخالق لما في السماوات والأرض ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ وهذا كالدليل على علمه بما في صدورهم؛ لأنه عام ودليله ظاهر في النظام العام والله على كل شيء قدير فلا يمكن أن يتفلت من قدرته أحد ولا يعجزه شيء، وهذا كالشرح لقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ قال محمد عبده ما معناه: الكلام تتمة لوعيد من يوالي الكافرين ناصرا إياهم على المؤمنين، والمعنى: اتقوا واحذروا أو لتحذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قل محضرا، ولا يجوز تقدير (اذكر) متعلقا لقوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ كما فعل الجلال، ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لديه، وأما عمل السوء فتود كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره وتؤخذ بجزائه، وهذا يدل على أن عمل الشر يكون محضرا أيضا، ولكنه عبر عنه بما ذكر ليدل على أن إحضاره مؤذ لصاحبه يود لو لم يكن؛ أي ومنه يعلم أن إحضار عمل الخير يكون غبطة لصاحبه وسرورا، وقال الأستاذ: إن هذا التعبير ضرب من التمثيل كالآيات التي فيها ذكر كتب الأعمال وأخذها بالأيمان والشمائل، فإن الغرض من التعبير بأخذها باليمين أخذها بالقبول الحسن، ومن أخذها بالشمال أو من وراء الظهر أخذها مع الكراهة والامتعاض.
3. وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين، وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها، وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا، حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين، حيث كتاب الأبرار، وهبطت بالمسيء إلى سجين، حيث كتاب الفجار.
4. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ فإنه من ورائكم محيط، وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم، أفلا يجب عليكم ـ والأمر كذلك ـ أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفطرة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه ـ سبحانه ـ مما غلبتم عليه في الماضي والله رءوف بالعباد ومن رأفته أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير، وتتألم مما يعرض لها من الشر، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى، لعله يتذكر أو يخشى.
5. من مباحث اللفظ في الآية: دخول الحرف المصدري على مثله في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَن﴾ قال محمد عبده: وهو معروف في الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة إلى جعل الأصل فيه المنع وتأويل ما سمع منه.
6. اختلف في تفسير الأمد فقيل: الغاية، وقيل: الأجل، وقيل: المكان، وقال الراغب: الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة من الزمان ليس لها حد محدود ولا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية؛ ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان.
__________
(1) تفسير المنار: 3/283.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادّونهم أو تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض، لأنه الخالق لها كما قال: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه، إذ ما من معصية خفيّة كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها.
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها، فيكون ذلك غبطة وسرورا لها، وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته، ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها.
3. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
4. {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه.. ومن رأفته أيضا أن جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/139.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهو إمعان في التحذير والتهديد، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة!
2. ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب؛ الذي لا يند فيه عمل ولا نية؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء، وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود ـ ولكن لات حين مودة! ـ لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدا بعيدا، أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدا بعيدا، بينما هو في مواجهته، آخذ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار!
3. ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه ـ سبحانه ـ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان: {وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ}، ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير، وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد.
4. تشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات، بما كان واقعا في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود، تحت دوافع القرابة أو التجارة.. على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة.. الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا، كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه.
5. الإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه، ولو كان على غير دينه.. ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى، الولاء ارتباط وتناصر وتواد، وهذا لا يكون ـ في قلب يؤمن بالله حقا ـ إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/387.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر القرآن الكريم التحذير من موالاة الكافرين، وأباح ذلك في أحوال وظروف خاصة ـ أشار هنا إلى أن المعتبر في هذا الموقف هو ما انعقد عليه قلب المؤمن من إيمان، وهو في تلك التجربة التي اضطرته الظروف فيها إلى مولاة الكافرين.. فقد أباح الإسلام (التقيّة) وهى أن يتقى المسلم أذى المشركين بكلمة أو فعل، ليدفع عنه أذاهم، دون أن يدخل من ذلك شيء على قلبه وما انعقد عليه من إيمان، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ الظرف هنا (يوم) منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكروا، واحذروا، فذكر هذا اليوم، وما يلقى فيه الناس جزاء أعمالهم من خير أو شر ـ يخفف عن الإنسان كثيرا من ضواغط الحياة ومغرياتها، التي تحمله على التضحية بشيء من دينه في مقابل كسب مادى عاجل، أو قضاء شهوة عارضة زائلة.
3. في قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ تنبيه لأولئك الذين يتألّون على الله، ويمنّون أنفسهم الأماني بالطمع في رحمته وغفرانه، وهم قائمون على عصيانه، ومحاربته، واستباحة حرماته، والاستخفاف بأوامره.. فهذا من الضلال الذي يفسد على المرء دينه ودنياه جميعا.. إذ لا يتفق عصيان الله، والتمرد على شريعته، مع موالاته والطمع في رضاه.
4. نعم.. إن رحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، ولكن لأهل طاعته، والمتجهين إليه.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾
5. في قوله تعالى: {وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} بعد قوله سبحانه ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ استصحاب لرحمة الله ولطفه بعباده الواقعين تحت بأسه وعذابه، وذلك مما يطمع المذنبين في عفو الله ومغفرته، فيرجعون إليه ويمدون أيديهم بالتوبة له، فيجدونه ربّا رحيما غفورا، أما الطمع في رحمة الله دون استصحاب العمل على مرضاته، بالنزوع عن مقاربة المنكرات ـ فذلك مكر بالله ﴿وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/432.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله، وهو إشعار المحذّر باطّلاع الله على ما يخفونه من الأمر.
2. ذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر: جريا على معروف اللغة من إضافة الخواطر النفسية إلى الصدر والقلب، لأنّ الانفعالات النفسانية وتردّدات التفكّر ونوايا النفوس كلّها يشعر لها بحركات في الصدور، وزاد ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ فأفاد تعميم العلم تعليما لهم بسعة علم الله تعالى لأنّ مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح.
3. جملة ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معطوفة على جملة الشرط فهي معمولة لفعل قل، وليست معطوفة على جواب الشرط: لأنّ علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقا غير معلّق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجملة من التعميم يجعلها في قوة التذييل.
4. ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إعلام بأنّه مع العلم ذو قدرة على كلّ شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدّد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلّا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أنّ الله لا يفلتهم من عقابه.
5. إظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير: لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل، والجملة لها معنى التذييل، والخطاب للمؤمنين تبعا لقوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 28] الآية.
6. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} جملة مستأنفة:
أ. أصل نظم الكلام فيها: تودّ كل نفس لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا يوم تجد ما عملت من خير محضرا، فقدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان، إذا كانت هي المقصود من الكلام، قضاء لحق الإيجاز بنسج بديع، ذلك أنّه إذا كان اسم الزمان هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وكان مع ذلك ظرفا لشيء من علائقه، جيء به منصوبا على الظرفية، وجعل معنى بعض ما يحصل منه مصوغا في صيغة فعل عامل في ذلك الظرف.
ب. أو أصل الكلام: يحضر لكلّ نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء، فتودّ في ذلك اليوم لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمدا بعيدا، أي زمانا متأخّرا، وأنّه لم يحضر ذلك اليوم، فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملت من سوء، فحوّل التركيب، وجعل (تودّ) هو الناصب ليوم، ليستغنى بكونه ظرفا عن كونه فاعلا.
ج. أو يكون أصل الكلام: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شرّ محضرا، تودّ لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم أمدا بعيدا؛ ليكون ضمير بينه عائدا إلى يوم أي تودّ أنّه تأخّر ولم يحضر كقوله: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: 10] وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس.
çويوما على ظهر الكثيب تعذّرت...عليّ وآلت حلفة لم تحلّلé
فإنّ مقصده ما حصل في اليوم، ولكنّه جعل الاهتمام بنفس اليوم، لأنّه ظرفه، ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأنّ الظرف والمجرور يشبهان الروابط، فالجملة المفصولة إذا صدّرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها، كما في هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: 35] ونحوهما، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في (الكشاف)، وقيل منصوب باذكر، وقيل متعلق بقوله: ﴿الْمَصِيرُ﴾ وفيه بعد لطول الفصل، وقيل بقوله: (ويحذّركم) وهو بعيد، لأنّ التحذير حاصل من وقت نزول الآية، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام، فعلى الوجه الأول قوله تودّ هو مبدأ الاستئناف، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عملت من سوء.
7. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ يجوز أن كون تكريرا للتحذير الأول لزيادة التأكيد كقول لبيد:
çفتنازعا سبطا يطير ظلاله...كدخان مشعلة يشبّ ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج...كدخان نار ساطع أسنامهاé
ويجوز أن يكون الأول تحذيرا من موالاة الكافرين، والثاني تحذيرا من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرا.
8. الخطاب للمؤمنين ولذلك سمّى الموعظة تحذيرا، لأنّ المحذّر لا يكون متلبّسا بالوقوع في الخطر، فإنّ التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالا بعد الوقوع وذيّله هنا بقوله: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} للتذكير بأنّ هذا التحذير لمصلحة المحذّرين.
9. التعريف في العباد للاستغراق، لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ الناس مسلمهم وكافرهم: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر: 45] ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ [الشورى: 19] وما وعيدهم إلّا لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلّا لصدق كلماته، وانتظام حكمته سبحانه، ولك أن تجعل (أل) عوضا عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/77.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ كان التحذير والتخويف من الله سبحانه وتعالى، وقد أمر سبحانه نبيه بأن يبين لهم مقدار علمه بخفايا نفوسهم، وعلمه بالكون وما فيه، فقال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي أن علمه سبحانه وتعالى يعم الظاهر والباطن، وإن كون الأمر ظاهرا أو باطنا إنما هو بالنسبة لنا، أما علم الله تعالى فإنه ليس فيه ظاهر وباطن، بل العلم كله سواء بالنسبة له سبحانه وتعالى.
2. سيق إثبات علم الله تعالى وإحاطته الشاملة في هذا المقام، لمقام التحذير أيضا؛ لأن الذين يوالون الكافرين يظنون في أنفسهم ضعفا وقد يظهرون أن ما يفعلون إنما هو تقية وخوف من الكافرين، والواقع أنهم يفعلون ذلك استخذاء وذلة، أو تملقا للأقوياء أو مداهنة لهم على أقوامهم، أو رجاء غرض دنيوي ينالونه، كما نرى في عصرنا الحاضر، إذ نجد ناسا يبررون كل خيانة قومية ودينية، والدخول في ولاية غير المؤمنين بالتقية وحال الضعف، وما هو إلا ضعف وازع الدين وفقد اليقين، ورجاء الدنيا الذليلة، وفرار من العزة والحياة السامية الكريمة حقا وصدقا؛ فأمر الله نبيه أن يبين أنه يعلم ما تخفيه الصدور، وما تختلج به القلوب، وما ينوون وما يقصدون، كما يعلم ما يبدون ويعلنون، وأن الله سبحانه محاسبهم على أعمالهم بنياتهم، لا بظواهر هذه الأعمال، ولا بما تتلوى به الألسنة، وإن كانت مخالفة لما تطويه القلوب.
3. جعل البيان من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بعد أن وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية؛ لأن ذلك التنويع من شأنه أن يربى المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا: أحذركم مخالفتي، ثم يتركه لصفىّ من أصفيائه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
4. ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بيّن في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجرى فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شيء في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته؛ إنه فعال لما يريد؛ فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه؟ فإن كانت الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السموات والأرض.
5. ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم؛ لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم، ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم: (هذا بيان لقوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ لأن نفسه، وهى ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى، فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك)
6. بين سبحانه وقت تنفيذ عقوبته المؤكدة، وهو يوم القيامة، فقال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} المعنى الجملي للنص الكريم: خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وأرجو ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأى العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رئي بالحس والبصر، وتود كل نفس أن لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى أن يتأخر ويؤجل؛ ليكون عنده أطول فسحة من الأمان.
7. ذكر العلماء ثلاثة توجيهات لمتعلق ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾:
أ. أولها ذكره الزمخشري أنه متعلق بـ (تود) والمعنى: تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت أن تجد كل ما عملت محضرا من خير أو سوء، وهذا يؤدى إلى أن من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، مع من عملت سوءا، مع أن رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لا تمنى التأجيل؛ ولهذا لا نوافق عليه.
ب. الثاني: أنه متعلق بقوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجيء جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل؛ ف الأول من قول الله تعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بأمر الله ولكن قد يرد هذا الاعتراض بأن قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
ج. الثالث: أنه متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
8. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ أهي معطوفة على ﴿مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أم (ما) مبتدأ خبره (تود)؟ والجواب: أظهر الأقوال أنها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى: ما عملت: ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
9. الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال: أبد كذا؛ أما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية، والمعنى أن النفس التي تجد عملها السيئ محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لا تحقيق لهذا التمني.
10. كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لا يؤخذوا أخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم؛ لإثبات أن عقاب المسيء وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شيء أن يتساوى المحسن والمسيء، ولإثبات أن ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لا يعم الظلم وينتشر الفساد، اللهم وحّد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1180.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، بعد ان أجاز سبحانه التقية، ورخّص بها للمضطر قال: ان المعول عند الله على ما في القلوب، وهو يعلم ما تنطوي عليه، سواء أسررتم، أم أعلنتم.
2. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، لما كان الله سبحانه عالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وعادلا لا يظلم أحدا، لما كان كذلك نحتم أن يجد كل انسان في ذاك اليوم جزاء عمله، وقال البعض: ان الإنسان غدا يرى عمله مجسما في تمثال جميل مؤنس ان كان خيرا، وقبيح موحش ان كان شرا.. ويلاحظ ان العمل من الأمور العرضية التي لا تبقى، ولا يمكن إعادتها ورؤيتها، فيتعين أن يكون المراد ان الإنسان يوم القيامة يرى جزاء عمله، لا عمله بالذات.
3. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، الواو للاستئناف، والمعنى ان من يعصي الله في هذه الحياة يتمنى غدا أن لا يرى جزاء عمله، بل يتمنى أن يكون بينه وبين ذاك اليوم بعد المشرقين، {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ}، حتى العاصين منهم لأنه كلفهم بما يطيقون، وحذرهم عاقبة العصيان، وفتح باب التوبة لمن سوّلت له نفسه، ولم يبق عذرا لمعتذر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/45.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾، الآية نظيرة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾، غير أنه لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر، قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء، وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.
2. أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة ـ وهو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه ـ من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام، وليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾
3. في قوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ مضاهاة لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه.
4. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد، أو متعلق بقوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ﴾، ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى، وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوته في اليوم، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ﴾ ﴿الْقَهَّارِ﴾، وقال: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾، وقال: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا﴾، وقال: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك والقدرة والقوة والأمر دائما ـ قبل القيامة وفيها وبعدها ـ وإنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه.
5. من ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله: ﴿يَعْلَمْهُ اللهُ﴾، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة، على أن في قوله تعالى: ﴿مُحْضَرًا﴾، دون أن يقول: حاضرا دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة، ولا حافظ لها إلا الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ وقال: ﴿وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾
6. ﴿تَجِدُ﴾، من الوجدان خلاف الفقدان، ومن في قوله: ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ و﴿مِنْ سُوءِ﴾ للبيان، والتنكير للتعميم، أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء وقوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾، معطوف على قوله ﴿مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ﴾ على ما هو ظاهر السياق والآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، وقد مر البحث عنها في سورة البقرة.
7. ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، الظاهر أنه خبر لمبتدإ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس، و﴿لَوْ﴾ للتمني، وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه وتأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.
8. الأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد، أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدإ والغاية، ولذا قال بعضهم: الأمد والمدى يتقاربان.
9. في قوله تعالى: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، دلالة على أن حضور سيئ العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها، وإنما تود الفاصلة الزمانية بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الأحوال، وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك، قال تعالى: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَلَهُ قَرِينٌ} إلى أن قال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾
10. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} ذكر التحذير ثانيا يعطي من أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى، ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية، والتحذير الأول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا والآخرة.
11. {وَاللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} هو ـ على كونه حاكيا عن رأفته وحنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية والرقية ـ دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف وإيجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد إلا الخير والصلاح، تقول: إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه، إنما أخبرك بهذا رأفة بك وشفقة، فيئول المعنى ـ والله أعلم ـ إلى مثل أن يقال: إن الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/156.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فهو يعلم من قلبه مريض ومن قلبه مطمئن بالإيمان وهو صادق حين يعتذر بالتقية وعلمه تَعَالَى محيط بـ ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
2. ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو قادر على جزاء كل نفس بما عملت.
3. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ أي يوم القيامة يوم الجزاء على العمل، ويحتمل: حضور العمل، أنه يسجل فيرَى ويسمع نفسه كما في التلفزيون والسينما، أو أن العمل نفسه يكون محفوظاً في شي إن كان هذا ممكناً في بعض الأعمال، كما روي في الذكر لله في جوف الليل ـ والله أعلم ـ فيحضر يوم القيامة عند عامله، أو أن حضور العمل حضور جزائه واعلامه أنه جزاؤه، أو أن العمل يجعل في صورة شخص يساعد العامل كما قيل ـ والله أعلم ـ والأقرب الأول، قال الشرفي في (المصابيح): (واعلم أن العمل عرض لا يبقى ولا يمكن وجدانه يوم القيامة فلا بدّ فيه من التأويل، وهو من وجهين:
أ. الأول: أنه يجد صحائف الأعمال، وهو كقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية:29] وقال: ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6]
ب. الثاني: أنه يجد جزاء الأعمال.
4. في هذا العصر ظهر التلفزيون والسينما وغيرهما من الوسائل، ورؤية ما فيه تعتبر رؤية لما هو صورته، وسماع ما فيه سماع لما سجل في إذاعته، فالناس يقولون: رأينا فلاناً في التلفزيون، وسمعنا فلاناً في التلفزيون، فلا يبعد مثل هذا في رؤية العمل وحضوره بحضور جهازه، وقد كنت زماناً أجوّز هذا في نفسي وأرجحه قبل أن أجده لأحد من العلماء، ثم وجدت بعض علماء العصر قد سبقني إليه ـ والله أعلم ـ وهو أقرب المجاز الذي يفهم من الكلام لتعذر الحقيقة عند السامع إذا كان المراد حضور العمل في موقف السؤال والحساب، وهو الأرجح في قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير:1 ـ 14] وكقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الانفطار:1 ـ 5] فالظاهر: أنه العمل محضر بحضور كتابه.
5. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ تجده محضراً أي كل نفس تجد ما عملت من سوء محضراً، قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [الكهف:49] ويحتمل: أنه الجزاء في (آية الكهف)، أما قوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾ فالظاهر: العطف، بدليل الحال الذي هو قوله تعالى: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ أي تجده محضراً وهي تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
6. الأمد: المدة الطويلة، بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا﴾ [الجن:25] أي أجلاً بعيداً غير قريب، فقوله تعالى: ﴿أَمَدًا بَعِيدًا﴾ معناه: أجل بعيد بعيد.
7. مجيء الحال من المعطوف وارد في القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر:22] وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل:49 ـ 50] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41]، وهذا المعنى أرجح لإفادة حضور العمل السيء بطريقة النص، وإذا جعلنا قوله تعالى: {مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} مبتدأ و﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ خبراً لم يكن نصاً على حضوره، والتنصيص على حضوره مما يقتضيه السياق فهو أرجح.
8. ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ لحكمته ورحمته ﴿وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ومن رأفته التحذير من عذابه وتكثير الآيات الدالة عليه، وتكرار المواعظ دعوة إلى التوبة والنجاة من عذابه، مع أنه غني عنهم ولا يضره تعذيبهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/449.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يمتد الأسلوب القرآني الذي يحشد أمام الإنسان الأجواء الروحيّة التي يشعر معها بأنّ عين الله تحدّق فيه وهو يخفي في نفسه الفكر السيّئ والشعور الشرير، وتنظر إليه، وهو يبديه، لأن الله يلاحق الإنسان في خلواته، فهو يعلم كل شيء يصدر من الإنسان، فكرا وعملا ظاهرا أو خفيا، ولا يقف علمه عند حدود الإنسان، فإنه يعلم ما في السماوات والأرض، فكل شيء مكشوف لديه، وكل شيء حاضر عنده، فكيف يمكن للإنسان، الذي يعي هذه الحقيقة وعيا وجدانيا عميقا، أن يستسلم للغفلة، وأن يلعب لعبة اللفّ والدوران والاستخفاء بعلاقاته المحرّمة وصداقاته المنحرفة التي يحاول أن يعطيها صفة الاستقامة والإخلاص، وهو يعلم أن الله محيط بكلّ شيء في علمه وقدرته، وأنّ المصير إليه، مهما امتدت الحياة به، ومهما استسلمت خطواته للانحراف.
2. ربما كان في هذا الحديث تذكير للذين يمارسون التقية، بأن عليهم أن لا يتخذوا من الرخصة فيها وسيلة لتجاوز الحدود المرسومة في دائرتها، فقد تجتذب أوضاع المستكبرين والكافرين مطامعهم وأحلامهم فيندفعوا في السير معهم بأكثر مما تفرضه القضية المرحلية، فيؤدي بهم ذلك إلى الانحراف، وهذا ما لا بد للإنسان من الانتباه إليه حتى لا يقع في أحابيلهم وأساليبهم الإغرائية، وذلك بأن يأخذ من تذكره لرقابة الله عليه وعلمه المطلق بالسرّ والعلن، وسيلة لتقوية إرادته في موقف الحق، وهذا ما نلاحظه في الكثير من الشخصيات والأحزاب والحركات السياسية، التي تحمل الكثير من الشعارات الكبيرة على مستوى قضايا الحرية والعدالة، فتنطلق ـ بفعل الظروف المعقدة ـ لتقديم التنازلات للمستكبرين من مواقفها والتزاماتها باسم المرونة الحركية والواقعية السياسية التي قد تلتقي مع مضمون التقية، فتستريح للنتائج الإيجابية في الحصول على المغريات، ويمتدّ بها ذلك إلى التحوّل نحو المواقع المنحرفة البعيدة عن الخط المستقيم.
3. إننا نجد في التوجه القرآني لتشريع التقية في المواقف الصعبة حركة في الواقعية الإسلامية في السلوك العملي في مواجهة التحديات على مستوى التعامل مع خط الاستكبار العالمي الذي قد يطبق بالضغوط الهائلة على مواقع التحرك الإسلامي للإجهاز عليها وعلى قيادتها، ولإسقاط جمهورها ومحاصرة مواقعها، بما يملكه من وسائل الضغط السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والثقافي، مما قد لا يسمح بالتوازن في المواقف الاعتيادية، أو لا يتيح الفرصة للمواجهة المباشرة، بحيث لا تكون الشهادة حلا عمليا للوصول إلى النتائج الحاسمة، الأمر الذي قد يبرر للقيادات الواعية، أن يأخذوا بالرخصة لإبداء بعض المرونة السياسية العملية في خط التقية، للتخفف من الضغط الهائل من أجل الاستعداد للمواجهة المستقبلية على أساس المتغيرات الجزئية أو الكلية للظروف الموضوعية التي تؤذن بالتحرك الجديد في الخطة الجديدة للمواجهة الحاسمة في طريق تحقيق الأهداف، وهذا ما يوحي لنا بالفكرة التي تؤكد واقعية الإسلام في حركة الإنسان أمام التحديات، بحيث تكفل له الاستمرار في أسلوب المرونة، والثبات في خط المبدأ، لأن القضية في شرعية الأسلوب، مرتبطة بعلاقة القضية بالهدف، فهي التي تمنحه السلب في المورد السلبي للنتائج، والإيجاب في المورد الإيجابي لها، وليست جامدة في الموقف الواحد الذي قد يحصر الإنسان في زاوية مغلقة، أو يدخله في دوّامة لا يعرف كيف يخرج منها في قضاياه الكبيرة أو الصغيرة، وهذا هو وحي التقية في عطائها الإيجابي في حياة الإنسان وتحركاته في ضرورات الحفاظ على الحياة للذات وللخط وللدين وللمذهب وللواقع.
4. ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف القدير ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فعلى الناس أن يتحسسوا معنى قدرته في مسئولياتهم أمامه، لأنهم لا يملكون ـ في كل مواقع قدرته ـ لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، إلا من خلاله، ليأخذوا بأسباب رضاه، ويبتعدوا عن مواقع غضبه.
5. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ وتأتي الآية الثانية لتجسّد لحظة المصير في كلمات تختصر النتائج وتصوّر الحالة النفسيّة للعاملين والمنحرفين في ذلك اليوم الذي يواجه فيه الإنسان العامل للخير كل أعماله الخيّرة أمامه محضرة جاهزة بما يقدم إليه من رحمة ولطف ورضوان ونعيم، فكأن القضايا قد أعدّت له قبل أن يقف في موقفه هذا ما يشبه حالة الانتظار التي ينتظر فيها الإنسان الذي يستحق الكرامة، مظاهر الإكرام والإنعام، ولعل هذا هو الوجه في العدول عن التعبير بكلمة (حاضرا) بدل الكلمة التي جاءت في القرآن لتوحي بالاستعداد، وهي كلمة ﴿مُحْضَرًا﴾
6. ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ أمّا الإنسان الذي عمل السوء وامتد فيه، فإن الموقف يختلف لديه كليا، فهو يعيش حالة الرغبة في الهروب منه، تماما كمن يودّ لو أن الزمان الطويل يقف فاصلا بين هذا العمل السيئ في ما يجسده من عواقب سيّئة، وبينه، لما يعانيه أمامه من حالة الضياع والتمزق والفرار.
7. قد يوحي هذا التأكيد على الفاصل الزمني الذي يحول بينهم وبين عملهم السيّئ، في نتائجه السيئة، بدلا من الفاصل المكاني، بأن الزمن لا يتأتى معه الحضور واللقاء، بينما يمكن ذلك في الفاصل المكاني، وهذا أبلغ تعبير عن الإحساس بالقلق والخوف والضياع، لأن الإنسان يريد للزمن أن يتباعد عنه حتى لا يلتقي به في كل حياته، فلا يعيش الكابوس الجاثم على صدره الذي يريد أن يطبق على كل وجوده ومصيره بعذاب الله.
8. تنتهي الآية بالحقيقة الإلهية التي يجب أن ينتبه إليها العباد، وهي عدم الاستسلام لحالة الاسترخاء التي يعيشها الإنسان في ظلّ العافية من البلاء في الدنيا، فيظنون أنّ الله سيتركهم بدون عقاب، وأنّ التمرّد على الله لا يستتبع مسئولية، بل ليس هناك إلا العفو والمغفرة.
9. إن الآية، هنا، كالآية الأولى، تدعو الإنسان إلى الحذر من عذاب الله، بأسلوب ينطلق فيه التحذير من الله ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ لأن الله يرحم حيث تكون الرحمة حكمة ومصلحة في موضع العفو والرحمة، ويعاقب بالاستحقاق حيث يكون العقاب حكمة ومصلحة، في موضع النكال والنقمة، فما الذي يؤمن الإنسان من عذاب الله عند المعصية، إذا كانت القضية خاضعة لإرادة الله وحكمته التي لا يعلمها إلا هو.
10. ثم تكون المفاجأة التي تختم الآية بإثارة المشاعر المشبعة بالرأفة والرحمة في علاقة الله بعباده، {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} فإنه يعاملهم بالرأفة والرحمة، حتى في الحالات التي يحذّرهم ويتوعّدهم فيها، لأنه يريد بذلك إصلاحهم وإيصالهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ليظل الإنسان مشدودا إلى رحمة الله، حتى وهو ينتظر العذاب، فيقوده تفكيره إلى أن يتصور العذاب رأفة، لو أمكنه أن يمتد بعيدا في هذا التصور والتفكير.
11. حاول بعض المفسرين أن يجد في هذه الآية وأمثالها من الآيات دليلا على نظرية تجسّد الأعمال وحضورها في صورة معينة حسيّة في يوم القيامة، بحيث يواجه الإنسان واقع عمله الصالح في الدنيا صورة جميلة مشرقة أو نورا يضيء له ذاته، كما يضيء له الطريق أمامه، بينما يواجه في عمله السيّئ، صورة قبيحة منفّرة أو ظلمة تظهر على وجهه وتحيط به من كل جوانبه، فلا يرى أمامه أية علامة على الطريق، وقد ارتكز في ذلك على أن الآية ظاهرة في أن الإنسان يجد عمله الحسن أو القبيح يوم القيامة ماثلا بطريقة حسية، فإذا حدّق بعمله السيّئ ورأى صورته المشوّهة التي تبعث على النفور وتدعو إلى التقزّر، تمنّى لو أنّ الزمن كله يكون فاصلا بينه وبينه، ويلاحظ أنه لم يتمنّ زواله وغيابه، لأنه لا مجال لذلك باعتبار وجوده الحسّي الماثل أمامه.
أ. تلتقي هذه الآية ـ في هذه الدلالة ـ بقوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7 ـ 8]، فإن هذه الآيات تنسب الحضور للعمل نفسه، كما تدل على أن فاعل الخير أو الشر يرى عمله الخيّر أو الشرير ماثلا أمامه بنفسه.
ب. فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: 20] فإننا نستوحي منها أن الإنسان ـ في عمله ـ ينثر البذر في الأرض فينمو ويتكاثر كأية حبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة، فيكون حصاده في الآخرة مضاعفا من خلال حرثه في الدنيا، وكما يجد الإنسان الحب الكثير من خلال زراعة الحبة الواحدة في الدنيا، كذلك يحصد الإنسان في الآخرة ما زرعه في الدنيا، ولكن مع بعض التبدل والتغيير الذي يتناسب مع الجو هناك.
ج. وقد يؤكد هذا الجوّ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ [التحريم: 8]، وقوله تعالى في حديث المنافقين مع المؤمنين: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]، فيقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ [الحديد: 13]
12. وهكذا تلتقي هذه الآيات في الظهور بأن العمل المتجسد هو الذي يبدو للإنسان بشكل حسّي، وربما يتحدث بعضهم عن الأفاعي والعقارب كنموذج لصورة الأعمال السيئة ونحو ذلك، ونلاحظ على هذا الاستدلال أنه ناشئ من الجمود على حرفية اللفظ في دلالته على المعنى الموضوع له، الذي هو المعنى الحقيقي للفظ، باعتبار أن إرادة غيره ـ على نحو التقدير أو المجاز ـ يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، وبذلك تتأكد النظرية المطروحة في المقام من خلال هذا النهج الحرفي لفهم القرآن وغيره، لكننا نلاحظ في هذه الاستعمالات المذكورة في التصور المطروح، أن الكلام وارد على سبيل الاستعارة التي تعبّر عن جزاء الأعمال برؤيتها، باعتبار أن الإنسان يتحسس عمله في حياته على مستوى النتائج السلبية أو الإيجابية، فيرى عمل الشرّ في النتائج الشريرة، كما يرى عمل الخير في النتائج الخيّرة، لأن العمل يختزن في داخله آثاره التي إذا شاهدها على صعيد الواقع فكأنه شاهد العمل نفسه، وليس المراد رؤية صورة العمل التي يتجسد فيها في النهاية بطريقة حسيّة، ولعلّ هذا التعبير وارد على نحو الجزاء في الدنيا، مع أنه لا معنى للتجسد في الدنيا ولا واقع له، ولا التزام به من قبل أحد، فقد يمكن لنا أن نطلق آيتي الزلزلة على واقع الأعمال في نتائجها على صعيد الواقع الدنيوي كما نطلقها على صعيد الواقع الأخروي.
13. وهكذا نفهم أنّ حضور العمل وتحضيره وارد بأسلوب الكناية، للإيحاء بعدم نسيانه وعدم الغفلة عنه بمرور الزمن، بل يجده الإنسان حاضرا أمامه في عملية الإحصاء الدقيقة التي يتضمنها الكتاب، وربما نستفيد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، فإن الظاهر أن المراد حضوره في الوعي من خلال تذكره، وفي الحساب عندما يقف المرء ليحاسب عليه.
14. وهكذا نلاحظ الاتجاه الاستعمالي نفسه في الحديث عن حرث الآخرة في الدنيا، فإن المقصود به حصاد النتائج المترتبة على الأعمال الخيّرة على هدى القول المأثور: (إنما يحصد ابن آدم ما يزرع)، والمثل المشهور: (من يزرع الريح يحصد العاصفة)، وأمّا النور الذي يتمثل في وجوه المؤمنين والمؤمنات، فقد يكون ثوابا على أعمالهم، باعتبار أن الله يمنحهم إشراق الوجه والطريق من خلال ما قدموه من عمل، كما يمنحهم النعيم في الجنة، بل هو نوع من ألوان النعيم الجمالي التي يتحسس الإنسان لذتها الروحية والمادية في إحساسه بذاته كما يتحسس الجميل في الدنيا لذة جماله، وليس من الضروري أن يكون ذلك صورة العمل المتجسدة في الواقع، ولعلنا نستوحي ذلك من قولهم ـ في ما حكاه الله عن حديثهم معه ـ ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ [التحريم: 8]، فكأنهم يستزيدون ثواب العمل بزيادة النور الذي هو مظهر ذلك، ولو كانت المسألة مسألة صورة العمل، لكان هذا النقصان طبيعيا ناشئا من الواقع المادي للعمل الذي يستتبع صورته العادية بشكل طبيعي.
15. خلاصة الكلام، أن فكرة تجسيد العمل لا تتناسب مع طريقة التعبير البلاغي للأسلوب القرآني، كما أنها من الأفكار التي لا دليل عليها من الواقع الإنساني على هدى الحديث عن (صورة دنيوية للعمل، هي التي نراها، وصورة أخروية كامنة في باطن ذلك العمل، وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية، ويظهر بصورته الأخروية، فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه)، إنّ مثل هذا الكلام، لو كان صحيحا على مستوى كونه أمرا ذاتيا للعمل بحيث تكون له صورة داخلية كامنة في ذاته، لكان له ظهور في واقعه الحركي الذي تتمثل فيه صورة أعماله في ذاتياتها الطبيعية، بحيث يحسها الإنسان في وجوده، ولكننا لا نرى لذلك أثرا عنده إلا بلحاظ نتائجه السلبية أو الإيجابية في الحاضر والمستقبل، أو بلحاظ ذكرياته الذهنية، ليعيش إيحاءاته في الصورة التي يتذكرها من خلال الإحساس بآثاره، ومن الطريف أن القائل بهذا القول يرى ـ بناء على ذلك ـ (أن أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء (المادة الطاقة) وتبقى أبدا في هذه الدنيا، على الرغم من أن الناظر السطحي يظنها قد تلاشت)، إن هذا النوع من الاستنتاج يقترب من الخيال الذهني، لأن قصة (بقاء المادة الطاقة) قد تكون في جانبها الجوهري الحسي الذي يختزن الطاقة حتى بعد تحوّله إلى تراب، باعتبار أن التراب يختزن في داخله العناصر الذاتية فيه، ولكن ذلك قد لا يكون له واقع في الجانب العرضي الآتي، وهو الحركة الطارئة التي هي عبارة عن معنى العمل الصادر من الإنسان فإنها ـ تماما ـ كمثل النفس الذي يتنفسه، والإحساس الذي يحسّه، ونحو ذلك مما يذهب بذهاب وقته من دون أن يبقى منه شيء إلا الذكرى، لأنه ليس متجذرا في الجسد، بل هو مظهر من مظاهر حركته الإرادية.
16. إننا لا ندعي استحالة ذلك من خلال إرادة الله في خلقه مما يمكن أن يخلقه في الإنسان في الدنيا والآخرة خلقا جديدا، ولكن الحديث عن بقاء (المادة الطاقة) لا يقتضي ذلك حتى بلحاظ ما ذكره استشهادا بقوانين الفيزياء التي تقول (إن المادة تتحول إلى طاقة)، وذلك لأن (المادة) و(الطاقة) مظهران لحقيقة واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص، وأن المادة طاقة متراكمة مكثفة، تتحول إلى طاقة في ظروف معينة، وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادة، تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت، فإنّ هذا قد يصدق في المادة ـ الذات، لا المادة ـ العرض الذي لا وجود له في الواقع، بل هو أثر الطاقة الموجودة في المادة بشكل طارئ من خلال اقتضاء الحركة الإرادية ذلك، وليس هو المادة ـ الطاقة نفسها.
17. إننا نتصور أن الفكرة انطلقت في بعدها القرآني من الاستغراق في حرفية النص بعيدا عن الأسلوب البلاغي الذي يتميز به القرآن في عملية التخييل الذهني الذي يوحي بالمعنى كما لو كان في عالم الحس، ليزيده عمقا في الفكر، وليتمثله الإنسان في صعيد النتائج الحاسمة كما لو كان ماثلا أمامه؛ والله العالم بحقائق آياته.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/321.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهيا شديدا، واستثنت من ذلك حالة (التقية)، إلّا أنّ بعضهم قد يتّخذ من (التقية) في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم، وبعبارة أخرى أنّهم قد يستغلّون (التقية) ويتّخذونها مبرّرا لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام، فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالم بما ظهر وما خفي وتقول: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ﴾ ولا يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
2. في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية، تشير إلى أنّ معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض، وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين: ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
3. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئ ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضرا أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيرا.
4. (الأمد) في اللغة الزمان المحدود، و(الأبد) اللامحدود، والأمد يقصد من استعماله غالبا انتهاء الزمان، وإن استعمل أحيانا أيضا في مطلق الزمان المحدود.
5. بناء على ذلك، فإنّ المذنبين ـ كما تقول الآية ـ يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلا، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البعد الزماني أبلغ في التعبير عن هذا الاستيلاء من طلب البعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماما في الفاصل الزماني، فإذا عاش أحد ـ مثلا ـ في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والاضطراب وإن ابتعد مكانيا عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق، هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة (الأمد) معنى البعد المكاني أيضا (كما ورد في مجمع البيان نقلا عن بعض المفسّرين)، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.
6. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته، ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد، ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} توكيدا للجزء الأوّل ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، وهذا أشبه بمن يقول لك: إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك.
7. هذه الآية تبيّن بكل وضوح تجسّد الأعمال وحضورها يوم القيامة، وكلمة (تجد) من الوجود ضدّ العدم، ولفظتا (خير) و(سوء) وردتا نكرتين لتفيدا العموم، أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.
8. بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها، ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة (يجد) عمله، وتقول: إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين (عمله) القبيح فواصل مديدة، فهنا (العمل) نفسه هو الذي يدور حوله الكلام، لا سجلّ الأعمال، ولا الثواب والعقاب.
9. كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بعد عنه عمله، ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقا، وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن، ولذلك فهو لا يتمنّاه.
10. هناك آيات كثيرة أخرى تؤيّد هذا الأمر، كالآية 49 من سورة الكهف: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ والآيتان 7 و8 من سورة الزلزال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وسبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ (الجزاء) مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية.
11. يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يزرع في التربة، فتنمو تلك الحبّة، ثمّ يحصد الإنسان معها حبّا كثيرا، كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة، ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه، كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾، ويستفاد من آيات أخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾، فيقال لهم: ﴿ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾
12. هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام.
13. هناك روايات كثيرة أيضا عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى، من ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لمن طلب أن يعظه: (لا بدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لعينا أسلمك، لا يحشر إلّا معك ولا تحشر إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تبعث إلّا معه، فلا تجعله إلّا صالحا، فإنّه إن كان صالحا لم تستأنس إلّا به، وإن كان فاحشا لا تستوحش إلّا منه، وهو عملك)
14. للعلماء آراء مختلفة في كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال:
أ. يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الاخروي أمر اعتباري، مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا، أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقابا على كلّ عمل سيّء أقرّه القانون الوضعي، كذلك وضع الله لكلّ عمل ثوابا أو عقابا معيّنين، وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني.
ب. ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب، فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون اختيار أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة، وهذه الصفات تصبح جزءا متمكّنا من ذات الإنسان، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب، فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة، والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم، وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة، وبعبارة أخرى أنّ ما نقرأه عن نعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان.
ج. فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلا آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث، يقول هؤلاء: إنّ لكلّ عمل من أعمالنا ـ حسنا كان أم سيّئا ـ صورة دنيوية هي التي نراها، وصورة أخروية كامنة في باطن ذلك العمل، وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه، وهذه النظرة، من بين النظرات الأخرى، تتّفق مع كثير من آيات القرآن، وبناء على ذلك، فإنّ أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء (المادة الطاقة) وتبقى أبدا في هذه الدنيا، على الرغم من أنّ الناظر السطحي يظنّها قد تلاشت.
15. إنّ بقاء هذه الأعمال بقاء أبديا يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار، كما يتيح للإنسان من جهة أخرى أن يعيش يوم القيامة بين أعماله، فيشقى أو يسعد، وعلى الرغم من أنّ علم الإنسان لم يبلغ بعد مرحلة اكتشاف الماضي، إلّا للحظات قليلة سابقة، فممّا لا شكّ فيه أنّه لو تمّ صنع جهاز أدقّ وأكمل، أو لو كانت لنا (رؤية) و(إدراك) أكمل لاستطعنا أن نرى وندرك كلّ ما حدث في الماضي، (ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب والعقاب ذا طابع توافقي)
16. لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية، يمكن الاستناد إلى مبادئ الفيزياء الثابتة اليوم، فقوانين الفيزياء تقول إنّ المادة تتحوّل إلى طاقة، وذلك لأنّ (المادّة) و(الطاقة) مظهران لحقيقة واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص، وأنّ المادّة طاقة متراكمة مضغوطة تتحوّل إلى طاقة في ظروف معيّنة، وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادّة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت.
17. ملخّص القول: إنّ المادّة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة، وبالنظر لعدم فناء الطاقة والمادّة، فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرّة أخرى وتتّخذ صورة مادّة أو جسم، فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نعم مادّية جميلة، وإذا كانت شرّا وسيئّة فإنّها تتجسّد في وسائل عذاب وعقاب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/460.
18. المحبة والاتباع والطاعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈18⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 31 ـ 32]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: قال الله في محكم كتابه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ فقرن طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، فكان ذلك دليلا على ما فوض إليه، وشاهدا له على من اتبعه وعصاه، وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه، والترغيب في تصديقه، والقبول لدعوته: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ فاتباعه صلّى الله عليه وآله وسلم محبة الله، ورضاه غفران الذنوب، وكمال الفوز، ووجوب الجنة، وفي التولي عنه والاعراض محادة الله وغضبه وسخطه، والبعد منه مسكن النار، وذلك قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ يعني الجحود به والعصيان له(1).
__________
(1) الكافي: 8/26.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: يعني: الكفار تولوا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم(1).
2. روي أنّه قال: وقف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف، وهم يسجدون لها، فقال: (يا معشر قريش، والله، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام)، فقالت له قريش: إنما نعبدها حبا لله؛ ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه: ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فأنا رسوله إليكم، وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٤.
(2) أورده الثعلبي: ٣/٥٠ عن جويبر، ابن عباس
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فكان علامة حبهم إياه اتباع سنة رسوله(1).
2. روي أنّه قال: قال قوم على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: يا محمد، إنا نحب ربنا، فأنزل الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾، فجعل اتباع نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم علما لحبه، وعذاب من خالفه(2).
3. روي أنّه قال: إن أقواما كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل، فقال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ الآية، فكان اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تصديقا لقولهم(2).
4. روي أنّه قال في حديث ذكره بطوله: وقال أقوام على عهد نبيهم: والله، يا محمد، إنا لنحب ربنا، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا، فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، فجعل الله اتباع نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم علما لحبه، وكذب من خالفها، ثم جعل على كل قول دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا قال العبد قولا حسنا، وعمل عملا حسنا؛ رفع الله قوله بعمله، وإذا قال العبد قولا حسنا، وعمل عملا سيئا؛ رد الله القول على العمل، وذلك في كتابه: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠] (3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٢.
(2) ابن جرير: ٥/٣٢٥.
(3) ابن المنذر: ١/١٦٩.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يا زياد، ويحك، وهل الدين إلا الحب، ألا ترى إلى قول الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(1).
روي عن عبيدة الحذاء، قال: دخلت على الإمام الباقر، فقلت: بأبي أنت وأمي، ربما خلا بي الشيطان فخبثت نفسي، ثم ذكرت حبي إياكم، وانقطاعي إليكم فطابت نفسي، فقال: يا زياد، ويحك، وما الدين إلا الحب، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(2).
2. روي أنّه قال: والله لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب، إن الله يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ وقال: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ وهل الدين إلا الحب(2).
__________
(1) المحاسن: 262/327.
(2) تفسير العيّاشي: 1/167.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ أي: إن كان هذا من قولكم في عيسى حبا لله وتعظيما له؛ ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ أي: ما مضى من كفركم، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ فأنتم تعرفونه ـ يعني: الوفد من نصارى نجران ـ وتجدونه في كتابكم، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ على كفرهم: ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٦.
(2) ابن جرير: ٥/٣٢٨.
ابن أبي كثير:
روي عن يحيى بن أبي كثير (ت 132 هـ) أنّه قال: قالوا: إنا لنحب ربنا، فامتحنوا؛ فأنزل الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(1).
__________
(1) الحكيم الترمذي: ٢/٢١٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥] أظهر اسم الخلة لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الخليل ظاهر في المعنى، وأخفى اسم المحبة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم؛ لتمام حاله؛ إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه، بل يحب إخفاءه وستره؛ لئلا يطلع عليه أحد سواه، ولا يدخل أحد بينهما، فقال لنبيه وصفيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لما أظهر له حال المحبة: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، أي: ليس الطريق إلى محبة الله إلا اتباع حبيبه، ولا يتوسل إلى الحبيب بشيء أحسن من متابعة حبيبه، وطلب رضاه(1).
2. روي أنّه قال في صحيفة أخرجها لأصحابه: (اعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق، وعقد قلبه عليه وعمل به، فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه، وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه، وكان صدره ضيقا حرجا، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين، وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه، ولم يعطه العمل به حجة عليه يوم القيامة، فاتقوا الله واسألوه أن يشرح صدوركم للإسلام، وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحق حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك، وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم، ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين، ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا، ألم يسمع قول الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾؟ والله لا يطيع الله عبد أبدا إلا أدخل الله عليه في طاعته اتباعنا، ولا والله لا يتبعنا عبد أبدا إلا أحبه الله، ولا والله لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلا أبغضنا، ولا والله لا يبغضنا أحد أبدا إلا عصى الله، ومن مات عاصيا لله أخزاه الله وأكبه على وجهه في النار، والحمد لله رب العالمين(2).
3. روي أنّه قال: (إني لأرجو النجاة لمن عرف حقنا من هذه الأمة، إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن) ثم تلا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(3).
4. روي عن سعيد بن يسار، قال: قال لي الإمام الصادق: هل الدين إلا الحب، إن الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(4).
5. روي أنّه قال: ما أحب الله عز وجل من عصاه، ثم تمثل فقال(5):
çتعصي إلا له وأنت تظهر حبه... هذا محال في الفعال بديع!
لو كان حبك صادقا لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيعé
6. روي أنّه قال: (قد عرفتم في منكرين كثيرا، وأحببتم في مبغضين كثيرا، وقد يكون حبا لله في الله ورسوله، وحبا في الدنيا، فما كان في الله ورسوله فثوابه على الله تعالى، وما كان في الدنيا فليس في شيء) ثم نفض يده، ثم قال (إن هذه المرجئة، وهذه القدرية، وهذه الخوارج ليس منهم أحد إلا يرى أنه على الحق، وإنكم إنما أحببتمونا في الله)، ثم تلا: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ}، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾(6).
7. روي أنّه قال: جعلت فداك، إنا نسمي بأسمائكم وأسماء آبائكم، فينفعنا ذلك؟ فقال: إي والله، وهل الدين إلا الحب، قال الله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(6).
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان: ٤/١٢٣.
(2) الكافي: 8/13.
(3) الكافي: 8/128.
(4) الخصال: 21/74.
(5) أمالي الصدوق: 396/3.
(6) تفسير العيّاشي: 1/167.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: زعم أقوام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد، إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية(1).
__________
(1) الواحدي في أسباب النزول: ص٢٢٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ على ديني؛ ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ما كان في الشرك، ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ ذو تجاوز لما كان في الشرك، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم في الإسلام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿قُلْ﴾ لليهود: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يعني: أعرضوا عن طاعتهما: ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ يعني: اليهود(2).
3. روي أنّه قال: لما دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كعبا وأصحابه إلى الإسلام قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولنحن أشد حبا لله مما تدعونا إليه، فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٠.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧١.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قوله: (المرء مع من أحب)، فقال: ألم تسمع قول الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾؟ يقول: يقربكم، والحب هو القرب، ﴿والله لا يحب الكافرين﴾ لا يقرب الكافرين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ لا يقرب الكافرين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٣.
(2) الدرّ المنثور: ابن أبي حاتم.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾:
أ. قيل: إن ناسا كانوا يقولون في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنا نحبّ الله حبّا شديدا؛ فأنزل الله ـ عزّ وجل ـ هذه الآية، وبين فيها لمحبته علما.
ب. وقيل: إنّ اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه؛ فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ: قل يا محمد: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، ذلك أنّ من أحبّ ملكا من الملوك يحبّ رسوله، ويتبعه في أمره، ويؤثر طاعته لحبّه، فإذا أظهرتم أنتم بغضكم لرسولي، وتركتم اتباعه في أمره، وإيثار طاعته ـ ظهر أنكم تكذبون في مقالتكم: نحن أبناء الله وأحبّاؤه؛ لأن من أحبّ آخر يحب المتصلين به ورسله وحشمه.
والمحبّة ـ هاهنا ـ: الإيثار بالفعل طاعة من يحبّه فيما أحبّه وكرهه، والطاعة له في جميع أمره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/354.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾:
أ. قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب، قالوا: نحن الذين نحب ربنا فجعل الله تصديق ذلك اتباع رسله، هذا قول الحسن وابن جريج.
ب. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: إنها نزلت في وفد نجران من النصارى.
المحبة: هي الارادة إلا أنها تضاف إلى المراد تارة، وإلى متعلق المراد أخرى نحو أن تقول: أحب زيداً وأحب إكرام زيد، ولا تقول في الارادة ذلك لأنك تقول: أريد إكرام زيد، ولا تقول أريد زيداً، وإنما كان كذلك لقوة تصرف المحبة في موضع مثل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة، فعوملت تلك المعاملة في الاضافة ومحبة الله للعبد هي ارادته لثوابه ومحبة العبد لله هي ارادته لطاعاته.
2. ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ أثبتت الياء فيه بلا خلاف، لأنها في وسط آية وحذفت من قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ لأنها رأس آية نوي بها الوقف لتشاكل رؤوس الآي، لأن سبيل الفواصل سبيل القوافي، وقيل أحببت فلاناً، فهو محبوب، فجاء مفعول للاستغناء به عن حببت حتى صار ذلك مهملا، وقد جاء على الأصل قول عنترة:
çولقد نزلت فلا تظني غيره...مني بمنزلة المحب المكرمé
وقد حكى الزجاج عن الكسائي (حببت) من الثلاثي، وأجاز القراءة بفتح التاء غير أنه قال هذه لغة قد ماتت.
3. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ لا يجوز في القياس إدغام الراء في اللام كما جاز إدغام اللام في الراء في هل رأيت، لأن الراء مكررة، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به، وقياسها في ذلك قياس الضاد، لأنه يجوز هل ضربت بالإدغام ولا يجوز انقض له إلا بالإظهار لما في الضاد من الاستطالة، وقال الزجاج: روي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وغلظ عليه لأنه خطأ فاحش بإجماع علماء النحويين: الموثوق بهم، وأجاز الفراء إدغامها في اللام كما يجوز إدغام الياء في الميم.
4. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ قال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت هذه الآية في وفد نجران، وفيها دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنه قال: ﴿لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ ومعنى لا يحبهم لا يريد ثوابهم من أجل كفرهم، فإذن لا يريد كفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته لكفرهم.
5. الطاعة: اتباع الداعي فيما دعا إليه بأمره أو إرادته، ولذلك قد يكون الإنسان مطيعاً للشيطان فيما يدعوه إليه، وإن لم يقصد أن يطيعه، لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية، فقد أطاع الداعي إليها.
6. سؤال وإشكال: ما الفرق بين الطاعة وموافقة الارادة؟ والجواب: موافقة الارادة قد تكون طاعة، وقد تكون غير طاعة إذا لم تقع موقع الداعي إلى الفعل نحو ارادتي، لأن يتصدق زيد بدرهم من غير أن يشعر بذلك، فلا يكون بفعله مطيعاً لي ولو فعله من أجل إرادتي لكان مطيعاً وكذلك لو أحسن بدعائي إلى ذلك فمال معه.
7. ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ معناه أنه يبغضهم ولا يريد ثوابهم، فدل بالنفي على الإثبات وكان ذلك أبلغ، لأنه لو قال إنه يبغضهم لجاز أن يتوهم أنه يبغضهم من وجه ويحبهم من وجه كما يعلم الشيء من وجه، ويجهل من وجه، فإذا قيل لا يعلمه لم يحتمل الوجوه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/437.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المحبة والإرادة والمودة نظائر، وحب الله للعبد إرادة ثوابه وتعظيمه، وحب العبد لله إرادة طاعته وعبادته وتعظيمه، والطاعة فعل ما أراده المطاع عن القاضي.
ب. التولي: الإعراض.
2. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾:
أ. قيل: نزلت الآية في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الَّذِينَ نحب ربنا، فجعل تصديق ذلك اتباع رسوله، عن الحسن وابن جريج.
ب. وقيل: وقف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا الأصنام، وزينوها وسجدوا لها، فعابهم وقال: (لقد تركتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل)، فقالوا: إنما نعبدها حبًا لله، فنزلت الآية، عن جويبر عن الضحاك.
ج. وقيل: لما قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه، نزلت هذه الآية، عن أبي صالح عن ابن عباس.
د. وقيل: نزلت في نصارى نجران لما قالوا: إنا نعظم المسيح حبًا لله، فنزلت الآية، عن محمد بن جعفر بن الزبير.
3. ثم بَيَّنَ تعالى أن الإيمان بِاللهِ إنما يجدي إذا قرن بالإيمان بالرسول واتباعه، فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ أي تريدون طاعته واتباع أمره ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾:
أ. قيل: أي اتبعوا شريعتي.
ب. وقيل: أحبوني، عن الأصم.
4. ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ يرضى عنكم ويثني عليكم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ يعني ما كان منكم من معصية في الكفر يغفره بعد الإسلام ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لمن تاب ﴿رَحِيمٌ﴾ بخلقه حيث يعفو عنهم مع جحدهم إياه وكفرهم به.
5. ثم بَيَّنَ تعالى الحث على الاتباع فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم:
أ. ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ في الفرائض ﴿وَالرَّسُولُ﴾ في السنن.
ب. وقيل: أطيعوا الله في أوامره، وأطيعوا الرسول فيما يؤدي.
6. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يرضى فعلهم، ولا يريد تعظيمهم، ولا يثني عليهم.
7. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن محبة الله والإيمان به لا تنفع إلا مع اتباع الرسول.
ب. أن العلم لا ينفع إلا مع العمل، خلاف قول المرجئة.
ج. أن من تولى عن طاعة الرسول فقد أعرض عن طاعة الله، والتولي على ضربين:
• تَوَلٍّ مع التكذيب فيكون كفرًا.
• وتولٍّ مع القبول فيكون فسقًا، ولا يكون كفرًا.
د. ليس في قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ دليل على أنه يحب سواهم، فقد يجوز ألّا يحب الفاسقين أيضًا بدليل آخر، فلا تعلق للمرجئة بذلك.
8. أثبت الياء في (اتبعوني)، وحذفها من (فأطيعون)؛ لأنه رأس آية ينوي بها الوقوف، فتحذف كما تحذف الحركة في الوقف، وهي أحق بالحذف في رأس الآية؛ لتشاكل رؤوس الآي في الحذف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/213.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المحبة هي الإرادة إلا أنها تضاف إلى المراد تارة، وإلى متعلق المراد أخرى، تقول: أحب زيدا، وأحب إكرام زيد، ولا تقول في الإرادة ذلك، لأنك تقول: أريد إكرام زيد، ولا تقول: أريد زيدا، وإنما كان كذلك لقوة تصرف المحبة في موضع ميل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة، فعوملت تلك المعاملة في الإضافة، ومحبة الله تعالى للعبد هي إرادة ثوابه، ومحبة العبد لله هي إرادته لطاعاته، وقالوا: أحببت فلانا فهو محبوب استغنوا به عن محب، كما استغنوا بأحببت عن حببت، وقال عنترة:
çولقد نزلت فلا تظني غيره... مني بمنزلة المحب المكرمé
فجاء به على الأصل، وحكى الزجاج عن الكسائي: حببت من الثلاثي.
ب. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ لا يجوز في القياس إدغام الراء في اللام، كما جاز إدغام اللام في الراء في: هل رأيت، لأن الراء مكررة، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به.
ج. الطاعة: اتباع الداعي فيما دعاه إليه بأمره أو إرادته، ولذلك قد يكون الانسان مطيعا للشيطان فيما يدعوه إليه، وإن لم يقصد أن يطيعه، لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى العصمة، فقد أطاع الداعي إليها.
2. قال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت الآيتان في وفد نجران من النصارى لما قالوا: إنا نعظم المسيح حبا لله.
3. ثم بين سبحانه أن الإيمان به لا يجدي، إلا إذا قارنه الإيمان برسوله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ كما تزعمون ﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾:
أ. قيل: معناه إن كنتم تحبون دين الله، فاتبعوا ديني يزدد لكم حبا، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إن كنتم صادقين في دعوة محبة الله تعالى، فاتبعوني فإنكم إن فعلتم ذلك أحبكم الله.
4. ويغفر لكم ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: كثير المغفرة والرحمة.
5. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ أي: قل يا محمد إن كنتم تحبون الله كما تدعون، فأظهروا دلالة صدقكم بطاعة الله، وطاعة رسوله، فذلك إمارة صدق الدعوة.
6. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ معناه: إنه يبغضهم، ولا يريد ثوابهم، فدل بالنفي على الإثبات، وذلك أبلغ، لأنه لو قال يبغضهم لجاز أن يتوهم أنه يبغضهم من وجه، ويحبهم من وجه آخر، كما يجوز أن يعلم الشيء من وجه، ويجهل من وجه، وفي هذا دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنه إذا لم يحب الكافرين من أجل كفرهم، ولم يرد ثوابهم لذلك، فلا يريد إذا كفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته لهم لكفرهم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/733.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وقف على قريش، وقد نصبوا أصنامهم، فقالوا: يا محمّد إنما نعبد هذه حبّا لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، رواه الضحّاك عن ابن عباس.
ب. الثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، فنزلت هذه الآية، فعرضها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عليهم، فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أن ناسا قالوا: إنّا لنحبّ ربّنا حبّا شديدا، فأحبّ الله أن يجعل لحبّه علما، فأنزل هذه الآية، قاله الحسن، وابن جريج.
د. الرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما نقول هذا في عيسى حبّا لله وتعظيما له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن إسحاق عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، واختاره أبو سليمان الدّمشقيّ.
2. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، ونحن أشدّ حبّا لله ممّا تدعونا إليه، فنزلت ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ ونزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.
ج. الثالث: أنها نزلت في نصارى نجران، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/274.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما دعا الله تعالى القوم إلى الإيمان به، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18] فنزلت هذه الآية، ويروى أنه صلّى الله عليه وآله وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية، ويروى أن النصارى قالوا: إنما نعظم المسيح حباً لله، فنزلت هذه الآية.
2. بالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله، ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم: قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته، وتقدير الكلام: أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وجبت متابعته، فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت.
3. الكلام المستقصى في المحبة، تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ [البقرة: 165] والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله، أو محبة طاعته، أو محبة ثوابه، قالوا: لأن المحبة من جنس الإرادة، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع، وهذا القول ضعيف، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم وإسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته، كما أن اللذة محبوبة لذاتها، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى، فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله، قال المتكلمون: وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه.
4. القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين:
أ. أحدهما: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي.
ب. الثاني: إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله، والله تعالى يحب كل من أطاعه، وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره، ومن أحب الله كان راغباً فيه، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب(2).
5. ثم قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل، ثم قال: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه.
6. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ يروى أنه لما نزل قوله ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ الآية قال عبد الله بن أبي: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية، وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين، وهي أن محمداً يدعي لنفسه مثل ما يقوله النصارى في عيسى، ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة، فقال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولًا من عند الله، ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبهة التي ألقاها المنافق في الدين.
7. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة، وذلك ضد المحبة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/198.
(2) قال في هذا المحل: خاض الزمخشري في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب هاهنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى، نسأل الله العصمة والهداية.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحب: المحبة، وكذلك الحب بالكسر، والحب أيضا الحبيب، مثل الخدن والخدين، يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه بالكسر فهو محبوب، قال الجوهري: وهذا شاذ، لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر، قال أبو الفتح: والأصل فيه حبب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية، قال ابن الدهان سعيد: في حب لغتان: حب وأحب، وأصل ﴿حُبَّ﴾ في هذا البناء حبب كظرف، يدل على ذلك قولهم: حببت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل، قال أبو الفتح: والدلالة على أحب قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة] بضم الياء، و﴿فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران] و﴿حُبَّ﴾ يرد على فعل لقولهم حبيب، وعلى فعل كقولهم محبوب: ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال: أنا حاب، ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا، كقوله:مني بمنزلة المحب المكرم وحكى أبو زيد: حببته أحبه، وأنشد:
çفو الله لولا تمره ما حببته...ولا كان أدنى من عويف وهاشمé
وأنشد:
çلعمرك إنني وطلاب مصر...لكالمزداد مما حب بعداé
وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الباء وحدها، والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حباب وحببة، حكاه الجوهري.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: الآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله تعالى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير.
ب. وقال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا.
ج. وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
3. معنى المحبة وعلاماتها:
أ. قال ابن عرفة: المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له.
ب. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسول طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران] أي لا يغفر لهم.
ج. وقال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلامة حب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يجب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.
د. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ قال: (على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس) خرجه أبو عبد الله الترمذي.
هـ. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره.
و. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يجب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ـ قال ـ ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ـ قال ـ فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض.
4. قرأ أبو رجاء العطاردي ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ بفتح الباء، ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ عطف على ﴿يُحْبِبْكُمُ﴾، وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من ﴿يَغْفِرْ﴾ في اللام من ﴿لَكُمْ﴾، قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.
5. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ يأتي بيانه في النساء، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ شرط، إلا أنه ماض لا يعرب، والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم.
6. قال ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ ولم يقل ﴿فَإِنَّهُ﴾ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، وأنشد سيبويه:
çلا أرى الموت يسبق الموت شي...نغص الموت ذا الغني والفقيراé
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/60.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحب والمحبة: ميل النفس إلى الشيء، يقال: أحبّه فهو محبّ، وحبّه يحبّه بالكسر، فهو محبوب، قال الجوهري: وهذا شاذ، لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر، قال ابن الدهان: في حبّ لغتان: حبّ، وأحبّ، وأصل حبّ في هذه الباب: حبب، كطرق، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله: طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد: إنعامه عليهم بالغفران.
2. قرأ أبو رجاء العطاردي: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ بفتح الباء، وروي عن أبي عمرة بن العلاء أنه أدغم الراء من يغفر في اللام، قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرة أجلّ من أن يغلط في هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.
3. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: في جميع الأوامر والنواهي، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يحتمل أن يكون من تمام مقول القول، فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التائين: أي تتولوا، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، فيكون ماضيا.
4. ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ نفي المحبة كناية عن البغض والسخط، ووجه الإظهار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/383.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه تلك، حتى يتبع الشرع المحمديّ في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ.
2. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرضوا عن الطاعة ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/308.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ نزلت في قول اليهود: ﴿نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ﴾ إلخ [المائدة: 18] ولم يقبلوها، أي: الآية، وفي قوم مؤمنين قالوا: نحبُّ الله، وفي قول نصارى نجران: نقول عيسى الله أو ابنه ونعبده حبًّا لله وتعظيما لله 8 ، وفي قول قريش: نعبد هذه الأصنام لتقرِّبنا إلى الله، إذ وقف عليهم صلّى الله عليه وآله وسلم ، وقد علَّقوا عليها بيض النعام وشنَّفوها وهم سجَّد لها، فقال: (والله لقد خالفتم إبراهيم وإسماعيل)
2. ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ في أمري ونهيي لثبوت نبوءتي ورسالتي بالأدلَّة الواضحة، ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ الحبُّ ميل النفس إلى الشيء، والله منزَّه عن ذلك، لأَنَّه كامل، وكلُّ شيء مخلوقٌ له، ومُنتَهٍ إليه، فلا شيء يحتاج الله إليه فيميل إليه، فحبُّ الله لخلقه لازم ذلك، وهو فعل الخير لهم على طاعتهم، فذكر اللَّازم بذكر الملزوم، وفيه مشاكلة أيضًا لقوله: ﴿تُحِبُّونَ﴾، وحبُّهم اللهَ ميلُ نفوسهم إلى ثوابه وإحسانه وعبادته، والعارفون يحِبُّون الله لذاته بمعنى تعظيمه واتِّباعه واحترامه، ولو لم يكن ثواب ولا عقاب، إِلَّا أنَّ ذلك لأجل صفاته وأفعاله تعالى، وقيل: حبُّ المخلوق اللهَ إرادة اختصاصه تعالى بالعبادة، فالمراد لازم هذه الإرادة، وهو إيقاع العبادة له وحده، أو شبَّه تلك الإرادة بالحبِّ الذي هو ميل النفس على طريق الاستعارة، وإن قدَّرنا (تحبُّون ثواب الله) أو (رضا الله) أو (طاعة الله) فمن مجاز الحذف.
3. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن اتَّبعني، ويجوز أن يكون ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ مـن الله غير داخل في القول، أي: وَاللهُ غَـفُورٌ رَحِيمٌ لمن اتَّبعك.
4. ﴿قُل﴾ لقريش وغيرهم ﴿اَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ وهو أنَا محمَّدًا، فيما يأمركم به من التوحيد، وهذا تخصيص بعد تعميم التوحيد وغيره في قوله: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ لمزيَّة التوحيد.
5. ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي: تولَّى هؤلاء عن الاتِّباع والطاعة فهذا من الله، أو تتولَّوا أنتم عن ذلك فحذف إحدى التاءين فيكون من جملة المقول، ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ﴾ لا يرحم ﴿الْكَافِرِينَ﴾ أي: لا يحبُّهم بل يعاقبهم، فأظهر ليصفهم بالكفر إشعارا بالعلَّة، وتعميما لفظيًّا لجميع الكفرة، وللتلويح بأنَّ من خالفه وقد آمن به شبيه بمن كفر به، وأنَّ الإعراض إمَّا كفر شرك وإمَّا كفر نفاق، وأراد مطلق الكافرين فيدخل هؤلاء، وفي مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : (إنَّ الله إذا أحبَّ عبدا دعا جبريل فقال: إنِّي أحبُّ فلانا فَأَحِبَّهُ، فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السماء: إنَّ الله يحبُّ فلانا فأَحِبُّوه فيحبُّه أهل السماء، ثمَّ يوضع له القبول في الأرض؛ وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إنِّي أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثمَّ ينادي في السماء: إنَّ الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضونه، ثمَّ توضع له البغضاء في الأرض)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/243.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه، والمحب حريص على معرفة ما يأمر به وينهى عنه؛ ليتقرب إليه بمعرفة قدره وامتثال أمره مع اجتناب نهيه، ويكون بذلك أهلا لمحبته ـ سبحانه ـ ومستحقا لأن يغفر له ذنوبه.
2. قيل: إن الآية نزلت كالجواب لقوم ادعوا أمام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أنهم يحبون ربهم، وما من أحد يؤمن بالله ولو بطريق التقليد والاتباع لغيره إلا وهو يدعي حبه، وقيل: إنها نزلت ليخاطب بها نصارى نجران الذين ادعوا ـ كما يدعي أهل ملتهم ـ أنهم أبناء الله وأحباؤه.
3. نعم إن أوائل هذه السورة نزلت إذ كان وفد نجران في المدينة، ويصح أن تكون مما يحتج به عليهم، ولكن الخطاب فيها عام وحجة على أهل الدعوى في كل زمان ومكان، وما قيمة الدعوى يكذبها العمل، وكيف يجتمع الحب مع الجهل بالمحبوب وعدم العناية بأمره ونهيه؟
çتعصي الإله وأنت تزعم حبه... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيعé
4. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ السابقة من الاعتقاد الباطل والأعمال السيئة؛ لأن هذا الاتباع هو الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يمحوان من النفس ظلمة الباطل، ويزيلان منها آثار المعاصي والرذائل وهذا هو عين المغفرة، فالمغفرة أثر فطري للإيمان والعمل الصالح بعد ترك الذنوب كما أن العقاب أثر طبيعي للكفر والمعاصي، ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ جعل للمغفرة سنة عادلة وبينها برحمته وإحسانه لعباده؛ وهي تزكية النفس بالاتباع الذي أكد الأمر به.
وبين أن عاقبة الإعراض عنه الحرمان من حب الله تعالى، فقال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ باتباع كتابه ﴿وَالرَّسُولُ﴾ باتباع سنته والاهتداء بهديه ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا منهم بدعواهم أنهم محبون لله وأنهم أبناؤه وأحباؤه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آيات الله وما أنزله على رسوله، وترك الشرك والضلال الذي نهيت عنه واتباع الحق في الاعتقاد الذي بينته، والعمل الصالح الذي أرشدت إليه، هؤلاء هم الكافرون وإن ادعوا أنهم مؤمنون وأنهم يحبون الله والله يحبهم.
5. هذا ما نراه كافيا في فهم الآيات، وليس عندنا فيها عن محمد عبده شيء، وإن من الباحثين من يخفى عليه معنى حب الله للناس وحبهم إياه، فنوضح ذلك بعض الإيضاح: حب الناس لله يجهله من يعيش كما تعيش الديدان والبهائم لا يشغله إلا هم قبقبه وذبذبه، ويعرفه الحكماء الربانيون والمؤمنون الصالحون، ويمكن تقريبه من فهم الجاهل المستعد للعلم وتشويقه إليه بإرشاده إلى مراجعة فطرته، والبحث في أسباب حب الناس لكثير من الأشياء التي لا يحبها حيوان آخر:
أ. يجد كل حي من الأحياء ميلا من نفسه إلى ما به كمال فطرته على حسب استعدادها، فالأنعام التي ينحصر استعدادها فيما به حفظ وجودها الشخصي والنوعي لا تميل إلا إلى الغذاء لحفظ الأول والنزوان لحفظ الثاني، وأما الإنسان فله استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية وميله أو حبه ليس له حد ولا نهاية أيضا، وإنما تقف الأمراض الروحية ببعض أفراده أو جمعياته عند حدود معينة لفساد في التربية ومرض في مزاج الاجتماع، وهذا الاستعداد وما يتبعه أنصع الدلائل عند العالمين بنظام الأكوان على أن الإنسان خلق للبقاء لا للفناء وأن له حياة أخرى ينال بها كل ما خلق مستعدا له من العرفان، وأعلاه الكمال في معرفة الله.
ب. يحب الإنسان جمال الطبيعة، ويطربه خرير المياه وحفيف الرياح، وتغريد الأطيار على أفنان الأشجار، فيبذل المال الكثير لإنشاء الحدائق والجنات واجتلاب ما لم يوجد في بلاده من أنواع الطير والنبات، يعشق جمال الصنعة فينفق القناطير من الذهب والفضة في اقتناء الصور البديعة والنقوش الدقيقة، يهوى الوقوف على مجاهل الأرض والاطلاع على أحوال العالمين فيركب الأخطار ويقتحم البحار، ويسمح بالوقت والدينار يهيم بالرياسة فيستهين لأجلها باللذات ويزدري الشهوات وينافح في سبيلها الأقران، ويكافح في طلبها السلطان، يفتتن بحب أهل النجدة والشجاعة وقواد الجيوش فيبذل حياته لحفظ حياتهم ويتحمس في التحزب لهم بعد مماتهم، يولع بكبار العلماء فيتخذهم أئمة متبعين وإن حرم في اتباعهم من حقيقة العلم والدين، ويتعصب لهم على من خالفهم، وإن كان الحق يؤيده من دونهم ـ يهيم بالمعقولات السامية، والحكمة العالية، فيحتقر دونها المال والحياة والرياسة والإمارة، وينزوي في كسر بيته يعمل الفكر، ويروض النفس، ويصقل الروح معتقدا أن من سار سيرته فهو المغبوط، وأن الغافل عن ذلك هو المغبون كل حزب بما لديهم فرحون ألا إن استعداد الإنسان أعلى من كل ذلك؛ فهو لا يقف عند حد اكتشاف المجهولات، ومعرفة ما في الأرض والسماوات، ومجالدة جليد القطب الشمالي، ومواثبة أسود أفريقية وأفاعي الهند، ومناصبة أمواج القاموس الأعظم، ومراقبة نجوم السماء في الليالي الليلاء، بل هو يبحث عن الماضي ليتعرف مبدأ الخلق والتكوين، ويبحث عن المستقبل ليعلم الغاية والمصير، بل هو يبحث عن حقيقة الخالق البارئ قبل أن يعرف شيئا من حقائق المخلوقات، وقبل أن يعرف نفسه واستعدادها وغرضها من بحثها واستقصائها، ترى هذا الإنسان الذي يحب هذه الأشياء التي لا تتناهى؛ لأنه خلق مستعدا لمعرفة لا تتناهى، قد يهيم حبا في بعضها حتى يشغله عن سائرها، وكلما كان موضوع حبه أعلى كان هو في نفسه أرقى وأسمى، ومنتهى الرقي والسمو أن يحب في كل شيء معنى الجمال المودع في كل شيء، وهو الإبداع الإلهي والنظام الرباني فلا تحجبه المباني عن المعاني، ولا تشغله الأشباح عن الأرواح، فيلاحظ في كل جميل أحبه منشأ جماله، وفي كل كامل أجله مصدر كماله، وفي كل بديع مال إليه علة إبداعه، وفي كل مخترع أعجب به الحكمة العامة في الإقدار على اختراعه:
çإذا لم تشاهد غير حسن شياتها... وأعضائها فالحسن عنك مغيبé
6. فهذا هو حب الله عز وجل؛ حبه في كل محبوب لمشاهدة جماله في كل جميل، ورؤية إبداعه في كل بديع، ومعرفة كماله في كل كامل؛ لأنه مصدر كل شيء الذي أحسن كل شيء خلقه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
7. وأما حبه ـ تبارك اسمه وتعالى جده ـ لعباده الذين يحبونه ويتبعون رسوله الذي هداهم إلى معرفته، ودلهم على سبيل حبه وعبادته، فهو شأن من شؤونه الإلهية في عباده لا يعرفه إلا من ذاقه، وعرف وصل الحبيب وفراقه، وصار مظهرا من مظاهر حكمته، ومجلى من مجالي إبداعه، ومصدرا من مصادر الخير في عباده، وروحا من أرواح النظام في خلقه، وإنما يكون كذلك إذا تخلق بأخلاق الله، وتحقق بأسمائه وصفاته ـ جل علاه ـ، حتى صار في نفسه من خلفاء الله، كما أرشده كتاب الله، ولا يمكن الإفصاح عن هذا المقام؛ لأنه يعرف بالذوق لا بالكلام، وإنما يذوقه من أحب الله، وعرف كيف يعامل من أحبه واصطفاه، فاعمل لذلك لتعرف ما هنالك.
çتحبب فإن الحب داعية الحب... وكم من بعيد الدار مستوجب القربé
__________
(1) تفسير المنار: 3/285.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر الله تعالى قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد ذلك بالوعيد الشديد ـ ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه.
2. روى أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إني رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعونى وامتثلوا أمرى يحببكم الله ويرض عنكم.
3. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ أي قل لهم: إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده، فاتبعونى بامتثال ما نزل به الوحى منه إلىّ، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة، والاعتقادات الباطلة، ويبوؤكم في جوار قدسه، إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله، وهذا حجة على من يدعى محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه، فهو كما قال الورّاق:
çتعصى الإله وأنت تظهر حبّه...هذا لعمرى في القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته...إن المحب لمن يحبّ مطيعé
4. ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تحبب إليه بطاعته، وتقرب إليه باتباع نبيه، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها.
5. روى أنه لما نزل قوله ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ أي قل لهم: أطيعوا الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنته والاهتداء بهديه، وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته لأنه رسوله، لا كما يقول النصارى في عيسى.
6. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ـ فإن الله لا يحب الكافرين، الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/140.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وأخيرا يجيء ختام هذا الدرس قويا حازما، حاسما في القضية التي يعالجها، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة، يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين، ويفرق تفريقا حاسما بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
2. إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياما بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.. وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول، يقول ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، ويقول عن الآية الثانية: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾.. أي تخالفوا عن أمره ـ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.. فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله.
3. يقول شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه: (زاد المعاد في هدى خير العباد): (ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلّى الله عليه وآله وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام.. علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا)
4. إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها.. حقيقة الطاعة لشريعة الله، والاتباع لرسول الله، والتحاكم إلى كتاب الله.. وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام، توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها، وتطوّعهم لأمرها، وتنفذ فيهم شرعها، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها، ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعا، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله، وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير.
5. هذا الدرس الأول من السورة يقرر هذه الحقيقة ـ كما رأينا ـ في صورة ناصعة كاملة شاملة، لا مهرب من مواجهتها والتسليم بها لمن شاء أن يكون مسلما، إن الدين عند الله الإسلام.. وهذا ـ وحده ـ هو الإسلام كما شرعه الله، لا كما تصوره المفتريات والأوهام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/388.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما هو مكر بالله ما يدّعيه المدّعون على الله من اليهود أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وهم في الوقت نفسه يعادون أولياء الله، ويشاقّون رسله، ويقتلون أنبياءه.. فكيف تصح لهم هذه الدعوى، وآخرها ينقض أولها؟ فإن المحبّ الحقيقي يحبّ كل من أحبّ من يحبّ، وإلّا فحبّه لمن أحبّ نزوة طارئة، أو دعوى باطلة.
2. العداوة التي يضمرها اليهود للنبيّ، والتي تستعلن في كيدهم له ومكرهم به، لا تستقيم مع دعواهم بأنهم أحباء الله، فإن كانوا أحباء الله حقّا فليتّبعوا رسوله، وليستجيبوا لما يدعوهم إليه من كلمات ربّه.. إنهم لو فعلوا ذلك لصدقت دعواهم، ولأحبّهم الله حقّا، ولغفر لهم ذنوبهم، وما قطعوا من عمر طويل مع الشقاق والنفاق ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.. فإن أبوا إلا شقاقا ونفاقا، فهم على دعوى باطلة.. إنهم ليسوا أحبابا لله، بل هم أعداء محاربون له، كافرون بآياته وبرسله ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ وإنما حبّه للمؤمنين، فمن لبس الإيمان ظاهرا وباطنا، فهو من أولياء الله وأحبائه، ومن استبطن الكفر والنّفاق فهو عدوّ لله، لا يكون محبّا ولا محبوبا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/433.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ انتقال إلى الترغيب بعد الترهيب على عادة القرآن، والمناسبة أنّ الترهيب المتقدم ختم بقوله: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} [آل عمران: 30] والرأفة تستلزم محبة المرَؤُوف به الرَؤُوف، فجعل محبة الله فعلا للشرط في مقام تعليق الأمر باتباع الرسول عليه مبنيّ على كون الرأفة تستلزم المحبة، أو هو مبني على أنّ محبة الله أمر مقطوع به من جانب المخاطبين، فالتعليق عليه تعليق شرط محقّق، ثم رتّب على الجزاء مشروط آخر وهو قوله: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ لكونه أيضا مقطوع الرغبة من المخاطبين، لأنّ الخطاب للمؤمنين، والمؤمن غاية قصده تحصيل رضا الله عنه ومحبته إياه.
2. المحبة: انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء: من صفات ذاتية، أو إحسان، أو اعتقاد أنّه يحب المستحسن ويجر إليه الخير، فإذا حصل ذلك الانفعال عقبه ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعل محبّا، ويكون المشعور بمحاسنه محبوبا، وتعدّ الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالا عند المحبّ، فإذا قوي هذا الانفعال صار تهيّجا نفسانيا، فسمي عشقا للذوات، وافتنانا بغيرها.
3. الشعور بالحسن الموجب للمحبة يستمدّ من الحواسّ في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال، ويستمد أيضا من التفكّر في الكمالات المستدلّ عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة، ولذلك يحبّ المؤمنون الله تعالى، ويحبّون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، تعظيما للكمالات، واعتقادا بأنّهما يدعوانهم إلى الخير، ويحبّ الناس أهل الفضل الأوّلين كالأنبياء والحكماء والفاضلين، ويحبون سعاة الخير من الحاضرين وهم لم يلقوهم ولا رأوهم.
4. يرجع الجمال والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها: من الأشكال، والأنغام، والمحسوسات، والخلال، وهذه الملاءمة تكون حسيّة لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف، والحرّ في الشتاء، وملاءمة الليّن لسليم الجلد، والخشن لمن به داعي حكّة، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة، وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدواء للمريض، والتعب لجاني الثمرة، والسهر للمتفكّر في العلم، وتكون لأجل الإلف، وتكون لأجل الاعتقاد المحض، كتلقّي الناس أنّ العلم فضيلة، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدهم من غير تأمل في صلاحها، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءمة الألوان اللطيفة، وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحا بأضدادها كالأشكال الفاسدة، والأصوات المنكرة، والألوان الكريهة، دائما أو في بعض الأحوال، كاللون الأحمر يراه المحموم.
5. لم يستطع الفلاسفة توضيح علّة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس: ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حسنا لدى النفس، والشكل المختلّ قبيحا، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب: (ضروب الناس عشاق ضروبا)، وأنّ بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهد أنّ معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالمو الأذواق.
6. أما المتقدمون فقال سقراط: سبب الجمال حبّ النفع، وقال أفلاطون: (الجمال أمر إلهي أزلي موجود في عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلمّا نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئا على مثال ما عهدته في العوالم العقلية وهي عالم المثال مالت إليه لأنّه مألوفها من قبل هبوطها)، وذهب الطبائعيون: إلى أنّ الجمال شيء ينشأ عندنا عن الإحساس بالحواس، ورأيت في كتاب (جامع أسرار الطب) للحكيم عبد الملك ابن زهر القرطبي (العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذّه، وذلك أنّ الروح النفساني الذي مسكنه الدماغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخّر الدماغ وهو الذّكر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسن انضم النوري البصريّ وارتعد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقبله قبولا حسنا ثم يودعه الذّكر فيوجب ذلك المحبة، ويشترك أيضا بالروح الحيواني الذي مسكنه القلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر)
7. الحق أنّ منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثّر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضا كتأثّر المحموم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي:
çوحبّب أوطان الرجال إليهم...مآرب قضّاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم...عهود الصّبا فيها فحنوا لذلكé
وعن ترقّب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقّب الخير من صاحب الكمال والفضيلة، ووراء ذلك كلّه شيء من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة.
8. اختلف المتقدمون في أنّ المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات، فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبّة المادية، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبة العبد لله تعالى، وهذا هو الحق، وقال به من المتقدّمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون، فقيل محبة أفلاطونية، لأنّه بحث عنها وعلّلها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعلم والكرم والعدل، فنجد من أنفسنا ميلا إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميل حتى يصير محبّة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم، ألا ترى أنّ مزاولة كتب الحديث والسيرة ممّا يقوّي محبة المزاول في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وكذلك صفات الخالق تعالى، لما كانت كلها كمالات وإحسانا إلينا وإصلاحا لفاسدنا، أكسبنا اعتقادها إجلالا لموصوفها، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوى إلى أن يصير محبّة وفي الحديث: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبّة ولذلك جعل عندها وجدان حلاوة الإيمان أي وجدانه جميلا عند معتقده، فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازا بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح.
9. من آثار المحبّة تطلّب القرب من المحبوب والاتّصال به واجتناب فراقه، ومن آثارها محبة ما يسّره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتّباع الرسول على محبة الله تعالى لأنّ الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبّة.
10. إطلاق المحبة في قوله: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ هو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبّة وهو الرضى وسوق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه، وهما المعبر عنهما بقوله: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ فإنّ ذلك دليل المحبة وفي القرآن: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: 18]
11. تعليق محبة الله إياهم على ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ المعلّق على قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ ينتظم منه قياس شرطي اقتراني، ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتّباع الرسول فهو حبّ كاذب، لأنّ المحب لمن يحبّ مطيع، ولأنّ ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاظة له وتلبس بعدوّه وقد قال أبو الطيب:
çأأحبّه وأحبّ فيه ملامة...إنّ الملامة فيه من أعدائهé
فعلم أنّ حب العدوّ لا يجامع الحب وقد قال العتابي:
çتودّ عدوي ثم تزعم أنّني...صديقك ليس النوك عنك بعازبé
12. جملة ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في قوة التذييل مثل جملة ﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 284] المتقدمة، ولم يذكر متعلّق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة.
13. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ عودة إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت: فذلكة للكلام، وحرصا على الإجابة، فابتدأ الموعظة أولا بمقدمة وهي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 10] ثم شرع في الموعظة بقوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ [آل عمران: 12] الآية، وهو ترهيب ثم بذكر مقابله في الترغيب بقوله: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ} [آل عمران: 15] الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] الآية وفي ذلك تفصيل كثير، ثم جاء بطريق المجادلة بقوله: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ﴾ [آل عمران: 20] الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: 21] ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله: ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26] الآيات، ثم أمر بالقطيعة في قوله: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: 28]، وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردّا للعجز على الصدر المتقدم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ [آل عمران: 10] الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين، نفيا عن هؤلاء الكافرين المعيّنين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/79.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآثم هذه الدنيا؛ وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
2. في الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ وقال: {ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ} فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى: {واللهُ رَؤُوف بِالْعِبادِ}، وفي هذه الآية يدعو إلى الطاعة لا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدى إلى أعلى منازل السائرين، وهى المحبة: محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
3. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى؛ إذ جعل اتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
4. كون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وأن الله تعالى يمضى ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة؛ لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة؛ فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة؛ ولأن فيه بيان أقوى الاتصال؛ لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل أن المحبة من الله تجيء نتيجة لاتباعه الذي دعا إليه صلّى الله عليه وآله وسلم.
5. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام؛ لأن المعنى: إن كنتم تحبون الله فاتبعونى، وإن اتبعتمونى يحببكم الله؛ لأن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر؛ وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور:
أ. أولها: أن أول طرق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، وعصيان الرسول عصيان لله تعالى، وليس من المعقول أن يحب الله تعالى ويعصيه؛ ولذلك يقول الشاعر الصوفى:
çتعصى الإله وأنت تظهر حبّه...هذا لعمرى في القياس بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته...إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعé
ب. الثاني: أن الطاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه وتعالى لعبده، وأي منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه وتعالى.
ج. الثالث: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنته بمحبة الله تعالى يغفر له الله سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب؛ وذلك لأن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحى كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة.
6. ذيّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وصفان كريمان للذات العلية:
أ. أولهما: أنه غفور؛ أي أنه كثير الغفران لعباده؛ لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى أنه يحب من عباده الطاعة، ويحب من عباده التوبة؛ فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب؛ فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسيء بالمحسن، وليحمل المسيء على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
ب. الثاني: أنه رحيم، وكان من رحمته أن قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، ويعلّموا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء]، وكان من رحمته أن سنّ العقاب للمسيء المستمر على إساءته الموغل في الفساد؛ فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس أن لا يرحم؛ ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)
7. معنى الاتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الاتباع يوضحه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، فهو يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة؛ أما الطريق فهو اتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده؛ فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده، وقد فصل الله الاتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة]، فعلامات الاتباع التي يترتب عليها أن يحبهم الله ويحبوه، أربع:
أ. أولها: أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا: إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح]
ب. الثانية: أنهم أعزة على الكافرين، أي لا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون أن يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
ج. الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
د. الرابعة: أنهم لا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة.
8. تلك هي آيات الاتباع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذا الوصف هو الجامع لكل الأمارات التي لا يند عنه شيء منها.
9. محبة الله حال من أحوال الذات العلية لا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهى تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذى خلق بقدرته كل موجود، وهى غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يعمّان كل موجود، والرضا وإن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة] نجد المحبة أكثر منه، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى فكان هذا دليلا على أنهما متغايران بالنسبة لذاته العلية، كما أن المدلول اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
10. أما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها: الميل بكلّيته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤدّ من واجبات وطاعات، ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وإن كانت ملازمة للاتباع المطلق للأوامر والنواهي وفي الحقيقة إن طاعة العبد لربه لها مرتبتان:
أ. أولاهما: الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب.
ب. الثانية: الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في وصف بعض أصحابه (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)، ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء] فإن هذا النص الكريم دل على أن ثمة مقامين جليلين: مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضى الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
11. المحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه؛ ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين: (المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إليه، ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم)، والمحبة ثلاث درجات:
أ. أولاها: استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شيء سواه، ويصف الهروى في (منازل السائرين) تلك المحبة بأنها: تقطع الوساوس، وتسلى عن المصائب، وتثبت تلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن اتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
ب. الثانية: وهى أعلى من هذه في درجات المحبة ـ هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم: (فيها مطالعة الصفات، وشهود معانى آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة، وكل منها داع قوى إلى محبته سبحانه؛ لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لا محالة إلى محبته)
ج. الثالثة: المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب، وجاء في (منازل السائرين) في هذه المحبة (هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول)
12. هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله أهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسة نرجو أن تضيء في هذا الموضوع، وإن كانت لا تدفئ.
13. العبرة في هذا الموضوع هي أن الشريعة لا يصح أن تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد أن يصل إلى درجة المحبة الحقيقية، وهى أعلى درجات الإيمان، وأقوى درجات الاتباع، فاتباع أحكام الشرع هو طريق المحبة عند أهل السنة الراشدين، وتنكب طريق الاتباع وادعاء الارتفاع عن التكليف هو مخرف أهل الابتداع الضالين، وإذا كان ذلك هو الحق، فإطاعة الله ورسوله هي فيصل التفرقة بين الحق والباطل وبين محبة الله ومحبة الضلال، وبين الإيمان والكفر؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾
14. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأن يدعوهم إلى طاعة الله وطاعته، وهو معنى الاتباع في الماضي وتكرر الأمر بهذه الصيغة للإشارة إلى أن اتباع الرسول هو طاعة لله وللرسول، فمن اتبع الرسول لا يطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو أن محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الاتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف: (من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله، ولا يدرى ما محبة الله، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصورها)
15. هنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الاسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات أن محبة الله تعالى طريقها المستقيم الذي لا عوج فيه هو اتباع الرسول، وتلك الإشارة أنه سبحانه قال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى أن الطاعة واحدة، وأن إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء] وإن من إعجاز القرآن الكريم أن تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
16. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أي فإن أعرضوا عن اتباع ما تدعوهم وهو اتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لا ينالون محبة الله تعالى؛ لأنهم كافرون؛ إذ تعمدوا ألا يطيعوك، وأنكروا أن اتباعك طريق محبة الله رب العالمين، ففي هذا النص الكريم دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه:
أ. أولها: أنه سبحانه عبر بأنه لا يحبهم، وليس بعد نفى الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد أنه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
ب. ثانيها: أنه عبر عن تركهم اتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
ج. ثالثها: أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله! إن ذلك في القياس غريب.
17. اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك، فقد قال نبيك وقوله الحق: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1184.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، من أحب الله يلزمه حتما أن يحب رسول الله وأهل بيته لحب الرسول لهم، ومن أحب الرسول يلزمه حتما أن يحب الله، والتفكيك محال، قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾، لأن الرسول هو لسان الله وبيانه.. والعكس صحيح، أي من نصب العداء للرسول وآله فقد نصب العداء لله من حيث يريد أو لا يريد، فأهل الأديان الأخر الذين يدعون الايمان بالله، ثم ينصبون العداء لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم هم من أعدى أعداء الله.
2. سؤال وإشكال: ان جهلهم بنبوة محمد عذر مبرر، والجواب: في جوابه لا عذر إطلاقا لمن اتبع أهواءه، وقلّد آباءه الا بعد التثبت والنظر إلى جميع الدلائل على نبوة محمد، وما نظر عارف إلى هذه الدلائل نظرة عدل وانصاف إلا آمن وأذعن.
3. لا معنى لحب الصغير للكبير، والعبد للسيد إلا الطاعة والمتابعة.. وكل من أحب ما أبغض الله ورسوله، وأبغض ما أحب الله ورسوله فهو عدو لله ورسوله، وان خيل اليه انه من المحبين، لأن ما يظن انه حب دون أن يبرز له أثر ملموس فهو مجرد وهم وخيال.
4. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ ظاهر هذه الآية ان حقيقة الدين هي طاعة الله والرسول، وان ترك هذه الطاعة يستلزم الكفر، بل هو الكفر بالذات، لأنه قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل: ان الله يمقت العاصين أو يعاقبهم، أي انه اعتبر سبحانه العصيان كفرا، لا سببا للمقت والعقاب فقط، وهذا شيء خطير ومخيف جدا، حيث لا يبقى واحد على الدين والإسلام إلا النادر النادر.. اللهم إلا ان يراد بالكفر هنا العصيان، مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
5. على أية حال، نحن مأمورون دينا وشرعا أن نعامل من نطق بالشهادتين معاملة المسلم من حيث الإرث والزواج والطهارة، وصيانة المال والدم، وما عدا ذلك متروك إلى الله سبحانه، ولسنا مسؤولين عنه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/46.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، تقدم كلام في معنى الحب، وأنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله﴾ الآية، ونزيد عليه هاهنا: أنه لا ريب أن الله سبحانه ـ على ما ينادي به كلامه ـ إنما يدعو عبده إلى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى: ﴿أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
2. لا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان ـ الذي لا يريد شيئا ولا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي وتعلق قلبي ـ بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل ولا مطلوب أخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار وإنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى.
3. ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه وكل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده ويتم بالمحبوب ما للمحب من النقص ولا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه، وعند ذلك يتلاقى حبان، ويتعاكس دلالان، فالإنسان إنما يحب الغذاء وينجذب ليجده ويتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع، وكذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الأنس وله يضيق صدره، وكذا العبد يحب مولاه والخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية، ومخدوما له حق المخدومية، ولو تأملت موارد التعلق والحب أو قرأت قصص العشاق والمتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.
4. فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله ويكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا و(الحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به، ويوجب الخضوع والتسليم لكل ما هو في جانبه، والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شؤون وجوده ويبتغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل، فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره، وإن الدين عند الله الإسلام، وهذا هو الدين الذي يندب إليه سفراؤه، ويدعو إليه أنبياؤه ورسله، وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه، وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة كما يختم بصادعه الأنبياء عليه السلام، وهذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.
5. وقد عرف النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص، واتباعه واقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.
6. ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلّى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾، وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾، ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراطه المستقيم فقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾، فتبين بذلك كله أن (الإسلام وهو الشريعة المشرعة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، وهو دين الحب.
7. من جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها، أعني قوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ فالمراد ـ والله أعلم ـ إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب، وعند ذلك تجدون ما تريدون، وهذا هو الذي يبتغيه محب بحبه، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.
8. أما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان وبين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله وأنهم من حزبه فإن ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم (ولا ولاية إلا باتباع) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية، فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهي ذلك إلى ولاية الله له بحبه.
9. إنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتني عليه الولاية، وإنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي والمؤمنين تئول بالحقيقة إلى ولاية الله.
10. ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، الرحمة الواسعة الإلهية وما عنده من الفيوضات المعنوية والصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، ولا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾
11. الذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب والزلفى وجميع الأمور التي هي من توابعها كالجنة وما فيها، وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة، ولذلك عقب قوله: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ بقوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب، وكما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له وقصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعي ذلك مغفرة الذنوب، وأما ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا.
12. التأمل في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ مع قوله تعالى في هذه الآية: (﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾) كاف في تأييد ما ذكرناه.
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى اتباع الرسول، والاتباع وهو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع (اسم مفعول) سالك سبيل، والسبيل الذي يسلكه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه، وهو الشريعة التي شرعها لنبيه وافترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرعة، ولعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد، وذكر الرسول معه سبحانه لأن الكلام في اتباعه.
13. من هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أن المعنى: أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنته، وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ الآية كالمبين لقوله: (﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾)، على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله وإطاعة الرسول واحدة، ولذا لم يكرر الأمر، ولو كان مورد الإطاعة مختلفا في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، كما لا يخفى، والكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.
14. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار وفيه أيضا إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة، وقد كانت الآية الأولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.
تبين من الكلام في هذه الآية الكريمة أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثل لحب الله سبحانه، وبعبارة أخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية والأمور الخلقية والأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى الإخلاص فقط، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته (وهي الأخلاق) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار، والإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب، هذا من جهة التحليل، ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص، والإخلاص إلى مجموع الشريعة، كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/158.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ ﴿قُلْ﴾ يا محمد للنصارى المُدَّعِين لحب الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ كما تدعون فمن شأن المحب أن يكون راغباً في أن يحبه محبوبه ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ فإنكم إن اتبعتموني أحبكم الله ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ من الشرك وغيره لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وإتباع الرسول في كل دينه يمحو الذنوب كلها؛ لأن من دينه التوبة إلى الله، والطاعة في كل شيء ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فتعرضوا لمغفرته ورحمته باتباع رسوله.
2. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ فأسلموا له وامتثلوا أمره باتباع الرسول وطاعته فهذا هو المقصود باتباعه ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ فما داموا كافرين متولين عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فإن الله لا يحبهم لكونهم كافرين؛ وفائدة التعليق على الكفر: أن لا يتوهم أنه لا يحب الأشخاص لذاتهم أو أنه قد كره ذواتهم كما يكره الإنسان من قد أساء إليه في الماضي إساءة موجعة بقي أثرها في نفسه، سبحان الله الحكيم الكريم الذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11] بل متى تابوا واتبعوا الرسول غفر لهم ورضي عنهم، وصار الماضي منهم كأن لم يكن.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/452.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النزول، وعلق عليها بقوله: إنّ هذه الروايات التي تنوعت في الحديث عن المناسبة التي رافقت نزول هذه الآية، قد تمثل بعض الوقائع التي تتناسب في طبيعتها المضمونية مع الموقف الذي تؤكده الآية في إعطاء الميزان الدقيق للحب لله في معناه العملي، ولكن من الصعب أن نطمئن لها كمنطلق لنزول الآية، لأن مثل هذا الخط الفكري المتصل بقضية التوحيد في دلالاته الفكرية والعملية، ينطلق من الأفق الواسع للعقيدة في كل تفاصيلها الفكرية والروحية والشعورية، في عملية تثقيف الناس بالجذور العميقة لحركة الإيمان في العقل والروح والشعور، ومن الطبيعي أن تكون العلاقة بالله هي الأساس الذي ترتكز عليه الثقافة القرآنية، الأمر الذي يفرض أن تكون منطلقة من موقع التأسيس الثقافي لا من موقع ردّة الفعل المناسبة التي تجعل للظرف الموضوعي دور المنطلق لحركة الفكرة التي تنتظره لتنزل وحيا على الناس.
2. ثم إن هذه المفردات المذكورة في الروايات لا تمثل حالة غير عادية، بل هي أمر طبيعيّ في عقيدة اليهود أو النصارى أو المشركين أو غيرهم، وهذا أسلوب قرآني يوجّه المؤمنين للانسجام مع الخط العملي للإسلام في مفاهيمه وأحكامه، من خلال الإيحاء بالمضمون العاطفي للعقيدة ودلالته الروحية في حياة المؤمن، فإن الإيمان بالله لا يعبّر عن موقف فكريّ مجرّد من قضية وجود الله، بل يعبّر عن موقف تمتدّ فيه الفكرة إلى عمق الشعور، فتتحول إلى إيمان يستجلي عظمة الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه وكل صفاته، في إحساس حميم يفيض بالحب العميق، ويتدخل بالروحية الفيّاضة، مما يجعل من العقيدة، علاقة حميمة بين العبد وخالقه، لا تستغرق في عمق الذات فحسب، بل تتحرك في واقع الحياة لتعبّر عن نفسها في جوّ من المعاناة الروحية المتمثلة بالعمل الجاد والانضباط الواعي والسير المتواصل في خط الله، لأن ذلك هو التعبير الدقيق عن صدق الحب، ولكن أين هو الخط الذي يتجسد فيه الحبّ بالعمل، ما دامت علاقتنا بالله لا تشبه العلاقات الإنسانية التي تخضع للمواجهة والمكالمة والتعليمات المباشرة، لأنها علاقة تتصل بالروح في حضور الغيب الذي يقتحم على الإنسان وجدانه وإحساسه بعيدا عن السمع والبصر!؟ إن الآية تطرح الجواب بشكل حاسم، فإن الخط هو خط الرسالة التي جاء بها الرسول ليخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور، فهو الذي يتجسد فيه رضاه ومحبّته التي يبادل بها عباده، محبّة بمحبة، ومن الطبيعي أن محبّة الله لنا، ليست عاطفة وانفعالا، ولكنها الرحمة والرضا والمغفرة، كما أن محبّة الناس لله، في ما تريد أن تثيره الآية، لا بد من أن تكون إيمانا وعملا وانسجاما مع خطّ الرسالة والرسول، فإذا تحقّق ذلك منهم، باتباع النبي الذي يجسّد ذلك كله، فإن الله سيمنحهم حبّه ورضاه، وهو الرؤوف بعباده الرحيم بهم.
3. ثم تأتي الدعوة إلى إطاعة الله والرسول، كخطّ عريض للعمل، وللدخول في محبة الله، تأكيدا للفكرة من جانبها الإيجابي، توضيحا لمدلولها الذي يجمع طاعة الله وطاعة الرسول في دعوة واحدة، للتدليل على وحدتهما المضمونية في خطوات الإيمان وبيانا للفكرة من جانبها السلبيّ المتمثّل بهؤلاء الذين يعرضون عن دعوة الحقّ والطاعة، وينحرفون عن الخط المستقيم، وهم الكافرون، عقيدة أو عملا، فهؤلاء هم الذين لا يحصلون على محبّة الله في كل ما تمنحه المحبة من معاني الرضا والمغفرة، فإن الله لا يحب الكافرين.
4. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ قل يا محمد، لهؤلاء الذين يتحدثون عن حب الله بطريقة ساذجة عاطفية، كما يحب أحدهم صاحبه أو فتاته من خلال معناه الشعوري المتحرك في الإحساس، نبضة في القلب، وخفقة في الإحساس، واهتزازا في الشعور، فتكون المسألة لديه أن يعبّر عنه بالكلمة أو البسمة، أو الحركات الحميمة في تعابير الجسد نحو الآخر، قل يا محمد بأسلوب تثقيفيّ يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويوحي بالفكرة في منطلقاتها الحقيقية، ويحوّل الحب لله إلى منهج عملي يتصل بالواقع الحي المتحرك المسؤول في علاقة الإنسان بالله في كل وجوده، في الخطوط العامة والخاصة، من خلال الرسول الذي يفتح للناس أبواب الله في دائرة شريعته ودينه ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ﴾ فكرا في العقل، وانفتاحا في الروح، ووعيا في القلب، وإخلاصا في الواقع، بحيث تكون القضية في عمق الذات، لا في سطح العاطفة، في الآفاق التي تؤكد المضمون في النفس، ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ في رسالتي التي بلّغتكم إياها، وفي الشريعة التي أمركم الله باتباعها، وأراد لكم أن تصوغوا إنسانيتكم في الحياة على صورتها وفي المفاهيم العامة عن الإنسان والكون والحياة، وفي النهايات المصيرية التي تطل بكم على الدار الآخرة، فإنها ليست شيئا ينطلق من صفتي الشخصية، ولا من مبادراتي الذاتية، فإني لا أمثل في موقعي عندكم إنسانا ينتسب إلى عائلة وينتمي إلى مكان، بل إني أمثل الرسول الذي أرسله الله إليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور ويهديكم إلى الصراط المستقيم، ويفتح لكم أبواب الجنة بالدعوة إلى طاعته، ويغلق عنكم أبواب النار بالدعوة إلى البعد عن معصيته، فكلماتي كلماته، وأفكاري إيحاءاته، وطاعتي طاعته، ومعصيتي معصيته، والرادّ عليّ رادّ عليه والمنفتح عليّ منفتح عليه، لأن الرسول ـ في صفته الرسولية ـ لا يمثل نفسه، بل يمثل صاحب الرسالة، وهو الله، فإذا اتبعتموني في كل تعاليمه التي أعلمكم إياها، فإنكم بذلك تؤكدون اتباعه، وأي حبّ أعظم من الذوبان في طاعة من تحب، وأيّ إخلاص أكبر من الانحناء أمام إرادته، فإذا رأى الله منكم هذا الحب الواقعي المتمثل بالعمل الرسالي الخاضع لله ورسالاته ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾، لأنه يحب الصادقين المتقين المحسنين الخاشعين، لأن صدقهم وتقواهم وإحسانهم وخشوعهم له دليل واضح على حبهم له، وبذلك يمحضهم حبّا بحب.
5. إذا كان حب العبد لله طاعة له، فإن حب الله للعبد مغفرة له ورضوان، هذا ما عبرت عنه الآية التالية ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ التي أسلفتم في غفلاتكم وضياعكم وحيرتكم في متاهات الطريق ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فالغفران شأنه والرحمة صفته، لأنه الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم.
6. ﴿قُلْ﴾ يا محمد، للذين تدعوهم إلى الله ليدخلوا في ساحة رحمته وغفرانه، فينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾ الذي خلقكم ورزقكم ومنحكم الحياة في وجودكم الحيّ المتحرك، وهو الذي يملك موتكم وبعثكم في يوم القيامة الذي يقودكم إلى الجنة في خط الطاعة ﴿وَالرَّسُولُ﴾ فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، وهذا هو الإيمان في الخط العملي، فإنه ليس كلمة تقال، ولكنه إقرار بالقلب واعتراف باللسان وعمل بالأركان ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عنك وعن دعوتك وتمردوا على الله وكفروا به، فلا تلتفت إليهم، واتركهم لضلالهم وكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم من قبلك، ولن يحصلوا على حب الله لهم لأنهم لا يفهمون عناصر الحب الحقيقي الظاهر، لا سيما المنفتحة على حب الله ﴿فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ الذين ابتعدوا عن الفطرة وعاشوا في متاهات الضلال، ولم يعرفوا ـ في أجواء حقدهم ـ إلى الحب سبيلا.
7. تلك هي بعض إيحاءات هذه الآيات في الأجواء العمليّة التي تتحرك فيها العاطفة المضادة في مشاعرها المنحرفة، والعاطفة الملائمة في أحاسيسها الطبيعية، سواء في ذلك في مسارها في حياة الناس أو في علاقتها بالله في النطاق الروحي والعملي، وبذلك نخرج بنتيجة حاسمة في انطلاقة الشخصية الإسلامية، حيث لا تجزيئية ولا ازدواجية ولا انقسام، بل هي الشخصية الواحدة التي يلتقي فيها الفكر بالعاطفة، وتمتزج فيها العلاقات الفكرية والروحية بالمواقف العملية في خطّ العلاقات الإنسانية، وتنطلق فيها المشاعر بالخطوط المتحركة في المجال الحياتي الذي يحكم الموقف والسلوك، وتتحوّل علاقة الإنسان بالله إلى علاقة حبّ من نوع جديد لا يخضع للانفعال الساذج، بل يعيش مع الخط المستقيم الذي يواجه الإنسان بالنتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة.
أمّا المعطيات التي يمكن الاستفادة منها في خطواتنا الإسلامية العملية، فيمكن أن نلخّصها في نقاط:
أ. التأكيد على المؤمنين بأن الفواصل الفكرية، تمثل عناصر أساسية في تكوين الشخصية وتميّزها، وتخلق في داخل الإنسان جوّا عاطفيا جديدا، يحدد نوع العلاقات تبعا لانسجامها مع الخطوط الفكرية وابتعادها عنها، من دون أن يعني ذلك عقدة سلبيّة ضدّ اللقاء في المواقف المشتركة أو في المصالح المشتركة في المجتمعات المتعددة الاتجاهات، لأن هناك فرقا بين تحطيم الحواجز النفسية أمام الأفكار المتعددة، وبين تحطيمها أمام المواقف الموحّدة، فإن الأول يمثل ضياع خطوط الفكرة وتمييعها، بينما يمثّل الثاني حركة الفكرة ومرونتها وإيجابيّتها في خطواتها العملية نحو الهدف الكبير في مراحله المتنوّعة.
ب. الاستفادة من الأسلوب القرآني الوعظي الذي لا يقدّم الفكرة مجرّدة عن دلالاتها الإيمانية، بل يحشد في داخلها وفي خطواتها، كل الأجواء التي يلتقي فيها الإنسان بالله واليوم الآخر في أساليب تحذيرية وتصويرية تتنوّع فيها منابع الإيحاء وموارده أمام الترغيب والترهيب، مما يجعل الفكرة في خطّها المستقيم أو المنحرف جزءا من هذا الجو المليء بالروعة والرهبة، فقد نجد أن مثل هذا الأسلوب يساهم في تحقيق هدفين:
• الأول: أن تبقى الفكرة مشدودة إلى أجوائها الروحية، فلا تبقى مجرّد فكر جامد يطرح القضية في ظروفها الموضوعية التي تبعدها عن مسارها الطبيعي.
• الثاني: أن تظل الفكرة في حالة حركة إيجابية في داخل الشخصية المؤمنة، فلا تتجمد في زاوية من زواياها، بل تتسع لتشمل كل الجوانب، فتحرّك الفكر والمشاعر والخطى لتهزّها ـ بعنف ـ نحو الممارسة والمعاناة، فتبعدها عن الاسترخاء والسلبيّة التي قد تصيب المؤمنين من خلال بعض النوازع الخاصة.
ج. الإيحاء بأن العلاقة بين الله والناس هي علاقة حبّ من نوع جديد، ومحاولة تربية الشخصية الإسلامية على أساس الحبّ لله، بعيدا عن الأجواء الذاتية التي تستغرق في الأفكار والعواطف في ما يشبه الغيبوبة، وقريبا من الأجواء التي تقترب بالإنسان من الأعمال التي تحقّق رضا الله، الذي هو تعبير إيمانيّ عن محبة الله للإنسان، وفي هذا الاتجاه، يمكن للتربية الإسلامية أن تصنع الشخصية الإنسانية الجديدة التي تهتز فيها المشاعر بالفكر والعمل، قبل أن تهتزّ بالتنهّدات والتمنيات، وربما يصبح ذلك طابعا للعلاقات الإنسانية التي تربط الشخصية بالآخرين، فتتحوّل إلى الروابط العملية الروحية بدلا من الروابط العاطفية الذاتية، ويتجه الإنسان ـ من خلال ذلك ـ إلى علاقات أعمق وأقوى لا يحكمها المزاج بالانفعالات الطارئة، بل يسيطر عليها العقل بالخطوات الهادئة الحكيمة، وفي هذا الجوّ، يمكن للإنسان أن يشعر بأن الإيمان الواحد يستطيع أن يصنع العلاقات الأخويّة بين الناس الذين يجتمعون عليه كما أراده الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]
__________
(1) من وحي القرآن: 5/333.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لهاتين الآيتين روايتان في سبب نزولهما: إحداهما في تفسير (مجمع البيان) والأخرى في تفسير (المنار)
أ. الأولى تقول: ادّعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّهم يحبّون الله، مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهورا في أعمالهم، فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم.
ب. وتقول الأخرى: حضر فريق من مسيحيّي نجران مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وزعموا في حديثهم أنّ مبالغتهم في تقديس المسيح عليه السّلام إنّما ينطلق من حبّهم لله.. فنزلت الآيتان تردّان عليهم.
2. تقول الآية الأولى إنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان، إنّ من يدّعي حبّ الله، فعليه أوّلا اتّباع رسوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
3. في الواقع أنّ من آثار الحبّ الطبيعية انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له، صحيح أنّ هناك حبّا ضعيفا لا تتجاوز أشعّته جدران القلب، إلّا أنّ هذا من التفاهة بحيث لا يمكن اعتباره حبّا، لا شكّ أنّ للحبّ الحقيقي آثارا عملية تربط المحبّ بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته، والدليل على ذلك واضح، فحبّ المرء شيئا لا بدّ أن يكون بسبب عثوره على أحد الكمالات فيه، لا يمكن أنّ يحبّ الإنسان مخلوقا ليس فيه شيء من قوّة الجذب، وعليه فإنّ حبّ الإنسان لله ناشئ من كونه منبع جميع الكمالات وأصلها، إنّ محبوبا هذا شأنه لا بدّ أن تكون أوامره كاملة أيضا، فكيف يمكن لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه، فإن عصى فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي.
4. هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيّي نجران والذين ادّعوا حبّ الله على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بل هذا الردّ أصيل وعامّ في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون، إنّ الذين لا يفتؤون ـ ليل نهار ـ يتحدّثون عن حبّهم لله ولأئمّة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار، ولكنّهم لا يشبهون أولئك في العمل، هم كاذبون، أولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتّى أخمص القدم، ومع ذلك فهم يرون أن قلوبهم مليئة بحبّ الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمّة العظام، أو الذين يعتقدون أنّ الإيمان والحبّ والمحبّة قلبية فحسب، هم غرباء على منطق الإسلام تماما.
5. جاء في (معاني الأخبار) عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: (ما أحبّ الله من عصاه)، ثمّ قرأ الأبيات:
çتعصي الإله وأنت تظهر حبّه...هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقا لأطعته...إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيعé
6. ﴿يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تقول هذه الآية: إذا كنتم تحبّون الله، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم، فإنّ الله سيحبّكم أيضا، وسوف تظهر آثار حبّه أنه سيغفر لكم ذنوبكم، ويشملكم برحمته، والدليل على هذا الحبّ المتقابل من قبل الله واضح أيضا، لأنّه سبحانه موجود كامل ولا متناه من كلّ الجهات، وسيرتبط ـ على أثر السنخية ـ بكل موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحبّ.
7. يتبيّن من هذه الآية أن ليس هناك حبّ من طرف واحد، لأنّ الحبّ يدفع المحبّ إلى أن يحقّق عمليا رغبات حبيبه، وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلّا أن يرتبط بالمحبّ.
8. سؤال وإشكال: إذا كان المحبّ دائم الإطاعة لأوامر المحبوب، فلا يبقى له ذنب فيغفر له، ولذلك فإن جملة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ليست ذات موضوع، والجواب:
أ. أوّلا يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة.
ب. وثانيا أنّ المحبّ لا يستمرّ في عصيان المحبوب، ولكن قد يزلّ أحيانا بسبب طغيان الشهوات، وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه.
9. جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمّة الإسلام كانوا يقولون: ما الدين إلّا الحب، ومن ذلك ما جاء في (الخصال) و(الكافي) عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال: (وهل الدين إلّا الحبّ؟) ثمّ تلا هذه الآية ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، هذه الأحاديث تريد أن تبيّن أنّ حقيقة الدين وروحه هي الإيمان بالله وحبّه، ذلك الإيمان والعشق اللذين يعمّ نورهما كلّ الوجود الإنساني ويضيئانه، وتتأثر بهما الأعضاء والجوارح، ويظهر أثرهما في اتّباع أوامر الله.
10. ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة، وتقول: ما دمتم تدّعون الحبّ لله، إذا اتّبعوا أمر الله ورسوله، وإن لم تفعلوا فلستم تحبّون الله، والله لا يحبّ هؤلاء ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
11. يستفاد من ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ أنّ إطاعة الله وإطاعة رسوله لا تنفصلان، وأنّ إطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هي إطاعة الله، وإطاعة الله هي إطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لذلك فالآية السابقة تحدّثت عن إطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فقط، وهنا دار الكلام على إطاعتهما كليهما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/468.
19. الله واصطفاء الصالحين وآلهم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈19⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33 ـ 34]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنه قال للحسن: قم، فاخطب الناس، قال إني أهابك أن أخطب وأنا أراك، فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن، فحمد الله، وأثنى عليه، وتكلم، ثم نزل، فقال الإمام علي: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).
2. روي أنه قيل له: يا أبا الحسن، أخبرنا بما أوصى إليك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: سأخبركم، إن الله اصطفى لكم الدين وارتضاه لكم، وأتم عليكم نعمته، وكنتم أحق بها وأهلها، وإن الله أوحى إلى نبيه أن يوصي إلي، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: يا علي، احفظ وصيتي، وارفع ذمامي، وأوف بعهدي، وأنجز عداتي، واقض ديني وقومها، وأحيي سنتي، وادع إلى ملتي، لأن الله تعالى اصطفاني واختارني، فذكرت دعوة أخي موسى، فقلت: اللهم اجعل لي وزيرا من أهلي كما جعلت هارون من موسى، فأوحى الله عز وجل إلي أن عليا وزيرك وناصرك والخليفة من بعدك، ثم ـ يا علي ـ أنت من أئمة الهدى وأولادك منك، فأنتم قادة الهدى والتقى، والشجرة التي أنا أصلها، وأنتم فرعها، فمن تمسك بها فقد نجا، ومن تخلف عنها فقد هلك، الذين أوجب الله تعالى مودتهم وولايتهم والذين ذكرهم الله في كتابه ووصفهم لعباده، فقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فأنتم صفوة الله من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران، وأنتم الاسرة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد(2).
__________
(1) ابن سعد كما في تاريخ دمشق: ١٣/٢٤٤.
(2) مصباح الأنوار: 156.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى﴾ يعني: اختار من الناس لرسالته: ﴿آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، ﴿وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يعني: اختارهم للنبوة والرسالة على عالمي ذلك الزمان، فهم ذرية بعضها من بعض، فكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم(3).
4. روي أنّه قال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدا بالرؤية(4).
__________
(1) الثعلبي: ٣/٥٢.
(2) ابن جرير: ٥/٣٢٨.
(3) ابن عساكر: ٧٠/٧٧.
(4) ابن المنذر: ١/١٧١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال في الآية: فضلهم الله على العالمين بالنبوة على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المصطفين لربهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٩.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: هل كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: لا، ولكنهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء، لم يكونوا فارقوا الدنيا إلا سعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ نحن منهم، ونحن بقية تلك العترة(2).
3. روي أنّه قال: من زعم أنه قد فرغ من الأمر فقد كذب، لأن المشيئة لله في خلقه، يريد ما يشاء، ويفعل ما يريد، قال الله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آخرها من أولها، وأولها من آخرها، فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه، فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه(3).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/184.
(2) تفسير العيّاشي: 1/168.
(3) تفسير العيّاشي: 1/169.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال في الآية: ذكر الله أهل بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من آل إبراهيم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٢٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ يعني: اختار من الناس لرسالته آدم ونوحا، ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، ثم قال ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾ يعني: موسى، وهارون؛ ذرية آل عمران، اختارهم للنبوة والرسالة، ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يعني: عالمي ذلك الزمان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، وكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبا لله، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما قالوا، يعني: اليهود(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فمن تلك الذرية كان نسب عيسى؛ إذ لم يكن له أب من غيرهم، فدعي إلى نسبه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٦.
الرضا:
روي عن الريان بن الصلت، قال: حضر الإمام الرضا (ت 203 هـ) مجلس المأمون، وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق وخراسان، وذكر الحديث إلى أن قال فيه: قال المأمون: هل فضل الله العترة على سائر الأمة؟ فقال الإمام الرضا: إن الله عز وجل أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه)، فقال المأمون: وأين ذلك من كتاب الله؟ فقال له الإمام الرضا: في قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ ـ قال ـ: يعني أن العترة داخلون في آل إبراهيم، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من ولد إبراهيم، وهو دعوة إبراهيم(1).
__________
(1) عيون أخبار الرّضا: 1/230.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ الاصطفاء ـ يرحمك الله ـ هو: الاختيار والتفضيل على غيرهم، بما اختصهم به من الرسالة والإبلاغ، والقيام بالحجة والاجتهاد، مع فضلهم وطاعتهم لله، وإيثارهم لأمره، وبعدهم عن معصيته ـ صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته ـ
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/156.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾:
أ. قيل: ﴿اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ ومن ذكر لرسالته ولنبوته.
ب. وقيل: اختارهم لدينه، وهو الإسلام.
ج. وقيل: اختارهم في النية والعمل الصالح والإخلاص لله.
2. الاصطفاء: أن يجعلهم أصفياء من غير تكدر بالدنيا، وغيرهم اختارهم لأمرين: لأمر الآخرة، ولأمر المعاش؛ ألا ترى إلى قوله: (إنّا معاشر الأنبياء لا نورث؛ نموت موت العبد لسيّده)
3. بالعواقب يذم أهل الاختبار ويحمدون؛ فجعل الله عواقب الحكماء وأهل الإحسان حميدة لذيذة؛ ترغيبا فيها، وعواقب السفهاء وأهل الإساءة دميمة وجيفة؛ تزهيدا فيها؛ فخرج جميع فعل الله على الحكمة والإحسان، وإن كانت مختلفة في اللذة والكراهة؛ لأنه كذلك طريق الحكمة في الجزاء، وفي ابتداء المحنة، إلا أن المحنة تكون مختلفة، والجزاء نوع لما هو كذلك في الحكمة والإحسان؛ إذ كذلك سبق من أهله الاختيار والجزاء على ما اختاره من له وعليه حكمة وإحسان؛ أعني: بالإحسان فيما يجوز الامتحان بلا جزاء بحق الشكر لما أولى وأبلى، والحكمة فيما كان لازما ذلك في التدبير، ولا قوة إلا بالله.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: بعضها من بعض في النسب من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، عليهم السلام.
ب. وقيل: بعضهم من ذرية بعض.
ج. وقيل: بعضهم من جوهر بعض؛ فلا تتكبروا؛ كقوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [النساء: 25] منع الحرّ عن التعظيم على العبد.
5. اختلف في الذرية:
أ. قال بعضهم: (الذرية): الأولاد والآباء؛ كقوله: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: 3]، وكانوا الأولاد والآباء، والذريّة مأخوذة، وهو الخلقة.
ب. وقيل: (الذرية): الأولاد خاصّة، يقال: ذرية فلان، إنما يراد، أولاده خاصّة؛ دليله قوله: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: 38]، وقوله: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ﴾
6. اختلف في الآل:
أ. قيل: آل الرجل: المتصلون به.
ب. وقيل: آل الرجل: أتباعه.
ج. وقيل: أقرباؤه.
د. وروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (كلّ تقىّ فهو من آلى)
هـ. وقيل: إن عمران من ولد سليمان بن داوود.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/355.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فأما آل إبراهيم فهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وخيار عترته واصطفاهم الله للنبوة، وآل عمران فهو موسى وهارون وعيسى لأن أمه مريم بنت عمران.
2. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ أي بالتناصر لما بعثوا به لا بالنسب كما قال عز من قائل: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة:67]، أي في اجتماعهم على الضلال.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/137.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في آل عمران قولان:
أ. أحدهما: أنه موسى وهارون ابنا عمران.
ب. الثاني: أنه المسيح، لأن مريم بنت عمران، وهذا قول الحسن.
2. فيما اصطفاهم به ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه اصطفاهم باختيار دينهم لهم، وهذا قول الفراء.
ب. الثاني: أنه اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم.
ج. الثالث: أنه اصطفاهم باختيارهم للنبوة، وهذا قول الزجاج.
3. في قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم صاروا ذرية بالتناصر لا بالنسب، كما قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67] يعني في الاجتماع على الضلال، وهذا قول الحسن، وقتادة.
ب. الثاني: أنهم في التناسل والنسب، إذ جميعهم من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، وهذا قول بعض المتأخرين.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/386.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اصطفى: اختار واجتبى وأصله من الصفوة، وهذا من حسن البيان الذي يمثل فيه المعلوم بالمرئي وذلك أن الصافي هو النقي من شائب الكدر فيما يشاهد فمثل به خلوص هؤلاء القوم من الفساد لما علم الله ذلك من حالهم لأنهم كخلوص الصافي من شائب الأدناس.
2. سؤال وإشكال: بما ذا اختارهم أباختيار دينهم أو بغيره؟ والجواب: فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: بمعنى أنه اختار دينهم واصطفاه، كما قال: {وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ} وهذا قول الفراء.
ب. الثاني: قال الزجاج واختاره الجبائي: انه اختيارهم للنبوة على عالمي زمانهم.
ج. الثالث: قال البلخي: بالتفضيل على غيرهم بما رتبهم على من الأمور الجليلة، لما في ذلك من المصلحة.
3. الاصطفاء: هو الاختصاص بحال خالصة من الأدناس، ويقال ذلك على وجهين:
أ. يقال: اصطفاه لنفسه أي جعله خالصاً له يختص به.
ب. الثاني: اصطفاه على غيره أي اختصه بالتفضيل على غيره وهو معنى الآية.
4. سؤال وإشكال: كيف يجوز اختصاصهم بالتفضيل قبل العمل؟ والجواب: إذا كان في المعلوم أن صلاح الخلق لا يتم إلا بتقديم الاعلام لذلك بما قدم من البشارة بهم، والاخبار بما يكون من حسن أفعالهم والتشويق إليهم بما يكون من جلالتهم إلى غيره من الآيات التي تشهد لهم، والقوى في العقول والافهام التي كانت لهم، وجب في الحكمة تقديم ذلك لما فيه من حسن التدبير.
5. سؤال وإشكال: من آل ابراهيم؟ والجواب:
أ. قال ابن عباس، والحسن: هم المؤمنون الذين على دينه، فيكون بمعنى اختصهم بميزة كانت منهم على عالمي زمانهم.
ب. وقيل: آل عمران هم آل ابراهيم كما قال ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ فهم موسى وهرون ابنا عمران.
6. قال الحسن: آل عمران المسيح، لأن أمه مريم بنت عمران، وفي قراءة أهل البيت (وآل محمد على العالمين)(2)، وقال أيضاً: إن آل إبراهيم: هم آل محمد الذين هم أهله.
7. بينا فيما مضى أن الآل بمعنى الأهل، والآية تدل على أن الذين اصطفاهم معصومون منزهون، لأنه لا يختار ولا يصطفي إلا من كان كذلك، ويكون ظاهره وباطنه واحداً، فإذاً يجب أن يختص الاصطفاء بآل إبراهيم وآل عمران من كان مرضياً معصوماً سواء كان نبياً أو إماماً.
8. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وزن ذرية فعلية، مثل قمرية، ويحتمل أن يكون على وزن فعلولة، وأصله ذرورة إلا أنه كره التضعيف، فقلبت الراء الأخيرة ياء، فصار ذروية وقلبت الواو للياء التي بعدها ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، فصار ذرية، قال الزجاج: والاول أجود وأقيس، ويحتمل نصبها وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون حالا والعامل فيها اصطفى.
ب. الثاني: أن يكون على البدل من مفعول اصطفى.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: أي في الاجتماع على الصواب، قال الحسن: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ في الاجتماع على الهدى، وبه قال قتادة.
ب. الثاني: قال الجبائي وغيره: إنه في التناسل إذ جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، لأنه قال الذين اصطفاهم الله بعضهم من نسل بعض.
10. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه سميع لما تقوله الذرية عليم بما تضمره، فلذلك فضلها على غيرها لما في معلومة من استقامتها في قولها، وفعلها.
ب. الثاني: سميع لما تقوله امرأة عمران من قوله: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ عليم بما تضمره ليدل على أنه لا يضيع لها شيء من جزاء عملها ونبه بذلك على استحسان ذلك منها، لأن قول القائل قد علمت ما فعلت يجري في الوعد والوعيد معاً على حد واحد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/441.
(2) قراءة تفسيرية، مثل ما قرئ (متتابعات) وغيرها
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر، وأصله في اللغة افتعل من الصفوة، والصافي هو النقي من شائب الكدر، فمثل به خلوص هَؤُلَاءِ القوم من الفساد كخلوص الصافي من شائب الأدناس.
ب. الآل: الأهل، والعرب تبدل الهمزة والهاء يقال: أَرَقْتُ الماء وهَرَقْتُ.
ج. الذرية: الأولاد، وفي وزنه قولان: الأول: فُعْلِيَّة مثل قمرية، والثاني: فُعْلُولَة مثل ذُرُّورَة إلا أنه كره التضعيف فقلبت الراء الأخيرة ياءْ فصارت ذُرُّويَة، وقلبت الواو ياء للياء التي بعدها فصارت ذرية، قال الزجاج: والأول أجود.
2. عن ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: وقعت المنازعة في إبراهيم وعيسى، واختلفت أقوال اليهود والنصارى، فَبَيَّنَ طريقتهم، وأن من اتباع الرسول أن يقال فيهم ما يقوله هو.
ب. وقيل: لما أمر بطاعة الرسول وأبوا ذلك بَيَّنَ أنه كما اصطفاه لرسالته اصطفى قبله الأنبياء، فلا وجه لإنكارهم نبوته.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾:
أ. قيل: اختارهم لنبوته.
ب. وقيل: اختار دينهم كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ عن الفراء.
ج. وقيل: اختارهم على عالمي زمانهم للنبوة لما علم من صلاحهم لذلك، عن أبي علي والزجاج.
د. وقيل: اختارهم بالتفضيل على غيرهم بما رتبهم عليه من الأمور الجليلة لما فيه من المصلحة، عن أبي القاسم.
هـ. وقيل: اختار آدم بأن خلقه من غير واسطة، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وأرسله إلى الملائكة والإنس، واختار نوحًا بطول العمر والنبوة وإجابة الدعوة، وغرَّق قومه، ونجاه في السفينة، واختار إبراهيم بالخلة وتبريد النار، وإهلاك النمرود.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾:
أ. قيل: أراد نفس إبراهيم ونفس عمران كقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ يعني موسى وهارون، وقال الشاعر:
çوَلا تَبْكِ مَيْتًا بعد ميت أجَنَّهُ... عَلِيّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِé
يعني أبا بكر.
ب. وقيل: آل إبراهيم: أولاده منهم نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وآل عمران: موسى وهارون.
ج. وقيل: هم المؤمنون الَّذِينَ هم على دينه، عن ابن عباس والحسن.
6. اختلف في آل عمران:
أ. قيل: موسى وهارون.
ب. قيل: عيسى.
ج. وقيل: هم وآل إبراهيم واحد.
7. أما عمران فقيل: هو عمران بن يصهر بن قاهثبن لاوز بن يعقوب، عن مقاتل، وقيل: هو ولد سليمان بن داوود، عن الحسن ووهب.
8. إنما خص هَؤُلَاءِ بالذكر؛ لأن جميع الأنبياء منهم.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: على عالمي زمانهم.
ب. وقيل: اصطفاهم كلهم على جميع الخلق.
10. ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ أولادًا وأعقابًا ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: في التناصر في الدين، عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: في التناسل؛ لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذُرِّيَّة نوح، ثم ذرية إبراهيم، عن أبي علي.
ج. وقيل: بعضهم على دين بعض، عن أبي روق.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: سميع لما تقوله امرأة عمران ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تضمره إذ قالت ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ لتدل على أنه لا يَضِيعُ لها شيئا.
ب. وقيل: سميع لما قالته الذُّرِّيَّة عليم بضمائرهم؛ ولذلك فضلها على غيرها لما علم من استقامتهم في القول والعمل.
12. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أنه تعالى اختار هَؤُلَاءِ المذكورين لما علم من حسن نهوضهم خصهم بالنبوة وقيامهم بما فوض إليهم من الرسالة.
ب. أن الرسل أفضل من غيرهم من حيث فضلهم واختارهم، قال القاضي: وإذا كان المراد به النبوة على ما قررنا فلا تدل على التفضيل، وقد قال بعضهم: إن الآية تدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، من حيث قال: اصطفى على العالمين، والملائكة ليست منهم، وقد اختلفوا، فمنهم من قال: اسم العالم لا يقع إلا على البشر، ومنهم من قال: يعم الكل، وعلى كلا القولين ليس في الاصطفاء دلالة التفضيل، وإذا حمل على أنه تعالى اختارهم للنبوة يدل على ذلك.
13. مسائل نحوية:
أ. ﴿اصْطَفَى﴾ محله النصب، ولأنه فعل ماض.
ب. ﴿آدَمَ﴾ لم يُصْرَفْ لأنه أَفْعَل، وصرف نوحًا؛ لأنه اسم على ثلاثة أحرف أوسطه ساكن، نحو زَيْد.
ج. ﴿آلَ﴾ نصب بـ ﴿أَصْطَفَى﴾، أي واصطفى آل إبراهيم.
د. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ محله جر؛ لأنه مضاف إليه إلا أنه لا ينصرف، وكذلك ﴿عِمْرَانَ﴾ لا ينصرف.
هـ. ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ قيل: نصب على الحال، وقيل: على البدل، وقيل: بمحذوف؛ أي واصطفى ذُرِّيَّة، ويجوز فيها الرفع على ذلك ذرية بعضها من بعض ابتداء وخبر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/215.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاصطفاء والاختيار والاجتباء نظائر، وهو افتعل من الصفوة، وهذا من أحسن البيان الذي يمثل به المعلوم بالمرئي، وذلك أن الصافي هو النقي من شائب الكدر فيما يشاهد، فمثل الله تعالى خلوص هؤلاء القوم من الفساد بخلوص الصافي من شائب الأدناس.
ب. بينا معنى الآل فيما مضى عند قوله ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ الآية ومعنى الذرية وأصله عند قوله ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾
2. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى﴾ أي: اختار واجتبى ﴿آدَمَ وَنُوحًا﴾ لنبوته ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: أي على عالمي زمانهم بأن جعل الأنبياء منهم.
ب. وقيل: اختار دينهم كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ عن الفراء.
ج. وقيل: اختارهم بالتفضيل على غيرهم بالنبوة، وغيرها من الأمور الجليلة التي رتبها الله لهم في ذلك من مصالح الخلق.
د. وقيل: اختار آدم بأن خلقه من غير واسطة، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وأرسله إلى الملائكة والإنس واختار نوحا بالنبوة، وطول العمر، وإجابة دعائه، وغرق قومه، ونجاته في السفينة، واختار إبراهيم بالخلة، وتبريد النار، وإهلاك نمرود.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾:
أ. قيل: أراد به نفس إبراهيم، ونفس عمران كقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ يعني موسى وهارون.
ب. وقيل: آل إبراهيم أولاده: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وفيهم داود وسليمان ويونس وزكريا ويحيى وعيسى، وفيهم نبينا لأنه من ولد إسماعيل.
ج. وقيل: آل إبراهيم هم المؤمنون المتمسكون بدينه، وهو دين الاسلام، عن ابن عباس والحسن.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾:
أ. قيل: هم من آل إبراهيم أيضا، كما قال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ فهم موسى وهارون ابنا عمران، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
ب. وقيل: يعني بآل عمران مريم وعيسى، وهو عمران بن الهشم بن أمون، من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم، لأن آل الرجل أهل البيت الذي ينتسب إليه، عن الحسن ووهب.
ج. وفي قراءة أهل البيت (وآل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم على العالمين)(2)، وقالوا أيضا: إن آل إبراهيم هم آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم الذين هم أهله.
5. يجب أن يكون الذين اصطفاهم الله تعالى مطهرين معصومين، منزهين عن القبائح، لأنه تعالى لا يختار ولا يصطفي إلا من كان كذلك، ويكون ظاهره مثل باطنه في الطهارة والعصمة، فعلى هذا يختص الاصطفاء بمن كان معصوما من آل إبراهيم وآل عمران، سواء كان نبيا أو إماما، ويقال الاصطفاء على وجهين:
أ. أحدهما: إنه اصطفاه لنفسه أي: جعله خالصا له، يختص به.
ب. والثاني: إنه اصطفاه على غيره أي: اختصه بالتفضيل على غيره، وعلى هذا الوجه معنى الآية.
6. سؤال وإشكال: كيف اختصهم الله بالتفضيل قبل العمل؟ والجواب: إنه إذا كان المعلوم أن صلاح المكلفين لا يتم إلا بهم، فلا بد من تقديم البشارة بهم، والإخبار بما يكون من حسن شمائلهم وأفعالهم، والتشويق إليهم، كما يكون من جلالة أقدارهم، وزكاء خلالهم، ليكون ذلك داعيا للناس إلى القبول منهم، والانقياد لهم.
7. في هذه الآية دلالة على تفضيل الأنبياء على الملائكة، عليهم أجمعين الصلاة والسلام، لأن العالمين يعم الملائكة وغيرهم من المخلوقين، وقد فضلهم سبحانه، واختارهم على الكل.
8. ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ أي: أولادا وأعقابا ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: معناه في التناصر في الدين، وهو الاسلام، أي: دين بعضها من دين بعض، كما قال: {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي: في التناصر والتعاضد على الضلال، وهو قول الحسن وقتادة.
ب. وقيل: بعضها من بعض في التناسل والتوالد، فإنهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، لأنه قال الذين اصطفاهم الله بعضهم من نسل بعض، واختاره أبو علي الجبائي.
9. في قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن معناه سميع لما تقوله الذرية عليم بما يضمرونه، فلذلك فضلهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أقوالهم وأفعالهم.
ب. الثاني: إن معناه سميع لما تقوله امرأة عمران من النذر، عليم بما تضمره، ونبه بذلك على استحسان ذلك منها.
10. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه لما وقعت المنازعة في إبراهيم وعيسى، واختلف أقوال النصارى واليهود فيهما، بين تعالى أن من أطاع الرسول قال فيهما ما يقوله هو.
ب. وقيل: إنه لما أمر بطاعة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، وأبى ذلك المشركون، بين تعالى أنه كما اصطفاءه لرسالته، اصطفى من قبله من الأنبياء، فلا وجه لإنكارهم رسالته.
11. يحتمل نصب ذرية على وجهين أحدهما: أن يكون حالا والعامل فيها اصطفى والثاني: أن يكون على البدل من مفعول اصطفى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/735.
(2) قراءة تفسيرية طبعا
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾، قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية، قال الزجّاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم، فجعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يرى، لأن العرب تمثّل المعلوم بالشيء المرئي، فإذا سمع السّامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا، فنحن نعاين الشيء الصّافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة الله من خلقه، وفيه ثلاث لغات: صفوة، وصفوة، وصفوة.
2. أمّا آدم فعربيّ وقد ذكرنا اشتقاقه في (البقرة)، وأما نوح، فأعجميّ معرّب، قال أبو سليمان الدّمشقيّ: اسم نوح: السّكن، وإنما سمي نوحا، لكثرة نوحه، وفي سبب نوحه خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنه كان ينوح على نفسه، قاله يزيد الرّقاشيّ.
ب. الثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله، وقومه.
ج. الثالث: لمراجعته ربّه في ولده.
د. الرابع: لدعائه على قومه بالهلاك.
هـ. الخامس: أنه مرّ بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعبتني يا نوح أم عبت الكلب؟
3. في آل إبراهيم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن.
ب. الثاني: أنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أن المراد ب (آل إبراهيم) هو نفسه، كقوله: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾، ذكره بعض أهل التفسير.
4. في (عمران) قولان:
أ. أحدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن ووهب.
ب. الثاني: أنه والد موسى وهارون، قاله مقاتل.
5. في (آله) ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه عيسى عليه السلام، قاله الحسن.
ب. الثاني: أن آله موسى وهارون، قاله مقاتل.
ج. الثالث: أن المراد ب (آله) نفسه، ذكره بعض المفسّرين.
6. إنما خصّ هؤلاء بالذّكر، لأن الأنبياء كلّهم من نسلهم، وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، قاله ابن عباس، واختاره الفرّاء، والدّمشقيّ.
ب. الثاني: اصطفاهم بالنّبوة، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل.
ج. الثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميّزهم بها على أهل زمانهم.
7. المراد ب (العالمين): عالمو زمانهم، كما ذكرنا في (البقرة)
8. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، قال الزجّاج: نصبها على البدل، والمعنى: اصطفى ذرّية بعضها من بعض، قال ابن الأنباريّ: وإنما قال بعضها، لأن لفظ الذّرّيّة مؤنث، ولو قال بعضهم، ذهب إلى معنى الذّرّيّة، وفي معنى هذه البعضيّة قولان:
أ. أحدهما: أن بعضهم من بعض في التّناصر والدّين، لا في التّناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة.
ب. الثاني: أنه في التّناسل، لأن جميعهم ذرّيّة آدم، ثم ذريّة نوح، ثم ذريّة إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير.
9. قال أبو بكر النّقاش: معنى قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ أن الأبناء ذريّة للآباء، والآباء ذريّة للأبناء؛ كقوله تعالى: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، فجعل الآباء ذريّة للأبناء، وإنما جاز ذلك، لأن الذرّيّة مأخوذة من قوله: ذرأ الله الخلق، فسمّي الولد للوالد ذريّة، لأنه ذرئ منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذريّة للابن، لأن ابنه ذرئ منه، فالفعل يتصل به من الوجهين، ومثله: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ﴾، فأضاف الحبّ إلى الله، والمعنى: كحبّ المؤمن لله، ومثله ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾، فأضاف الحبّ إلى الطعام.
__________
(1) زاد المسير: 1/275.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بيّن الله تعالى أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
2. المخلوقات على قسمين: المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة:
أ. فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح، ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك:
• الأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه.
• الثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء.
• الثالث: لهذا السبب سموا روحانيين.
ب. وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى.
ج. الأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السموات.
3. أما الشياطين:
أ. فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34] وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]
ب. ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف: 50]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]
ج. ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار، قال الله تعالى حكاية عن إبليس: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، وقال: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 27]
4. أما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ [الجن: 14]
5. أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم عليه السلام على ما قال تعالى في هذه السورة: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59] وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1]
6. اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [الأعراف: 11] والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.
7. سؤال وإشكال: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال، ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47] ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، والجواب: ظاهر في قوله: اصطفى آدم على العالمين، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل.
8. ﴿اصْطَفَى﴾ في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلًا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي﴾ [الأعراف: 144] وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص: 47]، وفي الآية قولان:
أ. الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف.
ب. الثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين:
• أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار.
• الثاني: أنه موافق لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]
9. ذكر الحليمي في كتاب (المنهاج) أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية:
أ. أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة، أما المدركة: فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة:
• أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان، الأول: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها)، الثاني: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري)، ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم عليه السلام وهو قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 75] ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.. قال الحليمي: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أقوى من بصرها.
• ثانيها: القوة السامعة، وكان صلّى الله عليه وآله وسلم أقوى النأي في هذه القوة، ويدل عليه وجهان، أحدهما: قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى) فسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن.. قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: 18] فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلًا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم حين تكلم مع الذئب ومع البعير.
• ثالثها: تقوية قوة الشم، كما في حق يعقوب عليه السلام، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، فلما فصلت العير قال يعقوب: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 94] فأحس بها من مسيرة أيام.
• رابعها: تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلّى الله عليه وآله وسلم حين قال: (إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم)
• خامسها: تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة.
ب. أما الحواس الباطنة:
• فمنها قوة الحفظ، قال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى: 6]
• ومنها قوة الذكاء، قال علي عليه السلام: (علمني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب)، فإذا كان حال الولي هكذا، فكيف حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
ج. أما القوى المحركة: فمثل عروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المعراج، وعروج عيسى حياً إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار، وقال الله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40]
د. أما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء.
10. تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة والمدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.
11. إذا عرفت هذا فقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ معناه: إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول: الملك أفضل من البشر، أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول: البشر أشرف المخلوقات، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام، هم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب وعيصو، فوضع النبوّة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيصو، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما ظهر محمد صلّى الله عليه وآله وسلم نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة.
12. من الناس من قال المراد بآل إبراهيم المؤمنون، كما في قوله ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ [غافر: 46] والصحيح أن المراد بهم الأولاد، وهم المراد بقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]
13. اختلفوا في آل عمران:
أ. فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء.
ب. ومنهم من قال بل المراد: عمران بن ماثان والد مريم، وكان هو من نسل سليمان بن داوود بن إيشا، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قالوا وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة، واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور:
• أحدها: أن المذكور عقيب قوله ﴿وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم، فكان صرف الكلام إليه أولى.
• ثانيها: أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه، فالله تعالى يقول: إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها، وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون.
• ثالثها: أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 91] واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية، بل هي أمور ظنية، وأصل الاحتمال قائم.
14. في نصب قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه بدل من آل إبراهيم.
ب. الثاني: أن يكون نصباً على الحال، أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض.
15. في تأويل قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ وجوه:
أ. الأول: ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة، ونظيره قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67] وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق.
ب. الثاني: ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم.
16. قوله تعالى: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قال القفال: المعنى والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولًا وفعلًا، ونظيره قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، وقوله ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]
ب. وفيه وجه آخر: وهو أن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران، فنحن أبناء الله وأحباؤه، والنصارى كانوا يقولون: المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه، فالله تعالى كأنه يقول: والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل، وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/199.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ اصطفى اختار، وقد تقدم في البقرة، وتقدم فيها اشتقاق آدم وكنيته، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام، فحذف المضاف، وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم.
2. ﴿وَنُوحًا﴾ قيل إنه مشتق من ناح ينوح، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف، وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم صلّى الله عليه وآله وسلم بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات، ومن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في ﴿الْأَعْرَافِ﴾ إن شاء الله تعالى.
3. ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى:
أ. وفي البخاري عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران]
ب. وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم من آل إبراهيم.
ج. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة]، وفي الحديث: (لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داوود)، وقال الشاعر:
çولا تبك ميتا بعد ميت أحبه...علي وعباس وآل أبي بكرé
وقال آخر:
çيلاقي من تذكر آل ليلى...كما يلقى السليم من العدادé
أراد من تذكر ليلى نفسها.
د. وقيل: آل عمران آل إبراهيم، كما قال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران]
هـ. وقيل: المراد عيسى، لأن أمه ابنة عمران.
و. وقيل: نفسه كما ذكرنا، قال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان صلّى الله عليه وآله وسلم، وحكى السهيلي: عمران ابن ماتان، وامرأته حنة بالنون.
4. خص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم، ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين.
5. ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي على عالمي زمانهم، في قول أهل التفسير، وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: جميع الخلق كلهم، وقيل ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق، فأما محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء] فالرسل خلقوا للرحمة، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم خلق بنفسه رحمة، فلذلك صار أمانا للخلق، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنا رحمة مهداة) يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله، وقوله (مهداة) أي هدية من الله للخلق، يقال:
أ. اختار آدم بخمسة أشياء: أولها أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته، والثاني أنه علمه الأسماء كلها، والثالث أمر الملائكة بأن يسجدوا له، والرابع أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر.
ب. واختار نوحا بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا البشر، لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني أنه أطال عمره، ويقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين، والرابع أنه حمله على السفينة، والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات.
ج. واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها أنه جعله أبا الأنبياء، لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والثاني أنه اتخذه خليلا، والثالث أنه أنجاه من النار، والرابع أنه جعله إماما للناس، والخامس أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.
د. ثم قال: ﴿وَآلَ عِمْرَانَ﴾ فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم، وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم.
6. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تقدم في البقرة معنى الذرية واشتقاقها، وهي نصب على الحال، قال الأخفش، أي في حال كون بعضهم من بعض، أي ذرية بعضها من ولد بعض، الكوفيون: على القطع، الزجاج: بدل، أي اصطفى ذرية بعضها من بعض، ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة] يعني في الضلالة، قال الحسن وقتادة، وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة، وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/63.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما فرغ سبحانه من بيان أن الدين المرضي هو الإسلام، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه والحسد له، شرع في تقرير رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبين أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.
2. الاصطفاء: الاختيار، قال الزجاج: اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم؛ وقيل: إن الكلام على تقدير مضاف، أي: اصطفى دين آدم، إلخ، وقد تقدم الكلام على تفسير العالمين.
3. تخصيص آدم بالذكر لأنه أبو البشر، وكذلك نوح، فإنه آدم الثاني، وأما آل إبراهيم، فلكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منهم مع كثرة الأنبياء منهم، وأما آل عمران، فهم وإن كانوا من آل إبراهيم، فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه، وقيل: المراد بآل إبراهيم: إبراهيم نفسه، وبآل عمران: عمران نفسه.
4. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ نصب ذرية على البدلية مما قبله، قاله الزجاج: أو على الحالية، قاله الأخفش، وقد تقدم تفسير الذرية، وبعضها من بعض في محل نصب على صفة الذرية، ومعناه: متناسلة متشعبة، أو متناصرة متعاضدة في الدين.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/384.
المتوكل على الله:
قال الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ): مخرج الآية: يدل على أن الله تعالى اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العموم والكمال، والمعنى: أنه خص بالاصطفاء من آل إبراهيم وآل عمران من يستحق الاصطفاء؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:124](1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/156.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى﴾ أي اختار بالنبوة ﴿آدَمَ﴾ فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة {و} اصطفى ﴿نُوحًا﴾ فجعله أول رسول إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه {و} اصطفى ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي عشيرته وذوي قرباه، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وأما اصطفاء نفسه صلّى الله عليه وآله وسلم فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية، وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 129]، ـ الآية ـ ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلم: أنا دعوة أبي إبراهيم، {وَ} اصطفى {آلَ عِمْرانَ} إذ جعل فيهم عيسى صلّى الله عليه وآله وسلم الذي أوتي البينات وأيد بروح القدس، والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى عليهما السلام ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي عالمي زمانهم، أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه، قال السيوطيّ في (الإكليل): يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين.
2. ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ أي نسلا، نصب على البدلية من الآلين، أو على الحالية منهما، والذرية مثلثة، ولم تسمع إلا غير مهموزة، اسم لنسل الثقلين، وقد تطلق على الآباء والأصول أيضا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41]، وقال الصاغانيّ: وفي اشتقاقها وجهان:
أ. أحدهما أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة.
ب. الثاني: أنها من الذرّ بمعنى التفريق لأن الله ذرهم في الأرض ووزنها فعلية أو فعولة أيضا، وأصلها ذرورة فقلبت الراء الثالثة ياء كما في تقضت العقاب، كذا في القاموس وشرحه.
3. ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ في محل النصب على أنه صفة لذرية، أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء.
4. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لأقوال العباد ﴿عَلِيمٌ﴾ بضمائرهم وأفعالهم، وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا، ونظيره قوله تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/309.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ﴾ ذكرهم مع دخولهم في آل إبراهيم إظهارا لمزيد الاعتناء بعيسى عليه السلام لشدَّة خلاف منكريه، ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بالإسلام والنبوءة وجعل الأنبياء في نسلهم، وليس ذلك في سائر الناس ولا في الملائكة، وأنتم يا يهود على غير الإسلام؛ فالآية ردٌّ عليهم إذ قالوا: نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم، وردَّ على النصارى إذ جعلوا عيسى إلها بأنَّه من البشر الذين انتقلوا في الأطوار والأرحام.
2. عمر آدم تسعمائة وستُّون سنة، واسم نوح السكن، و(نوح) لفظ عجمي، وقيل: من النواح لكثرة نواحه على نفسه، وعمره في قومه ألف إِلَّا خمسون سنة، وهو نوح بن لَمَك بن متوشلخ بن إدريس.
3. دخل سيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلم في آل إبراهيم وَهُوَ خاتمهم، فليس ذكر آل عمران المغني عنه ذكر آل إبراهيم العامُّ لمزيَّتهم، فإنَّ المزيَّة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الداخل في آل إبراهيم، بل ذكر آل عمران لمجرَّد التصريح بشرفهم لا لمزيَّة شرفهم، ولئن سلَّمنا لنقولنَّ: المراد اصطفاؤهم على غيره صلّى الله عليه وآله وسلم ، لقيام الأدلَّة على أنَّه أفضل الخلق، ومنها: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ إلخ [آل عمران: 110]
4. عمران أبو مريم وقيل: أبو موسى، وبينهما ألف وثمانمائة، وبين عمران أبي موسى ويعقوب ثلاثة أجداد، وبين عمران أبي مريم وبين يعقوب ثلاثون جدًّا، وعمران عجميٌّ، وقيل: مشتقٌّ من العمُر، و(آل) بمعنى أهل، أو مقحم، وهو المشهور المرجَّح، فكأنَّه قيل: وإبراهيم وعمران.
5. الآية دليل على أنَّ الأنبياء أفضل من الملائكة لدخولهم في العالمين، فيعلم أنَّ سائر الأنبياء أفضل من الملائكة، وإن قلنا عالَمو زمانهم فلا دليل فيه، وعلى عدم الإقحام فآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما، فمنهم نبيُّنا صلّى الله عليه وآله وسلم لأنَّه من ولد إسماعيل، وآل عمران موسى وهارون أو عيسى ومريم، ويدلُّ على أنَّ المراد عمران أبو مريم أنَّه لم تبسط قصَّتُها مثل بسطها في هذه السورة، وقَرْنُ موسى بإبراهيم في سائر القرآن لا يقاوم هذا، ويدلُّ لذلك أيضًا قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.
6. قيل: اصطفى آدمَ بخلقه بيده وتعليمِ الأسماء وإسجاد الملائكة وإسكانه في الجنَّة، ونوحا بأنَّه أوَّل من حرَّم ذوات المحارم، وأنَّه أبو الناس بعد آدم، وآلَ إبراهيم بالكتاب والنبوءة، وآلَ عمران بالتوراة والتكليم، وعيسى وأمَّه بجعلهما آية للعالمين.
7. ﴿ذُرِّيَّةً﴾ فعولة، من الذرء بمعنى الخلق قلبت الهمزة ياء، فيطلق على الأصول والفروع، فآدم ذرِّيَّة بمعنى أنَّه ذُرِئَ منه أولاده، والأولاد ذرِّيَّة بمعنى أنَّهم خُلقوا من آبائهم، قال تعالى: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيـَّاتِهِمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41]، أي: آباءهم؛ أو من الذرِّ بمعنى صغار النمل فالياء للنسب إلى الذرِّ، والضمُّ للذال من شذوذ النسب، ووجهه أنَّهم أخرِجوا كالذرِّ من ظهر آدم، ﴿بَعْضُهَا مِنم بَعْضٍ﴾ في التوالد وفي الدِّين كقوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنم بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67]، ولا يضعف هذا بقوله: ﴿ذرِّيَّةً﴾ لأنَّ التوالد في الذرِّيَّة والتناسل من لفظ ذريَّة، والتوافق في الدين والتناصر عليه من قوله: ﴿بَعْضُهَا مِنم بَعْضٍ﴾
8. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ بالأقوال والأفعال فيجازي عليها بحسنها، ويختار من يشاء للنبوءة والرسالة أو سميع عليم بقول امرأة عمران ونيَّتها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/245.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)
1. لما بين ـ سبحانه ـ وتعالى أن محبته منوطة باتباع الرسول، فمن اتبعه كان صادقا في دعوى حبه لله، وجديرا بأن يكون محبوبا منه ـ جل علاه ـ، أتبع ذلك ذكر من أحبهم واصطفاهم، وجعل منهم الرسل الذين يبينون طريق محبته، وهي الإيمان به مع طاعته، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوة والرسالة فيهم:
أ. فآدم أول البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة فإنه بعدما تنقل في الأطوار إلى مرتبة التوبة والإنابة اصطفاه تعالى واجتباه كما قال في سورة طه: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ فكان هاديا مهديا، وكان في ذريته من النبيين والمرسلين من شاء الله تعالى.
ب. وأما نوح عليه السلام فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض ونجا هو وأهله في الفلك، فكان بذلك أبا ثانيا للجم الغفير من البشر، وكان هو نبيا مرسلا وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت وفشت فيهم الوثنية حتى ظهر فيهم إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلم نبيا مرسلا وخليلا مصطفى، وتتابع النبيون والمرسلون من آله وذريته.
ج. وكان أرفعهم قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران قبل أن تختم النبوة بولد إسماعيل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
2. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ قيل: إن الذرية من مادة ذرأ المهموزة؛ أي خلق، كما أن البرية من مادة برأ، وقيل: من مادة ذرو، فأصلها ذروية، وقيل: هي من الذر وأصلها فعلية كقمرية، قال الراغب: والذرية أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معا في التعارف، ويستعمل للواحد والجمع، وأصله الجمع، وقال محمد عبده: يقال: إن لفظ الذرية قد يطلق على الوالدين والأولاد خلافا لعرف الفقهاء وهو قليل، والمشهور ما جرى عليه الفقهاء وهو أن الذرية الأولاد فقط، فقوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ ظاهر على الأول، ويخص على الثاني بآل إبراهيم وآل عمران، ويصح أن يكون بمعنى أنهم أشباه وأمثال في الخيرية والفضيلة التي هي أصل اصطفائهم على حد قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ وهو استعمال معروف.
3. هؤلاء الذين يشبه بعضهم بعضا من هذه الذرية هم الأنبياء والرسل، قال تعالى في سياق الكلام على إبراهيم: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم}
__________
(1) تفسير المنار: 3/288.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وطاعته ـ ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهى الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه.
2. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم، فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ وكان من ذريته النبيون والمرسلون، وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية، فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
3. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم، وآل عمران وهم موسى وهارون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم، وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم، على نحو قوله تعالى ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 3/142.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقول الروايات التي تصف المناظرة بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ووفد نجران اليمن: إن هذا القصص الذي ورد في هذه السورة عن مولد عيسى عليه السلام، ومولد أمه مريم، ومولد يحيى، وبقية القصص جاء ردا على ما أراد الوفد إطلاقه من الشبهات؛ وهو يستند إلى ما جاء في القرآن عن عيسى عليه السلام بأنه كلمة الله إلى مريم وروح منه؛ وأنهم كذلك سألوا عن أمور لم ترد في سورة مريم وطلبوا الجواب عنها، وقد يكون هذا صحيحا.. ولكن ورود هذا القصص في هذه السورة على هذا النحو يمضي مع طريقة القرآن العامة في إيراد القصص لتقرير حقائق معينة يريد إيضاحها، وغالبا ما تكون هذه الحقائق هي موضوع السورة التي يرد فيها القصص؛ فيساق القصص بالقدر وبالأسلوب الذي يركز هذه الحقائق ويبرزها ويحييها.. فما من شك أن للقصص طريقته الخاصة في عرض الحقائق، وإدخالها إلى القلوب، في صورة حية، عميقة الإيقاع، بتمثيل هذه الحقائق في صورتها الواقعية وهي تجري في الحياة البشرية، وهذا أوقع في النفس من مجرد عرض الحقائق عرضا تجريديا، وهنا نجد هذا القصص يتناول ذات الحقائق التي يركز عليها سياق السورة، وتظهر فيها ذات الخطوط العريضة فيها، ومن ثم يتجرد هذا القصص من الملابسة الواقعة المحدودة التي ورد فيها؛ ويبقى عنصرا أصيلا مستقلا؛ يتضمن الحقائق الأصيلة الباقية في التصور الاعتقادي الإسلامي.
2. إن القضية الأصيلة التي يركز عليها سياق السورة كما قدمنا هي: قضية التوحيد، توحيد الألوهية وتوحيد القوامة.. وقصة عيسى ـ وما جاء من القصص مكملا لها في هذا الدرس ـ تؤكد هذه الحقيقة، وتنفي فكرة الولد والشريك، وتستبعدهما استبعادا كاملا؛ وتظهر زيف هذه الشبهة وسخف تصورها؛ وتبسط مولد مريم وتاريخها، ومولد عيسى وتاريخ بعثته وأحداثها، بطريقة لا تدع مجالا لإثارة أية شبهة في بشريته الكاملة، وأنه واحد من سلالة الرسل، شأنه شأنهم، وطبيعته طبيعتهم، وتفسر الخوارق التي صاحبت مولده وسيرته تفسيرا لا تعقيد فيه ولا غموض، من شأنه أن يريح القلب والعقل، ويدع الأمر فيهما طبيعيا عاديا لا غرابة فيه.. حتى إذا عقب على القصة بقوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.. وجد القلب برد اليقين والراحة؛ وعجب كيف ثارت تلك الشبهات حول هذه الحقيقة البسيطة؟
3. القضية الثانية التي تنشأ من القضية الأولى في سياق السورة كله هي قضية حقيقة الدين وأنه الإسلام، ومعنى الإسلام وأنه الاتباع والاستسلام.. وهذه ترد كذلك في ثنايا القصص واضحة.. ترد في قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾.. وفي هذا القول تقرير لطبيعة الرسالة، وأنها تأتي لإقرار منهج، وتنفيذ نظام، وبيان الحلال والحرام، ليتبعه المؤمنون بهذه الرسالة ويسلموا به.. ثم يرد معنى الاستسلام والاتباع على لسان الحواريين: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾
4. ومن الموضوعات التي يركز عليها سياق السورة تصوير حال المؤمنين مع ربهم.. وهذا القصص يعرض جملة صالحة من هذه الحال في سير هذه النخبة المختارة من البشر، التي اصطفاها وجعلها ذرية بعضها من بعض، وتتمثل هذه الصور الوضيئة في حديث امرأة عمران مع ربها ومناجاته في شأن وليدتها.. وفي حديث مريم مع زكريا، وفي دعاء زكريا ونجائه لربه، وفي رد الحواريين على نبيهم، ودعائهم لربهم.. وهكذا.
5. حتى إذا انتهى القصص جاء التعقيب متضمنا وملخصا هذه الحقائق، معتمدا على وقائع القصص في تقرير الحقائق التي يقررها.. فيتناول حقيقة عيسى عليه السلام وطبيعة الخلق والإرادة الإلهية، والوحدانية الخالصة، ودعوة أهل الكتاب إليها، ودعوتهم إلى المباهلة عليها.. وينتهي الدرس ببيان جامع شامل لأصل هذه الحقيقة ليتوجه به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب عامة.. من حضر منهم المناظرة ومن لم يحضر، ومن كان من ذلك الجيل ومن يجيء بعده إلى آخر الزمان قل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾، بهذا ينتهي الجدل؛ ويتبين ماذا يريد الإسلام من الناس، وما ذا يضع لحياتهم من أساس، ويحدد معنى الدين ومعنى الإسلام؛ وتنتفي كل صورة مشوهة أو مدخولة يدعي لها أصحابها أنها دين، أو أنها إسلام.
6. وهذا هو الهدف النهائي للدرس الماضي، وللسورة كلها كذلك، تولاها القصص بالبيان والإيضاح في الصورة القصصية الجميلة الجذابة العميقة الإيحاء.. وهذه وظيفة القصص القرآني وطبيعته التي تحكم أسلوبه وطريقة عرضه في شتى السور على نهج خاص.
7. وقد عرضت قصة عيسى في سورة مريم، وعرضت هنا، وبمراجعة النصوص هنا وهناك تبدو زيادة بعض الحلقات هنا، مع اختصار في بعض الحلقات.. فقد كان هناك تفصيل مطول في سورة مريم لحلقة مولد عيسى، ولم تكن هناك حلقة مولد مريم، وهنا تفصيل في رسالة عيسى والحواريين واختصار في قصة مولده كما أن التعقيب هنا أطول لأنه جاء بصدد مناظرات حول قضية أشمل، وهي قضية التوحيد والدين والوحي والرسالة، مما لم يكن موجودا في سورة مريم.. مما يكشف عن طبيعة الأسلوب القرآني في عرض القصص، مساوقا لجو السورة التي يعرض فيها، ولمناسبته فيها.
8. يبدأ هذا القصص ببيان من اصطفاهم الله من عباده واختارهم لحمل الرسالة الواحدة بالدين الواحد منذ بدء الخليقة، ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون، فيقرر أنهم ذرية بعضها من بعض، وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب ـ وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح ـ فهي أولا رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي؛ ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
9. ذكر السياق آدم ونوحا فردين؛ وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين، إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحا بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء، فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك ـ على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم: قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم، إنما هي وراثة العقيدة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾
بعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم، فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام.. كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب (وهو إسرائيل) كما ذكر آل عمران.. ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم ـ كما سيأتي في الدرس التالي ـ فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/389.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من تصريف الله في ملكه؛ أنه يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء! وقد اقتضت حكمته ـ سبحانه ـ أن يصطفى من يشاء من عباده لتلقى هباته وعطاياه.. وإن من عباده الذين اصطفاهم لإفضاله ومنحه.. آدم، ونوحا، وآل إبراهيم، وآل عمران.. فآدم، هو أبو البشر.. وقد اصطفاه الله فجعله خليفته في الأرض.. ونوح، هو الأب الثاني للبشرية، بعد أن هلك البشر بالطوفان.. وإبراهيم، هو أبو الأنبياء.. وآله هم هؤلاء الأنبياء من ذريته.. وعمران، هو الفرع الزاكي من شجرة إبراهيم، ومن ذريته موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
2. في قوله تعالى: ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ إشارة إلى امتداد الاصطفاء من الأصول إلى الفروع.. ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا﴾ لا آل آدم، ولا آل نوح.. لأن ذلك يشمل الإنسانية كلّها، من حيث كان آدم ونوح أبوى البشرية كلها، فلا يكون ـ والأمر كذلك ـ مكان للاصطفاء من بين الذرية المصطفاة كلها.
3. في قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ أي أن هؤلاء المصطفين من آل إبراهيم وآل عمران، هم وآباؤهم من معدن واحد، خلص من شوائب الفساد والكدر، فجاء الفرع مشابها للأصل، طيبا وكرما، وكمالا وحسنا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/434.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة بين التمهيد والمقصد، كطريقة التخلّص، فهذا تخلّص لمحاجّة وفد نجران وقد ذكرناه في أول السورة، فابتدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبوا البشر أو أحدهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب، فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلّا شذوذا من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظرية تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظرية فائلة.
1. آدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان، وهو علم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة، ولا شك أنّ من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبّر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أنّ الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقا من الأدمة، وهي اللون المخصوص لأنّ تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعلّ العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذا من وصف لون آدم أبي البشر، وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضى: أنّ آدم وجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنتين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبّله المؤرّخون المتبعون لضبط السنين، والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حضارة البشرية أنّ هذا الضبط لا يعتمد، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدّده سفر التكوين.
2. أمّا نوح فتقول التوراة: إنه ابن لامك وسمّي عند العرب لمك بن متوشالخ بن أخنوخ (وهو إدريس عند العرب) ابن يارد بتحتية في أوله بن مهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود آدم، وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولاده وأزواجهم في الفلك فيكون أبا ثانيا للبشر، ومن الناس من يدّعى أنّ الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرّخو الصين وزعموا أنّ الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أبا ثانيا للبشر، وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام، حام، ويافث، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح، وعمّر نوح تسعمائة وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: 14] وفي التوراة: أنّ الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأنّ نوحا صار بعد الطوفان فلّاحا وغرس الكرم واتّخذ الخمر، وذكر الألوسي صفته بدون سند فقال: كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرّة طويل القامة جسيما طويل اللحية، قيل: إنّ مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة، وقيل في ذيل جبل لبنان، وقيل بمدينة الكرك، وسيأتي ذكر الطوفان: في سورة الأعراف، وفي سورة العنكبوت، وذكر شريعته في سورة الشورى، وفي سورة نوح.
3. الآل: الرهط، وآل إبراهيم: أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم، وشمل آل إبراهيم الأنبياء من عقبه كموسى، ومن قبله ومن بعده، وكمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وإسماعيل، وحنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان.
4. أما آل عمران: فهم مريم، وعيسى، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم، قال المفسّرون: هو من نسل سليمان بن داوود، وهو خطأ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى، كما سيأتي قريبا، وفي كتب النصارى: أنّ اسمه يوهاقيم، فلعله كان له اسمان ومثله كثير، وليس المراد هنا عمران والد موسى وهارون؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنها عيسى بدليل قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾، وتقدم الكلام على احتمال معنى الآل عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ في سورة البقرة [49] ولكنّ الآل هنا متعين للحمل على رهط الرجل وقرابته.
5. معنى اصطفاء هؤلاء على العالمين اصطفاء المجموع على غيرهم، أو اصطفاء كلّ فاضل منهم على أهل زمانه.
6. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ حال من آل إبراهيم وآل عمران، والذرية تقدم تفسيرها عند قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ في سورة البقرة [124] وقد أجمل البعض هنا: لأنّ المقصود بيان شدّة الاتصال بين هذه الذرية، فمن للاتصال لا للتبعيض أي بين هذه الذرية اتّصال القرابة، فكل بعض فيها هو متّصل بالبعض الآخر، كما تقدم في قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 28]
7. الغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدّة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة موجب عداوة وتفريق، ومن هنا ظهر موقع قوله: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع بأقوال بعضكم في بعض هذه الذرية: كقول اليهود في عيسى وأمه، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/83.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران]، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بين سبحانه وتعالى وحدة الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال، ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفى ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية: بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
2. ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات:
أ. وأولى هذه القصص: قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
ب. والقصة الثانية: قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع أنه كان قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو أن العاقر لا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
ج. والقصة الثالثة: قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد أن انتشر بنو آدم في الأرض.
د. القصة الرابعة: قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها أغرب من ولادته؛ منها: إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
3. قصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخى، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به:
أ. أولا: العظة والاعتبار، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف]
ب. ثانيا: إثبات صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك لأن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب أهل الكتاب يجرى على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لأحد من أهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث.
ج. ثالثا: بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السموات والأرض وما فيهما؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على أن التوحيد هو الوحدة الجامعة بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض.
4. في بيان قصص النبيين تسلية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت، وفي قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي أتى بها النبيون بيان أن الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح، ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام؛ فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
5. هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
6. معنى الاصطفاء: طلب الصفوة من كل شيء، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى أن آدم ونوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس؛ فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس.
7. آل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد؛ وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي (كن)
8. في ذلك التسلسل إشارة إلى أن الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه] فهو أول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده، ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى: ﴿كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام]، ثم جاء من بعد ذلك بقرون لا يعلمها إلا فاطر السموات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاءت من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران وأقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم، وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض، وعمران هذا هو أبو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض أنه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى أن المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير، وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
9. بين الله سبحانه بعد ذلك تسلسل هذه الصفوة المختارة بعضها من بعض فقال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة (ذرأ)، وقيل من (الذرو)، وقيل من (الذر)، وكل هذه الألفاظ تنته إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع؛ ومعنى النص الكريم أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلو النسب بسلسلة لا تنقطع؛ فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية، ويترتب على أن بعضهم من بعض أن تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة، وقد قال بعضهم إن معنى ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضَ﴾ أنهم متشابهون، كقوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة] فهم يشبه بعضهم بعضا، وهم ذرية واحدة لآدم، والحق أن ذلك المعنى يجيء بالالتزام من المعنى الأول فليس مغايرا له من كل الوجوه.
10. ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى كمال إحاطته، وإلى أنه إذ اصطفى هؤلاء اصطفاهم على علم كعلم من يسمع، أي أنه علم دقيق لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وإن ذلك النص الكريم فيه تمهيد لما سيتلى من بعد، وهو قول امرأة عمران، فقد قال تعالى حاكيا عنها: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1193.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، قال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط، قال (قرأ عبد الله وآل محمد على العالمين)، وسواء أصحت هذه القراءة، أم لم تصح فإن آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، ان هذه الآية كافية وافية في الدلالة على اصطفاء الله لآل محمد، ومنزلتهم وعظمتهم.. ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء جميعا، فآله أيضا أفضل الآل جميعا، بل ان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل، أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل، ولا أذكر لفظ الحديث، فبالأولى إذا كان العلماء من آله الأطهار بشهادة الله تعالى.
2. مهما يكن، فقد ابتدأ الله سبحانه بذكر آدم، لأنه أبو البشر الأول، وثنى بنوح، وهو أبو البشر الثاني، لأن جميع سكان الأرض من نسله وحده، من أولاده الثلاثة: سام، وحام، ويافث، حيث قضى الطوفان على جميع الناس إلا نوحا.. واصطفى الله كلا من آدم ونوح بشخصه، ولذا لم يقترن اسمهما بآل، أما ابراهيم وعمران فقد اصطفاهما مع الآل.. وكما ان آدم ونوحا هما أبوا البشر فان ابراهيم أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ ابراهيم إلا من نسله.
3. الظاهر ان المراد بعمران في قوله: (آل عمران) هو أبو مريم جد عيسى لا أبو موسى الكليم، لتكراره في الآية الثانية: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ فهو نظير تكرار الاسم في جملتين وردتا في سياق واحد، نحو أكرم زيدا ان زيدا رجل صالح، وعلى هذا يكون المراد بآل عمران السيد المسيح وأمه مريم، وقيل: انه كان لعمران أبي موسى الكليم بنت اسمها مريم أكبر من موسى سنا، وان بين عمران هذا، وعمران جد المسيح ألف وثمانمائة سنة، والمراد بقوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ان الله قد اختار كل واحد ممن ذكرهم، لأنه كان الصفوة الممتازة في أهل زمانه، لا في كل زمان.
4. سؤال وإشكال: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، ليس من شك أن نوحا فرع عن آدم، وابراهيم وآله فرع عن نوح، وآل عمران فرع عن ابراهيم، وبيان هذا أشبه بتوضيح الواضح وكلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل.. اذن، ما هو القصد من هذا الاخبار؟ والجواب: ليس القصد الاخبار عن ان المتأخر فرع عن المتقدم، وإنما القصد ـ كما هو ظاهر السياق ـ مدحهم والثناء عليهم، وانهم كانوا أشباها ونظائر في القداسة والفضيلة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/49.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.
2. الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى: {لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا}، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له، لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
3. من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء.
4. ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا:
أ. فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وأول من فتح به باب التوبة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾، وأول من شرع له الدين، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ الآيات، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له عليه السلام.
ب. وأما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب والشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ﴾، وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾
ج. ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين.
5. الآل خاصة الشيء، قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال آل فلان ولا يقال: آل رجل وآل زمان كذا، أو موضع كذا، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل، يقال: أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أويلا، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.
6. أما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى عليه السلام، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم، وقد قال الله تعالى فيما قال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾، والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق ويعقوب وذرية يعقوب وهم (أي ذرية يعقوب) بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، وفيهم النبي وآله، على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية، على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ إلى أن قال ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ الآيات، فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل.
7. الآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم، وهي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه، وكذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، كل ذلك ظاهر، ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر، ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض، قال تعالى: ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، وقال أيضا: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾
8. أما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليه السلام وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليه السلام أو هما وزوجة عمران، وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.
9. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، الذرية ـ في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد وهو المعنى المراد في الآية، وهي منصوبة عطف بيان، وفي قوله: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدئ وينتهي من البعض الآخر وإليه، ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب في الأفعال الإلهية، ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.
10. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة، فالمحصل من الكلام: أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق، وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.
11. في العيون، في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا عليه السلام في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، وفي تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر عليه السلام: من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب ـ لأن المشية لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، آخرها من أولها وأولها من آخرها ـ فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه.. وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ الآية.
12. وفيه، أيضا عن الباقر عليه السلام: أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقية تلك العترة، أقول: قوله عليه السلام: ونحن بقية تلك العترة.. العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشيء، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممن مضى، وبعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة، ومنه يظهر أنه عليه السلام استفاد من قوله تعالى ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران، ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/165.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾ من البشر، فهو صفوة الله أكمله وهداه، واصطفاه على بنيه الأولين الذين في عهده وأكثر الآخرين ﴿وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وقد دخل محمد وعلي وذريتهما في ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ لأنه من ذريّة إبراهيم.
﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يظهر أن مثل هذا يستعمل فيعم المضاف إليه، كما مر من قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة:248] بالتغليب، وهذا إذا لم يقدم ذكره وحده كالصلاة عليه وعلى آله، ومثل: (إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد) فهذا خاص لا يعم المضاف إليه، أما إذا ذكر في الإضافة فقط كما هنا، وكما في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء:54] فالراجح: أنه عام، ومنه قول زيد بن أرقم وهو عربي اللسان في (تفسير أهل البيت): (آل علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل عقيل) يعنى: علياً وذريته، وجعفر وذريته، والعباس وذريته، وعقيلاً وذريته، ويظهر أن منه قول الله تعالى في (سورة الحجر): ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [آية:58 ـ 59] وقوله تعالى بعدها: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [آية:61 ـ 62]
2. ويؤكد أن المراد بـ ﴿آلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ إبراهيم وذريته، وكذلك {آَلَ عِمْرَانَ} على طريقة التغليب قوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فلا بد أن إبراهيم وعمران قد دخلا في الاصطفاء، لئلا يؤدي إلى أن الله اصطفى المذكورين على إبراهيم وعمران إذا كانا داخلين في عموم العالمين.
3. الآل: هم الذرية الذين اصطفاهم الله لحمل رسالته وجعل فيهم النبوة والكتاب، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء:54] فهم ورثة العلم، ومنهم الأنبياء، ومنهم ورثة الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:26]
4. ﴿ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ هي ذرية إبراهيم، لهم فضل النسبين، كما قال في (بني إسرائيل): ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء:3] فقد ظهر معنى الإصطفاء وأنه لذرية إبراهيم وعمران، وأنها قدمت هذه الآية تمهيداً لقصة مريم بنت عمران وابنها عيسى عليهم السلام.
5. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قال في (الكشاف): (﴿ذُرِّيَّةِ﴾ بدل من آل إبراهيم وآل عمران) انتهى، ولا إشكال أنه تفسير لآل إبراهيم وآل عمران، ومدح للأبناء بمشابهة الآباء في الجملة على اختلاف درجات المشابهة.
6. ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ لتحقيق هذه المشابهة، وأن أساسها هو النسب وذلك من فضل الله على الآباء والأبناء، كما قال تعالى في (سورة الأنعام) بعد ذكر الهدى لعدد من الأنبياء، فعطف عليهم: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آية:87]، ولعل هذا بسبب دعاء الآباء لأبنائهم، كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:128 ـ 129]، وحكى سبحانه عن زكريا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ وهذا الاصطفاء بالنسبة إلى بقية الناس لجملة الذرية أن فيهم الكتاب والحكمة وهداية الناس، وليس لكل شخص كما هو واضح، وقد قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:26] ولكن وجود الفاسقين وحتى المشركين لا يبطل هذا الاصطفاء لغيرهم من الذرية.
7. رجحت تفسير قوله تعالى: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ بما ذكرت، وحاصله: أن قوله تعالى: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ كناية عن التشابة بين الفروع والأصول، كما يتشابهون في الصور وغيرها، رجحته على جعله مجازاً على تفسير بعضهم لقوله تعالى: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ أنه مجرد المشابهة في الدين، وإنما رجحته لمناسبة السياق وكونه أقوى، وهذا دليل كاف على التفاضل، وليس لأحد أن يعترض على الله في ذلك، والعنصرية الممقوتة تكون باعتبارات، مثل: المال، اللون، أو غير ذلك مما ليس له أساس في التشريع.
8. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فاصطفاؤه لمن اصطفاه لعلمه بأنه خير من غيره واصلح لحمل الرسالة، كقوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاَتَهُ} [الأنعام:124] وقوله: ﴿سَمِيعٌ﴾ لعله يشير إلى سبب الإصطفاء الذي هو الدعاء، كدعاء امرأة عمران لبنتها مريم وذريتها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/453.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في بداية هذا الفصل من السورة، ينتقل بنا القرآن الكريم إلى الحديث عن بعض جوانب التاريخ الديني، في أجواء قصصية من قصص أنبياء الله وأوليائه، فنلتقي معها بهذه الشخصيات العظيمة، وهي تعيش مع الله في روحية صافية خاشعة، فتبتهل إليه تعالى عندما تتعقد أمامها الأمور، وترجع إليه عندما تطبق عليها المشاكل، وتنفتح عليه في ما تحمل من هموم وأسرار، في عمق العبودية وصفاء الإخلاص، ونشعر ـ في هذا الجو ـ بأن الله سبحانه يعامل هؤلاء معاملة مميّزة تنطلق من رضاه عنهم وتقديره لروحيتهم بالمستوى الذي يظهر لنا منه ما يوحي بالقرب الكبير، ولهذا، فإننا عندما نحاول متابعة هذه القضايا، لا نريد أن تشغلنا أجواء القصة وتفاصيلها عن فهم الجوانب العميقة التي تتمثل في حركات القصص وشخصياتها التي تحمل من المعاني الروحية الشيء الكبير، لنستفيد منها في علاقتنا بالله، وفي استثمار هذه العلاقة في مواجهة كثير من مشاكلنا المعقدة، بالرضا والاطمئنان الروحي.
2. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ الاصطفاء يعني الاختيار الذي يوحي بالتفضيل، انطلاقا من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم:
أ. فقد اختار الله آدم لدور الخلافة الأولى في الأرض، من أجل أن يبدأ الرحلة الإنسانية التي تبني الأرض وتعمرها على أساس التخطيط الإلهي.
ب. واختار نوحا ليكون أوّل الأنبياء أولي العزم الذي يعطي المثل في الصبر أمام التحديات والدأب في مواجهة الكفر والضلال، حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة، لأنه استنفد كل التجارب، مما يعطي الدلالة على مدى الروحية الواسعة العميقة الممتدة في رحاب الله، واختاره الله بعد الطوفان من جديد، ليبدأ التاريخ الجديد للبشرية من خلال النماذج التي سارت معه.
ج. واختار إبراهيم الذي أسلم وجهه لله وعاش التجربة الصعبة بالقلب المطمئن الراضي الذي احتضن في داخله كل التطلعات الإنسانية الروحية نحو الله، وانطلق الإسلام ـ من خلاله ـ كخطّ عريض للحياة في الفكر والأعمال والمشاريع والأهداف، فقد أوصى بنيه به وعاش بنوه الطيبون، الرسل الكرام الذين اختصهم الله بنعمته، فاصطفاهم لرسالاته، من لدن إسحاق وإسماعيل إلى نبينا الأعظم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.. ولم تكن القضية قضية نسب يعطي الامتياز، بل هي قضية رسالة واتباع يشير إلى الخط، كما قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران: 68]، ولهذا، فلا مجال لتعميم الحكم على جميع من انتسب إلى إبراهيم عليه السّلام.
د. أمّا آل عمران، فقد نلتقي بالنسب الذي ينتمي إليه موسى، وقد نلتقي بالنسب الذي تنتمي إليه مريم، وبذلك يلتقي به نسب عيسى عليه السّلام، لأن النسب ليس واحدا فيهما، لوجود فترة زمنية كبيرة بين موسى ومريم، ويرى بعض المفسرين أن المراد منهم هنا مريم وعيسى عليه السّلام، لأن موسى لم يذكر في القرآن بنسبه، بل ذكره باسمه مجردا عن ذلك، مما يوحي بأن القرآن يتحدث عنه بصفته الشخصية، ولأن هذه السورة قد تعرضت لقصة مريم وعيسى بشكل تفصيلي، بينما لم تتعرض لقصة موسى إلا بطريقة مجملة، ولا يخلو هذا الرأي من قرب؛ والله العالم بحقائق الأمور.
3. كان الاصطفاء لحمل هذه الرسالة من أجل أن يكونوا رسلا ودعاة وهداة للعالمين، ولا بد في سبيل ذلك من أن يكونوا في تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم نماذج متفوّقة في هذا المجال، ليكونوا القدوة المثلى في القول والعمل وليستطيعوا أن يعطوا الناس من روحيتهم الفيّاضة بالإيمان المنطلقة في خط المسؤولية روحا جديدة عالية ترفع من مستواهم الفكري والروحي والعملي، فإن قضية الرسالة ليست مجرد فكر يقدّم للناس من أجل هدايتهم، وليست مشاعر تنبض في القلب لتعطي الناس رصيدا كبيرا من العواطف، ولكنها القوّة التي تتحرك من أعماق الروح لتغير الواقع وفق التخطيط الإلهي للحياة في كل ما يعنيه من تغيير للإنسان في الداخل والخارج، ومن هنا، نستطيع أن نقرر أن الرسول لا بد من أن يكون شخصا غير عادي في ملكاته الروحيّة ليستطيع القيام بهذه المهمّة الكبيرة، ولن يعرف ذلك إلا خالق الإنسان، في ما أودعه في داخله من قدرات روحيّة وفكرية، إنه البشر النموذج والرسول الإنسان بكل ما يوحي به مدلول الرسالة في عمق مدلول الإنسان.
4. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ تتتابع في حمل الرسالة كما تتلاحق في ارتباط النسب ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمع ما يقوله هؤلاء ويطلع على ما يسرونه ويعلنونه، وبذلك كانت الرقابة على ما في القلب واللسان، تفتح قلب النبي وكيانه على آفاق المسؤولية في عملية تدقيق ومتابعة وإبداع، ليعلم أنه قد أبلغ رسالات ربه كما يريده الله وكما يحبه ويرضاه.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/342.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الكامل لحب الله الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.
2. (اصطفى) من الصفو، وهو خلوص الشيء من الشوائب، ومنه (الصفا) للحجارة الصافية، وعليه فالاصطفاء هو تناول صفو الشيء، تقول الآية: إنّ الله اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعا، هذا الاختيار قد يكون (تكوينيا) وقد يكون (تشريعيا) أي أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقا متميّزا، وإن لم يكن في هذا الامتياز ما يجبرهم على اختيار طريق الحقّ، بل أنّهم بملء اختيارهم وحرّية إرادتهم اختاروه، غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثمّ على أثر إطاعتهم أوامر الله، والتقوى والسعي في سبيل هداية الناس نالوا نوعا من التميّز الاكتسابي، الذي امتزج بتميّزهم الذاتي، فكانوا من المصطفين.
3. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا ـ من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر ـ متشابهين، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كلّ من الآخر: ﴿بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾
4. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم، وفي هذا إشارة أيضا إلى مسئوليات المصطفين الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله.
5. في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح باسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحا نفسه وموسى وعيسى ونبيّ الإسلام، وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيّدة مريم والمسيح، بالنظر لكون هذه الآية مقدّمة لبيان حالهما.
6. سؤال وإشكال: على الرغم من أنّ هذا التميّز لم يجبر الأنبياء على السير في طريق الحقّ، وأنّه لا يتعارض مع حريّة الإرادة والاختيار، ولكن ألا يعتبر نوعا من التفضيل؟ والجواب:
أ. إنّ خلقا مصحوبا بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا التفاضل، فتأمّل جسم الإنسان ـ مثلا ـ مخلوق منظّم، وللحفاظ على هذا التنظيم لا بدّ من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين، أو تشبه في صلابتها وقوّتها خلايا عظام الساق، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيّتها، أو تشبه خلايا القلب في حركتها، لا ختلّ حتما نظام الجسم، ذا لا بدّ من جود خلايا مثل خلايا الدماغ لكي تتولّى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته، وخلايا العظام المتينة لتحفظ استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحسّاسة للتسلّم أبسط الإيعازات، والخلايا المتحرّكة لتخلق الحركة في الجسم، ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كلّه دماغا؟ أو في النباتات، لماذا لا تكون الخلايا كلّها بلطافة خلايا أوراق الورد؟ إنّ حالة كهذه ستهدم بناء النبات وتعرضه للفناء.
ب. النقطة المهمّة هي أنّ هذا التميّز الذاتيّ الضروري لإيجاد بناء منظّم ليس بسيطا، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة، هذا (الامتياز) وهذه المسؤولية الثقيلة نفسها تحفظ توازن كفّتي ميزان الخلق، أي أن نسبة تميّز الأنبياء على سائر البشر تتناسب مع أهميّة المسؤولية التي يضطلعون بها، كما أنّ الاختلاف في تميّز الآخرين يتناسب مع مسئولياتهم.
ج. فضلا عن ذلك فإنّ التميّز الذاتي لا يكفي للاقتراب من الله، بل لا بدّ معه من التميّز المكتسب.
7. ليست الآية بصدد ذكر جميع الذين اصطفاهم الله، بل تعدّد بعضا منهم، فإذا لم يكن بعض الأنبياء من بين هؤلاء، فلا يعني ذلك أنهم ليسوا مصطفين، ثمّ إنّ (آل إبراهيم) يشمل موسى بن عمران ونبيّ الإسلام والمصطفين من أهل أيضا لأنّهم جمعا من (آل إبراهيم)
8. يرى (الراغب) في كتابه (المفردات) إنّ (الآل) من (الأهل)، ولكنّه خصّ بالإضافة إلى أقرباء العظماء من الناس والأشراف ودون الأزمنة والأمكنة، لكن (الأهل) يضاف إلى الكلّ، كالزمان والمكان وغير ذلك، فيقال: أهل المدينة الفلانية، ولكن لا يقال: آل المدينة الفلانية.
9. غنّي عن القول أنّ اصطفاء آل إبراهيم وآل عمران لا يعني اصطفاء جميع أبناء إبراهيم وعمران، إذ يحتمل أن يكون بينهم حتّى من الكفّار، إنّما المقصود هو (بعض) من آل إبراهيم وآل عمران.
10. (عمران) في هذه الآية هو أبو مريم، لا أبو موسى، إذ كلّما ورد في القرآن اسم عمران كان المعنى به هو أبو مريم، كما يستدلّ على ذلك أيضا من الآيات التالية التي تخصّ شرح حال مريم.
11. في الأحاديث العديدة عن أهل البيت عليهم السّلام اعتبرت هذه الآية دليلا على عصمة الأنبياء والأئمّة، وذلك لأنّ الله لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوّثين بالشرك والكفر والفسق، بل لا بدّ أن يقع إختياره على المطهّرين المعصومين، ويستدلّ كذلك من الآية أنّ هناك مراتب للعصمة.
12. يستدلّ بعض الكتّاب المحدثين بهذه الآية على نظرية النشوء والارتقاء، معتقدين أنّ الآية تدلّ على أنّ (آدم) لم يكن هو الإنسان الأوّل، بل كان هناك أناس كثيرون فاصطفى الله من بينهم آدم الذي خلّف نسلا متميّزا من أبنائه، وأنّ تعبير ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ دليل على ذلك، يقول هؤلاء: كان في عصر آدم مجتمع إنساني، ولذلك فليس ثمّة ما يمنع من أن يكون الإنسان الأوّل ـ الذي وجد قبل ذلك بملايين السنين ـ قد نشأ وتطوّر من حيوانات أخرى متطوّرة، ويكون (آدم) وحده الذي اصطفاه الله، لكن في مقابل هذا الرأي يمكن القول أن ليس هناك أيّ دليل على أنّ (عالمين) هم أناس عاصروا آدم، بل قد يكون القصد هو مجموع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ، وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ الله اصطفى من بين جميع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ أفراد كان أوّلهم آدم، فنوحا، فآل إبراهيم، فآل عمران، وبما أنّ كلّ واحد من هؤلاء كان يعيش في عصر غير عصر الآخر نفهم من ذلك أنّ القصد من (عالمين) هو البشر عموما على اختلاف عصورهم وأزمانهم، لذلك ليس ثمّة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ آدم كان يعاصره أناس آخرون فاصطفاه الله من بينهم، فتأمّل.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/472.
20. امرأة عمران وولادة مريم
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈20⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 35 ـ 36]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: نذرت أن تجعله محررا للعبادة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ أنثى ضنت بها، قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ وكانت ترجو أن يكون ذكرا(3).
4. روي أنّه قال: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ وذلك أن أم مريم حنة كانت جلست عن الولد والمحيض، فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدا، فحاضت من ساعتها، فلما طهرت أتاها زوجها، فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا، وبنو ماثان من ملوك بني إسرائيل من نسل داوود، والمحرر لا يعمل للدنيا، ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة، ويعبد الله تعالى، ويكون في خدمة الكنيسة، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان، فقالت لزوجها: ليس جنس من جنس الأنبياء إلا وفيهم محرر غيرنا، وإني جعلت ما في بطني نذيرة، تقول: قد نذرت أن أجعله لله؛ فهو المحرر، فقال زوجها: أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة، كيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك، فقالت عند ذلك: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، يعني: تقبل مني ما نذرت لك(3).
5. روي أنّه قال: ما ولد مولود إلا قد استهل، غير المسيح ابن مريم، لم يسلط عليه الشيطان، ولم ينهزه(4).
6. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ بن ماثان، واسمها: حنة بنت فاقود، وهي أم مريم(3).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٧٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٧.
(3) ابن عساكر: ٧٠/٧٧.
(4) ابن جرير: ٥/٣٤٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ جعلت ولدها لله، وللذين يدرسون الكتاب، ويتعلمونه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، أي: لما جعلها له نذيرة، والنذيرة: أن تعبد الله؛ لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى(2).
3. روي أنّه قال: أي: ليس يصلح أن يخدم الجواري الأحبار؛ فربتها(3).
4. روي أنّه قال: كانت المرأة في زمان بني إسرائيل إذا ولدت غلاما أرضعته وربته، حتى إذا أطاق الخدمة دفعته إلى الذين يدرسون الكتب، فقالت: هذا محرر لكم يخدمكم(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٣٥.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٧.
(3) ابن المنذر: ١/١٧٧.
(4) ابن المنذر: ١/١٧٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مُحَرَّرًا﴾ خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا(1).
2. روي أنّه قال في قول أم مريم: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ جعلته محررا للعبادة للمسجد، لم تجعل للدنيا فيه شيئا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٣٣.
(2) ابن المنذر: ١/١٧٤.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، ليس في الكنيسة إلا الرجال، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال، أمها تقوله، فذلك الذي منعها أن تجعلها في الكنيسة، وتنفذ نذرها بتحريرها في الكنيسة(1).
2. روي أنّه قال: إنها لحرة بنت الأحرار، ولكن محررا للكنيسة يخدمها، كنائس كانوا يعبدون فيها، ويخدمون فيها التوراة، ليس لهم عمل إلا ذلك(2).
__________
(1) ابن المنذر: ٣٨٤.
(2) ابن المنذر: ١/١٧٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: إن المغيرة بن سعيد روى عنك أنك قلت له: إن الحائض تقضي الصلاة، فقال: (ما له، لا وفقه الله، إن امرأة عمران نذرت ما في بطنها محررا، والمحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبدا ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ فلما وضعتها أدخلتها المسجد، فساهمت عليها الأنبياء، فأصابت القرعة زكريا، فكفلها زكريا، فلم تخرج من المسجد حتى بلغت، فلما بلغت ما تبلغ النساء خرجت، فهل كانت تقدر على أن تقضي تلك الأيام التي خرجت، وهي عليها أن تكون الدهر في المسجد؟(1).
2. روي أنّه قال: إن قلنا لكم في الرجل منا قولا فلم يكن فيه، فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك، إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذني، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث امرأته حنة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ذكرا، فلما وضعتها أنثى ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ لأن البنت لا تكون رسولا، يقول الله: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر الله به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.
3. روي أنّه قال: (أوحى الله إلى عمران: أني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ورسولا إلى بني إسرائيل، فأخبر بذلك امرأته حنة، فحملت فوضعت مريم ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ والأنثى لا تكون رسولا، فقال لها عمران: إنه ذكر يكون منها نبيا، فلما رأت ذلك قالت ما قالت، فقال الله وقوله الحق: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾)، قال الإمام الباقر أنّه قال: (فكان ذلك عيسى بن مريم عليه السلام، فإن قلنا لكم: إن الأمر يكون في أحدنا، فكان في ابنه، أو ابن ابنه، أو ابن ابن ابنه، فقد كان فيه، فلا تنكروا ذلك)(2).
__________
(1) الكافي: 3/105.
(2) تفسير العياشي: 1/171.
منبه:
روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) أنّه قال: لما ولد عيسى عليه السلام أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها، فقال: هذا حدث، مكانكم، فطار حتى جاب خافقي الأرض، فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار أيضا، فوجد عيسى عليه السلام قد ولد عند مذود حمار، وإذا الملائكة قد حفت حوله، فرجع إليهم، فقال: إن نبيا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها، إلا هذا؛ فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/١١٩.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، أي: لما جعلتها له محررة نذيرة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٣٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ)
1. روي أنّه قال في الآية: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحررون الذكور، وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة لا يبرحها؛ يقوم عليها، ويكنسها، وكانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك لما يصيبها من الأذى؛ فعند ذلك قالت: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾(1).
2. روي أنّه قال في قوله: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾: ذكر لنا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (كل بني آدم طعن الشيطان في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جعل بينهما وبينه حجاب، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ إليهما شيء)، وذكر لنا: أنهما كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم، وذكر لنا: أن عيسى عليه السلام كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله من اليقين والإخلاص(2).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٣٤.
(2) ابن جرير: ٥/٣٤٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ معناه خالص دائم لا يخالطه شيء من أمر الدّنيا.. والمحرّر: المعتق.. {كَفَّلَها زَكَرِيَّا} معناه ضمّها(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 109.
شرحبيل:
روي عن شرحبيل بن سعد (ت 123 هـ) أنّه قال: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ إنما كانوا يحررون الغلمان، فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ ولم تقل: إن كان غلاما، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ أي: تعتذر بذلك(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٧٦.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، قال إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (كل آدمي طعن الشيطان في جنبه، غير عيسى وأمه، كانا لا يصيبان الذنوب كما يصيبها بنو آدم)، قال وقال عيسى فيما يثني على ربه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيل(1).. وهو غير صحيح النسبة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٤٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: في قول الله: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾: (المحرر: يكون في الكنيسة ولا يخرج منها، فلما وضعتها أنثى ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ إن الأنثى تحيض وتخرج من المسجد، والمحرر لا يخرج من المسجد(1).
__________
(1) تفسير العياشي: 1/170.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إذ قالت امرأة عمران﴾ بن ماثان، اسمها: حنة بنت فاقود، وهي أم مريم(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧١.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى(1).
2. روي أنّه قال: أما امرأة عمران فهي أم مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليه ـ، وكان اسمها فيما ذكر لنا: حنة ابنة فاقود بن قبيل، وأما زوجها فإنه عمران بن ياشهم بن أمون بن منشأ بن حزقيا بن أحزيق بن يوثم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهفاشاط بن أيشا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داوود بن إيشا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٣٧.
(2) ابن جرير: ٥/٣٣٠.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ إني أسلمت وخلصت ذلك لك، وفي عبادتك، لا أشغله بشيء من خدمتي، ولا أدخله في شيء من أعمالي؛ وذلك أن هذه الكلمة كان يقولها الصالحون وينذرونها: أن يسلموا أولادهم، ويفردوهم لطاعة ربهم، ولا يشغلوهم بشيء من خدمتهم؛ إذ الوالد لا يستغنى عن خدمة ولده وقيامه، فأرادت بذلك: أني أسلمته، وأفردته لعبادتك، ولا أشغله بشيء من أمري؛ فهذا معنى قولها: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/156.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ لما أخبر ـ عزّ وجل ـ أنه اصطفى آل عمران واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها محرّرا.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُحَرَّرًا﴾:
أ. قيل: المحرّر: هو العتيق عن المعاش بالعبادة.
ب. وقيل: المحرّر: هو الذي يعبد الله تعالى خالصا مطيعا، لا يشغله شيء عن عبادته، فارغا لذلك، وهو قول ابن عباس.
ج. وقيل: المحرّر: هو الذي يكون لله صافيا.
د. وقيل: المحرّر: هو من خدم المسجد.
3. ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ جعلت ما في بطنها لله خالصا، لم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر ـ عزّ وجل ـ وهكذا الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريّا، حيث قال ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: 38]، وما سأل إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وكقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا﴾ الآية [الفرقان: 74]، هكذا الواجب أن يطلب الولد لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم.
4. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي: تقبل منى قربانى، وما جعلت لك خالصا:
أ. إنك أنت السميع لنذري، العليم بقصدي في التحرير.
ب. وقيل: ﴿السَّمِيعُ﴾ المجيب لدعائي، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنيتي.
5. معنى قولها: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ـ مع علمها أن الله عالم بما في بطنها وبما وضعتها ـ وجهان:
أ. أحدهما: اعتذارا لما لم يكن يحرّر في ذلك الزمان إلى الذكور من الأولاد؛ فاعتذرت: إني ما وضعت لا يصلح للوجه الذي جعلت.
ب. الثاني: أن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا قد ينطق بذلك، وإن كان يعلم أن غيره علم ما علم هو، وأنه رأى مثل ما رأى هو.
ج. أو يحتمل أن طلبت ردّها إلى منافعها إذا وضعت الأنثى؛ لما رأت الأنثى لا تصلح لذلك.
د. ويحتمل قولها: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ التعريض لإجابة الله تعالى لها فيما قصدت من طاعته بالنذور إن لم تكن صلحت لما قصدت، وقد أجيبت في ذلك بقوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ نحو ما يتقبل لو كان ذكرا في الاختيار والإكرام، وجعلها خير نساء العالمين.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾:
أ. قيل: إن ذلك قولها، قالت: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ على إثر قولها: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ لما تحتاج الأنثى إلى فضل حفظ وتعاهد، والقيام بأسبابها ما لا يحتاج الذكر.
ب. وقيل: إن ذلك قول قاله ـ عزّ وجل ـ لما قالت: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ جوابا لها، ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ فيما قصدت.
7. في قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ دليل على أن تسمية الأولاد إلى الأمهات في الإناث دون الآباء، ثم التجأت إلى الله تعالى، حيث أعاذتها به ـ وذرّيتها ـ من الشيطان الرجيم، وفيه دلالة أن الذكور يكونون من ذرّية الإناث؛ لأنه لم يكن منها إلا عيسى، عليه السلام.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/357.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: سألت عن معنى قول الله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ الآية، والجواب: اعلم أن هذا خبر من الله جل اسمه عن امرأة عمران، وما نذرت لله مما في بطنها، وكان مثل ذلك في ذلك الزمان يفعله الصالحون؛ فكان ربما نذر أحدهم أن الله إن رزقه ولدا ذكرا لم يشغله بشيء من شغل الدنيا، ولم يستعنه فيما يستعان الأولاد فيه، ولم يصرف ذلك الولد في شيء من الأشياء إلا في عبادة الله، وتعليم ما يدعو إلى طاعة الله؛ فلما ولدت امرأة عمران بنتا، قالت ما حكى الله عنها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، وقبل جل اسمه ابنتها كما كان يقبل البنين، وجعل فيها من البركة ما جعل في النبيين، وجعل ابنها نبيا من المرسلين، صلوات الله عليهم من أهل بيت أجمعين(1).
2. معنى قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، أي قالت: رب إني أوجبت لك هذا الولد معتقاً من أمر الخدمة، لا أشغله بشي سواء طاعتك، وهكذا يفعل الصالحون، وأولياء الله المشمرون المجتهدون من تعليم أولادهم للدين، والمعرفة لله الحق اليقين، لا يشغلونهم كما يفعل الجهال بأشغال الدنيا، وطلب ما يزول قريباً ويفنى(2).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/156.
(2) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 258.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} أي عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة ربه فلما وضعتها قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ إنما قالت ذلك اعتذاراً من عدولها عن نذرها لأنها أنثى ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ يقرأ بضم التاء وسكونها فمن ضم التاء جعل ذلك راجعاً إلى اعتذارها لأن الله أعلم بما وضعت.
2. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد المقدس لما يلحقها من الحيض ولصيانة النساء عن التبرج وإنما يختص العلماء بذلك ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي من إغوائه والرجيم المرجوم المبعد.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/137.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: محررا أي مخلصا للعبادة، وهذا قول الشعبي.
ب. الثاني: يعني خادما للبيعة، وهذا قول مجاهد.
ج. الثالث: يعني عتيقا من الدنيا لطاعة الله، وهذا قول محمد بن جعفر بن الزبير.
2. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ إنما قالت ذلك اعتذارا من العدول عن نذرها لأنها أنثى، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التاء، فيكون ذلك راجعا إلى اعتذارها بأن الله أعلم بما وضعت، وقرأ الباقون بجزم التاء، فيكون ذلك جوابا من الله تعالى لها بأنه أعلم بما وضعت منها.
3. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ لأن الأنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد المقدس، لما يلحقها من الحيض، ولصيانة النساء عن التبرج، وإنما يختص الغلمان بذلك.
4. في قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه: من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود صارخا، وقد روى ذلك أبو هريرة مرفوعا.
ب. الثاني: معناه من إغوائه لها، وهذا قول الحسن، ومعنى الرجيم: المرجوم بالشهب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/387.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. امرأة عمران المذكورة في الآية هي أم مريم بنت عمران أم المسيح، وقيل أن اسمها كانت حنَّة، و(إذ) تدل على ما مضى، وقيل فيما يتعلق به (إذ) أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال الأخفش والمبرد: أنه اذكر إذ قالت.
ب. الثاني: قال الزجاج: انه متعلق باصطفى آل عمران إذا قالت.
ج. الثالث: يتعلق بسميع عليم إذ قالت، فيعمل فيه معنى الصفتين على تقدير مدرك لنيتها وقولها إذ قالت ذكره الرماني.
د. الرابع: قال أبو عبيدة: ان (إذ) زائدة، فلا موضع لها من الاعراب وهذا خطأ عند البصريين.
2. ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ فالنذر قد بيناه فيما مضى، وهو قول القائل: لله عليّ كذا وكذا، وقيل في معنى ﴿مُحَرَّرًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. قال الشعبي: معناه مخلصاً للعبادة.
ب. وقال مجاهد: خادماً للبيعة.
ج. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: عتيقاً من الدنيا لطاعة الله.
3. معنى ﴿مُحَرَّرًا﴾ في اللغة يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: معتق من الحرية، تقول: حررته تحريراً: إذا أعتقته أي جعلته حرّاً.
ب. الثاني: من تحرير الكتاب وهو إخلاصه من الضرر والفساد، وأصل الباب الحرارة، لأن الحر يحمي في مواضع الانفة، فالمحرر يخلص من الاضطراب كما يخلص حرارة النار الذهب ونحوه من شائبة الفساد، وهو نصب على الحال من (ما) وتقديره نذرت لك الذي في بطني محرراً والعامل فيه نذرت.
4. ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ فأصل التقبل المقابلة، وذلك للاعتداد بالشيء فيما يقابل بالجزاء عليه، وتقبل الصنيع مشبه بتقبل الهدية من جهة أخذه دون رده.
5. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ معناه السميع لما أقول العليم بما أنوي، فلهذا صحت الثقة لي.
6. في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: الاعتذار من العدول عن النذر، لأنها أنثى.
ب. الثاني: تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى، وذلك ان عيب الأنثى أفظع، وهو إليها أسرع، وسعيها أضعف، وعقلها أنقص فقدمت ذكر الأنثى ليصح القصد لها في السؤال على هذا الوجه.
7. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ اعتذار بأن الأنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر، وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث، لأنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من التحرير لخدمة المسجد المقدس، لما يلحقها من الحيض والنفاس، والصيانة عن التبرج للناس، وقال قتادة: لم يكن التحرير إلا للغلمان فيما جرت به العادة.
8. الهاء في قوله: ﴿وَضَعَتْهَا﴾ يحتمل أن يكون كناية عن (ما) في قوله: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ وجاز ذلك لوقوع (ما) على مؤنث، ويحتمل أن يكون كناية عن معلوم قد دل عليه الكلام.
9. أصل الوضع: الحط، وضعه يضعه وضعاً، ووضعت بمعنى ولدت أي وضعت الولد، ومنه الموضع: مكان الوضع، والتواضع: خلاف التكبر لأنه وضع العبد من نفسه، والضعة: الخساسة لأنها تضع من قدر صاحبها، والوضيعة: ذهاب شيء من رأس المال، والمواضعة: المواهبة في التباع لوضع ما ينفق عليه في ذلك، والإيضاع في السير: الرفق فيه لأنه حط عن شدة الاسراع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ وأصل الباب: الحط.
10. سؤال وإشكال: هل يجوز أن تقول: والله أعلم بأن الجسم محدث من زيد العالم به، كما قالت: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾؟ والجواب: لا يجوز لأن علم كل واحد منهما يجوز أن ينقلب عنه إلى خلافه، وليس كذلك بأنه يعلم الله، وأفعل من كذا إنما يقال للمبالغة في الصفة، ومن ضم التاء جعل ذلك من كلام أم مريم على وجه التسبيح والانقطاع إليه تعالى كما يقول القائل: قد كان كذا وكذا، وأنت تعلم لا على وجه الاعلام بل على ما قلناه، واسكان التاء أجود لأمرين:
أ. أحدهما: أن قولها ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قد أغنى عن ذلك.
ب. الثاني: أنه كان يجب أن تقول وأنت أعلم، لأنها تخاطب الله تعالى.
11. في قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: الاستعاذة من طعن الشيطان للطفل الذي له يستهل صارخاً، فوقاها الله عز وجل وولدها عيسى منه بحجاب على ما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. الثاني: قال الحسن انها استعاذت من إغواء الشيطان.
12. الرجيم بمعنى الموجود بالشبهة وأصل الرجم: الرمي بالحجارة رجم يرجم رجماً والرجم القذف بالغيب لأنه رمى العبد به، ومنه ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ والرجم الاخبار عن الظن لأنه رمى بالخبر لا عن يقين، ومنه ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ والرجوم النجوم، لأن من شأنها أن يرمى بها الشياطين ومنه قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾، والرجام القبور التي عليها الحجارة، والمراجمة المباراة في الكلام، والعمل له من كل واحد من النفيسين لرمي صاحبه بما يكيده وأصل الباب الرمي.
13. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ قرأ أهل الكوفة (كفلها) بالتشديد، الباقون بالتخفيف، والتخفيف أليق بقوله ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (زكريا) مقصوراً، والباقون بالمد، ونصب (زكرياء) مع المد أبو بكر، الباقون بالرفع.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/443.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه، ومنه ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ ومنه يقال: نذر دمه أي أوجب على نفسه قتله، ومنه ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ نزل في علي وأهل بيته.
ب. ﴿مُحَرَّرًا﴾ فقيل: هو التحرير وهو العتق، ومنه ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، وأصله من الحرية يقال: حررته تحريرًا أعتقته وجعلته حرًّا، وقيل: هو من تحرير الكتاب؛ أي أخلصته من الفساد وأصلحته.
ج. التقبل: أخذ الشيء على الرضا به كتقبل الهدية.
د. الوضع: الحط، ومنه الموضع مكان الحط.
هـ. الرجيم: الرجم بالحجارة، والرجم: القذف بالغيب؛ لأنه يرمي به العبد، والرجوم: النجوم؛ لأن من شأنها أن يرمى بها الشياطين، وفي التنزيل ﴿رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾
2. لما ذكر تعالى أنه اصطفى آل عمران عقبه بقصة مريم ابنة عمران، فقال تعالى: {إِذْ قَالتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} وهي حنة أم مريم جدة عيسى، وكانتا أختين إحداهما عند عمران، والأخرى عند زكريا فيحيى ومريم ابنا خالة، وعمران من ولد سليمان بن داوود، وعن ابن إسحاق قال ابن عباس ومقاتل: وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة.
3. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ﴾ أوجبت على نفسي لك ولرضاك ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى أَسنَّتْ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي تحت شجرة إذ رأت طائرًا يزق فرخًا، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يرزقها ولدا، فحملت بمريم، فقالت ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، تعني من هذا الولد.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُحَرَّرًا﴾:
أ. قيل: مخلصًا للعبادة، عن الشعبي.
ب. وقيل: خادمًا للبيعة، عن مجاهد.
ج. وقيل: عتيقًا من أمر الدنيا لطاعة الله، عن محمد بن جعفر بن الزبير.
د. وقيل: خادمًا لمن يدرس الكتاب، ويُعَلِّم في الكنائس.
5. الكل يرجع:
أ. إما إلى التحرير الذي هو العتق كأنه أعتق نفسه عن رق المعاصي والعقاب.
ب. أو التحرير الذي هو إصلاح الكتاب من الفساد، وسمي محررًا كأنه أخلصه مما لا يجوز في الشرع.
ج. وقيل: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، عن الأصم.
د. وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير، فإن أراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولا بد أن يقيم، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر لبيت المقدس، ولم يكن محررًا إلا الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك لما يصيبها من الحيض والأذى، فحررت أم مريم ما في بطنها.
6. ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ أي نذري قبول رِضًا ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لقولي ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنيتي وضميري ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ قيل: إن عمران هلك وهي حامل، فوضعت بعد ذلك، يعني ولدت مريم، وكانت ترجو أن تكون غلامًا، فلما ولدت بنتًا ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾:
أ. قيل: المراد به الاعتذار من العدول عن النذر؛ لأنها أنثى.
ب. وقيل: تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى؛ لأن سعيها أضعف وعقلها أنقص، فقدم ذكرها ليصح القصد لها بالسؤال بقولها ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾
7. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ إخبار منه تعالى أنه أعلم بوضعها؛ لأنه هو الذي خلقها وحررها على القراءة الأخرى، وأنت يا رب أعلم مني بما وَضَعْتُ.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾:
أ. قيل: لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر له من خدمة بيت المقدس لما يلحقها من الحيض والنفاس، ولما عليها من الصيانة عن التبرج للناس.
ب. وقيل: لم يكن التحرير إلا للغلمان فيما جرت به العادة، عن قتادة.
ج. وقيل: هو عام يعني الذكر أفضل من الأنثى، وأصلح للأشياء.
9. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ أي جعلت اسمها ﴿مَرْيَمَ﴾ قيل: هي في لغتهم العابدة والخادمة، وكانت أفضل النساء وأجملها في وقتها ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ أمنعها وأجيرها بك يا رب ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ أولادها ونسلها، ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ﴾:
أ. قيل: أعيذها بك من ظفر الشيطان للطفل الذي له يستهل صارخًا، فوقاها الله وولدها عيسى منه بحجاب، فيما يرويه أبو هريرة مرفوعًا.
ب. وقيل: من إغواء الشيطان إياها فاستعاذت من ذلك، عن الحسن.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الرَّجِيمِ﴾:
أ. قيل: المرجوم بالشهب، أي المرمي.
ب. وقيل: الطريد المبعد من الخير.
11. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن مريم كان يأتيها الرزق من عند الله، والأولى بالظاهر أنه لا واسطة؛ لأنه حقيقة ليكون لتخصيصها فائدة وتكون معجزة لزكريا، سؤال وإشكال: لو كانت معجزة له لِمَ قال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ الآية؟ والجواب:
• يحتمل أنه قال ذلك ليعرفها ذلك.
• ويحتمل أنه كان أخبرها بحصوله، فأراد أن يعرف وقت حصوله ليكون موافقًا لخبره.
• ويحتمل أن يكون قال ذلك إخبارًا لتعلم حالها وتبلغ شكرها.
ب. أن معجزة الرسول يجوز أن تظهر على غيره، ولكن لا بد أن يكون له بالرسول تعلق إما بإخباره أو بدعائه أو نحو ذلك ليختص به.
ج. لا يقال: مع أن الرزق يأتيها فما معنى تكفل زكريا؟ لأنها وصلت إلى ذلك بدعائه، وكان هو المتولي لذلك، وكانت فارغة للعبادة مسلمة نفسها، وكان زكريا تكفلها صغيرة وناشئة.
د. أن الرزق غير مستحق، وإنما هو موقوف على مشيئته بحسب ما يرى من المصلحة.
12. قرأ علي بن أبي طالب وأبو بكر عن عاصم وابن عامر ويعقوب ﴿وَضَعَتْ﴾ برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها، وقرأ الباقون بالجزم على أنها كلام الله تعالى، وعن بعضهم بكسر التاء على المخاطبة لها.
13. مسائل نحوية:
أ. موضع ﴿إِذِ﴾ من الإعراب فيه أربعة أقوال:
• الأول: نصب بـ ﴿اذْكُرْ﴾ إذ قالت، عن الأخفش وأبي العباس.
• الثاني: ب اصطفى آل عمران) إذ قالت، عن الزجاج.
• الثالث: بمعنى ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ﴾، فيعمل فيه معنى الصفتين على تقدير: مدرك لنيتها وقولها إذ قالت، عن علي بن عيسى.
• الرابع ﴿إِذِ﴾ زائدة فلا موضع لها من الإعراب، عن أبي عبيدة، وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يحكم بالزائدة، ولها معني صحيح.
ب. ﴿مُحَرَّرًا﴾ نصب على الحال على تقدير: نذرت لك الذي في بطني محررًا، والعامل فيه ﴿نَذَرْتُ﴾
ج. الهاء في ﴿وَضَعَتْهَا﴾ يرجع إلى ما في ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ وجاز ذلك لوقوع ﴿مَا﴾ على المؤنث، وقيل: إلى معلوم قد دل عليه الكلام.
د. التاء في ﴿وَضَعَتْ﴾ جزم على الإخبار كقولهم: ذهبتْ وقامتْ، وانرفع على الحكاية، كقولهم: ذَهَبْتُ وقُمْتُ.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/218.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. معنى المحرر في اللغة يحتمل أمرين أحدهما: المعتق من الحرية، يقال: حررته تحريرا أعتقته أي: جعلته حرا والآخر: من تحرير الكتاب، يقال: حررت الكتاب تحريرا أي: أخلصته من الفساد وأصلحته.
ب. أصل الوضع: الحط، وضعت المرأة الولد: بمعنى ولدت، والموضع: مكان الوضع، والضعة: الخساسة، لأنها تضع من قدر صاحبها، والإيضاع في السير: الرفق فيه لأنه حط عن شدة الإسراع.
ج. الشيطان الرجيم: مر تفسيرهما في أول الكتاب.
2. لما ذكر سبحانه أنه اصطفى آل عمران، عقبه بذكر مريم بنت عمران، فقال: {إذ قالت امرأة عمران} وقد مضى القول فيه، واسمها حنة جدة عيسى، وكانتا أختين إحداهما: عند عمران بن الهشم، من ولد سليمان بن داود، وقيل: هو عمران بن ماثان، عن ابن عباس ومقاتل، وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل، والأخرى: كانت عند زكريا، واسمها أشياع، واسم أبيها قاقود بن قبيل، فيحيى ومريم ابنا خالة.
3. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ أي: أوجبت لك بأن أجعل ما في بطني.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُحَرَّرًا﴾:
أ. قيل: أي: خادما للبيعة يخدم في متعبداتنا، عن مجاهد.
ب. وقيل: محررا للعبادة، مخلصا لها، عن الشعبي.
ج. وقيل: عتيقا خالصا لطاعتك لا أستعمله في منافعي، ولا أصرفه في الحوائج، عن محمد بن جعفر بن الزبير.
5. قالوا: وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها، ويكنسها ويخدمها، لا يبرح حتى يبلغ الحلم، ثم يخير فإن أحب أن يقيم فيه أقام، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، قالوا: وكانت حنة قد أمسك عنها الولد، فدعت حتى أيست، فبينا هي تحت شجرة، إذ رأت طائرا يزق فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يرزقها ولدا، فحملت بمريم، وروي عن أبي عبد الله قال: أوحى اله تعالى إلى عمران: إني واهب لك ذكرا مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث امرأته حنة بذلك، وهي أم مريم، فلما حملت بها قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ أي: نذري قبول رضا، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لما أقوله ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما أنوي فلهذا صحت الثقة لي، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ قيل: إن عمران هلك وهي حامل، فوضعت بعد ذلك، يعني ولدت مريم، وكانت ترجو أن يكون غلاما، فلما وضعتها خجلت واستحيت، و﴿قَالَتْ﴾ منكسة رأسها: {ربي إني وضعتها أنثى} وقيل فيه قولان:
أ. أحدهما: إن المراد به الاعتذار من العدول عن النذر لأنها أنثى.
ب. والآخر: إن المراد تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى، لأن سعيها أضعف، وعقلها أنقص، فقدم ذكرها ليصح القصد لها في السؤال بقولها ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾
6. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ إخبار منه تعالى بأنه أعلم بوضعها، لأنه هو الذي خلقها وصورها، وعلى القراءة الأخرى: وأنت يا رب أعلم مني بما وضعت.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾:
أ. قيل: لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر له، وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث، لأنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من التحرير لخدمة بيت المقدس، لما يلحقها من الحيض والنفاس والصيانة عن التبرج للناس، وقال قتادة: لم يكن التحرير إلا في الغلمان فيما جرت به العادة.
ب. وقيل: أرادت أن الذكر أفضل من الأنثى على العموم، وأصلح للأشياء.
8. الهاء في قوله: ﴿وَضَعَتْهَا﴾ كناية عن ما في قوله ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ وجاز ذلك لوقوع ﴿مَا﴾ على مؤنث، ويحتمل أن يكون كناية عن معلوم دل عليه الكلام.
9. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ أي: جعلت اسمها ﴿مَرْيَمَ﴾ وهي بلغتهم العابدة والخادمة فيما قيل، وكانت مريم أفضل النساء في وقتها وأجلهن، وروى الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾:
أ. قيل: خافت عليها ما يغلب على النساء من الآفات، فقالت ذلك.
ب. وقيل: إنما استعاذتها من طعنة الشيطان في جنبها التي لها يستهل الصبي صارخا، فوقاها الله تعالى، وولدها عيسى منه بحجاب، فقد روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستدل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها.
ج. وقيل: إنها استعاذت من إغواء الشيطان الرجيم إياها، عن الحسن.
11. قرأ ابن عامر وأبو بكر، عن عاصم ويعقوب ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾ بضم التاء وقرأ الباقون ﴿وَضَعَتْ﴾ على الحكاية، من قرأ بضم التاء جعله من كلام أم مريم، ومن قرأ بإسكان التاء: جعل ذلك من قول الله تعالى، ويقوي قول من أسكن التاء قوله ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، ولو كان من قول أم مريم لقالت: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها تخاطب الله تعالى.
12. مسائل نحوية:
أ. في موضع ﴿إِذْ قَالَتْ﴾ أقوال:
• أحدها: إنه نصب بأذكر، عن الأخفش والمبرد.
• والثاني: إنه متعلق باصطفى آل عمران، عن الزجاج.
• والثالث: إنه متعلق بسميع عليم، فيعمل فيه معنى الصفتين تقديره: والله مدرك لقولها ونيتها إذ قالت، عن علي بن عيسى.
• والرابع: إن إذ زائدة، فلا موضع لها من الإعراب، عن أبي عبيدة، وهذا خطأ عند البصريين.
ب. ﴿مُحَرَّرًا﴾: نصب على الحال من ﴿مَا﴾ وتقديره: نذرت لك الذي في بطني محررا، والعامل فيه ﴿نَذَرْتُ﴾ وقوله ﴿أُنْثَى﴾ نصب على الحال.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/737.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في (إذ) في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها زائدة، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة.
ب. الثاني: أنها أصل في الكلام، وفيها ثلاثة أقوال:
• أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرّد، والأخفش.
• الثاني: أن العامل في ﴿إِذْ قَالَتْ﴾ معنى الاصطفاء، فيكون المعنى: اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم، هذا اختيار الزجّاج.
• الثالث: أنها من صلة (سميع) تقديره: والله سميع إذ قالت، وهذا اختيار ابن جرير الطّبريّ.
2. قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنّة، وهي أمّ مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس ب (عمران أبي موسى)، وليست هذه مريم أخت موسى، وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة.
3. المحرّر: العتيق، قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام، وحرّرته: سواء، وأرادت: أي: نذرت أن أجعل ما في بطني محرّرا من التّعبيد للدنيا، ليعبدك، وقال الزجّاج: كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبّدهم، وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنّت، فرأت طائرا يطعم فرخا له، فدعت الله أن يهب لها ولدا، وقالت: اللهمّ لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدّس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل، قال القاضي أبو يعلى: والنّذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلّمه القرآن، والفقه، وعلم الدّين، صحّ النّذر.
4. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصا ويعقوب (بما وضعت) بإسكان العين، وضمّ التاء، وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء، وفتح العين، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: إني وضعتها أنثى، وليس الذّكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت، ومن قرأ بضم التاء، فهو كلام متّصل من كلام أمّ مريم.
5. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، من تمام اعتذارها، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذّكر، من خدمته المسجد، والإقامة فيه، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس، قال السّدّيّ: ظنّت أن ما في بطنها غلام، فلما وضعت جارية، اعتذرت، ومريم: اسم أعجميّ.
6. في الرّجيم قولان:
أ. أحدهما: أنه الملعون، قاله قتادة.
ب. الثاني: أنه المرجوم بالحجارة، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا سمّي رجيما، لأنه يرمى بالنّجوم.
__________
(1) زاد المسير: 1/276.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في موضع ﴿إِذِ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ من الإعراب أقوال:
أ. الأول: قال أبو عبيدة: إنها زائدة لغواً، والمعنى: قالت امرأة عمران، ولا موضع لها من الإعراب، قال الزجاج: لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة.
ب. الثاني: قال الأخفش والمبرد: التقدير اذكر ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ ومثله في كتاب الله تعالى كثير.
ج. الثالث: قال الزجاج، التقدير: واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران، وطعن ابن الأنباري فيه وقال: إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح، ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحاً قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال: إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهر عند وجوده، وظهور طاعاته، فجاز أن يقال: إن الله اصطفى آدم عند وجوده، ونوحاً عند وجوده، وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام.
د. الرابع: قال بعضهم: هذا متعلق بما قبله، والتقدير: والله سميع عليم إذا قالت امرأة عمران هذا القول.
2. سؤال وإشكال: إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد؟ والجواب: إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات.
3. زكريا بن أذن، وعمران بن ماثان، كانا في عصر واحد، وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ، وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، ثم في كيفية هذا النذر روايات:
أ. الرواية الأولى: قال عكرمة، إنها كانت عاقراً لا تلد، وكانت تغبط النساء ب الأولاد، ثم قالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته.
ب. والرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت جعلته لله محرراً، أي خادما للمسجد، قال الحسن البصري: إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي.
4. المحرر الذي يجعل حراً خالصاً، يقال: حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته، وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق، والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير:
أ. فقيل: مخلصاً للعبادة عن الشعبي.
ب. وقيل: خادماً للبيعة.
ج. وقيل: عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله.
د. وقيل: خادماً لمن يدرس الكتاب، ويعلم في البيع، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله، قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى.
هـ. وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام والذهاب، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس.
5. هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض والأذى، ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر.
6. في انتصاب قوله ﴿مُحَرَّرًا﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه نصب على الحال من ﴿مَا﴾ وتقديره: نذرت لك الذي في بطني محرراً.
ب. الثاني: وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً.
7. ثم قال الله تعالى حاكياً عنها: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ التقبل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحدي: وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته، ثم قالت ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والمعنى: أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي.
8. هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام.
9. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ هذا الضمير إما أن يكون عائداً إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالماً بأنها كانت أنثى أو يقال: إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال: عادت إلى المنذورة.
10. ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لان على سبيل الإعلام لله تعالى، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار.
11. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر ﴿وَضَعَتْ﴾ برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى، فأزالت الشبهة بقولها ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للأعلام، والباقون بالجزم على أنه كلام الله، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال: والله أعلم بما وضعت تعظيماً لولدها، وتجهيلًا لها بقدر ذلك الولد، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت، وفي قراءة ابن عباس ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ على خطاب الله لها، أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات.
12. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ قولان:
أ. الأول: أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى، وسبب هذا التفضيل من وجوه:
• أحدها: أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث.
• الثاني: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان.
• الثالث: الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة.
• الرابع: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى.
• الخامس: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى.
ب. الثاني: أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه.
13. ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثانياً وهو قولها: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾، وظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء، ومريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
14. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ معناه: وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة.
15. ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلًا خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات القانتات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/203.
ابن حمزة:
سئل الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) عن قوله تعالى حاكيا عن أم مريم: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾: ما معنى هذا النذر؟ وعن قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾؟، فقال: الجواب عن ذلك: أنها نذرت أن الله عز وجل إذا رزقها ولدا جعلته محررا في الرق، والتحرير هو: التكرير والترديد؛ فكأنها أكدت ذلك النذر، وكانت تنذر به لخدمة البيعة، فلما وضعتها حرجت بذلك؛ إذ المرأة لا تصلح لذلك، فقالت ما حكى الله عنها، وكان النذر بذلك جائزا في شرعهم؛ فاعلم ذلك(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/157.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ قال أبو عبيدة: ﴿إِذ﴾ زائدة، وقال محمد بن يزيد: التقدير اذكر إذ، وقال الزجاج: المعنى واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران، وهي حنة بنت فاقود بن قنبل أم مريم جدة عيسى صلّى الله عليه وآله وسلم، وليس باسم عربي ولا يعرف في العربية حنة اسم امرأة، وفي العربية أبو حنة البدري، ويقال فيه: أبو حبة، وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضا يقال له كذلك، قال أبو نواس:
çيا دير حنة من ذات الأكيراح...من يصح عنك فإني لست بالصاحيé
وحبة في العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاري، وأبو السنابل بن بعكك المذكور في حديث سبيعة حبة، ولا يعرف خنة بالخاء المعجمة إلا بنت يحيى بن أكثم القاضي، وهي أم محمد بن نصر، ولا يعرف جنة بالجيم إلا أبو جنة، وهو خال ذي الرمة الشاعر، كل هذا من كتاب ابن ماكولا.
2. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ تقدم معنى النذر، وأنه لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه، ويقال: إنها لما حملت قالت: لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني لجعلته محررا، ومعنى ﴿لَكَ﴾ أي لعبادتك،﴿مُحَرَّرًا﴾ نصب على الحال وقيل: نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والإعراب:
أ. أما الإعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى.
ب. وأما التفسير فقيل: إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وإنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى، وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فلما وضعت مريم قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة، قيل لما يصيبها من الحيض والأذى، وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال، وكانت ترجو أن يكون ذكرا فلذلك حررت.
3. قال ابن العربي: لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله، فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك، وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه ـ والله أعلم ـ أن المرء إنما يريد ولده للأنس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه، فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الأنس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار، وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها، وقد قال رجل من الصوفية لأمه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت: نعم، فسار حتى تبصر، ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت: من؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.
4. ﴿مُحَرَّرًا﴾ مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد، وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد: أن المحرر الخالص لله تعالى لا يشوبه شي من أمر الدنيا، وهذا معروف في اللغة أن يقال لكل ما خلص: حر، ومحرر بمعناه، قال ذو الرمة:
çوالقرط في حرة الذفرى معلقه...تباعد الحبل منه فهو يضطربé
وطين حر لا رمل فيه، وباتت فلانة بليلة حرة إذا لم يصل إليها زوجها أول ليلة، فإن تمكن منها فهي بليلة شيباء.
5. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم، و﴿أُنْثَى﴾ حال، وإن شئت بدل، فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها، رواه أشهب عن مالك: وقيل: لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها، ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام، ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فماتت، الحديث.
6. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾:
أ. هو على قراءة من قرأ ﴿وَضَعَتْ﴾ بضم التاء من جملة كلامها، فالكلام متصل، وهي قراءة أبي بكر وابن عامر، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شي، ولم تقله على طريق الإخبار لأن علم الله في كل شي قد تقرر في نفس المؤمن، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى.
ب. وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله تعالى قدم، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران] والله أعلم بما وضعت، قال المهدوي، وقال مكي: هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم قالته أو لم تقله، ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها نادته في أول الكلام في قولها: رب إني وضعتها أنثى، وروي عن ابن عباس ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾ بكسر التاء، أي قيل لها هذا.
7. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطي لا تساويه في وجوب الكفارة عليها، قال ابن العربي، وهذه منه غفلة، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها، ولم ينصرف ﴿مَرْيَمَ﴾ لأنه مؤنث معرفة، وهو أيضا أعجمي، قال النحاس، والله تعالى أعلم.
8. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ يعني خادم الرب في لغتهم، ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ يعني مريم، ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ يعني عيسى، وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه)، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها، قال قتادة: كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شي، قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر]، هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/65.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتْ﴾ قال أبو عمرو: ﴿إِذِ﴾ زائدة، وقال محمد بن يزيد: إنه متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر إذ قالت، وقال الزجاج: هو متعلق بقوله: ﴿اصْطَفَى﴾ وقيل: متعلق بقوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
2. امرأة عمران اسمها: حنة، بالحاء المهملة والنون، بنت فاقود بن قبيل أم مريم، فهي جدة عيسى، وعمران: هو ابن ماثان جد عيسى.
3. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ تقديم الجار والمجرور لكمال العناية، وهذا النذر كان جائزا في شريعتهم، ومعنى: ﴿لَكَ﴾ أي: لعبادتك، ومحررا: منصوب على الحال، أي: عتيقا خالصا لله خادما للكنيسة، والمراد هنا: الحرية التي هي ضد العبودية، وقيل: المراد بالمحرر هنا: الخالص لله سبحانه، الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران وامرأته حران.
4. ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ التقبل: أخذ الشيء على وجه الرضا، أي: تقبل مني نذري بما في بطني، قوله: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى، أو لكونه أنثى في علم الله، أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو نحو ذلك.
5. ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى، فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره، وأنثى: حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه.
6. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ أبو بكر، وابن عامر، بضم التاء فيكون من جملة كلامها ويكون متصلا بما قبله، وفيه معنى: التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى عليه شيء، وقرأ الجمهور: وضعت، فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه، والتجليل لها، حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين، ويختصها بما لم يختص به أحدا، وقرأ ابن عباس ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾ بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها، أي: إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول.
7. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكرا أن يكون نذرا خادما للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلوّ منزلته، واللام في: الذكر والأنثى للعهد، هذا على قراءة الجمهور، وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر، وابن عامر، فيكون قوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها، أي: ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادما، ويصلح للنذر، كالأنثى التي لا تصلح لذلك، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت.
8. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ عطف على ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية: التقرّب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقا لمعنى اسمها، فإن معنى مريم خادم الربّ بلغتهم، فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات.
9. ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ عطف على قوله: {إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ}، والرجيم المطرود، وأصله المرمي بالحجارة، طلبت الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وأعوانه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/384.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ في حيز النصب على المفعولية، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران، وبيان كيفيته، أي اذكر لهم وقت قولها إلخ، وامرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام، قال العلامة النوريّ في (غبث النفع): (امرأت عمران) رسمت بالتاء، وكل ما في كتاب الله جلّ ذكره من لفظ (امرأة) فبالهاء، سبعة مواضع، هذا الأول، والثاني والثالث بيوسف (امرأت العزيز تراود) (امرأت العزيز الآن) والرابع بالقصص (امرأت فرعون) الخامس والسادس والسابع بالتحريم (امرأت نوح وامرأت لوط وامرأت فرعون) فلو وقف عليها، فالمكيّ والنحويان يقفون بالهاء، والباقون بالتاء.
2. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ أي مخلصا للعبادة (عن الشعبيّ) أو خادما يخدم في متعبداتك، حرره جعله نذيرا في خدمة المعبد ما عاش، لا يسعه تركه في دينه (عن الزجاج)، وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها، لذلك جعلته للغير، والمعنى: نذرته وقفا على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري، قال أبو منصور في (التأويلات): جعلت ما في بطنها لله خالصا لم تطلب منه الاستئناس به ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر عزّ وجلّ، وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا حيث قال ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: 38]، وما سأل إبراهيم ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وكقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، هكذا الواجب أن يطلب الولد، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم ـ انتهى ـ، ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصا، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا.
3. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ الضمير لما في بطني، وإنما أنث على المعنى، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل النفس أو النسمة ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ أي وكنت رجوت أن يكون ذكرا، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها.
4. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرئ في السبع بسكون التاء وضمها، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى إما لدفع ما يتراءى من أن قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها، فأزيلت الشبهة بقوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ هذا ما يتراءى لي، وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها، وتفخيم لشأنه، وتجهيل لها بقدره، أي والله أعلم بالنفس التي وضعتها، وما علق بها من عظائم الأمور، وجعلها وابنها آية للعالمين، وهي غافلة عن ذلك، وعلى القراءة الثانية أعني ضم التاء، فالاعتراض من كلامها، إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته، أو لما ذكروه من قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته، أو تسلية نفسها على معنى: لعل لله تعالى فيه سرّا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر.
5. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ جملة معترضة أيضا، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام أعني مقام قصد إخلاص النذير للعبادة، فإن الذكر يفضلها من وجوه:
أ. منها: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان.
ب. ومنها: أن الذكر يصلح لقوّته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة.
ج. ومنها: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى.
د. ومنها: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى.
6. هذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام، واللام في (الذكر والأنثى) على هذا الملحظ، للجنس ـ كذا ظهر لي ـ وعلى قولهم اللام للعهد فيهما أي ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالا، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار، كالأنثى التي وهبت لها، فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور، هذا، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية، وصلاحية خدمة المتعبدات، فإنهنّ بمعزل عن ذلك، فاللام للجنس.
7. قيل: قياس كونه من قولها أن يكون (وليست الأنثى كالذكر) فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل، لا العكس، قال الناصر في (الانتصاف) وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت عين ما قيل، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32]، فنفى عن الكامل شبه الناقص، مع أن الكمال لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ومنه أيضا: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17]
8. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ قال المفسرون: هي في لغتهم بمعنى العابدة، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها، لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه مرارة أو مر البحر، فلينظر، قال السيوطي في (الإكليل): في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع.. لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع، كما فيها مشروعية التسمية للأم، وأنها لا تختص بالأب، ثم طلبت عصمتها فقالت: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ﴾ أي أجيرها بحفظك ﴿وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي المطرود لمخالفتك، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطانا يكون سببا لطردهما.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/310.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿اِذْ﴾ متعلِّق بـ (سَمِيعٌ) أو بـ (عَلِيمٌ) لا على التنازع، إذ لا يضمر لـ (إِذ)، ويجوز أن يعلَّق بأحدهما ويقدَّر مثله للآخر، ولا يتعلَّق بـ (اصطفى) لأنَّ الله تعالى لم يصطف آدم ومن بعده حين قالت، وقد يتعلَّق بالواو لنيابتها عن (اصْطَفَى) وذلك غير معهود، وأمَّا أن يقدَّر: (واصطفى آل عمران إذ...) إلخ فلا إشكال فيه، ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ أو اذكر إذ قالت امرأة عمران، أو قولها إذ قالت.
2. وهيَ حَنَّة أمُّ مريم ـ بفتح الحاء وشدِّ النون ـ لفظ عبريٌّ عرِّب بإلحاق التاء، وهي حنَّة بنت فاقوذا، أخت إيشاع عند عمران تزوَّجها ـ أي: إيشاع ـ زكرياء وهي أمُّ يحيى، وكان قد أمسك عن حنَّة الولد حتَّى أيست وكبرت وهي من أهل بيت صالحين، أبصرت طائرا يطعم فرخه وهي تحت ظلِّ شجرة فهَبَّت للولد، فدعت الله فيه، وقالت: (اللهمَّ هب لي ولدا أتصدَّق به على بيت المقدس يخدمه) ورزقها الله جنينا من زوجها وأحسَّت به فقالت:
3. ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ﴾ وعدت، ﴿لَكَ مَا﴾ قالت: (مَا) لأَنَّ ما في البطن من غير العقلاء قبل نفخ الروح، ﴿فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ مخلصا من خدمة الدنيا لخدمة بيت المقدس إن كان ذكرا وللعبادة، وكانوا يحرِّرون أولادهم لخدمة بيت المقدس، وإذا بلغوا اختاروا الذهاب أو البقاء، ولا أحد من علماء بني إسرائيل وأبنائهم يلد إِلَّا جعل ولده لذلك، ولا تصلح الجاريَة لذلك للحيض والأذى والضعف والعورة، وقيل: كانوا بعد مريم يحرِّرون لخدمة بيت المقدس الإناث كالذكور، ولا دليل عليه، اللهمَّ إِلَّا أنَّ قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ يشير إلى أنَّ سائر الإناث مثلها، قلت: قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ﴾ إلخ يتضمَّن الدعاء بأن يكون ذكرا، أو هذا جزم بأنَّها وهبته لله مطلقًا ذكرا أو أنثى، ﴿فَتَقَبَّلْ﴾ نذري ﴿مِنِّيَ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ﴾ للأدعية، ومنها دعائي في الولد، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بالنيَّات ومنها نيَّتي فيه، وقدَّم السمع لأنَّ المسموعات أقلُّ من المعلومات مع أنَّ سمعه تعالى علمه بالأصوات.
4. مات عمران وهي حامل، وكانت حنَّة عاقرا إلى أن كبر سنُّها، وحنَّة هذه جدَّة عيسى عليه السلام ، وكانت لعمران بن يصهر بنتٌ اسمها مريم أكبر من هارون، وعمران بن يصهر هذا هو أبو موسى وهارون عليهما السلام، وهو يصهر بن فاهت بن لاوي بن يعقوب؛ وأمَّا عمران أبو مريم فعمران بن ماشان، وكان زكرياء معاصرا لابن ماشان وعيسى، وتزوَّج زكرياء إيشاع بنت ماشان، ويقال: كان يحيى وعيسى ابني خالة من الأب كما جاء في الحديث الصحيح أنَّهما ابنا الخالتين، وإنَّما كانتا لأب لأنَّهما بنتا عمران بن ماشان، لكن مريم من حنَّة وإيشاع من غيرها، ومريم بنت عمران أكبر رتبة من إيشاع، وإيشاع أكبر سنًّا من مريم، وأمَّا قول زكريَّاء: (أنا أحقُّ بها، عندي خالتها) فوجهه أنَّ حنَّة وإيشاع بنتا فاقودا، فمريم بنت أخت إيشاع، وبنت الأخت يطلق عليها الأخت فيكونا ابني خالتين مجازا، وكانت في منزل زوج أختها زكريَّاء، ورغب في أن يكون له ولد من إيشاع مثل ولد أختها حنَّة، وأنهضه إلى الولادة أنَّه رأى طائرا يزقو ولده، فإيشاع خالة مريم وكانت أختها، وهذا حاصل ما ذكرت، فيوجَّه إمَّا بأنَّ حنَّة وإيشاع بنتا فاقوذا، فمريم بنت أخت إيشاع خالة، وكثيرا يطلق الأخت على بنت الأخت، فأطلق على عيسى ويحيى أنَّهما ولدا خالة؛ لأنَّ عيسى ابن بنت خالة يحيى، فأطلق عليه ابن الخالة، والغرض أنَّ بينهما جهة الخؤولة، ولكن هذا ينافي كون إيشاع بنت عمران، وإمَّا بأنَّه تزوَّج أمَّ حنَّة فولدت إيشاع، وكانت حنَّة ربيبته، ثمَّ تزوَّج حنَّة بعد ذلك، لجوازه في شرعهم، فولدت مريم، فإيشاع أخت مريم من الأب وخالتها أيضًا، وهذا أحسن وجه في الجمع بين الروايات، ولكن مرَّ أنَّ نوحا حرَّم ذوات المحارم، ويجاب بأنَّه لم يحرِّمهنَّ كلَّهنَّ.
5. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ أي: وضعت ما في بطنها، ولفظ (ما) مذكَّر وأنَّثه لأنَّ هذا من كلام الله، وهو عالم بأنَّ ما في بطنها أنثى فراعى جانب المعنى، وليس نفي بعض لهذا الوجه صحيحا، ويجوز أن يكون التأنيث باعتبار ما بعد ولادتها، ويناسب التأنيث وضوحه في الجواب، كما يؤنَّث المبتدأ لتأنيث الخبر، ولو كان ضميرا لمذكَّر، وحاصل ذلك كلِّه أنَّه أنِّث باعتبار الواقع.
6. ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ يا ربِّ ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ أي: وضعته، أي: وضعت ما في بطني؛ وأُنِّث لِمَا ذَكرتُ، ولاعتبار الحال وهو كالخبر، وهو قوله: ﴿أُنثَى﴾ لقاعدة أنَّ كلَّ ضمير وقع بين اسمين مذكَّر ومؤنَّث مدلولهما واحد يجوز تذكيره وتأنيثه، لا باعتبار كون المتكلِّم عالما بالأنوثة فضلا عن أن يلزم كون (أُنثَى) حالا عنه لغوا، أو التأنيث في الموضعين باعتبار أنَّ ما في بطنها نفْسٌ أو حبلة، وأنَّ النفس أو الحبلة ولو مؤنَّثين يطلقان على الذكر والأنثى، فبيَّن الأنوثة بقوله: ﴿أُنثَى﴾، وهو حال من (هَا)، ويجوز أن يكون بدلا منها.
7. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ بأنوثة ما وضعت، ولكن ذكَرت: (إنِّي وضعتها أنثى) تحسُّرًا عن عدم الذَّكر الذي قصدت لخدمة بيت المقدس، واستجلابا للقبول بخضوع؛ فلذا جوزيت بالقبول، وأنَّ هذا الأنثى كالذكر، والكلام المنحصر في الفائدة أو لازمها إِنَّمَا هو الخبر، وهذا إنشاء، والإنشاء لا يكون معناه الفائدة ولا لازمها.
8. ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنثَى﴾ هذا من كلام الله لا من كلامها معترض في كلامها، أي: ليس الذكر المعهود الذي طلبتِ كالأنثى المعهودة التي أُعطيتِ، بل الأنثى التي أُعطيت أفضل لمزايا يضعها الله فيها، وإن كانت لا تصلح لخدمة البيت، ويجوز أن يكون من باب القلب، أي: ليس مطلق الأنثى، أو هذه الأنثى الموضوعة كمطلق الذَّكر المطلوب، إذ لا تصحُّ لخدمة البيت، فقُلب ليفيد نكتة هي إيهام التعبير الأوَّل من أنَّ بعض أفراد النساء لكمالها أفضل، أو جُعِلَ بالنسبة إليها مشبَّها، ويجوز أن يكون من كلامها على القلب تضرُّعا منها، فقلَبَه الله عنها للنكتة، أو على معنى أنَّ مراد الله أفضل من مرادي تعظيما لعطيَّته تعالى، ويجوز أن يكون بلا قلب من كلام الله أو كلامها، على معنى أنَّه لا يُشبَّه الذكر بالأنثى، لأنَّه أفضل وليسا سواء.
9. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ تقرُّبا إلى الله تعالى ، ورجاء لعصمتها، وأن تكون من العابدات، فإنَّ مريم في لغتهم: العابدة الخادمة لله 8 ، ولو لم تصلح لخدمة البيت لأنَّها ولو خدمت لكن يقطعها الحيض، وذلك بقاء على نيَّة الخير وقصده بما في بطنها، ولا يخفى أنَّ التسمية باسم العبادة لله إذا كان لحبِّ الله وعبادته تقرُّب ناشئ عن القلب، وقيل: مريم معرَّب (مارية) بمعنى جارية في لغتهم، والتسمية قبل السابع جائزة كما في الآية.
10. ﴿وَإِنِّيَ أُعِيذُهَا﴾ أمنعها ﴿بِكَ﴾ يا ربِّ ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾ وقدَّمت (بِكَ) لمزيد اعتنائها بمريم، ﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي: المرجوم، أي: المطرود، وذلك استعارة على الصحيح، وقيل: الرجم بمعنى الطرد حقيقة، ولا يدلُّ لذلك كلام القاموس، لأنَّه يذكر المجاز في معاني الكلمات، مثل أن يقول: الأسد السبع والشجاع.
11. استجاب الله سبحانه دعاءها كما قال البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (ما من مولود يولد إِلَّا والشيطان يمسُّه حين يولد فيستهلُّ من مسِّ الشيطان إِلَّا مريم وابنها)، وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة: (كُلُّ ابنِ آدَمَ يَطْعَنُهُ الشَّيْطَانُ فِي جَنبَيْهِ بِإصْبِعيهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ ابْنِ مَرْيَمَ فإنَّه ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَابِ)، أي: المشيمة؛ وقيل: حجاب من الملائكة مِمَّا يلي الأرض، وقد يئس من ظاهرها لدوران الملائكة عليه، وذلك منها يتضمَّن الدعاء بحياتها حتَّى تلد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/247.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي إنه سبحانه وتعالى كان سميعا لقول امرأة عمران، عليما بنيتها في وقت مناجاتها إياه ـ وهي حامل ـ بنذر ما في بطنها له حال كونه محررا، أي معتقا من رق الأغيار لعبادته ـ سبحانه وتعالى ـ وخدمة بيته، أو مخلصا لهذه العبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر، وثنائها عليه تعالى عند هذه المناجاة بأنه السميع للدعاء، العليم بما في أنفس الداعين والداعيات.
1. قال محمد عبده: ورد ذكر عمران في هذه الآيات مرتين، فبعضهم يقول: إنهما واحد وهو أبو مريم، ويستدل على ذلك بورودهما في سياق واحد، وأكثرهم يقول: إن الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم عليها الرضوان، وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة تقريبا، وذكر تفصيل ذلك على ما هو معروف عند اليهود، وقال: والمسيحيون لا يعترفون بأن أبا مريم يدعى عمران ولا ضير في ذلك؛ فإنه لا يلزم أن تكون كل حقيقة معروفة عندهم، وليس لهم سند لنسب المسيح يحتج به، فهو كسلسلة الطريق عند المتصوفة يزعمون أنها متصلة بعلي أو بأبي بكر، وليس لهم في ذلك سند متصل يحتج بمثله، ونسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا مختل، ولو كتب عن علم لما وقع فيه الخلاف.
2. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ قالوا: إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار، بل التحسر والتحزن والاعتذار، فهو بمعنى الإنشاء وذلك أنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله والانقطاع لعبادته فيه، والأنثى لا تصلح لذلك عادة لا سيما في أيام الحيض.
3. ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ أي بمكانة الأنثى التي وضعتها وأنها خير من كثير من الذكور؛ ففيه دفع لما يوهمه قولها من خسة المولودة وانحطاطها عن مرتبة الذكور وقد بين ذلك بقوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ﴾ الذي طلبت أو تمنت ﴿كَالْأُنْثَى﴾ التي وضعت، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر.
4. قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ﴿وَضَعَتْ﴾ على أنه من كلامها، وعليه يكون المعنى: وليس الذكر كالأنثى فيما يصلح له كل منهما.
5. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ العوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به، فمعنى أعوذ بالله من الشيطان، ألجأ إليه وأعتصم به منه، وأعاذه به منه جعله معاذا له يمنعه ويعصمه منه، والإعاذة بالله تكون بالدعاء والرجاء، والرجيم: المطرود عن الخير، وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا لمسلم {كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها} وفسر البيضاوي المس هنا: بالطمع في الإغواء، وقال محمد عبده: إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة، ولعل البيضاوي يرمي إلى ذلك، والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف، ويشهد له من وجه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، وهو أظهر في التمثيل، ولعل معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلّى الله عليه وآله وسلم ولا بالوسوسة، كما يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم في شيطانه: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) رواه مسلم، وفي رواية زيادة فلا يأمر إلا بخير.
6. سؤال وإشكال: إن حديث استخراج حظ الشيطان منه ونحوه يدل على أنه كان له حظ منه قبل ذلك، وهذا ينافي قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ وهو صلّى الله عليه وآله وسلم صفوة عباده وخاتم رسله المصطفين الأخيار، فإن الآية تنفي سلطة الشيطان عن عباد الرحمن في كل آن، والجواب: أن الآية تنفي السلطان عليهم لا أصل الوسوسة، فإذا وسوس الشيطان ولم تطع وسوسته لم يكن له سلطان، ومعنى الحديث أنه لم يعد له طريق إلى الوسوسة ولا إلى الأمر بالشر قط، وهذه مرتبة عليا لا يرتقي إليها كل عباد الله، وقد ذكر أهل الحديث من خصائصه صلّى الله عليه وآله وسلم إسلام شيطانه، وجملة القول أن الشيطان لم يكن له عليه سلطان ما، ولكن كان له حظ وطمع، فزال وغلبه نور النبوة حتى يئس وزال حظه فلم يعد يأمر إلا بخير أو أسلم كما ورد.
7. سؤال وإشكال: إن ما فسر به البيضاوي حديث مريم وعيسى يقتضي أن يكونا أفضل من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو ممتازين عليه إذ كان يطمع فيه ولم يطمع فيهما، وهذا ما يشاغب به دعاة النصرانية عوام المسلمين مستدلين بالحديث على تفضيل عيسى على محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، أو على أنه فوق البشر، والجواب: أن كتاب هؤلاء الدعاة حجة عليهم، ففي الإصحاح الرابع من إنجيل لوقا ما نصه: (أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية أربعين يوما يجرب من إبليس، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام ولما تمت جاع أخيرا وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا فأجابه يسوع قائلا مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان وقال له إبليس لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إلي قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع فأجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك فأجاب يسوع وقال له إنه قيل لا تجرب الرب إلهك ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين)، فهذا صريح كان يوسوس للمسيح عليه السلام حتى يحمله ويأخذه من مكان إلى مكان، وقصارى الأمر أنه لم يكن يطيعه فيما أمر به من السجود له، ومن امتحان الرب إلهه (أي إله المسيح) وقوله: (لا تجرب الرب إلهك) يراد به ما ورد في سفر التثنية آخر أسفار التوراة ومثله قوله: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) وقوله: (للرب إلهك تسجد) إلخ، وذلك مما يدل على أنه كان متبعا للتوراة.
8. هذا وقد تقدم تحقيق القول في الشيطان ووسوسته في سورة البقرة والمحقق عندنا أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين، وخيرهم الأنبياء والمرسلون، وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسسهما وحديث إسلام شيطان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وحديث إزالة حظ الشيطان من قلبه فهو من الأخبار الظنية لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا، وقال بعضهم: يؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحت عنده، ومذهب السلف في هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها إلى الله تعالى فلا نتكلم في كيفية مس الشيطان ولا في كيفية إخراج حظه من القلب، وإنما نقول: إن ما قاله الرسول حق وإنه يدل على مزية لمريم وابنها وللنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يشاركهم فيها سواهم من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وهذه المزية لا تقتضي وحدها أن يكون كل واحد منهم أفضل من سائر عباد الله المخلصين؛ إذ قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد في الفاضل، فليست مريم أفضل من إبراهيم وموسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ؛ لأن اختصاص الله إياهما بالنبوة والرسالة والخلة والتكليم يعلو كون الشيطان لم يمسهما عند الولادة؛ على أن الحديث ورد في تفسير كونه تعالى تقبل من أمها إعاذتها وذريتها من الشيطان، وهذه الإعاذة قد كانت بعد ولادتها والعلم بأنها أنثى، وظاهر الحديث أن المس يكون عند الوضع، والله ورسوله أعلم بمرادهما.
__________
(1) تفسير المنار: 3/290.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهى حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها، العليم بصحة نيتها وإخلاصها، وهذا يستدعى تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا، وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب.
2. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة، والأنثى لا تصلح لذلك.
3. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور، وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هي خير مما كانت ترجوه من الذّكران.
4. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي وإني غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، وإني أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير.
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (كل بنى آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها)، والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلّى الله عليه وآله وسلم ولو بالوسوسة.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/145.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. من هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم.. وقصة النذر تكشف لنا عن قلب ﴿امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ ـ أم مريم ـ وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك، وهو الجنين الذي تحمله في بطنها، خالصا لربها، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه، والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح، فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده.. فهذا هو التحرر إذن.. وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية!
2. من هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر، فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في ماجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة.. لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله، وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله، وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان، وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران، بأن يتقبل ربها منها نذرها ـ وهو فلذة كبدها ـ ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله، والتوجه إليه كلية، والتحرر من كل قيد، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
3. لكنها وضعتها أنثى؛ ولم تضعها ذكرا.. لقد كانت تنتظر ولدا ذكرا؛ فالنذر للمعابد لم يكن معروفا إلا للصبيان، ليخدموا الهيكل، وينقطعوا للعبادة والتبتل، ولكن ها هي ذي تجدها أنثى، فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾.. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾.. ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت، وكأنها تعتذر أن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة، ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾
4. هذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة، مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه، يحدثه بما في نفسه، وبما بين يديه، ويقدم له ما يملك تقديما مباشرا لطيفا، وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم، حال الود والقرب والمباشرة، والمناجاة البسيطة العبارة، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد، مناجاة من يحس أنه يحدث قريبا ودودا سميعا مجيبا.
5. ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها، وتدعها لحمايته ورعايته، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم، وهذه كذلك كلمة القلب الخالص، ورغبة القلب الخالص، فما تود لوليدتها أمرا خيرا من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/393.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد سمع الله مريم إذ تناجى نفسها، وعلم ـ سبحانه ـ ما أخفاه عنها من ألطافه ونعمه إذ ناجته بنذرها الذي نذرته، وهو هذا الجنين الذي حملت به، ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، فإنها ما كادت تتحقق من أن جنينا يتحرك في أحشائها، حتى أقبلت على الله بكيانها كله، وإيمانها كلّه، جاعلة هذا الذي وهبها الله إياه خادما لله، محرّرا من كل رباط يربطه بالحياة، ليكون كلّه في خدمة بيت الله: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ وضرعت إلى الله تعالى أن يقبل هذا النذر، وأن يرضاه لها، تحية شكر له، على ما أنعم عليها من ولد بعد يأس كاد يدخل عليها، ويخرجها من الدنيا عقيما بين النساء: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وجاءها المخاض، وولد المولود الذي كانت تنتظره، فإذا هو أنثى! ونظرت في وجه مولودتها فحزنت أن جاءت على غير ما كانت تنتظر، إنها كانت ترجو أن يكون وليدها ذكرا، فهو الذي ترى فيه الوفاء بنذرها، حيث هو الذي يصلح للخدمة في بيت الله، أما الأنثى فمكانها هناك قلق حرج، بين المنذورين الذين يخدمون في بيت الله، وكلهم من الذكور.
2. ومع هذا، فقد نذرت ما في بطنها محررا لخدمة الله، وقد جاء ما في بطنها أنثى، فهي ـ والأمر كذلك ـ لا تملك غير هذه التي أعطاها الله، فلتقدمها لله وفاء بما نذرت: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾! وفي قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ إشارة إلى ما تقرر في علم الله من أنها لا تضع إلا أنثى، فالضمير المؤنث في (وضعتها) يشير إلى معهود معلوم من قبل الوضع، وذلك ما كان في علم الله وتقديره!
3. في قوله تعالى على لسان امرأة عمران: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم لله أنثى تخدم في بيته، وكأن الله ـ سبحانه ـ لم يجعلها أهلا لأن تجيء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة.
4. قول الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل في نفسها، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر لله، فالله سبحانه ﴿أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ وهو الذي قدّر هذا، وأراد الوليدة لأمر عظيم، ستكشف عنه الأيام، بعد قليل.. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم، الذي جعل الله إظهاره على يد هذه الأنثى، التي ستلد مولود البشريّة البكر: (عيسى عليه السّلام)! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أكان لهذا الذكر أن يلد (عيسى) على الأسلوب الذي ولد به؟
5. ولهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه، فإذا هو في أعلى درجات البيان والوضوح.. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها، فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول في أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى؟ محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده الله، واختص هذه الأنثى به، وهى أن تلد مولودا من غير أب، هو المسيح.
6. (وعمران) هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها ﴿امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ ليس المراد به ـ والله أعلم ـ أنه زوجها، وإنما هو رجل من آل (عمران) الذين اصطفاهم الله فيما اصطفى من عباده، كما قال تعالى فى الآية السابقة ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، وقد وصفت أم مريم هنا بأنها امرأة عمران، إشارة إلى اتصال نسبها بهذا النسب الكريم المصطفى، وكذلك اتصال نسلها بهذا النسب الكريم المصطفى أيضا.. فهي امرأة عمران أي من نسل (عمران) وابنتها ابنة عمران أي أن ذريتها من نسل عمران كذلك، فهي مصطفاة من مصطفين أخيار، من جهة الأم والأب جميعا!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/435.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقدم القول في موقع (إذ) في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة: إذ هنا زائدة، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفا، ولا يجوز تعلقها باصطفى: لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم.
2. امرأة عمران هي حنّة بنت فاقوذا، قيل: مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حبلها ذلك محرّرا أي مخلّصا لخدمة بيت المقدس، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكرا.
3. إطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى، قيل: إنّها كانت تظنّه ذكرا فصدر منها النذر مطلقا عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون: إذا جاء ذكرا فهو محرّر، وأنّث الضمير في قوله: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ وهو عائد إلى ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ باعتبار كونه انكشف ما صدقه على أنثى.
4. قولها: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ خبر مستعمل في إنشاء التحذير لظهور كون المخاطب عليما بكل شيء، وتأكيد الخبر بإنّ مراعاة لأصل الخبرية، تحقيقا لكون المولود أنثى؛ إذ هو بوقوعه على خلاف المترقّب لها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بنفسها بطريق التأكيد، فلذا أكّدته، ثم لما استعملت هذا الخبر في الإنشاء استعملته برمّته على طريقة المجاز المركّب المرسل، ومعلوم أنّ المركب يكون مجازا بمجموعه لا بأجزائه ومفرداته، وهذا التركيب بما اشتمل عليه من الخصوصيات يحكي ما تضمنه كلامها في لغتها من المعاني: وهي الروعة والكراهية لولادتها أنثى، ومحاولتها مغالطة نفسها في الإذعان لهذا الحكم، ثم تحقيقها ذلك لنفسها وتطمينها بها، ثم التنقل إلى التحسير على ذلك، فلذلك أودع حكاية كلامها خصوصيات من العربية تعبر عن معان كثيرة قصدتها في مناجاتها بلغتها.
5. أنّث الضمير في ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ باعتبار ما دلت عليه الحال اللازمة في قولها ﴿أُنْثَى﴾ إذ بدون الحال لا يكون الكلام مفيدا فلذلك أنّث الضمير باعتبار تلك الحال.
6. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ جملة معترضة، وقرأ الجمهور: وضعت ـ بسكون التاء ـ فيكون الضمير راجعا إلى امرأة عمران، وهو حينئذ من كلام الله تعالى وليس من كلامها المحكي، والمقصود منه: أنّ الله أعلم منها بنفاسة ما وضعت، وأنها خير من مطلق الذكر الذي سألته، فالكلام إعلام لأهل القرآن بتغليطها، وتعليم بأنّ من فوّض أمره إلى الله لا ينبغي أن يتعقّب تدبيره، وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: بضم التاء، على أنها ضمير المتكلمة امرأة عمران فتكون الجملة من كلامها المحكي، وعليه فاسم الجلالة التفات من الخطاب إلى الغيبة فيكون قرينة لفظية على أنّ الخبر مستعمل في التحسر.
7. جملة ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ خبر مستعمل في التحسر لفوات ما قصدته في أن يكون المولود ذكرا، فتحرره لخدمة بيت المقدس.
8. وتعريف الذكر تعريف الجنس لما هو مرتكز في نفوس الناس من الرغبة في مواليد الذكور، أي ليس جنس الذكر مساويا لجنس الأنثى، وقيل: التعريف في ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ تعريف العهد للمعهود في نفسها، وجملة ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ﴾ تكملة للاعتراض المبدوء بقوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ والمعنى: وليس الذكر الذي رغبت فيه بمساو للأنثى التي أعطيتها لو كانت تعلم علوّ شأن هاته الأنثى وجعلوا نفي المشابهة على بابه من نفي مشابهة المفضول للفاضل وإلى هذا مال الزمخشري وتبعه صاحب (المفتاح) والأول أظهر.
9. نفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب: ليس سواء كذا وكذا، وليس كذا مثل كذا، ولا هو مثل كذا، كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] ـ وقوله ـ ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: 32] وقول السموأل: (فليس سواء عالم وجهول) وقولهم: (مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصدّى)، ولذلك لا يتوخون أن يكون المشبه في مثله أضعف من المشبه به؛ إذ لم يبق للتشبيه أثر، ولذلك قيل هنا: وليس الذكر كالأنثى، ولو قيل: وليست الأنثى كالذكر لفهم المقصود، ولكن قدّم الذكر هنا لأنه هو المرجو المأمول فهو أسبق إلى لفظ المتكلم، وقد يجيء النفي على معنى كون المشبه المنفي أضعف من المشبه به كما قال الحريري في المقامة الرابعة: (غدوت قبل استقلال الركاب، ولا اغتداء اغتداء الغراب) وقال في الحادية عشرة: (وضحكتم وقت الدفن، ولا ضحككم ساعة الزّفن) وفي الرابعة عشرة: (وقمت) ولا كعمرو بن عبيد) فجاء بها كلها على نسق ما في هذه الآية.
10. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ الظاهر أنها أرادت تسميتها باسم أفضل نبيئة في بني إسرائيل وهي مريم أخت موسى وهارون، وخوّلها أنّ أباها سميّ أبي مريم أخت موسى.
11. تكرّر التأكيد في {وإِنِّي سَمَّيْتُها وإِنِّي أُعِيذُها بِكَ} للتأكيد: لأنّ حال كراهيتها يؤذن بأنها ستعرض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكدت هذا الخبر إظهارا للرضا بما قدّر الله تعالى، ولذلك انتقلت إلى الدعاء لها الدال على الرضا والمحبة، وأكدت جملة أعيذها مع أنها مستعملة في إنشاء الدعاء: لأنّ الخبر مستعمل في الإنشاء برمّته التي كان عليها وقت الخبرية، كما قدّمناه في قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/86.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ متعلق بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: أي أن الله سبحانه وتعالى كان يعلم علم من يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول، فهو سبحانه وتعالى سمع قول امرأة عمران ذلك القول، ونذرها ذلك النذر، وقد عقدت العزم على أن يكون ما في بطنها خالصا لله سبحانه وتعالى؛ ومعنى النذر التزام التقرب إلى الله تعالى بأمر من جنس العبادات المفروضة؛ وقد نذرت هذه السيدة الكريمة لله، أي التزمت لله أن يكون ما في بطنها محررا، أي خالصا لله سبحانه وتعالى ولخدمة بيته المقدس؛ فمعنى (محررا) أي مخلصا للعبادة والمناجاة، ومن أخلص للعبادة فقد صار عتيقا من كل رق في الدنيا، فهو عتيق من رق الهوى، ومن رق الرجال، ومن رق ذوى السلطان؛ لأنه يكون خالصا لمالك الملكوت، ومن خلص له تعالى فقد عتق من كل رق في الدنيا.
2. عمران: هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور أولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى، وأن عمران هذا هو أبو مريم، تكلف لا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
3. قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها أن يقبل نذرها؛ ولذلك تضرعت إليه أن يقبل فقالت: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي أضرع إليك أن تقبل نذرى، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فإن الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في الأمر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله، ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر.
4. العبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾، وهى في نذرها وفي ضراعتها لقبول هذا النذر كانت تفرض أن الحمل ذكر، لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس، ولكنها عند الولادة تبين أنها أنثى، فذكرت ذلك، وأشارت في ذكرها إلى تقديرها وفرضها؛ ولذا حكى الله عنها أنها قالت: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ أي أنها قدرت الحمل ذكرا، وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر؛ لأنه لا يستطيع المولود بعد أن تبين أنه أنثى الخدمة، فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى، فإن الأنثى لا تستطيع ذلك، وقوله تعالى:
5. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ جملة معترضة بين كلاميها؛ وهى تشير إلى أن الله تعالى أعلم منها بما وضعت، فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه، وتتحسر بين يديه أعلم منها بما وضعته؛ لأنه هو الذي خلقه وجعله أنثى، وهو أعلم بما يصلح له، وهو وحده العليم بما هيّأ له في لوح القدر، فإذا كانت لا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من غير أب؛ ولذا قال الزمخشري في هذا: (قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ تعظيما لموضوعها.. ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهى جاهلة بذلك لا تعلم عنه شيئا)
6. قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة، ويكون المعنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها، وهذا هو الظاهر؛ وإما أن يكون من كلامها وهو غير الظاهر؛ إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها: وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل.
7. مع أن هذه التّقيّة تتحسر على أن مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت؛ ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت إليه أن يهديها ولذا قالت: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ فهي قد اختارت الاسم راضية بما أعطيت، قال الزمخشري في الكشاف: (وإن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى؛ لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه أن يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها)، ولذا طلبت إلى ربها أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، ومعنى الإعاذة أن تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان؛ وذلك لأن التعوذ الالتجاء، فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، وأتخذ منه معاذا؛ ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى، وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
8. الشيطان: ما يوسوس في النفس، وهو يجرى من الإنسان مجرى الدم، والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال له رب البرية: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الحجر]، وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من أن يمسهما الشيطان، وقد ورد في ذلك بعض الآثار، ولقد قال الزمخشري في ذلك: يروى من الحديث (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
çلما تؤذن به الدنيا من صروفها...يكون بكاء الطفل ساعة يولدé
تلك ضراعات امرأة عمران عند ولادة مريم البتول، وقد تقبل الله نذرها، وأجاب دعاءها؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1197.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا التمهيد ينتقل إلى قصة امرأة عمران أم مريم وجدة عيسى عليه السلام، وخلاصتها ان قوفاذ بن قبيل الاسرائيلي كان له بنتان: اسم إحداهما حنة، وتزوجها عمران، وهو اسرائيلي أيضا، وأولدها مريم، واسم الثانية ايشاع، وتزوجها زكريا؛ وولدت منه يحيى، فيحيى بن زكريا، ومريم ام عيسى هما ابنا خالة، وليس عيسى ويحيى ابني خالة، كما هو معروف.. هكذا في مجمع البيان، ومات عمران، وحنة حامل، فنذرت حملها لخدمة بيت المقدس، وتضرعت خالصة لله أن يتقبل نذرها، وكان هذا جائزا في دينهم، ولا يجوز في دين الإسلام، وكانت تنتظر ذكرا، لأن النذر للمعابد لم يكن معروفا الا للصبيان، ولما وضعت أنثى توجهت لله، وقالت: اني وضعتها أنثى.
2. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾، ومريم في اللغة العبرية بمعنى خادم الرب، وتقبّل الله نذرها، وان كان أنثى، واختلف بنو إسرائيل كل يريد أن يكفل مريم، ويدير شؤونها، ولما اشتدت الخصومة فيما بينهم اتفقوا على الاقتراع، فكانت من نصيب زكريا زوج خالتها، وكان آنذاك رئيس الهيكل اليهودي، فاهتم بها وتفقّد شؤونها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/50.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب، والتحرير هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقية، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر، والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.
2. في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا، وأن حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ الآية، على ما سيجيء من البيان.
3. من المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريرا عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه، أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير، وقد قيل: إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام، وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.
4. في الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجي ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا ونحو ذلك.
5. ليس تذكير قوله: ﴿مُحَرَّرًا﴾، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزنا وتحسرا لما وضعتها ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، على ما سيجيء بيانه.
6. في حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله، وقد قال تعالى: ﴿اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾، وقال تعالى: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى﴾، فجعل علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، ولذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم وقطع: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهرا.
7. مفعول قولها: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾، وإن كان محذوفا محتملا لأن يكون هو نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.
8. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه أنثى قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، وهو خبر أريد به التحسر والتحزن دون الإخبار وهو ظاهر.
9. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، جملتان معترضتان وهما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، ولا أن الثانية مقولة لها والأولى مقولة لله، أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾، مسوقا لإظهار التحسر كان ظاهر قوله: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق، ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى التي وهبناها لها، ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه والأبرص ومحييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة الله وتلد ولدا بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلم الناس في المهد، ويكون روحا وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليه السلام.
10. من هنا يظهر: أن قوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، مقول له تعالى لا لامرأة عمران، ولو كان مقولا لها لكان حق الكلام أن يقال: وليس الأنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه وأردأ إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة، وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد.
11. أخذ أكثر المفسرين قوله: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، تتمة قول امرأة عمران، وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع إلى كتبهم.
12. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل، ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة، فقولها: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك، والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ الآية.
13. ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.
14. الكلام في قولها: ﴿وَذُرِّيَّتَهَا﴾، من حيث إنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح أن نتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا صالحا ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، وسمتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/170.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿نَذَرْتُ﴾ أي أوجبت ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ تعنى حملها، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام) لقولها: ﴿مُحَرَّرًا﴾ (معناه: خالص دائم، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، والمحرر: المعتق)، قال سيد قطب في (تفسيره): (والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر مُوحٍ فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده، فهذا هو التحرر)، قال الشرفي: (والتقبل: أخذ الشيء على وجه الرضى به) انتهى، وقوله: (أخذ الشيء) أي ما جُعِل للآخذ.
1. ﴿السَّمِيعُ﴾ لكل قول، ومنه نذرها بما في بطنها ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكل شيء، ومنه نيتها وقصدها بالنذر.
2. قولها: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ كالشكوى إلى الله، والتأسف لفوات الغرض المقصود بالنذر، لكون الأنثى لا تصلح له، أو الشكوى من نقص الغرض لأن الأنثى لا تقوم بما يقوم به الذكر من الخدمة ليلاً ونهاراً، وعلى اختلاف الأحوال.
3. ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ يشير إلى أنه تعالى يعلم من حال مريم وكمالها وما قد أعدّها له ما لو علمته لم تأسف لكونها أنثى، وقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾:
أ. يحتمل: أنه حكاية عنها، وأرادت أن الذكر لا يحتاج إلى مثل ما تحتاج الأنثى من التستر واجتناب المزاحمة في المسجد، واجتناب دخوله حين يخشى الخلوة بأجنبي، واجتناب الذهاب لحاجات المسجد من أي موضع، فالذكر ليس كالأنثى في ذلك، فلذلك أسفت لكونها أنثى رغبة منها في خادم منها يخدم المسجد مثلاً.
ب. ويحتمل: أنه من كلام الله تعالى وليس حكاية عنها، فيكون معناه: وليس الذكر الذي ظنته أصلح للغرض المقصود بالنذر، ليس كالأنثى التي وضعتها بل هي أفضل؛ لما فيها من المصلحة العظمى، والنفع في الدين، وإن لم يكن ذلك بخدمة المسجد.
4. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ قيل: أصل (مريم) في لغتهم: العابدة فسميت بذلك تفاؤلاً، وهو قريب من حيث مناسبته للسياق ولغرض أمها.
5. قولها: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ دعاء لها بسبب الرغبة في صلاحها ولذريتها كذلك، وهكذا أهل الصلاح يحبون لذرياتهم الصلاح ويدعون لهم به.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/455.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إن القصة هنا تختصر الحوادث، فليست هناك ملامح شخصية لهذه الإنسانة (امرأة عمران)؛ من هي؟ وما هو اسمها، وما هي صفاتها الذاتية؟ لأن ذلك كله لا يمثل شيئا في ما تهدف إليه القصّة من الحديث عن الروحيّة التي كان يعيشها آل عمران وعن إخلاصهم العظيم لله، وعن النمط المميز من التفكير الذي كان يطبع وعيهم، فقد فقدت هذه المرأة زوجها بعد أن حملت منه، وربما كان إنسانا صالحا يعيش في خدمة بيت الله، وبدأت تفكر في مستقبل هذا الولد، ولم تفكر تفكير ذاتيّا أنانيّا كما يفكر الكثيرون في الانتفاع بأولادهم من ناحية مادّية أو معنويّة في ما يكسبه من مال وفي ما يحصل عليه من جاه، بل فكرت في أن يكون خادما لله، وهذا ما تعنيه كلمة ﴿مُحَرَّرًا﴾ بحيث لا يكون خاضعا لأية سلطة بشرية، سواء في ذلك سلطة والديه أو سلطة الآخرين، فهو لا يعمل لأحد ولا يدخل في خدمة أحد، بل يعمل لله ويخدم بيته، فيكون حرا أمام الآخرين في ما يملكه من سلطان نفسه تجاههم وعبدا أمام الله باعتباره خادما أمينا له، فنذرته لله.
2. كان هذا النذر مشروعا في شريعتهم، وأرادت من خلاله أن تتقرب إلى الله، لأنها لا تملك شيئا تقدّمه إليه غير ذلك، إنه نوع من القربان الحيّ المتحرّك الذي تقدمه الأمّ إلى خالقها ليظل في طاعته وخدمته.. وابتهلت إليه أن يتقبله منها، فإنه السميع الذي يسمع دعوات عباده المخلصين له، العليم الذي يعلم إخلاصهم الروحي في عبادته.
3. بقيت هذه المرأة الصالحة في أجواء هذه الروحيّة طيلة أيام الحمل.. وجاء اليوم الموعود الذي انتظرته ليتحقق حلمها، وكانت المفاجأة غير المنتظرة، فالمولود أنثى، والأنثى لا تصلح للخدمة في بيت المقدس، لأنها من شؤون الذكور، فهتفت هتاف اليائس المعتذر الخائب، لتعلن أن الحلم لم يتحقق، ولم تكن بحاجة إلى هذا الإعلان، فإن الله أعلم بما وضعت، لأنه هو الذي خلقه وصوّره، وليس الذكر كالأنثى، فلو كان المولود ذكرا لكان شأنه أن ينتهي إلى خادم بسيط في بيت المقدس، ولكن هذه الأنثى التي وضعتها ستكون مؤهلة لكرامة الله حيث تظهر ـ من خلالها ـ قدرته في ولادة عيسى منها من دون أب.
4. بدأت المرأة تفكر من جديد ـ في ما توحي به الآية ـ فهي لا تريد أن تبتعد عن الله في أحلامها الروحيّة، فإذا لم يقدّر لها أن تلد ذكرا خادما لبيت المقدس، وولدت ـ بدلا منه ـ أنثى، فإنها تعود لتناجي الله في أمنياتها الجديدة، فقد أسمتها (مريم) ـ التي تعني العابدة في لغتهم، كما يقال ـ لتكون إنسانة عابدة لله مطيعة له في ما يأمر به وينهى عنه، ثم طلبت من الله أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فيجيرهم من وسوسته وتثبيطه ومكره وخدعه ومكائده، ليستطيعوا السير في خط الطاعة من دون أيّ انحراف أو زلل.
5. إننا نكتشف في هذه المرأة إنسانة تعيش العلاقة بالله كأروع ما تكون العلاقات وكأصفى ما تكون المشاعر، وكأعظم ما تتحرك الأفكار، فهي تفكر في مستقبل ذريتها من خلال الله، لتقرّبهم إليه وتبعدهم عن الشيطان.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/346.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تعقيبا على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيّدة العظيمة.
2. جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسّرين أنّ (حنة) و(أشياع) كانتا أختين، تزوّجت الأولى (عمران) أحد زعماء بني إسرائيل، وتزوّجت الأخرى (زكريّا) النبيّ، مضت سنوات على زواج (حنة) بغير أن ترزق مولودا، وفي أحد الأيّام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائرا يطعم فراخه، فأشعل هذا المشهد نار حبّ الأمومة في قلبها، فتوجّهت إلى الله بمجامع قلبها طالبة منه أن يرزقها مولودا، فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدّة طويلة حتّى حملت.
3. ورد في الأحاديث أنّ الله قد أوحى إلى (عمران) أنّه سيهبه ولدا مباركا يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيى الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيّا إلى بني إسرائيل، فأخبر عمران زوجته (حنة) بذلك، لذلك عندما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها أم الابن الموعود (مريم) فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله (بيت المقدس)، ولكنّها إذ رأتها أنثى ارتبكت ولم تدر ما تعمل، إذ أنّ الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على الذكور، ولم يسبق أن خدمت فيه أنثى.
4. ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادما في بيت المقدس، لأنّها كانت تظنّه ذكرا بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها، ولذلك قالت (محرّرا) ولم تقل (محرّرة) ودعت الله أن يتقبل نذرها: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
5. (المحرر) من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعيّنين للخدمة في المعبد ليتولّوا تنظيفه وخدماته، وليؤدّوا عباداتهم فيه وقت فراغهم، ولذلك سمّي الواحد منهم (المحرّر)، إذ هو محرّر من خدمة الأبوين، وكان ذلك مدعاة لافتخارهم.
6. قيل إنّ الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سنّ البلوغ، ومن ثمّ كان الأمر يوكل إليهم، إن شاءوا بقوا، وإن شاءوا تركوا الخدمة، ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيّام حمل زوجته، وإلّا كان من البعيد أن تستقل الام بهذا النذر.
7. ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ هذه الآية تشرح حال أم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أنثى، وراحت تخاطب الله قائلة: إنّها أنثى، وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالأنثى في تحقيق النذر، فالأنثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد، مضافا إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك، ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾
8. يظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أنّ هذا القول ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ قول أمّ مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، ولكن كان ينبغي أن تقول (وليست الأنثى كالذكر) باعتبارها قد ولدت أنثى لا ذكرا، لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير، كما نلاحظه في كلام العرب وغير العرب، ولعلّ ما انتهابها من الكدر والحزن لوضعها أنثى جعلها تنطق بهذا الشكل، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأنّ ما ستلده ذكر وأنّها ستفي بنذرها في جعله خادما في بيت المقدس، وهذا الاعتقاد والتوقّع جعلاها تقدّم الذكر على الأنثى، على الرغم من أنّ أصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان تقديم الأنثى.
9. الجملة المعترضة ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ من قول الله، أي لم يكن يلزم أن تقول إنّها ولدت أنثى، لأنّ الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوّره في الرحم.
10. ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ يتّضح من هذه الجملة أنّ أم مريم هي التي سمّتها بهذا الاسم عند ولادتها، و(مريم) بلغتها تعني (العابدة)، وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأمّ الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله، لذلك طلبت من الله ـ بعد أن سمّتها ـ أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/477.
21. مريم وزكريا وتقبل الله والرزق الحسن
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈21⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إن الذين كانوا يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يحررونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه، وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت أخت مريم تحته، فلما أتوا بها قال لهم زكريا: أنا أحقكم بها؛ تحتي أختها، فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها أيهم يقوم قلمه فيكفلها، فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنيه كأنه في طين؛ فأخذ الجارية(1).
__________
(1) البيهقي في سُنَنِه: ١٠/٢٨٦.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: تمور في بطن أمك جنينا، لا تحير دعاء ولا تسمع نداء، ثم أخرجت من مقرك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها؛ فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟(1).
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة: 163.
الحسين:
روي عن الإمام الحسين (ت 61 هـ) أنّه قال في دعائه يوم عرفة: أنت الذي رزقت، أنت الذي أعطيت(1).
__________
(1) الإقبال: 2.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾: يعني: رباها تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها، حتى ترعرعت، وبنى لها زكريا محرابا في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، وكان استأجر لها ظئرا، فلما تم لها حولان فطمت، وتحركت، فكان يغلق عليها الباب والمفتاح معه، لا يأمن عليه أحدا، لا يأتيها بما يصلحها غيره حتى بلغت(1).
2. روي أنّه قال: لما وضعتها خشيت حنة أم مريم أن لا تقبل الأنثى محررة، فلفتها في الخرقة، ووضعتها في بيت المقدس عند القراء، فتساهم القراء عليها ـ لأنها كانت بنت إمامهم، وكان إمام القراء من ولد هارون ـ أيهم يأخذها، فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها، وأنا أحقهم بها؛ لأن خالتها عندي، يعني: أم يحيى، فقال القراء: وإن كان في القوم من هو أفقر إليها منك، ولو تركت لأحق الناس بها تركت لأبيها، ولكنها محررة، غير أن نتساهم عليها، فمن خرج سهمه فهو أحق بها، فقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾، يعني: أيهم يقبضها، فقرعهم زكريا، وكانت قرعة أقلامهم أنهم جمعوها في موضع، ثم غطوها، فقالوا لبعض خدم بيت المقدس من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم: أدخل يدك، فأخرج قلما منها، فأدخل يده، فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى، ولكن نلقي الأقلام في الماء، فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن، فارتفع قلم زكريا في جرية الماء، فقالوا: نقترع الثالثة، فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم، فجرى قلم زكريا مع الماء، وارتفعت أقلامهم في جرية الماء، وقبضها عند ذلك زكريا، فذلك قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، يعني: قبضها(1).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد، وكان زكريا يقول: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ جعلها معه في محرابه(3).
5. روي أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد، وكان زكريا يقول: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(2).
6. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تفسيرها: ليس على الله رقيب، ولا من يحاسبه(4).
7. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ مكتلا فيه عنب في غير حينه(5).
8. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ وجد عندها ثمار الجنة؛ فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف(6).
9. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد(2).
__________
(1) ابن عساكر: ٧٠/٧٧.
(2) ابن جرير: ٥/٣٥٩.
(3) ابن جرير: ٥/٣٥١.
(4) ابن المنذر: ١/١٨٣.
(5) ابن جرير: ٥/٣٥٣.
(6) ابن جرير: ٥/٣٥٦.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ كانت عنده(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥١.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ فاكهة في غير حينها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ من أتاك بهذا؟(1).
2. روي أنّه قال: أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، يعني في قوله: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٠.
(2) ابن جرير: ٥/٣٥٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ سهمهم بقلمه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ عنبا في غير زمانه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ علما، أو صحفا فيها علم(3).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٥.
(2) ابن جرير: ٥/٣٥٥.
(3) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: خرجت أم مريم تحملها في خرقتها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى، قال وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عمران يؤمهم في الصلاة، فقال زكريا: ادفعوها إلي، فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب أنفسنا بذلك، فذلك حين اقترعوا عليها بالأقلام التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا، فكفلها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٣٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ وتقارعها القوم، فقرع زكريا، فكفلها زكريا(1).
2. روي أنّه قال: كان زكريا إذا دخل عليها ـ يعني: على مريم ـ المحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله، ليس من عند الناس، وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه(2).
3. روي أنّه قال: قبوله إياها أنه ما عذبها ساعة من ليل ولا نهار(3).
4. روي أنّه قال: حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط، كان يأتيها رزقها من الجنة(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٢.
(2) ابن جرير: ٥/٣٥٧.
(3) تفسير الثعلبي: ٣/٥٦.
(4) تفسير البغوي: ٢/٣٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: فلما بلغت مريم صارت في المحراب وأرخت على نفسها سترا، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فكان يقول: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، والحصور: الذي لا يأتي النساء، قال ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ والعاقر: التي قد يئست من المحيض ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، قال زكريا: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ وذلك أن زكريا ظن أن الذين بشروه هم الشياطين، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ فخرس ثلاثة أيام(1).
2. روي أنّه قال: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ والسهام ستة(2).
3. روي أنّه قال: إن امرأة عمران لما نذرت ما في بطنها محررا ـ قال ـ: والمحرر للمسجد إذا وضعته دخل المسجد فلم يخرج أبدا، فلما ولدت مريم قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ فساهم عليها النبيون فأصاب القرعة زكريا، وهو زوج أختها، وكفلها وأدخلها المسجد، فلما بلغت ما تبلغ النساء من الطمث وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي فيضيء المحراب لنورها، فدخل عليها زكريا فإذا عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فهنا لك دعا زكريا ربه، قال ﴿إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي﴾ إلى ما ذكر الله من قصة يحيى وزكريا(3).
4. روي أنّه قال: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن تخدم العباد، وليس الذكر كالأنثى في الخدمة ـ قال ـ: فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت، فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد، فكان يدخل عليها فيرى عندها ثمرة الشتاء في الصيف، وثمرة الصيف في الشتاء، فهنالك دعا وسأل ربه أن يهب له ذكرا، فوهب له يحيى(4).
5. روي أنّه قال: إن فاطمة ضمنت للإمام علي عمل البيت والعجين والخبز وقم البيت، وضمن لها علي ما كان خلف الباب نقل الحطب، وأن يجيء بالطعام، فقال لها يوما: يا فاطمة، هل عندك شيء؟ قالت: لا، والذي عظم حقك، ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به، قال أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نهاني أن أسألك شيئا، فقال: لا تسألي ابن عمك شيئا، إن جاءك بشيء عفوا، وإلا فلا تسأليه)، قال (فخرج فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا، ثم أقبل به وقد أمسى، فلقي المقداد بن الأسود، فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال الجوع، والذي عظم حقك، يا أمير المؤمنين ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حي؟ قال ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حي قال فهو أخرجني وقد استقرضت دينارا وسأوثرك به فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا وفاطمة تصلي وبينهما شيء مغطى، فلما فرغت أحضرت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم قال يا فاطمة، أنى لك هذا؟ قالت: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟ قال بلى، قال مثل زكريا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فأكلوا منها شهرا(5).
__________
(1) تفسير القمّي: 1/101.
(2) تفسير القمّي: 1/102.
(3) تفسير العيّاشي: 1/170.
(4) تفسير العياشي: 1/170.
(5) تفسير العيّاشي: 1/171.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ ضمها إليه(1).
2. روي أنّه قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم، فتشاح عليها أحبارهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها، فكفلها، وكانت عنده، وحضنها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٤٩.
(2) ابن جرير: ٥/٣٥٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ فالمحراب: سيد المجالس، ومقدمها وأشرفها، وكذلك المساجد
2. روي أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد، وكان زكريا يقول: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ معناه من أين لك هذا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٩.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 109.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ فانطلقت بها أمها في خرقها ـ يعني: أم مريم بمريم ـ حين ولدتها إلى المحرابـ وقال بعضهم: انطلقت حين بلغت إلى المحرابـ، وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يحررونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه، وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان نبيهم، وكانت خالة مريم تحته، فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها؛ تحتي خالتها، فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها أيهم يقوم قلمه فيكفلها، فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين، فأخذ الجارية، وذلك قول الله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب(1).
2. روي أنّه قال: كان زكريا يدخل عليها، فيجد عندها كل شيء في غير حينه؛ فاكهة الصيف في الشتاء، والشتاء في الصيف، فلو كان كل شيء يجده في حينه لاتهمها وقال: لعل إنسانا يأتيها به، فسألها عن ذلك، قال ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ يا مريم؟: ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فذلك قول الله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٤٩.
(2) ابن المنذر: ١/١٨٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: وإنما كان زكريا يقول ذلك لها لأنه كان ـ فيما ذكر لنا ـ يغلق عليها سبعة أبواب ويخرج، ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٦.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾: لفتها في خرقها، ثم أرسلت بها إلى مسجد بيت المقدس، فوضعتها فيه، فتنافسها الأحبار بنو هارون، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها؛ عندي أختها، فذروها لي، فقالت الأحبار: لو تركت لأقرب الناس إليها لتركت لأمها، ولكنا نقترع عليها، فهي لمن خرج سهمه، فاقترعوا عليها بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكريا، فضمها إليه، واسترضع لها، حتى إذا شبت بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطه، لا يرتقى إليها إلا بسلم، ولا يأمن عليها غيره(1).
__________
(1) يحيى بن سلام كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٨٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: كفلها بعد هلاك أمها، فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها الذي نذرت فيها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٥٧.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: إن سأل عن قول الله: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فقال: أليس قد يحاسبهم في الآخرة، ويسألهم عما أنفقوا من أموالهم فيه، فما معنى قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وهو فقد يحاسبهم ويسألهم عما يؤتيهم؟ والجواب:
أ. إن المحاسبة فيه لهم ليست تكون على إنفاق نفس تلك الأموال التي رزقهم، وإنما يحاسبهم على ما اكتسبوا وفعلوا، وما كنزوه بها وبأسبابها، لا عليها هي أنفسها؛ ألا ترى أنه إنما يحاسب من صرف رزق الله في الحرام دون الحلال، لا من صرف رزقه في الحلال دون الحرام، ولو كانت المحاسبة منه تقع على الأموال أنفسها ـ لكان الحساب يقع على المنفق لها في الطاعة، والمنفق لها في المعصية؛ فمن صرف رزق الله في ما رزقه إياه ـ كان له غير محاسب له عليه؛ ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه لنبيه سليمان: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، يقول: غير مسؤول ولا محاسب.
ب. قد يخرج معنى قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ على معنى آخر: رزقه من يرزق من عباده: ليس من شيء عنده مجموع، معد لذلك مصنوع، يخرج منه أجزاء محسوبة من أجزاء، وتبقى منه أجزاء؛ فأصله عن أجزاء؛ فأخبر أن رزقه من سعة لا تحصى، وأنه إذا شاء أن يعطي عباده أعطى؛ ولو كان يرزق من شيء مجموع ـ لكانت أرزاقه تنقص؛ إذ أصلها الذي يخرجها منه ـ تنقص بخروجها منه، فتبارك الله رب العالمين، وتقدس أكرم الأكرمين.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/158.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله في ذكر مريم رحمة الله عليها: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾، أي قبل فعلها وشكره، ونزهه ورفعه وطهره.. ويمكن أيضاً: أن يكون جعل لها قبولاً حسناً، وروحاً خفيفاً، والعرب تسمي الخفيف الروح من الناس مقبولاً، ويقولون: رأينا لفلان بهجة وقبولاً، إذا قبلته نفوسهم، وأسرعت إلى محبته قلوبهم، قال الشاعر:
çمن الناس ممنوح القبول ومنهم... عليه من البغضاء ضربة لازمé
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، أي خلقها خلقاً مزيوناً صبيحاً، وأنشاها منشأً وشباباً مليحاً، لأسباب من الحكمة جعلها، وكرامة من الله ونعمة فعلها، وفي الآخرة أحسنها وأجملها، وأتم لخلقها وأكملها.
3. معنى قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، أي تولى أمرها، وأصلح شأنها، وقام بجميع مصالحها، وكان فيما روي بينه وبينها قرابة.
4. معنى قوله لها: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾، أي كيف وصل إليك هذا، إذا وجد عندها رزقاً.. وقيل: أنه كان يجد عندها ثمار الصيف في أيام الشتاء، وثمار الشتاء في أيام الصيف، والله أعلم وأحكم، وأما كتاب الله فيوجب أن الله أسبغ عليها رزقه، ووسع عندها نعمه وأرفاقه، رحمة منه وكرامة لها، لمعرفتها لله وطاعتها وتوكلها.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 258.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ معناه أنه رضيها في النذر الذي نذرته بإخلاص العبادة في بيت المقدس، ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ يعني أنشأها إنشاء حسنا في غذائها وحسن تربيتها، ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ قرأ أهل الكوفة ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بالتشديد، ومعنى ذلك أنه دفع كفالتها إلى غيره، وقرأ الباقون: {كَفَّلَها} بالتخفيف، ومعنى ذلك أنه أخذ كفالتها إليه.
2. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ وهو معروف، وأصله أنه أكرم موضع في المجلس.
3. في قوله تعالى: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الرزق الذي أتاها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي.
ب. الثاني: أنها لم تطعم ثديا قط حتى تكلمت في المهد، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة، وهذا قول الحسن.
4. اختلف في السبب الذي يأتيها هذا الرزق لأجله على قولين:
أ. أحدهما: أنه كان يأتيها بدعوة زكريا لها.
ب. الثاني: أنه كان ذلك يأتيها لنبوة المسيح عليه السّلام.
5. في قوله تعالى: {قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} قولان:
أ. أحدهما: أن الله تعالى كان يأتيها بالرزق، وهو أشبه.
ب. الثاني: أن بعض الصالحين من عباده سخره الله تعالى لها لطفا منه بها حتى يأتيها رزقها.
6. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه حكاية عن قول مريم بعد أن قالت هو من عند الله.
ب. الثاني: أنه قول الله تعالى بعد أن قطع كلام مريم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/387.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ معناه رضيها في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى، وإنما جاء مصدر تقبلها على القبول دون التقبل، لأن فيه معنى قبلها، وقال أبو عمرو: لا نظير للقبول في المصادر، ففتح فاء الفعل والباب كله مضموم الفاء كالدخول، والخروج، وقال سيبويه: جاءت خمسة مصادر على فعول: قبول، ووضوح، وظهور، وولوغ، ووقود إلا أن الأكثر في وقود الضم إذا أريد المصدر، وأجاز الزجاج في القبول الضم.
2. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ معناه أنشأها إنشاء حسناً في عذابها وحسن تربيتها.
3. الكفل تضمن مؤنة الإنسان كفلته أكفله كفلا فأنا كافل: إذا تكلفت مؤنته، ومنه ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ ومن قرأ بالتثقيل فمعناه كفلها الله زكريا والكفيل: الضامن، والكفل: مؤخر العجز، والكفل من الرجال الذي يكون في مؤخر الحرب همته الفرار، والكفل النصيب، ومنه قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ وأصل الباب التأخر فمنه الكفالة الضمان.
4. في زكريا ثلاث لغات: المد، والقصر، وقد قرئ بهما وزكريَّ بالياء المشددة وأحكامها مختلفة في الجمع، والتثنية: فمن مد قال في التثنية: زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون.. ومن قصر قال في التثنية زكريان، وفي الجمع زكريون، والذي بالياء زكريان في التثنية، وزكريون في الجمع، وزكرياء بالمد لا يجوز صرفه لأن فيه ألفي التأنيث.. ومن قال لأنه أعجمي معرفة يلزمه إذا نكر أن يصرفه، وهذا لا يجوز، وأما زكري، فإنه ينصرف لأنه نبأ النسب خرج إلى شبه العربي كما خرج مدائني إلى شبه الواحد على قول المبرد.
5. المحراب: مقام الامام من المسجد وأصله أكرم موضع في المجلس وأشرفه قال عدي بن زيد العبادي:
çكدمى العجاج في المحاريب أو كال...بيض في الروض زهره مستنيرé
وقيل هو المكان العالي ذكره الزجاج قال الشاعر:
çربة محراب إذا جئتها...لم ألقها أو أرتقي سلماé
6. ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾، فالرزق هو ما للإنسان، الانتفاع به على وجه ليس لأحد منعه، وقيلَ إنه كان فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن اسحق، وقال: تكلمت في المهد، ولم تلقم ثدياً قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة، وهذه تكرمة من الله تعالى لها، وعندنا يجوز فعل ذلك بالأولياء والصالحين، وإن لم يكونوا أنبياء، ومن منع منه قالوا فيه قولين:
أ. أحدهما: أن ذلك كان آية لدعوة زكريا لها بالرزق في الجملة.
ب. الثاني: قال قوم: هو تأسيس لنبوة المسيح.
7. الأول قول الجبائي، واختار وجهاً آخر أن يكون الله (تعالى) سخر لها بعض عباده أن يأتيها به بلطفه على مجرى العادة، ولا يكون معجزاً، وهذا خلاف جميع أقوال المفسرين، لأنهم كلهم قالوا: لما رأى زكريا ذلك قال: الذي يقدر على أن يأتي مريم بالرزق يقدر أن يخلق الولد من امرأة عاقر، فهنالك سأله أن يرزقه ولداً.
8. يحتمل إيصال قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بما تقدم من وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون حكاية لقول مريم.
ب. الثاني: أن يكون استئنافاً من الله الاخبار به، والأولى أن يكون على الاستئناف، لأنه ليس من معنى الجواب عما سئلت عنه في شيء.
9. قوله تعالى: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: بغير حساب الاستحقاق على العمل، لأنه تفضل يبتدئ الله به من يشاء من خلقه،
ب. ويحتمل أن يكون المراد بغير تقتير كما يحسب الذي يخاف الاملاق.
10. بينا فيما مضى معنى (أنى) وأن معناه من أين لك، وقال قوم معناه كيف لك، والأول أظهر.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/443.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التَّقَبُل: تَفَعُّلٌ من القبول، يقال: قبلت الشيء أقبله إذا رضيته، والقبيل الكفيل، وذكر التقبل، ثم ذكر المصدر من القبول دون التقبل؛ لأن فيه معنى قَبِلَهَا، كقوله: ﴿أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ ولم يقل إنباتا، ويُقال: كلمت فلانًا كلامًا، والقبول مصدره جاء بالفتح والضم، فأما الضم فهو القياس نحو الدخول والخروج، وأما الفتح فقال أبو عمرو بن العلاء: لا نظير له ولم أسمعهم ضموه، وقال الكسائي: يجوز بالضم، وقال سيبويه: خمسة مصادر جاءت على فَعُول بالنصب: قَبول، ووَضُوء، وطَهور، ووَلوع، ووَقود، إلا أن الأكثر في ﴿وَقُودُ﴾ إذا كان مصدرًا الضم.
ب. الكَفْل: تضمن مؤنة الإنسان، كفلته، أَكْفُلُهُ كَفْلاً، وأنا كافل إذا تكفلت مؤنته، والكيل: الضامن.
ج. في زكريا ثلاث لغات: المد والقصر وزَكَرِيّ بالياء مثل قرشي، وأحكامها مختلفة في التثنية والجمع، فالممدود زكرياء وزكريّاءَان وزكرياؤون، وفي المقصور زكَرِيَّانِ وزَكَرِيُّون، وفي الذي بالياء زَكَرِيِّانِ وزَكَرِيُّون.
د. المحراب: مقام الإمام في المسجد، وأصله أكرم موضع في المجلس وأشرفه، والمحراب أشرف المجالس، فيقال للمسجد أيضًا محراب، ومنه ﴿مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ﴾ قيل: من مساجد، وقيل: إنه أخذ من الحرب؛ لأنه حارب فيه الشيطان، وقيل: اشتقاقه من حريبة الرجل وهو ماله، فلما كان ذلك البناء موضعا للحريبة ومستودعًا لها سمي محرابًا عن أبي مسلم.
هـ. الرزق: العطاء الجاري، وحده ما للإنسان أن ينتفع به وليس لغيره منعه، والحرام ليس برزق؛ لأنه ممنوع منه، مُعَاقَبٌ عليه.
2. ثم لما تقدم ذكر نذر أم مريم ودعائها واستعاذتها بَيَّنَ تعالى بعده ما قابلها من حسن الإجابة، فقال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾:
أ. قيل: أي قَبِلَ نَذْرَها قبول رضًا، وهو أن جعلته محررًا، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى.
ب. وقيل: تكفل بها في تربيتها والقيام بشأنها، عن الحسن.
ج. وقيل: وقبوله إياها أنه ما عَرَتْهَا عِلَّة ساعة من ليل ولا نهار.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾:
أ. قيل: في كونها محررة.
ب. وقيل: في تربيتها.
ج. وقيل: سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾:
أ. قيل: خلقًا سويًا تنبت في يوم ما ينبت غيرها في عام.
ب. وقيل: أنبتها في رزقها وغذائها حتى تمت امرأة بالغة.
5. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ على القراءة بالتشديد معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا ليقوم بها، وبالتخفيف ضمها زكريا إلى نفسه:
أ. قيل: إن أم مريم أتت بها ملفوفة في خرقة إلى المسجد، وقالت: دونكم النذيرة، فتنافست فيها الأحبار؛ لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي فأبوا، واتفقوا أن يقترعوا فمن خرجت قرعته أخذها، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلاً إلى نهر الأردن عن السدي فألقوا أقلامهم فيها، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورست أقلامهم، عن ابن إسحاق وجماعة.
ب. وقيل: جرت أقلامهم ووقف قلمه، عن السدي فأخذها زكريا.
ج. وقيل: ضمها إلى نفسه وبنى لها بَيتَّا واسترضع لها.
د. وقيل: ضمها إلى خالتها حتى بلغت مبلغ النساء، فبنى لها محرابًا، وكان هو الذي يفتح الباب ويغلقه، وكان يأتيها بطعامها وما تحتاج إليه بنفسه كل يوم.
هـ. وقيل: ضمها إلى غيره لما ضعف، فكان ذلك الرجل يرزق بمكانها.
6. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ كل يوم بعد أن بلغت ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾:
أ. قيل: طعامًا لم يؤده هو.
ب. وقيل: فاكهة الصيف في الشتاء.
ج. وقيل: فاكهة الشتاء في الصيف، عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة والسدي وابن إسحاق.
د. وقيل: حمل إليها الأطعمة بخلاف العادة لئلا يرتاب بها.
هـ. وقال الحسن: تكلمت في المهد ولم تلقم ثديًا قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة.
7. ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ يعني من أين لك هذا ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾:
أ. قيل: من الجنة، وكان ذلك بدعوة زكريا لها بالرزق في الجملة، وكانت معجزة له، عن أبي علي.
ب. وقيل: كانت تأسيسًا لنبوة عيسى، عن أبي القاسم.
ج. وقيل: كان يجوز أن يأتي لها بعض عباد الله الَّذِينَ سخرهم لها بلطفه من غير معجزة، عن أبي علي.
8. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون هذا حكاية عن مريم.
ب. ويحتمل أن يكون كلام الله تعالى على الاستئناف والابتداء، وهو الأولى، وهو قول الحسن.
9. معنى ﴿يَرْزُقُ﴾ يعطي من يشاء من عباده، ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾:
أ. قيل: بغير حساب الاستحقاق على العمل، بل هو تَفَضُّلٌ يبتدئ الله به.
ب. وقيلَ: بغير تقتير.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن النذر يؤثر في الإيجاب، وأنه كان مشروعًا في شريعتهم كما هو في شريعتنا.
ب. أنه يدخل في المستقبل.
ج. أن للوالدة على الولد حق التصريف فيما يعود إلى نفعها، لولا ذلك لم تكن مانعة نفسها بالنذر عن تولي ذلك، فكأنها حرمت على نفسها الانتفاع بولدها وخلصته لله تعالى.
د. أن النذر لا يكون إلا لله تعالى، وأنه يكون في باب الطاعات، والأفعال ثلاثة: طاعة، ومعصية، ومباح، فالنذر يدخل في الطاعات دون المعاصي والمباحات، وبهذا ورد الشرع فقال، صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا نذر لابن آدم في معصية الله)
هـ. أن النذر يكون بالقول؛ فلذلك قالت: إنك سميع، يعني لنذري.
و. أنه لا يتم إلا بنية؛ لذلك قال: ﴿الْعَلِيمُ﴾
ز. أن الحمل لا يعرفه إلا الله تعالى لذلك قالت: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾
ح. أن الاستعاذة بِاللهِ من الشيطان واجب، وتدل أن وسوسة الشيطان فعله، ولو كان خلقًا لله تعالى لما كان للاستعاذة به معنى.
ط. أن وسوسته أبلغ تأثيرًا في الأنثى، فلذلك قدم ذكرها وخصها بالاستعاذة.
ي. فضيلة مريم، وقيل: إنه تعالى لم يذكر امرأة في القرآن غير مريم تعظيمًا لها وتشريفًا.
11. قرأ عاصم وحمزة والكسائي (كَفَّلَهَا) بالتشديد، ثم اختلفوا في ﴿زَكَرِيَّا﴾ فقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالمد والنصب، وقرأ حمزة والكسائي مقصورا، ومحله نصب، وهي رواية حفص عن عاصم، وتقديره: فضمنها الله زكريا، وقرأ الباقون كَفَلَهَا) بالتخفيف ﴿زَكَرِيَّا﴾ بالمد والرفع على معنى ضمها زكريا إلى نفسه، وهو الاختيار، ولأنه أشكل بقوله: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ وعليه أكثر الأئمة، وعن ابن كثير في رواية كَفِلَهَا) بكسر الفاء، أي ضمها إلى نفسه، يقال: كَفِلَ بكسر الفاء فهو كفيل، على مثال سَمِعَ فهو سميع وكَفَلَ بالفتح فهو كافل كقتل فهو قاتل، والمد والقصر في زكريا لغتان.
12. مسائل نحوية:
أ. ﴿زَكَرِيَّا﴾: لا ينصرف؛ لأنه فيه ألف التأنيث، وقيل: لأنه أعجمي معرفة، قال علي بن عيسى: فينبغي أن يصرف في النكرة، وزَكَرِيٌّ يصرف؛ لأنه خرج بياء النسبة إلى شبه العربي كما خرج مَدَائِنٌّ، عن أبي العباس.
ب. قال: ﴿نَبَاتًا﴾ ولم يقل: إنباتًا؛ لأنه إذا قال أنبتها فكأنما قيل: نبتت، وقيل: لأن النبات اسم، عن الأخفش، وقال المفضل: تقديره: أنبتها فنبتت نباتًا حسنًا وغيره لم يُقدر ذلك.
ج. ﴿زَكَرِيَّا﴾ رفع لأنه فاعل، و﴿الْمِحْرَابَ﴾ المفعول.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/218.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التقبل: أخذ الشيء على الرضا به كتقبل الهدية، وأصل التقبل: المقابلة، وإنما جاء مصدر تقبلها على القبول دون التقبل، لأن فيه معنى قبلها، كما يقال: تكرم كرما، لأن فيه معنى كرم، ومثله ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ لأن فيه معنى فنبت، وقال أبو عمرو: ولا نظير لقبول في المصادر بفتح فاء الفعل، والباب كله مضموم الفاء كالدخول والخروج، وقال سيبويه: جاءت خمس مصادر على فعول بالفتح: قبول، ووضوء، وظهور، وولوغ، ووقود، إلا أن الأكثر في وقود الضم، إذا أريد المصدر، وأجاز الزجاج في قبول الضم.
ب. الكفيل هو الضامن، يقال: كفلته أكفله كفلا وكفولا وكفالا، فأنا كافل: إذا تكفلت مؤنته، ومنه الحديث: (وأنت خير المكفولين) أي أحق من كفل في صغره، وأرضع حتى نشأ، والمكفول عنه في الفقه هو الذي عليه الدين، والمكفول له هو الذي له الدين، والمكفول به هو الدين، والكفيل هو الذي ثبت عليه الدين.
ج. المحراب: مقام الإمام من المسجد، وأصله أكرم موضع في المجلس وأشرفه، وقال الزجاج: هو المكان العالي الشريف، قال: ربة محراب إذا جئتها... لم ألقها، أو أرتقي سلما ويقال للمسجد أيضا: محراب، ومنه ﴿مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ﴾ أي: مساجد، وقيل: إنه أخذ من الحرب لأنه يحارب فيها الشيطان.
2. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ مع أنوثتها، ورضي بها في النذر الذي نذرته حنة للعبادة في بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى، وقيل: معناه تكفل بها في تربيتها والقيام بشأنها، عن الحسن، وقبوله إياها أنه ما عرتها علة ساعة من ليل أو نهار.
3. ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أصله: بتقبل حسن، ولكنه محمول على قوله فتقبلها قبولا حسنا، وقيل: معناه سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾:
أ. قيل: أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا.
ب. وقيل: سوى خلقها، فكانت تنبت في يوم ما ينبت غيرها في عام، عن ابن عباس.
ج. وقيل: أنبتها في رزقها وغذائها حتى نمت امرأة بالغة تامة، عن ابن جريج.
د. وقال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين، صامت النهار، وقامت الليل، وتبتلت حتى غلبت الأحبار.
5. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ بالتشديد معناه: ضمها الله إلى زكريا، وجعله كفيلها، فيقوم بها، وبالتخفيف معناه: ضمها زكريا إلى نفسه، وضمن القيام بأمرها، وقالوا: إن أم مريم أتت بها ملفوفة في خرقة إلى المسجد، وقالت: دونكم النذيرة، فتنافس فيها الأحبار، لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي، فقالت له الأحبار: إنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلا إلى نهر جار، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتز قلم زكريا، وارتفع فوق الماء، ورسبت أقلامهم، عن ابن إسحاق وجماعة، وقيل بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء، كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جرية الماء، فذهب بها الماء، عن السدي، فسهمهم زكريا وقرعهم وكان رأس الأحبار ونبيهم، فذلك قوله ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، وزكريا كان من ولد سليمان بن داود وفيه ثلاث لغات: المد والقصر وزكري مشدد، قالوا: فلما ضم زكريا مريم إلي نفسه، بنى لها بيتا، واسترضع لها، فقال محمد بن إسحاق: ضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء، بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطها، لا يرقى إليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم.
6. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير حينها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، غضا طريا، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي، وقيل: إنها لم ترضع قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة عن الحسن.
7. ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ يعني: قال لها زكريا: كيف لك؟ ومن أين لك هذا؟ كالمتعجب منه ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ أي: من الجنة، وهذه تكرمة من الله تعالى لها، وإن كان ذلك خارقا للعادة، فإن عندنا(2) يجوز أن تظهر الآيات الخارقة للعادة على غير الأنبياء من الأولياء والأصفياء، ومن منع ذلك من المعتزلة قالوا فيه قولين:
أ. أحدهما: إن ذلك كان تأسيسا لنبوة عيسى، عن البلخي.
ب. والآخر: إنه كان بدعاء زكريا لها بالرزق في الجملة، وكانت معجزة له، عن الجبائي.
8. وجه اتصالها بما تقدم أن يكون حكاية لقول مريم، وعلى هذا يكون معنى قوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الاستحقاق على العمل، لأنه تفضل يبتدئ به من يشاء من خلقه، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى على الاستئناف.
9. قراءات ووجوه:
أ. قرأ أهل الكوفة: (كفلها) بالتشديد، والباقون بالتخفيف، قال أبو علي: حجة من خفف (كفلها) قوله تعالى: (أيهم يكفل مريم وزكريا) مرتفع، لأن الكفالة مسندة إليه.. ومن شدد (كفلها) ففاعله الضمير العائد إلى ﴿رَبِّهَا﴾ من قوله ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ وصار ﴿زَكَرِيَّا﴾ مفعولا بعد تضعيف العين.
ب. قرأ أهل الكوفة، إلا أبا بكر ﴿زَكَرِيَّا﴾ مقصورا، والباقون بالمد.. والمد والقصر في ﴿زَكَرِيَّا﴾ لغتان.
ج. نصب (زكرياء) مع المد أبو بكر وحده، والباقون: بالرفع.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/737.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾، قرأ مجاهد (فتقبّلها) بسكون اللام (ربّها) بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدّعاء، قال الزجّاج: الأصل في العربية: فتقبّلها بتقبّل حسن، ولكن (قبول) محمول على قبلها قبولا يقال: قبلت الشيء قبولا، ويجوز قبولا: إذا رضيته.
2. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا، وجاء (نباتا) على غير لفظ أنبت، على معنى: نبتت نباتا حسنا، وقال ابن الأنباريّ: لما كان (أنبت) يدلّ على نبت حمل الفعل على المعنى، فكأنّه قال وأنبتها، فنبتت هي نباتا حسنا، قال امرؤ القيس:
çفصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا...ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلالé
أراد: أي رياضة، فلما دلّ (رضت) على (أذللت) حمله على المعنى.
3. للمفسرين في معنى النّبات الحسن، قولان:
أ. أحدهما: أنه كمال النّشوء، قال ابن عباس: كان تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام.
ب. الثاني: أنه ترك الخطايا، حدّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم.
4. ﴿وَكَفَّلَهَا﴾، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: (كفلها) بفتح الفاء خفيفة، و(زكرياء) مرفوع ممدود، وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء.
5. نصب (زكرياء)، وكان يمدّ (زكرياء) في كل القرآن في رواية أبي بكر، وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و(زكريا) مقصور في كل القرآن، وكان حمزة والكسائيّ يشدّدان و(كفّلها)، ويقصران (زكريا) في كل القرآن، فأما (زكريا) فقال الفرّاء: فيه ثلاث لغات: أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء، مقصور، وزكرياء، ممدود، وأهل نجد يقولون: زكري، فيجرونه، ويلقون الألف، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ، عن ابن دريد، قال زكريا اسم أعجميّ، يقال: زكريّ، وزكرياء ممدود، وزكريا مقصور، وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء، فمن قال زكرياء بالمدّ، قال في التّثنية: زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال زكريا بالقصر، قال في التّثنية زكريّان كما نقول: مدنيّان، ومن قال زكري بتخفيف الياء، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء.
6. المحراب: قال أبو عبيدة: المحراب سيّد المجالس، ومقدّمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد، وقال الأصمعيّ: المحراب هاهنا: الغرفة، وقال الزجّاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف.
7. إذا دخل وجد عندها رزقا: وقال الحسن: لم ترتضع ثديا قط، وكان يأتيها رزقها من الجنّة، فيقول زكريا: أنّى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فتكلّمت وهي صغيرة، وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها: أنّى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها، وما عليه الجمهور أصحّ، والحساب في اللغة: التّقتير والتّضييق.
__________
(1) زاد المسير: 1/279.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم لما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ﴾، وإنما قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ ولم يقل: فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: 17] أي إنباتاً، والقبول مصدر قولهم: قبل فلان الشيء قبولًا إذا رضيه، قال سيبويه: خمسة مصادر جاءت على فعول: قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم، وأجاز الفراء والزجاج: قبولا بالضم، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال: قبلته قبولا وقبولا، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة، فكذا هاهنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.
2. سؤال وإشكال: لم لم يقل: فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل؟ والجواب: أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع، بل على وفق الطبع، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها، وهذا الوجه مناسب معقول.
3. ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوها:
أ. الأول: أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان، روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها)، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ﴾)، طعن القاضي في هذا الخبر وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده، وهو على خلاف الدليل لوجوه:
• أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي وليس كذلك.
• الثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم.
• الثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام.
• الرابع: أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه(2).
ب. الثاني: في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن، ما روي أن حنّة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا.
ج. الثالث: روى القفال عن الحسن أنه قال إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة.
د. الرابع: في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلًا قادراً على خدمة المسجد، وهاهنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن.
4. ثم قال الله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ قال ابن الأنباري: التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً، ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين:
أ. أما الأول فقالوا: المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد.
ب. وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة.
5. ثم قال الله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ يقال: كفل يكفل كفالة وكفلًا فهو كافل، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه، وفي الحديث (أنا وكافل اليتيم كهاتين)، وقال الله تعالى: ﴿أَكْفِلْنِيهَا﴾
6. قرأ عاصم وحمزة والكسائي (وكفلها) بالتشديد، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا، فمن قرأ (زكرياء) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرؤوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه، وهو الاختيار، لأن هذا مناسب لقوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ وعليه الأكثر، وعن ابن كثير في رواية {كَفَّلَها} بكسر الفاء، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان، كالهيجاء والهيجا، وقرأ مجاهد ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾.. ﴿وَأَنْبَتَهَا﴾.. ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة، ونصب ﴿رَبِّهَا﴾ كأنها كانت تدعو الله فقالت: اقبلها يا ربها، وأنبتها يا ربها، واجعل زكريا كافلًا لها.
7. اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفوليتها، وبه جاءت الروايات، وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن فطمت، واحتجوا عليه بوجهين:
أ. الأول: أنه تعالى قال ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ ثم قال ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن.
ب. الثاني: أنه تعالى قال: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الإنبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً.. ولعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة.
8. ثم قال الله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾، ﴿الْمِحْرَابَ﴾ الموضع العالي الشريف، قال عمر بن أبي ربيعة:
çربة محراب إذا جئتها...لم أدن حتى أرتقي سلماé
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21] والتسور لا يكون إلا من علو، وقيل: المحراب أشرف المجالس وأرفعها، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
9. احتج أهل السنة، ومن وافقهم على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة، أو لا يكون، فإن قلنا: إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه:
أ. الأول: أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلًا على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى.
ب. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر.
ج. الثالث: أن التنكر في قوله ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ يدل على تعظيم حال ذلك الرزق، كأنه قيل: رزقاً، أي رزق غريب عجيب، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة.
د. الرابع: هو أنه تعالى قال ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 91] ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق، وإلا لم يصح ذلك، سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يقال: المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر؟ والجواب: ليس هذا بآية، بل يحتاج تصحيحه إلى آية، فكيف نحمل الآية على ذلك، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام.
هـ. الخامس: ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلًا خارقاً للعادة.
10. بناء على هذا، إما أن يقال: إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ وأيضاً فقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر، وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بإخبار مريم، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال: إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.
11. اعترض أبو علي الجبائي وقال: لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام، وبيانه من وجوه:
أ. الأول: أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً، وأنه ربما كان غافلًا عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها: {أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} فعند ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة.
ب. الثاني: يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره.
ج. الثالث: أن معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال.
12. هذا مجموع ما قاله الجبائي في (تفسيره)، وهو في غاية الضعف:
أ. لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأنه يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يبق أيضاً لقوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ فائدة، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.
ب. أما سؤاله الثالث ففي غاية الركالة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة، وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة.
13. احتج المعتزلة، ومن وافقهم على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلًا على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم، والجواب من وجوه:
أ. الأول: وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي، فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً.
ب. الثاني: قال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها.
ج. الثالث: وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به.
د. الرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة.
14. ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، وقوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير تقدير لكثرته، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها، وهذا كقوله: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 3] وهاهنا آخر الكلام في قصة حنة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/208.
(2) علّق الرازي على هذه الوجوه القوية، والتي تدل على عدم صحة الحديث لمعارضته القرآن الكريم، بقوله: واعلم أن هذه الوجوه محتملة، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)::
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ المعنى: سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس، وقال قوم: معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها، وقال الحسن: معنى التقبل أنه ما عذبها ساعة قط من ليل ولا نهار.
2. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد، والقبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا، قال الشاعر:
çأكفرا بعد رد الموت عني...وبعد عطائك المائة الرتاعé
اأراد بعد إعطائك، لكن لما قال {أنبتها} دل على نبت، كما قال امرؤ القيس:
çفصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا...ورضت فذلت صعبة أي إذلالé
وإنما مصدر ذلت ذل، ولكنه رده على معنى أذللت، وكذلك كل ما يرد عليك في هذا الباب، فمعنى تقبل وقبل واحد، فالمعنى فقبلها ربها بقبول حسن، ونظيره قول رؤبة: (وقد تطويت انطواء الحضب) لأن معنى تطويت وانطويت واحد، ومثله قول القطامي:
çوخير الأمر ما استقبلت منه...وليس بأن تتبعه اتباعاé
لأن تتبعت واتبعت واحد، وفي قراءة ابن مسعود (وأنزل الملائكة تنزيلا) لأن معنى نزل وأنزل واحد، وقال المفضل: معناه وأنبتها فنبتت نباتا حسنا، ومراعاة المعنى أولى كما ذكرنا، والأصل في القبول الضم، لأنه مصدر مثل الدخول والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة، مثل الولوع والوزوع، هذه الثلاثة لا غير، قال أبو عمرو الكسائي والأئمة، وأجاز الزجاج ﴿بِقَبُولٍ﴾ بضم القاف على الأصل.
3. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي صمها إليه، أبو عبيدة: ضمن القيام بها، وقرأ الكوفيون ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بالتشديد، فهو يتعدى إلى مفعولين، والتقدير وكفلها ربها زكريا، أي ألزمه كفالتها وقدر ذلك عليه ويسره له، وفي مصحف أبي ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ والهمزة كالتشديد في التعدي، وأيضا فإن قبله ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾،﴿وَأَنْبَتَهَا﴾ فأخبر تعالى عن نفسه بما فعل بها، فجاء (كفلها) بالتشديد على ذلك، وخففه الباقون على إسناد الفعل إلى زكريا، فأخبر الله تعالى أنه هو الذي تولى كفالتها والقيام بها، بدلالة قوله: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران]، قال مكي: وهو الاختيار، لأن التشديد يرجع إلى التخفيف، لأن الله تعالى إذا كفلها زكريا كفلها بأمر الله، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان، وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المزني ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بكسر الفاء، قال الأخفش: يقال كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل، وقد ذكرت، وقرأ مجاهد ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ بإسكان اللام على المسألة والطلب،﴿رَبِّهَا﴾ بالنصب نداء مضاف،﴿وَأَنْبَتَهَا﴾ بإسكان التاء ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بإسكان اللام.
4. (زكرياء) بالمد والنصب، وقرأ حفص وحمزة والكسائي ﴿زَكَرِيَّا﴾ بغير مد ولا همز، ومده الباقون وهمزوه، وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون ز كرياء) ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون: زكري، قال الأخفش: فيه أربع لغات: المد والقصر، وزكري بتشديد الياء والصرف، وزكر ورأيت زكريا، قال أبو حاتم: زكري بلا صرف لأنه أعجمي وهذا غلط، لأن ما كان فيه ﴿يَا﴾ مثل هذا انصرف مثل كرسي ويحيى، ولم ينصرف زكرياء في المد والقصر لأن فيه ألف تأنيث والعجمة والتعريف.
5. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، وسيأتي له مزيد بيان في سورة مريم، وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم، قال وضاح اليمن:
çربة محراب إذا جئتها...لم ألقها حتى أرتقي سلماé
أي ربة غرفة، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ويحك! ما صنعت؟ أرأيت إن كانت أنثى؟ فاغتما لذلك جميعا، فهلك عمران وحنة حامل فولدت أنثى فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يحرر إلا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي، على ما يأتي، فكفلها زكريا وأخذ لها موضعا فلما أسنت جعل لها محرابا لا يرتقى إليه إلا بسلم، واستأجر لها ظئرا وكان يغلق عليها بابا، وكان لا يدخل عليها إلا زكريا حتى كبرت، فكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا في قول الكلبي، قال مقاتل: كانت أختها امرأة زكريا، وكانت إذا طهرت من حيضتها واغتسلت ردها إلى المحراب، وقال بعضهم: كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض، وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء فقال: يا مريم أنى لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله، فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا.
6. معنى ﴿أَنَّى﴾ من أين، قاله أبو عبيدة، قال النحاس: وهذا فيه تساهل، لأن ﴿أَيْنَ﴾ سؤال عن المواضع و﴿أَنَّى﴾ سؤال عن المذاهب والجهات، والمعنى من أي المذاهب ومن أي الجهات لك هذا، وقد فرق الكميت بينهما فقال:
çأنى ومن أين آبك الطرب...من حيث لا صبوة ولا ريبé
7. ﴿كُلَّمَا﴾ منصوب بـ ﴿وَجَدَ﴾، أي كل دخلة.
8. ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قيل: هو من قول مريم، ويجوز أن يكون مستأنفا، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/67.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي: رضي بها في النذر، وسلك بها مسلك السعداء، وقال قوم: معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها، والقبول: مصدر مؤكد للفعل السابق، والباء زائدة، والأصل: تقبلا، وكذلك قوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ وأصله: إنباتا، فحذف الحرف الزائد، وقيل: هو مصدر لفعل محذوف، أي: فنبتت نباتا حسنا، والمعنى: أنه سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان؛ قيل، إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام؛ وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها.
2. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي: ضمها إليه، وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها، وقرأ الكوفيون ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ بالتشديد، أي: جعله الله كافلا لها وملتزما بمصالحها، وفي معناه: ما في مصحف أبيّ وأكفلها، وقرأ الباقون: بالتخفيف على إسناد الفعل إلى زكريا، ومعناه: ما تقدّم من كونه ضمها إليه وضمن القيام بها، وروى عمرو بن موسى عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله الزمني: وكفلها بكسر الفاء، قال الأخفش: لم أسمع كفل، وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام، على المسألة والطلب، ونصب ربها على أنه منادى مضاف، وقرأ أيضا وأنبتها بإسكان التاء وكفلها بتشديد الفاء المكسورة وإسكان اللام ونصب زكرياء مع المدّ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي: ﴿زَكَرِيَّا﴾ بغير مد، ومده الباقون، وقال الفراء: أهل الحجاز يمدون زكريا ويقصرونه، قال الأخفش: فيه لغات: المد والقصر، وزكريّا: بتشديد الياء، وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة والتعريف مع ألف التأنيث.
3. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ قدّم الظرف للاهتمام به، وكلمة: كل: ظرف، والزمان محذوف، وما: مصدرية، أو نكرة موصوفة، والعامل في ذلك قوله: ﴿وَجَدَ﴾ أي: كل زمان دخوله عليها وجد عندها رزقا، أي: نوعا من أنواع الرزق، والمحراب في اللغة: أكرم موضع في المجلس، قاله القرطبي، وهو منصوب على التوسع؛ قيل: إن زكريا جعل لها محرابا: لا يرتقى إليه إلا بسلم، وكان يغلق عليها حتى كبرت، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ أي: من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا؟ {قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر، وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تعليلية لما قبلها، وهو من تمام كلامها، ومن قال إنه كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/385.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي قبلها أو تكفل بها، ولم يقل (بتقبّل)، للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة، قال المهايميّ: بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء.
2. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ بجعل ذريتها من كبار الأنبياء ـ انتهى ـ وقال الزمخشريّ: نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، أي كالصلاح والسداد والعفة والطاعة.
3. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي ضمها إليه، وقرئ بالتشديد، ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا والفاعل الله، أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها، وقائما بتدبير أمورها، وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، وأحبّ كلّ أن يحظى بتربيتها، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها، فأبوا إلا القرعة، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم، على أن ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فطفا قلم زكريا، ورسبت أقلامهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 44]، فأخذها زكريا وربّاها في حجر خالتها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء، انزوت في محرابها تتعبد فيه وصارت بحيث {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}
4. المحراب: في القاموس وشرحه ما نصه: والمحراب: الغرفة والموضع العالي، نقله الهرويّ في غريبه عن الأصمعيّ، قال وضاح اليمن:
çربة محراب إذا جئتها...لم ألقها أو أرتقي سلّماé
وقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها، قال وكذلك هو من المساجد وعن الأصمعيّ: العرب تسمي القصر محرابا لشرفه، وقال الأزهريّ: المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد، قال ابن الأنباريّ: سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه، وبعده من القوم، ومنه يقال: فلان حرب لفلان إذا كان بينهما بعد وتباغض، وفي المصباح: ويقال هو مأخوذ من المحاربة لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه، ثم قال ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها، انتهى.
5. في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى، كما وجد، عند خبيب بن عديّ الأنصاري المستشهد بمكة، قطف عنب، كما في البخاريّ، وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعرانيّ في (اليواقيت) عن العارف أبي الحسن الشاذليّ أنه قال: إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بدايتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلا ليقينها، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه، فقيل لها: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾
6. ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ﴾ تعليل لكونه من عند الله، إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب، وإما من كلامه عزّ وجلّ فهو مستأنف، ومعنى ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير تقدير لكثرته، وإما بغير استحقاق تفضلا منه تعالى.
7. زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام، ومعنى زكريا تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/313.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ الهاء لمريم؛ وقيل: لامرأة عمران؛ لأنَّها التي تكلَّمت ونادت، قَبِلَها لخدمة بيت المقدس ولم يقبل أنثى قبلها، والتفعُّل هنا بمعنى الفعل لا للعلاج ولا للتأكيد، كذا يتبادر؛ ولا مانع من كونه للتأكيد، وفي ذلك تشبيه النذر بالهدية، ورضا الله بقبول الهديَّة، ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ بأنْ سلَّمها لخدمة البيت من حين ولدت قبل أن تقدر على الخدمة، أي: تقبُّلا حسنا، أو بوجه حسن تُقبَل به النذائر، أي: المنذورات، وهو تسليمها عقب الولادة أو إقامتها مقام الذكر؛ فهو كالوَضوء والسَّعوط ـ بالفتح ـ لِمَا يُفعَل به الشيء، ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا﴾ اسم مصدر، أي: إنباتا ﴿حَسَنًا﴾ ربَّاها تربية حسنة بعبادة ربِّها من صغرها، وبكبرها في يوم ما يكبر غيرها في عام، وبتعهُّدها بما يصلح سائر أحوالها.
2. كانت من ذرِّية سليمان بن داود، لفَّتها أمُّها حنَّة في خرفة وحملتها إلى الأحبار في المسجد، وهم خدمته تسعة وعشرون رجلا، فقالت: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنَّها بنت إمامهم وصاحب قربانهم: عمران بن ماشان، وكان بنو ماشان ملوكا ورؤساء في بني إسرائيل، ولم يكن عمران نبيئا، قال زكريَّاء: (أنا أحق بها لأنَّ خالتها عندي)، فقال له الأحبار: (لو تُركت لأحقِّ الناس بها لتُركت لأمِّها، بل نقترع)، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن على أنَّه من ثبت قلمه على الماء فهو أولى بها، وقيل: من ثبت قلمه ولم يجرَّه الماء فهي له؛ وقيل: من ثبت قلمه مقرورا، كأنَّه غرز في الطين، فثبت قلم زكريَّاء، وهي أقلام من نحاس يكتبون بها التوراة، أو سهام النشاب كتبوا عليها أسماءهم؛ وقيل: غطَّاها وأمر صبيَّا من خدمة المقدس أن يخرج واحدا فأخرج قلم زكريَّاء، وقالوا: لا نرضى بل نلقي الأقلام في الماء على حدِّ ما مرَّ، فذلك ثلاث مرَّات؛ واسترضع لها المراضع؛ وقيل: ضمَّها إلى خالتها أمِّ يحيى حتَّى شبَّت وبلغت مبلغ النساء، بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطه، لا يرتقى إليها إِلَّا بسلَّم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعام وشراب ودهن، وقيل: لم ترضع بل يأتيها رزقها من الجنَّة، فيقول: لها زكريَّاء: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾، وهي في المهد كولدها عيسى عليهما السلام، ويجد عندها فاكهة الشتاء صيفا وفاكهة الصيف شتاء.
3. ﴿وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّآءُ﴾ ضمن مصالحها، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَآءُ الْمِحْرَابَ﴾ الغرفة وهي أشرف المجالس، أو بيت المقدس، سمِّيت لأنَّها محلُّ محاربة الشياطين والنفوس بالعبادة، أو هو على ظاهره؛ أنَّه آلة لَمَّا كانت محلًّا للمحاربة سمَّاها باسم الآلة، أو المحراب: قبلة المسجد ببناء مخصوص فيها، وقيل: بلا بناء ثمَّ حدثت هذه المبنيَّات في قبلته خارجة عن الصفَّة، وقد قيل في محراب مريم: إنَّه غرفة في بيت المقدس تصعد بسلَّم كباب الكعبة، وقيل: المحراب المسجد، وكانت مساجدهم تسمَّى المحراب.
4. هذه المحاريب الموجودة في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمَّة، منهم عليٌّ والنخعيُّ كما أخرجه ابن أبي شيبة، وهي بدعة لم تكن في العصر الأوَّل، قال أبو موسى الجهني عنه صلّى الله عليه وآله وسلم : (لا تزال أمَّتي بخير ما لم يتَّخذوا في مساجدهم مذابيح كمذابيح النصارى)، وعن عبد الله بن أبي الجعد كان أصحاب محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلم يقولون: (إنَّ من أشراط الساعة أن تتَّخذ المذابح في المساجد)، وعن ابن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلم : (اتَّقوا هذه المذابح أعني المحاريب)، وسمِّيت مذابح لأنَّها على صورة بناء يتقرَّب فيه النصارى لعنهم الله بالذبح.
5. ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا﴾ جواب (كُلَّمَا)، وهو ظرف لإضافته للمصدر المنسبك بـ (مَا) النائب عن الزمان متعلِّق بـ (وَجَدَ)، وكأنَّه قيل: فماذا يقول؟ فأجابه بقوله: ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَذَا﴾ وقد غلِقت عليك سبعة أبواب، وكان يغلقها عليها، ولا يدخل عليها غيره، أي: قال في المرَّة الأولى ويبعد أن يكون للتكرير كالمضارع، ولو جعلناه جواب (كُلَّمَا) أفاد التكرير بواسطة (كُلَّمَا)، فحينئذ يتعلَّق (كُلَّمَا) بـ (قَالَ)، ويكون (وَجَدَ) حالاً، ﴿قَالَتْ﴾ وهي في غير أوان النطق من الصغر، ﴿هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ﴾ من جنَّته ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ انتهى كلامها، ويجوز أن يكون (إِنَّ اللهَ...) إلخ من كلام الله تعالى، وعن ابن عبَّاس أنَّه جعل لها مرضعة واحدة أرضعتها عامين، وقيل: لم ترضع ثديا قطُّ عوَّضها الله عنه طعام الجنَّة، وقيل: الطعام الذي ذكر الله تعالى بعد رضاع الحولين.
6. روي أنَّ فاطمة عليها السلام أهدت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رغيفين وبضعة لحم، فأرسل ذلك إليها أو مضى به إليها مغطَّى، وقال: (هلمِّي يا بنيَّة)، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما، فقال لها: (أنَّى لك هذا؟) فقالت: ﴿هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فقال: (الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيِّدة نساء بني إسرائيل)؛ ثمَّ جمع عليًّا والحسن والحسين وأهل بيته فأكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها، وروي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلم جاع أيَّاما فطاف على نسائه وفاطمة فلم يجد شيئًا، ثمَّ أعطاها جارُها رغيفين وقطعة لحم، فأرسلت إليه الحسن أو الحسين فجاء فكشفت عن ذلك فإذا هو أضعافٌ، فعلمت أنَّه من عند الله فقرأت الآية، وهذا نصٌّ من النبيء صلّى الله عليه وآله وسلم على أنَّ هذا كرامة لفاطمة، وما في الآية كرامة لمريم ، لا معجزة لسيِّدنا محمَّد في هذا وزكريَّاء في الآية صلَّى الله عليهما وسلَّم.
7. الحقُّ أنَّ كرامة الأولياء ثابتة، وأنكرها المعتزلة، فزعم بعضهم أنَّ ذلك إرهاص لعيسى، وبعضهم إرهاص لزكريَّاء، ولا يلزم من الإرهاص لنبيء أن يكون عالما به.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/251.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي تقبل مريم من أمها ورضي أن تكون محررة للانقطاع لعبادته وخدمة بيته وهو أبلغ من ﴿قَبْلِهَا﴾ وزاده مبالغة وتأكيدا وصفه بالحسن كأنه قال: فقبلها ربها أبلغ قبول حسن وأنبتها نباتا حسنا أي رباها ونماها في خيره ورزقه وعنايته وتوفيقه تربية حسنة شاملة للروح والجسد كما تربى الشجرة في الأرض الصالحة حتى تنمو وتثمر الثمرة الصالحة لا يفسد طبيعتها شيء؛ ولعله عبر عن التربية بالإنبات لبيان أن التربية فطرية لا شائبة فيها.
2. من مباحث اللفظ أن القبول مصدر (قبل) لا (تقبل) والنبات مصدر لـ (نبت) لا لـ (أنبت) ولكن العرب تخرج المصدر أحيانا على غير صيغة الفعل، والشواهد على هذا كثيرة.
3. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ شدد الكوفيون من القراء الفاء، وخففها الباقون، والمعنى على الأولى وجعل زكريا كافلا لها، وعلى الثانية ظاهر، وقرؤوا ﴿زَكَرِيَّا﴾ بالقصر وبالمد كلما دخل عليها زكريا المحراب وهو مقدم المصلى، ويطلق على مقدم المجلس، كما قال ابن جرير، وقيل: لا يسمى محرابا إلا إذا كان يصعد إليه بالسلاليم.. والمحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد وجد عندها رزقا.
4. قالوا: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والله لم يقل ذلك ولا قاله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا هو مما يعرف بالرأي ولم يثبته تاريخ يعتد به، والروايات عن مفسري السلف متعارضة، وفي أسانيدها ما فيها، ومما قال ابن جرير في ذلك: إن بني إسرائيل أصابتهم أزمة حتى ضعف زكريا عن حملها وإنهم اقترعوا على حملها فخرج السهم على نجار منهم، فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فينميه الله ويكثره، فيدخل عليها زكريا فيجد عندها فضلا من الرزق فإذا وجد ذلك قال يا مريم أنى لك هذا؟ أي من أين هذا؟ الأيام أيام قحط قالت: هو من عند الله رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ولا توقع من المرزوق، أو رزقا واسعا.
5. لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات، وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في مثل هذا المقام معهود في القديم والحديث، قال محمد عبده ما مثاله مبسوطا: إن القرآن نزل سائغا يسهل على كل أحد فهمه من غير حاجة إلى عناء ولا ذهاب في الدفاع عن شيء خلاف الظاهر، فعلينا ألا نخرج عن سنته ولا نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية لجعل هذه القصة من خوارق العادات، والبحث عن ذلك الرزق ما هو، ومن أين جاء فضول لا يحتاج إليه لفهم المعنى ولا لمزيد العبرة، ولو علم الله أن في بيانه خيرا لنا لبينه.
6. أما ما سيقت القصة لأجله وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، وشبهة المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر، وبيان ذلك: أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية وأهم مسائلها مسألة الوحدانية وتقرير عقيدة البعث والجزاء وعقيدة الوحي والأنبياء، وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب، ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة أو قبيل هذه القصة في الألوهية والجزاء بعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بين أن الإيمان بالله وادعاء حبه ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شبه المشركين وأهل الكتاب في رسالته وتردها على وجوههم، رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر وأن الله اصطفاه بجعله أفضل من كل أنواع الحيوان، وتمكينه هو وذريته من تسخيرها، وهذا متفق عليه بين المشركين وأهل الكتاب، ومن اصطفاء نوح وجعله أبا البشر الثاني وجعل ذريته هم الباقين، ومن اصطفاء إبراهيم وآله على البشر، فإن العرب وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك، فالأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم كما يفخر الآخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يرشد هؤلاء وأولئك وجميع البشر إلى أنه هو الذي اصطفى هؤلاء بغير مزية سبقت منهم تقتضي ذلك وتوجبه عليه، فإذا كان الأمر له في اصطفاء من يشاء من عباده وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم، فما المانع به من اصطفاء محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك؟ لا مانع يمنع ذلك عند من يعقل.
7. سؤال وإشكال: إنه لم يعهد أن بعث نبيا من غير بني إسرائيل بعد وجودهم، والجواب: ولم اصطفى بني إسرائيل عند وجودهم؟ أليس ذلك بمحض مشيئته؟ بلى وبمحض مشيئته اصطفى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، فهذه المثل مسبوقة لبيان أنه تعالى يصطفي من خلقه من يشاء، أما الدليل على كونه شاء اصطفاه فاصطفاه بالفعل فهو أنه اصطفاه بالفعل؛ إذ جعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل والفساد إلى نور الحق الجامع للتوحيد والعلم والصلاح، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية بأظهر من أثره، بل أثره أظهر ونوره أسطع، صلى الله عليه وعلى كل عبد مصطفى ـ وهذا بيان لوجه اتصال القصة بما قبلها من أول السورة.
8. من هذه المثل قصة مريم فإن أمها إذا كانت قد ولدت وهي عاقر على خلاف المعهود كما نقل، أو يقال: إذا كان قبول الأنثى محررة لخدمة بيت الله على خلاف المعهود عندهم وقد تقبله الله فلماذا لا يجوز أن يرسل الله محمدا من غير بني إسرائيل على خلاف المعهود عندهم؟ ومثل هذا يقال في قصة زكريا عليه السلام الآتية، ومن ذلك كله يعلم أن أعماله تعالى لا تأتي دائما على ما يعهد الناس ويألفون.
__________
(1) تفسير المنار: 3/290.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت.
2. ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي، وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأى.
3. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان، روى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية.
4. ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط، {قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات.
5. سيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني، واصطفى إبراهيم وآله على البشر، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بنى إسرائيل حفيد إبراهيم، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك؛ فالله يصطفى من خلقه من يشاء، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/146.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى عليه السلام على غير مثال من ولادة البشر.
2. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي جعل كفالتها له، وجعله أمينا عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي، من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل.
3. ونشأت مباركة مجدودة، يهيئ لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}
4. لا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة، فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا، حتى ليعجب كافلها ـ وهو نبي ـ من فيض الرزق، فيسألها: كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله، وتفويض الأمر إليه كله: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}، وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه، والتواضع في الحديث عن هذا السر، لا التنفخ به والمباهاة! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا، هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/389.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى جعل كفالة مريم ورعايتها وتنشئتها إلى يد كريمة طاهرة، هي يد النبيّ الكريم، زكريا عليه السّلام.
2. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ أي رزقا متجددا، ما يراه اليوم غير ما رآه أمس، وغير ما سيراه غدا، وهذا ما جعله يرى نفسه أمام ظاهرة غريبة، تطالع عينه فيها نفحات الله وأفضاله فيجد بين يديها كل طيب كريم، من الطعام، لم يقدمه لها أحد.. ويسألها زكريا، فتجيب: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} وليس من جواب غير هذا الجواب، يحبس تساؤل المتسائلين، ويذهب بما ملأ صدورهم عجبا ودهشا، من هذه الآيات التي تتنزل بين يدى مريم، رزقا من السماء بلا انقطاع.. إنه من عند الله! وما كان من عند الله فلا مثار منه لعجب أو دهش!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/438.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، وضمائر النصب لمريم، ومعنى تقبلها: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى، ولم يكن ذلك مشروعا من قبل.
2. ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ الباء فيه للتأكيد، وأصل نظم الكلام: فتقبّلها قبولا حسنا، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلة للتقبل فكأنه شيء ثان، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، وكل هذا إرهاص بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة.
3. معنى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾: أنشأها إنشاء صالحا، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة، (ونبات) مفعول مطلق لأنبت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف.
4. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ عدّ هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مربّاه، وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أبيّا بن باكر بن بنيامين من كهنة اليهود، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجا امرأة من ذرية هارون اسمها (اليصابات) وكانت امرأته نسيبة مريم كما في إنجيل لوقا قيل: كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها، أو من قرابة أمها، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل حرصا، على كفالة بنت حبرهم الكبير، واقترعوا على ذلك كما يأتي، فطارت القرعة لزكرياء، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربية صالحة لذلك.
5. قرأ الجمهور: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ ـ بتخفيف الفاء من كفلها ـ أي تولّى كفالتها، وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: وكفّلها ـ بتشديد الفاء ـ أي أنّ الله جعل زكرياء كافلا لها، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره، ممدودا وبرفع الهمزة، وقرأه حمزة، والكسائي وحفص عن عاصم، وخلف: بالقصر، وقرأه أبو بكر عن عاصم: بالهمز في آخره ونصب الهمزة.
6. دل قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ على كلام محذوف، أي فكانت مريم ملازمة لخدمة بيت المقدس، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها محرابا، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامة لها أنّ عندها ثمارا في غير وقت وجود صنفها.
7. ﴿كُلَّمَا﴾ مركّبة من (كلّ) الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه، ومن (ما) الظرفية وصلتها المقدّرة بالمصدر، والتّقدير: كلّ وقت دخول زكرياء عليها وجد عندها رزقا، وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ في سورة البقرة [25]، فجملة ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ حال من ﴿زَكَرِيَّا﴾ في قوله ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: 36] ولك أن تجعل جملة ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾
8. المحراب بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته، وأكثر ما يتخذ في علوّ يرتقي إليه بسلّم أو درج، وهو غير المسجد، وأطلق على غير ذلك إطلاقات، على وجه التشبيه أو التوسّع كقول عمر بن أبي ربيعة:
çدمية عند راهب قسيس...صوّروها في مذبح المحرابé
أراد في مذبح البيعة، لأنّ المحراب لا يجعل فيه مذبح، وقد قيل: إنّ المحراب مشتق من الحرب لأن المتعبّد كأنّه يحارب الشيطان فيه، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لمحرب الشيطان، ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبّة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة، وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة، والتعريف في ﴿الْمِحْرَابَ﴾ تعريف الجنس ويعلم أنّ المراد محراب جعلته مريم للتعبّد.
9. (أنّى) استفهام عن المكان، أي من أين لك هذا، فلذلك كان جواب استفهامه قوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، واستفهام زكرياء مريم عن الرزق لأنه في غير إبّانه ووقت أمثاله، قيل: كان عنبا في فصل الشتاء، والرزق تقدم آنفا عند قوله: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ من كلام مريم المحكي.
10. الحساب في قوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بمعنى الحصر لأنّ الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص، فالمعنى إنّ الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/88.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ التقبل هو أخذ الأمر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت أم مريم أن يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: (إنما قال ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ ولم يقل: بتقبل حسن؛ للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضى الرضا والإثابة)، هذا هو قبول النّذر، أما إجابة الدعاء وهو ألا يمسها الشيطان أو لا يكون له سلطان عليها؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي أنشأها برعايته ومحبته وحصّنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوى على سوقه، فكذلك كان مع مريم: تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، أما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت: بأن نشأت في بيت العبادة، وإن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾
2. ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ أي ضمها إلى زكريا؛ لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم؛ ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا؛ ولذا قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران] فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبيّ وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
3. أما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهى بالمهد، والرزق كان يجيء من حيث لا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شيء، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على أن يؤتى لهذه المصطفاة رزقا جاريا لا يعلمه إلا هو، وهو على كل شيء قدير، ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا؛ ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه: {قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} عجب نبيّ الله فقال: أنّى لك هذا؟ أي من أين لك هذا؟ فإن أنّى تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة] وتكون بمعنى من أين، وهى هنا كذلك؛ عجب نبيّ الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لا يعرف سببه، ولو كان يعرف أنها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار؛ {قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} أكدت أنه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي أن رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر؛ ولذا لا يحده الحساب، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنته، ويصح أن تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان أن الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1200.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان زكريا كلما دخل عليها وجد عندها طعاما، وعهده بها أن لا يدخل عليها أحد، فسألها متعجبا: أنّى لك هذا!.. قالت هو من عند الله ـ أي لا بواسطة أحد من الناس ـ ان الله يرزق من يشاء بغير حساب، وليس من شك ان هذه كرامة لمريم عليه السلام، أما من نفى هذه الكرامة، وقال: ان الطعام الذي رآه عندها زكريا كان من حسنات المؤمنين فهو خلاف ظاهر الآية.. وليست هذه الكرامة بأعظم من ولادة عيسى بلا أب، فإن كانت تلك محلا للشك والريب فهذه أولى.
2. معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ انها نشأت على الخلق الكريم، وطاعة الله وعبادته، فعن ابن عباس انها لما بلغت التاسعة من عمرها صامت النهار، وقامت الليل، حتى أربت على الأحبار.. وقيل: لم تجر عليها خطيئة.
3. حدث مثل هذه الكرامة لسيدة النساء فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
أ. فقد جاء في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي عند تفسير قوله تعالى حكاية عن مريم: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ}، جاء في هذا التفسير ما نصه بالحرف: (جاع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في زمن قحط، فأهدت له فاطمة رغيفين ولحما.. فأتاها، وإذا بطبق عندها مملوء خبزا ولحما، فقال لها: انّى لك هذا؟ قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل، ثم جمع رسول الله عليا والحسنين، وجمع أهل بيته عليه، فأكلوا وشبعوا، وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها)
ب. وفي كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ان عليا عليه السلام استقرض دينارا ليشتري به طعاما لأهله، فالتقى بالمقداد بن الأسود في حال إزعاج، ولما سأله الإمام قال تركت أهلي يبكون جوعا؛ فآثره بالدينار على نفسه وأهله، وانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وصلى خلفه، وبعد الصلاة قال النبي لعلي: هل عندك شيء تعشينا به؟ وكأن الله قد أوحى اليه أن يتعشّى عند علي، فأطرق علي لا يحير جوابا، فأخذ النبي بيده، وانطلقا إلى بيت فاطمة، وإذا بحفنة من الطعام، فقال لها علي: أنّى لك هذا؟، قال له النبي: هذا ثواب الدينار، هذا من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب، الحمد لله الذي اجراك يا علي مجرى زكريا، واجراك يا فاطمة مجرى مريم، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا.. ثم قال محب الدين الطبري: خرّج هذا الحديث الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال.
ج. وجاء في صحيح مسلم، باب فضائل بنت النبي، ان رسول الله قال لابنته فاطمة: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة.
د. ونقل السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من أعيان الشيعة، سيرة الزهراء، نقل عن صحيح البخاري ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأيضا نقل عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ان الإمام أحمد روى في مسنده عن النبي انه قال فاطمة سيدة نساء العالمين.
هـ. وجاء في كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري بعنوان: ما جاء في سيادتها وأفضليتها، قال الطبري ما نصه بالحرف: (عاد النبي فاطمة، وهي مريضة، فقال لها: كيف تجدينك يا بنية؟ قالت: اني وجعة، ويزيدني ما لي طعام آكله، فقال: يا بنية أما ترضين انك سيدة نساء العالمين؟، فقالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران؟، قال تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، أما والله لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة)، ثم قال الطبري خرّج هذا الحديث أبو عمر، وخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي، وبقية البحث عند تفسير الآية 42 من هذه السورة فقرة (من هي سيدة النساء)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/51.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى قولنا: فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز، وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا﴾ إلى قوله: ﴿حَسَنًا﴾، الجملتان في قولها: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ إلى قولها: ﴿الرَّجِيمِ﴾ كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾، قبولا لقولها وإني سميتها مريم، وقوله: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ قبولا وإجابة لقولها: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه) فافهم ذلك.
2. المراد بإنباتها نباتا حسنا إعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها، وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرية حياة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.
3. هذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ الآية وسنوضحه بيانا إن شاء الله العزيز.
4. فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفاءها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾
5. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، وإنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، الآية.
6. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ الآية المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت، قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا (أي سليبا) من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر، وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد، وكان هذا أصح، قال عز وجل: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾.. وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة، ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد.. وإليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإسلام.
7. في تنكير قوله: ﴿رِزْقًا﴾، إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل: إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود، وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ} في جواب قوله: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيئ، على أن قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ الآية، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة، فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة، ومما يشعر بذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ﴾ الآية على ما سيجيء من البيان.
8. ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ﴾ الآية فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾، يدل على أنه عليه السلام إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/174.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ تقبلها من حيث هي نذر له، وهذا يدل على أن النذر لم يبطل بكونها أنثى؛ لأن النذر وقع عليها بقول أمها: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ وقوله تعالى: ﴿رَبِّهَا﴾ يشير إلى أن التقبل رحمة لأمَتِه من حيث هو ربها ومالكها.
2. ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ قبول أن تكون مختصة بعبادته، وهذا ﴿حُسْنُ﴾ لأن نفعه لها وهو كرامة لها وشرف ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أنشأها نشأة حسنة بكمال البنية وجمالها، وإكمال طبائعها الكريمة من الحياء والميل إلى الأدب والعفة والخير.
3. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ نبي الله، جعلها في عياله يحفظها ويرعاها، ولعل سبب الكفالة أن أمها توفيت فحضنتها أختها (امرأة زكريا) ولا نثق بما يروى في كتب التفسير مما لا نعلم مصدره وطريقه.
4. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ﴿الْمِحْرَابَ﴾ مكانها الذي تتعبد فيه، وقوله: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ أي من أين لك هذا!؟ سؤال إما ليتأكد أنه جاء لها من الله بطريقة خارقة ليعرف بذلك كرامتها عند الله تعالى، وإما لعنايته بتفقد أحوالها، والأول أرجح.
5. قولها: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ} يفهم: أنه ليس من طريق أحد من البشر وإلا لكان الجواب غير مطابق للسؤال؛ لأن زكريا عليه السلام يعلم أنه من الله وإنما بواسطة البشر، فليس السؤال عنه من هذه الجهة.
6. قولها: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ تنبيه على أن الله رزقها؛ لأنه شاء ذلك كما يشاء رزق غيرها، وفيه تغافل حسن عن كونه كرامة لها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/457.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استجاب الله دعاءها الصادق، ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ يمثل كل معاني الرعاية لها في الحاضر والمستقبل، ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ فهيّألها البيئة الصالحة التي تكفل لها النمو الطبيعي، تماما كما تنبت البذرة الطيّبة في الأرض الطيّبة الخصبة، فتحاول أن تعزل عنها كل الجراثيم التي تؤخر نموّها أو تعطّله.
2. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ هذا العبد الصالح الذي وقف مع بقية المؤمنين وألقوا أقلامهم أيّهم يكفل مريم، لأن أباها كان ميّتا، وخرجت القرعة باسم زكريا، الذي كان شيخا جليلا صالحا مؤمنا، فهيّألها الجو التربوي الصالح الذي جعلها تؤمن بالله وتحبه وتعبده حتى بلغت المستوى العظيم الذي جعلها في المركز الذي يوحي بالمعجزة، فكانت تتعبد الله في المحراب ويأتي وقت الطعام، ويغلبها إحساسها بالجوع، وتأبى أن تفارق محرابها لتأكل، لأنها لا تريد أن تفارق مناجاتها الحبيبة لله، فيرسل الله إليها برزقه المتمثل بالطعام الذي تفوح منه الرائحة الطيبة كما تقول بعض الأحاديث، وقد يدخل عليها زكريا في بعض هذه الحالات فيفاجأ بذلك ويتساءل في ما حدثنا الله عنه.
3. ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ من أين لك هذا؟ من الذي صنعه لك، مع أننا لم نقدم لك شيئا من هذا القبيل؟ وكانت لا ترى في هذا شيئا عجيبا؟ فهي تؤمن أن الرزق من الله، سواء جاء من خلال الأسباب العادية المألوفة أو من خلال الأسباب غير العادية، فلما ذا التعجب والاستغراب.
4. ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وهكذا تكاملت أمامنا الصورة المشرقة لهذه الأنثى التي لم تعش الحياة في جانبها الأنثوي الذي يتهالك أمام الملذات والشهوات، بل عاشت الحياة في جانبها الإنساني الإيماني الذي يوحي لها بالإخلاص لله في نفسها وفي علاقتها بالآخرين في ما يوحيه معنى عبادة الله، وبذلك حققت أمنيات تلك الأم الطاهرة التي أرادت من الله أن يجعل منها ابنة عابدة بعيدة عن رجس الشيطان.
5. قد نستوحي من هذه الآيات في تطلعات امرأة عمران وفي حركة القصة في ألطاف الله بالسيدة مريم:
أ. إن قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ ليس واردا في مقام تفضيل الذكر على الأنثى في القيمة الإنسانية الدينية، لتكون دليلا على الفكرة التي تؤكد ذلك، بل الظاهر أنها واردة في المورد الخاص وهو مسألة خدمة بيت المقدس التي كانت مخصصة للذكور دون الإناث من خلال التوزيع الطبيعي للمهمات بين الذكور والإناث، مما يعني توزيع الأدوار باعتبار أن كل واحد ميسر لما خلق له.
ب. إن هذه الأم الصالحة كانت واعية للدور الذي تقوم به المرأة في الحياة في حاجتها إلى أن تكون الإنسانة المؤمنة المتحررة من كل وساوس الشيطان الرجيم وحبائله، المنفتحة على طاعة الله وعبادته، لتشارك في المهمّات الموكولة إليها من موقع الأمانة الفكرية والروحية والعملية التي تجعلها أمينة على بيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها، تماما كما هو الرجل في المهمّات الموكولة إليه، وهذا ما جعلها تتوجه إلى الله أن يعيذها من الشيطان الرجيم، ولم تقتصر في تمنياتها عليها بالذات، بل تطلعت إلى أن يعيذ ذريتها ـ في امتداد الأجيال في الزمن ـ من الشيطان، لتعيش في أحلامها الكبيرة هذا الاستشراف الإيماني للمستقبل، لتكون ذريتها ذرية صالحة، لأنها لا تريد لنفسها أن تشارك، ولو بشكل غير مباشر، في إنتاج الجيل الفاسد الذي يكفر بالله وبرسله ويتبع غير سبيل المؤمنين من التقوي والاستقامة في الخط الصحيح، وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه في تطلعاتنا المستقبلية بما يتصل بأولادنا الذين نأمل أن يكونوا المؤمنين الصالحين، بحيث يرتبط ذلك بهمومنا واهتماماتنا العملية، مما يجعلنا نبتهل إلى الله في ذلك ونتحرك في اتجاه تحقيقه من الناحية العملية، فإن هذا الاهتمام الفكري والروحي بصلاح الأبناء في المستقبل يؤدّي إلى تحويل ذلك إلى واقع حيّ في حركة التربية، والتماس الأساليب الصحيحة، ومتابعة الموقف بالحذر الدقيق الواعي الذي يراقب المؤثرات السلبية أو الإيجابية التي تترك تأثيراتها عليهم في البيئة التي ينتمون إليها والمدارس التي يتعلمون فيها، والرفاق الذين يصاحبونهم، والدروس التي يتعلمونها، وغير ذلك، بينما يؤدي عدم الاهتمام بذلك إلى واقع اللامبالاة التي تترك الأمور بعيدة عن التخطيط الدقيق.
ج. إن الله تقبلها بقبول حسن، واستجاب دعاء أمها الصالحة، وأعاذها من الشيطان الرجيم بطريقة واقعية عملية، وذلك من خلال تهيئة الجو الطيب الطاهر الذي يجعل نموّها نموّا طبيعيا من دون تأثيرات سلبية منحرفة، وذلك من خلال كفالة زكريا الذي كان من الأنبياء الصالحين، وقد حضنها وتعهدها بالتربية والتوجيه والإعداد الروحي والعملي لتكون الإنسانة غير العادية في المستقبل من خلال الطاقات الروحية غير العادية التي تحركت فيها للحصول على محبة الله ورضاه في ممارساتها العبادية التي جعلتها موضع رعاية الله وعنايته بشكل غير عادي.. إن هذه الألطاف الإلهية التي أحاطت بمريم استجابة لدعاء أمها الصالحة وابتهالها الصادق، قد تحدث لأيّ إنسان يفتح قلبه لله في الدعاء الصادق بأن يرعى أولاده ويعيذهم من الشيطان الرجيم ويهيّئ لهم من غامض علمه الفرص الجيّدة للحصول على الدرجات العالية في الإيمان والتقوى، فإن الله قد تكفّل لعباده المؤمنين باستجابة دعائهم بما فيه المصلحة لهم، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نلجأ إليه في مهماتنا الحاضرة واهتماماتنا المستقبلية في ما يتعلق بحياتنا وحياة أولادنا، ليبقى الأمل حيّا في نفوسنا من خلال الثقة بالله، ويزول الخوف من قلوبنا مما ينتظرنا في المستقبل من التهاويل، اعتمادا على أمنه، فهو الذي يستجيب دعاء الراجي ويؤمن الخائفين.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/349.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم، لقد أشرنا من قبل أنّ أمّ مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الأنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولودا ذكرا، إذ لم يسبق أن اختيرت أنثى لهذا العمل، ولكن الآية تقول إنّ الله قد قبل قيام هذه الأنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة.
2. يقول بعض المفسّرين: إنّ دليل قبولها لهذه الخدمة أنّها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطرّ إلى ترك الخدمة، أو أن حضور طعامها من الجنّة إلى محرابها دليل على قبولها، وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أبلغ للأمّ عن طريق الإلهام.
3. كلمة (أنبتها) إشارة إلى تكامل مريم أخلاقيا وروحيا، كما أنّه يتضمّن نكتة لطيفة هي أنّ عمل الله هو (الإنبات) والإنماء، أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كلّ أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيّين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقّق الإنبات بمعناه الحقيقي.
4. ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ (الكفالة) ضمّ شيء إلى آخر، لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم (الكافل) أو (الكفيل)، أي أنّه يضمّ الطفل إليه، إذا استعملت الكلمة ثلاثية مجرّدة كانت فعلا لازما، وتتعدّى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد (كفّل) أي انتخاب الكفيل لشخص آخر.
5. في هذه الآية يقول القرآن: اختار الله زكريّا كي يتكفّل مريم، إذ أنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أمّها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت: هذه البنت هديّة لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كلّ منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص ـ سيأتي شرحه في تفسير الآية 44 من هذه السورة ـ اختير زكريّا ليكفلها، وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن عنها: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾
6. (المحراب) هو الموضع الذي يخصّص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة، وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة:
أ. أحدها: إنّ المحراب من (الحرب) سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والأهواء.
ب. والآخر: إنّ المحراب صدر المجلس، ثمّ أطلق أيضا على صدر المعبد، (كان بناء المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا، فأولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعا عن سطح الأرض بعدّة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه، بحيث كانت تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج)
ج. الثالث: انه يطلق على كلّ المعبد، وهو المكان الذي يخصّص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان.
7. كبرت مريم تحت رعاية زكريّا، وكانت غارقة في العبادة والتعبّد، بحيث إنّها ـ كما يقول ابن عبّاس ـ عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتّى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها، وعند ما كان زكريّا يزورها في المحراب يجد عندها طعاما خاصّا، فيأخذه العجب من ذلك، سألها يوما: ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾، فقالت: {هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}
8. الآية لا تذكر شيئا عن ماهيّة هذا الطعام ومن أين جاء، لكنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير العيّاشي وغيره من كتب الشيعة والسنّة تفيد أنّه كان فاكهة من الجنّة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب، وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبدا تقيّا، كما أنّ اعتبار (الرزق) طعاما من الجنّة يتبيّن من القرائن التي نراها في ثنايا الآية:
أ. فأوّلا كلمة (رزقا) النكرة دليل على أنّ زكريّا لم يعرف نوع هذا الرزق.
ب. وثانيا جواب مريم التي قالت ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ دليل آخر.
ج. وثالثا انفعال زكريّا وطلبه ولدا من الله ـ كما نقرأ في الآية التالية ـ دليل ثالث على ذلك.
9. بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ يرون أنّ ﴿رِزْقًا﴾ تعني هذا الطعام الدنيويّ المألوف، يقول ابن جرير: إنّ قحطا أصاب بني إسرائيل يومئذ، ولم يعد زكريّا قادرا على سدّ جوعة مريم، لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل نجّار، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيّب الحلال ليهيّئ الطعام لها، فكان هذا هو الطعام الذي يراه زكريّا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة وكان جواب مريم يعني أنّ الله قد سخّر لي مؤمنا فأحبّ القيام بهذه الخدمة الشاقّة، ولكن ـ كما قلنا ـ هذا التفسير لا يتّسق مع القرائن الموجودة في الآية، ولا مع الأحاديث الواردة في تفسيرها، ومنها ما
10. ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السّلام ما ملخّصه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دخل يوما على ابنته فاطمة عليها السّلام وهو يعلم أنّها لم تكن تملك طعاما يذكر منذ أيّام، فوجد عندها طعاما وافرا خاصّا، فسألها عنه، فقالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السّلام: ألا أحدّثك بمثلك ومثلها؟ قال بلى، قال مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا، قال يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/481.
22. زكريا والبشارة بابنه يحيى
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈22⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 38 ـ 39]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾، أراد به صوم ثلاثة أيام؛ لأنهم إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٦٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما بشر بيحيى قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ يعتقل لسانك من غير مرض، وأنت سوي(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ الرمز بالشفتين(2).
3. روي أنّه قال: الرمز أن أخذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده(3).
4. روي أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾، قال الإشارة باليد، والوحي بالرأس، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر(4):
çما في السماء من الرحمن مرتمز... إلا إليه، وما في الأرض من وزر؟é
5. روي أنّه قال: كفلها زكريا، فدخل عليها المحراب، فوجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه، ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، قال إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولدا، ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾، فلما بشر بيحيى قال ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾، قال يعتقل لسانك من غير مرض وأنت سوي(5).
__________
(1) الحاكم: ٢/٢٩١.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٥.
(3) ابن جرير: ٥/٣٨٩.
(4) الطستيُّ كما في الإتقان: ٢/٨٠.
(5) ابن جرير: ٥/٣٥١.
السلمي:
روي عن أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) أنّه قال: اعتقل لسانه من غير مرض(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٥.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ يومئ إيماء(1).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٥٢.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿كَذَلِكَ﴾ يعني: هكذا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٥.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: الرمز: أن يشير بيده أو رأسه ولا يتكلم(1).
__________
(1) الثوري في تفسيره: ص٧٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ العشي: ميل الشمس إلى أن تغيب، والإبكار: أول الفجر(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: أتاه الشيطان، فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه، قال هل تدري من ناداك؟ قال نعم، ناداني ملائكة ربي، قال بل ذلك الشيطان، لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٨٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أمسك بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أن سبحوا بكرة وعشيا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ذكرا فنادته الملائكة بما نادته به، فأحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، أوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام ـ قال ـ: فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله، وذلك قول الله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: لما سأل زكريا ربه أن يهب له ذكرا، فوهب الله تعالى له يحيى، فدخله من ذلك، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ فكان يومئ برأسه، وهو الرمز(2).
__________
(1) تفسير العياشي: 1/172.
(2) تفسير العياشي: 1 لا: 172/44.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾، إنما عوقب بذلك لأن الملائكة شافهته بذلك مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه، فأخذ عليه بلسانه(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/١٢٠.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام، حيث قال: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾، ولو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال: ٤٥] (1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ وهي التي لا تلد.. وكذلك الرّجل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ معناه إشارة باللسان من غير بيان.. ويقال: إيماء(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 109.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ قال زكريا: يا رب، فإن كان هذا الصوت منك فاجعل لي آية(1).
2. روي أنّه قال: لما سمع زكريا النداء جاءه الشيطان، فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان ليسخر بك، ولو كان من الله أوحى إليك كما يوحي إليك في غيره من الأمر، فشك مكانه، وقال: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ الآية، قال فجاء الشيطان إلى زكريا، فقال: هذا النداء الذي نوديت ليس من الله، إنما هو من الشيطان، سخر بك، لو كان من الله أوحاه إليك كما كان يوحي إليك، فقال عند ذلك: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾؛ حتى أعلم أن هذا النداء منك، فقال له: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٨٤.
(2) ابن جرير: ٥/٣٨٢.
(3) ابن المنذر: ١/١٩٣.
خصيف:
روي عن خصيف بن عبد الرحمن (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ إشارة بالشفتين والحاجبين(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٩٤.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي﴾ كيف يكون لي؟(1).
2. روي أنّه قال: ذكر لنا ـ والله أعلم ـ: أنه عوقب؛ لأن الملائكة شافهته، فبشرته بيحيى، قالت: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزا، يقول: يومئ إيماء(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٤.
(2) ابن جرير: ٥/٣٨٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: فلما بشر زكريا بالولد قال لجبريل عليه السلام في المخاطبة: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى﴾، يعني: من أين ﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، يقول ذلك تعجبا؛ لأنه كان قد يبس جلده على عظمه من الكبر(1).
3. روي أنّه قال: ولم يحبس لسانه عن ذكر الله تعالى، ولا عن الصلاة، فكذلك قوله سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، يقول: صل بالغداة والعشي(1).
4. روي أنّه قال: ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾ إذا جامعتها على طهر فحبلت؛ فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرسا ولا سقما، ولكن تصبح لا تطيق الكلام، ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾، يعني: إلا إشارة يومئ بيده، أو برأسه من غير مرض، فأتى امرأته على طهرها فحملت، وكان آية الحبل أنه وضع يده على صدرها، فحملت، فاستقر الحمل في رحمها، فحبلت بيحيى، فأصبح لا يستطيع الكلام، فعرف أن امرأته قد حبلت، فولدت يحيى عليه السلام، فلم يعص الله قط(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٥.
(2) تفسير مقاتل: ١/٢٧٥.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن: قول زكريا: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾، يقول: عند الحمل بيحيى، والخلق له؛ فجعل الله عز وجل آية ذلك: سكوته، وانقطاع الكلام منه ثلاثة أيام إلا رمزا، والرمز هو: الإشارة والإيماء إلى ما أراد، فلما قر يحيى صلوات الله عليه في بطن أمه امتنع الكلام من زكريا، فكانت هذه آية ودلالة عند خلقه وتكوينه ليحيى صلوات الله عليهما.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/158.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: عند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها ـ علم عند ذلك أن السؤال يصلح، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه، فذلك معنى قوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾
ب. ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك ـ دعا الله ـ جل جلاله ـ أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب عليه السلام مع ما كان يعلم قدرة الله تعالى على ما يشاء نفسه تتمنى، والله أعلم بالمعنى الذي سأل.
2. ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي: مجيب الدعاء، {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ} دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة.
3. ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ فيه دلالة لقول أصحابنا (2) أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانا فأرسل إليه غيره يبشره ـ حنث في يمينه؛ لأنه هو البشير، وإن كان المؤدي غيره؛ ألا ترى أن البشارة ـ هاهنا ـ أضيفت إلى الله تعالى فكان هو البشير؛ فكذلك هذا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾:
قيل: عيسى عليه السلام كان بكلمة من الله، فيحيى صدّقه برسالته.
وقيل: أول من صدق عيسى ـ يحيى بن زكريا.
5. لهذا وقع على النصارى شبهه؛ حيث قالوا: عيسى ابن الله، بقوله: {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ورُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] ظنوا أنه في معنى (فيه)؛ لكن ذلك إنما يذكر إكراما لهم وإجلالا، ولا يوجب ذلك ما قالوا؛ ألا ترى أن الله ـ عزّ وجل ـ قال ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾ [النحل: 53] ونحو ذلك، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء؛ فعلى ذلك الأول.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾:
أ. قيل: سيّدا في العلم والعبادة.
ب. وقيل: السيّد: الحكيم هاهنا.
ج. وقيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه، فكذلك كان صلوات الله عليه.
د. وقيل: السيد: الحسن الخلق.
هـ. وقيل: السيّد: التقى.
7. اختلف في معنى اسم يحيى واشتقاقه:
أ. قيل: اشتق يحيى من أسماء الله تعالى من: (حي)، والله ـ عزّ وجل ـ هو الذي سمّاه يحيى؛ وكذلك عيسى ـ روح الله ـ هو الذي سمّاه مسيحا؛ بقوله: ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45] وذلك إكراما لهم وإجلالا، على ما سمى إبراهيم: خليل الله، ومحمد: حبيب الله، وموسى: كليم الله؛ إكراما لهم وإجلالا؛ فكذلك الأوّل.
ب. وجائز أن يكون (يحيى) بما حيي به الدّين.
8. ﴿بِيَحْيَى﴾ قيل: سمّاه به؛ لما حيي به الدّين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة، والأفعال المرضية؛ ولهذا ـ والله أعلم ـ سمي سيّدا؛ لأن السؤدد في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال، وسمي مسيحا بما مسح بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده؛ نحو أن يبرأ به ويحيى، وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة، والأفعال المرضية، وجائز أن يكون عليه السلام جمعهما فيه؛ فسمّي به.
9. الأصل في هذا ونحوه: أن الأسماء إن جعلت للمعارف، ليعلم بها المقصود ـ فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع، دون ما يقبح على المقال، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار من كل شيء
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾:
أ. قيل: الحصور: الذي لا ماء له ولا شهوة.
ب. وقيل: هو المأخوذ عن النساء، والممنوع منهن.
ج. وقيل: هو الذي لا يشتهي النساء.
د. وكله واحد.
11. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ذكر أنه من الصالحين، وإن كان كل نبي لا يكون إلّا صالحا؛ على ما سمي كل نبي صدّيقا، وإن كان لا يكون إلا صدّيقا، ووجه ذكره صالحا:
أ. أنه كان يتحقق فيه ذلك؛ لأن غيره من الخلق، وإن كان يستحق ذلك الاسم ـ إنما يستحق بجهة، والأنبياء ـ عليهم السلام ـ يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها.
ب. الثاني: دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة.
12. ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين ـ يخرج على أوجه: على جميع الصلاح، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح، وعلى أنهم منهم؛ لولا النبوة؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدين لمن تم لهم وصف الصلاح، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس، وأن الذين ردّوا عليهم ـ ردّوا بعد علمهم بصلاحهم، أو على الوصف به كالوصف بالصدّيق، وإن كان كل نبي كذلك؛ مع ما لعل لذلك حد عند الله؛ لذلك أراد لم يكن أطلع غيره عليه.
13. جائز أن يكون (يحيى) بما حيي به الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية؛ ولذلك سمى سيدا؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء، وليس لنا تكلف طلب المعنى، فيما سمى الله الجواهر به؛ إذ الأسماء للتعريف، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل.
14. قوله: وروح الله وكلمته ـ كقوله: خليل الله وحبيبه، وذبيح الله، وكليم الله، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة، وذلك على ما قيل: من بيوت الله، وعلى ما قيل لدينه: نور الله، وقيل لفرائضه: حدود الله، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله، وذلك كما قال لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]، وقال في الجملة: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾ [النحل: 53] لا على ما توهمته النصارى في المسيح، فمثله الأول، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/361.
(2) يقصد الحنفية
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أي ولداً مباركاً وقصد بالذرية الولد الواحد ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي مجيب الدعاء لأن إجابة الدعاء بعد سماعه.
2. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ جبريل ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ إنما سماه الله يحيى لأنه أحياه الله بالإيمان والحكمة وسماه بهذا الاسم قبل مولده ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ يعني الكتاب ويحتمل أن يكون المسيح وإنما سمي المسيح كلمة لاهتداء الناس به كاهتدائهم بكلام الله عز وجل ﴿وَسَيِّدًا﴾ أي بما أعطاه الله عز وجل من الشرف والرئاسة على المؤمنين والنبوة والحكمة وهذا حقيقة السؤدد ﴿وَحَصُورًا﴾ أي منقطعاً عن النساء مشتغلاً بطاعة الله عز وجل.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/140.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ﴾ معنى هنالك: عند ذلك، والأصل فيه الطرف من المكان نحو رأيته هنا وهناك، وهنالك، والفصل بينهما، القرب والبعد، فهنا للقريب وهنالك للبعيد، وهناك لما بينهما، وقال الزجاج: ويستعمل في الحال كقوله من هاهنا قلت: كذا أي من هذا الوجه، وفيه معنى الاشارة كقولك: ذا، وذاك، وزيدت اللام لتأكيد التعريف، لأن الأصل في زيادتها التعريف إلا أنها كسرت لالتقاء الساكنين كما كسرت في ذلك، ولا يجوز إعرابها، لأن فيها معنى الحرف.
2. معنى قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف ما جرت به العادة، طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف مجرى العادة، فسأل ذلك، وزكريا عليه السلام وإن كان عالماً بانه تعالى يقدر على خلق الولد من العاقر، وإن لم تجر به العادة، فإنه كان يجوز ألا يفعل ذلك لبعض التدبير، فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها قوي ظنه أنه يفعل ذلك: إذا اقتضت المصلحة، وقوي في نفسه ما كان علمه، كما أن ابراهيم وإن كان عالماً بأنه (تعالى) يقدر على إحياء الميت سأل ذلك مشاهدة لتأكد معرفته وتزول عنه خواطره، وقال الجبائي: إن الله تعالى كان أذن له في المسألة وجعل وقته الذي أذن له فيه الوقت الذي رأى فيه المعجزة الظاهرة فلذلك دعا.
3. ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ فالهبة تمليك الشيء من غير ثمن تقول: وهب يهب، فهو واهب والشيء موهوب، وتواهبوا الأمر بينهم تواهباً، واستوهبه استيهاباً.
4. ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ معناه من عندك وإنما بني ولم يبن عند، لأنه استبهم استبهام الحروف، لأنه لا يقع في جواب أين كما يقع عند نحو قوله أين زيد فتقول عندك، ولا تقول لدنك، (ذرية) تقع على الجمع، والواحد، وقيل أن المراد هاهنا واحد لقوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ وأما بمعنى الجمع، فمثل قوله: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾
5. ﴿طَيِّبَةً﴾ قال السدي معناه مباركة، وإنما أنث طيبة، وهو سأل ولداً ذكراً على تأنيث الذرية كما قال الشاعر:
çأبوك خليفة ولدته أخرى...وأنت خليفة ذاك بالكمالé
وقال آخر:
çفما نزدري من حية جبلية...سكات إذا ما عاض ليس بأدرداé
فجمع التأنيث، والتذكير في بيت واحد مرة على اللفظ، ومرة على المعنى، وإنما يجوز هذا في أسماء الأجناس دون الاعلام نحو طلحة، وحمزة، وعنترة، لا يجوز أن تقول جاءت طلحة من قبل أن التذكير الحقيقي يغلب على تأنيث اللفظ فأما قوله:
çوعنترة الفيحاء جاءت ملاماً...كأنك فند من عماية أسودé
فإنما أراد شفة عنترة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
6. ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ معناه سامع الدعاء بمعنى قابل الدعاء، ومنه قول القائل: سمع الله لمن حمده أي قبل الله دعاه وأصل السمع ادراك المسموع وإنما قيل للقابل سامع لأن من كان أهلا أن يسمع منه فهو أهل أن يقبل منه خلاف من لا يعتد بكلامه فكلامه بمنزلة ما لم يسمع.
7. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قال السدي الذي نادى زكريا جبريل وحده، فعلى هذا يكون ذهب مذهب الجمع كما يقولون: ذهب في السفن وإنما خرج في سفينة وخرج على البغال وإنما ركب بغلا واحداً، وقال غيره: ناداه جماعة من الملائكة كأنه قيل: النداء جاء من قبل الملائكة وإنما جاز ذلك لعادة جارية نحو قولهم: ناداه أهل العسكر، وناداه أهل البلد.
8. {وَهُوَقائِمٌ يُصَلِّي} جملة في موضع الحال، ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ في بشره من البشرى ثلاث لغات: بشره يبشره وبشره يبشره بشراً، وأبشره بشاراً عن أبي العباس، وقرأ حميد (يبشرك) من أبشر، وكل ذلك لظهور السرور في بشرة الوجه، وقيل إن المثقل من البشارة، والمخفف من السرور، والمعنيان متقاربان، وأنشد الأخفش:
çوإذا لقيت الباهشين إلى الندى...غبراً أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به...وإذا هم نزلوا بضنك فانزلé
قال الزجاج هذا على بشر يبشر إذا فرح، وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، وقوله: (بيحيى) قال قتادة سمي يحيى، لأن الله تعالى أحياه بالإيمان سماه الله بهذا الاسم قبل مولده.
9. ﴿مُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال من يحيى ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ يعني المسيح عليه السلام في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي وجميع أهل التأويل إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنّه قال: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ أي بكتاب الله كما يقولون أنشدني فلان كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت.
10. إنما سمي المسيح كلمة الله لأمرين:
أ. أحدهما: أنه كان بكلمة الله من غير أب من ولد آدم.
ب. الثاني: لأن الناس يهتدون به في الدين كما يهتدون بكلام الله.
11. ﴿وَسَيِّدًا﴾ يعني مالكا لمن يجب عليه طاعته، ومن ذلك سيد الغلام يعني مالكه، ولا يقال سيد الثوب بمعنى مالك الثوب، لأنه لا يتصور هناك وجوب طاعته، وأصل السواد الشخص، فقيل سيد القوم بمعنى مالك السواد الأعظم، وهو الشخص الذي تجب طاعته لمالكه، وهذا إذا قيل مضافاً أو مقيداً فأما إذا اطلق فلا ينبغي إلا لله تعالى، لأنه المالك لجميع الخلق:
أ. قيل: معناه هاهنا وسيداً في العلم والعبادة في قول قتادة.
ب. وقال الجبائي: معناه وسيداً للمؤمنين بالرئاسة لهم.
ج. وقال الضحاك: سيداً في الحلم والتقى.
د. وقيل سواد الإنسان لشخصه، لأنه يستر به لستر سواد الظلمة بتكاثفه، وتسوله.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾:
أ. قيل: معناه الممتنع من الجماع، ومنه قيل للذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيأ للنفقة حصور قال الأخطل:
çوشارب مربح بالكأس نادمني...لا بالحصور ولا فيها بسوارé
يعني معربد ويقال للذي يكتم سره حصور ويقال: حصر في قراءته إذا امتنع بالانقطاع فيها، ومنه حصر العدو منعه الناس من التصرف.
ب. وقال عبد الله: الحصور العنين، وقال سعيد بن المسيب إنما كان معه مثل هدب الثوب.
ج. وقال الحسن، وقتادة هو الذي لا يأتي النساء، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام
د. وقال بعضهم هو الذي لا يبالي ألا يأتي النساء.
13. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (من) هاهنا لتبيين الصفة ليس المراد به التبعيض، لأن النبي لا يكون إلا صالحاً.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/451.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ اختلف في سبب دعائه على قولين:
أ. أحدهما: أن الله تعالى أذن له في المسألة لأن سؤال ما خالف العادة يمنع منه إلا عن إذن لتكون الإجابة إعجازا.
ب. الثاني: أنه لما رأى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف طمع في رزق الولد من عاقر.
2. ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ يعني هب لي من عندك ولدا مباركا، وقصد بالذرية الواحد، ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي تجيب الدعاء، لأن إجابة الدعاء بعد سماعه.
3. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ حمزة، والكسائي: فناداه الملائكة، وفي مناداته قولان:
أ. أحدهما: أنه جبريل وحده، وهو قول السدي.
ب. الثاني: جماعة من الملائكة.
4. {وَهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى} قيل إنما سمّاه يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان، وسماه بهذا الاسم قبل مولده.
5. في قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: بكتاب من الله، وهذا قول أبي عبيدة وأهل البصرة.
ب. الثاني: يعني المسيح، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي.
6. اختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين:
أ. أحدهما: أنه خلقه بكلمته من غير أب.
ب. الثاني: أنه سمّي بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله عزّ وجل.
7. في قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾ خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أنه الخليفة، وهو قول قتادة.
ب. الثاني: أنه التقي، وهو قول سالم.
ج. الثالث: أنه الشريف، وهو قول ابن زيد.
د. الرابع: أنه الفقيه العالم، وهو قول سعيد بن المسيب.
هـ. الخامس: سيد المؤمنين، يعني بالرئاسة عليهم، وهذا قول بعض المتكلمين.
8. في قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه كان عنّينا لا ماء له، وهذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والضحاك.
ب. الثاني: أنه كان لا يأتي النساء، وهو قول قتادة، والحسن.
ج. الثالث: أنه لم يكن له ما يأتي به النساء، لأنه كان معه مثل الهدبة، وهو قول سعيد بن المسيب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/390.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الهبة والعطية من النظائر، وهي تمليك الشيء بغير عوض، فإذا ألحق به العوض كان ابتداؤه في حكم الهبات يحتاج إلى القبض، وانتهاؤه في حكم البياعات لا الهبة حتى يجب للشفيع الشفعة، وينقطع الرجوع، والهبة عقد جائز في الشرع تمامه بالقبض، وَهب يَهب هِبَةً وموهبة.
ب. ﴿هُنَالِكَ﴾ معناه عند ذلك، وأصله ظرف المكان تقول: رأيته هناك وزيدت اللام، لتأكيد التعريف، وكسرت لالتقاء الساكنين كما في ذلك وهو إشارة إلى غائب كما أن هذا إشارة إلى حاضر، والكاف اسم للمخاطب، قال المفضل: أكثر ما يقال: هنالك في الزمان وهناك في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا.
ج. لدنك: عندك، وفيه أربع لغات: لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولَدُ) بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولَدْنَ بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولُدْنَ بضم اللام وجزم الدال وفتح النون، وهي يخفض بها على الإضافة.
د. يحيى: من حيي يحيا حياة، والحياة عرض يصير الحي به حيًا لا يقدر عليه غيره تعالى.
هـ. السيد فَيْعِلٌ من ساد يسود، وهو من ينتهى إلى قوله، وأصله سَيْوِد قلبت الواو ياء لأجل الياء ثم أدغمت في الياء، والكلمة من الكلام، ويقال للكلام كلمة، وإن طالت تقول أنشدني كلمة فلان؛ أي قصيدته، والحصور أصله من الحصر وهو المنع والحبس، ومنه حصيرًا محبسًا، ومنه: المحصر في الحج الممنوع من المضي فيه، ويقال للذي يكتم سره: حصورا؛ لأنه يمنعه من الظهور.
2. لما قص الله تعالى حديث مريم بين أن زكريا لما عاين أحوالها سأل الولد فقال تعالى: ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في تلك الحال ﴿دَعا﴾:
أ. قيل: لما رأى من فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء على خلاف المعتاد طمع في رزق الولد من العاقر، وإن كان بخلاف المعتاد.
ب. وقيل: لما رأى كرامة مريم وعظم حالها أحب أن يكون له ولد مثلها فدعا.
ج. وقيل: إنه تعالى أذن له في الدعاء، وكان دليل وقت الدعاء المأذون فيه ما رأى، فعند ذلك دعا زكريا.
د. وقيل: لما رأى علوقَ مريمَ ظهر مِنْ غير ذَكَرٍ قَوِيَ رجاؤهُ فَدَعَا، وقيل: هذا لا يصح؛ لأن ولادة يحيى متقدمة على ذلك.
3. قيل: دخل المحراب وأغلق الباب وناجى ربه، فقال: ﴿رَبَّ﴾ يعني ﴿يَا رَبِّ﴾ حذف حرف النداء استغناء بكسر الباء عن حرف النداء ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ أي أعطني من عندك ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ ولدًا أو نسلاً، الذرية يكون واحدًا وجمعًا وذكرًا وأنثى، وهو ههنا واحد لأنه قال في موضع آخر ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ ﴿طَيِّبَةً﴾:
أ. قيل: مباركة، عن السدي.
ب. وقيل: صالحة تقية نقية العمل.
ج. وقيل: يطيب الذكر فيها.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾:
أ. قيل: سامع الدعاء.
ب. وقيل: مجيب الدعاء كقوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ أي أجيبوني، ومنه: سمع الله لمن حمده.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾:
أ. قيل: جبريل وحده، عن السدي.
ب. وقيل: جماعة من الملائكة.
ج. وقيل: جاء النداء من قبل الملائكة.
د. وقيل: جبريل معه غيره.
6. ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ يعني في المسجد، ومنه ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ أي من المسجد ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾:
أ. قيل: سمي يحيى لأنه تعالى أحياه بالإيمان، عن قتادة.
ب. وقيل: سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل مولده.
ج. وقيل: أحيا به عقر أمه، عن ابن عباس.
د. وقيل: أحيا قلبه بالنبوة.
هـ. وقيل: بشره بالولد وأنه يحيا لا يموت صغيرًا.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: الكلمة هي عيسى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والضحاك والسدي وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: بكتاب من الله عن أبي عبيدة.
8. سؤال وإشكال: لم سمي عيسى كلمة؟، والجواب: فيه ثلاثة أقوال:
أ. الأول: لأنه كان بكلمة الله من غير أب من ولد آدم.
ب. الثاني: لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلامه تعالى، وخصه به وإن كان غيره يشاركه فيه كالخليل والكليم.
ج. الثالث: لأنه تقدم البشارة به في الكتب، فلما ولد قال هو تلك الكلمة، يعني الموعود، وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه، وهو أكبر من عيسى بستة أشهر، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى.
د. وقيل: غير ذلك.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾:
أ. قيل: بالعلم والعبادة، عن قتادة.
ب. وقيل: بالحلم والتقى وحسن الخلق، عن الضحاك.
ج. وقيل: سيدًا للمؤمنين بالرياسة عليهم، عن أبي علي.
د. وقيل: سيدًا في الدين، عن المفضل.
هـ. وقيل: الكريم عن مجاهد.
و. وقيل: الذي يطيع ربه، عن سعيد بن جبير.
ز. وقيل: الشريف الكبير، عن ابن زيد.
ح. وقيل: مطاعًا، عن الخليل.
ط. الجميع يرجع إلى أصل واحد، وهو أنه أهل لتمليكه بتدبير من يجب عليه طاعته لما هو عليه من هذه الأحوال.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾:
أ. قيل: هو الممتنع من الجماع.
ب. وقيل: الذي لا يأتي النساء، عن الحسن وقتادة وابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد يعني يحصر نفسه عن الشهوات، أي يمنعها.
ج. وقيل: هو العنين الذي لا ماء له، عن سعيد بن المسيب والضحاك، قال ابن المسيب: وكان معه مثل هدبة ثوب، والأول الوجه؛ لأنه مدح له.
د. وقيل: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والأباطيل، عن المبرد.
11. ﴿وَنَبِيًّا﴾ يعني رسولاً شريفًا رفيع المنزلة ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ من جملة الأنبياء والصالحين، وإنما قال: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لأنه:
أ. قيل: لأنه من بينهم لم يقع منه ذنب، فخص بذلك.
ب. وقيل: لأنه ظهر صلاحه.
ج. وقيل: النبوة: تأسيسا للنبوة.
د. وقيل: فيه إضمار واو أي ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
12. سؤال وإشكال: هل سأل ذلك بإذن أو بغير إذن؟، والجواب: لمشايخنا فيه طرق:
أ. قال أبو علي: سأل بإذن الله وبرؤية ما رأى وعرف وقت الإذن.
ب. وقال القاضي: فيه وجهان:
• أحدهما: أنه لما رأى ذلك رغب في الولد، فأذن له في السؤال فسأل.
• وثانيها: قال: إن مثل ذلك إذا لم يتعلق بمصالح أمته يجوز أن يسأل من دون إذن، وعند الأمان بحصول مثله يقوى طمعه فيشتد في باب المسألة.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن زكريا لما رأى تلك المعجزات طمع في الولد وإن كان يعلم قدرته تعالى على خلق الولد قبل ذلك، لكن لما كان خارجا عن العادة جاز أن يختلف الحال في الرجاء والطمع.
ب. أن الولد الصالح نعمة من الله تعالى لذلك بشر به، وتدل على صفات مدح ليحيى بشر بها كما بشر بنفسها.
14. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة والكسائي (فناداه الملائكة) بالتذكير والإمالة على المعنى، والباقون بالتاء على التأنيث على اللفظ.
ب. قرأ ابن عامر وحمزة ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بكسر الألف والباقون بفتحها، فأما الأول على الحكاية، والثاني على إعمال المناداة أي نادته بأن قالت.
ج. قرأ حمزة والكسائي ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ بالتخفيف وفتح الياء وضم الشين، والباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين والتشديد، وعن حميد ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ بضم الياء وكسر الشين من أبشر، قال أبو العباس: وفيه ثلاث لغات: بشَّر يُبَشِّر تبشيرًا من باب التفعيل، وبَشَرَهُ يَبْشُرُهُ بشرًا من بصره يبصره، وأبشره إبشارًا.
د. قرأ ابن عامر ﴿الْمِحْرَابَ﴾ بالإمالة، والباقون بالتفخيم.
هـ. قرأ حمزة والكسائي وجماعة ﴿يَحْيَى﴾ بالإمالة لأجل الياء، والباقون بالتفخيم.
15. تذكير الملائكة للمعنى، وتأنيثها للفظ قال الشاعر:
çأَبُوكَ خَليفة وَلَدَتْهُ أُخْرَى... وأنت خليفةٌ ذاك الكَمالُé
فجمع بين التذكير والتأنيث مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وقيل: من ذَكَّرَ فلأن الفعل قبل الاسم، ومن أنَّثَ فلأن الفعل للملائكة، ﴿طَيِّبَةً﴾ صفة للذرية، ﴿مُصَدِّقًا﴾: نصب على الحال، ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ عطف على مصدق.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/225
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الهبة: تمليك الشيء من غير ثمن.
ب. السيد: مأخوذ من سواد الشخص، فقيل: سيد القوم بمعنى مالك السواد الأعظم: وهو الشخص الذي يجب طاعته لمالكه، هذا إذا استعمل مضافا، أو مقيدا، فأما إذا أطلق، فلا ينبغي إلا لله.
ج. الحصور: الممتنع عن الجماع، ومنه قيل للذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة حصور، قال الأخطل:
çوشارب مربح بالكأس نادمني... لا بالحصور، ولا فيها بسوارé
ويقال للذي يكتم سره: حصور.
2. ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، على خلاف ما جرت به العادة ﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾
3. ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أي: طمع في رزق الولد من العاقر، على خلاف مجرى العادة، فسأل ذلك.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿طَيِّبَةً﴾:
أ. قيل: أي: مباركة، عن السدي.
ب. وقيل: صالحة تقية نقية العمل.
5. إنما أنث طيبة وإنما سأل ولدا ذكرا على لفظ الذرية، كما قال الشاعر:
çأبوك خليفة، ولدته أخرى... وأنت خليفة، ذاك الكمالé
6. ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ بمعنى قابل الدعاء، ومجيب له، ومنه قول القائل: سمع الله لمن حمده أي: قبل الله دعاءه، وإنما قيل السامع للقابل المجيب، لأن من كان أهلا أن يسمع منه، فهو أهل أن يقبل منه، ومن لا يعتد بكلامه فكلامه بمنزلة ما لا يسمع.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾:
أ. قيل: ناداه جبرائيل، عن السدي، فعلى هذا يكون المعنى إن النداء أتاه من هذا الجنس، كما يقال: ركب فلان السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، والمراد جاءه النداء من جهة الملائكة.
ب. وقيل: نادته جماعة من الملائكة.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾:
أ. قيل: أي: في المسجد.
ب. وقيل: في محراب المسجد.
9. ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ سماه الله بهذا الاسم قبل مولده واختلف فيه لم سمي بيحيى:
أ. فقيل: لأن الله أحيى به عقر أمه، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إنه تعالى أحياه بالإيمان، عن قتادة.
ج. وقيل: لأنه تعالى أحيى قلبه بالنبوة، ولم يسم قبله أحد يحيى.
10. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: مصدقا بعيسى، وعليه جميع المفسرين وأهل التأويل، إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنه قال: بكتاب الله كما يقولون أنشدت كلمة فلان أي: قصيدته، وإن طالت.
11. إنما سمي المسيح كلمة الله:
أ. قيل: لأنه حصل بكلام الله من غير أب.
ب. وقيل: إنما سمي به لأن الناس يهتدون به، كما يهتدون بكلام الله، كما سمي روح الله، لأن الناس كانوا يحيون به في أديانهم كما يحيون بأرواحهم.
12. كان يحيى أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكلف التصديق به، فكان أول من صدقه، وشهد أنه كلمة الله وروحه، وكان ذلك إحدى معجزات عيسى عليه السلام، وأقوى الأسباب لإظهار أمره، فإن الناس كانوا يقبلون قول يحيى لمعرفتهم بصدقه وزهده.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾:
أ. قيل: في العلم والعبادة، عن قتادة.
ب. وقيل: في الحلم والتقى وحسن الخلق، عن الضحاك.
ج. وقيل: كريما على ربه، عن ابن عباس.
د. وقيل: فقيها عالما، عن سعيد بن المسيب.
هـ. وقيل: مطيعا لربه، عن سعيد بن جبير.
و. وقيل: مطاعا عن الخليل.
ز. وقيل: سيدا للمؤمنين بالرئاسة عليهم عن الجبائي.
ح. والجميع يرجع إلى أصل واحد وهو أنه أهل لتمليكه تدبير من يجب عليه طاعته، لما هو عليه من هذه الأحوال.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾:
أ. قيل: هو الذي لا يأتي النساء، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله، ومعناه أنه يحصر نفسه عن الشهوات أي: يمنعها.
ب. وقيل: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والأباطيل، عن المبرد.
ج. وقيل: هو العنين، عن ابن المسيب والضحاك، وهذا لا يجوز على الأنبياء، لأنه عيب وذم، ولأن الكلام خرج مخرج المدح.
15. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: رسولا شريفا رفيع المنزلة من جملة الأنبياء، لأن الأنبياء كلهم كانوا صالحين.
16. في هذه الآية دلالة على أن زكريا عليه السلام إنما طمع في الولد، لما رأى تلك المعجزات، وهو إن كان عالما بأنه تعالى يقدر على أن يخلق الولد من العاقر، فقد كان يجوز أن لا يفعل في لك لبعض التدبير، فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها، قوي ظنه في أنه يفعل ذلك إذا اقتضته المصلحة، كما أن إبراهيم عليه السلام وإن كان عالما بأنه تعالى يقدر على إحياء الموتى، سأل ذلك مشاهدة، ليتأكد معرفته، وفيها دلالة على أن الولد الصالح نعمة من الله تعالى على العبد، فلذلك بشره به.
17. قراءات ووجوه:
أ. قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: (فناداه الملائكة) على التذكير والإمالة، والباقون ﴿فَنَادَتْهُ﴾ على التأنيث.. من قرأ فنادته بالتاء فلموضع الجماعة، كما تقول هي الرجال، ومن قرأ فناداه فعلى المعنى.
ب. قرأ ابن عامر وحمزة ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بكسر الهمزة، والباقون بفتحها.. من فتح إن: كان المعنى فنادته بأن الله، فحذف الجار، وأوصل الفعل في موضع نصب على قياس قول الخليل في موضع الجر، ومن كسر أضمر القول، كأنه نادته فقالت إن الله، فحذف القول كما حذف في قول من كسر في قوله ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ وإضمار القول كثير.
ج. قرأ حمزة، والكسائي ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ بفتح الياء والتخفيف، والباقون بضم الياء والتشديد.. قال أبو عبيدة يبشرك ويبشرك واحد، وقال الزجاج: هذا من بشر يبشر: إذا فرج، وأصل هذه كله أن بشرة الانسان تنبسط عند السرور.
18. مسائل نحوية:
أ. ﴿هُنَالِكَ﴾: الأصل فيه الطرف من المكان نحو: رأيته هنا وهناك وهنالك، والفرق أن هنا للتقريب، وهنالك للتبعيد، وهناك لما بينهما، قال الزجاج: ويستعمل في الحال كقولك: من هاهنا؟ قلت: كذا أي: من هذا الوجه، وفيه معنى الإشارة كقولك: ذا وذاك، وزيدت اللام لتأكيد التعريف، وكسرت لالتقاء الساكنين، كما كسرت في ذلك.
ب. إنما بني لدن ولم يبن عند، وإن كان بمعناه، لأنه استبهم استبهام الحروف، لأنه لا يقع في جواب أين، كما يقع عند في نحو قولهم: أين زيد، فيقال: عندك، ولا يقال لدنك، وهو قائم جملة في موضع الحال من الهاء في نادته.
ج. ﴿يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ جملة في موضع الحال من الضمير في ﴿قَائِمٌ﴾
د. ﴿مُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال من ﴿يَحْيَى﴾
هـ. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿مِنَ﴾ هاهنا لتبيين الصفة، وليس المراد التبعيض، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لا يكون إلا صالحا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/741.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية المعجبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر، و﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ بمعنى: من عندك، والذرية، تقال للجمع، وتقال للواحد، والمراد بها هاهنا: الواحد، قال الفرّاء: وإنما قال طيّبة، لتأنيث الذريّة، والمراد بالطّيبة: النّقيّة الصالحة، والسّميع: بمعنى السّامع، وقيل: أراد مجيب الدّعاء.
2. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: (فنادته) بالتاء، وقرأ حمزة، والكسائيّ: (فناداه) بألف ممالة، قال أبو عليّ: هو كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾، وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس: (فناداه) بألف، وفي الملائكة قولان:
أ. أحدهما: جبريل وحده، قاله السّدّيّ، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول ركبت في السّفن، وسمعت هذا من الناس.
ب. الثاني: أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطّبريّ.
3. في المحراب قولان:
أ. أحدهما: أنه المسجد
ب. الثاني: أنه قبلة المسجد.
4. في تسمية محراب الصّلاة محرابا، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لانفراد الإمام فيه، وبعده من الناس، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة، وتباعد، ذكره ابن الأنباريّ عن أبيه، عن أحمد بن عبيد.
ب. الثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، وأشرف المسجد مقام الإمام.
ج. الثالث: أنه من الحرب، فالمصلّي محارب للشيطان.
5. ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله، فلمّا حذف الجارّ منها، وصل الفعل إليها، فنصبها، وقرأ ابن عامر، وحمزة، بكسر (إنّ) فأضمر القول، والتقدير: فنادته، فقالت: إن الله يبشّرك، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (يبشّرك) بضم الياء، وفتح الباء، والتشديد في جميع القرآن إلا في (حم عسق): ﴿يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ﴾ فإنهما فتحا الياء وضما الشين، وخففاها، فأمّا نافع، وابن عامر، وعاصم، فشدّدا كلّ القرآن، وقرأ حمزة: (يبشر) خفيفا في كل القرآن، إلا قوله تعالى: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾، وقرأ الكسائيّ (يبشر) مخففة في خمسة مواضع، في (آل عمران) في قصة زكريا، وقصة مريم، وفي بني (إسرائيل) وفي (الكهف) وفي (حم عسق)، قال الزجّاج: وفي (يبشرك) ثلاث لغات: أحدها: يبشّرك بفتح الباء وتشديد الشين.. الثانية: (يبشرك) بإسكان الباء، وضم الشين.. الثالثة: (يبشرك) بضم الياء وإسكان الباء، فمعنى (يبشّرك) بالتشديد و(يبشرك) بضم الياء: البشارة، ومعنى (يبشرك) بفتح الياء: يسرّك ويفرحك، يقال: بشرت الرجل أبشره،: إذا أفرحته، وبشر الرجل يبشر: وأنشد الأخفش والكسائيّ:
çوإذا لقيت الباهشين إلى النّدى...غبرا أكفّهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به...وإذا هم نزلوا بضنك فانزلé
فهذا على بشر يبشر: إذا فرح، وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومنه قولهم: يلقاني ببشر، أي: بوجه منبسط.
6. في معنى تسميته (يحيى) خمسة أقوال:
أ. أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمّه، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، قاله قتادة.
ج. الثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل.
د. الرابع: لأنه حييّ بالعلم والحكمة التي أوتيها، قاله الزجّاج.
هـ. الخامس: لأن الله أحياه بالطاعة، فلم يعص، ولم يهمّ، قاله الحسن بن الفضل.
7. في (الكلمة) قولان:
أ. أحدهما: أنها عيسى، وسمّي كلمة، لأنه بالكلمة كان، وهي (كن) وهذا قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة والسّدّيّ، ومقاتل، وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى.
ب. الثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين، ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة، أي: قصيدة.
8. في معنى السّيد ثمانية أقوال:
أ. أحدها: أنه الكريم على ربّه، قاله ابن عباس، ومجاهد.
ب. الثاني: أنه الحليم التّقيّ، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضّحّاك.
ج. الثالث: أنه الحكيم، قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء وأبو الشّعثاء والرّبيع ومقاتل.
د. الرابع: أنه الفقيه العالم، قاله سعيد بن المسيّب.
هـ. الخامس: أنه التّقي، رواه سالم عن ابن جبير.
و. السادس: أنه الحسن الخلق، رواه أبو روق عن الضّحّاك.
ز. السابع: أنه الشّريف، قاله ابن زيد.
ح. الثامن: أنه الذي يفوق قومه في الخير، قاله الزجّاج.
ط. وقال ابن الأنباريّ: السّيّد هاهنا الرّئيس، والإمام في الخير.
9. الحصور: قال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء، وهو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهنّ، أي: محبوس عنهنّ، وأصل الحصر: الحبس، ومما جاء على (فعول) بمعنى (مفعول): ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب، وهيوب بمعنى مهيب.
10. اختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النّساء؟ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النّساء، فروى عمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (كلّ بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريّا) قال: ثم دلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يده إلى الأرض، فأخذ عودا صغيرا، ثم قال: (وذلك أنّه لم يكن له ما للرّجال إلا مثل هذا العود، ولذاك سمّاه الله سيّدا وحصورا) وقال سعيد بن المسيّب: كان له كالنّواة.
ب. الثاني: أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس والضّحّاك.
ج. الثالث: أنه كان لا يشتهي النساء، قاله الحسن وقتادة والسّدّيّ.
د. الرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماورديّ.
11. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال ابن الأنباريّ: معناه: من الصّالحي الحال عند الله.
__________
(1) زاد المسير: 1/279.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ قولنا: ثم، وهناك، وهنالك، يستعمل في المكان، ولفظة: عند، وحين يستعملان في الزمان، قال تعالى: ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف: 119] وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه، وقال تعالى: {إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] أي في ذلك المكان الضيق، ثم قد يستعمل لفظة ﴿هُنَالِكَ﴾ في الزمان أيضاً، قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ﴾ [الكهف: 44] فهذا إشارة إلى الحال والزمان.
2. قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ يحتمل وجهين:
أ. إن حملناه على المكان فهو جائز، أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه.
ب. وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز، يعني في ذلك الوقت دعا ربه.
3. قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا﴾ يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء، وقد اختلفوا فيه:
أ. الجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين ذكرو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء، ومن فاكهة الشتاء في الصيف، فلما رأى خوارق العادات عندها، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر.. وهو أولى، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلًا خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم، والزوجة العاقر من خوارق العادات، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى.
ب. الثاني: وهو قول المعتزلة، ومن وافقهم من الذين ينكرون كرامات الأولياء، وإرهاصات الأنبياء قالوا: إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك.
4. سؤال وإشكال: إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام، فإن قلنا: إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله تعالى، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك، فلا يبقى لقوله هنالك أثر، والجواب: أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات.
5. سؤال وإشكال: هل يحتاج دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلى الإذن؟ والجواب:
أ. قيل: دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة، فحينئذ تصير دعوته مردودة، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هكذا قاله المتكلمون.
ب. وعندي فيه بحث، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب، وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق.
6. ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ الكلام في لفظة (لدن) سيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره هاهنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى: أريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب.
7. الذرية النسل، وهو لفظ يقع على الواحد، والجمع، والذكر والأنثى، والمراد منه هاهنا: ولد واحد، وهو مثل قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم: 5] قال الفراء: وأنث ﴿طَيِّبَةً﴾ لتأنيث الذرية في الظاهر، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ، وتارة على المعنى، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس، أما في أسماء الأعلام فلا، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة، لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص، فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير.
8. ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم: ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: 4]
9. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ حمزة والكسائي: فناداه الملائكة، على التذكير والإمالة، والباقون على التأنيث على اللفظ، وقيل: من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم، ومن أنث فلأن الفعل للملائكة، وقرأ ابن عامر المحراب بالإمالة، والباقون بالتفخيم، وفي قراءة ابن مسعود: فناداه جبريل.
10. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه، وحملنا هذا اللفظ على التأويل، فإنه يقال: فلان يأكل الأطعمة الطيبة، ويلبس الثياب النفيسة، أي يأكل من هذا الجنس، ويلبس من هذا الجنس، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة، ولم يلبس جميع الأثواب، فكذا هاهنا، ومثله في القرآن ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: 173] وهم نعيم بن مسعود إن الناس: يعني أبا سفيان، قال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلما كان جبريل رئيس الملائكة، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك.
11. {وَهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ} يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم، والمحراب قد ذكرنا معناه.
12. ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾، أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: 25] وفي قوله ﴿يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية، فإذا قيل: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام.
ب. الثاني: أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى.
13. ذكر الله تعالى من صفات يحيى ثلاثة أنواع:
أ. الأولى: قوله ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ قال الواحدي قوله ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ نصب على الحال لأنه نكرة، ويحيى معرفة، وفي المراد ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ قولان:
• الأول: وهو قول أبي عبيدة: أنها كتاب من الله، واستشهد بقولهم: أنشد فلان كلمة، والمراد به القصيدة الطويلة.
• الثاني: وهو اختيار الجمهور: أن المراد من قوله ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ هو عيسى عليه السلام، قال السدي: لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى، فقالت: يا مريم أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ وقال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام.
ب. الصفة الثانية ليحيى عليه السلام قوله: ﴿وَسَيِّدًا﴾، والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً:
• الأول: قال ابن عباس: السيد الحليم.
• وقال الجبائي: إنه كان سيداً للمؤمنين، رئيساً لهم في الدين، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع.
• وقال مجاهد: الكريم على الله.
• وقال ابن المسيب: الفقيه العالم.
• وقال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب.
• قال القاضي: السيد هو المتقدم المرجوع إليه، فلما كان سيداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع.
ج. الصفة الثالثة: قوله: ﴿وَحَصُورًا﴾ والحصور والحصر في اللغة الحبس، يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل: أي اعتقل بطنه، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه، والحصور الضيق البخيل، وأما المفسرون: فلهم قولان:
• أحدهما: أنه كان عاجزا عن إتيان النساء، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.
• الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلًا عن أن يكون حصوراً، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل.
د. الصفة الرابعة: قوله ﴿وَنَبِيًّا﴾
هـ. الصفة الخامسة: قوله ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وفيه ثلاثة أوجه:
• الأول: معناه أنه من أولاد الصالحين.
• الثاني: أنه خير كما يقال في الرجل الخير (إنه من الصالحين)
• الثالث: أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء، بدليل قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ما من نبي إلا وقد عصى، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم)
14. سؤال وإشكال: لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية، وفي قوله ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ﴾ [النساء: 171]؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. الأول: أنه خلق بكلمة الله، وهو قوله ﴿كُنَّ﴾ من غير واسطة الأب، فلما كان تكوينه بمحض قول الله ﴿كُنَّ﴾ وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر، لا جرم سمى: كلمة، كما يسمى المخلوق خلقاً، والمقدور قدرة، والمرجو رجاء، والمشتهي شهوة، وهذا باب مشهور في اللغة.
ب. الثاني: أنه تكلم في الطفولية، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية، فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال: فلان جود وإقبال إذا كان كاملًا فيهما.
ج. الثالث: أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية، فسمى: كلمة، بهذا التأويل، وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح، وقد سمى الله القرآن روحاً فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52]
د. الرابع: أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا: ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال قد جاء قولي وجاء كلامي، أي ما كنت أقول وأتكلم به، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 6] وقال: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 71]
هـ. الخامس: أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: كلمة الله، وروح الله، واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: أنها هي ذات عيسى عليه السلام، ولما كان ذلك باطلًا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل.
15. في السيادة إشارة إلى أمرين:
أ. أحدهما: قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين.
ب. الثاني: ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
16. احتج أصحابنا(2) بقوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾ على أن ترك النكاح أفضل، وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول، أما النص فقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل.
17. سؤال وإشكال: لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح؟ والجواب: أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19] وتحقيق القول فيه: أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/209.
(2) يقصد الشافعية
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ هنالك في موضع نصب، لأنه ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان، وقال المفضل بن سلمة: ﴿هُنَالِكَ﴾ في الزمان و(هناك) في المكان، وقد يجعل هذا مكان هذا.
2. ﴿هَبْ لِي﴾ أعطني، ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ من عندك، ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أي نسلا صالحا، والذرية تكون واحدة وتكون جمعا ذكرا وأنثى، وهو هنا واحد، يدل عليه قوله،﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم] ولم يقل أولياء.
3. إنما أنث ﴿طَيِّبَةً﴾ لتأنيث لفظ الذرية، كقوله:
çأبوك خليفة ولدته أخرى...وأنت خليفة ذاك الكمالé
فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة، وروي من حديث أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أي رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله مثل أجر عملهم ولم ينقص من أجورهم شيئا)
4. ﴿طَيِّبَةً﴾ أي صالحة مباركة، ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي قابله، ومنه: سمع الله لمن حمده.
5. دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد]:
أ. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.
ب. وخرج ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
6. في هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء] وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان]، وقد ترجم البخاري على هذا (باب طلب الولد)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه: (أعرستم الليلة)؟ قال: نعم، قال: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما)، قال فحملت، في البخاري: قال سفيان فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن، وترجم أيضا (باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة) وساق حديث أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: (اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين)، خرجه البخاري ومسلم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم)، أخرجه أبو داوود والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحت على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث) فذكر أو ولد صالح يدعو له)، ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
7. إذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم] وقال: ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾، وقال: ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان]، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لأنس فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه)، خرجه البخاري ومسلم، وحسبك.
8. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ حمزة والكسائي (فناداه) بالألف على التذكير، ويميلانها لأن أصلها الياء، ولأنها رابعة، وبالألف قراءة ابن عباس وابن مسعود، وهو اختيار أبي عبيد، وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان عبد الله يذكر الملائكة في كل القرآن، قال أبو عبيد: نراه اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، قال النحاس: هذا احتجاج لا يحصل منه شي، لأن العرب تقول: قالت الرجال، وقال الرجال، وكذا النساء، وكيف يحتج عليهم بالقرآن، ولو جاز أن يحتج عليهم بالقرآن بهذا لجاز أن يحتجوا بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ ولكن الحجة عليهم في قوله تعالى: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ [الزخرف] أي فلم يشاهدوا، فكيف يقولون إنهم إناث فقد علم أن هذا ظن وهوى، وأما (فناداه) فهو جائز على تذكير الجمع، و(نادته) على تأنيث الجماعة، قال مكي: والملائكة ممن يعقل في التكسير فجرى في التأنيث مجرى ما لا يعقل، تقول: هي الرجال، وهي الجذوع، وهي الجمال، وقالت الأعراب، ويقوي ذلك قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ وقد ذكر في موضع آخر فقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ [الانعام] وهذا إجماع، وقال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد] فتأنيث هذا الجمع وتذكيره حسنان:
أ. وقال السدي: ناداه جبريل وحده، وكذا في قراءة ابن مسعود، وفي التنزيل: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾ يعني جبريل، والروح الوحي، وجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع، وجاء في التنزيل ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران] يعني نعيم بن مسعود، على ما يأتي.
ب. وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الأظهر، أي جاء النداء من قبلهم.
9. ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ﴾ ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ ابتداء وخبر ﴿يُصَلِّي﴾ في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على الحال من المضمر،﴿إِنَّ اللهَ﴾ أي بأن الله، وقرأ حمزة والكسائي ﴿أَنّ﴾ أي قالت إن الله، فالنداء بمعنى القول.
10. ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ بالتشديد قراءة أهل المدينة، وقرأ حمزة ﴿يُبَشِّرُكِ﴾ مخففا، وكذلك حميد بن القيس المكي إلا أنه كسر الشين وضم الياء وخفف الباء، قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد، دليل الأولى هي قراءة الجماعة أن ما في القرآن من هذا من فعل ماض أو أمر فهو بالتثقيل، كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ [الزمر] ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ [يس] ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ [هود] ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ [الحجر]، وأما الثانية وهي قراءة عبد الله بن مسعود فهي من بشر يبشر وهي لغة تهامة، ومنه قول الشاعر:
çبشرت عيالي إذ رأيت صحيفة...أتتك من الحجاج يتلى كتابهاé
وقال آخر:
çوإذا رأيت الباهشين إلى الندى...غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به...وإذا هم نزلوا بضنك فانزلواé
أما الثالثة فهي من أبشر يبشر إبشارا قال:
çيا أم عمرو أبشري بالبشرى...موت ذريع وجراد عظلىé
11. اختلف في قوله تعالى: ﴿بِيَحْيَى﴾:
أ. قيل: كان اسمه في الكتاب الأول حيا، وكان اسم سارة زوجة إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلم يسارة، وتفسيره بالعربية لا تلد، فلما بشرت بإسحاق قيل لها: سارة، سماها بذلك جبريل صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل عليه السلام، فقال: (إن ذلك الحرف زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء اسمه حيي وسمي بيحيى)، ذكره النقاش.
ب. وقال قتادة: سمي بيحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة.
ج. وقال بعضهم: سمي بذلك لأن الله تعالى أحيا به الناس بالهدى.
د. وقال مقاتل: اشتق اسمه من اسم الله تعالى حي فسمي يحيى.
هـ. وقيل: لأنه أحيا به رحم أمه.
12. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ يعني عيسى في قول أكثر المفسرين:
أ. وسمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي ﴿كُن﴾ فكان من غير أب، وقرأ أبو السمال العدوي ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ مكسورة الكاف ساكنة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ.
ب. وقيل: سمي كلمة لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله تعالى.
ج. وقال أبو عبيد: معنى ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ بكتاب من الله، قال: والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة، كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان فقال: لعن الله كلمته، يعني قصيدته.
13. قيل غير هذا من الأقوال، والقول الأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر.
14. ﴿بِيَحْيَى﴾ أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ويقال بستة أشهر، وكانا ابني خالة، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقه، وذكر الطبري أن مريم لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءت أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أني حملت؟ فقالت لها مريم: أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي: فذلك قول ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾، و﴿مُصَدِّقًا﴾ نصب على الحال.
15. ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد: الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله، وأصله سيود يقال: فلان أسود من فلان، أفعل من السيارة، ففيه دلالة على جواز تسمية الإنسان سيدا كما يجوز أن يسمى عزيزا أو كريما، وكذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال لبني قريظة: (قوموا إلى سيدكم)، وفي البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال في الحسن: (إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).. ولا أسود ممن سوده الله تعالى ورسوله:
قال قتادة في قوله تعالى ﴿وَسَيِّدًا﴾ قال: في العلم والعبادة.
ابن جبير والضحاك: في العلم والتقى.
مجاهد: السيد الكريم، ابن زيد: الذي لا يغلبه الغضب.
وقال الزجاج: السيد الذي يفوق أقرانه في كل شي من الخير، وهذا جامع.
وقال الكسائي: السيد من المعز المسن، وفي الحديث (ثني من الضأن خير من السيد المعز)، قال:
çسواء عليه شاة عام دنت له...ليذبحها للضيف أم شاة سيدé
16. ﴿وَحَصُورًا﴾ أصله من الحصر وهو الحبس، حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني، قال ابن ميادة:
çوما هجر ليلى أن تكون تباعدت...عليك ولا أن أحصرتك شغولé
وناقة حصور: ضيقة الإحليل، والحصور الذي لا يأتي النساء كأنه محجم عنهن، كما يقال: رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرج ما يخرجه الندامى، يقال: شرب القوم فحصر عليهم فلان، أي بخل، عن أبي عمرو، قال الأخطل:
çوشارب مربح بالكأس نادمني...لا بالحصور ولا فيها بسوارé
وفي التنزيل: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الاسراء] أي محبسا، والحصير الملك لأنه محجوب، وقال لبيد:
çوقماقم غلب الرقاب كأنهم...جن لدى باب الحصير قيامé
فيحيى عليه السلام حصور، فعول بمعنى مفعول لا يأتي النساء، كأنه ممنوع مما يكون في الرجال، عن ابن مسعود وغيره، وفعول بمعنى مفعول كثير في اللغة، من ذلك حلوب بمعنى محلوبة، قال الشاعر:
çفيها اثنتان وأربعون حلوبة...سودا كخافية الغراب الأسحمé
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَحَصُورًا﴾:
أ. قال ابن مسعود أيضا وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبو الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: هو الذي يكف عن النساء ولا يقربهن مع القدرة، وهذا أصح الأقوال لوجهين:
• أحدهما أنه مدح وثناء عليه، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب.
• الثاني أن فعولا في اللغة من صيغ الفاعلين، كما قال:
çضروب بنصل السيف سوق سمانها...إذا عدموا زادا فإنك عاقرé
فالمعنى أنه يحصر نفسه عن الشهوات، ولعل هذا كان شرعه، فأما شرعنا فالنكاح، كما تقدم.
ب. وقيل: الحصور العنين الذي لا ذكر له يتأتى له به النكاح ولا ينزل، عن ابن عباس أيضا وسعيد ابن المسيب والضحاك، وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى ابن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ـ ثم أهوى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: كان ذكره هكذا مثل هذه القذاة.
ج. وقيل: معناه الحابس نفسه عن معاصي الله تعالى.
18. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال الزجاج: الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه، وإلى الناس حقوقهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/73.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ﴾ ظرف يستعمل للزمان والمكان، وأصله للمكان؛ وقيل: إنه للزمان خاصة، وهناك للمكان، وقيل: يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد، والكاف للخطاب، والمعنى: أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان: أن يهب الله له ذرية طيبة، والذي بعثه على ذلك: ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقرا، فحصل له رجاء الولد، وإن كان كبيرا، وامرأته عاقرا، أو بعثه على ذلك: ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء عند مريم، لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط.
2. الذرية: النسل، يكون للواحد ويكون للجمع، ويدل على أنها هنا للواحد.
3. ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ ولم يقل أولياء، وتأنيث طيبة: لكون لفظ الذرية مؤنثا، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾؛ قيل المراد هنا جبريل، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية، ومنه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾؛ وقيل: ناداه جميع الملائكة، وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة.
4. {وهُوَقائِمٌ} جملة حالية، و﴿يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ صفة لقوله: ﴿قَائِمٌ﴾ أو خبر ثان لقوله: ﴿وَهُوَ﴾، قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ قرئ: بفتح أنّ، والتقدير بأن الله، وقرئ: بكسرها، على تقدير القول، وقرأ أهل المدينة: يبشرك بالتشديد، وقرأ حمزة: بالتخفيف، وقرأ حميد بن قيس المكي بكسر الشين وضم حرف المضارعة، قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيرا في القرآن، ومنه: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ وهي قراءة الجمهور، والثانية: لغة أهل تهامة، وبها قرأ أيضا عبد الله بن مسعود، والثالثة: من أبشر يبشر إبشارا.
5. يحيى: ممتنع، إما لكونه أعجميا، أو لكون فيه وزن الفعل، كيعمر مع العلمية، قال القرطبي حاكيا عن النقاش: (كان اسمه في الكتاب الأول حنا)، والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه: يوحنا؛ قيل سمي بذلك: لأن الله أحياه بالإيمان والنبوّة، وقيل: لأن الله أحيا به الناس بالهدى، والمراد هنا: التبشير بولادته، أي: يبشرك بولادة يحيى.
6. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: بعيسى عليه السلام، وسمي: كلمة الله، لأنه كان بقوله سبحانه: كن؛ وقيل: سمي كلمة الله: لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله، وقال أبو عبيد: معنى ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾: بكتاب من الله، قال والعرب تقول: أنشدني كلمته، أي: قصيدته، كما روي: أن الحويدرة ذكر لحسان فقال: لعن الله كلمته، يعني: قصيدته.
7. السيد: الذي يسود قومه قال الزجاج: السيد: الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير، والحصور: أصله من الحصر، وهو الحبس، يقال: حصرني الشيء وأحصرني، إذا حبسني، ومنه قول الشاعر:
çوما هجر ليلى أن تكون تباعدت...عليك ولا أن أحصرتك شغولé
8. الحصور: الذي لا يأتي النساء، كأنه يحجم عنهن، كما يقال: رجل حصور، وحصير: إذا حبس رفده ولم يخرجه، فيحيى عليه السلام كان حصورا عن إتيان النساء: أي: محصورا لا يأتيهنّ كغيره من الرجال؛ إما لعدم القدرة على ذلك، أو لكونه يكف عنهنّ منعا لنفسه عن الشهوة مع القدرة، وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح، وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه، لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة.
9. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: ناشئا من الصالحين، لكونه من نسل الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين، كما في قوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال الزجاج: الصالح: الذي يؤدي لله ما افترض عليه، وإلى الناس حقوقهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/387.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ كلام مستأنف، وقصة مستقلة، سيقت في تضاعيف حكاية مريم، لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بان اصطفاء آل عمران، فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين، وهنا ظرف مكان، أي في ذلك المكان، حيث هو عند مريم في المحراب، أو ظرف زمان أي في ذلك الوقت، إذ يستعار (هنا وثمت وحيث) للزمان.
2. دعا زكريا عليه السلام ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى، وإن كانت عاقرا عجوزا ـ كذا في أبي السعود ـ
3. الذرية هنا الولد، قال الزمخشريّ: تقع على الواحد والجمع، وقد سبق الكلام عليها قريبا عند قوله تعالى ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ قوله ﴿طَيِّبَةً﴾ بمعنى مطيعة لك، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ﴾ الآية، وقوله تعالى ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي مجيبه، وقد أجابه الحق تعالى، فأرسل إليه الملائكة مبشرة.
4. {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ} أي على ألسنتنا ﴿بِيَحْيَى﴾ وقد قرئ في السبع بكسر إن وفتحها، ولفظ (يحيى) معرّب عن (يوحنا) اسمه في العبرانية، ومعنى يوحنا نعمة الرب، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.
5. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي بنبيّ خلق بكلمة (كن) من غير أب، يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو، وذلك عيسى عليه السلام ﴿وَسَيِّدًا﴾ أي يسود قومه ويفوقهم ﴿وَحَصُورًا﴾ أي لا يقرب النساء حصرا لنفسه أي منعا لها عن الشهوات عفة وزهدا واجتهادا في الطاعة ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي ناشئا منهم لأنه من أصلابهم، أو كائنا من جملتهم، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/314.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ﴾ في هذا المكان المجازيِّ، وهو ثبوت الرزق لها بلا حساب من الجنَّة في غير أوانه، والولد للعجوز؛ أو في المكان الحقيق وهو المحراب إذ دخله؛ أو الزمان فإنَّ (هنا) قد يطلق عليه، تنبَّه ـ بولادة العجوز وثبوت الرزق من الجنَّة وفواكه في غير أوانها ـ إلى أنَّ هذا من جملة الأزمان المفتوحة للخوارق، وإلى أنَّ الولد كالثمرة والنبات، وإلى أنَّ الله يقدر أن يرزق له وهو كبير ولدا من امرأة عاقر كبيرة خرقا للعادة كذلك، وذلك التنبُّه لا يقتضي الغفلة الخارجة عن منصب النبوءة؛ لأنَّه تنبُّهٌ فوق علم، وتنبُّه في حقِّ خصوص نفسه، ولا يعترض قياس الولد من عاقر إلى الثمار باستبعاده الولادة عند التبشير بها؛ لأنَّه نسي هذا القياس باستعظام البشارة، ولأنَّ مَن أحبَّ حصول شيء جدًّا يحبُّ تصوُّره وأحواله ولو عرفها.
2. ﴿دَعَا زَكَرِيَّآءُ رَبَّهُ﴾ كأنَّه قيل: ما دعاؤه؟ فقال الله: ﴿قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ مباركة صالحة عابدة، ﴿اِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾
3. ليس تقديم ﴿هُنَالِكَ﴾ للحصر، بل على طريق الاهتمام برتبة الرزق في غير معتاده، وهذا قابل لأنْ أَخَّر الدعاءَ إلى السحر أو الجمعة أو نحو ذلك، وروي أنَّه اغتسل وصلَّى ودعا جوف اللَّيل، وإن قلنا: ﴿هُنَالِكَ﴾ ذلك المكان الحقيق أو الزمان، قلنا: دعا فيه ودعا بعدُ فلا حصر، أو التقديم للحصر باعتبار دعاء دعا بِه في ذلك غير دعاء آخر أخَّره، وعن الحسن قال: (يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء، وثمار الشتاء في الصيف، هب لي من لدنك ذرِّيَّة طيِّبة)، والذرِّيَّة الطيِّبة مَن يستحقُّ مِن ولدِه إرثَ العلم والنبوءة.
4. سمْعُ الدعاء: إجابته؛ لأنَّها من لازم السمع ومسبَّبه، واختار لفظ ﴿رَبِّ﴾ إشارة إلى آثار التربية المناسبة للولد المطلوب، دعا ثلاثا: هذه، و﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4] و﴿لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ [الأنبياء: 89]، وبين كلِّ واحدة والأخرى زمان، وقيل: بمرَّة، وفرَّق ربِّي ذكرها، ويدلُّ له الفاء في قوله:
5. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَآئِكَةُ﴾ أي: جنسهم الصادق بالواحد الذي هو جبريل المنادي، فلو حَلَفْتَ: (لَتَلبَسَنَّ الثيابَ) لبرَرت بواحدٍ، أي: وصل إليه النداء من جنس الملائكة، لا من جنس آخر، أو سمَّاه ملائكة تعظيما، أو المراد: فناداه بعض الملائكة، أو شبَّه الواحد بالجماعة لجمعه ما لهم من الخصال، أو نادوه كلُّهم، وهو غير محال ولو لم يتعارف، أو جبريلُ بالنطق، وغيرُه بالحضور والرضا، فيكون على هذا من عموم المجاز.
6. ﴿وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّي﴾ نفلا ليدعوَ عقبه، وقيل: يصلِّي: يدعو، ﴿فِي الْمِحْرَابِ﴾ محرابه، وقيل: محراب مريم، وهو ما مرَّ، أو هو المسجد، أو بمعنى أشرف موضع في المسجد، وذكر (قَائِمًا) مع (يُصَلِّي) مبالغة، إذ يكفي ذكر الصلاة؛ لأنَّها في قيام أصالة، ولأنَّ طول القيام أفضل من كثرة الركعات على الصحيح، والجملة حال من المستتر في (قائم)، أو خبر ثان، أو حال ثانية.
7. ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ﴾ لفظ عجميٌّ عبرانيٌّ، وأنت خبير بأنَّ العبريَّ قريب من العربيِّ، فهو مشعر بالحياة ولو كان لا تصرُّف له، وقد قيل: اسمه (حيا) وزاد الله له حرفا من حروف (يسارَّة) زوج إبراهيم، فهي سارَّة وهو يحيى، وقيل: عربيٌّ منقول من المضارع؛ لأنَّ الله أحيى به عقم أمِّه، أو لأنَّ الله أحيى قلبه بالإيمان، أو بالعلم والحكمة اللَّذين يؤتاهما، أو لأنَّ الله يحيي به الناس من الضلال، أو لأنَّ الله سبحانه علم أنَّه يموت شهيدا، والشهداء أحياء عند ربِّهم يرزقون.
8. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ﴾ هي الإنجيل أو التوراة أو كلاهما، تسمية للكلِّ باسم الجزء، وقيل: الكلمة حقيقة في القليل والكثير، أو هي عيسى، وهو أولى لقوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾، سمَّاه كلمةً لأنَّه وُجد بـ (كُنْ) المعبَّر به عن توجُّه الإرادة لَا بِأبٍ؛ فذلك بشارتان: بشارة بيحيى، وبشارة بعيسى عليه السلام ، أو لأنَّه يُهتدَى به كما يُهتدَى بكلام الله تعالى ، أو لأنَّه 8 بشَّر به مريم على لسان جبريل، أو أنَّ الله تعالى أخبر الأنبياء أنَّه سيخلقه بلا أب، وَلَمَّا خلقه قال: (هذه الكلمةُ التي وعدتُ)، ويحيى أوَّل من آمن بعيسى، وهو أكبر من عيسى بستَّة أشهر، قالت أمُّ يحيى لمريم: (أجد ما في بطني يسجد لِمَا في بطنك يخرُّ برأسه إلى جهة بطنك)، وذلك من جملة قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ﴾، وقيل أكبر منه بثلاث سنين؛ وقيل: بخمس سنين، وقيل: ولد بعد رفع عيسى بقليل، وقيل: قتل قبل رفع عيسى، ولا يصحُّ ما قيل من الاتِّفاق أنَّه ولد قبل عيسى، ومريم ولدت عيسى بنت ثلاث عشرة سنة؛ وقيل: بنت عشر، ويقال: بين ولادة يحيى والبشارة بمريم زمان مديد، ولا يلزم ذلك، والدعاء والحكمة يتصوَّران ممَّن يشاء الله ولو طفلا.
9. ﴿وَسَيِّدًا﴾ رئيسًا في العبادة والورع والعلم، وفائقا في أنَّه ما همَّ بسيِّئة، عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وآله وسلم : (كلُّ ابن آدم يلقى الله بذنب يعذِّبه الله به أو يرحمه إِلَّا يحيى بن زكرياء)، رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر، ساد قومه وفاقهم بذلك، والكرمِ وحسنِ الخلق والتُّقى والعلم والرضا بقضاء الله سبحانه، وعدم الحسد وسائرِ صفات الخير.
10. ﴿وَحَصُورًا﴾ مانعا لنفسه من النساء منعا عظيما في نفسه، وكثرته مغالبا لنفسه، أو خِلقةً وطبعا، والأَولى أنَّه قادر عليهنَّ مانع لنفسه، وعدم القدرة عليهنَّ نقص يجب تنزيه الأنبياء عنه، واستدلَّ الشافعيَّة بذلك على فضل العزوبة على التزوُّج، وذلك في تلك الأمَّة، والأصل بقاؤه، والأصل عدم النسخ، ولا سيما مع قوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، وليس كذلك بل نصَّ الحديث عَلَى فضل التزوُّج لهذه الأمَّة، إِلَّا آخر الزمان إذا فسد، قال أبو أُمامة: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : (أربعة لُعنوا في الدنيا والآخرة وأمَّنت الملائكة: رجل جعله الله ذَكرا فأنَّث نفسه، وتشبَّه بالنساء، وامرأة جعلها الله أنثى فتذكَّرت وتشبَّهت بالرجال، والذي يضلُّ الأعمى، ورجل حصور ولم يجعل الله حصورا إِلَّا يحيى بن زكريَّاء)، رواه الطبراني، ويروى مرفوعا: (لَعَن الله تعالى والملائكةُ رجلا تحصَّر بعد يحيى)، وكلا الحديثين صريح في أنَّ (حَصُور) مانع نفسه من النساء وهو قادر؛ فما يذكر أنَّ ذكره كهدبة الثوب أو كنواة أو كالأنملة أو كقذاة إن صحَّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلم كناية عن عدم اشتغاله بنكاح كمن صفته ذلك، وهو عيب، والمقام مقام مدح لا يكفي فيه أنَّه غير عيب فكيف وهو عيب، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلم : (تزوَّجوا فإنِّي مكاثرٌ بكم الأمم)، أو مانعا لنفسه عن غير الطاعة من شهوات ولو مباحة ومن الملاهي، يدعوه الصبيان في صباه للعب فيقول: ما للَّعب خُلقت، رواه ابن عساكر عن معاذ مرفوعا وعبد الرزَّاق عن قتادة موقوفا.
11. ﴿وَنَبِيئًا﴾ مستقلًّا، وليس من أمَّة عيسى؛ أو منها كما دلَّ له: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ﴾ إذا قلنا إنَّها عيسى، كلوط هو من أمَّة إبراهيم نبيء.
12. ﴿مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ من ذرِّيتهم أو من جملتهم، والأوَّل أمدح، والصالح من قام بحقوق الله وحقوق العباد، وقيل: من ترك الصغائر والكبائر، والمراد الصغائر المنفِّرة وإلَّا فقد قال الله تعالى : ﴿لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾ [عبس: 23] إذ لا يخلو أحد من تقصير.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/255.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ معناه أنه عندما رأى زكريا حسن حال مريم ومعرفتها وإضافتها الأشياء إليه دعا ربه متمنيا لو يكون له ولد صالح مثلها هبة من لدنه تعالى ومن محض فضله.
2. فسر بعضهم ﴿هُنَالِكَ﴾ بالزمان قال محمد عبده: وهو ضعيف والاستعمال الفصيح فيها أنها للمكان؛ أي في ذلك المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر، دعا ربه، ورؤية الأولاد النجباء تشوق نفس القارئ وتهيج تمنيه لو يكون له مثلهم، وذهب المفسر الجلال كغيره إلى أن الذي بعث زكريا إلى الدعاء هو رؤية فاكهة الصيف في الشتاء وعكسه، فإن ذلك قبيل مجيء الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر، وليس في الآية ما يدل عليه، وقد يعترض عليه بأن فيه إشعارا بأن زكريا لم يكن قبل ذلك عالما بإمكان الخوارق ولا يقول بهذا مؤمن بنبوته.
3. 4. سؤال وإشكال: إن تعجبه بعد قوله: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ قد يشعر بشيء من ذلك، والجواب: هذا يؤيد امتناع أن تكون رواية الخوارق هي التي أثارت في نفسه هذا الدعاء، قال محمد عبده في معنى هذا الدعاء وهذا التعجب من استجابته أحسن قول، وهاكه بالمعنى مع شيء من التصرف: إن زكريا لما رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها ولا سيما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب، ورؤيتها أن المسخر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه، وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء جديرا بأن يستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب في حال استغراقه في الشعور بكمال الرب، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه، سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة ـ وهي على غير السنة الكونية ـ فأجابه بما أجابه.
5. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ قرأ حمزة والكسائي (فناداه الملائكة) بالتذكير والإمالة، والباقون ﴿فَنَادَتْهُ﴾ بتاء التأنيث، أي جماعة الملائكة، والعرب تؤنث وتذكر المسند إلى جمع الذكور الظاهر لا سيما إذا كان في لفظه تاء كالطلحات، ورسم المصحف يتفق مع القراءتين، لأنه رسم فيه بالياء غير منقوطة هكذا فناده ومن سنته رسم الألف الممالة ياء لأنها منقلبة عنها، وجمهور المفسرين يقولون: إن المراد بالملائكة جبريل ملك الوحي، وقالوا: إن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع تريد به الجنس، قال ابن جرير يقال: خرج فلان على بغال البريد، وإنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال: ممن سمعت هذا الخبر؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل: إن منه الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم والقائل كان فيما ذكروا واحدا، ثم قال بعد ذلك: وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال: إن الله ـ جل ثناؤه ـ أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة دون الواحد وجبريل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني، وبما قلنا في ذلك من التأويل، قال جماعة من أهل العلم منهم قتادة، والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم.
6. ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ الظاهر من معناه المتبادر أنه نودي وهو قائم يدعو بذلك الدعاء الذي ذكر هنا مختصرا، وذكر في سورة مريم بأطول مما هنا، فالصلاة دعاء والدعاء صلاة، وقد عطف فنادته الملائكة على ما قبله بالفاء وحكاية ما قبله صريحة في كون الدعاء وقع في المحراب الذي كانت مريم فيه، فقول الرازي: إن الآية تدل على أن الصلاة مشروعة عندهم غريب جدا، وأي دين لا صلاة فيه ولا دعاء؟
7. ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ أي بولد اسمه يحيى كما في سورة مريم: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ قرأ ابن عامر وحمزة إن بكسر الهمزة لأن النداء قول، والباقون بفتحها على تقدير الباء، أي نادته بأن الله يبشره، وفيه إشعار بأن البشارة محكية بالمعنى لا باللفظ، فما هنا لا ينافي ما في سورة مريم من التفصيل.
8. يحيى تعريب لكلمة يوحنا في لغة بني إسرائيل، وهي من مادة الحياة، فالاسم يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ومن آل يعقوب ما كان فيهم من النبوة والفضل، وقد وصف تعالى هذا المبشر به بعدة صفات وردت حالا منه وهي قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
أ. أما تصديقه بكلمة من الله فهو تصديقه بعيسى الذي يبشر الله به بكلمة منه أو الذي يولد بكلمة الله كن فيكون أي بغير السنة العامة في توالد البشر، وهي أن يولد الولد بين أب وأم، وقال أبو عبيدة: إن المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي؛ لأن الكلمة تطلق على الكلام وإن كان كثيرا، وقيل غير ذلك.
ب. أما السيد: فهو من يسود في قومه بالعلم أو الكرم أو الصلاح وعمل الخير.
ج. والحصور وصف مبالغة من مادة الحصر، ومعناها: الحبس، فهو من يحبس نفسه ويمنعها مما ينافي الفضل والكمال اللائق بها، ويطلق على الكتوم للأسرار وعلى من يمتنع من النساء للعنة أو للعفة، وأكثر المفسرين على أن هذا الأخير هو المراد هنا؛ ولذلك بحثوا في كون ترك التزوج أفضل من فعله أم لا؟ وقال الرازي: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل، ونقول: إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك، وإذا سلمنا أنها تدل عليه فلا نسلم أنها تدل على أن ترك التزوج أفضل مطلقا، وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ولا من محمد خاتم النبيين والمرسلين، وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا، وسبب بقاء الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسمى في علم الله.
د. ومعنى كونه نبيا معروف.
هـ. وأما كونه من الصالحين فمعناه أنه من الأنبياء الصالحين أو من القوم الصالحين وهم أهل بيته.
__________
(1) تفسير المنار: 3/296.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده؛ فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم.
2. ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد، وركب السفن، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس، وأنت إنما سمعته من واحد، ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد.
3. {وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ} أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.
4. ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ أي نادته بهذه البشرى، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ وهو معرب يوحنا، ففي إنجيل متى: إنه يدعى يوحنا المعمدانى، لأنه كان (يعمّد) الناس في زمانه، والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء:
çوسميته يحيى ليحيا فلم يكن...لأمر قضاه الله في الناس من بدّé
فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة.
5. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ لا بالسّنة العامة في توالد البشر، وهى أن يكون الولد من أب وأم، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة، ناشئا من أصلاب قوم صالحين، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم، روى أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/147.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عندئذ تحركت في نفس زكريا، الشيخ الذي لم يوهب ذرية، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية، الرغبة في الذرية، في الامتداد، في الخلف.. الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل، إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها.. وكذلك.. نجدنا أمام حادث غير عادي، يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه؛ ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير! فها هو ذا زكريا الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها.. ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف ـ وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة ـ فيتوجه إلى ربه يناجيه، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟
2. كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ـ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ ـ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}
3. لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء؛ ويملك الإجابة حين يشاء، وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده؛ (يحيى)؛ وصفته معروفة كذلك: سيدا كريما، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات، ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله، ونبيا صالحا في موكب الصالحين.
4. لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا، ثم يحسبون أن مشيئة الله ـ سبحانه ـ مقيدة بهذا القانون! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا ـ لا مطلقا ولا نهائيا ـ فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة.. فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله، وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل! 40 ـ ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه ـ وهل زكريا إلا إنسان على كل حال ـ واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/394.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ﴾ أي هذا المقام الكريم، الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربّه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات.. وفي هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كلّه بأشواق التطلعات إلى السماء، وأحاسيس التداني والقرب.. هنالك استشعر زكريا قربه من ربّه، ودنوه من رحمته، فضرع بين يديه داعيا يطلب الولد، الذي حرمه حتى بلغ من الكبر عتيا، وكانت امرأته ـ مع ذلك ـ عاقرا.
2. كان زكريا فيما شهد من أفضال الله على (مريم) أمام معجزات خارقات لمألوف الحياة، وما يخضع له الناس من سننها، فاهتبلها فرصة يأخذ فيها بنصيبه من هواطل غيوث رحمة الله، فطلب هذا المطلب الجاري على غير المألوف! وقد استجاب الله لزكريا ما طلب، فوهب له (يحيى) مصدقا بكلمة من الله، وسيّدا، وحصورا، ونبيا، من الصالحين.
3. من هذا نعلم أنه يقدر ما يكون في كيان الإنسان من إيمان بالله، وثقة به، وطمع في رحمته، بقدر ما يكون حظه من القبول والاستجابة لما يدعو به ربه، ومن هنا كان للحال الذي يشتمل على الإنسان الأثر الأول في قبوله واستجابة دعائه، وإن الذي يدعو وهو منقطع الصلة بالله، أو هو خامد الشعور بقدرة الله، أو متشكك في سماع الله لما يدعو به، وإجابته له ـ إن مثل هذا قلّ أن يستجاب له، أما من يدعو وهو على يقين من أن الله قريب منه، مطلع على سرّه ونجواه، وأن بيده الخير كله، وأنه على كل شيء قدير ـ إن من يدعو وهو على تلك الحال، فهو في معرض القبول والإجابة لا محالة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)
4. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ كلمة الله هنا هي المسيح عيسى ابن مريم، وبهذه الكلمة بشّر الله مريم، فقال تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وذلك في الآيات التالية بعد هذه الآية.. وقد كان يحيى ـ عليه السّلام ـ هو الذي عمّد عيسى، وهو الذي بشّر به، وصدّق برسالته، كما تحدث بذلك الأناجيل.
5. ﴿وَسَيِّدًا﴾ أي سيّدا على نفسه، متحكما في شهواته؛ غالبا لها، ﴿وَحَصُورًا﴾ أي مجانبا الشهوات، حتى لكأنه عاجز عن إتيانها لضعف أو مرض، وما به ضعف أو مرض، ولكن قوة روحه قهرت نداء شهواته، ودعوة جسده.
6. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ هل يعني في الأنبياء صالح وغير صالح، أم أن الأنبياء جميعا من الصالحين؟ والجواب: لا شك أن الأنبياء جميعا من الصالحين، لأنهم صفوة خلق الله، وقد اختارهم الله، واصطفاهم للسفارة بينه وبين عباده، وليس يختار لهذه المهمة الكريمة إلا أكرم الخلق، وأفضل الناس في كل أمة يبعث فيها رسول، فكلمة (نبيّ) تحمل معها كل معانى الحياة للصلاح والتقوى! أما الحكمة في وصف النبيّ بالصلاح هنا، فهي أن وصف النبوة الذي وصف به يحيى فيما وصف به من صفات، هو وصف شرفىّ، لشرف الوظيفة التي هي النبوة، وهى مع هذا لا نستغنى عن الأوصاف الشخصية التي تكون للنبيّ، قبل النبوة، ومع النبوة، والصّلاح على إطلاقه هو أكمل صفة وأتمها يمكن أن يظفر بها إنسان حتى الأنبياء.. فهي الكمال الإنسانىّ في أعلى مراتبه وأشرف منازله، ولهذا كان من دعوات الأنبياء عليهم السلام أن يكونوا من عباد الله الصالحين كما قال الله تعالى على لسان سليمان: ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى على لسان إبراهيم، وهو يطلب الولد الصالح: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وقال سبحانه في وصف عيسى عليه السّلام: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، ومعنى هذا أن الصلاح صفة ملازمة له، قبل النبوة ومع النبوّة، فلو لم يكن نبيّا من الأنبياء لكان صالحا من عباد الله الصالحين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/439.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي في المكان، قبل أن يخرج، وقد نبّهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم: ﴿إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37] والحكمة ضالة المؤمن، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عنه في سورة مريم، وأيضا فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضا إلهيا، ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلّا كالذوات الصالحة في أنها محالّ تجلّيات رضا الله.
2. سأل الذرية الطيّبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة، ومشاهدة خوارق العادات خوّلت لزكرياء الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنّه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله على نحو ما قرّره القرافي في الفرق بين ما يجوز من الدعاء وما لا يجوز، وسميع هنا معنى مجيب.
3. الفاء في قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ للتعقيب أي استجيبت دعوته للوقت، وقوله: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ جملة حالية والمقصود من ذكرها بيان سرعة إجابته؛ لأنّ دعاءه كان في صلاته، ومقتضى قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ﴾ والتفريع عليه بقوله: فنادته أنّ المحراب محراب مريم، وقرأ الجمهور: فنادته ـ بتاء تأنيث ـ لكون الملائكة جمعا، وإسناد الفعل للجمع يجوز فيه التأنيث على تأويله بالجماعة أي نادته جماعة من الملائكة، ويجوز أن يكون الذي ناداه ملكا واحدا وهو جبريل وقد ثبت التصريح بهذا في إنجيل لوقا، فيكون إسناد النداء إلى الملائكة من قبيل إسناد فعل الواحد إلى قبيلته كقولهم: قتلت بكر كليبا.
4. معنى ﴿يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ يبشرك بمولود يسمّى يحيى فعلم أن يحيى اسم لا فعل بقرينة دخول الباء عليه وذكر في سورة مريم [7]: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾، ويحيى معرّب يوحنا بالعبرانية فهو عجمي لا محالة نطق به العرب على زنة المضارع من حيي وهو غير منصرف للعجمة أو لوزن الفعل، وقتل يحيى في كهولته عليه السلام بأمر (هيرودس) قبل رفع المسيح بمدة قليلة.
5. ضمت إلى بشارته بالابن بشارة بطيبه كما رجا زكرياء، فقيل له ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، فمصدّقا حال من يحيى أي كامل التوفيق لا يتردّد في كلمة تأتي من عند الله، وقد أجمل هذا الخبر لزكرياء ليعلم أنّ حادثا عظيما سيقع يكون ابنه فيه مصدّقا برسول يجيء وهو عيسى عليهما السلام.
6. وصف عيسى كلمة من الله لأنّ خلق بمجرد أمر التكوين الإلهي المعبر عنه بكلمة (كن) أي كان تكوينه غير معتاد وسيجيء عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45]، والكلمة على هذا إشارة إلى مجيء عيسى عليه السلام، ولا شكّ أنّ تصديق الرسول، ومعرفة كونه صادقا بدون تردّد، هدى عظيم من الله لدلالته على صدق التأمل السريع لمعرفة الحق، وقد فاز بهذا الوصف يحيى في الأولين، وخديجة وأبو بكر في الآخرين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33]، وقيل: الكلمة هنا التوراة، وأطلق عليها الكلمة لأنّ الكلمة تطلق على الكلام، وأنّ الكلمة هي التوراة.
7. السيد فيعل من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل، فالسؤدد عند العرب في الجاهلية يعتمد كفاية مهمّات القبيلة والبذل لها وإتعاب النفس لراحة الناس قال الهذلي:
çوإنّ سيادة الأقوام فاعلم...لها صعداء مطلبها طويل
أترجو أن تسود ولن تعنّى...وكيف يسود ذو الدعة البخيلé
وكان السؤدد عندهم يعتمد خلال مرجعها إلى إرضاء الناس على أشرف الوجوه، وملاكه بذل الندى، وكفّ الأذى، واحتمال العظائم، وأصالة الرأي، وفصاحة اللسان، والسيّد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا وفي الحديث (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر) وفيه (إنّ ابني هذا سيّد) ـ يعني الحسن بن علي ـ فقد كان الحسن جامعا خصال السؤدد الشرعي.
8. وصف الله يحيى بالسيّد لتحصيله الرئاسة الدينية فيه من صباه، فنشأ محترما من جميع قومه قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً﴾ [مريم: 12، 13]، وقد قيل السيّد هنا الحليم التقيّ معا: قاله قتادة، والضحاك، وابن عباس، وعكرمة، وقيل الحليم فقط: قاله ابن جبير، وقيل السيّد هنا الشريف: قاله جابر بن زيد، وقيل السيّد هنا العالم: قاله ابن المسيّب، وقتادة أيضا.
9. عطف سيّدا على مصدّقا، وعطف حصورا وما بعده عليه، يؤذن بأنّ المراد به غير العليم، ولا التقي، وغير ذلك محتمل، والحصور فعول بمعنى مفعول مثل رسول أي حصور عن قربان النساء، وذكر هذه الصفة في أثناء صفات المدح إمّا أن يكون مدحا له، لما تستلزمه هذه الصفة من البعد عن الشهوات المحرّمة، بأصل الخلقة، ولعلّ ذلك لمراعاة براءته ممّا يلصقه أهل البهتان ببعض أهل الزهد من التهم، وقد كان اليهود في عصره في أشدّ البهتان والاختلاق، وإمّا ألّا يكون المقصود بذكر هذه الصفة مدحا له لأنّ من هو أفضل من يحيى من الأنبياء والرسل كانوا مستكملين المقدرة على قربان النّساء فتعيّن أن يكون ذكر هذه الصفة ليحيى إعلاما لزكرياء بأنّ الله وهبه ولدا إجابة لدعوته، إذ قال ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي﴾ [مريم: 5، 6] وأنّه قد أتمّ مراده تعالى من انقطاع عقب زكرياء لحكمة علمها، وذلك إظهار لكرامة زكرياء عند الله تعالى، ووسطت هذه الصفة بين صفات الكمال تأنيسا لزكرياء وتخفيفا من وحشته لانقطاع نسله بعد يحيى.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/91.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم، وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى، وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام، وإنها تتجه نحو خوارق العادات أكثر من ولادة مريم وحالها، فالقصص الأربع تتدرج في خوارق العادات، تبتدئ بالقريب من المألوف ثم تنته بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل، وانتهينا في قصة مريم البتول إلى أن نبيّ الله زكريا كفلها، وأنها تربت منذ صغرها في المسجد، بيت الله المقدس، وأن الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة، فملأ قلبها إيمانا وروحانية، وغذاها بلبان المعرفة، وبغذاء مادى طيب.
2. لقد كان زكريا، ومريم تدرج في مدارج الصبا، شيخا هرما يئس من الولاد، ولكنه عندما رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى، ورآها ترزق بغير حساب، ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا، حنّ إلى إلى الولد حنينا، ورغب في الذرية، وكان بين حالين متناقضتين: حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شيء، وحال الكبر الذي أصابه، والشيخوخة الفانية التي هو فيها؛ ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها،؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته.
3. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس، ولذا قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقى فيه بمريم الفينة بعد الفينة، ويسائلها فيه، وتتكلم بلسان البر والتقوى، تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس، فدعا ربه، والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شيء، إذ هو ربه الذي ذرأه ونماه صغيرا، حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا، فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شيء على غير مثال سبق.
4. قال ﴿رَبَّ﴾ أى خالقى الذي خلقنى، وخلق كل شيء من طين، وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ أي أعطني أنت عطاء كريما لا سبب له إلا إرادتك، ولا باعث عليه إلا رحمتك، فلا يكون الأمر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة، والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك.
5. ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ أي من عندك؛ أي السبب يكون من عندك لا من عندي لأن الأسباب عندي قد زالت، ولم يعد إلا سبب منك، وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطى من غير أي علة أو ترتيب، والتعبير ب ﴿لَدُنْكَ﴾ التي لا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية، لا العندية القريبة المقارنة، ولا العندية المقاربة.
6. دعاء نبيّ الله أن يهب له ذرية طيبة، فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى أنه يطلب ذرية طيبة، والذرية قد بينا معناها من قبل، والطيبة: هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات أثر طيب؛ لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لا ينتج إلا خيرا، ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف]
7. بعد أن ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله: ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي إنك تعلم بدعائى علم من يسمع، وإن الأمر إليك إذ علمته وسمعته؛ فإن أجبت فبرحمتك، وإن لم تجب فبحكمتك، فأنت العليم الحكيم، والرحمن الرحيم، والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة.
8. في هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا أم كان خفيا، وفي سورة مريم بين حاله، وبين نوع ما يطلب من الذرية، فقال سبحانه: ﴿كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم]
9. في هذا النص الكريم يتبين أنه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية، وكون امرأته عاقرا لا تلد، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء، فدعا ذلك الدعاء، وضرع إلى الله تعالى تلك الضراعة، وقد أجاب الله تعالى دعاءه فور طلبه؛ ولذا قال سبحانه: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى} والتعبير ب (الفاء) يفيد أن النداء كان في زمن قريب من الدعاء.
10. سؤال وإشكال: في النداء ونسبته إلى الملائكة، فهل خاطبه بهذا عدد منهم؟ والجواب: لقد أجاب المفسرون عن ذلك بجوابين:
أ. أحدهما: أن الذي ناداه هو جبريل الذي ينزل بالوحى على النبيين، ولقد قال في ذلك التفسير ابن جرير الطبري (يقال خرج فلان على بغال البريد، وإنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال: ممن سمعت هذا؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل إن منه ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ [آل عمران] والقائل فيما ذكروا كان واحدا)، هذا توجيه من قال إن المراد جبريل، وفي ذكر الملائكة بالجمع إشارة إلى الجنس، أي أن الله سبحانه كان من رحمته به أن أجاب دعاءه، وسارع بتبشيره بإجابته، وكانت الإجابة بملائكته، وإن كان المبلغ واحدا.
ب. الثاني: هو أن المراد الجمع من الملائكة؛ لأن من كمال عناية الله تعالى بعباده أن ألقى إليه بالبشرى عدد كبير من الملائكة لا واحد منهم، وهذا ما رجحه ابن جرير؛ ولذا قال (والصواب من القول في تأويله أن يقال إن الله جل ثناؤه، أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة الملائكة دون الواحد، وجبريل واحد، فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفى من الكلام والمعاني) ولا شك أن العدد فيه مبالغة بالتبشير، وكأن حال هذا النبيّ الكريم في يأسه من الولد لشيخوخته الفانية وكون امرأته عاقرا وعجوزا، كان يحتاج فيها إلى عدد من المبشرين ليزول من نفسه كل يأس، ويحل محله الرجاء.
11. النداء الذي وجهته الملائكة كان وهو قائم يصلى في المحراب، فهو في وقت مواجهته لربه، ومناجاته لخالقه، وإنه بابتداء القول بالفاء الدالة على التعقيب من غير تراخ، وكون خطاب زكريا لمريم كان وهو في المحراب، وأن الدعاء كان وهو في المحراب، يتبين أن إجابة الدعاء كانت فور الدعاء، فهو قد ضرع إلى الله خالص النية، طاهر النفس والحس فأجاب الله دعاءه على سنته في إجابة المهديين من خلقه دعاءهم، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر]
12. في قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ اقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى أن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء، إذ قال كما في سورة مريم ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم]، وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا، فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه؛ ولذا قال سبحانه في وصفه: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وصفه الله سبحانه وتعالى بصفات أربع كلها بجعل من الله وتكوينه وخلقه:
أ. أولى هذه الأوصاف: أنه كان مصدقا بكلمة من الله، وتصديقه بكلمة من الله اختلف المفسرون في تحرير معناها، لاختلافهم في معنى: (كلمة)، فمنهم من اتجه إلى أن كلمة الله هو المسيح عيسى بن مريم، ما قال تعالى من بعد ذلك لمريم: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران] ويكون المدح في يحيى حينئذ بأنه صدق عيسى وأذعن للحق إذ تبين له، فلم يكن من المعاندين الذين يجحدون بآيات الله تعالى، ويكفرون ببيناته، وسمى عيسى {كلمة من الله} من الله؛ لأنه نشأ بكلمة منه سبحانه، ومن المفسرين من قال إن المراد من كلمة الله تعالى كتابه؛ وذلك لأنه تطلق الكلمة ويراد منها الكلام، وذلك من هذا القبيل، والظاهر عندي هو الأول؛ لأنه في هذا المقام ذكرت كلمة الله على أنها المسيح عليه السلام، والاسم المكرر في مقام واحد تكون فيه وحدة المقام دليلا على وحدة المسمى، وكان في هذا التعبير إيذان بأن ولادة المسيح ستكون قريبا من ولادة يحيى وفيه إيماء إلى أن زكريا نبيّ الله قد أوتى علما بأن المسيح عهده قريب.
ب. الوصف الثاني من أوصاف يحيى: أنه سيد، والسيد فيعل من السيادة، وهى الشرف والتفوق والعلو، وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها، ويضبطها ويأخذ بعنانها، فلا تذل، ولا تتكبر ولا تجمح، ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور، والاستغناء عما في أيدى الناس حتى يفوق الناس، وإنه يروى أن أعرابيا مر بالبصرة، فسأل من سيد هذا المصر؟ فقيل له: الحسن البصرى فقال: وبم ساده؟ قيل استغنى عما في أيدى الناس، واحتاج الناس إلى ما في يده، فقال: ذلك هو السيد حقا، فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معانى السؤدد ومكارم الأخلاق.
ج. الوصف الثالث: أنه حصور، وأصل الحصر معناه الحبس، والمراد أنه حبس نفسه عن الشهوات، حتى لقد روى أنه امتنع عن النساء زهادة واستعفافا، واتجاها إلى الروحانية، وقيل إنه كان لا يأتي النساء عجزا، وذلك غير صحيح، والحق أنه إن كان قد امتنع عن النساء فعن قدرة واختيار لا عن عجز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى ساق ذلك الوصف في مقام المدح والثناء، ولا يتحقق معنى المدح والثناء إلا إذا كان فيه اختيار، ولم يكن عجزا وجبرا، ولأن (حصور) صيغة مبالغة لحاصر، أي أنه يبالغ في منع نفسه من الشهوات، وليس في النص ما يدل على أنه امتنع عن النساء بخاصة، بل النص يدل على أنه حبس نفسه عن الشهوات، وقدعها عن أهوائها.
د. الوصف الرابع: أنه نبيّ من الصالحين، وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا؛ فإن الأوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه، ولكن الله سبحانه وتعالى منّ عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى موطن النبوة، وموضع اختيارها، والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه وتعالى لا يختارهم إلا من الصالحين، فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة، ويعصمهم عن المعاصي بعدها.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1202.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾، سبق القول: ان زكريا كان زوجا لخالة مريم ام عيسى، وانه هو الذي كفلها، ولم يكن لزكريا ولد، وحين رأى صلاح مريم، وما أجرى الله على بدها من الكرامات تحركت في نفسه عاطفة الأبوة، وحب الذرية، فاتجه إلى الله يدعو ويتضرع اليه أن يحقق رغبته؛ واستجاب الله سبحانه لدعوته: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}
2. يحيى اسم سماه الله به قبل أن يولد، ولم يجعل له من قبل سميا ـ كما في الآية 7 من سورة مريم ـ وعلى هذا فلا وجه للبحث ان هذا الاسم هل هو عبري أو عربي، كما في بعض التفاسير.. أجل، له مصدر في اللغة، وهو الحياة، ويتناسب اسمه مع احياء الله سبحانه لعقر أمه.
3. ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾، قيل: ان كلمة الله اشارة إلى عيسى الذي خلقه الله بكلمة (كن) من غير أب.. ولكن عموم كلمة الله يرجح الحمل على جميع آياته وأحكامه، وقال صاحب مجمع البيان: كان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وهو أول من صدقه، وشهد بأن مولده معجزة من الله، وكان ذلك أقوى الأسباب لإظهار أمر عيسى، لأن الناس كانوا يثقون بيحيى، ويقبلون منه ما يقول.
4. ﴿وَسَيِّدًا﴾ في العلم والدين ومكارم الأخلاق ﴿وَحَصُورًا﴾ يملك زمام نفسه ويمنعها عن الذنوب، وقيل عن إتيان النساء ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وكل الأنبياء صالحون، بل معصومون، والعصمة فوق العدل والصلاح، وعليه يتعين أن يكون قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ اشارة إلى أن زكريا تحدّر من أصلاب طاهرة، وأرحام مطهرة.. ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية: ان جميع آباء الأنبياء يجب أن يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر.
5. من الطريف قول بعضهم ـ كما في تفسير الرازي ـ ان من الصالحين اشارة إلى (ان ما من نبي إلا وقد عصى، أو همّ بمعصية غير يحيى فلم يعص، ولم يهم)، وبالاضافة إلى أن في هذا القول مسا بمقام محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فإنه يتنافى وحكم العقل، لأن النبي انما أرسل لدفع المعاصي، فإن عصى احتاج إلى نبي، بداهة ان القذارة لا تزال بمثلها.. تعالى الله وأنبياؤه عما يقول الجاهلون.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/52.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ الآية، طيب الشيء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك، قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾، والعيشة الطيبة والحياة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والأمنية فقول زكريا عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا وكرامة، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها، ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله، ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليه السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى وأمه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنها عيسى عليه السلام على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
2. {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى} إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا، والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده، وقوله: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم، قال تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾
3. تسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا: أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولدا يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليه السلام آية واحدة كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليه السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.
4. إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ إلى أن قال ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾، وقال في عيسى عليه السلام: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ إلى أن قال: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ ـ إلى أن قال ـ: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾، ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.
5. بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدقا بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى﴾ وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى، وعده حنانا من لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، وسلم عليه في المواطن الثلاث كعيسى وعده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده، وجعله حصورا ونبيا ومن الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة ووليا رضيا عندما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه.
6. في قوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم، والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حيوتهم ومعاشهم أو فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى، والحصور هو الذي لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهدا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/176.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ ﴿هُنَالِكَ﴾ إشارة إلى المكان الذي سألها فيه، وهو يشير إلى أن زكريا لما رأى صلاحها دعا ربه الذي أنبتها نباتاً حسناً وجعلها من الصالحين أن يهب له ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ والطيبة: ضد الخبيثة، ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ تجيب الدعاء، أو لا يخفى عليك دعائي، أي دعوتك لأنك سميع الدعاء وأرجوك الإجابة.
2. {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَقَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} النداء في اللغة: قول رفيع، يسمع من بعيد كالنداء للصلاة، والمراد بـ ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ الذين أرسلهم الله إلى زكريا لتبليغه البشارة، والوعد من الله تعالى وتبليغهم كلام الله {وَهُوَقَائِمٌ يُصَلِّي} لا يشغله عن الصلاة كسماع القرآن، لأنه في سماعه لكلام الله متّجه إليه.
3. ﴿بِيَحْيَى﴾ بولد سماه الله يحيى ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ كلمة مبهمة يكون التصديق بها واجباً وفضيلة ليحيى، والكلمة (عيسى) الذي خلقه بدون أب، كقوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ [النساء:171] ولعله سمي (كلمة) لأن الله وعدها به وكان كما وعدها، أو لأن الله أوجده بقوله: ﴿كُنَّ﴾ لا بواسطة أب، فتسمية ذلك كلمة مجاز في الأصل، ولعل هذا معنى ما حكاه الشرفي في (المصابيح) عن الإمام الهادي عليه السلام، وصار حقيقة في عيسى.
4. ﴿وَسَيِّدًا﴾ معطوفاً على ﴿مُصَدِّقًا﴾ أي يسود قومه، وفي ذلك تطمين له من خوفه من الموالي بأن ابنه يسودهم فلا يكون لهم أمر ما دام ﴿وَحَصُورًا﴾ معطوف كذلك على ﴿مُصَدِّقًا﴾ فهو من صفات يحيى، ﴿وَحَصُورًا﴾ كثير الحصر لنفسه عن هواها، ولعل من ذلك الرهبانية يرعاها حق رعايتها، قال الشرفي في (المصابيح): قال الإمام المرتضى عليه السلام: ﴿وَحَصُورًا﴾ وهو الذي حصر نفسه عن النساء، فكان ـ صلى الله عليه ـ هو الذي حصر نفسه عن ذلك وقد يُروَى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا حصر بعد يحيى، ولا سياحة بعد عيسى، من رغب عن سنتي فليس مني، عليكم بالمساجد)
5. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عطف على ﴿مُصَدِّقًا﴾ وفي ذلك بشارة لزكريا بابنه يحيى جامعاً للصفات المذكورة قبل موت زكريا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/458.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت هذه الكرامة العجائبية التي حدثت لمريم في بيت زكريا دليلا واضحا على أن الله يرعاها بعنايته وبرحمته، فهذه أجواء الرحمة تطوف في البيت، والفرصة سانحة أمام الحاجة الملحّة التي كان يعانيها زكريا، ويريد أن يدعو الله فيها، ولكنه ـ في ما يبدو ـ لا يجد الأمل الكبير باستجابة الدعاء، وهي الذريّة الطيّبة.
2. ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ وهو يشعر أن الإجابة قريبة منه لتحقق له حلمه الكبير الذي يكفل له الامتداد الذاتي والرسالي في خط الحياة الطويل، فإن الولد يمثل امتداد الظل لأبيه، وكان يفكر ـ كما فكرت امرأة عمران ـ بالذرية الطيبة التي تملأ الحياة خيرا وبركة وهدى ونورا ومحبة وسلاما ولم يفكر كما يفكر كثير من الناس بالذريّة التي تمثل حاجة ذاتية تملأ فراغ الإنسان العاطفي وتحقق له زهو الامتداد والكثرة من دون هدف كبير على مستوى الحياة، ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.. واستجاب الله له دعاءه كأفضل ما تكون الاستجابة، وأراد أن يبشّره بذلك في جوّ من الإعزاز والتكريم، فأرسل إليه الملائكة لتزفّ إليه البشارة بالوليد المنتظر الذي أراد الله له أن يكون في المستوى العظيم في الطهارة والنقاوة الرساليّة والروحيّة المتحركة في خط النبوة.
3. {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} إنّ البشارة تتحدث عن الحلم المنتظر كما تتحدث عن الواقع الحيّ، إنها تعيّن له اسمه وصفته المميزة، التي جعلها الله (سمة) للأنبياء، فقد جاء مصدّقا لما أنزل الله من رسالات، ولما أرسل من رسل، وتلك صفة لا يوصف بها إلّا الذين يريد الله لهم أن يكملوا الطريق التي بدأها الآخرون من قبله، من الأنبياء الذين شقّوا للناس طريق الحق المستقيم.
4. ﴿وَسَيِّدًا﴾ لنفسه كما هو شأن عباد الله الذين يحكمون أنفسهم من خلال إيمانهم ويسيطرون على شهواتهم من خلال عقولهم ويسودون الناس في نطاق مبادئهم الحقّة، ولا يخضعون لأية سلطة غير سلطة الله في ما يريد وفي ما لا يريد، فهم أحرار أمام أنفسهم وأمام الآخرين، يملكون كلمة الرفض من موقع القناعة ويملكون كلمة القبول من موقع الاختيار، وعبيد أمام الله الواحد لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
5. ﴿وَحَصُورًا﴾ حصر شهواته، فلا يدعها تتحرك في نطاق الإشباع والارتواء، وكان ذلك من القيم الكبيرة في ذلك الوقت لما يدلّ عليه من الطاقة الروحية العظيمة التي تدفع الإرادة إلى الصلابة والتضحية ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين أراد الله لهم أن يتقبلوا وحيه بأرواحهم ويحملوها للناس رسالة وهدى وإيمانا.
6. وقد أكد الله له في هذه البشارة، أن ذلك قد كان بكلمة منه، والكلمة تعني القدرة التي لا تحتاج في تعلقها بالأشياء إلى أسباب مألوفة مما تعارف عند الناس من أسباب.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/353.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قلنا إنّ زوجة زكريّا وأمّ مريم كانتا أختين، وكانتا عاقرين، وعند ما رزقت أمّ مريم بلطف من الله هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضا ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده، وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته، وبعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلا، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملا بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الأبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾
2. لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا، {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَقائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ}، وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له: إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى: بل إنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات:
أ. سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ و(كلمة الله) هنا وفي مواضع أخرى من القرآن سيرد شرحها ـ تعني المسيح عليه السّلام ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به، وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.
ب. سيكون من حيث العلم والعمل قائدا للناس ﴿وَسَيِّدًا﴾، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا
ج. ﴿وَحَصُورًا﴾، و(الحصور) من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين، كما أشير إليه في بعض الأحاديث.
د. ومن مميّزاته أيضا أنّه سيكون (نبيا) (وجاءت هذه الكلمة بصيغة النكرة لدلالة على العظمة)
هـ. وأنّه من الصالحين.
3. سؤال وإشكال: إذا كان (الحصر) هو العزوف عن الزواج، فهل هذا محمدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى؟ والجواب:
أ. ليس هناك ما يدلّ على أنّ (الحصر) المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقا به من حيث أسانيده، فلا يستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا، وفي صفات الزاهدين.
ب. من المحتمل أن يكون يحيى ـ مثل عيسى ـ قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطرّ إلى حياة العزوبة، وهذا لا يمكن أن يكون قانونا عامّا للناس، فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوّث، إنّ قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه، وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الأخرى.
4. (يحيى) من الحياة وتعني البقاء حيّا، وقد اختيرت هذه الكلمة اسما لهذا النبيّ العظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والارتباط بالله، هذا الاسم قد اختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في الآية 7 من سورة مريم: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ ومن هذا يتبيّن أيضا أنّ أحدا لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.
5. قلنا فيما سبق أنّ زكريّا طلب من ربّه الذرّية بعد أن شاهد ما نالته مريم من عطاء معنوي سريع، وعلى أثر ذلك وهب الله له ولدا شبيها بعيسى بن مريم في كثير من الصفات: في النبوّة وهما صغيران، وفي معنى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيّا)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث: الولادة، والموت، والحشر وجهات أخرى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/485.
23. زكريا والآية الدالة على البشارة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈23⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: 40 ـ 41]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: صاحبكم صلّى الله عليه وآله وسلم خامس خمسة مبشر بهم قبل أن يكونوا: إسحاق ويعقوب، قول الله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١]، ويحيى، قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا﴾، وعيسى ابن مريم: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قول عيسى عليه السلام: ﴿يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦]، فهؤلاء أخبر بهم من قبل أن يكونوا(1).
2. روي أنّه قال(2): خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا(3)
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٣/٣٩٣.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم
(3) الطبراني في الكبير: ١٠/٢٢٤
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سمي: يحيى؛ لأن الله أحيا به عقر أمه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ عيسى ابن مريم، والكلمة يعني: تكون بكلمة من الله(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ عيسى ابن مريم هو الكلمة من الله، اسمه المسيح(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ حليما تقيا(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد: الحليم(4).
6. روي أنّه قال: لما رأى ذلك زكريا ـ يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف عند مريم ـ قال إن الذي يأتي بهذا مريم في غير زمانه قادر أن يرزقني ولدا، فذلك حين دعا ربه(5).
7. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ كان عيسى ويحيى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى؛ سجوده في بطن أمه، وهو أول من صدق بعيسى، وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى(2).
8. روي أنّه قال: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة(6).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٦٢.
(2) ابن جرير: ٥/٣٧٢.
(3) ابن جرير: ٥/٣٧٦.
(4) عبد الرزاق: ١/١٢٠.
(5) ابن جرير: ٥/٣٦١.
(6) تفسير البغوي: ٢/٣٥.
البكالي:
روي عن نوف البكالي (ت 90 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ كان يزورها، وكانت فتاة تنزل في بيت قومها، فكانت تقدم إليها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فقال: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فهنالك دعا زكريا ربه أن يهب له غلاما، فوهب له يحيى، ولم يسم يحيى قبله، قال ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧٠/٨٥.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: السيد: الفقيه العالم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٧٦.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد: التقي(1).
2. روي أنّه قال: السيد: الذي يغلب غضبه(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٨٨.
(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره: ص٢٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد: الحليم التقي(1).
2. روي أنّه قال: السيد: الحسن الخلق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ كان يحيى أول من صدق بعيسى، وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى(3).
__________
(1) الثوري في تفسيره: ص٧٦.
(2) أحمد في الزهد: ص٩٠.
(3) ابن جرير: ٥/٣٧٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ ليس له شرك(1).
2. روي أنّه قال: السيد: الكريم على الله(2).
3. روي أنّه قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك، فوضعت امرأة زكريا يحيى عليه السلام، ومريم عيسى عليه السلام، وذلك قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ يحيى مصدق بعيسى(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ صلاة المكتوبة(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٣.
(2) ابن جرير: ٥/٣٧٥.
(3) ابن جرير: ٥/٣٧١.
(4) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٦.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: فدخل المحراب، وغلق الأبواب، وناجى ربه، فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ إلى قوله: ﴿رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٤ ـ ٦]، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٦١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، يأتيها به جبريل؛ قال لها: أنى لك هذا في غير حينه؟ فقالت: هذا رزق من عند الله يأتيني، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فطمع زكريا في الولد، فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر أن يصلح لي زوجتي، ويهب لي منها ولدا، فعند ذلك: ﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾، وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم، قام زكريا فاغتسل، ثم ابتهل في الدعاء إلى الله، قال يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء، وثمار الشتاء في الصيف، ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ يعني: من عندك: ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ يعني: تقيا(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧٠/٨٤.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد في خلقه ودينه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٢.
منبه:
روي عن وهب بن منبه (ت 114 هـ) أنّه قال: نادى مناد من السماء: إن يحيى بن زكريا سيد من ولدت النساء، وإن جورجيس سيد الشهداء(1).
__________
(1) أحمد في الزهد: ص٧٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ الآية، فعجب من ذلك زكريا، قال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾(1).
2. روي أنّه قال: إن الملائكة شافهته بذلك مشافهة، فبشرته بيحيى(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ إنما سمي: يحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان(3).
4. روي أنّه قال: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ عبد أحياه الله بالإيمان(3).
5. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ مصدق بعيسى، وعلى سنته، ومنهاجه(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ إي والله، لسيد في العبادة، والحلم، والعلم، والورع(5).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٨٤.
(2) عبد الرزاق: ١/١٢٠.
(3) ابن جرير: ٥/٣٧٠.
(4) ابن جرير: ٥/٣٧١.
(5) ابن جرير: ٥/٣٧٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: {سَيِّداً وَحَصُوراً} فالسّيّد: التّقي.. والسّيّد: الحليم والحصور: الذي لا يولد له.. والحصور: العنّين.. والحصور: الذي لا يأتي النّساء.. والحصور: الذي ليس له ماء.. والحصور: الذي يكون مع النّدامى ولا يخرج شيئا.. والحصور: الذي لا يخرج سرا أبدا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 109.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾، يقول: مباركة(1).
2. روي أنّه قال: المحراب: المصلى(2).
3. روي أنّه قال: فلما رأى زكريا من حالها ذلك ـ يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف ـقال: إن ربا أعطاها هذا في غير حينه لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة، ورغب في الولد، فقام فصلى، ثم دعا ربه سرا فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٤ ـ ٦]، وقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، وقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩] (3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٦٢.
(2) ابن المنذر: ١/١٨١.
(3) ابن جرير: ٥/٣٦٠.
البناني:
روي عن ثابت البناني (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الصلاة خدمة الله في الأرض، ولو علم الله شيئا أفضل من الصلاة ما قال ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي﴾(1).
2. روي أنّه قال: بلغنا: أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى: ما هذه؟ قال هذه الشهوات التي أصيب بها بني آدم، قال له يحيى: هل لي فيها شيء؟ قال لا، قال فهل تصيب مني شيئا؟ قال ربما شبعت؛ فثقلناك عن الصلاة والذكر، قال هل غيره؟ قال لا، قال لا جرم، لا أشبع أبدا(2).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٨٥.
(2) أحمد في الزهد: ص٧٦.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ سمى الله يحيى(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٢.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: كانت امرأة زكريا عاقرا قد دخلت في السن، وزكريا شيخ كبير، فاستجاب الله له(1).
__________
(1) يحيى بن سلام كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٨٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: (إن طاعة الله خدمته في الأرض، فليس شيء من خدمته تعدل الصلاة، فمن ثم نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب(1).
__________
(1) تفسير العياشي: 1 لا: 173/46.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: فطمع عند ذلك زكريا في الولد، فقال: إن الذي يأتي مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر أن يصلح لي زوجتي، ويهب لي منها ولدا، فذلك قوله: ﴿هُنَالِكَ﴾ يعني: عند ذلك: ﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ﴾ يعني: من عندك ﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ تقيا زكيا، كقوله: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٦]، ﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، فاستجاب الله تعالى، وكانا قد دخلا في السن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾، اشتق يحيى من أسماء الله تعالى(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾، فبينما هو يصلي في المحراب، حيث يذبح القربان، إذا برجل عليه بياض حياله، وهو جبريل عليه السلام، فقال: ﴿أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾، يعني: من الله تعالى، وكان يحيى أول من صدق بعيسى، وهو ابن ثلاث سنين، قوله الأول وهو ابن ستة أشهر، فلما شهد يحيى أن عيسى من الله تعالى عجبت بنو إسرائيل لصغره، فلما سمع زكريا شهادته قام إلى عيسى، فضمه إليه، وهو في خرقة، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، يحيى وعيسى ابنا خالة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٣.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٤.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسن، ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته؛ فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، ثم شكا إلى ربه، فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ إلى: ﴿وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: ٤ ـ ٦]، ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٦١.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ الذي لا يحسد(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٦٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَسَيِّدًا﴾ السيد: الشريف(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٧٦.
الرضا:
روي عن الريان بن شبيب، قال دخلت على الإمام الرضا (ت 203 هـ) في أول يوم من المحرم، فقال لي: (يا بن شبيب، أصائم أنت)؟ فقلت: لا، فقال: (هذا اليوم الذي دعا فيه زكريا ربه عز وجل: فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ فاستجاب الله له وأمر الملائكة، فنادت زكريا: ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عز وجل: استجاب له كما استجاب لزكريا(1).
__________
(1) عيون أخبار الرّضا: 1/299.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن: قول الله سبحانه في يحيى صلوات الله عليه، فقلت: ما معنى الحصور حين يقول: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾، والحصور هو: الذي حصر نفسه عن النساء، فكان صلى الله عليه هو الذي قد حصر نفسه عن ذلك، وقد يروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لا حصر بعد يحيى، ولا سياحة بعد عيسى، ومن رغب عن سنتي فليس مني؛ عليكم بالمساجد.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/158.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ يحتمل هذا الكلام وجوها:
أ. أحدها: على الإنكار، أي: لا يكون، لكن هاهنا لا يحتمل؛ لأنه كان أعلم بالله وقدرته أن ينطق به، أو يخطر بباله.
ب. الثاني: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ أي: كيف وجهه وسببه، وكذلك قوله: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ وقوله: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: 259]، ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 247] أي: كيف وجهه وما سببه.
ج. الثالث: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ في الحال التي أنا عليها، أو أردّ إلى الشباب؛ فيكون لي الولد.
2. ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، وذكر في سورة مريم: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: 8]: ذكر على التقديم والتأخير، وكذلك قوله: ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أو ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ﴾ [مريم: 10] والقصّة واحدة؛ ذكر على التقديم والتأخير؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها، وبالله التوفيق، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين، ولم يكن بهذا اللّسان، وقوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: 9] وإن اختلف في اللّسان.
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ طلب من ربّه آية؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة، أو وساوس؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من الله ـ عزّ وجل ـ لا بشارة إبليس؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر، وهم لا يقدرون على ذلك، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ صلوات الله على نبيّنا وعليه ـ لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه، حتى قال: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الحجر: 62]، حتى قالوا: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: 70]، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة، رسل الله، أرسلهم إليه.
4. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾، قال بعض أهل التفسير: حبس لسانه عقوبة له بقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ لكن ذلك خطأ، والوجه فيه:
أ. منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربّه، ويسبّح بالعشى والإبكار؛ كقوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾!؟.
ب. ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه بمنع اللسان عن النطق، وأعلى أحوال الاحتمال؛ ليكون آية للأوّل.
5. قيل في قوله: ﴿اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أنه طلب آية؛ لجهله بعلوق الولد، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾:
أ. قيل: الرّمز: هو تحريك الشفتين.
ب. وقيل: هو الإيماء بشفتيه.
ج. وقيل: هو الإشارة بالرأس.
د. وقيل: هو الإشارة باليد، والله أعلم بذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/366.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل في قصة خبر زكريا وما وعده الله به من خلق يحيى صلوات الله عليه ورضوانه ورحمته عليهما: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾، أي دلالة على خلقه وعلامة، ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾، أي دلالتك على خلقه وعلامتك، أن ينقطع صوتك ثلاثة أيام فلا تقدر على خطاب الناس، ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ أي تحريكاً لشفتيك وإشارة.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ فإن قيل: فلم راجع بعد أن بشر بالولد ففيه جوابان.
أ. أحدهما: راجع ليعلم على أي حال يكون منه الولد بأن يرد هو وامرأته إلى حال الشباب أم على حال الكبر فقال له: ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي على هذه الحالة.
ب. الثاني: أنه قال ذلك استعظاماً لمقدور الله عز وجل وتعجباً.
2. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي علامة لوقت الحمل ليتعجل السرور به ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ والرمز بمعنى الإشارة والإيماء.
3. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ وإنما لم يمتنع من ذكر الله عز وجل ومنع من سائر الكلام ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ والعشي من حين زوال الشمس إلى أن تغيب وأصل العشي الظلمة، وأما الإبكار فمن حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى وأصله التعجيل لا تعجيل الضحى.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/140.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: لم راجع هذه المراجعة مع ما بشره الله تعالى بأنه يهب له ذرية طيبة، وبعد أن سأل ذلك، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾؟ والجواب:
أ. قيل: إنما راجع ليعرف على أي حال يكون ذلك أيرده إلى حال الشباب وامرأته، أم مع الكبر، فقال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي على هذه الحال، وتقديره كذلك الأمر الذي أنت عليه {يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ} هذا قاله الحسن.
ب. وقيل في وجه آخر، وهو أنه قال على وجه الاستعظام لمقدور الله والتعجب الذي يحدث للإنسان عند ظهور آية عظيمة من آيات الله، كما يقول القائل: كيف سمحت نفسك بإخراج الملك النفيس من يدك تعجباً من جوده، واعترافاً بعظمه.
ج. وقال بعضهم: إن ذلك إنما كان للوسوسة التي خالطت قلبه من قبل الشيطان حتى خيلت إليه أن النداء كان من غير الملائكة، وهذا لا يجوز، لأن النداء كان على وجه الاعجاز على عادة الملك فيما يأتي به من الوحي عن الله، والأنبياء عليه السلام لا يجوز عليهم تلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الافهام، فلا يعرفوا نداء ملك من نداء شيطان أو انسان.
2. الغلام: هو الشباب من الناس، يقال: غلام بين الغلومية والغلومة والغلمة، والاغتلام: شدة طلب النكاح، والغيلم منع الماء من الآبار، لأنه طلب الظهور، وغلم الأديم جعله في غلمة ليتفسخ عنه صوفه، لأنه طلب لتقطعه.
3. ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ والمراد بلغت الكبر، لأن الكبر بمنزلة الطالب له، فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه، كما يقول القائل: يقطعني الثوب، وإنما هو يقطع الثوب، ولا يجوز أن يقول بلغني البلد بمعنى بلغت البلد، لأن البلد لا يأتيه أصلا.
4. ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ فالعاقر من النساء التي لا تلد، يقال: امرأة عاقر، ورجل عاقر، وقال عامر بن الطفيل:
çلبئس الفتى ان كنت أعور عاقرا...جباناً فما عذري لدى كل محضرé
وذلك لأنه كالذي حدث به عقر يقعده عما يحاول من الامر، وعقر كل شيء أصله، وعقر العاقر المصدر، والعقر: دية فرج المرأة: إذا غصبت نفسها وبيضة العقر آخر بيضة، والعقر: الجرح، والعقر: محلة القوم، والعاقر معروف، والعقار الخمر، والمعاقرة إدمان شربها مع أهلها، وأصل الباب: العقر الذي هو أصل كل شيء، فعقر العاقر لانقطاع أصل النسل.
5. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ الآية: العلامة وإنما سأل العلامة، والآية لوقت الحمل الذي سأل ربه ليتعجل السرور به في قول الحسن، فجعل الله تعالى آيته في إمساك لسانه، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء من غير آفة حدثت في لسانه، كما يقال في مريم: ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ هذا قول الحسن، وقتادة، والربيع، وأكثر المفسرين.
6. في وزن ﴿آيَةً﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: فعلة إلا أنه شذ من جهة إعلال العين مع كون اللام حرف علة، وإنما القياس في مثله أعلال اللام نحو حياة ونواة، ونظيرها راية وطاية، وشذ ذلك، للإشعار بقوة اعلال العين.
ب. الثاني: فعلة آية إلا أنها قلبت كراهية التضعيف نحو طاي في طيي.
ج. الثالث: فاعلة منقوصة وهذا ضعيف، لأنهم صغروها أيية ولو كانت فاعلة لقالوا أوية إلا أنه يجوز على ترخيم التصغير نحو فطيمة.
7. الرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين، والعينين واليدين، والاول أغلب، قال جؤية بن عائذ:
çوكان تكلم الابطال رمزا...وغمغمة لهم مثل الهريرé
يقال منه: رمز يرمز رمزا، ويقال ارتمز: إذا تحرك. واصله الحركة، وقال مجاهد: الرمز تحريك الشفتين. وقال قتادة الرمز الاشارة.
8. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ معناه أنه لما منع من كلام الناس عرف أنه لا يمنع من الذكر لله والتسبيح له، وذلك أعظم الاية وأبين المعجزة.
9. ﴿وَسَبِّحْ﴾ معناه ههنا صل يقال فرغت من سبحتي أي من صلاتي. وأصل التسبيح التعظيم لله وتنزيهه عما لا يليق به.
العشي: من حين زوال الشمس إلى غروب الشمس في قول مجاهد، قال الشاعر:
çفلا الظل من برد الضحى يستطيعه...ولا الغي من برد العشي تذوقé
والعشاء من لدن غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل. والعشاء طعام العشي، والعشا ضعف العين والتعاشي: التعامي، لابهام أنه بمنزلة من هو في ظلمة لايبصر وأصل الباب الظلمة.
10. الابكار: من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وأصله التعجيل بالشئ يقال: أبكر ابكارا وبكر يبكر بكورا، وقال عمر بن أبي ربيعة: (أمن آل نعم أنت عاد فمبكر)، وقال جرير:
çألا بكرت سلمى فجذ بكورها...وشق العصا بعد اجتماع أميرهاé
ويقال في كل شيء تقدم: بكر ومنه الباكورة أول ما يجيء من الفاكهة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/454.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ وإنما جاز له أن يقول: وقد بلغني الكبر لأنه بمنزلة الطالب له، ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ أي لا تلد.
2. سؤال وإشكال: لم راجع بهذا القول بعد أن بشّر بالولد؟ والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما: أنه راجع ليعلم على أي حال يكون منه الولد، بأن يردّ هو وامرأته إلى حال الشباب، أم على حال الكبر، فقيل له: كذلك الله يفعل ما يشاء، أي على هذه الحال، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: أنه قال ذلك استعظاما لمقدور الله وتعجبا.
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي علامة لوقت الحمل ليتعجل السرور به.
4. في قوله تعالى: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: تحريك الشفتين وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: الإشارة، وهو قول قتادة.
ج. الثالث: الإيماء، وهو قول الحسن.
5. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ لم يمنع من ذكر الله تعالى، وذلك هي الآية، ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾:
أ. والعشي: من حين زوال الشمس إلى أن تغيب، وأصل العشي الظلمة، ولذلك كان العشى ضعف البصر، فسمّي ما بعد الزوال عشاء لاتصاله بالظلمة.
ب. أما الإبكار فمن حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وأصله التعجيل، لأنه تعجيل الضياء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/391.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. غُلامٌ بَيِّنُ الغُلومة والغلومية وهو الشاب من الناس، والغُلْمةُ والاغتلام شدة طلب النكاح، وسمي الغلام؛ لأنه في حالٍ يُطلب في مثلها النكاح.
ب. عُقْرُ كل شيء أصله، والعُقْرُ: دية فرج المرأة، والعَقار بفتح العين معروف، والعُقار بضم العين الخمر، وامرأة عاقر لا تلد، سميت عاقرًا ـ لانقطاع أصل النسل.
ج. الكِبَرُ: الشيب.
د. الآية: العلامة.
هـ. الرمز: الإشارة، وقيل: هو الإيماء بالشفتين، ويستعمل في الإيماء بالحاجبين، وأصله من الحركة يقال: ارْتَمَزَ تحرك، يقال: رمز يرمز رمزًا، وتَرَمَّزَ تَرَمُّزًا.
و. العشي: آخر النهار، والعشاء: من لدن غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل وأصله من الظلمة، وسمي العشي لاستقبال الظلمة.
ز. الإبكار: من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وأصله التعجيل بالشيء، يقال: أبكر إبكارًا وبكر بكورًا.
ح. ﴿أَنَّى﴾ قد يكون بمعنى كيف، وقد يكون بمعنى أين، وههنا يحتمل الوجهين، عن أبي مسلم.
2. لما أتت زكريا البشارة بالولد مع كبر سنه ﴿قَالَ رَبِّ﴾:
قيل: هو خطاب لله يعني يا رب.
وقيل: هو خطاب لجبريل، ومعناه يا سيدي كما يقال: رب الغلام.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾:
أ. قيل: معناه على أي حال يكون لي الولد أتردني إلى حال الشباب وامرأتي على حال الكبر، فقيل له ذلك ﴿كَذَلِكَ﴾ أي على هذه الحال، تقديره: كذلك يكون، وأنت على هذه الحال، والله يفعل ما يشاء عن الحسن والأصم.
ب. وقيل: هو استعظام لمقدور الله تعالى، والتعجب الذي يظهر على الإنسان عند ظهور آية عظيمة استبعد من جهة العادة لا من جهة القدرة.
ج. وقيل: لم يعرف أنه يرزق الولد من جهة البنين أم من صلبه، فأراد أن يعرف حقيقة ذلك.
د. وقيل: أراد بذلك التعجب بأن يجيبه الله تعالى إلى مراده فيما دعا، وأنه كيف استحق ذلك.
4. زعم بعضهم أنه لما بشرته الملائكة ووسوس إليه الشيطان بأنه ليس بوحي فشك، وهذا لا يجوز على الأنبياء؛ لأنهم يفرقون بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولأنه كان معجزًا لا يقدر الشيطان على مثله، وتجل أحوال الأنبياء عن تلاعب الشيطان بهم.
5. ﴿غُلَامٌ﴾ ابن ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾:
أ. معناه بَلَغْت الكبر وهو الشيب، وإنما جاز بلغني الكبر؛ لأن الكبر بمنزلة الطالب، فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان يأتيه بمرور الأيام عليه فيجوز بلغت الكبر، وبلغني الكبر.
ب. وقيل: إنه من المقلوب، عن الفراء وأبي عبيدة، ومعناه بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد، كما يقال: بلغت الجهد.
ج. وقيل: بلغني أدركني وأضعفني ونال مني الكبر.
6. اختلفوا في سنه يوم بشر بالولد، فقيل: كان ابن اثنتين وتسعين سنة ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ أي لا تلد ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ﴾ قيل: كذلك الأمر بفعل الله ما نبشرك به وأنت على حالتك من الشيب، وقيل: إنه قادر ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾
7. ﴿قَالَ﴾ يعني زكريا ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ علامة:
أ. قيل: لوقت الحمل والولد ليتعجل السرور به، عن الحسن.
ب. وقيل: ليعلم العلوق فيها فإنه لا يعرف إلا بعد مدة.
ج. وقيل: أراد أن يعرف، ليتزيد في الشكر والعبادة.
د. وقيل: أراد أن يفرض عليه طاعة يقوم بها شكرًا، عن أبي مسلم.
8. ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾ أي علامتك:
أ. ويحتمل أن يكون القائل جبريل.
ب. ويحتمل أن يكون قاله الله تعالى.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾:
أ. قيل: أَمْسَكَ على لسانه، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء، عن الحسن وقتادة والربيع.
ب. وقيل: نُهِيَ عن كلام الناس ثلاثة أيام لا أنه حبس لسانه بدليل قوله: ﴿وَاذْكُرِ﴾
ج. وقيل: أراد به صوم ثلاثة أيام؛ لأنهم إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزًا، عن عطاء.
د. وقيل: كان لا يقدر على الكلام ويقدر على التسبيح والتهليل، وذلك أبلغ في الإعجاز ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ قيل: إشارة.
هـ. وقيل: تحريكًا بالشفتين.
و. وقيل: بصوت خفي.
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ يعني في الأيام الثلاثة:
أ. قيل: لما منع من الكلام لم يمنع من الذكر والتسبيح، وهو أبلغ في الإعجاز.
ب. وقيل: تعبد بترك الكلام، وتعبد بذكر التسبيح.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ﴾:
أ. قيل: أي نزه الله في القول والاعتقاد عن كل سوء، عن جماعة، واختاره القاضي.
ب. وقيل: صل لربك كثيرًا، والصلاة تسمى سبحة، عن الأصم.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾:
أ. قيل: في أول النهار وآخره.
ب. وقيل: أراد به الدوام.
12. تدل الآيات الكريمة على معجزة وبشارة:
أ. أما المعجزة فحيث انطلق لسانه بالتسبيح ولم ينطلق بالكلام مع أن مخارج الحروف واحدة، وهذا جائز؛ لأن المنع من الكلام قد يكون بفساد آلة الكلام فَيَعُمّ، ويكون بمنع منه فيوجد عند مكالمة الناس ولا يوجد عند التسبيح، والمعجز أيضًا أنه نقض العادة بولد بعد مائة سنة، وعادتِ العاقر ولودًا، ومن المعجز بشارة الملائكة له.
ب. وأما البشارة فحيث بشر بالولد ووقت حمله، وأعلمه ذلك ليتعجل السرور به، ومن البشارة أن يبشر بصفات الولد، ومن المعجز أنه كان ذا نطق فذهب نطقه، وهو سَوِيُّ لا بأس به، ومنها: أنهما كانا عقيمين فولدت، فسبحان من يقدر على ما يشاء.
13. القراءة الظاهرة ﴿رَمْزًا﴾ بسكون الميم، وعن الأعمش بفتح الميم.
14. مسائل نحوية:
أ. إنما قال: ﴿عَاقِرٌ﴾ بغير هاء لأنها تختص بالإناث كحائض وحامل وطالق، عن الخليل، ويقال: للنسبة أي ذات عقر، وقيل: (امرأتي عاقر) أي: شيء عاقر، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر.
ب. في وزن ﴿آيَةً﴾ ثلاثة أقوال:
• قيل: فَعَلَة بفتح العين إلا أنه شذ من جهة اعتلال العين مع كون اللام حرف علة، وإنما القياس في مثله اعتلال اللام نحو جباة ونواة ونظيرها طاية وراية، وشذ ذلك للإشعار بقوة اعتلال العين.
• الثاني: قيل: فَعْلَة بسكون العين تقديره أَيَّة، إلا أنها قلبت كراهة للتضعيف، نحو: طائيّ من طيِّئ.
• الثالث: فاعلة منقوصة قال علي بن عيسى: هذا يضعف؛ لأن تصغيرها أُيَيَّة، ولو كانت فاعلة لوجب أُوَيّة، إلا أنه يجوز ترخيم التصغير نحو فُطَيْمَة.
ب. ﴿رَمْزًا﴾ مصدر تقديره: إلا أن ترمز رمزا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/230
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العاقر من الرجال: الذي لا يولد له، ومن النساء: التي لا تلد، يقال: عقرت تعقر عقرا فهي عاقر، قال عبيد: أعاقر مثل ذات رحم... أم غانم مثل من يخيب والعقر: دية فرج المرأة إذا غصبت نفسها، وبيضة العقر: آخر بيضة، والعقر: محلة القوم، والعقر: أصل كل شيء.
ب. يقال: غلام بين الغلومية والغلومة وهو الشاب من الناس، والغلمة والاغتلام: شدة طلب النكاح، وسمي الغلام غلاما، لأنه في حال يطلب في مثلها النكاح، والغيلم: منبع الماء من الآبار، لأنه يطلب الظهور.
ج. الرمز: الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجب والعين واليد، والأول أغلب، وقال جوبة بن عابد:
çكأن تكلم الأبطال رمزا... وغمغمة لهم مثل الهريرé
د. العشي: من حين زوال الشمس إلى غروبها، في قول مجاهد، قال الشاعر:
ç فلا الظل من برد الضحى يستطيعه... ولا الفئ من برد العشي يذوقé
هـ. العشاء: من لدن غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل، والعشاء: طعام العشي، والعشا مقصورا: ضعف العين، وأصل الباب: الظلمة.
و. الإبكار: من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وأصله: التعجيل بالشئ، يقال: أبكر بكورا، ومنه الباكورة.
2. ﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿رَبَّ﴾ لله، عز وجل، لا لجبرائيل ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾:
أ. قيل: أي: من أين يكون.
ب. وقيل: كيف يكون.
3. ﴿لِي غُلَامٌ﴾ أي: ولد ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي: أصابني الشيب، ونالني الهرم، وإنما جاز أن تقول بلغني الكبر، لأن الكبر بمنزلة الطالب له، فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان أيضا يأتي الكبر بمرور السنين عليه، ولو قلت: بلغني البلد، بمعنى بلغت البلد لم يجز، لأن البلد لا يأتيك أصلا، وقال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ أي: عقيم لا تلد.
4. سؤال وإشكال: لم راجع زكريا هذه المراجعة، وقد بشره الله بأن يهب له ذرية طيبة، بعد أن سأل ذلك؟ والجواب:
أ. يحتمل: إنما قال ذلك على سبيل التعرف عن كيفية حصول الولد، أيعطيهما الله إياه، وهما على ما كانا عليه من الشيب، أم يصرفهما إلى حال الشباب، ثم يرزقهما الولد، عن الحسن.
ب. ويحتمل أن يكون اشتبه الأمر عليه: أيعطيه الولد من امرأته العجوز، أم من امرأة أخرى شابة فـ ﴿قَالَ﴾ الله ﴿كَذَلِكَ﴾ وتقديره: كذلك الأمر الذي أنتما عليه، وعلى تلك الحال ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ معناه: يرزقك الله الولد منها، فإنه هين عليه، كما أنشأكما، ولم تكونا شيئا، فإنه تعالى قادر يفعل ما يشاء.
ج. وقيل فيه وجه آخر وهو: إنه إنما قال ذلك على سبيل الاستعظام لمقدور الله، والتعجب الذي يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة، كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك باخراج ذلك المال النفيس من يدك! تعجبا من جوده.
د. وقيل: إنه قال ذلك على وجه التعجب من أنه كيف أجابه الله إلى مراده فيما دعا، وكيف استحق ذلك.
5. من زعم أنه إنما قال ذلك للوسوسة التي خالطت قلبه من قبل الشيطان، أو خيلت إليه أن النداء كان من غير الملائكة، فقد أخطأ لأن الأنبياء لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك، ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم، حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.
6. ثم سأل الله تعالى زكريا علامة يعرف بها وقت حمل امرأته:
أ. قيل: ليزيد في العبادة شكرا.
ب. وقيل: ليتعجل السرور به، عن الحسن.
7. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي: علامة لوقت الحمل والولد، فجعل الله تعالى تلك العلامة في إمساك لسانه عن الكلام إلا إيماء من غير آفة حدثت فيه.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ آيَتُكَ﴾:
أ. قيل: أي: قال الله.
ب. ويحتمل أن يكون المراد قال جبرائيل.
9. آيتك أي: علامتك {أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا}:
أ. قيل: أي: إيماء، عن قتادة.
ب. وقيل: الرمز تحريك الشفتين، عن مجاهد.
ج. وقيل: أراد به صوم ثلاثة أيام، لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا، عن عطا.
10. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ أي: في هذه الأيام الثلاثة ومعناه: إنه لما منع من الكلام، عرف أنه لم يمنع من الذكر لله تعالى، والتسبيح له، وذلك أبلغ في الإعجاز.
11. ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي: نزه الله:
أ. قيل: أراد التسبيح المعروف.
ب. وقيل: معناه صل كما يقال: فرغت من سبحتي أي: صلاتي.
12. ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ في آخر النهار وأوله.
13. في وزن آية فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: فعلة إلا أنه شذ من جهة إعلال العين، مع كون اللام حرف علة، وإنما القياس في مثله إعلال اللام نحو حياة ونواة، ونظيرها راية وغاية وطاية.
ب. الثاني: فعلة وتقديره أيية، إلا أنها قلبت كراهة التضعيف نحو طائي من طي.
ج. الثالث: فاعلة منقوصة، قال علي بن عيسى: وهذا ضعيف لأن تصغيرها أيية، ولو كانت فاعلة لقالوا أويية، إلا أنه يجوز على ترخيم التصغير نحو فطيمة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/745.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ أي كيف يكون!؟، قال الكميت: (أنّى ومن أين آبك الطّرب)، قال العلماء، منهم الحسن، وابن الأنباري، وابن كيسان: كأنه قال: من أي وجه يكون لي الولد؟ أيكون بازالة العقر عن زوجتي، وردّ شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك.
2. قال الزجاج: يقال: غلام بيّن الغلوميَّة، وبين الغلاميَّة، وبين الغلومة، قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال، من الغُلمة، وهي شدة شهوة النكاح، ويقال للكهل: غلام، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: (غلام إِذا هزَّ القناة سقاها)، وكأن قولهم للكهل: غلام، أي: قد كان مرة غلاماً، وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: سيصير غلاماً، قال: وقيل: الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية: غلامة. قال الشاعر: (يهان لها الغلامة والغلام)
3. ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي: وقد بلغت الكبر، قال الزجّاج: كل شيء بلغته فقد بلغك، وفي سنّه يومئذ ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه كان ابن مائة وعشرين سنة، وامرأته بنت ثمان وتسعين، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة.
ج. الثالث: ابن خمس وسبعين، قاله مقاتل.
د. الرابع: ابن سبعين، حكاه فضيل بن غزوان.
هـ. الخامس: ابن خمس وستين.
و. السادس: ابن ستين، حكاهما الزجّاج.
4. قال اللغويون: العاقر من الرّجال والنّساء: الذي لا يأتيه الولد، وإنما قال (عاقر) ولم يقل: عاقرة، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكّر فيه كالمستعار، فأجري مجرى (طالق) و(حائض)، هذا قول الفرّاء.
5. ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي: علامة على وجود الحمل، وفي علّة سؤاله (آية) قولان:
أ. أحدهما: أن الشيطان جاءه، فقال: هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي الله، لأوحاه إليك، كما يوحي إليك غيره، فسأل الآية، ذكره السّدّيّ عن أشياخه.
ب. الثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجّل السرور، لأن شأن الحمل لا يتحقّق بأوّله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام.
6. اختلف في معنى (الرّمز):
أ. قال الفرّاء: الرّمز بالشّفتين، والحاجبين، والعينين، وأكثره في الشّفتين.
ب. قال ابن عباس: جعل يكلّم الناس بيده، وإنما منع من مخاطبة الناس ولم يحبس عن الذّكر لله تعالى.
ج. وقال ابن زيد: كان يذكر الله، ويشير إلى الناس.
د. وقال عطاء بن السّائب: اعتقل لسانه من غير مرض.
7. جمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل، وقال قتادة، والرّبيع بن أنس: كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة.
8. ﴿وَسَبِّحْ﴾ قال مقاتل: صلّ، قال الزجّاج: يقال: فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي، وسمّيت الصلاة تسبيحا، لأنّ التّسبيح تعظيم الله، وتبرئته من السوء، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرّئه من السّوء.
9. ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضّحى: قال الشاعر:
çفلا الظّلّ في برد الضّحى تستطيعه...ولا الفيء من برد العشيّ يذوقé
قال الزجّاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إبكارا، وبكّر يبكّر تبكيرا، وبكر يبكر في كل شيء تقدّم فيه.
__________
(1) زاد المسير: 1/281.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾، قوله ﴿رَبَّ﴾ خطاب مع الله أو مع الملائكة، لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره، ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك: يا رب، والجواب: للمفسرين فيه قولان:
أ. الأول: أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى.
ب. الثاني: أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي، ويجوز وصف المخلوق به، فإنه يقال: فلان يربيني ويحسن إلي.
2. سؤال وإشكال: لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد، ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده؟ والجواب: لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان:
أ. الأول: أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق، ولا خلق إلا من نطفة، لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال، فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان.
ب. الثاني: أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى، فلو كان ذلك محالًا ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى.
3. ثبت بهذين الوجهين أن قوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ ليس للاستبعاد، وذكر العلماء فيه وجوهاً:
أ. الأول: أنه قوله ﴿أَنَّى﴾ معناه: من أين، ويحتمل أن يكون معناه: كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني، وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين، أحدهما: أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته، فقوله ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ معناه: كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني؟ فقيل له كذلك، أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء، وهذا القول ذكره الحسن والأصم.
ب. الثاني: أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول: كيف حصل هذا، ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالًا عظيمة، يقول كيف وهبت هذه الأموال، ومن أين سمحت نفسك بهبتها؟ فكذا هاهنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعدا لذلك، ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه، صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام.
ج. الثالث: أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه، فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال.
د. الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد، ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك، فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام، فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب.
هـ. الخامس: نقل سفيان بن عيينة أنه قال كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال.
و. السادس: نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال: إن هذا الصوت من الشيطان، وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان، قال القاضي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، ويمكن أن يقال: لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه، أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
4. ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن، قال ابن عباس: كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان، قال أهل المعاني: كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك، وكلما جاز أن يقول: بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب: لقيت الحائط، وتلقاني الحائط، سؤال وإشكال: يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد، والجواب: هذا لا يجوز، والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه، والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرق.
5. ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ العاقر من النساء التي لا تلد، يقال: عقر يعقر عقراً، ويقال أيضاً عقر الرجل، وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له، ورمل عاقر: لا ينبت شيئاً.
6. زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد.
7. ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، قوله: ﴿قَالَ﴾ عائد إلى مذكور سابق، وهو الرب المذكور في قوله: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى، وأن يكون هو جبريل، قال الزمخشري ﴿كَذَلِكِ اللهُ﴾ مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله، ويفعل ما يشاء بيان له، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة.
8. ثم إن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه، وإنعامه عليه أحب أن يجعل له علامة تدل على حصول العلوق، وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ فقال الله تعالى: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾، ذكر هاهنا ثلاثة أيام، وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها، وذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً:
أ. أحدها: أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً، وفيه فائدتان:
• إحداهما: أن يكون ذلك آية على علوق الولد.
• الثانية: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلًا بذكر الله تعالى، وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود، وأداء لشكر تلك النعمة، فيكون جامعاً لكل المقاصد.
ب. الثاني: وهو قول أبي مسلم: أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق، قال آيتك أن لا تكلم، أي تصير مأموراً بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق، أي تكون مشتغلًا بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب، وهذا القول عندي حسن معقول، وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق، واللطائف.
ج. الثالث: روي عن قتادة أنه صلّى الله عليه وآله وسلم عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام.
9. تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه:
أ. أحدها: أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.
ب. ثانيها: أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات.
ج. ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات.
10. ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ أصل الرمز الحركة، يقال: ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، ثم اختلفوا في المراد بالرمز هاهنا على أقوال:
أ. أحدها: أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد، أو الرأس، أو الحاجب، أو العين، أو الشفة.
ب. الثاني: أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا: وحمل الرمز على هذا المعنى أولى، لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل.
ج. الثالث: وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي، وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه.
11. سؤال وإشكال: الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه؟، والجواب: لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً، ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل.
12. في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ فأما في الذكر والتسبيح، فقد كان لسانه جيداً، وكان ذلك من المعجزات الباهرة.
ب. الثاني: إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب، ولذلك قالوا: من عرف الله كل لسانه، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها.
13. ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾:
أ. (العشي) من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، قال الشاعر:
çفلا الظل من برد الضحى تستطيعه...ولا الفيء من برد العشى تذوقé
والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها.
ب. الإبكار: مصدر بكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار، ومثله بكر وابتكر وبكر، ومنه الباكورة لأول الثمرة، هذا هو أصل اللغة، ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكاراً، كما سمي إصباحاً، وقرأ بعضهم (والأبكار) بفتح الهمزة، جمع بكر كسحر وأسحار، ويقال: أتيته بكراً بفتحتين.
14. في قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: المراد منه: وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح، وهاهنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين:
• الأول: أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ فرق، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز.
• الثاني: وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ}
ب. ثانيهما: أن قوله ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ محمول على الذكر باللسان.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/214.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ﴾:
أ. قيل: الرب هنا جبريل، أي قال لجبريل: رب ـ أي يا سيدي ـ أنى يكون لي غلام؟ يعني ولدا، وهذا قول الكلبي.
ب. وقال بعضهم: قوله ﴿رَبَّ﴾ يعني الله تعالى.
2. ﴿أَنَّى﴾ بمعنى كيف، وهو في موضع نصب على الظرف، وفي معنى هذا الاستفهام وجهان:
أ. أحدهما: أنه سأل هل يكون له الولد وهو وامرأته على حاليهما أو يردان إلى حال من يلد؟
ب. الثاني: سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أو من غيرها.
3. وقيل: المعنى بأي منزلة أستوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال، على وجه التواضع، ويروى أنه كان بين دعائه والوقت الذي بشر فيه أربعون سنة، وكان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة السن منه، وقال ابن عباس والضحاك: كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، فذلك قوله: ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾
4. ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر بينة العقر، وقد عقرت وعقر بضم القاف فيهما) تعقر عقرا صارت عاقرا، مثل حسنت تحسن حسنا، عن أبي زيد، وعقارة أيضا، وأسماء الفاعلين من فعل فعيلة، يقال: عظمت فهي عظيمة، وظرفت فهي ظريفة، وإنما قيل عاقر لأنه يراد به ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال: عقرت فهي عقيرة كأن بها عقرا، أي كبرا من السن يمنعها من الولد، والعاقر: العظيم من الرمل لا ينبت شيئا، والعقر أيضا مهر المرأة إذا وطئت على شبهة، وبيضة العقر: زعموا هي بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضة واحدة إلى الطول، وعقر النار أيضا، وسطها ومعظمها، وعقر الحوض: مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردت، يقال: عقر وعقر مثل عسر وعسر، والجمع الأعقار فهو لفظ مشترك.
5. الكاف في قوله ﴿كَذَلِكَ﴾ في موضع نصب، أي يفعل الله ما يشاء مثل ذلك.
6. الغلام مشتق من الغلمة وهو شدة طلب النكاح، واغتلم الفحل غلمة هاج من شهوة الضراب، وقالت ليلى الأخيلية:
çشفاها من الداء العضال الذي بها...غلام إذا هز القناة سقاهاé
والغلام الطار الشارب، وهو بين الغلومة والغلومية، والجمع الغلمة والغلمان، ويقال: إن الغيلم الشاب والجارية أيضا، والغيلم: ذكر السلحفاة، والغيلم: موضع، واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه.
7. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾: ﴿جَعَلَ﴾ هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين، و﴿لِي﴾ في موضع المفعول الثاني:
أ. قيل: لما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية ـ أي علامة ـ يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، قاله أكثر المفسرين، قالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما، قال ابن زيد: إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه.
ب. وقيل: طلب، تلك الآية زيادة طمأنينة، المعنى: تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة، فقيل له: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام، أي تمنع من الكلام ثلاث ليال، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشرى الملائكة له: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد، واختار هذا القول النحاس وقال: قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه، لأن الله تعالى لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد، إذ كان ذلك مغيبا عني.
8. ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين، وأصله الحركة، و﴿رَمْزًا﴾ نصب على الاستثناء المنقطع، قال الأخفش، وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمز، وقرى ﴿إِلَّا رَمْزًا﴾ بفتح الميم و﴿رَمْزًا﴾ بضمها وضم الراء، الواحدة رمزة.
9. في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله)؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة)(2)، فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء، وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق، وقال أبو حنيفة: ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان، والقياس في هذا كله أنه باطل، لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته، قال أبو الحسن بن بطال: وإنما حمل أبا حنيفة، على قول هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة، ولعل البخاري حاول بترجمته (باب الإشارة في الطلاق والأمور) الرد عليه.
10. قال عطاء: أراد بقوله ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ صوم ثلاثة أيام، وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا، وهذا فيه بعد.
11. قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن زكريا صلّى الله عليه وآله وسلم منع الكلام وهو قادر عليه، وإنه منسوخ بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا صمت يوما إلى الليل)، وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة، كذلك قال المفسّرون.
12. ذهب كثير من العلماء إلى أنه (لا صمت يوما إلى الليل) إنما معناه عن ذكر الله، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه، فالصمت عن ذلك حسن.
13. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه، على القول الأول، وقد مضى في البقرة معنى الذكر، وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله تعالى: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأنفال]، وذكره الطبري.
14. ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي صل، سميت الصلاة سبحة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء.
15. العشي: جمع عشية، وقيل: هو واحد، وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، عن مجاهد، وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي،﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/387.
(2) لا نرى صحة هذا لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم في تنزيه الله تعالى عن المكان والجهة
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة، وذلك لمزيد التضرّع والجدّ في طلب الجواب عن سؤاله؛ وقيل: إنه أراد بالربّ جبريل، أي: يا سيدي؛ قيل: وفي معنى هذا الاستفهام وجهان.
أ. أحدهما: أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها؟
ب. وقيل: معناه بأيّ سبب استوجب هذا، وأنا وامرأتي على هذه الحال؟
2. الحاصل: أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما؛ لأنه كان يوم التبشير كبيرا؛ قيل: في تسعين سنة، وقيل: ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة، ولذلك قال: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي: والحال ذلك، جعل الكبر كالطالب له لكونه طليعة من طلائع الموت فأسند الفعل إليه.
3. العاقر: التي لا تلد؛ أي ذات عقر على النسب ولو كان على الفعل لقال عقيرة؛ أي: بها عقر يمنعها من الولد.
4. إنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة، ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم استعظاما لقدرة الله سبحانه لا لمحض الاستبعاد، وقيل: إنه قد مرّ بعد دعائه إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة؛ وقيل: عشرون سنة فكان الاستبعاد من هذه الحيثية.
5. ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو إيجاد الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر، والكاف: في محل نصب نعتا لمصدر محذوف، والإشارة إلى مصدر يفعل أو الكاف: في محل رفع على أنها خبر، أي: على هذا الشأن العجيب شأن الله، ويكون قوله: ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ بيانا له، أو الكاف: في محل نصب على الحال، أي: يفعل الله الفعل كائنا مثل ذلك.
6. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي: علامة أعرف بها صحة الحبل، فأتلقى هذه النعمة بالشكر ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أي: علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام، لا عن غيره من الأذكار، ووجه جعل الآية هذا: لتخلص تلك الأيام لذكر الله سبحانه شكرا على ما أنعم به عليه؛ وقيل: بأن ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين.
7. الرمز في اللغة: الإيماء بالشفتين، أو العينين، أو الحاجبين، أو اليدين، وأصله: الحركة، وهو استثناء منقطع، لكون الرمز من غير جنس الكلام، وقيل: هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة، وهو بعيد، والصواب الأوّل، وبه قال الأخفش والكسائي.
8. ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي: سبحه ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ وهو جمع عشية؛ وقيل: هو واحد، وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب؛ وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل، وهو ضعيف جدا ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/388.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى﴾ أي كيف أو من أين ﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ أي ذات عقر، فهو على النسب، وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث.
2. ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب بل ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر، وفي إعراب ﴿كَذَلِكَ﴾ أوجه، منها: أنه خبر لمحذوف أي الأمر كذلك.
3. ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ بيان له، ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف، أي الله يفعل ما يشاء فعلا من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر.
4. ﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي علامة أعرف بها حصول الحمل، وإنما سألها لكون العلوق أمرا خفيّا لا يوقف عليه، فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا ﴿قَالَ﴾ الله تعالى ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ أي أن لا تقدر على تكليمهم ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أي إشارة بيد أو رأس، وإما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكرا على ما أنعم به عليه، وقيل: كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ـ حكاه القرطبيّ عن أكثر المفسرين ـ
5. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ أي ذكرا كثيرا ﴿وَسَبِّحْ﴾ أي وسبحه ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ وهو آخر النهار، ويقع العشي أيضا على ما بين الزوال والغروب ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ وهو الغدوة أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان، قال محمد بن كعب: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر ـ أخرجه ابن أبي حاتم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/316.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ﴾ لم يخاطب الملَك المبشِّر له إعظاما لله 8 بإلغاء الوسائط، ﴿أَنَّىٰ﴾ كيف؟ أو من أين ﴿يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ تسع وتسعون سنة، أو اثنان وتسعون، أو خمس وثمانون، أو خمس وسبعون، أو سبعون، أو ستُّون، وعن ابن عبَّاس: مائة وعشرون، ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ وكبيرة السنِّ ثمان وتسعون، وأصل العقر: القطع، فاعل للنسب كـ (لَابِنٌ)، وذلك استبعاد بالنسبة إلى العادة مع إيمانه بقدرة الله على ذلك، واستعظام وتعجُّب، أو استفهام حقيق: (يا ربِّ أتردُّني وإيَّاها إلى الشباب وتزيل عقمها؟ أم تبقينا على حالنا وتزيل عقمها؟، أم ترزقني الولد من امرأة شابَّة؟)، وقيل: استفهم الولد بالتبنِّي أم من الصلب، وفيه أنَّه سأل من الصلب فلعله ذهل لعظم الأمر، وهذا كلُّه يتصوَّر مع دعائه الله في الولد، ولا ينافيه لِمَا مَرَّ، وأمَّا ما قيل: إنَّه دعا فيه قبل بشارته بأربعين عاما أو ستِّين فنسي دعاءه، فقال: ﴿أَنَّىٰ يَكُونُ لِي﴾ إلخ فبعيد جدًّا، ولا سيما مع ظاهر التعقيب في قوله تعالى : ﴿فَنَادَتْهُ﴾ إلخ، وأجابه الله تعالى بأن يبقيها على حالهما من الشيخوخة ويولِّدهما كما هو المراد في قوله تعالى :
2. ﴿قَالَ﴾ جبريل أو الله، وهو أنسب بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ بل يتعيَّن، ﴿كَذَالِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ أي: الأمر كذلك، أي: يخلق الله منكما غلاما وأنت شيخ فانٍ، وزوجك عجوز عاقر، واحتجَّ على ذلك بقوله: ﴿يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَآءُ﴾ لا يعجزه شيء، أو يخلقه منكما وأنتما كذلك بحالكما، أو شأن الله كذلك؛ فبيَّنه بقوله: ﴿يَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَآءُ﴾؛ أو يفعل ما يشاء مثل ذلك، قيل: كان بين البشارة وولادة يحيى زمان مديد لأنَّ سؤال الولد والبشارة في صغر مريم، ووضعه بعد بلوغها ثلاث عشرة سنة هي زمان حملها بعيسى، وقيل: حملت عيسى بنتَ عشر سنين، وَلَمَّا تاقت نفسه للولد المبشَّر به قال ما ذكر عنه بقوله تعالى:
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ ءَايَةً﴾ علامة على حمله لأزيد شكرا، أو أفرح، فقوله: ﴿أَنَّىٰ يَكُونُ لِي﴾ إلخ بمعنى: أنلد مع بقاء شيخوختنا أم بالردِّ إلى الشباب؟، وأيضا من استعبد الشيء يدهش بحصوله، ويقول: من أين؟ وكيف هو؟ وأيضًا بُشِّر بيحيى ولم يعلم أمن صلبه أو بالتبنِّي؛ وأيضًا من يرغب في الشيء يلتذُّ بتكرير الإجابة إليه؛ أو نسي الإجابة لطول مدَّتها عَلَى ما مرَّ؛ أو قال له الشيطان عند سماع البشارة: إنَّ هذا الصوت من الشيطان؛ ومراده أن يريه آية فلا يكون من الشيطان، فلهذه الأوجه ساغ أن يقول: ﴿أَنَّىٰ يَكُونُ لِي﴾ إلخ، والوحي لا يلبس بكلام الشيطان ولو في مصالح الدنيا والولد.
4. ﴿قَالَ ءَايَتُكَ﴾ الآية التي تطلب على حمله، ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ لا تقدر أن تكلِّمهم قهرا من الله ولو أردت تكليمهم، وهو أنسب بكونه آية وأوفق لِمَا في مريم، كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم أنَّه رَبَا لسانه حتَّى مَلأ فَاهُ، واحترز بالناس عن ذكر الله فإنَّه ينطق لسانه به، ويبعد أنَّ عدم التَّكَلُّم كناية عن الصوم، وكانوا إذا صاموا لم يتكلَّموا، ويبعد أن يخرس لسانه عقوبة إذ طلب الآية بعد تبشير الملائكة من باب (حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين)، وهو مردود، ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ بلياليها كما قال: ﴿ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم: 9] ينطق فيهنَّ لسانك بالذكر والشكر مقتصرا عليهما قضاءً لحقِّ النعمة: رزقِ الحملِ، وأحسنُ الجواب ما أخذ منه وجهه كما هنا، فإنَّه لَمَّا طلب الآية للشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إِلَّا عن الشكر، وأيضا لَمَّا سأل آية لأجل الشكر أجيب بأنَّه لا يقدر إِلَّا على الشكر، فلا يقدر على كلام الدنيا.
5. ليس في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ ءَايَةً﴾ ما يُشعر بأنَّ طلبها للشكر بل يُشعر به المقام؛ لأنَّه لَمَّا أزيل الاستبعاد لم يبق لطلب الآية إِلَّا القيام بالشكر.
6. ﴿اِلَّا رَمْزًا﴾ إشارة بيد أو حاجب أو عين أو رأس أو تحريك الشفتين، أو كتابة على الأرض، أو إشارة بالمسبِّحة، أو صوت خفيٍّ، ويقال: الإشارة باليد والوحي بالرأس، والصحيح أنَّ تسمية ذلك كلاما مجازٌ، وإن أريد بتكليم الناس عموم الإفصاح عمَّا في القلب ولو بلا لفظ كان استثناء متَّصلا، ولا يلزم أن يرجع كلُّ منقطع إلى متَّصل بالتأويل، فلا يبقى منقطعٌ، فانظرْ تجدْ كم من منقطع لا يقبل التأويل بالاتِّصال البتَّة، وكم من منقطع لا يقبله إِلَّا بتكلُّف، بخلاف ما هنا فإنَّه صحيح بلا تكلُّف.
7. ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾ في هذه الأيَّام الثلاثة التي أحبس فيها لسانك إِلَّا عن الذِّكر، شكرا لهذه النعمة، أو مطلقًا، وقيل: أيَّام الحمل لتعود بركة الذِّكر على الجنين.
8. في الآية عطف الإنشاء الفعليِّ على الإخبار الاسميِّ، ووجه ذلك أنَّ الجملة الأولى بمنزلة الفعليَّة الأمريَّة، أي: اسكُتْ وأنت قادر على الكلام، واذكر ربَّك؛ لكن هذا على أنَّ السكوت على اختيار، أو يقدَّر: ارتقب ذلك واذكر، أو اشكر واذكر، و(كَثِيرًا) مفعول مطلق، أي: ذكرا كثيرا، لا ظرف، أي: زمانا كثيرا، لأنَّه قد ذكر أنَّ الزمان ثلاثة أيَّام، ومعلوم أنَّ الذكر فيها لا في زمان كثير، ولا كثرة ذكر إِلَّا باعتبار: (اذْكُر رَّبَّكَ) في أكثر ساعات الأيَّام الثلاثة.
9. ﴿وَسَبِّحْ﴾ صلِّ كثيرا ما لم تَحرُم الصلاة بقرب الغروب، ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ مفرد، وقيل: المفرد عشيَّة، ﴿وَالاِبْكَارِ﴾ كثيرا، أو استمرَّ عليها في حين تجوز الصلاة ما لم تحرم بقرب الزوال، مصدر (أبكر)، نائب عن الزمان، كأنَّه قيل: وقت الإبكار، كأنَّه قيل: صلِّ إبكارا، (بكسر الهمزة) كجئت طلوعَ الشمس، وقرئ بفتح الهمزة جمع (بَكَر) (بفتح الباء والكاف) كسَحَر وإسحار؛ أو جمع بُكْرة (بضمٍّ وإسكان) شذوذ، وإن أريد بالتسبيح مطلق التسبيح ولو بلا صلاة فهو يسبِّح ولو قرب الزوال والغروب، فيكون المراد بالعشيِّ والإبكار عموم الأوقات قدر الطاقة، ولو كان العشيُّ من الزوال أو من العصر إلى المغرب، أو ذهاب صدر الليل، والبُكرة: أوَّل النهار.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/260.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ قالوا: إن السؤال للتعجب، وأكثروا في ذلك السؤال والجواب، وتقدم قول محمد عبده في ذلك، وهو أفضل ما قيل فيه، ولبعضهم كلام في المسألة لا يليق بمقام الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، ولا يمنع مانع ما أن يكون الاستفهام على ظاهره، وأن يكون قد قاله تشوفا إلى معرفة الكيفية التي يكون بها الإنتاج مع عدم توفر الأسباب العادية له بكبر سنه وعقر زوجه.
2. ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، فإنه متى شاء أمرا أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة لا يحول دون مشيئته شيء، فعليك أن تفوض الأمر إليه في هذه الكيفية.
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي علامة تتقدم هذه العناية وتؤذن بها، ومن سخافات بعض المفسرين التي أومأنا إليها آنفا زعمهم أن زكريا عليه السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم بوحي الشياطين؛ ولذلك سأل سؤال التعجب، ثم طلب آية للتثبت، وروى ابن جرير عن السدي وعكرمة: أن الشيطان هو الذي شككه في نداء الملائكة وقال له: إنه من الشيطان، ولولا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمجت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل وليس في الكتاب ما يشير إليه، ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلا هذا لكفى في جرحه، وأن يضرب بروايته على وجهه، فعفا الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية مما ينشر.
4. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ قيل معناه: أن تعجز عن خطاب الناس بحصر يعتري لسانك إذا أردته، ويرجحه أن الآية تكون بغير المعتاد، وقيل معناه أن تترك ذلك مختارا لتفرغ لعبادة الله، ويؤيده قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ والمشهور الأول، وللمفسرين روايات سقيمة فيه، منها أن هذه الآية عقوبة عاقبه الله تعالى بها أن طلب الآية بعد تبشير الملائكة، ومنها أن لسانه ربا في فيه حتى ملأه، ومثل هذا السخف لا يجوز ذكره إلا لأجل رده على قائله وضرب وجهه به، وفي إنجيل لوقا أن جبريل قال لزكريا: (وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته)، وقال محمد عبده: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه، ويبشر أهله، فسأل عن الكيفية، ولما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ويكون إتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود، فأمر بألا يكلم الناس ثلاثة أيام، بل ينقطع للذكر والتسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام، فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، وعلى هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليالي.
5. اختلفوا في الرمز هل كان بالقول الخفي وتحريك الشفتين أم بغيرهما من الأعضاء كالعينين والحاجبين والرأس واليدين؟ لأن الرمز والإيماء يكون بكل ذلك.
6. العشي من الزوال إلى الغروب، وقيل: من الغروب إلى ذهاب صدر من الليل، قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح، والإبكار من الصباح إلى الضحى.
__________
(1) تفسير المنار: 3/245
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ قال محمد عبده: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها، والرازق لما عندها، هو من يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه واستجابة دعائه ـ سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهى على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي قال تعالى بتبليغ ملائكته: كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شيء، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها.
2. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي قال رب اجعل لي علامة تدلنى على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا.
3. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر.
4. (واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والْإِبْكارِ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/149.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ وجاءه الجواب.. جاءه في بساطة ويسر، يرد الأمر إلى نصابه، ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها، ولا غرابة في كونها: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾
2. كذلك! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائما على هذا النحو؛ ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة!.. كذلك، بهذا اليسر، وبهذه الطلاقة، يفعل الله ما يشاء.. فماذا في أن يهب لزكريا غلاما وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟ إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها، ويتخذون منها قانونا! فأما بالقياس إلى الله، فلا مألوف ولا غريب.. كل شيء مرده إلى توجه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود!
3. لكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى، ولدهشة المفاجأة في نفسه، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾، هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه.. إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾
4. ويسكت السياق هنا، ونعرف أن هذا قد كان فعلا، فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره.. لسانه هذا هو لسانه.. ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه.. أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية.. فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة.. كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر!
5. كأنما كانت هذه الخارقة تمهيدا ـ في السياق ـ لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات، وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة.. فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام، وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/395.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أمام الخوارق المذهلة التي تخرج عن مألوف الحياة، وتجيء على غير حساب الناس وتقديرهم ـ يقف العقل مشدوها مضطربا، إذ يفقد توازنه، ويفلت من بين يديه كل حساب وتقدير، ويضل عنه ما كان له من علم ومعرفة، لقد رأى موسى عليه السّلام ـ العصا يلقى بها من بين يديه فتتحوّل إلى حيّة تسعى، فتأخذه الرهبة، ويستولى عليه الفزع، وينطلق مسرعا.. ولا يمسكه أنه بين يدى الله، يناجيه ويسمعه كلماته! وهذا زكريا ـ عليه السّلام ـ يسمع الحق ـ جلّ وعلا ـ يستجيب دعاءه، ويبشره بالولد الذي طلب، فتعتريه حال كتلك الحال التي اعترت موسى حين انقلبت العصا إلى حية تسعى! فلا يملك أن يسأل ربّه: {أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر}؟ إنها صدمة المفاجاة بهذا الأمر الخارق العجيب، ولو جاء هذا الأمر متلبسا بمقدمات تومئ إليه، وتكون إرهاصا به ـ لما كان من هذا النبي الكريم هذا الموقف المثير لعجبه ودهشته، لأنه على يقين من قدرة الله التي لا حدود لها، والتي لا يسأل أمام عجائبها ومبدعاتها.. بكيف؟ ولكنها ـ كما قلنا ـ صدمة المفاجأة، ودهشة المستقبل لأمر غير متوقع! وقد أجاب الله زكريا بما لا يخفى عليه، ولا يعتقد في الله غيره.
2. ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾.. ويجوز أن يوقف على قوله تعالى ﴿كَذَلِكَ﴾ فيكون اسم الإشارة والمحذوف الذي يكمله هو مقول القول، والتقدير: كذلك قضى ربك، أو نحو هذا، ويكون قوله تعالى ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ جملة تفسيرية لمقول القول.. وهذا هو الوجه الأظهر للآية الكريمة، ويجوز أن يكون الوقف عند لفظ الجلالة: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ﴾ ويكون المعنى كذلك هو الله سبحانه في قدرته وحكمته، ثم يجيء بعدها قوله تعالى: ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ جملة مستأنفة، شارحة موضحة.
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ ليس عن شكّ في تصديق زكريا بما أخبره به ربّه، وإنما هو استعجال لهذا الخير المنتظر، وائتناس بالبشريات التي تحدّث به، وتنتصب شاهدة عليه، فالآية التي تعرض لزكريا في هذا الوقت الذي لا زال فيه الولد في عالم الغيب، لم تظهر له في عالم الوجود إشارة أو علامة تنبئ عنه ـ الآية التي يراها زكريا في هذا الوقت، هي في الواقع شيء مجسّد يجده زكريا، ويجد ريح الولد فيه! وفي هذا ما فيه من تمام الفرحة وكمال المسرة! وكما استجاب الله لزكريا فيما طلب من ولد، استجاب له كذلك فيما طلب من آية على هذا الولد.
4. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ هذه هي الآية التي تملأ قلب زكريا طمأنينة وأنسا بالولد المنتظر.. ألّا يكلّم النّاس ثلاثة أيام، بمعنى أن يجد لسانه عاجزا عن الكلام، محبوسا عن النطق، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده، أو الإماءة برأسه، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده، وفي هذا صوم إجبارى عن الكلام، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية، وقد أمر الله تعالى به مريم في قوله سبحانه: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾
5. يصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها، كما قال تعالى لزكريا في آية أخرى: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا، استجابة لأمر الله.
6. سؤال وإشكال: لم كانت الآية على هذا الوجه، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام ـ إجباريا أو اختياريّا ـ ثلاثة أيام؟ والجواب: يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا في موقفه هذا القلق، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه.. فقال أولا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ثم قال ثانيا: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾! والذي نراه ـ والله أعلم ـ أن هذا الصمت الذي فرضه الله تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب.. وهو طب بليغ، لا يغنى غيره غناءه في مثل تلك الحال، ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة، وتسكين القلب المهتاج!، ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت فى ذاتها آية من آيات الله.. وتعالت آيات الله أن تشاب بسوء، وجلّت نعمه أن تختلط بكدر! فالصوم عن الكلام هنا هو من تمام تلك النعمة، التي تستأهل عظيم الحمد، وجزيل الثناء، ولهذا جاء توجيه الله تعالى لزكريا بقوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ بعد أن جعل الصوم عن الكلام آية له، شكرا على تلك العطية العظيمة، وعلى الآية المصاحبة لها.
7. هذا، ويمكن أن يعطى النظر في الآية الكريمة معنى آخر، وهو أن قوله تعالى لزكريا: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ هو إيحاء لزكريا بأنه ـ وهو مما خلق الله ـ يستطيع إذا تعطلت الأداة الطبيعية للتفاهم بينه وبين الناس، وهى الكلام، فإنه لا يعدم وسيلة أخرى يتفاهم بها، ويجد منها ما يعوضه عن بعض ما فقد، فيتخذ الرمز والإشارة عوضا عن الكلمة باللسان.. فإذا كان ذلك شأن الإنسان، حيث يستطيع أن يخرج عن الأسباب المألوفة، ويحقق بأسباب غيرها ما كان يحققه بها، فإن قدرة الله ـ التي هي فوق نطاق الأسباب أبدا ـ أحق وأولى بألا تحتجزها الأسباب التي نراها مصاحبة للمسببات! وأنه إذا كان من مألوف الحياة الواقعة تحت حواسنا ألا تلد العقيم، وألا يولد للشيخ الفاني، فإن قدرة الله ـ إذا قضت حكمته ـ تجعل العقيم ولودا، وتخلق من الشيخ الفاني بنين وبنات.. ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/442.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ استفهام مراد منه التعجّب، قصد منه تعرّف إمكان الولد، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّألحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلّا تطلبا لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة، وليس من الشك في صدق الوعد، وهو كقول إبراهيم: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإن عز وقوعها في العادة.
2. ﴿أَنَّى﴾ فيه بمعنى كيف، أو بمعنى المكان، لتعذّر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسل وهما الكبر والعقرة، وهذا التعجّب يستلزم الشكر على هذه المنّة فهو كناية عن الشكر، وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوّج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكرياء.
3. ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ جاء على طريق القلب، وأصله وقد بلغت الكبر، وفائدته إظهار تمكّن الكبر منه كأنه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 78]
4. العاقر المرأة التي لا تلد عقرت رحمها أي قطعته، ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنّث كقولهم حائض ونافس ومرضع، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عقرى دعاء على المرأة، وفي الحديث: (عقرى حلقى)، وكذلك نفساء.
5. ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من شيخ هرم لم يسبق له ولد وامرأة عاقر كذلك، ولعلّ هذا التكوين حصل بكون زكرياء كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقرّ بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته(2)، ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي هو تكوين قدّره الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى.
6. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أراد آية على وقت حصول ما بشّر به، وهل هو قريب أو بعيد، فالآية هي العلامة الدالة على ابتداء حمل زوجه، وعن السدي والربيع: آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه واردا من قبل الله تعالى، وهو ما في إنجيل لوقا، وعندي في هذا نظر، لأنّ الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري.
7. ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ جعل الله حبسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته، لأنّ الله صرف ما له من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدماغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البلاذر لقوة الفكر، أو أمره بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل، قال الربيع جعل الله ذلك له عقوبة لتردّده في صحة ما أخبره به الملك، وبذلك صرح في إنجيل لوقا، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آية فأعطي غيرها.
8. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ أمر بالشكر، والذّكر المراد به: الذّكر بالقلب والصلاة إن كان قد سلب قوة النطق، أو الذكر اللساني إن كان قد نهي عنها فقط، والاستثناء في قوله إلّا رمزا استثناء منقطع.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/94.
(2) لا نستحسن أمثال هذه التأويلات التي تفتقر إلى الدقة العلمية
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. استمع زكريا إلى تلك البشارة الإلهية، فاعتراه العجب، لما كان يتنازعه من عامل الرجاء وعامل اليأس، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾
2. ﴿أَنَّى﴾ هنا بمعنى (كيف)، فهو يعجب من الحال، ولا يصح أن تكون بمعنى (من أين) لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه سيعطيه الولد، فلا يليق أن يسأل من أين، إنما العجب من حال العطاء مع حاله هو وامرأته؛ ولذا كانت الجملة من بعد ذلك جملة حالية صدّرت بواو الحال، فقال: وقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وامْرَأَتِي عاقِرٌ كان وجه العجب من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه شيخ فان قد أصابه الكبر بما فيه من ضعف، والثانية أن امرأته عاقر لا تلد، والعقر يوصف به الرجل والمرأة، فيقال رجل عاقر، وامرأة عاقر أي بينة العقر، والعقر مصدر عقر يعقر عقرا ويظهر أن امرأته مع شيخوختها كانت عقيما لا تلد، فكان العجب إذن من ثلاث نواح: شيخوختهما، وعقرها، وقد عبر عن شيخوخته بقوله: ﴿وقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ ولم يقل قد بلغت الكبر وهو الظاهر، ولكنه عدل هنا للإشارة إلى أن الكبر قد أصابه بضعفه وما فيه من آلام وأسقام وضعف، ويقول في ذلك الزمخشري: (وقد بلغنى الكبر كقولهم أدركته السن العالية، والمعنى أثر فيّ الكبر فأضعفنى) وعلى ذلك يكون قوله تعالى: ﴿بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ يتضمن بلوغ الشيخوخة، وأنها أوجدت فيه ضعفا وعجزا، ويكون هذا في معنى قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم]
3. وقد أجابه سبحانه وتعالى بما يزيل عجبه، ويمنع حيرته؛ وذلك بأن بين أن الله تعالى فوق السنن الكونية وفوق الأسباب في الخلق؛ لأنه خالق الأسباب؛ فقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ أي مثل ذلك الذي رأيته من أن يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي أن الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس؛ لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجارى العادات التي تجرى بينهم، فالإجابة لا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو أن الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد إنه سبحانه فعال لما يريد.
4. سؤال وإشكال: لما ذا كان ذلك الخارق، وما يجيء بعده؟ والجواب: أن هذا لأن بنى إسرائيل كانوا لا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شيء تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب أو المعلول عن علته، فكان لا بد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على أن المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير؛ ولذا قال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾
5. أراد نبيّ الله زكريا أن يعلم الوقت الذي تبتدئ فيه هذه البشارة أن تتحقق، وأن تقوم آية تدل على الحمل كما يقول بعض المفسرين فقال كما حكى الله عنه: ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً﴾، وفي تفسير هذا النص الكريم اتجاهان:
أ. أولهما: أن سيدنا زكريا عليه السلام طلب علامة تدل على موعد الحمل، فقال: ﴿اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي علامة أعرف منها موعد الحمل، فقال له ربه: آيتك أي علامتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، أي لا تستطيع أن تكلم الناس إلا بالرمز والإشارة، وأن تستطيع ذكر الله، فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار، أي في المساء، وفي الصباح من وقت الفجر إلى الضحى، وقد وضح هذا الاتجاه الزمخشري فقال: (آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام، وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله؛ ولذلك قال: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهى من الآيات الباهرة، فإن قلت لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت ليخص المدة بذكر الله لا يشغل لسانه بغيرها، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية لأجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه)، هذا هو الاتجاه الأول، وأساسه أن ثمة أمرا آخر خارقا للعادة، وهو عجزه عن كلام الناس مع قدرته على الذكر.
ب. أما الاتجاه الثاني، فأساسه غير ذلك، إذ إن معنى النص الكريم على هذا الاتجاه أن زكريا شعر بإكرام الله تعالى إكراما خصه به، وكانت آية ذلك الإكرام بين الناس أنه قد أنجب من عاقر وعجوز ولدا، وقد بلغ من الكبر عتيا، فدعا ربه أن يجعل له بين الناس آية تدل على عظيم شكره، وأن يختص من بين الناس بهذا الشكر، ليعلم الناس علامة شكره كما علموا علامة إكرامه، فقال سبحانه: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ بأن تحبس أنت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكى ذلك الاتجاه أنه لا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على أنه امتنع اختيارا لا اضطرارا، وأن الأنسب بشكر النعمة أن يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم أظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبار إذ يقول سبحانه: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم]، وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن غير ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لا بالكلام والعبارة، وإن هذا الاتجاه لا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة أن يكون ترك كلام الناس اختيارا، وفوق ما تقدم فإن عطف قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، يقتضى أن يكون قوله تعالى: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ جملة طلبية؛ لأن الجملة الطلبية لا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلى القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.
6. هنا بعض عبارات نفسرها لفظيا:
أ. الأولى: كلمة (إِلَّا رَمْزاً) قد جاء في تفسير الزمخشري (إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وأصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب (إلا رمزا) بضمتين جمع رموز كرسول ورسل؛ وقرئ (رمزا) بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.
ب. الثانية: كلمتا ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ فالعشى من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، والإبكار من طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
ج. الثالثة: كلمتا ذكر وتسبيح؛ فإن الذكر معناه أن يستحضر الإنسان عظمة ربه، وينطق بها لسانه، والتسبيح معناه التنزيه المطلق لله سبحانه وتعالى، وقد كان طلب الذكر والتسبيح في هذا المقام مناسبا لتلك النعمة التي أسداها لعبده ونبيه زكريا عليه السلام؛ فإن سيادة المادية في بنى إسرائيل وطغيانها على الروح أنستهم ذكر الله، وسيادة الفلسفة المنكرة للإرادة جعلتهم لا ينزهون الله تعالى، فدعا ربه لأن يقوم بهذا الأمر الذي فيه استذكار كل معانى الألوهية وانصراف بالكلية للنواحى الروحية، وفي التسبيح إدراك لله وتنزيه له عن العلية؛ ولذا اتخذ زكريا من هذا الخارق للعادة بإنجابه ولدا سبيلا لأن يدعوهم إلى التسبيح وهو التنزيه عن العلية والسببية وكل ما لا يليق بذات الله تعالى، وأن يتركوا ما هم عليه من ماديات وفلسفة تنكر الإرادة لرب العالمين، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1208.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، قالوا كان زكريا، حين قال هذا، قد أتم 120 سنة من عمره، وامرأته 98.
2. سؤال وإشكال: زكريا سأل ربه أن يهبه ذرية طيبة، ومعنى هذا انه سأل شيئا ممكنا في اعتقاده، فكيف عاد واستبعد ذلك عندما بشرته الملائكة؟ والجواب: لم يكن قوله هذا شكا واستبعادا، وإنما هو استعظام لقدرة الله التي تخطت السنن والعادات، تماما كما تقول لمن يهب الكثير الثمين من ماله: كيف فعلت ما لم يفعله أحد سواك؟ وأيضا يتضمن هذا الاستعظام والتعجب الشكر لله على هذه النعمة الجليلة التي لم تكن في الحسبان.. وأيضا نستفيد من أصل المعجزة ان على الإنسان أن لا يقيس مشيئة الله بما يراه هو ممكنا أو مستحيلا.
3. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾، لما كان علوق الرحم بالنطفة أمرا خفيا أحب زكريا أن يعلم به حين حدوثه، ليتلقاه بالشكر منذ اللحظة الأولى، ولهذا سأل ربه أن يجعل له علامة يعرف بها وقت العلوق، فقال له تعالى: ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، أي ان علامة حدوث العلوق أن يحتبس لسانك، ويعجز عن النطق مع الناس ثلاثة أيام، فإذا أردت الكلام لم يتحرك، وإنما تتفاهم معهم بالإشارة شأنك في ذلك شأن الأخرس، ولكن لسانك ينطلق كما تريد حين تتجه إلى الله في عبادتك ومناجاتك، ولذا قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾، وهذه معجزة ثانية تضاف إلى حمل العاقر، ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده ان الله أمر زكريا أن ينقطع للذكر والتسبيح ثلاثة أيام، وان اضطر إلى خطاب الناس أومأ اليهم إيماء، وبعد مضي الثلاثة يبشّر أهله بالحمل، والتفسير الأول أظهر وأشهر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/55.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾
2. لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه عليه السلام لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا وقد سأل ربه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقرا، فلما استجيبت دعوته وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال، وأخذ يتعجب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.
3. على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة والإنعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضال والقنوط ضلالة، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب والأنس والكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد وابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث وتمتعه في كل باب.
4. في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم، وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معا فإن ذلك ظاهر قوله: ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾، ولم يقل: وامرأتي عاقر.
5. ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنه بأمره، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة: ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾، ومنه يظهر:
أ. أولا: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا.
ب. وثانيا: أن قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾، خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة، وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ إلى أن قال ـ: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾، وثالثا: أن قوله: ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك اه.
6. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ إلى آخر الآية، قال في المجمع، الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجب والعين واليد، والأول أغلب، انتهى، والعشي الطرف المؤخر من النهار، وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة، والإبكار صدر النهار والطرف المقدم منه، والأصل في معناه الاستعجال.
7. وقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾، وسؤاله عليه السلام من ربه أن يجعل له آية والآية هي العلامة الدالة على الشيء ـ هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه، وبعبارة أخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل، خلاف بين المفسرين، والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام، وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ وأي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعاءه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله.
8. على أن خصوصية نفس الآية ـ وهي عدم التكليم ثلاثة أيام ـ تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾، لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم عليه السلام.
9. الذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله ﴿آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ هو أنه كان لا يقدر ثلاثة أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.
10. سؤال وإشكال: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ الآية فإن ظاهره أنه خاطب ربه وسأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في أمر النداء؟ ولو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟، والجواب: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا وطمأنينة، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾، فإن النداء إنما يكون من بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا: وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه، ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه، وإنما سمع صوتا يهتف به هاتف.
11. ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلاثة أيام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه، قال: (الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية، ولما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، ويكون إتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال)، وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ﴾ مسوقا للنهي التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.
12. مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيدة صوتا واحدا أو أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاما وإن لم يخرج عن شق فم، وكذلك في تسمية الإيماء قولا وكلاما وإن لم يشتمل على صوت، والقرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له وقولا منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ وقال: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾، وقال: ﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، وقال: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ وقال أيضا حكاية عن إبليس: ﴿إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ﴾ وقال: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسميت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان.
13. من هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سماه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وكذا قوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وقد سمى الوسوسة رجزا فقال: ﴿رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
14. هنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ الآية، فسماه تكليما وقسمه إلى الوحي، وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم، وإلى التكليم من وراء حجاب، هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.
15. أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر، وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
16. أما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه، والخاطر الشيطاني يلازم تضيق الصدر، وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء، وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة، ويخالف الفطرة، ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز، وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.
17. ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، وعلق عليها بما يتوافق مع ما ذكره سابقا.
18. بعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال: إن هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، ولا رسوله قالها، ولا هي مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به، وليس هناك إلا روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية، ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام، وهو منه كلام من غير حجة، والروايات وإن كانت آحادا غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها، والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها، والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت عليه السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.
19. نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة: أن الشيطان جاء إلى زكريا ـ وشككه في كون البشارة من الله تعالى، وقال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه ـ كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك ـ فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا: (وها أنت تكون صامتا ـ ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا ـ لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته) إنجيل لوقا 1 ـ 20.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/178.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ سؤال عن طريقة حصول الولد؛ لأنه لم يكن قد علم بالطريقة، وليس معنى السؤال الاستبعاد، بل هو يجوّز أن يحصل له بطريقة عادية، أما من جهة كبره فباستعمال شيء يعيد له الماء والقدرة مثلاً، وأما من جهة امرأته فكذلك أو بأن يأمره يتزوج فتاه؛ أو هذا السؤال لتأكد أن الولد يحصل له بطريقة خارقة كقوله لمريم: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ فهو يجعل لك ولداً على كبر سنك، ومع كون امرأتك عاقراً؛ لأنه الله الذي يفعل ما يشاء، والعاقر: هي التي لا تحمل.
2. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ تدلني على ذلك، وفيه وجهان:
أ. أحدهما: السؤال عن وقت ذلك ليأتي أهله فيه؛ لأنه لا يريد أن يأتيها إلا لهذا الغرض لكبَره وضعفه، فجعل له آية ثلاثة أيام ليأتي أهله فيها، وهذا هو الراجح لقوله تعالى في (سورة مريم): ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ [آية:11] فظاهره: أن حبس لسانه كان من ذلك الوقت لا حين علقت زوجته، والوجه.
ب. الثاني: تدلني على أن قد علقت به.
3. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ إلى المعنى، والمراد: يرمز إليه فيفهم بدون كلام يفيده بوضعه، كأن ينطق بكلمة تشير إلى المقصود ولا تكفي في الدلالة الوضعية، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (معناه: إشارة باللسان من غير بيان)، وهذا يناسب استثناءه من التكلم وإن كان منقطعاً، كما يفهم من قوله تعالى: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ [مريم:10]
4. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ في الثلاثة الأيام وبعدها، أو في الثلاثة الأيام؛ بقرينة العطف، وما سواها مسكوت عنه؛ والعشي: من الظهر إلى الغروب ﴿وَالْإِبْكَارِ﴾ دخوله في البكرة التي هي من طلوع الفجر، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام) لقول الله تعالى: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:42]: (معناه: صلوا له، والبكرة: صلاة الفجر، والأصيل: صلاة العصر)، ويحتمل أن قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ أمر بتسبيح زائد على المأمور به من قبل إجابة دعوته المذكورة، وهو الأقرب إذا كانت الصلاتان واجبتين عليهم بتسبيحهما من قبل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/460.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وقف زكريّا مدهوشا مما يسمعه، وأخذته الحيرة من ذلك كله، هل هو في حلم أم يقظة؟ هل هي كلمات الرحمن أم هي شيء من التخييل؟ إنه يفكر في الحواجز الطبيعية التي تحول بينه وبين ذلك، لقد مضى عليه مدة طويلة حتى بلغ مبلغ الشيخوخة وامرأته عاقر لا تحمل، ولم يرزق بولد، فكيف تحدث تلك المفاجأة بمثل هذا التفصيل، تحدث في ما يشبه الاستغاثة التي تريد أن تخرجه من الحيرة.
2. ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ وجاء الجواب، إنك تتحدث مع الله الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فهو الذي خلق الأشياء وخلق معها القوانين والأسباب الطبيعية، وهو القادر على أن يغيّرها في أيّ وقت يريد في ظل قوانين جديدة، فما قيمة الحواجز الطبيعية أمام قدرة الله المطلقة حتى يفكر فيها الإنسان المؤمن؟ ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117]، وكأن زكريّا قد اقتنع بذلك ورجع إلى ما يوحيه إيمانه من التسليم لله في كل شيء، ولكنه يريد آية.
3. اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقال بعضهم إنها العلامة التي يعرف من خلالها أن ما سمعه هو من وحي الله، وذلك بأن يجعل الله له ما يشبه المعجزة، وأوحى الله إليه بأن الآية هي أن يعتقل لسانه، فلا يستطيع أن يتكلم، ولا يملك أن يخاطب الناس إلا رمزا مدة ثلاثة أيام، وقال بعضهم: إنها علامة الشكر على هذه النعمة غير المترقبة، فأوحى الله إليه كما أوحى إلى مريم بصوم الصمت الذي كان مشروعا آنذاك، ولعلّ هذا هو الأقرب، لأنه لا معنى للارتياب بعد أن جاءه الجواب بالتذكير بقدرة الله، ولأن الظاهر أن الوحي كان بالامتناع الاختياري عن الكلام مع الناس وبذكر الله كثيرا وبالتسبيح الدائم بالعشي والإبكار.
4. لكن هذا الذي ذكرناه، مما فهمناه من الآية على وجه الترجيح، لا يلتقي بما رواه العياشي في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: (إن زكريّا لما دعا ربّه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، فلما أمسك ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله)، فإذا صح هذا الحديث، فإن الآية تقتضي اعتقال لسانه إلّا عن ذكر الله والتسبيح، مما يكون وجه جمع معقول بين الأمرين، والله العالم بحقائق آياته.
5. استوحى العلّامة الطباطبائي من طلب زكريا الذرية الطيبة بعد ما رآه من أمر مريم وكرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها، أنه أراد ولدا له من الكرامة عند الله ما لمريم، وكانت استجابة الله له مطابقة لما سأله، فوهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى وبأمه مريم عليهما السّلام، فقد روعي فيه ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعيّ في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام، لأن وجوده كان مقدّرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن، ثم استعرض الآيات المتعلقة بيحيى وعيسى وحاول اكتشاف بعض الخصائص المشتركة بينهما من خلال أن الله آتاه كما آتى عيسى الحكم صبيا، وعدّه حنانا من لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّدا كما جعل عيسى وجيها عنده، وجعله حصورا ونبيّا ومن الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأله ذرية طيبة ووليا رضيا عندما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله، وفي قوله: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ دلالة على كونه من دعاة عيسى، فالكلمة هو عيسى المسيح، كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم، ونلاحظ على ما ذكره العلّامة الطباطبائي:
أ. أن الحديث عن التشابه بين يحيى وعيسى في الصفات حديث لا يخلو من طرافة وصواب، ولكن ليس من الضروري أن تكون المسألة منطلقة من الحالة النفسية التي عاشها زكريا في ابتهاله لله في طلب الولد في أن يكون مشابها لمريم وابنها في الأجواء الغيبية المتصلة بالمولود، فإن ذلك ليس ظاهرا من الآية في هذه السورة، فقد تكون المناسبة هي إحساسه بالحاجة إلى أن تكون له ذرية يمتد بها نسبه ويتحرك فيها تراثه العائلي من آل يعقوب في خط الرسالة، لأنه رأى في مريم عليها السّلام مثال الولد الصالح الذي يتمناه كل إنسان صالح، بحيث أحسّ بالوحشة من حالة العقم عنده الذي ينقطع فيها امتداده في الزمن بما تمثله الذرية من امتداد الإنسان في الحياة، فكانت كلمة ﴿هُنَالِكَ﴾ تمثل اللحظة الزمنية التي تعاظم فيها شعوره بالحلم الكبير في أن يكون له ولد من دون دخول في التفاصيل الغيبية، فقد استغرق في المسألة في ذاتياتها، ولذلك كانت الاستجابة له الصدمة التي أعادته إلى واقعه في إحساس بشريته، فتساءل: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ مما يوحي بأن المسألة كانت نداء حاجة لا انفتاحا على أجواء تلك الحاجة في خصوصيات الجانب الغيبي فيها.
ب. ثم ما علاقة عيسى بالموضوع في وجدان زكريا، ولم يكن عيسى قد ولد في ذلك الوقت، ولم تكن هناك أية أمارات توحي به حتى لدى أمه الصديقة الطاهرة؟ فكيف أقحم العلامة الطباطبائي اسمه في الجوّ التفسيري للآية في تطلعات زكريا ليدخل في موضوع التشابه بين عيسى ويحيى في سياق الموضوع في الآية، هذا من جهة.
ج. ومن جهة أخرى، فإن الحديث عن قصة زكريا في سورة مريم يوحي بأن القضية التي كانت تشغل ذهن زكريا هي الامتداد الذاتي في ولده، وهذا حقّ طبيعيّ له، والامتداد الرسالي في تراث آل يعقوب في الولد، النبي الذي يملك الولاية الشرعية، وهذا هو قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 4 ـ 6]، فإنه ظاهر في أن الدعاء كان يستنزل الغيب في أن يرزقه الله ولدا لا في خصوصياته، وبكلمة واحدة، لقد كانت مريم ـ وحدها ـ في وجدانه، عندما دعا ربه، وكانت الحاجة ـ انطلاقا من إحساسه بالفراغ عند رؤيته لمريم ـ لولد يرثه ويرث من آل يعقوب، ليكون وليّا يلي من أبيه ما يليه الأبناء من شؤون آبائهم، وهذا ما يجعل البحث التفسيري في استيحاء الآية في غير محله بالرغم من طرافته.
6. سؤال وإشكال: لقد تحدثت الآية عن يحيى أنه (حصور) كميزة أخلاقية ليحيي، كما تحدثت آية أخرى بالصفة نفسها في الحديث عن عيسى عليه السّلام، وقد فسرت الكلمة بأن الحصور (هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففا وزهدا)، فهل الامتناع عن العلاقة الجنسية مع النساء في دائرة الزواج، يمثل قيمة أخلاقية كبري أو لا؟ والجواب:
أ. الظاهر أن الكلمة لا تختزن في ذاتها معنى الامتناع عن الزواج، فهو سنة الله في الحياة التي أقام عليها امتداد الإنسان في حركة وجوده كما جعله عنوانا للحياة الطبيعية في حاجاتها المتوازنة التي تطمئن إليها نفسه وتسكن فيها روحه، ولكن المقصود منها، هو القوّة الروحية التي تنطلق من صلابة الإرادة التي تتمرد على الشهوات، فتبلغ درجة المناعة الأخلاقية التي يملك فيها الإنسان نفسه بحيث يحكم عليها ولا تحكم عليه ويقودها ولا تقوده، فلا ينجذب إلى الاندفاع في حاجاتها انجذاب من لا يملك القدرة على التماسك أمامها، ولعل التفسير الأقرب لها أنه الذي يحصر نفسه عن الشهوات، فلا يدعها تتحرك على هواها، وربما كانت كلمة الحصر موحية بذلك، لأنها تحمل معنى المقاومة الإرادية التي تحصر الحركة الجسدية في دائرة معينة ولا تدعها تتفلت بعيدا عن الخط العملي، فهي مسألة تتصل بحركة الإرادة في الذات ولا ترتبط بحركة الفعل السلبي في معناه، هذا من جهة.
ب. ومن جهة أخرى، فقد يكون الامتناع عن النساء في ذلك الوقت قيمة أخلاقية لمن يحمل المسؤولية الرسالية، باعتبار أن ذلك يجعله متفرغا لله ولأداء الرسالة، فلا يشغله عنها شاغل الزوجة والأولاد، فكأنه يجعل حياته كلها لله بعيدا عن ضغط حاجاته الجسدية والعائلية، وليست القضية خطا عاما لكل الناس، وهذا ما جعل عيسى حصورا، لأن مهمته غير عادية، كما جعل يحيى حصورا للمعنى نفسه، فربما كانت هناك خصوصية للزمن وللشخص أو للدور، لأن النبوة لا تفرض ذلك، فقد رأينا أنبياء الله يأخذون بالزواج في حياتهم وقد يعددون الزوجة، كما في إبراهيم عليه السّلام، والله العالم.
7. الآيات الكريمة توحي بأن الأنبياء يعيشون الحاجات الذاتية في مسألة الأولاد، كما يعيشها الآخرون، ويتطلعون إلى الولد الذكر كما يتطلع الآخرون، لا من جهة أن الذكورة تمثل القيمة الإنسانية الإيجابية بينما الأنوثة تمثل القيمة الإنسانية السلبية، بل لأن الذكر يتحمل المسؤوليات المتصلة بالدور الفاعل في عملية امتداد النسب وحركة الرسالة بما لا تتحمله الأنثى، بلحاظ طبيعة الواقع الاجتماعي أو التكوين النوعي للإنسان، وهذا ما يؤكد بشريتهم في الإحساس بما لا يبتعد عن القيمة.
8. ربما كان من مظاهر الضعف البشري الذي لا ينافي العصمة، هو هذه الصدمة ـ المفاجأة التي هزّت أعماقه بالبشارة بالولد وقد بلغا هو وامرأته ما بلغا من الكبر وهو ما لا يتناسب مع واقعية إنجاب الولد، فقد انطلقت بطريقة عفوية كأية حالة إنسانية في الظروف المماثلة، في الوقت الذي كان يعيش الثقة بالله من خلال إيمانه عندما دعاه أن يرزقه وليّا يرثه ويرث من آل يعقوب، لكنها الحالات الإنسانية اللاشعورية تماما كما هي التقلّصات الجسدية التي تحدث للإنسان عند حصول أية حالة من الخوف أو الضعف أو الرغبة أو الرهبة من دون اختيار له، ثم ينطلق الوعي الفكري أو الروحي أو الشعوري لينظّم حركة هذا الشعور، وليعالج الصدمة، ويستكين للإيمان الواعي الذي يفلسف الأمور ليرجعها إلى أسبابها وطبيعتها في قدرة الله في الأشياء التي تملك في ذاتها قابلية حركة القدرة فيها، ولعل هذا هو تفسير العجب الذي استولى على زكريا مع إيمانه العميق بالقدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء، والذي كان وراء الدعاء الخاشع الصادر منه لله.
9. ليس من الضروري أن ندخل في تفسير القضية بأنه يريد أن يعيش حالة الشهود والمشاهدة، لأن الإيمان يمثل حالة في الفكر، فلا يملك العمق الشعوري الذي ينزل إلى أغوار الذات فيهزّها في لهفة الوعي الحسيّ، بينما يمثل الشهود حالة الطمأنينة الروحية والسكنية الشعورية التي لا يعرض عليها القلق مهما كان ضعيفا، وهذا ما لاحظناه، كما يقول أصحاب هذا التفسير، في تجربة إبراهيم عليه السّلام الذي لم يكتف بإيمانه بالمعاد من ناحية فكرية، فأراد أن يشاهد مظهر الخلق ليحصل على المستوى الأعلى للإيمان في الطمأنينة القلبية، وهذه حالة طبيعية لكل إنسان أن يعيش في فكره التساؤل عن تفسير المعجزة الخارقة بالطريقة الحسية.. إننا نلاحظ على هذا، أن هناك فرقا بين تجربة إبراهيم وموقف زكريا، فقد كان إبراهيم يريد أن يستزيد في ثقافته الإيمانية التي حصل عليها من خلال تأملاته الفكرية بالحصول على مضمونها الحي من خلال الحسّ، وهكذا كانت القضية لديه قضية ثقافية ليس فيها أيّ مظهر للصدمة التي تطلق السؤال في أسلوب الاستغراب، كما فعل زكريا الذي كان يطرح الموانع الحسية التي تدفعه إلى استبعاد القضية، ولم يكن في أجواء التساؤل الثقافي الهادئ الذي يريد أن يضيف إلى عمله عنصرا جديدا يزيد في الطمأنينة الإيمانية، ولا ينافي هذا عصمة الإيمان لدى الأنبياء، والظاهر أن زكريا فهم بحسب المضمون القرآني، أنّ العصمة تضاد الانحراف الفكري والعملي ولا تنافي الحالات المرتبطة بالتركيب النفسي العصبي الذي يهتز للمفاجاة بفعل الصدمة غير المنتظرة، ولكنه يرجع إلى القاعدة الإيمانية من خلال الألطاف الإلهية التي تحيط به.
10. لعل التجربة الإبراهيمية التي تمثلت في البشارة التي حملها الملائكة إليه بالغلام الحليم، حيث كان ردّ فعله الأولي رد فعل زكريا نفسه كما حدثنا الله عن ذلك في القرآن الكريم في سورة الحجر في قوله تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 51 ـ 56]، وجاء في سورة الذاريات قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَالْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 28 ـ 30]، فنحن نجد النبي إبراهيم عليه السّلام يخضع لعنصر المفاجأة الغريبة في طبيعة مضمونها الذاتي بطريقة عفوية من خلال الضعف البشري العادي، ليعود ـ في يقظة الوعي الشعوري ـ إلى الانفتاح على القدرة الإلهية التي تجعل الأمل حيّا حتى في المورد الذي يكون الشيء فيه مستحيلا عاديا، فلا يستسلم لأي يأس، لأن الذين يخضعون للقنوط هم الضالون لا المهتدون، فإنهم يقفون مع الله في ما يقوله ويفعله في شؤون عباده، من دون أن يكون في ذلك أية منافاة للعصمة وللدرجة العالية في نبوّته.
11. جاء في مجمع البيان أنه ذهب جميع المفسرين وأهل التأويل أن المراد بقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أنه مؤمن بعيسى ومصدق له، فقد أراده الله أن يكون المؤيد لعيسى عليه السّلام، باعتبار معرفة الناس له وتصديقهم به، وقد جاء التعبير عن عيسى بأنه كلمة الله، مما يجعل هذا اللفظ بمثابة الاسم المختص به كما في الآية الآتية في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45]؛ وقوله تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ [النساء: 171]، ولكن أبا عبيدة ـ على ما حكي عنه ـ قال معناه بكتاب الله، كما يقولون: أنشدت كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت، وإنما سمّي المسيح كلمة الله لأنه حصل بكلام الله من غير أب، وقيل: إنما سمّي به لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله، ويذكر صاحب مجمع البيان ـ تأييدا للقول المشهور ـ أن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر وكلّف التصديق به، فكان أوّل من صدّقه وشهد أنه كلمة الله وروحه، وكان ذلك إحدى معجزات عيسى عليه السّلام وأقوى الأسباب لإظهار أمره، فإن الناس كانوا يقبلون قول يحيى لمعرفتهم بصدقه وزهده، لكننا نلاحظ على ذلك:
أ. أن أمر عيسى، في ولادته العجائبية وفي معجزاته الخارقة، أكثر قوة من أمر يحيى، لا سيما أن يحيى لا يزيده كثيرا في العمر بالدرجة التي يتقدم فيها اجتماعيا ليكون عيسى بحاجة إليه في تأييد رسالته ودعم موقفه.
ب. كما أنّ الحديث عن عيسى لم يكن معروفا في تلك المرحلة، لأنه ليس واردا في الذهنية العامة، حتى أن والدته السيدة مريم كانت تجهل كل شيء من أمره، ولذلك كان حملها وولادتها وكل ما حدث لها يمثل الصدمة العنيفة التي هزت كل كيانها، ولذلك فإن الكلام عن تصديقه بعيسى ـ كلمة الله ـ ليست له أية مناسبة واقعية في وجدان زكريا، ولهذا لم يثر ذلك أيّ سؤال في نفسه عن طبيعة الشخص الذي يصدقه ولده بصفة أنه كلمة الله.
12. لهذا، فإننا نستقرب أن المقصود من ﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾، الكلمة الإلهية الرسالية المتمثلة بكتاب الله وهو التوراة أو نحوها، وقد درج التعبير في القرآن بكلمة الله بمعنى وحيه أو رسالته كما في قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: 40]، وعن كتبه ورسالته بكلمات الله كما في قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ [الشورى: 24]، وفي قوله تعالى في حديثه عن مريم: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ [التحريم: 12]، فلا مانع من أن يكون المراد بتصديق يحيى بكلمة من الله، الوحي النازل من الله على رسله بكلمته لعباده، لأنه دليل على اختصاص اللفظ بعيسى عليه السّلام، باعتبار أن إطلاق الكلمة عليها جاء من خلال المعنى العام لخصوصية ذاتية، بلحاظ أنه خلق بكلمة الله المتمثلة بإرادة التكوين من خلال كلمة (كن) المستعملة في القرآن تعبيرا عن ذلك كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، وهذا ما يجعلنا نتابع الكلمة في مضمونها ـ مفردا كانت أو جمعا ـ بحسب مناسباتها السياقية التي قد تحدد معناها.
13. بالإضافة إلى ذلك، فإن كلمة التصديق التي ينطق بها نبي لرسالة نبيّ تأتي ـ غالبا ـ للتعبير عن تصديق رسالة سابقة، أو كتاب متقدم، كما في قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: 92]، والمقصود به ما سبقه من الكتب الإلهية، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: 101]، أي من التوراة، وقوله تعالى في حديث عيسى عليه السّلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [آل عمران: 50]، وعلى ضوء هذا، فلا بد من أن يكون قوله تعالى عن يحيى: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ منطلقا من تصديقه بكلمة الله الرسالية في وحيه؛ والله العالم بحقائق آياته.
__________
(1) من وحي القرآن: 5/356.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما سمع زكريا بالبشارة غرق فرحا وسرورا، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك، فقال ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، فأجابه الله تعالى ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.
2. في هذه الآية يصف زكريّا شيخوخته بقوله: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ﴾ ولكنه في الآية 9 من سورة مريم يقول: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾، فالعبارة الأولى تعني أنّ الكبر قد وصلني والثانية تعني أنّي وصلت الكبر، ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير يعود إلى أنّ الإنسان ـ كلّما تقدّم نحو الكبر ـ يتقدّم الكبر والموت نحوه أيضا، كما قال عليّ عليه السّلام (إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى)
3. (الغلام) الفتى الذي طرّ شاربه، و(عاقر) من (عقر) بمعنى الأصل والأساس، أو بمعنى الحبس، ووصف المرأة التي لا تلد بأنّها عاقر يعني أنّها وصلت إلى عقرها وانتهت، أو أنّها حبست عن الولادة.
4. سؤال وإشكال: لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي؟ والجواب: يتّضح بالرجوع إلى الآيات الأخرى، كان يريد أن يعرف كيف يمكن لامرأة عاقر ـ خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس ـ أن تحمل وتلد؟ ما الذي يتغيّر فيها؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر؟ أم أنّها ستحمل بصورة أخرى؟ ثمّ إنّ الإيمان بقدرة الله غير (الشهود والمشاهدة)، زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد، ولكنّه طلب المشاهدة.. كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان، وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك، ويودّ لو أنّه رأى دليلا حسّيا على ذلك.
5. ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى، إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبدا أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، إنّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيمانا شهوديا، كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.
6. ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ (الرمز) إشارة بالشفة، والصوت الخفي، ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأمور.
7. أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضا، وعيّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادرا على المحادثة العادية، ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء، فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولدا مؤمنا هو مظهر ذكر الله، وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا، وهذا المضمون يرد في الآيات الأولى من سورة مريم أيضا.
8. في الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية ـ وإن لم يكن أمرا محرّما ولا مكروها ـ كان من نوع (ترك الأولى)، لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.
9. سؤال وإشكال: أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ؟ والجواب: ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة، أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكرا لله، وتبليغا للرسالة الإلهية، وهذا ما قام به فعلا، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.
10. ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ (العشي) تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال (الإبكار) للساعات الأولى من النهار، وقيل إنّ (العشي) هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و(الإبكار) من طلوع الفجر حتّى الظهر، والراغب الاصفهاني يقول في (المفردات): إنّ (العشي) من زوال الشمس حتّى الصباح، و(الإبكار) أوائل النهار.
11. في الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح، إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتا دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى، زمن الآيات الأولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماء أن يسبّحوا الله صباح مساء شكرا على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى، وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/486.
24. مريم والاصطفاء والطهارة والقنوت
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈24⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 42 ـ 43]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد(1).
__________
(1) البخاري: ٤/١٦٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما وهب الله لزكريا يحيى، وبلغ ثلاث سنين؛ بشر الله مريم بعيسى، فبينما هي في المحراب إذ قالت الملائكة ـ وهو جبريل وحده ـ: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ من الفاحشة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾ يعني: اختارك: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ عالم أمتها(1).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾: يعني: صلي لربك يقول: اركدي لربك في الصلاة بطول القيام، فكانت تقوم حتى ورمت قدماها، ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يعني: مع المصلين، مع قراء بيت المقدس(2).
4. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أفضل نساء العالمين خديجة بنت خويلد، وفاطمة، ومريم، وآسية امرأة فرعون(3).
5. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون(4).
6. روي أنّه قال: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال: أربع نسوة سيدات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالما فاطمة(5).
7. روي أنّه قال: لم يكن من الأنبياء من له اسمان إلا عيسى، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم(6).
__________
(1) ابن عساكر: ٤٧/٣٤٧.
(2) ابن عساكر: ٧٠/٨٨.
(3) أحمد في مسنده: ٤/٤٠٩.
(4) الطبراني في الكبير: ١١/٤١٥.
(5) ابن عساكر في تاريخه: ٧٠/١٠٧.
(6) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥١.
أنس:
1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعا: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد(1).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن مردويه.
(2) الترمذي: ٦/٣٩٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أخلصي(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ جعلك طيبة إيمانا(1).
2. روي أنّه قال: لما قيل لها: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ قامت حتى ورمت قدماها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أطيلي الركود في الصلاة، يعني: القيام(3).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٦.
(2) عَبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره: ص٣٠.
(3) ابن جرير: ٥/٣٩٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ يقول: اعبدي ربك(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله في الكتاب: ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ﴾ اصطفاها مرتين، والاصطفاء إنما هو مرة واحدة؟ فقال: (إن لهذا تأويلا وتفسيرا.. يعني اصطفاها أولا من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين، وطهرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاح، واصطفاها بهذا في القرآن ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ شكرا لله، ثم قال لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم يخبره بما غاب عنه من خبر مريم وعيسى: يا محمد ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ في مريم وابنها وبما خصهما الله به وفضلهما وأكرمهما حيث قال ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ يا محمد، يعني بذلك لرب الملائكة ﴿إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ حين أيتمت من أبيها(1).
2. روي أنّه قال: معنى الآية اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل(2).
__________
(1) تفسير العياشي: 1 لا: 173/47.
(2) مجمع البيان: 2/746.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد من نساء العالمين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أطيعي ربك(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٣.
(2) عبد الرزاق: ١/١٢١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ على نساء ذلك الزمان الذي هم فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾، قال من الحيض(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٧.
ابن أبي كثير:
روي عن يحيى بن أبي كثير (ت 132 هـ) أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾، سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧٠/١٠١.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ القنوت: الركود، يقول: قومي لربك في الصلاة، اركدي لربك، أي: انتصبي له في الصلاة، ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه سئل: أخبرني عن قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في فاطمة: إنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ قال: ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين(1).
__________
(1) معاني الأخبار: 107/1.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾ يعني: واختارك: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ بالولد من غير بشر(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٥.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: كانت مريم حبيسا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غلام اسمه يوسف، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا، فكانا في الكنيسة جميعا، وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء، فيملآن ثم يرجعان، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، فإذا سمع ذلك زكريا قال إن لابنة عمران لشأنا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٧.
الأوزاعي:
روي عن الأوزاعي (ت 157 هـ) أنّه قال: كانت مريم تقوم حتى يسيل القيح من قدميها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٩٩.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ القنوت: طاعة الله تعالى(1).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧٠/١٠١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾ قال أهل التفسير: هو جبريل عليه السلام لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر، فإن صحّ الخبر ـ فهو كذلك، وإلا لم يقل من كان من الملائكة قال ذلك.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾:
أ. قيل: أن صفاها لعبادة نفسه، وخصّها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء؛ فيكون ذاك صفوتها.
ب. وقيل: اصطفاها بولادة عيسى عليه السلام إذ أخرج منها نبيّا مباركا تقيّا، على خلاف ولادة البشر.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾:
أ. قيل: من الآثام والفواحش.
ب. وقيل: وطهرك من مسّ الذكور، وما قذفت به.
4. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ هو ما ذكرنا من صفوتها؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصا، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب، على خلاف سائر البشر، وعن ابن عباس قال: (خطّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أربعة خطوط، ثمّ قال هل تدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة، وفاطمة، ومريم، وآسية امرأة فرعون)، وكذلك روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم)
5. قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. الأمر بالقنوت: القيام، ثم الأمر بالسجود، أي: الصّلاة، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين؛ وهو الصلاة بجماعة؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة، على ما هو علينا؛ لأنه قال ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ وعلى ذلك روي في الخبر: أنه سئل عن أفضل الصّلاة؟ فقال: (طول القنوت)
ب. ويحتمل أنه الأمر بالركوع، ثم بالسجود؛ فيدل أن السجود ـ وإن كان مقدما ذكره على الركوع ـ فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك.
ج. وقيل: القنوت: هو الخضوع والطاعة؛ كقوله: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] أي: خاضعين مطيعين.
د. وقيل في قوله: ﴿اقْنُتِي﴾ أي: أطيلي الركوع في الصّلاة.
6. سؤال وإشكال: كيف أمرت بالركوع مع الراكعين!؟ والجواب: كانوا ـ والله أعلم ـ ذوى قرابة منها ورحم؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمّها وإمساكها، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه، وأنه الأحق بذلك!؟ دلّ أن بينهم وبينها رحما وقرابة.
7. يحتمل ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي: ممن يركع ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع ـ والله أعلم ـ كيف كان الأمر في ذلك؟
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/368.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي اصطفاها على عالمي زمانها ويجوز أن يكون اصطفاؤها لولادة عيسى ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ أي من الكفر وقيل أدناس الحيض والنفاس ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ هو تأكيد للاصطفاء الأول بالذكر ويجوز أن يكون الاصطفاء الأول للعبادة والثاني لولادة المسيح وفي ظهور الملائكة لها أنه توطيد لنبوة عيسى.
2. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أديمي الطاعة له والإخلاص والدعاء لربك ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ وفي تقديم السجود على الركوع قولان:
أ. أحدهما: أن السجود كان مقدماً في شريعتهم.
ب. الثاني أن الواو لا توجب الترتيب وأصل السجود الانخفاض الشديد والخضوع كما قال الشاعر:
çفكلما هاجرت واسجد راسها... كما سجدت نصرانة لم تحنفé
وكذلك الركوع إلا أن السجود أشد انخفاضاً، ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي افعلي كفعلهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/141.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: اصطفاها على عالمي زمانها، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: أنه اصطفاها لولادة المسيح، وهو قول الزجاج.
2. في قوله تعالى: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: طهرك من الكفر، وهو قول الحسن ومجاهد.
ب. الثاني: طهرك من أدناس الحيض والنفاس، وهو قول الزجاج.
3. في قوله تعالى: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه تأكيد للاصطفاء الأول بالتكرار.
ب. الثاني: أن الاصطفاء الأول للعبادة، والاصطفاء الثاني لولادة المسيح.
4. في قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: يعني أخلصي لربك، وهو قول سعيد.
ب. الثاني: معناه أديمي الطاعة لربك، وهو قول قتادة.
ج. الثالث: أطيلي القيام في الصلاة، وهو قول مجاهد.
5. في تقديم السجود على الركوع في قوله تعالى: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه كان مقدما في شريعتهم وإن كان مؤخرا عندنا.
ب. الثاني: أن الواو لا توجب الترتيب، فاستوى حكم التقديم في اللفظ وتأخيره، وأصل السجود الانخفاض الشديد والخضوع، كما قال الشاعر:
çفكلتاهما خرّت وأسجد رأسها...كما سجدت نصرانة لم تحنفé
وكذلك الركوع إلا أن السجود أكثر انخفاضا.
6. في قوله تعالى: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه وافعلي كفعلهم.
ب. الثاني: يعني مع الراكعين في صلاة الجماعة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/393.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ العامل في (إذ) يحتمل أن يكون أحد شيئين:
أ. أحدهما: سميع عليم إذ قالت امرأة عمران، وإذ قالت الملائكة يكون عطفاً على (إذ) الاولى.
ب. الثاني: اذكر إذ قالت، لأن المخاطب في حال تذكير وتعريف.
2. قوله تعالى: {اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} يحتمل وجهين:
أ. قال الحسن وابن جريج: على عالمي زمانها، وهو قول أبي جعفر عليه السلام، لأن فاطمة سيدة نساء العالمين، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين، وقال أيضاً عليه السلام: حسبك من نساء العالمين بأربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. الثاني: ما قاله الزجاج، واختاره الجبائي: إن معناه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح عيسى عليه السلام.
3. في قوله تعالى: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، ومجاهد: طهرك من الكفر.
ب. الثاني: ذكره الزجاج أن معناه طهرك من سائر الأدناس: الحيض، والنفاس، وغيرهما.
4. إنما كرر لفظ اصطفاك:
أ. لأن معنى الأول اصطفاك بالتفريغ لعبادته بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته وصرت متوفرة على اتباع مرضاته، ومعنى الثاني اصطفاك بالاختيار لولادة نبيه عيسى عليه السلام على قول الجبائي.
ب. وقال أبو جعفر عليه السلام اصطفاها أولا من ذرية الأنبياء وطهرها من السفاح، والثاني: اصطفاها لولادة عيسى عليه السلام من غير فحل.
5. في ظهور الملائكة لمريم قالوا قولين:
أ. أحدهما: أن ذلك معجزة لزكريا عليه السلام، لأن مريم لم تكن نبية، لقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾
ب. الثاني: أن يكون ذلك برهاناً لنبوة عيسى عليه السلام كما كان ظهور الشهب والغمامة وغير ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته، فالأول قول الجبائي، والثاني قول ابن الأخشاد.
ج. ويجوز عندنا أن يكون ذلك معجزة لها وكرامة، وإن لم تكن نبية لأن اظهار المعجزات ـ عندنا(2) ـ تجوز على يد الأولياء، والصالحين، لأنها إنما تدل على صدق من ظهرت على يده سواء كان نبياً أو إماماً أو صالحاً، على أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قال ذلك لمريم على لسان زكريا عليه السلام، وقد يقال: قال الله لها، وإن كان بواسطة كما تقول: قال الله للخلق كذا وكذا وإن كان على لسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا يحتاج مع ذلك إلى ما قالوه.
6. في قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال سعيد بن جبير أن معناه اخلصي لربك العبادة.
ب. الثاني: قال قتادة معناه اديمي الطاعة.
ج. الثالث: قال مجاهد اطلبي القيام في الصلاة، وأصل القنوت الدوام على الشيء.
7. ﴿وَاسْجُدِي﴾ أصل السجود الانخفاض الشديد للخضوع قال الشاعر:
çفكلتاهما خرت واسجد رأسها...كما سجدت نصرانة لم تحنفé
وكذلك القول في الركوع إلا أن السجود أشد انخفاضاً، وقد بينا فيما مضى حقيقته.
8. إنما قدم ذكر السجود في الآية على الركوع، لأن النية به التأخير والتقدير اركعي واسجدي، لأن الواو لا توجب الترتيب، لأنها نظيرة التثنية إذا اتفقت الأسماء والصفات، تقول جاءني زيد وعمرو، ولو جمعت بينهما في الخبر لقلت جاءني الزيدان.
9. في قوله تعالى: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه افعلي مثل فعلهم.
ب. الثاني: قال الجبائي: أي في صلاة الجماعة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/457.
(2) يقصد الإمامية
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القنوت: الدوام على الشيء، والقنوت: الطاعة.
ب. الأنباء: الأخبار، واحدها نبأ.
2. لما بَيَّنَ تعالى ذكر ﴿يَحْيَى﴾ وخلقه بعد كِبَرِ أبويه أتبعه بما هو أعجب في الصنع، وأبدع من خلق عيسى، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ أي واذكر إذ قالت الملائكة يعني جبريل لمريم.
3. ظهور الملك لمريم، وكلامه معها:
أ. قيل: كان ذلك معجزة لزكريا.
ب. وقيل: كان إرهاصا لنبوة عيسى، عن أبي القاسم، ولا يجوز أن يكون معجزة لها؛ لأن المرأة لا تكون نبية، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا﴾
4. اختلف في معنى قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ}:
أ. قيل: اختارك بكلام الملائكة شفاهًا.
ب. وقيل: بالتفريغ للعبادة وقبولك محررًا، ولم تقبل أنثى غيرها.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾:
أ. قيل: من مسيس الرجال.
ب. وقيل: من الكفر بالإيمان، عن الحسن ومجاهد، والمراد أنه لطف لها حيث صارت كذلك.
ج. وقيل: من سائر الأدناس: الحيض والنفاس وغيرهما، عن الزجاج.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾:
أ. قيل: اختارك بعد ذلك بولادة عيسى من غير أب، عن أبي علي.
ب. وقيل: اختارك.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج.
ب. وقيل: على جميع نساء العالمين بحالة جليلة من ولادة المسيح من غير أب، عن أبي علي والزجاج.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: { يَامَرْيَمُ اقْنُتِي}:
أ. قيل: اخلصي ﴿لِرَبِّكَ﴾، عن سعيد.
ب. وقيل: أديمي العبادة، عن قتادة.
ج. وقيل: أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد.
9. ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ يعني صلي، وأصل الركوع والسجود الانخفاض إلا أن السجود أشد انخفاضًا منه، وقيل: اخفضي.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾:
أ. قيل: افعلي كفعلهم.
ب. وقيل: صلي بالجماعة، عن أبي علي.
11. مسائل نحوية:
12. عامل الإعراب في ﴿إِذِ﴾ قيل: قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (إذ قالت امرأة عمران) ثم عطف عليه، ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾، وقيل: تقديره: واذكر.
أَخَّرَ ذِكر الركوع وهو متقدم، لأن الواو لا توجب الترتيب وإنما توجب الجمع، وهو في مختلفي الاسم كالتثنية في متفقي الاسم تقول: جاءني زيد وعمرو، وجاءني الزيدان، وقيل: يجوز أن تكون صلاتهم بخلاف صلاتنا.
13. تدل الآية الكريمة على:
أ. فضل مريم، وأنها أفضل نساء أهل زمانها، وقيل: تدل على أنها أفضل نساء ولد آدم، وقيل: الاصطفاء لا يدل على أنها أفضل إلا من حيث المعنى، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (سيدة نساء العالمين أربع: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة)
ب. يدل قوله: ﴿وَاسْجُدِي﴾ على أنهم كانوا متعبدين بالصلاة كما تعبدنا نحن، وعن الأوزاعي: لما قالت الملائكة لها ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دمًا وقيحًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/234.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قدم تعالى ذكر امرأة عمران، وفضل بنتها على الجملة، ثم ذكر تفصيل تلك الجملة فقال ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ إذ هذه معطوفة على ﴿إِذِ﴾ في قوله: (إذ قالت امرأة عمران) أو يكون معناه: اذكر إذ قالت الملائكة، وقيل: يعني جبريل وحده.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾:
أ. قيل: أي: اختارك وألطف لك، حتى تفرغت لعبادته، واتباع مرضاته.
ب. وقيل: معناه اصطفاك لولادة المسيح، عن (2).
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَطَهَّرَكِ﴾:
أ. قيل: بالإيمان عن الكفر، وبالطاعة عن المعصية، عن الحسن وسعيد بن جبير.
ب. وقيل: طهرك من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء من الحيض والنفاس، حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، عن الزجاج.
ج. وقيل: طهرك من الأخلاق الذميمة، والطبائع الردية.
4. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أي: على نساء عالمي زمانك، لأن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليها، وعلى أبيها، وبعلها وبنيها، سيدة نساء العالمين، وهو قول أبي جعفر عليه السلام، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين، وقال أبو جعفر: معنى الآية اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، اصطفاك لولادة عيسى عليه السلام من غير فحل، وخرج بهذا من أن يكون تكريرا، إذ يكون الاصطفاء على معنيين مختلفين.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾:
أ. قيل: أي: اعبديه وأخلصي له العبادة، عن سعيد بن جبير.
ب. وقيل: معناه أديمي الطاعة له، عن قتادة.
ج. وقيل: أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾:
أ. قيل: أي: كما يعمل الساجدون والراكعون، لا أن يكون ذلك أمرا لها بأن تعمل السجود والركوع معهم في الجماعة، وقدم السجود على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب، فإنها في الأشياء المتغايرة نظيرة التثنية في المتماثلة، وإنما توجب الجمع والاشتراك.
ب. وقيل: معناه واسجدي لله شكرا، واركعي أي: وصلي مع المصلين.
ج. وقيل: معناه صلي في الجماعة، عن الجبائي.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/746.
(2) الكلام هنا للزجّاج
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾، قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده، وقد سبق معنى الاصطفاء.
2. في المراد بالتّطهير هاهنا أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه التّطهير من الحيض، قاله ابن عباس، وقال السّدّيّ: كانت مريم لا تحيض، وقال قوم: من الحيض والنّفاس.
ب. الثاني: من مسّ الرجال، روي عن ابن عباس أيضا.
ج. الثالث: من الكفر، قاله الحسن ومجاهد.
د. الرابع: من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل.
3. في هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه تأكيد للأول.
ب. الثاني: أن الأوّل للعبادة، والثاني لولادة عيسى عليه السلام.
ج. الثالث: أن الاصطفاء الأوّل اختيار مبهم، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين.
د. الرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الأول، أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال.
4. قال ابن عباس، والحسن، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها، قال ابن الأنباريّ: وهذا قول الأكثرين.
5. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ قد سبق شرح القنوت في (البقرة)، وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه العبادة، قاله الحسن.
ب. الثاني: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد.
ج. الثالث: الطاعة، قاله قتادة، والسّدّيّ، وابن زيد.
د. الرابع: الإخلاص، قاله سعيد بن جبير.
6. في تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن الواو لا تقتضي التّرتيب، وإنما تؤذن بالجمع، فالركوع مقدّم، ذكره الزجّاج في آخرين.
ب. الثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال، والركوع في حال، لا أنهما يجتمعان في ركعة، فكأنه حثّ لها على فعل الخير.
ج. الثالث: أنه مقدّم ومؤخّر، والمعنى: اركعي واسجدي، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ ذكرهما ابن الأنباريّ.
د. الرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السّجود على الرّكوع، ذكره أبو سليمان الدّمشقيّ.
7. قال مقاتل: ومعناه اركعي مع المصلّين قرّاء بيت المقدس، قال مجاهد: سجدت حتى قرحت.
__________
(1) زاد المسير: 1/282.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القصة الثالثة وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها في قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾
2. عامل الإعراب هاهنا في ﴿إِذِ﴾ هو ما ذكرناه في قوله ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: 35] من قوله ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ثم عطف عليه ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ وقيل: تقديره واذكر إذ قالت الملائكة.
3. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ قالوا المراد بالملائكة هاهنا جبريل وحده، وهذا كقوله ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾ [النحل: 2] يعني جبريل، وهذا وإن كان عدولًا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام، وهو قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]
4. مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: 109] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها:
أ. إما أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام، وذلك جائز عندنا (2)، وعند الكعبي من المعتزلة.
ب. أو معجزة لزكرياء عليه السلام، وهو قول جمهور المعتزلة.
5. من الناس من قال إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ [القصص: 7]
6. المذكور في هذه الآية أولًا: هو الاصطفاء، وثانياً: التطهير، وثالثاً: الاصطفاء على نساء العالمين، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولًا من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
7. النوع الأول من الاصطفاء: أمور:
أ. أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث.
ب. ثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة.
ج. ثالثها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة.
د. رابعها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ اللهِ}
هـ. خامسها: أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول.
8. في التطهير وجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]
ب. ثانيها: أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال.
ج. ثالثها: طهرها عن الحيض، قالوا: كانت مريم لا تحيض.
د. رابعها: وطهرك من الأفعال الذميمة، والعادات القبيحة.
هـ. خامسها: وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
9. في الاصطفاء الثاني وجوه:
أ. المراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب.
ب. وانطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة.
ج. وجعلها وابنها آية للعالمين.
10. روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (حسبك من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون، وخديجة، وفاطمة عليهن السلام)، فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها، فهذا ترك الظاهر.
11. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي﴾ تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكراً لتلك النعم السنية.
12. سؤال وإشكال: لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب.
ب. الثاني: أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد)، فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات، وقوله تعالى: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ إشارة إلى الأمر بالصلاة، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها.
ج. الثالث: قال ابن الأنباري: قوله تعالى: ﴿اقْنُتِي﴾ أمر بالعبادة على العموم، ثم قال بعد ذلك {اسْجُدِي وَارْكَعِي} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم.
د. الرابع: أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 40] وفي الحديث (إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين)، وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز، إذا ثبت هذا فنقول قوله: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ معناه: يا مريم قومي، وقوله: ﴿وَاسْجُدِي﴾ أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله: ﴿وَاسْجُدِي﴾ أمراً بالصلاة حال الانفراد، وقوله: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمراً بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله: ﴿وَاسْجُدِي﴾ أمراً ظاهراً بالصلاة، وقوله ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب.
هـ. الخامس: لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع.
13. سؤال وإشكال: ما المراد من قوله ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾؟ والجواب:
أ. قيل: معناه: افعلي كفعلهم.
ب. وقيل: المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه، وإن كانت لا تختلط بهم.
14. سؤال وإشكال: لم لم يقل واركعي مع الراكعات؟ والجواب: لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء.
15. اعلم أن المفسرين قالوا: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها، قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/218.
(2) يقصد أهل السنة، والأشاعرة خصوصا
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي اختارك، وقد تقدم، ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ أي من الكفر، عن مجاهد والحسن، الزجاج: من سائر الأدناس من الحيض والنفاس وغيرهما، واصطفاك لولادة عيسى.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾:
أ. قيل: يعني عالمي زمانها، عن الحسن وابن جريج وغيرهما.
ب. وقيل: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أجمع إلى يوم الصور، وهو الصحيح على ما نبينه، وهو قول الزجاج وغيره.
3. كرّر الاصطفاء لأن معنى الأول الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى، وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام(2))، قال علماؤنا: الكمال هو التناهي والتمام، ويقال في ماضيه (كمل) بفتح الميم وضمها، ويكمل في مضارعة بالضم، وكمال كل شي بحسبه، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة، ولا شك أن أكمل نوع الإنسان الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين.
إذا تقرر هذا، فقد قيل: إن الكمال المذكور في الحديث يعني به النبوة فيلزم عليه أن تكون مريم وآسية نبيتين، وقد قيل بذلك، والصحيح أن مريم نبية، لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم ويأتي بيانه أيضا في مريم، وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها دلالة واضحة بل على صديقيتها وفضلها، على ما يأتي بيانه في التحريم، وروي من طرق صحيحة أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه عنه أبو هريرة: (خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد)، ومن حديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وفي طريق آخر عنه: (سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة)، فظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، فإن الملائكة قد بلغتها الوحي عن الله تعالى بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلغت سائر الأنبياء، فهي إذا نبية والنبي أفضل من الولي فهي أفضل من كل النساء: الأولين والآخرين مطلقا، ثم بعدها في الفضيلة فاطمة ثم خديجة ثم آسية، وكذلك رواه موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية)، وهذا حديث حسن يرفع الإشكال.
4. خص الله مريم بما لم يؤته أحدا من النساء، وذلك أن روج القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة، فليس هذا لأحد من النساء، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية عند ما بشرت كما سأل زكريا عليه السلام من الآية، ولذلك سماها الله في تنزيله صديقة فقال: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة]، وقال: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت.
5. إنما بشر زكريا بغلام فلحظ إلى كبر سنه وعقامة رحم امرأته فقال: أنى يكون لي غلام وامرأتي عاقر، فسأل آية، وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ولم يمسسها بشر فقيل لها: ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ [مريم] فاقتصرت على ذلك، وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية ممن يعلم كنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدم ما لها من هذه المناقب، ولذلك روي أنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة، جاء في الخبر عنه صلّى الله عليه وآله وسلم: لو أقسمت لبررت لا يدخل الجنة قبل سابقي أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران، وقد كان يحق على من انتحل علم الظاهر واستدل بالأشياء الظاهرة على الأشياء الباطنة أن يعرف قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقوله حيث يقول: (لواء الحمد يوم القيامة بيدي ومفاتيح الكرم بيدي وأنا أول خطيب وأول شفيع وأول مبشر وأول وأول)، فلم ينل هذا السؤدد في الدنيا على الرسل إلا لأمر عظيم في الباطن، وكذلك شأن مريم لم تنل شهادة الله في التنزيل بالصديقية والتصديق بالكلمات إلا لمرتبة قريبة دانية، ومن قال لم تكن نبية قال: إن رؤيتها للملك كما رئي جبريل صلّى الله عليه وآله وسلم في صفة دحية الكلبي حين سؤاله عن الإسلام والإيمان ولم تكن الصحابة بذلك أنبياء والأول أظهر وعليه الأكثر.
6. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد، قتادة: أديمي الطاعة، وقد تقدم القول في القنوت، قال الأوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا.
7. ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ قدم السجود ها هنا على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب، وقد تقدم الخلاف في هذا في البقرة عند قول تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ﴾ [البقرة]، فإذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون عمرو قام قبل زيد، فعلى هذا يكون المعنى واركعي واسجدي، وقيل: كان شرعهم السجود قبل الركوع، ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قيل: معناه افعلي كفعلهم وإن لم تصلي معهم، وقيل: المراد به صلاة الجماعة، وقد تقدم في البقرة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/83.
(2) هذا الجزء الأخير من الحديث مدرج من الصحابي، وليس من نص الحديث
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾ الظرف متعلق بمحذوف، كالظرف الأول ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ اختارك ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من الكفر أو من الأدناس على عمومها ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قيل: هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأوّل، فالأوّل هو حيث تقبلها بقبول حسن، والآخر لولادة عيسى، والمراد بالعالمين هنا قيل: نساء عالم زمانها وهو الحق؛ وقيل: نساء جميع العالم إلى يوم القيامة، واختاره الزجاج؛ وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول، والمراد بهما جميعا: واحد
2. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أي: أطيلي القيام في الصلاة، أو أديميها، وقد تقدّم الكلام على معاني القنوت، وقدّم السجود على الركوع لكونه أفضل، أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها، مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب.
3. ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ظاهره: أن ركوعها يكون مع ركوعهم، فيدل على مشروعية صلاة الجماعة؛ وقيل: المعنى أنها تفعل مثل فعلهم وإن لم تصلّ معهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/389.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾ شروع في تتمة فضائل آل عمران، قال المهايميّ: فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الوليّ، ويفارق النبيّ في دعوى النبوة.
2. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ بالتقريب والمحبة ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولدا من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وفي (الإكليل): استدلّ بهذه الآية من قال بنبوة مريم، كما استدلّ بها من فضلها على بنات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وأزواجه، وجوابه: أن المراد عالمي زمانها ـ قاله السدّيّ ـ.
3. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أي اعبديه شكرا على اصطفائه ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قربا، قال البقاعيّ: الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره، وبالركوع الصلاة نفسها، فكأنه قيل: واسجدي مصلية، ولتكن صلاتك مع المصلين، أي في جماعة، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال، ثم قال وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد، لا يحسن جعله فيه على ظاهره، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء:
أ. الأول: إطلاق لفظها من غير بيان كيفية
ب. الثاني: إطلاق لفظ السجود مجردا
ج. الثالث: إطلاقه مقرونا بركوع أو حبو أو خرور على الوجه، ونحو ذلك
4. ثم ساق البقاعيّ ما وقع من النصوص في ذلك، وقال بعد: (فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك، وحينئذ يسمى صلاة، وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم، وذلك موافق للغة، قال في القاموس: سجد خضع، والخضوع التطامن، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع فالظاهر أن معناه فعل الشعب كله ساجدا لله، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان، منها الصلاة يقال: ركع أي صلى، وركع إذا انحنى كثيرا، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره لأنه لا يمكن في حال السجود، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع ـ والله أعلم ـ واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة، التي وقعت لي، في عداد البلغاء، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها، على أن سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع، ثم رأيت البغويّ صرح في قوله تعالى ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، بأن صلاتهم لا ركوع فيها، وكذا ابن عطية وغيرهما)
5. قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/317.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ﴾ عطفت (إِذْ) على (إِذْ)، أو يقدَّر (اذكر إذ)، والملائكة: جبريل على حدِّ ما مرَّ، أو جماعته النازلة معه، وقد قيل: إنَّه لا ينزل إِلَّا ومعه جماعة، ﴿يَا مَرْيَمُ﴾ نوديت باسمها تأنيسا لها وتوطئة لتبشيرها بكلمة الله، تنزيها لها عن قذف اليهود لعنهم الله.
2. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ بقبوله من أمِّك إيَّاك، وقبول تحريرك، ولم يسبق ذلك لامرأة في خدمة البيت، وبتربيتك في حجر زكريَّاء النبيء، وبرزقه إيَّاك من الجنَّة، وسماع كلام الملائكة مشافهة، وقيل: المعنى كلَّموها بإلهام، وهو دعوى بلا دليل.
3. ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من مسِّ الرجال حلالا وحراما بالوطء، ومن الحيض ودم النفاس، ومن الذنوب والأخلاق الرديئة؛ وقيل حاضت قبل حمل عيسى مرَّتين.
4. ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾ بأن وهب لك عيسى من غير أبٍ وجعلك آية للعالمين، وجعل ابنك آية، وإنطاقه في المهد ببراءتك، وبآيات كإبراء الأكمه، وهذا الاصطفاء غير الأوَّل؛ وقيل: تأكيد للأوَّل، ذكر فيه من فضِّلت هي عليه.
5. ﴿عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ﴾ أي: عالمي زمانك، وإلَّا ففاطمة أفضل منها، وكذا خديجة، واختار بعض أنَّ مريم أفضل النساء على الإطلاق، قال ابن عبَّاس عنه صلّى الله عليه وآله وسلم : (سيِّدة نساء أهل الجنَّة مريم، ثمَّ فاطمة، ثمَّ خديجة، ثمَّ آسية)، رواه ابن عساكر، قالت فاطمة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : (أنت سيِّدة أهل الجنَّة، إِلَّا مريم البتول)، رواه ابن جرير، قال ابن عباس: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : (أربع نسوة سادات نساء عالمهنَّ: مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلم ، وأفضلهنَّ عالما فاطمة)، رواه ابن عساكر، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم : (مريم خير نساء عالمها) رواه الحارث بن أسامه مرسلا، قال عمَّار بن سعد قال صلّى الله عليه وآله وسلم : (فضِّلت خديجة على نساء أمَّتي كما فضِّلت مريم على نساء العالمين) رواه ابن جرير، وَلَمَّا تزوَّجت عائشة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وذكر خديجةَ قالت: قد رزقكَ الله خيرا منها، فقال: (لا والله ما رزقني الله خيرا منها: آمنت بي حين كذَّبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس) وهكذا، كما روي أنَّ خديجة أقرأها جبريل السلام من ربِّها.
6. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ استعملي العبادة ﴿لِرَبِّكِ﴾ أي: دومي عليها وزيدي، والنداء الأوَّل تذكير للنعمة وتمهيد لهذا النداء المسوق للتكليف، ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ هنا تمَّ كلام الملائكة لها، والمعنى: صلِّي، فذكر الصلاة بذكر السجود والركوع إذ هما جزءان منها، إذ بهما تتبيَّن، وأمَّا القيام فيقوم المصلِّي وغيره، وكذا القعود، أو ذكر القيام بذكر القنوت على أنَّه معنى القيام الطويل في الصلاة، وهو أولى في تفسير القنوت عند بعض، وذلك أمر بأفضل الأعمال وهو الصلاة، وبالمحافظة عليها، وبأن تكون في الجماعة مخالفةً لليهود، وموافقةً لهذه الأمَّة، ولفضل صلاة الجماعة يُصَلِّي بها مَحارِمُها ومَن يُؤمَن عليها، أو تصلِّي من محرابها مع إمام خارجَه، إِلَّا أنَّه يحتمل أن يكون معنى المعيَّة مشاركتها للمسلمين في الصلاة بالركوع ولو وحدها، أو معهم بلا جماعة، وهذا أولى، لأنَّ اليهود لا ركوع في صلاتهم ولا جماعة، ودعوى النسخ في زمانها يحتاج لدليل على يد نبيء أو كتاب كالإنجيل فما هو؟ فنقول: إنَّه منسوخ، والآية دليل على أنَّ في صلاتهم ركوعا غير منسوخ، والآن بعض اليهود يركعون، ولعلَّ بعض اليهود في زمانها يركعون فأمرت بالركوع معهم، وقيل: القنوت إخلاص العبادة، وقيل: مطلق القيام في الصلاة، والمشهور: إطالة القيام، أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد: (أنَّ مريم كانت تصلِّي حتَّى تَرِم قدماها)، وابن جرير عن الأوزاعي: (كانت تقوم حتَّى يسيل القيح من قدميها)، وصلاة الجماعة تفضل بخمس وعشرين وبسبع وعشرين.
7. قدَّم السجود لأنَّه في صلاتهم قبل الركوع، أو لأنَّه أعظم في الخشوع، فذكر الأفضل فالأفضل: القنوت وهو القيام، فالسجود، فالركوع، أو أشار إليها بالقيام والسجود، وقد تمَّت بهما عندهم، فأخَّر ما زاد وهو الركوع، ولا يكفي أن يقال: الواو لا ترتِّب، لأنَّه يقال: ما الحكمة في التأخير ولو كانت لا ترتِّب؛ أو تمَّت بالقيام والسجود عندهم، وزاد الركوع بمعنى الخشوع، أو السجود: الصلاةُ كلُّها، والركوع الخشوع.
8. اتَّفقوا على أنَّ الرسول لا يكون امرأة، وأمَّا النبوءة فقد اختلفوا في نبوءة حوَّاء وآسية وأمِّ موسى وسارَّة وهاجر ومريم، والصحيح المنع، ورجَّح ابن السيِّد والسبكيُّ نبوءة مريم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/263.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {وإذ قالت الملائكة يامريم} معطوف على قوله: {إذ قالت امرأة عمران} متعلق بقوله قبله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذا الخطاب ليس بشرع خصت به، وإنما هو إلهام بمكانتها عند الله ربما يجب عليها من الشكر بدوام القنوت والصلاة، ومن اعتقد أنه مكرم اجتهد في المحافظة على كرامته وتباعد أشد التباعد عن كل ما ينقص منها، فقول الملائكة لها: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قد زادها ـ بمقتضى سنة الفطرة ـ تعلقا بالكمال كما زادها روحانية بتأثير تلك الأرواح الطيبة التي أمدت روحها الطاهرة.
2. الاصطفاء الأول هو قبولها محررة لخدمة الله في بيته وكان ذلك خاصا بالرجال، والتطهير قد فسر بعدم الحيض، وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، وروي أن السيدة فاطمة الزهراء ما كانت تحيض وأنها لذلك لقبت بالزهراء، وقال الجلال: إنه التطهير من مسيس الرجال، واختار محمد عبده حمله على ما هو أعم من هذا وذاك، أي طهرك مما يستقبح كسفساف الأخلاق وذميم الصفات وغير ذلك.
3. والاصطفاء الثاني ما اختصت به من خطاب الملائكة وكمال الهداية، وقال محمد عبده: هو جعلها تلد نبيا من غير أن يمسها رجل، فهو على هذا اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل بالإعداد والتهيئة، وبحثوا هنا في قوله: ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ هل المراد به عالمو زمانها ـ كما يقال أرسطو أعظم الفلاسفة ويفهم منه فلاسفة زمانه أو أمته ـ أم جميع العالمين، وفي الأحاديث إن أفضل النساء مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهن.
4. {يامريم اقنتي لربك} أي الزمي طاعته مع الخضوع له واسجدي واركعي مع الراكعين السجود: التطامن والتذلل، والركوع: الانحناء، ويستعمل في لازمه وسببه، وهو التواضع والخشوع في العبادة أو غيرها، وركوعها مع الراكعين عبارة عن صلاتها مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابه كما تقدم، وقد أطلق الركوع والسجود في صلاتنا على العمل المعلوم وهو استعمال للفظ في حقيقته ومجازه إذ الدين يطالبنا بالخشوع واستشعار التواضع في هذا الانحناء والتطامن، ولم تكن صلاة اليهود كصلاتنا في أعمالها وصورتها، ولكنهم طولبوا فيها بمثل ما طولبنا من الخشوع والتذلل لله تعالى.
__________
(1) تفسير المنار: 3/300.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف.
2. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص.
3. ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية، واختصك بولادة نبيّ دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وآله وسلم (سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون)، أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال (كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة)
4. وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/150.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ وأي اصطفاء!؟ وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة، كما تلقاها أول هذه الخليقة: (آدم)؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية.. وهو بلا جدال أمر عظيم.. ولكنها ـ حتى ذلك الحين ـ لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم!
الإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لابس مولد عيسى عليه السلام من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف.. قبحهم الله! وهنا تظهر عظمة هذا الدين؛ ويتبين مصدره عن يقين، فها هو ذا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب ـ ومنهم النصارى ـ ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات، ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على ﴿نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق، وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد! أي صدق؟ وأية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين!
2. إنه يتلقى (الحق) من ربه؛ عن مريم وعن عيسى عليه السلام؛ فيعلن هذا الحق، في هذا المجال، ولو لم يكن رسولا من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال!
3. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/396.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العطف هنا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ هو عطف على قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾، فهو عطف حدث على حدث، ولقد أصبحت (مريم) خادمة بيت الله أهلا لأن تتصل بالسماء، وأن تتلقى فيوض رحماتها وبركاتها، فنادتها الملائكة مبشرة لها بما فضل الله به عليها.
2. ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ بأن جعلك في عباده المصطفين، القائمين على عبادته وطاعته.. ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من الشّرك به، أو التدنّس بالكبائر من الآثام.. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ أي جعل منك الولد الذي لم يولد لإنسان من الناس على، صورة مثل صورته، وهو (المسيح) الذي سيولد من غير أب.. نفخة من روح الله، وكلمة من كلماته! إنها صورة فريدة لا مثيل لها فيما تلد الأمهات.. فلقد اصطفى الله ـ سبحانه ـ هذه الأنثى المباركة، لتكون معرضا من معارض قدرته، ومجلى من مجالى صنعته فيما يصنع، وشاهدا من شهود تلك القدرة التي إن أقامت هذا الوجود على سنن، وربطت بين المسببات والأسباب، فإنها فوق السنن، وفوق الأسباب... تخرج الحىّ من الميت، وتخرج الميت من الحىّ.. وتخلق أصل الإنسانية كلها ابتداء من غير ذكر أو أنثى ـ هو آدم ـ وتخلق أنثى ـ هي حواء ـ من ذكر، دون اتصال بأنثى، وتخلق ذكرا ـ هو المسيح ـ من أنثى دون اتصال بذكر!
3. هذا هو الاصطفاء الذي اصطفى به الله سبحانه وتعالى (مريم) على نساء العالمين، إذ كانت منها هذه الآية العجيبة، وتلك المعجزة الفريدة بين المعجزات! ومن حقّ هذا الاصطفاء الذي أضفاه الله على (مريم) أن تتلقاه بالشكران والحمد لله ربّ العالمين، فكان أن وجهها الله سبحانه، إلى هذا بقوله: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ والقنوت هو الخضوع لله، والولاء المطلق لعزته وجلاله، والسّكن إلى نعمه وأفضاله، والسجود والركوع عملان من عمل الجوارح لعبادة الله، والولاء له، فالقنوت عبادة صامتة مكانها القلب.. والسجود والركوع عبادة ظاهرة، مظهرها الجوارح.. وبالقنوت، والسجود، والركوع، يصبح باطن الإنسان وظاهره جميعا مشتغلا بعبادة الله، متجها إليه، قائما على الولاء له.. وهذا هو أكمل العبادة وأتمها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/446.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ عطف على جملة ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾ انتقال من ذكر أمّ مريم إلى ذكر مريم.
2. مريم علم عبراني، وهو في العبرانية بكسر الميم، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدئ فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار، قد حملت من غير زوج، والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة: (قلت لزير لم تصله مريمة)، والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء، وقال في (الكشاف): مريم في لغتهم ـ أي لغة العبرانيين ـ بمعنى العابدة.
3. تكرّر فعل ﴿اصْطَفَاكِ﴾ لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منزّهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير، فلذلك لم يعدّ الأول إلى متعلّق، وعديّ الثاني.
4. نساء العالمين نساء زمانها، أو نساء سائر الأزمنة، وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة.
5. إعادة النداء في قول الملائكة: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ لقصد الإعجاب بحالها، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة، فكان النداء الثاني مستعملا في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها، ونظيره قول امرئ القيس:
çتقول وقد مال الغبيط بنامعا...عقرت بعيري يا امرئ القيس فانزلé
فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ.
6. القنوت ملازمة العبادة، وتقدم عند قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ في سورة البقرة [238]، وقدم السجود، لأنّ أدخل في الشكر والمقام هنا مقام شكر.
7. ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ إذن لها بالصلاة مع الجماعة، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهارا لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير.
8. هذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 45] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يجلب لها حزنا وسوء قالة بين الناس، مهّد له بما يجلب إليها مسرّة، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجا وأنّه لا يخزيها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/95.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه الأمر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحىّ من الحى، بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر، وإن الذي خرق هذه السنن هو خالق السنن، وإنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس أنه سبحانه خلقها بإرادته وحكمته؛ فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وبعد أن بين ذلك، وهو العليم، مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين، ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي؛ وذلك هو خلق عيسى بن مريم من غير أب، كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا أم، وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام، وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى، وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت، والركوع والخضوع لرب العالمين، ثم باختيارها النهائى للوديعة الربانية.
2. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (الواو) هنا عاطفة، وهى تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران] فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهى حمل، ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها، وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبيّ الله زكريا إياها، مما جعلها تنشأ تنشئة التقوي والورع، ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها خاطبتها الملائكة بذلك الخطاب ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾ وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم، لا بواحد، كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لنبي الله تعالى زكريا عليه السلام.
3. سؤال وإشكال: من أي نوع خطاب الملائكة لمريم البتول؟ أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون، أم كان بالإلهام أو الرؤيا الصادقة في النوم؟ والجواب: لم تبين الآية هنا نوع الخطاب؛ ولذا قال بعض العلماء: إن الخطاب كان بالإلهام، وإلى هذا يومئ الزمخشري، ولكنه صرح بقوله: (روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام)، وبعض العلماء كما ترى قرر أن الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما، ولا رؤيا صادقة في النوم؛ وإنا نميل إلى ذلك الرأي،؛ لأنه ثبت بنص القرآن الصريح الذى لا يحتمل تأويلا أن الملك خاطبها حين ابتدأ حملها، كما جاء في سورة مريم، إذ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مريم]، والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله، أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام، ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان؛ لأنه ليس بإنسان، والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى، والخلق والتكوين لرب العالمين، وهو يخلق الحى من غير جرثومة حياة، كما يخلق جرثومة الحياة نفسها.
4. سؤال وإشكال: إذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية، لأن الملائكة خاطبوها؟ والجواب: هكذا قال بعض العلماء، لكن الأكثرين على أنه لا يمكن أن تكون نبية، وخطاب الملائكة لها لا يقتضى النبوة؛ لأن النبيّ من يوحى إليه بشرع، ومريم لم يوح إليها بشيء من الشرع، ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علو منزلتها، واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها.
5. الاصطفاء افتعال من صفا؛ فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة؛ والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية، ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقى؛ فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية، واختيارها لسدانة البيت المقدس؛ وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون أما لمن لا أب له، إذ تلد بعد أن تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجرى بين البشر؛ وبين الاصطفاءين طهر وتقى وعفاف، وإيمان وانصراف للعبادة، وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ وذكر في الاصطفاء ما يدل على أنها به مختارة دون نساء العالمين؛ لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لا تختص به مريم، فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار؛ أما الاصطفاء الثاني وهو أن تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود؛ ولذا قال فيه: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾
6. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء، يدل على أن لها فضلا على نساء العالمين، إذ إن التعبير ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ يتضمن معنى الأفضلية عليهن، وإن لها ذلك الفضل، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم عن أبى موسى الأشعري: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون) وروى من طرق صحيحة: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)
7. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخضوع التام المطلق، والاستسلام لله وإسلام الوجه لله الكريم، فمعنى نداء الملائكة دعوتها إلى أن تستمر على ما هي عليه من خضوع لله وإسلام وجهها له سبحانه، وتفويض أمورها له، وتكرار النداء لإشعارها بقربهم منها وهم رسل ربهم إليها، وفي ذلك بيان قربها منه سبحانه وتعالى، وفي تكرار النداء إشعار بأن طلبهم الاستمرار على القنوت هو من قبيل شكر الله على هذه النعمة؛ فهذا الاصطفاء يوجب الشكر بالاستمرار على القنوت.
8. ﴿وَاسْجُدِي﴾ هذا الأمر هنا يفسر بملازمة الطاعة والعبادة؛ فالسجود الخضوع المطلق لله تعالى؛ لأن أظهر مظاهر الخضوع أن يتطامن الشخص فيضع جبهته على الأرض خضوعا لله تعالى، وشعورا بعظمته وجلالته، وعلوه سبحانه، وانخفاض العبد أمامه.
9. ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ فسرها الزمخشري بأن تصلى مع المصلين، فقال: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ بمعنى (لتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أو انظمى نفسك في جملة المصلين، وكونى معهم في عدادهم، ولا تكونى في عداد غيرهم)، فالأمر بالركوع مع الراكعين كناية عن صلاتها مع الجماعة، وهذا فيه فائدة، وهى إثبات أن الصلاة مع الجماعة من تمام النسك والعبادة، فمريم البتول كانت ملازمة للمحراب منذ نشأتها في كفالة زكريا عليه السلام، وهى بهذا تشبه أن تكون بعزلة عن عوجاء الحياة وما فيها، وما عند الناس حتى في عباداتهم، فبينت لها الملائكة عن الله سبحانه أن تصلى جماعة مع الناس، فإن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، وعلى ذلك يكون الأمر بالسجود من قبيل الأمر العام بالانصراف للعبادة والطاعة؛ لأن فيه أظهر مظاهر إسلام الوجه لله، ويكون الأمر بالصلاة ثابتا بقوله ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾
10. يصح أن نقول إن الأمر بالسجود هو أمر بالصلاة مطلقا، إذ إنه أظهر مظاهر الصلاة، وأقواها تأثيرا في النفس، وكان الأمر على هذا النحو بأن تديم الصلاة منفردة وفي خلواتها؛ وقوله تعالى: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمر آخر بأن تصلى مع الجماعة وألا تنقطع عنهم لفضل الصلاة في الجماعة، وكأن في النص تعبيرا عن طلب الصلاة بتعبيرين؛ أولهما: طلبها بعبارة (اسجدى) والثانية: طلبها مع الجماعة، بعبارة (اركعى)، والبلاغة تسوغ أن تعبر عن المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين في صيغتيهما ومادتهما في مقام واحد، وإن كان الأمر الأول مطلقا، وكان الثاني مقيدا.
11. هذه قصة مريم في ولادتها، وتهيئتها للآية الكبرى الدالة على أن الخالق فاعل مختار، قد قصها الله جل شأنه في القرآن الذي جاء به أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يتعلم ولم يجلس إلى معلم، ولم يختلط باليهود والنصارى، وفوق ذلك هذه القصة لم تكتب في التوراة قط، ولم يتعرض لها الإنجيل، وجاء بها القرآن الكريم، وهى صادقة كل الصدق فمن أين جاء علم هذا إلى ذلك الأمي؟
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1212.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، ذكر أولا أم مريم وحملها ونذرها، وزكريا الذي كفل مريم، ثم ذكر مريم، ورزق الله لها بغير حساب، ثم ذكر زكريا ودعاءه واستجابته، والآن يعود إلى مريم.. على عادة القرآن، حيث يستطرد من قضية إلى غيرها لمناسبة بين القضيتين، ثم يعود إلى الأولى لغرض في العودة.
2. المراد بالاصطفاء الأول قبولها محرّرة لخدمة بيت الله، وكان ذلك خاصا بالرجال، أما الاصطفاء الثاني فلولادتها نبيا دون أن يمسها بشر، وقيل: هو تأكيد للأول، أما التطهير فقال صاحب تفسير المنار ما نصه: (قد فسر الطهر بعدم الحيض، وروي ان السيدة فاطمة الزهراء ما كانت تحيض، وانها لذلك لقبت بالزهراء)، والذي نرجحه ان التطهير شهادة بنزاهة مريم، وبراءتها من كل شبهة حول ولادتها.
3. تجمل الإشارة إلى أن مريم ليست نبية للإجماع على انه لم تنبّأ امرأة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، أما كلام الملائكة معها فلا يستدعي أن تكون نبية، فلقد أوحى الله إلى أم موسى، كما في الآية 7 من سورة القصص، ولم يدّع أحد لها النبوة، وإذا انقطع الوحي بعد محمد صلّى الله عليه وآله وسلم عن الأنبياء، وغير الأنبياء فقد كان من قبله ينزل على الأنبياء وغير الأنبياء، والدليل هذه الآية، وآية: أوحينا إلى أم موسى.
4. سبق القول: ان وفدا من نصارى نجران جاؤوا إلى المدينة يحاجون رسول الله في نبوته، ويدعون ألوهية عيسى، فتلا عليهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من أنباء الغيب طرفا من قصة امرأة عمران وزكريا ومريم، ليثبت لهم انه لا ينطق إلا بوحي من الله، ثم تلا هذه الآية: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾، وتلاوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الآية لوفد نجران المسيحي الذي جاء يحاجه ويجادله دليل قاطع على عظمة الإسلام، وصدق نبيّه الكريم.. ان اليهود لم يتورعوا أن يلصقوا الأكاذيب والافتراءات بمريم، ويثيروا الشبهات والتهم حول ولادتها.. فكذبهم الله، وسجل في كتابه الذي يتلوه الملأ أبد الدهر، سجل فيه نزاهتها وبراءتها، وقطع الطريق على كل متقول ومزوّر، ولو لم يكن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم صادقا في رسالته، واثقا بدعوته لأخفى ذلك عن النصارى الذين لاقى منهم العنت والتكذيب.
5. لقد أسدى الإسلام بهذه الآية أعظم الأيادي إلى النصارى، ولولاها لسمعوا الكثير من بعض المسلمين عند التخاصم، كما سمعوا من اليهود في حق مريم الطاهرة.. ولكن المسلم يعلم ان نزاهة السيدة مريم من صلب عقيدته، وان التهجم عليها كفر وخروج عن دين الإسلام.
6. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، أمرها بالعبادة للإعداد والتهيئة للأمر الخطير، وهو ولادة عيسى عليه السلام، وما من أمر خطير الا سبقته مقدماته التي تمهد لحدوثه، وكذلك أوصى الله سبحانه عيسى بالصلاة والزكاة ما دام حيا.
7. سؤال وإشكال: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، هل مريم بنت عمران أفضل، أم فاطمة بنت محمد أفضل؟ والجواب:
أ. ذهب جماعة إلى أن خير النساء أربع، وأحجموا عن المفاضلة بينهن، لحديث: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)، وهذا الحديث مذكور في صحاح السنة، ورأيته في تفسير الطبري والرازي والبحر المحيط، وروح البيان والمراغي وصاحب المنار.
ب. وقال آخرون: مريم أفضل للظاهر ﴿نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾
ج. وقال الشيعة وشيوخ من السنة: ان فاطمة أفضل، وننقل هذا القول عن جماعة من شيوخ السنة، استنادا إلى تفسير البحر المحيط لأبي حيان الاندلسي عند تفسيره لآية: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، قال ما نصه بالحرف: (قال بعض شيوخنا: والذي اجتمعت عليه من العلماء انهم ينقلون عن أشياخهم ان فاطمة أفضل نساء المتقدمات والمتأخرات، لأنها بضعة من رسول الله)
8. مما استدلّ به القائلون بأفضلية فاطمة عليه السلام ما تواتر عن أبيها من طريق السنة والشيعة: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها اغضبني)، أما قوله تعالى لمريم: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ فالمراد به عالم زمانها، لا كل زمان، وهذا التعبير معروف ومألوف، يقال: فلان أشعر الناس، أو أعلمهم، ويراد بذلك انه أشعر أو أعلم أهل زمانه، أو أبناء أمته، ونظيره كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، ولا يختلف اثنان بأن المراد عالم زمانهم، فكذلك تفضيل مريم التي هي من بني إسرائيل.. ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، ولا قائل بأن لوطا أفضل من عيسى، أو مساويا له في الفضل، ولا إسماعيل أفضل من أبيه، ومنه: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، أي كل شيء في زمانها.
9. النسوة الأربع، هن آسية ومريم وخديجة وفاطمة اللائي ورد الحديث بأنهن خير النساء، ولو نظرنا إليهن صارفين النظر عن نصوص الكتاب والسنة لألفينا ان كل واحدة منهن تختص بفضيلة دون غيرها من الصالحات الباقيات:
أ. فآسية امرأة فرعون آمنت بالله مخلصة له لائذة به وحده، وهي في بيت شر العباد، ورأس الكفر والإلحاد، وقد جاهرت بإيمانها منكرة على فرعون كفره وفساده، متحدية ظلمه وطغيانه، فأوتد لها الأوتاد، حتى قضت شهيدة الحق والايمان، ولم تكن هذه الكرامة لواحدة من الثلاث.
ب. أما السيدة مريم فقد كرّمها بولادة السيد المسيح من غير أب، وما عرفت هذه الكرامة لامرأة على وجه الأرض.
ج. أما السيدة خديجة فإنها أول من آمن وصدّق رسول الله، وصلّت هي وعلي ابن أبي طالب مع الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم أول صلاة أقيمت في الإسلام، وهي أول من بذل الأموال لنصرة هذا الدين.. ولولا أموالها، وحماية أبي طالب لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم لقضي على الإسلام في مهده، ولم يكن له عين ولا أثر.. ولم تكن هذه الكرامة لغيرها من نساء العالمين.
د. أما فاطمة فإنها بضعة من رسول الله، بل هي نفسه خلقا وخلقا ومنطقا وصلاحا وتقى، يرضيه ما يرضيها، ويؤذيها ما يؤذيه، وهي أم الحسنين سيدي شباب أهل الجنة، وعقيلة سيد الكونين بعد رسول الله، ولم تكن هذه الكرامة لأمها خديجة، ولا لآسية ولا مريم.
10. أما التفاضل بين هذه الكرامات فإنه تماما كالتفاضل بين الورد والياسمين، وثنتين من الحور العين.. لكن يكفي أن تكون لفاطمة الزهراء واحدة من خصال أبيها، حتى ترجح على نساء العالمين قاطبة من الأولين والآخرين، فكيف إذا كانت بضعة منه؟ انه أفضل الأنبياء، وهي بضعة منه فتثبت لها الأفضلية، وفي صحيح البخاري، باب مناقب قرابة رسول الله عن أبيها انه قال فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وإذا كانت فاطمة بضعة من الرسول فان بعلها عليا هو نفس رسول الله، والدليل قوله تعالى: ﴿أَنْفُسَنَا﴾
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/56.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ}، الجملة معطوفة على قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾، فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى﴾، الآية.
2. في الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام في المحدث.
3. تقدم في قوله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ الآية أن ذلك بيان لاستجابة دعوة أم مريم: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، الآية وأن قول الملائكة لمريم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة.. فاصطفاؤها تقبلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة، وربما قيل: إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة، ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.
4. ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ قد تقدم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى﴾ إلى قوله: ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.
5. سؤال وإشكال: هل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ والجواب: ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح عليه السلام أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين، وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، وأما ما قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
6. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل، والسجدة معروفة، والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
7. لما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادي (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي إليهما:
أ. أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو ما لك عند الله.
ب. الثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية وشكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون قوله: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ الآية بمنزلة التفريع لقوله: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ الآية أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/189.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ﴾ أي واذكر إذ ﴿قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ اختارك صفوة ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من المعاصي، ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ اختارك على نساء العالمين صفوة لدينه، فأجمل الاصطفاء أولاً، ثم بينّ أنه الاصطفاء على نساء العالمين كافة؛ لأنها أصلحهن لما أراده من إظهار دينه بواسطتها وجعلها أم رسوله عيسى، وجعلها وابنها آية للعالمين، بحملها لأبنها من غير أب، البلوى التي لا تتحملها وتمتثل أمر الله فيها إلا هي بحيث أتت به قومها تحمله واثقة بالله متوكلة عليه، فهو تعالى اصطفاها لأمر عظيم، وتكليف ثقيل لا يصلح له غيرها.
2. ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ اخضعي له، وتذللي له بالعبادة وفي العبادة ﴿وَاسْجُدِي﴾ له ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ وصلي مع المصلين لتركعي معهم، فهو كناية عن الصلاة مع الجماعة، وقد كانت النساء يصلين مع الجماعة خلف صفوف الرجال في وقت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فتفسير الآية بمثل ذلك أقرب، وأمر الملائكة لها أمر بشكر النعمة، والإستعداد لتحمل التكليف الثقيل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/461.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تبقى مريم في أجواء روحيّة مغمورة باللطف الإلهي، فقد أراد الله لها أن تعيش في حياتها السرّ الكبير الذي تتجلى فيه قدرة الله بأسلوب جديد لم يألفه البشر، ولا بدّ لهذه الإنسانة التي اختارها الله من بين الناس، من أن تعدّ نفسها لذلك إعدادا روحيّا مميّزا يوحي بالطهر والقداسة والاطمئنان، وذلك في نطاق المشاعر العميقة برعاية الله لها وعنايته بها وحمايته لها من كل سوء؛ فكان لها ذلك الجو الذي عاشته في حضانة زكريا وكفالته.. وامتدّ في حياتها بما أنزل الله لها من رزق يوحي بالكرامة في أجواء الغيب الذي ترفرف فيه الملائكة من خلال ما تحس به هذه الإنسانة الطاهرة، مما قد يبعث في داخلها الدهشة والطمأنينة معا.. وبدأت الملائكة تحدثها، في اللحظات التي أريد لها أن تقترب من موعد السر الكبير، لتشعر بالحماية الإلهية قبل أن تدهمها المفاجأة التي تدخلها في التجربة الصعبة.
2. أخبرتها الملائكة بأن الله اختارها لكرامته وجعلها طاهرة من الدنس، ليتعمّق في إحساسها الشعور بالطهر فلا يداخلها أيّ وهم طارئ بسبب ما ينتظرها من موقف غير مألوف، لأن ذلك هو معنى عملية الاصطفاء من خلال ما توحي به من التميّز والتقدّم.. وربما كان في تكرار كلمة (الاصطفاء) تأكيد للفكرة وإيحاء بأنّ ما يحدث لها لم يحدث ولن يحدث لغيرها من نساء العالمين.. فهنّ لا يحملن إلّا بالوسائل الطبيعية للحمل، أمّا هي فستحمل بوسيلة جديدة من وسائل القدرة الإلهيّة لولادة الإنسان، الذي سيكون مميّزا ومعجزة في طريقة خلقه ونموّه العقلي والروحي.
3. ربما أثار هذا النداء في نفسها شعورا بالحيرة أمام هذا السّر الخطير الذي يلفّه الغموض والإبهام، فهي تعرف أنه سرّ عظيم، ولكنها تجهل كنهه، وتريد أن تعي ماذا يجب عليها أن تفعله من فروض الشكر له على هذه الكرامة الخفيّة؟
4. وحدّثتها الملائكة أن عليها أن تبقى في أجواء عبادة الله لتبقى في الأجواء الروحيّة التي تبتعد بها عن حدود المادة، فتقنت في ما يمثله القنوت من معنى الطاعة عن خضوع، وتركع وتسجد لله، في ما يمثله هذا الانحناء من الشعور بالانسحاق الذاتي أمام عظمة الله.. فذلك هو الذي يحميها من كل مشاعر الضعف والقهر والاضطهاد مع الآخرين، وهو الذي يساعدها على الانتظار في ظل الغموض الشاحب.
5. ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ الذين أراد الله لهم أن يبلغوا إلى مريم رسالة روحية تفتح قلبها وتقوي روحيتها، وتبلغ بها قمة السعادة المنفتحة على حب الله، ﴿يَا مَرْيَمُ﴾ أيتها الروح الملائكة في صورة إنسان، التي تحررت من ضغط الشهوة فتمردت على كل عناصر الإغراء والإغواء، فكانت السيدة على نفسها قبل أن تكون السيدة على الآخرين، أيتها الإنسانة الطاهرة التي عاشت في شخصيتها طهارة العقل والروح والجسد، أيّتها العابدة التي عاشت العبادة في حياتها انطلاقة عبودية لله في عمق إحساسها بمعنى الربوبية، وخفقة روح بحب الله، ونبضة قلب يحمده ويشكره، وهزة شعور ينفتح عليه.. أيتها الضعيفة في جسدها، القوية في روحها، الكبيرة بإيمانها، أيها الطهر الذي لا يقترب إليه دنس، والنقاء الذي لا يصيبه كدر، والصفاء الذي لا يطوف به العكر.
6. ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ لتكوني محل كرامته ومظهر قدرته ومعجزة إرادته، ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من كل رجس معنوي، لتكوني رمز الطهر الأبيض بياض الثلج، النقي نقاء النور.
7. ﴿وَاصْطَفَاكِ﴾ من بين خلقه ﴿عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، فقد أعدّك إعدادا روحيا أخلاقيا لتكوني القدوة للجميع، فلم تحصل امرأة من كل جيلك من النساء على ما حصلت عليه من الملكة الروحية والكرامة الإلهية، وأنبتك نباتا حسنا في حركة النمو الطبيعي الواعد بأفضل النتائج وأطيب الثمار.
8. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ واستمري في خط الطاعة، فلا بد من أن تبقي معه في صوفية الروح، وعبادة الذات، وخشوع الإحساس، وحركية الكيان.. فإنك كلما عبدت الله وأطعته أكثر كلما فاضت ألطافه عليك أكثر، وأحبّك أكثر، ﴿وَاسْجُدِي﴾ في حالة انسحاق الذات أمامه كتعبير عن ذوبان الوجود في وجوده.
9. ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ بما يمثله الركوع من انحناء الإرادة أمام إرادة الله من خلال انحناء الجسد أمامه؛ فإن قصة العبودية في حضرة الألوهية هي قصة الذوبان الروحي والجسدي في معنى الانسحاق الكلي في السجود لله والانحناء الكلي في الركوع له، ليعيش الإنسان مع كل الراكعين في انحناء وجودي شامل يقف فيه الإنسان بكل وجوده خاضعا لله في عملية تكامل في معنى العبودية بين يدي الرب.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/8.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم، تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ﴾
2. ما أعظم هذا الافتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه، وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من الله تعالى باختياره وتفضيله، كما في مورد مريم بنت عمران، فقد بشرتها الملائكة بأنّ الله تعالى قد اختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.
3. الجدير بالذكر أن كلمة (اصطفاك) تكررت مرتين في هذه الآية، ففي المرّة الاولى كانت لبيان الاصطفاء المطلق، وفي الثانية إشارة إلى افضليّتها على سائر نساء العالم المعاصرة لها، وهذا يعني أن مريم كانت أعظم نساء زمانها، وهو لا يتعارض مع كون سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها السّلام سيّدة نساء العالمين، فقد جاء في أحاديث متعدّدة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والإمام الصادق عليه السّلام قولهما: (أمّا مريم فكانت سيّدة نساء زمانها، أمّا فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين)، كما أنّ كلمة (العالمين) لا تتعارض مع هذا الكلام أيضا، فقد وردت هذه الكلمة في القرآن وفي الكلام العام بمعنى الناس الذين يعيشون في عصر واحد، كما جاء بشأن بني إسرائيل ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، فلا شكّ أنّ تفضيل مؤمني بني إسرائيل كان على أهل زمانهم.
4. ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم، فبعد أن بشّرها بأنّ الله قد اصطفاها، قالوا لها: الآن اشكري الله بالركوع والسجود والخضوع له اعترافا بهذه النعمة العظمى، ونلاحظ هنا أنّ الملائكة يصدرون إلى مريم ثلاثة أوامر:
أ. الأول: القنوت أمام الله، والكلمة ـ كما سبق أن قلنا ـ تعني الخضوع ودوام الطاعة.
ب. الثاني: السجود، الذي هو أيضا دليل الخضوع الكامل أمام الله.
ج. الثالث: الركوع، وهو أيضا خضوع وتواضع.
5. ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قد يكون إشارة إلى صلاة الجماعة، أو طلب التحاقها بجموع المصلّين الراكعين أمام الله، أي اركعي مع عباد الله المخلصين الذين يركعون لله.
6. في هذه الآية، الإشارة إلى السجود تسبق الإشارة إلى الركوع، وليس معنى هذا أنّ سجودهم قبل ركوعهم في صلاتهم، بل المقصود هو أداء العبادتين دون أن يكون القصد ذكر ترتيبهما، كما لو كنّا نطلب من أحدهم أن يصلّي، وأن يتوضّأ، وأن يتطهّر، إذ يكون قصدنا أن يقوم بكلّ هذه الأمور، إنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، ثمّ إنّ الركوع والسجود أصلا بمعنى التواضع والخضوع، وما حركتا الركوع والسجود المألوفان سوى بعض مصاديق ذلك.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/493.
25. مريم والخصومة في كفالتها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈25⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾، يعني: قداحهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يقول الله لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ يعني: بالخبر الغيب في قصة زكريا ويحيى ومريم، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ يعني: عندهم: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ في كفالة مريم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ إن مريم لما وضعت في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها، فقال الله لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(2).
__________
(1) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧٠/٨٩.
(2) ابن جرير: ٥/٤٠٤.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿أَنْبَاءُ﴾ يعني: أحاديث، ﴿لَدَيْهِمْ﴾ يعني: عندهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٨.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾: اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريم، فقرعهم زكريا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم، فسهمهم بقلمه زكريا(1).
__________
(1) ابن المنذر: ١/١٩٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ حيث اقترعوا على مريم، وكان غيبا عن محمد صلّى الله عليه وآله وسلم حين أخبره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾: سهامهم، يعني: قداحهم التي استهموا بها عليها، فخرج قدح زكريا فضمها، فيما قال(2).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٥.
(2) ابن هشام في السيرة: ١/٥١٥.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾: أي: ما كنت معهم إذ يختصمون فيها، يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم؛ لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ معناه من أخباره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ معناه عندهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ معناه قداحهم(2).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 109.
(2) تفسير الإمام زيد، ص 110.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾، يقول: عصيهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٣٤٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿أَقْلَامَهُمْ﴾ التي يكتبون بها التوراة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ أن الذي ذكر في هؤلاء الآيات: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ يعني: حديثا من الغيب لم تشهده، يا محمد، فذلك قوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾، ثم قد جئتهم به دليلا على نبوتك، والحجة لك عليهم، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ يقول: ما حضرت، ولا عينت(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٤٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ أي: من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا محمّد ولم تحضر، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك، ثم في ذلك وجوه الدلالة:
أ. أحدها: أراد أن يخبره عن صفوة هؤلاء وصنيعهم؛ ليكون على علم من ذلك.
ب. الثاني: دلالة إثبات رسالته؛ لأنّه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك؛ دل أنه إنما علم ذلك بالله عزّ وجل.
ج. الثالث: أن يتأمل وجه الصفوة لهم؛ أنهم بما نالوه؛ فيجتهدوا في ذلك، وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ الآية:
أ. قيل: إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية؛ إلا قلم زكريا؛ فإنه وقف على وجه الماء.
ب. وقيل: طرحوا أقلامهم في الماء، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عاليا.
3. من الناس من احتج بجواز القرعة والعمل بها ـ بهذه الآية؛ حيث ضمّها زكريا ـ مريم ـ إلى نفسه، لما خرجت القرعة له؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره؛ لوجهين:
أ. لحق الوحي.
ب. لظهور إعلام في نفس القرعة؛ ما يعلم أنه كان بالله ذلك لا بنفسه؛ كارتفاع القلم على الماء، ومثل ذلك لا يكون للقلم، والمحق من المبطل، وفيما بين سائر الخلق؛ لدفعهم التهم؛ فهي لا تدفع أبدا.
4. يحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك، أو علموا ذلك بالوحي، فليس اليوم وحي؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم أو كان ذلك آية، والآية لا يقاس عليها غيرها؛ نحو: قبول قول قتيل بني إسرائيل، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/370.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾، يمكن ـ والله أعلم ـ: أن يكونوا تساهموا وطرحوا الأقلام، وجعلوها بمنزلة السهام، أيَّ هؤلاء القرابة يقوم بكفالتها، فكفلها زكريا.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، يريد أنك ما حضرتهم وما كنت عندهم حين كانوا يتفاتحون ويتحدثون.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أي ما كان من البشرى بالمسيح ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ وأصل الوحي إلقاء المعنى إلى صاحبه والوحي إلى الرسل الإلقاء بالإنزال وإلى النحل بالإلهام ومن بعض إلى بعض بالإشارة كما قال ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم]، وقال العجاج: وحى لها القرار فاستقرت.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي تشاحوا عليها وتنازعوا فيها طلباً لكفالتها فقال زكريا أنا أحق بها لأن هي ابنة إمامنا وعالمنا فاقترعوا عليها بإلقاء الأقلام مستقبلة لجري الماء فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة وانحدرت أقلامهم فقرعهم زكرياء وهو معنى قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران:37]
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/141.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ يعني ما كان من البشرى بالمسيح، ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ وأصل الوحي إلقاء المعنى إلى صاحبه، والوحي إلى الرسل الإلقاء بالإنزال، وإلى النحل بالإلهام، ومن بعض إلى بعض بالإشارة، كما قال تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾، قال العجاج: (أوحى لها القرار فاستقرّت)
2. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم تشاجروا عليها وتنازعوا فيها طلبا لكفالتها، فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي، وقال القوم: نحن أحق بها لأنها بنت إمامنا وعالمنا، فاقترعوا عليها بإلقاء أقلامهم وهي القداح مستقبلة لجرية الماء، فاستقبلت عصا زكريا لجرية الماء مصعدة، وانحدرت أقلامهم فقرعهم زكريا، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والربيع.
ب. الثاني: أنهم تدافعوا كفالتها لأن زكريا قد كان كفل بها من غير اقتراع، ثم لحقهم أزمة ضعف بها عن حمل مئونتها، فقال للقوم: ليأخذها أحدكم فتدافعوا كفالتها وتمانعوا منها، فأقرع بينهم وبين نفسه فخرجت القرعة له، وهذا قول سعيد.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/394.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ ذلك إشارة إلى الاخبار عما تقدم من القصص، وفيه احتجاج على المشركين، من حيث أنه جاء بما لا يعلم إلا من أربعة أوجه: إما مشاهدة الحال، أو قراءة الكتب، أو تعليم بعض العباد، أو بوحي من الله، وقد بطلت الأوجه الثلاثة للعلم بأنها لم تكن حاصلة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فصح أنه على الوجه الرابع: بوحي من الله (تعالى)
2. الإيحاء: هو إلقاء المعنى إلى صاحبه فقوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ أي نلقي معناه اليك، والإيحاء: الإرسال إلى الأنبياء تقول: أوحى الله إليه أي أرسل إليه ملكا، والإيحاء الإلهام ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ أي ألهمها وقوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ معناه ألقى إليها معنى ما أراد فيها، قال العجاج: (أوحى لها القرار فاستقرت)، والإيحاء الإيماء قال الشاعر: (فأوحت إلينا والأنامل رسلها)، ومنه قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ أي أشار إليهم، والوحي: الكتاب، يقال: وحى يحيي وحياً أي كتب، لأن به يلقي المعنى إلى صاحبه قال رؤبة: (لقدر كان وحاه الواحي)، وقال: (في سور من ربنا موحية)، وقال آخر: (من رسم آثار كوحي الواحي)، وأصل الباب إلقاء المعنى إلى صاحبه، وقوله: ﴿أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ أي ألقى إليهم وألهمهم إلهاماً، ومنه قوله: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ أي يلقون إليهم وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ﴾ أي ألقي إلي.
3. الغيب: خفاء الشيء عن الإدراك، تقول غاب عني كذا يغيب غيباً وغياباً، والغائب: نقيض الحاضر.
4. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: التعجب من حرصهم على كفالتها، لفضلها، ذكره قتادة، لأنه قال: فشاح القوم عليها، فقال زكريا: أنا أولى، لأن خالتها عندي، وقال القوم: نحن أولى لأنها بنت إمامنا، لأن عمران كان إمام الجماعة.
ب. الثاني: التعجب من تدافعهم لكفالتها، لشدة الأزمة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء بها زكريا عليه السلام.
5. في الآية حذف وتقديرها ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ لينظروا ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي أيهم أحق بكفالتها، والأقلام معناها هاهنا القداح وذلك أنهم ألقوها تلقاء الجرية، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة، وانحدرت أقلام الباقين، فقرعهم زكريا في قول الربيع، وكان ذلك معجزة له عليه السلام.
6. القلم: الذي يكتب به، والقلم: الذي يجال بين القوم، كل إنسان وقلمه، وهو القدح، والقلم: قص الظفر قلمته تقليماً، ومقالم الرمح كعوبه، والقلامة هي المقلومة عن طرف الظفر وأصل الباب قطع طرف الشيء.
7. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حد الخصومة، وفي وقت التشاح قولان:
أ. أحدهما: حين ولادتها وحمل أمها إياها إلى الكنيسة تشاحوا في الذي يخصها ويحضنها ويكفل بتربتيها، وهو الأكثر.
ب. وقال بعضهم إنه كان ذلك بعد كبرها وعجز زكريا عن تربيتها.
8. (إذ) الأولى متعلقة بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ والثانية بقوله: (يختصمون) على قول الزجاج.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/459.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإيحاء: إلقاء المعنى إلى غيره على وجه يخفى، ثم يسمى الإلهام وحيًا، والإرسال وحيًا كقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ﴾ ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾
ب. القَلْم: قص الظفر، والقُلاَمَةُ: ما يقطع منه، والقلم: واحد الأقلام سُمّيَ به لأنه يُبْرَى، ويقطع طرفه.
ج. الغائب: ما غاب عن الحواس، ونقيضه الحاضر.
2. ﴿ذَلِكَ﴾ يعني ما تقدم ذكره من حديث زكريا ويحيى وعيسى ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أخبار الغيب ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ نلقيه إليك لتعلمه ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ أنت يا محمد ﴿لَدَيْهِمْ﴾ عندهم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾:
أ. قيل: كانوا يكتبون التوراة، فألقوا الأقلام التي كانت بأيديهم في الماء أيهم يكفل مريم.
ب. وقيل: أقلامهم: قداحهم للاقتراع.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾:
أ. قيل: فيه حذف تقديره: لينظروا أيهم يكفل مريم.
ب. وقيل: أيهم تظهر قرعته ليكفل مريم.
ج. وقيل: هذا تعجيب، من الله تعالى لنبيه من حرصهم على كفالتها لفضلها عن قتادة قال: تشاح القوم عليها، فألقوا القداح.
د. وقيل: تعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الأزمة في زمانها حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا.
هـ. وقيل: إنهم ألقوها في الماء تلقاء الجِرْيَةِ فاستقبلت قلم زكريا جرية، الماء مصعدة، وانحدرت أقلام الآخرين، وذلك معجزة له ورفعة لها، عن الربيع.
و. وقيل: ارتفع قلمه فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، عن ابن إسحاق وجماعة.
ز. وقيل: ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء فسهمهم، عن السدي وجماعة.
5. ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿لَدَيْهِمْ﴾ عندهم ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ في تكفل مريم، وفيه تنبيه على أن التشاح بينهم بلغ إلى حد الخصومة.
6. تدل الآيات الكريمة على:
أ. يدل قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ على معجزة لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلم، من حيث جاء بما لم يُعلم إلا بمشاهدة حال أو قراءة كتاب أو تعليم أو وحي، وقد بطلت الأوجه الثلاثة، فثبت أنه بوحي، وأنه معجزة له، وتدل على أن للقرعة مدخلاً في تميز الحقوق.
ب. جواز الخصومة في الحقوق، وتدل على المنع منه بعد خروج القرعة.
7. ذكر ﴿نُوحِيهِ﴾، وقدم ذكر الأنباء رد على ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: يوحي ذلك إليك.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/235.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأنباء: الأخبار، الواحد نبأ.
ب. الإيحاء هو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه يخفى، والإيحاء: الإرسال إلى الأنبياء، تقول: أوحى الله إليه اي: أرسل إليه ملكا، والإيحاء: الإلهام، ومنه قوله تعالى ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾، وقوله ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ معناه: ألقى إليها معنى ما أراد منها، قال العجاج:
çأوحى لها القرار فاستقرت... وشدها بالراسيات الثبتé
والإيحاء: الإيماء، قال: فأوحت إلينا والأنامل رسلها، ومنه قوله تعالى ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ أي: أشار إليهم، والوحي: الكتابة، قال رؤية: لقدر كان وحاه الواحي وقال: (في سور من ربنا موحية)
ج. القلم: الذي يكتب به، والقلم: الذي يجال بين القوم كل انسان وقلمه وهو القدح والقلم: قص الظفر، ومقالم الرمح كعوبه، وأصله: قطع طرف الشيء.
2. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من حديث مريم وزكريا ويحيى ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أي: من أخبار ما غاب عنك، وعن قومك ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ أي: نلقيه عليك معجزة وتذكيرا، وتبصرة وموعظة وعبرة، ووجه الإعجاز فيه أن ما غاب عن الانسان، يمكن أن يحصل علمه بدراسة الكتب، أو التعلم، أو الوحي، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يشاهد هذه القصص، ولا قرأها من الكتب، ولا تعلمها، إذ كان نشؤه بين أهل مكة، ولم يكونوا أهل كتاب، فوضح الله أن أوحى إليه بها، وفي ذلك صحة نبوته.
3. ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿لَدَيْهِمْ﴾ عندهم ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء، على ما تقدم ذكره قبل، وقيل أقلامهم: أقداحهم للاقتراع، جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة.
4. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ وفيه حذف أي: لينظروا أيهم تظهر قرعته، ليكفل مريم:
أ. قيل: هذا تعجيب من الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من شدة حرصهم على كفالة مريم، والقيام بأمرها، عن قتادة.
ب. وقيل: هو تعجيب من تدافعهم لكفالتها، لشدة الأزمة التي لحقتهم، حتى وفق لها خير الكفلاء لها زكريا.
5. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حد الخصومة، وفي وقت التشاح قولان:
أ. أحدهما: حين ولادتها، وحمل أمها إياها إلى الكنيسة، تشاحوا في الذي يحضنها، ويكفل تربيتها، وهذا قول الأكثر.
ب. وقال بعضهم: كان ذلك وقت كبرها وعجز زكريا عن تربيتها.
6. في هذه الآية دلالة على أن للقرعة مدخلا في تميز الحقوق، وقد قال الصادق عليه السلام: ما تقارع قوم، ففوضوا أمورهم إلى الله تعالى، إلا خرج سهم المحق، وقال: أي قضية أعدل من القرعة، إذا فوض الأمر إلى الله تعالى، يقول: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾، وقال الباقر: أول من سوهم عليه مريم ابنة عمران، ثم تلا ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ الآية، والسهام ستة ثم استهموا في يونس، ثم كان عبد المطلب ولد له تسعة بنين، فنذر في العاشر إن يرزقه الله غلاما أن يذبحه، فلما ولد له عبد الله لم يقدر أن يذبحه ورسول الله في صلبه، فجاء بعشرة من الإبل فساهم عليها، وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله، فزاد عشرا فلم تزل السهام تخرج على عبد الله، ويزيد عشرا، فلما أن أخرجت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي، فأعاد السهام ثلاثا فخرجت على الإبل، فقال: الآن علمت أن ربي قد رضي بها، فنحرها.
7. قال أبو علي: إذ في قوله ﴿إِذْ يُلْقُونَ﴾ متعلق بكنت، و﴿إِذ﴾ في قوله ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ بعد ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ متعلق بيختصمون، ويجوز أيضا أن يكون متعلقا بكنت، كأنه قال: وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة، وهذا إنما يجوز عندي إذا قدرت ﴿إِذِ﴾ الثانية بدلا من الأولى، فإن لم تقدره هذا التقدير لم يجز، وإنما يجوز البدل في هذا إذا كان وقت اختصامهم وقت قول الملائكة ليكون البدل المبدل منه في المعنى.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/747.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ (ذلك) إشارة إلى ما تقدّم من قصّة زكريا، ويحيى، وعيسى، ومريم، والأنباء: الأخبار، والغيب: ما غاب عنك، والوحي: كل شيء دللت به من كلام أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة، قاله ابن قتيبة، والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب (الوجوه والنظائر) مونّقة.
2. في الأقلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسّدّيّ.
الثاني: أنها العصيّ، قاله الرّبيع بن أنس.
الثالث: أنها القداح، وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجّاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة، وإنما قيل للسّهم: القلم، لأنه يقلّم، أي: يبرى، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء، فقد قلّمته، ومنه القلم الذي يكتب به، لأنه قلّم مرة بعد مرة، ومنه: قلّمت أظفاري.
3. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ لينظروا أيّهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها، ومعنى ﴿لَدَيْهِمْ﴾: عندهم، وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا.
__________
(1) زاد المسير: 1/283.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
2. سؤال وإشكال: لم نفيت هذه المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم؟ والجواب: كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، ونظيره ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: 44]، ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ [القصص: 46] ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: 102] و﴿مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [هود: 49]
3. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ الأنباء: الإخبار عما غاب عنك، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68]، وقال في الشياطين ﴿لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121]، وقال: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً.
4. ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً:
أ. الأول: المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين.
ب. الثاني: أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم، هذا قول الربيع.
ج. الثالث: قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 141] وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً.
5. وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه(2).
6. ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم.
7. اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة:
أ. فقال بعضهم: إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها.
ب. وقال بعضهم: إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها.
ج. وقال آخرون: بل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلًا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.
8. اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا:
أ. فمنهم من قال كانوا هم خدمة البيت.
ب. ومنهم من قال بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق.
9. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ففيه حذف والتقدير: يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً.
10. قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: المعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع.
ب. ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع.
11. المقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها، والقيام بإصلاح مهماتها، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: 35]، وقالت: {إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/220.
(2) الكلام هنا للقاضي
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أي الذي ذكرنا من حديث زكريا ويحيى ومريم عليهم السلام من أخبار الغيب، ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ فيه دلالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ فرة الكناية إلى ﴿ذَلِكَ﴾ فلذلك.
2. الإيحاء هنا الإرسال إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والوحي يكون إلهاما وإيماء وغير ذلك، وأصله في اللغة إعلام في خفاء، ولذلك صار الإلهام يسمى وحيا، ومنه ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة] وقوله: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل] وقيل: معنى ﴿أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ أمرتهم، يقال: وحى وأوحى، ورمى وأرمى، بمعناه، قال العجاج:أوحى لها القرار فاستقرت أي أمر الأرض بالقرار، وفي الحديث: (الوحي الوحي) وهو السرعة، والفعل منه توحيت توحيا، قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه وحي كيف كان، والوحي: السريع، والوحي: الصوت، ويقال: استوحيناهم أي استصرخناهم، قال:أوحيت ميمونا لها والأزراق.
3. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي وما كنت يا محمد لديهم، أي بحضرتهم وعندهم ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ جمع قلم، من قلمه إذا قطعه، قيل: قداحهم وسهامهم، وقيل: أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، وهو أجود، لأن الأزلام قد نهى الله عنها فقال: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة]، إلا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت عليها الجاهلية تفعلها.
4. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي يحضنها، فقال زكريا: أنا أحق بها، خالتها عندي، وكانت عنده أشيع بنت فاقود أخت حنة بنت فاقود أم مريم، وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها، بنت عالمنا، فاقترعوا عليها وجاء كل واحد بقلمه، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجره الماء فهو حاضنها، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (فجرت الأقلام وعال قلم زكريا)، وكانت آية له، لأنه نبي تجري الآيات على يديه، وقيل غير هذا، و﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل المضمر الذي دل عليه الكلام، التقدير: ينظرون أيهم يكفل مريم، ولا يعمل الفعل في لفظ ﴿أَيِّ﴾ لأنها استفهام.
5. استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة، ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، قال ابن المنذر، واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها، وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات باب القرعة في المشكلات وقول الله تعالى ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ وساق حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها مثل قوم استهموا على سفينة) الحديث.. وحديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، الحديث، وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث، وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فقال مرة: يقرع للحديث، وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر، وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف، واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز، قال ابن العربي: (وهذا ضعيف، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح، فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر، ولا يصح لأحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي) وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به، وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها ثم تجفف قليلا ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه.
6. دلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة، وقد قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في ابنة حمزة ـ واسمها أمة الله ـ لجعفر وكانت عنده خالتها، وقال: (إنما الخالة بمنزلة الأم) وقد تقدمت في البقرة هذه المسألة، وخرج أبو داوود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها ابنة عمي وخالتها عندي، وإنما الخالة أم، فقال علي: أنا أحق بها ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فهي أحق بها، وقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها، فخرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا قال: (وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم)، وذكر ابن أبي خيثمة أن زيد بن حارثة كان وصي حمزة، فتكون الحالة على هذا أحق من الوصي ويكون ابن العم إذا كان زوجا غير قاطع بالخالة في الحضانة وإن لم يكن محرما لها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/86.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها، والوحي في اللغة: الإعلام في خفاء، يقال: وحى وأوحى بمعنى: قال ابن فارس: الوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ أي: تحضرنهم، يعني: المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوما لأنهم أنكروا الوحي، كان ذلك الإنكار صحيحا لم يبق طريق للعلم له إلا المشاهدة والحضور، وهم لا يدّعون ذلك فثبت كونه وحيا تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا ممن يلابس أهلها، والأقلام: جمع قلم، من قلمه: إذا قطعه، أي: أقلامهم يكتبون بها؛ وقيل: قداحهم.
3. ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي: يحضنها، أي: يلقون أقلامهم ليعلموا أيهم يكفلها، وذلك عند اختصامهم في كفالتها، فقال زكريا: هو أحق بها، لكون خالتها عنده، وهي: أشيع أخت حنة أمّ مريم، وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها، لكونها بنت عالمنا، فاقترعوا، وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري، على أن من وقف قلمه ولم يجر مع الماء فهو صاحبها، فجرت أقلامهم ووقف قلم زكريا، وقد استدلّ بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف، وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/389.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما سبق ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ أي الأنباء المغيبة عنك ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ مطابقا لما في كتابهم، وتذكير الضمير في ﴿نُوحِيهِ﴾ بجعل مرجعه ذلك.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي وما كنت معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم أي سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة.
3. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ بسببها تنافسا في كفالتها وقد روي عن قتادة وغيره أنهم ذهبوا إلى نهر الأردنّ واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا، فإنه ثبت، ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء.
4. قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 141]، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما، وقال السيوطيّ في (الإكليل): هذه الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع، وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس.
5. سؤال وإشكال: لم نفيت المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها، وهو موهوم؟ والجواب: قال الزمخشريّ: كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة، ونحوه: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: 44]، ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ [القصص: 46]، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: 102]، ـ انتهى ـ وبالجملة، فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحيا على طريقة التهكم بمنكريه.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/318.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَالِكَ﴾ ما ذكر في شأن آل عمران ويحيى ومريم وعيسى، ﴿مِنَ اَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ﴾ الهاء لـ (ذَلِكَ)، أو لـ (الْغَيْبِ)، فيكون أعمَّ، ﴿إِلَيْكَ﴾ وإنَّما تُعرفُ بالوحي لا من أنباء الغيب التي تُعرف بالدلائل، كالصانع وصفاته، وأحوال الآخرة.
2. ﴿وَمَا كُنتَ﴾ يا محمَّد، ﴿لَدَيْهِم﴾ إلخ ما كان محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلم حاضرا عند عمران ويحيى ومريم وعيسى، لأنَّه ليس في زمانهم، فلا يعرف قصصهم بالمشاهدة، كما لم يعرفها بالسماع من الناس ولو من اليهود، وقد عرفها على طبق ما عرفوا وما ذلك إِلَّا بالوحي، وقد نفاه اليهود عنه، وهذا تهكُّم بهم، ووجه آخر في التهكُّم أنَّ معرفتها بالمشاهدة أو بالسماع من الله أو بالقراءة، وقد نفيتم السماع والقراءة فلم يبق إِلَّا المشاهدة فمن أين عرفها من غير الوحي مع إقراركم بأنَّه لم يشاهد، ولم يسمع من لسان أو من كتاب يقرؤه؟، والقائلون: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: 103]، هم قريش، ومثل ذلك: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46]، ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الَامْرَ﴾ [القصص: 44]، ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذَ اَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: 102]
3. ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم﴾ في عين الأردن أقلاما يكتبون بها التوراة، وهي ستَّة وهم ستَّة، اقترعوا بها تبرُّكا، كتبوا أسماءهم عليها فبذلك تعرف؛ فلا ضعف في هذا التفسير، أو المراد سهام القتال يكتبون عليها أسماءَهم، وكلُّ ما يُبرَى ويُقطع فهو قلم بمعنى مقلوم، أي: مقطوع منه، وإن كانت من نحاس فصُنعُها شبيه بالقطع أو تقطع.
﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ﴾ يربِّي ﴿مَرْيَمَ﴾ ليظهر الذي يكفل مريم، فـ (أيُّ) موصول فاعل لمحذوف، أو يُلقُونَ أَقلَامَهُم ينظرون أيَّهم..إلخ، و(ينظرون) حال، أو يقدَّر: (ناظرين)، أو ليعلموا أيَّهم يكفل مريم، أو لينظروا أيَّهم يكفل مريم، فهي استفهاميَّة علِّق بها النظر، أو العلم المقدَّر.
4. للقرعة تأثير في تمييز الحقوق، قال جعفر الصادق: ما تقارع قوم فوَّضوا أمرهم إلى الله سبحانه إِلَّا خرج سهم المحقِّ، ولا أعدل من قضيَّة فوِّض الأمر فيها إلى الله، وقد قال الله تعالى : ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 141]، فهو أهل لأن يلقى في البحر، قال الباقر: (أوَّل ما سوهم عليه مريم)، وقرأ: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم﴾، قلت: لا دليل في الآية على أنَّها أوَّل، بل تدلُّ على أنَّ القرعة معتادة قبل.
5. ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي: في كفالتها مرَّة ثانيَّة بعد الاقتراع، ومرَّ أنَّهم اقترعوا ثلاثا، وقيل: هذا الثاني عند كبرها وعجز زكريَّاء عن تربيتها، وقيل: ما كان إِلَّا اقتراع واحد بعد ما كبرت وعجز، ومن اختصامهم أنَّ يحيى قال: أنا أحقُّ بها لأنَّ خالتها عندي، أو هي أمُّه لا زوجته، وقالوا: لو كان الأمر بذلك لكانت أمُّها أحقَّ، بل نتساهم، فخرج سهمه، وكلَّما مضت لتملأ قُلَّتها قالت الملائكة: (إنَّ الله اصطفاك)، ويحيى يسمع ويقول: (لابنة عمران شأن)!.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/266.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد من أخبار مريم وزكريا من أنباء الغيب لم تشهده أنت ولا أحد من قومك، ولم تطلع على شيء منه في الكتاب وإنما نحن نوحيه إليك بإنزال الروح الأمين الذي خاطب مريم وزكريا بما خاطبهما به على قلبك، وإلقائه في روعك خبر ما وقع بين بني إسرائيل في ذلك وغير ذلك.
2. ضمير ﴿نُوحِيهِ﴾ راجع إلى الغيب ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ أي قداحهم المبرية، فالسهام والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون تسمى أقلاما ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي يستهمون بهذه الأقلام ويقترعون على كفالة مريم، حتى قرعهم زكريا فكان كافلها ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ في ذلك ولم يتفقوا على كفالتها إلا بعد القرعة.
3. قال محمد عبده: أعقب هذه القصة بهذه الآية الناطقة بأنها من أنباء الغيب، وأخر خبر إلقاء الأقلام لكفالة مريم وذكره في سياق نفي حضور النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مجلس القوم وشهود ما جرى منهم، ولا بد لهذه العناية من نكتة، وقد قالوا في بيانها: إن كونه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ أخبار القوم ولم يروها سماعا عن أحد معلوم عند منكري نبوته، فلم يبق له طريق للعلم بها إلا مشاهدتها، فنفاها تهكما بهم، وبذلك تعين أنه لم يبق له طريق لمعرفتها إلا وحي الله تعالى إليه بها، وهذا الجواب منقوض وإن اتفق عليه من نعرف من المفسرين، وذلك أن القرآن نطق بأنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ وقالوا ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا﴾ قال: والصواب أن النكتة في النص على نفي حضور النبي القوم إذ يلقون أقلامهم ـ أي بعد النص على كون القصة من أنباء الغيب ـ هي أن هذه المسألة لم تكن معلومة عند أهل الكتاب فيكون للمنكرين شبهة على أنه أخذها عنهم.
4. يرد على هذا قوله تعالى في آخر قصة يوسف: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ وإذا كان بعض المجاحدين قد ادعوا أنه يعلمه بشر، فهذه الدعوى قدرها القرآن بقوله: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ ورد أنهم قالوا هذا إذ رأوه يقف على قين حداد رومي بمكة، وذلك القين لم يكن يحسن العربية، وأنى للقين بمثل هذا العلم عرف العربية أم لم يعرفها؟ فالقرآن لا يعتد بتلك الشبهة؛ إذ الأمي الناشئ بين الأميين لا يمكن أن يتلقى أخبار الأولين من حداد ولا من عالم كحبر أو راهب بمجرد وقوفه عليه أو اجتماعه به، ولو أمكن ذلك عادة أو عقلا لما كان لعاقل أن يثق بحفظ ذلك القين ـ أو غير القين ـ وبأمانته ولا يختلف أحد من المنكرين لنبوته صلّى الله عليه وآله وسلم في كمال عقله وسمو إدراكه وفطنته، ولا شك في أن إتيانه في هذه القصص بما لا يعرفه أهل الكتاب مما يؤكد دفع تلك الشبهة الواهية، ويدعم ذلك الأصل الراسخ وهو كونه صلّى الله عليه وآله وسلم أميا نشأ بين أميين لا علم لهم بأخبار الأنبياء مع أممهم؛ كما قال في سورة هود بعد ذكر قصة نوح عليه السلام: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ وقد سمع كفار قريش هذه الآية وسائر سورتها ولم يقل أحد منهم بل كنا نعلمها، ومثل هذا قوله بعد ذكر قصة موسى وشعيب في سورة القصص: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ إلى آخر الآيات الثلاث.
5. أما المجاحدون من أهل الكتاب لا سيما دعاة النصرانية في هذا الزمان، فهم يقولون فيما وافق القرآن به كتبهم إنه مأخوذ منها بدليل موافقته لها، وفيما خالفها إنه غير صحيح بدليل أنه خالفها، وفيما لم يوافقها ولم يخالفها به إنه غير صحيح لأنه لم يوجد عندنا، وهذا منتهى ما يكابر به مناظر مناظرا، وأبطل ما يرد به خصم على خصم، ويقول المسلمون: إننا نحتج على أن ما جاء به القرآن هو الحق بما قام من الأدلة على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع حفظ كتابه، ونقله بالتواتر الصحيح، ومن تلك الدلائل التي يشتمل عليها القرآن معرفة قصص الأنبياء ومن كونه أميا لم يتعلم شيئا ـ كما تقدم ـ فهي دليل على صحة نفسها، وما جاء فيها مخالفا لما في الكتب السابقة نعده مصححا لما وقع فيها من الغلط والنسيان بانقطاع أسانيدها حتى أن أعظمها وأشهرها كالأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ولا زمن كتابتها ولا اللغة التي كتبت بها أولا، وقد تقدم الإلماع إلى ذلك من قبل.
__________
(1) تفسير المنار: 3/301.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم، بل هي وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين.
2. (وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها.
3. (وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل الفضل والذين، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب ديني إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة.
4. جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته، لأنه نشأ بين قوم أميين، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحى أو المشاهدة، والوحى ينكرونه، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها.
5. ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ وقوله بعد قصة موسى وشعيب ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾
6. الجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم: إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها، حتى إن أعظمها وأشهرها وهى الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها، ولا الزمن الذي كتبت فيه، ولا اللغة التي كتبت بها أولا.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/152.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عند هذا المقطع من القصة، وقبل الكشف عن الحدث الكبير.. يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص.. إنه إثبات الوحي، الذي ينبئ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب، في هذا الأمر: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾
2. وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل، وفاء لنذرها وعهدها مع ربها، والنص يشير إلى حادث لم يذكره (العهد القديم) ولا (العهد الجديد) المتداولان؛ ولكن لا بد أنه كان معروفا عند الأحبار والرهبان، حادث إلقاء الأقلام.. أقلام سدنة الهيكل.. لمعرفة من تكون مريم من نصيبه، والنص القرآني لا يفصل الحادث ـ ربما اعتمادا على أنه كان معروفا لسامعيه، أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة ـ فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة ـ بواسطة إلقاء الأقلام ـ لمعرفة من هي من نصيبه، على نحو ما نصنع في (القرعة) مثلا، وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن، فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت، وكانت هذه هي العلامة بينهم، فسلموا بمريم له.
3. وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم حاضره، ولم يبلغ إلى علمه، فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها، فاتخذها القرآن ـ في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها ـ دليلا على وحي من الله لرسوله الصادق، ولم يرد أنهم ردّوا هذه الحجة، ولو كانت موضع جدال لجادلوه؛ وهم قد جاؤوا للجدال!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/397.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الإشارة هنا، إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أخبار امرأة عمران، وزكريا، ومريم ابنة عمران.. وهى مما غاب أمره عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ولم يكن عنده من أخبارها شيئا.. فهي غيب بالنسبة الرسول، وإن كان عند أهل الكتاب شيء منها!
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ تأكيد لما بين الرسول، وبين هذه الأحداث من بعد، ومن غياب أمرها عنه، لأنه ـ أولا ـ لم يكن من أهل الكتاب، ولا من القارئين الدارسين لما في أيدى أهل الكتاب من علم، ولأنه ـ ثانيا ـ لم يكن معاصرا لهذه الأحداث، ومشاهدا لها.
3. ومن جهة أخرى، فإن من هذه الأنباء ما لم يكن عند أهل الكتاب ـ وخاصة معاصري النبوة ـ شيء منها، مثل ما أخبر به القرآن من اختصام المختصمين في كفالة مريم، وأيّهم أحق بها، ثم التجاؤهم في هذا الخلاف إلى أن يقترعوا عليها، وذلك بإلقاء أقلامهم في الماء، فأيهم ثبت قلمه كفلها، وقد أصابت القرعة زكريا، فكفلها زكريا، كما أخبر القران الكريم بهذا.. فهذا كلّه لم يكن عند أهل الكتاب المعاصرين للنبيّ شيء منه، ولم يكن فيما بين أيديهم من كتب الله حديث عنه.
4. في هذه الأخبار التي يتلقاها محمد من السماء، على غير سابق علم بها، وفي مجيئها على تمامها وصحتها، غير محرفة، ولا مبتورة، كما هو الحال فيما بقي بين أيدى أهل الكتاب منها ـ في هذه الأخبار دلالة قاطعة على أن ما يتلقاه محمد من أخبار، هو من مصدر عال، لا يرجع فيه إلى بشر، ولا يستند فيه إلى علم بشر، وإلا كان لزاما عليه ألا يخرج عن محتوى ما يرد إليه من علم العالمين!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/447.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك، وإلّا لقال: وما كنت تتلو كتبهم مثل: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ﴾ أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم.
2. ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات: بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخير، وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلّا مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه.
3. أشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/96.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها، وكفالة زكريا لها، ودعاء زكريا وإجابة الله دعاءه، ولزوم مريم للعبادة، وخطاب الملائكة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا القصص من أنباء الغيب، أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله، وهى مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ، ولم يذكرها كتاب، فهي مغيبة عن علم الناس لا يعلمها أحد إلا من الله تعالى، وهى عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني، ومجرى الفكر الإنساني ومجرى التاريخ بشكل عام؛ وذلك لأنها تتعلق بآية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهى إيجاد إنسان كامل مستو من غير أب، وحمل امرأة من غير تلقيح؛ فإن هذا يفتق ذهن الإنسان المفكر لأن يدرك أن الله يخلق الأشياء بإرادته غير مقيد بسنن كونية، ولا بنظم في الخلق والإنشاء؛ لأنه خالق كل السنن وكل النظم؛ وبذلك يرد أقوال الفلاسفة الذين زعموا أن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن العلة من غير إرادة مبدعة مسيرة.
2. الأنباء جمع نبأ، والنبأ هو الخبر العظيم الشأن، فليس كل خبر يسمى نبأ، والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى، وقوله:
3. ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ إشارة إلى موضع الصدق وهو أنه بوحى من الله تعالى؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا، لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل، لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لا يكون إلا من الله تعالى، وفي قوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ مع كونه من قبل كان مغيبا إشارة إلى معنى الاختصاص، وفي الاختصاص بالتعريف كل معانى التكريم الإلهي لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
4. إذا كانت حال مريم وخلوصها لعبادة الله تعالى مجهولة للناس قبل بيان القرآن، فإن القرآن صاحب الفضل في بيان براءتها من الدنس، ومقامها في عبادة الله تعالى، وكفالة الله تعالى لها بنبي من أنبيائه، وتشريف الله تعالى بخطاب ملائكته لها مبشرين بالآية الكبرى والمعجزة الإلهية القاطعة، وذلك بولادة عيسى عليه السلام.
5. في ذلك إشارة إلى وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو إخباره بالصادق الذي لا يوجد دليل قط على كذبه مع أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم، والخبر لم يكن مدونا من قبل حتى يتلقاه من أحد كأولئك؛ الذين ادعوا أنه كان يقول ما يقول عن أخبار بنى اسرائيل من حداد بمكة، وقد رد الله تعالى فريتهم بقوله تعالى: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل]، فلا يمكن أن يدعى لأخبار مريم؛ لأنه ما كان معلوما قبل بيان الله تعالى، ولذلك سماه غيبا.
6. وضح سبحانه وتعالى هذا المعنى، وهو كون هذا بوحى، لا من عند محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ الأقلام جمع قلم، من قلمه بمعنى قطعه، والمراد بالأقلام القداح التي يضربون بها القرعة، والاختصام معناه في الأصل أن يكون كل في خصم أي جانب، والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم؛ وذلك لأنها ولدت يتيمة، وقد تيمن العباد من بنى إسرائيل بها، وكل يرجو خيرا من كفالتها، ويتخذ من هذه الكفالة قربة وزلفى إلى الله العزيز الحكيم، العليم الخبير، فلما كان الاختصام والتنافس اتفقوا على القرعة تحكم بينهم، وقد كانت نتيجة القرعة أن آلت كفالتها إلى نبيّ الله زكريا عليه السلام، وهكذا كان الله تعالى يختار لها ولابنها؛ فاختارها من صفوة آل عمران، واختارها منذورة للعبادة محررة لها، واختارها مكفولة بنبي، واختارها لخطاب الملائكة إياها، ثم كانت النتيجة لهذا كله أن اختارها على نساء العالمين لتكون موضع آيته الكبرى في هذا الوجود.
7. المعنى الجملي للنص الكريم: وما كنت لديهم أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم، كل يريدها في كنفه ورعايته، وما كنت لديهم إذ يحتكمون إلى القرعة، ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه، وقد ذكر سبحانه من قبل أن الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا عليه السلام، إذ قال من قبل: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران]، ما كنت عندهم في هذا الوقت، وما تلقيت بالسماع من أحد، وما كنت تقرأ في كتاب، فمن أي شيء علمت هذا الغيب الذي لا يعلمه أحد؟ إنه لا بد أن يكون من عند الله تعالى، فهذه الجملة الكريمة سيقت لإثبات أن العلم كان وحيا من عند الله العليم الخبير.
8. (لدى) معناها (عند)، و(لدى) هنا تشير إلى معنى ليس في (عند)؛ ذلك أنها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن؛ فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان، فما كانت هذه العندية متصورة، وما كان لأحد أن يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين؛ لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا، وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس.
9. هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين، ولا يسعهم تكذيبها؛ لأنها أقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من أنها كانت ذات بعل، أو مخطوبة أو نحو ذلك، فما عندهم مدعاة للشك، وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء، وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل؛ فأي الخبرين أصدق قيلا؟
10. هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ تشير إلى بعض معانى الإعجاز في القرآن الكريم، وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها أحد إلا ربّ العالمين، وهى حكاية دلائل الصدق فيها واضحة، وبينات الحق فيها لائحة؛ وإذا كان النبيّ لا يعلمها عن مشاهدة ولا عن سماع، فطريق العلم بها هو الله، وهذا يدل على أن القرآن من عند الله العزيز الحكيم، وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة، ولو كره الكافرون، كما قال منزله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1217.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾، الخطاب موجه من الله لرسوله، والمعنى ان ما تتلوه على الناس بعامة، والنصارى بخاصة، ووفد بحران بصورة أخص، كقصة مريم وأمها امرأة عمران، وقصة زكريا ويحيى، كل ذلك، وما اليه لم تقرأه في كتاب، ولم تسمعه من الحفّاظ، لأنك أمي في أمة أمية، وإنما هو علم بالغيب، ووحي من الله.. وهذه حجة لك على خصمك، وبرهان على صدقك.. وما نقل الرواة ان وفد نجران رد هذه الحجة أو اعترض عليها، ولو كانت موضع جدال لما سكتوا.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، القلم معروف، وهو الذي يكتب به، وجمعه أقلام، والمراد بالأقلام هنا السهام التي يضربون بها القرعة، والمعنى: ان إخبارك إياهم بهذه الحقائق والدقائق عن مريم وزكريا لم تقرأها في كتاب، ولم تسمعها من الحفاظ، فلم يبق ـ اذن ـ الا أن تكون قد شاهدتها بنفسك، مع العلم ان بينك وبينها مئات السنين، فتعين أن يكون علمك بها وحيا من الله اليك.
3. أما قصة الاقتراع وإلقاء الأقلام فخلاصتها ان حنة امرأة عمران حين ولدت مريم كانت قد نذرتها لبيت المقدس، وولدتها بعد أن مات أبوها عمران، فتنافس عليها الكهنة والأحبار من بني إسرائيل، وأخيرا اقترعوا فيما بينهم، فخرج قلم زكريا زوج خالتها، وعندها تركوها له، فتكفلها، وصار وليها والقائم بأمرها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/58.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾، عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف عليه السلام من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ﴾ الآية، على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقومه كانوا أميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرؤوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾، والوجه الأول أوفق بسياق الآية.
2. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ الآية، القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة، ويسمى سهما أيضا، وجمعه أقلام، فقوله: ﴿يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.
3. في هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم، وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾، الآية، وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها، وكان منشؤه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها، فيكونان واقعتين اثنتين.
4. فيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة ـ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة، ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ ـ إلى أن قال: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/191.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما ذكر في (آل إبراهيم) و(آل عمران) من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ الآية؛ وقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ تنبيه على الدليل على أنه تعالى يوحيه إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم المخاطب بهذه الآية الكريمة لاخباره بما لا يعلم، لولا أن الله يوحيه إليه؛ لأنه لم يتعلم عند أهل الكتاب، ولم يقرأ كتاباً، ولم يستطع قراءة مخطوط، لأنه لم يخط كتاباً.
2. ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ أي يقترعون قرعة بإلقاء أقلامهم، ولا ندري كيف كانت قرعتهم بإلقاء أقلامهم وأنه إلقاء في الماء كما يُروى أو في غير ماء، وليس المهم معرفة كيف كانت القرعة ولذلك لم يذكر، إنما المهم الدلالة على كرامتها في أهل بيتها أو من لهم بها علاقة تؤدي إلى المنافسة في كفالتها مع المتنافسين.
3. ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي يتخاصمون، أي يتشاجرون في هذا الشأن الذي هو كفالة مريم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/462.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تتوقف الآيات هنا، لتلتفت إلى الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فتوحي إليه بأن ما قصّه الله عليه من قصّة مريم هو من أنباء الغيب التي أوحى بها الله، فهو لم يعشها ولم يعرفها عن حسّ ومشاهدة، ولم يقرأها، لأنّه لم يمارس القراءة والكتابة.. وربما لم تكن بعض تفاصيلها معروفة حتى عند أهل الكتاب، لأنها غير مذكورة بدقائقها في الإنجيل.
2. قد يكون في قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ إشارة إلى أن المراد بالغيب عدم الحضور، في ذلك الوقت الذي وقف فيه القوم ليلقوا أقلامهم وهي القداح والسهام التي يقترعون بها عندما اختصموا في كفالة مريم لمن تكون، ولعل في التأكيد على ذلك ما يوحي بقيمة هذه الحادثة لعلاقتها بالنمو الروحي لمريم عليها السّلام.
3. ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ لتعيش التاريخ الرسالي في حركته الروحية وفي نماذجه المميزة، كما لو كنت في زمانه، فتنطلق التجربة الحية في رسالتك لتكون منطلقا للسموّ والصفاء، وانفتاحا على العبرة الواعية التي تمنح الحاضر درسا متحركا في تجربته من خلال الماضي في عملية تواصل بين الزمانين كمظهر للتواصل بين الرسالات.
4. ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ التي يكتبون بها، أو أقواسهم التي كانوا يقترعون بها بما جعلوه عليها من علامات يعرفونها بها ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ويرعاها ويحفظها ويربيها بعد أن فقدت أباها وأمها، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فقد كان التنافس بينهم شديدا حتى بلغ حدّ الخصومة، لأن الظاهر أن كفالة مريم كانت تمثل لهم امتيازا يمنحهم الشرف، وينفتح بهم على الخير، وهكذا كانت النتيجة خروج القرعة على اسم زكريا عليه السّلام، الذي أراد الله له أن يكون الكفيل لمريم عليها السّلام، لأنّه يمثل الإنسان ـ النبي الصالح الذي يمكن أن يحقق لها النمو الطبيعي والتربية الصالحة.
5. قد نستفيد من هذه الآية شرعية القرعة كحلّ للمنازعات التي قد تحدث بين الناس إذا لم يكن هناك أساس معتبر للجدّ، أو فرصة مناسبة للتفضيل في الواقع، وأريد العدل في التحديد أو في القسمة بحسب حالة النزاع التي لم يتفق فيها الأشخاص المعنيّون على شيء معين بالتفاهم والتوافق، كما في هذه القضية التي وقعت موضعا للخصومة الشديدة، فلم يجد القوم سبيلا للوفاق إلّا الأخذ بالقرعة التي ارتضوا بها باعتبار أنها الطريقة المعروفة لديهم في مثل هذه الأمور، وهذا هو ما حدث ليونس عندما اقترع الركاب في السفينة لتحديد الشخص الذي يقدّم للحوت الذي يهدّد السفينة بالغرق إلا إذا قدّم إليه أحدهم ليلتقمه؛ وذلك هو قوله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 141]، وروي أن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم اقترع بين نسائه عندما كان يريد السفر لاختيار واحدة منهن لصحبته، كما أنه أمر بها في بعض الموارد، وقد أقرّها علماء الإمامية من ناحية المبدأ، استنادا إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما أثر عن الأئمة من أهل البيت عليهم السّلام في ذلك، فقد ورد عن محمد بن حكيم قال سألت أبا الحسن موسى الكاظم عليه السّلام عن شيء فقال: (كل مجهول ففيه القرعة، قلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب، فقال: كل ما حكم الله به فليس بمخطئ)، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنه قال: ما تقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحق، وقال: (وأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله عز وجل؟ أليس الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾، [الصافات: 141]، وقد تعددت الروايات عن عليّ أنه استعملها في كثير من أقضيته، أمّا أبو حنيفة وأصحابه، فقد استبعدوا الأحاديث الواردة فيها، واعتبروها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
6. أثير خلاف حول ما إذا كانت القرعة تحدّد الواقع المجهول إذا اشتبه أمره بين شيئين، بحيث يختص موردها بما إذا كان الحق معينا في الواقع واشتبه علينا ظاهرا لعارض، أو يشمل ما كان مرددا بين شيئين أو أكثر ولم يكن معينا في الواقع أيضا ويطلب فيه الشيئان، ومن هذا القسم ما كان من الأمور المشتركة بين ذوي حقوق ولم يتراضوا بسهم عيّنه بعضهم بغير معين، والظاهر أن القرعة قاعدة عقلانية جرى عليها العقلاء في أمورهم العامة والخاصة كوسيلة من وسائل حسم الأمور المتنازع فيها، إذا لم يكن هناك وسيلة خاصة معتبرة للوصول إلى نتيجة حاسمة، وذلك من خلال ما ينطلقون به في تنظيم أمورهم في النظام العام الذي يلتزمونه بشكل عام، بحيث يلومون ويؤنّبون الخارج عن هذا النظام، وقد درج العقلاء على الرجوع إلى أمارات خاصة ووسائل معينة لتحديد القضايا وحلّ المشكلات، مما قرروه من وسائل الإثبات في القضاء وغيره، ولكنهم قد يواجهون في حياتهم بعض المواقف التي لا يملكون فيها أية وسيلة معينة للتعيين أو للتحديد، فكانت القرعة حلّا حيث لا حلّ، من دون فرق بين ما إذا كان هناك واقع يراد تعيينه، أو كانت المسألة موضع إشكال أو تنازع للأخذ بخيار خاص، لأن الأساس فيها هو أن لا تبقى القضية بعيدة عن الحسم الذي يحلّ به النزاع ويرتفع به الإشكال.
7. في ضوء ذلك، فإن القضية من القواعد العقلانية الإنسانية التي لا يختلف فيها شعب عن شعب، فهي من القضايا التي تدفع إليها الحاجات البشرية العامة في حل المنازعات على قاعدة يرضى بها الجميع، وربما كان أخذ الأنبياء والأئمة عليهم السّلام بها منطلقا من صفتهم العقلائية، إما من باب الإمضاء للبناء العقلائي الذي يعني إقرار العقلاء على ما يسيرون عليه في نظام حياتهم، فيكون الحكم الشرعي إمضائيا، وإما من باب أن الشريعة لا تحتاج إلى التشريع في مثل القرعة لأن للعقلاء شريعة منطلقة من فطرتهم الصافية بإلهام من الله، فتكون القضية تماما كالقضايا الأخرى في طريقة طعامهم وشرابهم ولباسهم وسكنهم التي لم يحدد الله للناس فيها طريقة معينة، بل ترك الأمر لهم في خط النظام العام من دون أن يصدر فيه حكما شرعيا خاصا، إذ لا مقتضى له بعد أن كان الواقع العقلاني واقعا موافقا للمصالح العامة للناس.
8. جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت لتجعل للقرعة معنى دينيا في أسلوب دعائي ابتهالي، يرجع فيه المقترعون إلى الله، طالبين منه أن يلهمهم الصواب ويخرج لهم الحق، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في الصحيح في رواية الفضيل بن يسار المروية في الكافي والتهذيب، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء؟ قال يقرع الإمام أو المقرع يكتب على سهم (عبد الله) وعلى سهم (أمة الله)، ثم يقول الإمام والمقرع: اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك ما كانوا فيه يختلفون، فبيّن لنا أمر هذا المولود كيف يورّث ما فرضت له في الكتاب؟ ثم يطرح السهمان في سهام مبهمة، ثم يجال السهام على ما خرج، وورّث عليه.. وهكذا تتحول القرعة في مضمونها الديني الجديد إلى عملية تتضمن معنى العبادة والدعاء، فهي ـ في هذا الجو ـ وسيلة من وسائل تفويض الأمر إلى الله، عندما تتعقد الأمور وتدفع إلى الشلل والحيرة، وتخرج ـ بذلك ـ عن دائرة الأزلام المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستقسمون بها، وهذا ما يجعل للطمأنينة النفسية في نتائجها أساسا في العقيدة التوحيدية التي تدعو الناس إلى التفويض إلى الله والرضى به، ولهذا فإنها لا يمكن أن تقع على سبيل التجربة التي لا تنطلق من الجدّية في الوصول إلى الحل؛ وهذا ما رواه في التهذيب صحيحا عن جميل قال قال الطيار لزرارة: ما تقول في المساهمة (القرعة) أليس حقا؟ فقال زرارة: بل هي حق، فقال الطيار: أليس قد رووا أنه يخرج سهم المحق؟ قال بلى، قال فتعال حتى أدّعي أنا وأنت شيئا ثم نساهم عليه وينظر هكذا هو، فقال زرارة: إنما جاء الحديث بأنه ليس قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ثم أقرعوا إلّا خرج سهم المحق، فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب، فقال الطيار: أرأيت إن كان جميعا مدّعيين ادعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح، فإن كان ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح وهذه الثقة بالنتائج ليست منطلقة من طبيعة العملية كلعبة خاصة يحاول اللاعبون أن يجربوا فيها حظهم، بل هي قضية إخلاص روحي في الرجوع إلى الله، ليختار لهم ما فيه صلاحهم أو ما فيه تعيين الحق في الواقع، ممّا يجعل للمسألة بعدا إيمانيا في الروح، لا مجرد بعد إلهيّ في الوسائل.
__________
(1) من وحي القرآن: 6/10.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدّم من قصة مريم وزكريّا إنّما هو من أخبار الغيب ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيّ من الكتب السابقة، مضافا إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.
2. ثمّ تضيف الآية: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي أنك لم تكن حاضرا حينذاك، بل جاءك الخبر عن طريق الوحي.
3. سبق أن قلنا إن أمّ مريم بعد أن وضعتها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها: هذه المولودة قد نذرت لخدمة بيت الله، فليتعهّد أحدكم بتربيتها، ولمّا كانت مريم من أسرة معروفة (آل عمران)، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها، وأخيرا اتّفقوا على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطئ نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيّهم التي كانوا يقترعون بها، كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام، وألقوها في الماء، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء: غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا، ثمّ عاد وطفا على سطحه، وبذلك أصبحت مريم في كفالته، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك، فهو نبي وزوج خالة مريم.
4. يستفاد من هذه الآية والآيات الأخرى الخاصّة بيونس في سورة الصافّات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع، هذه الآية بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمّة الإسلام كانت سببا في اعتبار القرعة قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية، ولكن شرط الالتجاء إلى القرعة هو الوصول إلى طريق مسدود تماما، كما قلنا: لذلك إذا كان من الممكن العثور على طريق لحلّ مشكلة ما فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.
5. ليس للاقتراع طريقة خاصّة في الإسلام، فيجوز اتّخاذ العصي، أو الحصى، أو الورق وغير ذلك وسيلة له، على أن لا يكون فيه أيّ تواطؤ.
6. من الواضح أنّ الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة، لأنّ الربح والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلّها ليلجأ فيها إلى القرعة، لذلك فالربح الناشئ عن القرعة غير مشروع في الإسلام.
7. لا بدّ من الإشارة أيضا إلى أنّ القرعة لا تقتصر على حلّ المنازعات والاختلافات بين الناس، بل يمكن بها حلّ المشاكل المستعصية الأخرى أيضا، فمثلا، كما جاء في الأحاديث: وطأ شخص شاة، ثمّ أطلقها بين الغنم بحيث لا يمكن التعرّف عليها، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والامتناع عن أكل لحمها، وذلك لأنّ الامتناع عن أكل لحمها جميعا يشكل ضررا كبيرا، كما أنّ أكل لحومها جميعا غير جائز، فهنا تحلّ القرعة المشكلة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/496.
26. مريم والبشارة بالمسيح
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈26⌉ من سورة آل عمران، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 45 ـ 47]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ عيسى هو الكلمة من الله(1).
2. روي أنّه قال: سمي مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ(2).
3. روي أنّه قال: ثم قال يا محمد، يخبر بقصة عيسى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا﴾ يعني: مكينا عند الله في الدنيا، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ في الآخرة(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ يعني: في الخرق(3).
5. روي أنّه قال: ﴿الْمَهْدِ﴾ مضجع الصبي في رضاعه(4).
6. روي أنّه قال: ﴿وَكَهْلًا﴾ ويكلمهم كهلا إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء، ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يعني: من المرسلين(3).
7. روي أنّه قال: ﴿وَكَهْلًا﴾ في سن كهل(5).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٧.
(2) تفسير البغوي: ٢/٣٨.
(3) ابن عساكر: ٤٧/٣٤٧.
(4) ابن جرير: ٥/٤١٢.
(5) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٢.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿الْمَسِيحُ﴾: الصديق(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: الكهل: الحليم(1).
1. روي أنّه قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع(2).
__________
(1) الفريابي كما في الفتح: ٦/٤٧٢.
(2) تفسير الثعلبي: ٣/٦٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾: أي: مسح بالبركة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ كلمهم في المهد صبيا، وكلمهم كبيرا(2).
__________
(1) يحيى بن سلام كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٨٩.
(2) ابن جرير: ٥/٤١٤.
منبّه:
روي عن وهب بن منبّه (ت 114 هـ) أنّه قال: لما استقر حمل مريم، وبشرها جبريل؛ وثقت بكرامة الله واطمأنت، فطابت نفسا، واشتد أزرها، وكان معها في المحررين ابن خال لها يقال له: يوسف، وكان يخدمها من وراء الحجاب، ويكلمها، ويناولها الشيء من وراء الحجاب، وكان أول من اطلع على حملها هو، واهتم لذلك، وأحزنه، وخاف من البلية التي لا قبل له بها، ولم يشعر من أين أتيت مريم، وشغله عن النظر في أمر نفسه وعمله؛ لأنه كان رجلا متعبدا حكيما، وكان من قبل أن تضرب مريم الحجاب على نفسها تكون معه، ونشأ معها، وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما، ثم انطلقا إلى المفازة التي فيها الماء، فيملآن قلتيهما، ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة مقبلة على مريم بالبشارة: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾، فكان يعجب يوسف مما يسمع، فلما استبان ليوسف حمل مريم وقع في نفسه من أمرها، حتى كاد أن يفتتن، فلما أراد أن يتهمها في نفسه ذكر ما طهرها الله واصطفاها، وما وعد الله أمها أنه معيذها وذريتها من الشيطان الرجيم، وما سمع من قول الملائكة: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾، فذكر الفضائل التي فضلها الله تعالى بها، وقال: إن زكريا قد أحرزها في المحراب فلا يدخل عليها أحد، وليس للشيطان عليها سبيل، فمن أين هذا؟ فلما رأى من تغير لونها، وظهور بطنها؛ عظم ذلك عليه، فعرض لها، فقال: يا مريم، هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، قال وكيف ذلك؟ قالت: إن الله خلق البذر الأول من غير نبات، وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر!؟ ولعلك تقول: لولا أنه استعان عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته!؟ قال يوسف: أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت، وقلت بالنور والحكمة، كما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر على أن يجعل زرعا من غير بذر، فأخبريني: هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر والزرع والماء والمطر والشجر خالقا واحدا؟ فلعلك تقول: لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر!؟ قال أعوذ بالله أن أقول ذلك، قد صدقت، فأخبريني: هل يكون ولد وحبل من غير ذكر؟ قالت: نعم، قال وكيف ذلك؟ قالت: ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء امرأته من غير حبل ولا أنثى ولا ذكر؟ قال بلى، فأخبريني خبرك، قالت: بشرني الله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله بسبب خير أراده بمريم، فسكت عنها، فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق، فنوديت: أن اخرجي من المحراب، فخرجت(1).
__________
(1) ابن عساكر: ٧٠/٨٩ من طريق إسحاق بن بشر.
ابن الزبير:
روي عن محمد بن جعفر بن الزبير (ت 115 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾: أي: هكذا كان أمره، لا ما يقولون فيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته، وتعريفا للعباد مواقع قدرته(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَجِيهًا﴾ وجيها في الدنيا والآخرة عند الله(3).
4. روي أنّه قال: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر، ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ مما يشاء، وكيف يشاء، فيكون كما أراد(4).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤٠٨.
(2) ابن جرير: ٥/٤١٣.
(3) ابن جرير: ٥/٤١٠.
(4) ابن جرير: ٥/٤١٥.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ شافهتها الملائكة بذلك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ قوله: كن(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ ومن المقربين عند الله يوم القيامة(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٠.
(2) ابن جرير: ٥/٤٠٧.
(3) ابن جرير: ٥/٤١٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ فالمسيح: الصدّيق.. والمسيح: الممسوح العين.. وهو الدّجال(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ معناه شريف(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 110.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾، تقول: من أين لي؟(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٣.
ابن أبي حبيب:
روي عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) أنّه قال: الكهل: منتهى الحلم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ من المقربين عند الله يوم القيامة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤١١.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى، فيبصر(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٦٨.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ وهو جبريل عليه السلام وحده: ﴿يامريم﴾ وهي في المحراب، ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ يعني: اختارك، ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من الفاحشة، والألم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾، يعني: حجر أمه في الخرق طفلا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى﴾ يعني: من أين ﴿يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾؟ يعني: الزوج، ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، ويخلق من يشاء، فشاء أن يخلق ولدا من غير بشر، لقولها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ كان في علمه أن يكون عيسى في بطن مريم من غير بشر ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، لا يثني(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَجِيهًا﴾ يعني: مكينا عند الله تعالى ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فيها تقديم، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عند الله في الآخرة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٥.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٧٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم أخبره خبر مريم وعيسى حين ابتدأها من كرامة الله بما آتاها: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾، أي: بولد لا أب له(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٦٥١.
ابن العلاء:
روي عن أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) أنّه قال: ﴿الْمَسِيحُ﴾: الملك(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٣/٦٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في الآية: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل(1).
__________
(1) ابن جرير: ٥/٤١٤.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سألت عن قول الله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾، وقال في موضع آخر: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾، فقلت: ذكر في موضع ملائكة، وفي موضع ملكا واحدا؟.. اعلم هداك الله أن قول الملائكة ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ هو والله أعلم: من بعد حملها به بشرتها الملائكة بفضله، وبنبوته، وما جعل الله فيه، وخصه به، والروح الذي لقيها، وأعلمها بتكوين الله له، وما قضى من حملها به هو: جبريل صلوات الله عليه، فكان معلما مبتدئا أولا بما حكم الله به، من خلق عيسى في بطنها، وما قدر الله من ذلك فيها ولها، وكانت الملائكة أخرا مهنئين لها، معلمون بما جعل الله في ولدها من البركات، والآيات المعجزات، والأكمه الذي سألت عنه هو: الأعمى الذي لا يبصر شيئا، فكان صلى الله عليه يبرئه من عماه بقدرة الله وأمره، وإتيان الملائكة إلى مريم فإنما هم: رسل من قبل الله سبحانه، أمروا بذلك غير متكلفين، ولا بقول مبتدئين، ولا عما أمر الله سبحانه زائغين؛ بل له مطيعين، ولأمره منفذين.
2. سألت عن: قول الله سبحانه: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾، فقلت: هل كان متكلما صغيرا؟ وقد كان صلوات الله عليه يتكلم في مهده، فكان من كلامه في مهده آيتان عجيبتان، إحداهما: إثبات لنبوته، ومعجزة ظهرت له؛ إذ الأطفال لا يتكلمون في المهد؛ فعلم الخلق جميعا: أن الكلام لم يكن من عيسى إلا بإنطاق الله له، وأن تلك حال لا ينالها أحد إلا بعون الله له فيها، واقداره عليها، والثانية: فبراءة لأمه الطاهرة المطهرة من قول اللبس، وما تكلم به فيها أهل البغي والرجس.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/159.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ أن قال (كن) ـ فكان من غير أب ولا سبب، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب: من النطفة، ثم من العلقة، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف ـ عزّ وجل ـ في كتابه، وكان أمر عيسى عليه السلام على خلاف ذلك.
ب. ويحتمل ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ ما ذكر أنه كلم الناس في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ الآية [مريم: 30]، وذلك مما خص به عيسى، وهو بكلمة من الله قال ذلك.
2. سؤال وإشكال: ما معنى قوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ والكهل: مما يكلم الناس؟ والجواب: يحتمل وجهين:
أ. أن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم؛ كقوله: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ﴾ الآية [النور: 24]، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبدا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد ـ وإن كانت آية ـ فإنه ليس بالذي لا يدوم، ولا يكون إلا مرّة.
ب. الثاني: أمن من الله لمريم، وبشارة لها عن وفاته إلى وقت كهولته.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾:
أ. قال ابن عباس: (المسيح: المبارك)، أي: مسح بالبركة.
ب. وقيل: سمى مسيحا؛ لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور فيبصر.
ج. وقيل: المسيح: العظيم؛ لكنّه ـ والله أعلم ـ بلسانهم؛ فيسأل: ما المسيح بلسانهم.
4. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا﴾ بالمنزلة، ومكينا في الآخرة، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ في الدرجة والرفعة، ومن كان وجيها في الدنيا والآخرة فهو مقرب فيهما.
5. في قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾:
أ. بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا.
ب. وفيه وجه آخر: وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل؛ ليعلم أن قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ [مريم: 30] إلى آخره: إنما هو حقيقة الخضوع لله، والإنباء عنه، لا على خلقه؛ كنطق الجوارح في الآخرة أو لتكون آية له دائمة؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر: من التغيير، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء، نحو العصا فيما تعود إلى حالها، واليد، ونحو ذلك؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام، ولا قوة إلا بالله.
6. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ عرفت مريم أن الولد يكون بمسّ البشر، وعلمت ـ أيضا ـ أنها لا تتزوج، ولا يمسّها بشر أبدا؛ لأنها قالت: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك، فلعله يمسّها في حادث الوقت؛ فيكون لها منه الولد، فلما لم يقل لها يمسسك؛ ولكن قال ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدا؛ لأنها كانت محررة لله، مخلصة له في العبادة.
7. يحتمل قوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ أي: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولدا، فقالت: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة، ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾؟
8. ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ تأويله: ما ذكر في سورة مريم حيث قالت: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ الآية [مريم: 20] الآية، ثم قال: ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: 21] أي: خلق الخلق علىّ هين: بأب، وبغير أب، وبمسّ بشر، وبغير مسّ؛ كخلق الليل والنهار، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر؛ فكذلك يخلق لك ولدا من غير أب ولا مسّ بشر، وبالله الحول والقوة.
9. ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، أي: إذا قضى أمرا بتكوين أحد، أو بتكوين ـ فإنما يقول له: كن، لا يثقل عليه، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم؛ كقوله: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28] أي: خلق الخلق كلهم ابتداء، وبعثهم بعد الموت ـ كخلق نفس واحدة؛ أن يقول: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ وإنما يثقل ذلك على الخلق ويصعب؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن أن يشغله شغل، أو يمنعه مانع، أو يحجب عليه حجاب.
10. ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ذكر ـ والله أعلم ـ هذا الحرف؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه، لا أن كان منه ـ عزّ وجل ـ كاف أو نون، أو حرف، أو هجاء، أو صفة يفهم ويعرف حقيقته، أو يوصف هو بمعنى من معاني [كلام] الخلق أو صفاتهم، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال، أو يكون تكوين بعد تكوين، على ما يكون من الخلق، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه، بالعبارة إخبار منه ـ عزّ وجل ـ الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/372.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، أي له جاه عند الله وعند الملائكة والأنبياء والمرسلين والصالحين، وله عندهم شرف عظيم، وحق جسيم، لما هو عليه من السياحة والفضل المبين، والقربة إلى الله الواحد الحق اليقين، فزاد الله مولانا شرفاً وقدراً إلى قدره، ونسأل الله أن يقوم في الدنيا والأخرة بنصره.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 259.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وإنما سمي مسيحاً لأنه مسح بالتطهير من الذنوب.
2. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ وإنما كان كلامه في المهد لأمرين.
أ. أحدهما: لتنزيه أمه مما قُذفت به.
ب. الثاني: لظهور معجزته وإنما ظهوره كان تأسيساً لنبوته، والمهد مضطجع الصبي مأخوذ من التمهيد.
3. ﴿وَكَهْلًا﴾ قيل: إن الإكتهال هو بلوغ ثلاثة وثلاثين سنة وهو استكمال القوة يقال: اكتهل البيت إذا طال وقوي.. فإن قيل: فما المعنى بكلامه كهلاً، وذلك لا يستنكر؟ والجواب: أنه يكلمهم كهلاً بالوحي الذي يأتيه من الله تعالىالثاني: أنه يتكلم بكلام الكهل في السن وهو في المهد.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/141.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في تسميته بالمسيح قولان:
أ. أحدهما: لأنه مسح بالبركة، وهذا قول الحسن وسعيد.
ب. الثاني: أنه مسح بالتطهر من الذنوب.
2. في قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ وفي سبب كلامه في المهد قولان:
أ. أحدهما: لتنزيه أمه مما قذفت به.
ب. الثاني: لظهور معجزته.
3. اختلفوا هل كان في وقت كلامه في المهد نبيا على قولين:
أ. أحدهما: كان في ذلك الوقت نبيا لظهور المعجزة منه.
ب. الثاني: أنه لم يكن في ذلك الوقت نبيا وإنما جعل الله ذلك تأسيسا لنبوّته.
4. المهد: مضجع الصبي، مأخوذ من التمهيد.
5. في قوله تعالى: ﴿وَكَهْلًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن المراد بالكهل الحليم، وهذا قول مجاهد.
ب. الثاني: أنه أراد الكهل في السنّ.
6. اختلفوا في حدّه على قولين:
أ. أحدهما: بلوغ أربع وثلاثين سنة.
ب. الثاني: أنه فوق حال الغلام ودون حال الشيخ، مأخوذ من القوة من قولهم اكتهل البيت إذا طال وقوي.
7. سؤال وإشكال: ما المعنى في الإخبار بكلامه كهلا وذلك لا يستنكر؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه يكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من الله تعالى.
ب. الثاني: أنه يتكلم صغيرا في المهد كلام الكهل في السنّ.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/394.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العامل في (إذ) في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة.
ب. الثاني: يختصمون ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾
2. ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ فالتبشير إخبار المرء بما يسر من الأمر سمي بذلك لظهور السرور في بشرة وجهه عند إخباره بما يسره، لأن أصله البشرة وهي ظاهر الجلد.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾:
أ. قيل: هو المسيح سماه الله كلمة على قول ابن عباس وقتادة وذلك يحتمل ثلاثة أوجه:
• سمي بذلك، لأنه كان بكلمة الله من غير والد وهو قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
• الثاني: لأن الله تعالى بشربه في الكتب السالفة، كما تقول: الذي يخبرنا بأمر يكون إذا خرج موافقاً لأمره قد جاء في قول لي وكلامي، فمن البشارة به في التوراة: (آتانا الله من سببنا، فأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران)، وساعير هو الموضع الذي بعث منه المسيح عليه السلام.
• الثالث: لأن الله يهدي به كما يهدي بكلمته.
ب. القول الثاني مما قيل في الكلمة: أنها بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه: ولد اسمه المسيح.
4. التأويل الأول أقوى، لقوله: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، ولأنه معلوم من دين المسلمين أن كلمة الله المسيح عليه السلام، وإنما ذكر الضمير في اسمه وهو عائد إلى الكلمة، لأنه واقع على مذكر، فإذا ذكر ذهب إلى المعنى، وإذا أنث ذهب إلى اللفظ.
5. قيل في تسمية المسيح مسيحاً قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، وسعيد: لأنه مُسح بالبركة.
ب. وقال آخرون: لأنه مُسح بالتطهر من الذنوب.
ج. وقال الجبائي سمي بذلك، لأنه مُسح بدهن زيت بورك فيه، وكانت الأنبياء تتمسح به، سؤال وإشكال: يجب على ذلك أن يكون الأنبياء كلهم يسمون مسيحاً؟ والجواب: لا يمتنع أن يختص بذلك بعضهم، وإن كان المعنى في الجميع حاصلا، كما قالوا في إبراهيم خليل الله.
6. أصل المسيح ممسوح عدل عن مفعول إلى فعيل.
7. ﴿وَجِيهًا﴾ نصب على الحال، ومعنى الوجيه الكريم على من يسأله لأنه لا يرده لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، يقال منه وجه الرجل يوجه وجاهة، وله جاه عند الناس وجاهة أي منزلة رفيعة.
8. ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ معناه إلى ثواب الله وكرامته، وكذلك التقرب إلى الله إنما هو التقرب إلى ثوابه وكرامته، وفي الآية دلالة على تكذيب اليهود في الفرية على أم المسيح وتكذيب النصارى في ادعاء إلهيته على ما ذكره محمد بن جعفر بن الزبير وغيره.
9. موضع ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ نصب على الحال عطفاً على ﴿وَجِيهًا﴾ ومكلما وكذلك عطف عليه ﴿وَكَهْلًا﴾ بالنصب، ويجوز عطف الفاعل على الفعل لتقارب معنيهما قال الشاعر:
çبات يغشاها بعضب باتر...يقصد في أسوقها وجائرé
أي ويجور وقال آخر:
çيا ليتني قد زرت غير خارج...أم صبي قد حبا ودارجé
أم صبى قد حبا أمّ دارج.. أي أو درج.
10. يجوز في قوله: ﴿وَكَهْلًا﴾ أن يكون معطوفاً على الظرف من قوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾، والمهد مضجع الصبي في رضاعه في قول ابن عباس، مأخوذ من التمهيد.
11. الكهل: من كان فوق حال الغلومة، ودون الشيخوخة، ومنه اكتهل النبت: إذا طال، وقوي، ومنه الكاهل فوق الظهر إلى ما يلي العنق والمرأة كهلة، قال الراجز:
çولا أعود بعدها كريا...امارس الكهلة والصبيانé
وقيل الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة، وقال مجاهد: الكهل: الحليم وأصل الباب العلو، فالكهل لعلو سنه، أو لعلو منزلته.
12. سؤال وإشكال: وجه كلامه في المهد تبرئة لأمه مما قذفت به، وجلالة له بالمعجزة التي ظهرت فيه، فما معنى ﴿وَكَهْلًا﴾ وليس بمنكر الكلام من الكهل؟ والجواب: فيه ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: يكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من قبل الله.
ب. الثاني: انه يبلغ حال الكهل في السن، وفي ذلك أيضاً إعجاز لكون المخبر على ما أخبر به.
ج. الثالث: أن المراد به الرد على النصارى بما كان منه من التقلب في الأحوال، لأنه مناف لصفة الآلة.
13. سؤال وإشكال: كيف جحدت النصارى كلام المسيح في المهد وهو معجزة عظيمة؟ والجواب: لأن في ذلك إبطال مذهبهم، لأنه قال ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ فاستمروا على تكذيب من أخبر أنه شاهده كذلك.
14. في ظهور المعجزة في تلك الحال قولان:
أ. أحدهما: إنها كانت مقرونة بنبوة المسيح، لأنه كمل عقله في تلك الحال حتى عرف الله بالاستدلال، ثم أوحى إليه بما تكلم به، هذا قول أبي علي الجبائي.
ب. وقال ابن الاخشاذ: إن كل ذلك كان على جهة التأسيس لنبوته، والتمكين لها بما يكون دالا عليها، وبشارة متقدمة لها.
ج. يجوز ـ عندنا ـ الوجهان، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك معجزة لمريم تدل على براءة ساحتها مما قذفت على ما بينا جوازه فيما مضى.
15. سؤال وإشكال: كيف سألت مريم عن خلق الولد من غير مسيس مع أنها لا تنكر ذلك في مقدور الله تعالى؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. أحدهما: أنها استفهمت أيكون ذلك، وهي على حالتها من غير بشر أم على مجرى العادة من بشر، كما يقول القائل: كيف تبعث بفلان في هذا السفر، وليس معه ما يركبه معناه، لأنه قوي أم هناك مركوب؟.
ب. الثاني: ان في البشرة: التعجب مما خرج عن المعتاد فتعجبت من عظم قدرة الله كما يقول القائل عند الآية يراها: ما أعظم الله، وكما يقول القائل لغيره كيف تهب ضيعتك، وهي أجل شيء لك، وليس يشك في هبته وإنما يتعجب من جوده.
16. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ﴾ حكاية ما قال لها الملك.
17. في قوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه على جهة المثل لأن منزلة جميع ما يريد احداثه من جسم أو عرض كثر ذلك أو قل، فإنما هو بمنزلة قول القائل: كن، في أنه يكون بغير علاج، ولا معاناة، ولا تكلف سبب، ولا أداة، ولا شغل ببعض عن بعض، ولا انتهاء فيه إلى حد لا يمكن ضعفه، ولا زيادة عليه.
ب. الثاني: ان معناه أن الله تعالى جعل (كن) علامة للملائكة فيما يريد إحداثه لما فيها من اللطف، والاعتبار، ويمكن الدلالة على الأمور المقدورة لله تعالى.
18. قول من قال ان قوله: (كن) سبب للحوادث التي يفعلها الله تعالى فاسد من وجوه:
أ. أحدها: ان القادر بقدرة يقدر على أن يفعل من غير سبب، فالقادر للنفس بذلك أولى، ومنها أن (كن) محدثة فلو احتاجت إلى (كن) أخرى لتسلسل، وذلك فاسد، ولو استند ذلك إلى كن قديمة، لوجب قدم المكون، لأنه كان يجب أن يكون عقيبه، لأن الفاء توجب التعقيب وذلك يؤدي إلى قدم المكونات.
ب. ومنها أنه لو ولدت لولدت من فعلنا كالاعتماد، وإنما استعمل القديم لفظة الأمر فيما ليس بأمر هاهنا ليدل بذلك على أن فعله بمنزلة فعل المأمور في أنه لا كلفة على الآمر، فكذلك هذا لا كلفة على الفاعل، وذلك على عادة العرب في جعلهم وقوع الشيء عقيب الارادة بمنزلة الجواب عن السؤال قال الشاعر:
çوقالت لنا العينان سمعاً وطاعة...وحدرتا كالدر لما يثقبé
فجعل انحدار الدمع قولا على الوجه الذي بيناه.
19. ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ هاهنا لا يجوز فيه إلا الرفع، لأنه لا يصلح أن يكون جواباً للّام في كن لأن الجواب يجب بوجود الاول نحو آتني فأكرمك وقم فأقوم معك، ولا يجوز قم فيقوم، لأنه بتقدير قم فإنك إن تقم يقم، وهذا لا معنى له، ولكن يجوز الرفع على الاختيار انه سيقوم ويجوز في قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ النصب، لأنه معطوف على (أن نقول) كأنه قيل أن نقول فيكون.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/461.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التبشير: إخبار المرء بما يسره يسمى بذلك لظهور السرور في بَشَرة الوجه عنده، وأصل البشرة ظاهر الجلد، ثم يستعمل في الوعيد توسعًا، كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
ب. المسيح فعيل بمعنى المفعول، وأصله من المسح يعني مسح من الأقذار وطُهِّرَ، والمسح مسح اليد بالشيء، والمسيح الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب، وبذلك يسمى الدجال مسيحًا، والمسيح عيسى، وهو فيه بفتح الميم وكسر السين والتخفيف، وفي الدجال بكسر الميم وتشديد السين وكسرها، على وزن شرير وفسيق قال الشاعر: (إِذا المَسِيحُ يَقْتُلُ المِسِّيحَا)، وقيل: إنه مُعَرَّبٌ من الشين.
ج. الوجيه: الكريم على من يسأله، فلا يرده لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فَيُرَدُّ، فيقال: وَجُهَ الرجل يَوْجُهُ وجاهة وله عند الناس وجاهة وجاه أي منزلة ورفعة.
د. الكهل: ما بين الشاب والشيخ، ومنه أكهل النبت إذا طال وقوي، ورجل كهل، وامرأة كهلة، وأصله العلو، سمي بذلك لعلو سنه، ولعلو منزلته.
هـ. البشر: الآدمي، سموا بذلك لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلدة الإنسان.
و. القضاء: الحكم، والقضاء: الأحكام، والقضاء يفسر على ثلاثة أوجه: بمعنى الخلق كقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ وبمعنى الإيجاب كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وبمعنى البيان والإعلام كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾
ز. الخلق: التقدير، وفي عرف الشرع إذا أطلق الخالق لا يفهم منه غير الله؛ لقدرته على الاختراع، ولِعلمه بتفاصيل أفعاله، ولكونها على مقدار ما أراد.
ح. ﴿كُنْ﴾ أَمْرٌ من كان يكون، وأصله ﴿أَكُونَ﴾ حذفت الواو فصار ﴿كُنْ﴾
2. عاد الكلام إلى حديث مريم، وكلام الملائكة إياها بعد الاحتجاج على مشركي العرب لنبوة، محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) أي يخبرك بما يسرك.
3. في معنى قوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه المسيح سماه كلمة، عن ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين.
ب. ثانيها: أنه أراد بالكلمة الكلام، ومعناه البشارة كأنه قيل: ببشارة ﴿مِنْهُ﴾ ولد ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾
4. اختلف لم سمي المسيح كلمة:
قيل: لأنه قال له: كن فكان، فوصفه بأنه كلمة تفخيمًا لشأنه، عن أبي الهذيل، سؤال وإشكال: أليس عنده جميع المخلوقات فيه سواء، فما فائدة تخصيص عيسى بذلك؟ والجواب: وإن كان كذلك فكل مولود يكون من ذكر وعلوق، ويختلف عليه الحال بخلاف عيسى.
أ. وقيل: وصف به لقبًا؛ إذ لا معنى يشار إليه لأجله وصف بذلك، كغيره من أسمائه، عن النظام، وهو نحو: زيد وعمرو كما يسمى أبو إبراهيم آزر.
ب. وقيل: وصف بذلك؛ لأنه تعالى خلق كلمة فقلبها وخلق منها عيسى كما خلق آدم من تراب وبني آدم من نطفة، عن الأصم، وهذا فاسد؛ لأن العَرَضَ لا يجوز أن ينقلب جسمًا.
ج. وقيل: وصف بذلك من حيث تقدم الإخبار عن شأنه والبشارة به، فوصف أنه كلمة لدلالة الكلام عليه تفخيمًا لأمره، والكلمة بمعنى الوعد كقوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾، عن الجاحظ وأبي مسلم، وذكر أن في التوراة: أتانا الله من سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، وساعير موضع مبعث عيسى.
د. وقيل: إنه نصب هاديًا ومبينًا تشبيهًا بالكلمة الموضوعة للدلالة والبيان، عن أبي علي وأبي هاشم.. وهو الأقرب.
هـ. وقيل: وصف بأنه كلمة من حيث كان به معرفة البشارة التي هي كلمة فلا شبهة أنه ليس بحقيقة فيه؛ لأن الكلمة ما يتألف من حروف، فوصف بذلك توسعًا لبعض ما ذكرنا.
5. ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ يعني عيسى خلقه في بطنها.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾:
أ. قيل: سمي مسيحًا لأنه مسح باليمن والبركة، عن الحسن وسعيد.
ب. وقيل: مسح بالتطهير من الذنوب.
ج. وقيل: مسح بالدهن الذي جرت العادة أن يمسح به الأنبياء، عن أبي علي.
د. وقيل: مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون عوذة من الشيطان.
هـ. وقيل: هو فَعِيل بمعنى فاعل يعني كان يمسح المريض فيبرأ والميت فيحيا والأعمى فيبصر.
و. وقيل: كان يمسح رأس اليتامى لله.
ز. وقيل: كان يمسح الأرض، ويجلس عليها تواضعًا.
ح. وقيل: سمي بذلك لأنه كان لا يقيم موضعا يسيح في الأرض، وعلى هذا تكون الميم زائدة.
ط. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا.
ي. وقيل: المسيح الملك، عن أبي عمرو بن العلاء.
ك. وقيل: هو الصديق، عن إبراهيم، عيسى بن إبراهيم: سماه عيسى مسيحًا، قيل: عيسى اسمه والمسيح لقبه حصل له بعد ذلك فعرف به واشتهر.
ل. وقيل: سماه عيسى ابن مريم ردًّا على النصارى أنه ابن الله.
7. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ يعني شريفًا ذا قدر وجاه في الدارين ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ إلى ثواب الله وكرامته ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾، والمهد مضجع الصبي في رضاعه، عن ابن عباس يعني يكلم وهو صبي في المهد.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَهْلًا﴾:
أ. قيل: بعدما علا وصار كهلاً.. وهو أظهر.
ب. وقيل: الكُهولة أربعون سنة.
ج. وقيل: الكهل: الحليم، عن مجاهد.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾:
أ. قيل: يكلم في المهد معجزة له، وبعدما صار كهلاً بالوحي الذي يأتيه من الله على حد واحد، عن أبي مسلم وجماعة.
ب. وقيل: يبلغ حال الكهل والسن، عن الأصم.
ج. وقيل: إنه ينزل وهو كهل.
د. وقيل: يكلم الناس في المهد ببراءة أمه، وكهلا بالنبوة.
هـ. وقيل: يكلم الناس في المهد وكهلاً، وهو على الحالتين نبي ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي وهو من العباد الصالحين.
و. وقيل: يكلم الناس في المهد وكهلاً ردّ على النصارى بما كان عليه من التقليب في الأحوال، وذلك ينافي الإلهية.
10. لما تقدم بشارة الملائكة لمريم بعيسى بين تعجيب مريم من حالها، فقال تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
11. ﴿قَالَتْ﴾ يعني مريم ﴿رَبَّ﴾:
أ. قيل: أرادت، يا إلهي.
ب. وقيل: أرادت جبريل يعني يا سيدي.
12. ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ أي كيف يكون لي ولد ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ آدمي:
أ. قيل: هذا تعجب؛ لأنه خرج من المعتاد فتعجبت من عظيم قدرته تعالى كما يقال عند الآثار العظيمة: ما أعظم الله تعالى!، ويُقال: كيف تهب ضيعتك وهي أَنْفَسُ مالك!؟، وأنت لا تشك في هبته، ولكن تتعجب من جوده.
ب. وقيل: هو استفهام، ومعناه: يكون لي ولد وأنا على حالي، ولم يمسسني بشر، أم على مجرى العادة؟.
ج. وقيل: معناه: أيكون جهة التبني أم حقيقة الولد.
13. ﴿قَالَ﴾ يعني جبريل، قال لها جبريل: ﴿كَذَلِكَ﴾:
أ. قيل: يعني كما تقولين يا مريم حكم الله.
ب. وقيل: كما أنت بلا مسيس بشر.
ج. وقيل: كذلك أوحى الله أنه يخلق ولدًا بلا زوج.
14. ﴿اللهُ يَخْلُقُ﴾ أي يفعل اختراعًا يقدر ﴿مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ إذا أراد شيئًا يخلقه ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾:
أ. قيل: إنه على جهة المثل، لا أن هناك قولا، يعني ما يشاء من فعل يفعله من غير معالجة ومعاناة قَلَّ أم كثر، فهو بمنزلة قول القائل: كن فيكون، يدل عليه أنه يكونه بلا شك، ولا يكون بنفسه.
ب. وقيل ﴿كُنْ﴾ علامة جعلها الله لملائكته فيما يريد إحداثه لما فيه من العبرة والمصلحة، عن الأصم.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن عيسى كان نبيًّا في حال الطفولية؛ ولذلك قال: ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ ولا مانع من حمله على ظاهره، سؤال وإشكال: كيف يكون طفلاً نبيًّا؟ والجواب: يكمل الله عقله، ويقوي بدنه ولسانه، ويصح منه الاستدلال والاستدعاء فيصح أن يكون نبيًّا، وإنما يصح فيه تلك المقدمات بتدريج لضرب من المصلحة، فأما من حيث القدرة فيجوز حصوله في لحظة، وقد ثبت أنه تعالى عند إعادة الخلق يصيرهم عقلاء أقوياء في لحظة، وكذلك خلق الملائكة.
ب. معجزات حصلت قبل مولد عيسى وبعد مولده، فما كان بعد مولده فهو معجزة له مقارنة لدعواه، وما كان قبل ذلك اختلفوا:
• فقيل: معجزة لزكريا، عن أبي علي وأبي هاشم.
• وقيل: كان إرهاصًا لنبوة عيسى، عن أبي القاسم وأبي بكر.
ج. أنه نبي من حال صغره إلى حال كبره؛ لأنه بعد النبوة لا يجوز عليه ما يبطل نبوته كالجنون ونحوه، وإنما يجوز ما يقارن الصحة كالنوم ونحوه، ولا يقال: إن في نبوة الطفل تنفيرًا؛ لأنه يكون تنفيرًا والحال كما نشاهد، فإذا تغير عن ذلك وصار كما كان عيسى فذلك يقوي حال النبوة.
د. بطلان قول اليهود في الفرية على مريم وبطلان قول النصارى في ادعاء الإلهية له، عن محمد بن جعفر بن الزبير.
هـ. تدل على نزول عيسى لأنه رفع ولم يكهل، وقد قال مشايخنا: إنه ينبغي أن ينزل آخر أيام التكليف بعد رفعه.
و. حدوث كلامه تعالى إن حمل على ظاهره من وجوه:
• منها: أنه علق ﴿كُنْ﴾ بـ ﴿إِذَا﴾ الذي يدخل على الاستقبال.
• ومنها: أنه قال: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ﴾، وذلك يؤذن بالاستقبال.
• ومنها: أنه علق المكون بـ ﴿كُنْ﴾ فإذا كان المكون محدثا، فكذلك ﴿كُنْ﴾
• ومنها: أن الكاف يتقدم النون، فيؤذن بالحدوث.
ز. بطلان قول الطبائعية أنه لا بد للولد من نطفة وذكر وأنثى.
16. قراءة العامة ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ بفتح الكاف وكسر اللام، وعن أبي سماك العدوي بكسر الكاف وجزم اللام، وهما لغتان: كَلِمَة وكِلْمَة، كفَخِذ وفَخْذ.
17. مسائل نحوية:
أ. ﴿إِذِ﴾ قيل: العامل فيه: وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة، وقيل ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ إذ قالت، وقيل: إنه معطوف على ﴿إِذِ﴾ الأولى في قوله: إذ قالت امرأة عمران)، عن أبي مسلم.
ب. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ محله نصب عطفًا على قوله: ﴿وَجِيهًا﴾، تقديره: ومكلمًا، ولذلك رد عليه كهلا) بالنصب، ويجوز أن يكون عطفًا على الظرف في قوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾
ج. ﴿اسْمُهُ﴾ قيل: يرجع الضمير إلى عيسى دون الكلمة لذلك ذكره، وقيل: رده إلى الكلام؛ لأن الكلام والكلمة واحد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/237.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المسيح: فعيل بمعنى مفعول، وأصله أنه مسح من الأقذار وطهر، والمسيح أيضا: الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب، ولذلك سمي الدجال به، وقيل: المسيح عيسى بفتح الميم والتخفيف، وهو الصديق، والمسيح: بكسر الميم وتشديد السين نحو الشرير: الدجال، عن إبراهيم النخعي، وأنكره غيره، قال الشاعر: (إذ المسيح يقتل المسيحا.
ب. الوجيه: الكريم على من يسأله، فلا يرده لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه لمسألة، فيرد، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة وله وجاهة عند الناس وجاه أي: منزلة رفيعة.
ج. الكهل: ما بين الشاب والشيخ، ومنه اكتهل النبت: إذا طال وقوي، والمرأة: كهلة، قال الشاعر:
çولا أعود بعدها كريا... أمارس الكهلة، والصبياé
ومنه الكاهل: ما فوق الظهر إلى ما يلي العنق، وقيل: الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة.
2. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ قال ابن عباس: يريد جبرائيل ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ يخبرك بما يسرك ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: إنه المسيح سماه كلمة، عن ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين، وإنما سمي بذلك لأنه كان بكلمة من الله من غير والد، وهو قوله ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ يدل عليه قوله ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ﴾ الآية.. وهو أقوى، ويؤيده قوله: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}
ب. وقيل: سمي بذلك لأن الله بشر به في الكتب السالفة، كما يقول الذي يخبرنا بالأمر إذا خرج موافقا لأمره: قد جاء كلامي، فمما جاء من البشارة به في التوراة: (أتانا الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران وساعير: هو الموضع الذي بعث منه المسيح)
ج. وقيل: لأن الله يهدي به، كما يهدي بكلمته.
3. إنما ذكر الضمير في ﴿اسْمُهُ﴾ وهو عائد إلى الكلمة، لأنه واقع على مذكر، فذهب إلى المعنى، واختلف في أنه لم سمي بالمسيح:
أ. فقيل: لأنه مسح بالبركة واليمن، عن الحسن وقتادة وسعيد.
ب. وقيل: لأنه مسح بالتطهير من الذنوب.
ج. وقيل: لأنه مسح بدهن زيت بورك فيه، وكانت الأنبياء تمسح به، عن الجبائي.
د. وقيل: لأنه مسحه جبرائيل بجناحه وقت ولادته، ليكون عوذة من الشيطان.
هـ. وقيل: لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله.
و. وقيل: لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصر، عن الكلبي.
ز. وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ، عن ابن عباس في رواية عطا والضحاك.
ح. وقال أبو عبيدة: هو بالسريانية (مشيحا) فعربته العرب.
4. ﴿عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ نسبة إلى أمه ردا على النصارى قولهم إنه ابن الله ﴿وَجِيهًا﴾ ذا جاه وقدر، وشرف ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ إلى ثواب الله وكرامته، ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ أي: صغيرا، والمهد: الموضع الذي يمهد لنوم الصبي، ويعني بكلامه ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ الآية.. وقيل: إن المراد بالآية (ويكلمهم في المهد) دعاء إلى الله، وكهلا بعد نزوله من السماء، ليقتل الدجال، وذلك لأنه رفع إلى السماء، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وذلك قبل الكهولة، عن زيد بن أسلم.
5. وجه كلامه ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ أنه تبرئة لأمه مما قذفت به، وجلالة له بالمعجزة التي ظهرت فيه، ﴿وَكَهْلًا﴾ أي: ويكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من الله، أعلمها الله تعالى أنه يبقى إلى حال الكهولة، وفي ذلك إعجاز لكون المخبر على وفق الخبر، وقيل: إن المراد به الرد على النصارى بما كان فيه من التقلب في الأحوال، لأن ذلك مناف لصفة الإله.
6. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: ومن النبيين مثل إبراهيم وموسى.
7. في ظهور المعجزة في المهد قولان:
أ. أحدهما: إنها كانت مقرونة بنبوة المسيح، لأنه تعالى أكمل عقله في تلك الحال، وجعله نبيا، وأوحى إليه بما تكلم به، عن الجبائي.
ب. وقيل: كان ذلك على التأسيس والإرهاص لنبوته، عن ابن الأخشيد.
ج. يجوز عندنا (2) الوجهان، ويجوز أيضا أن يكون معجزة لمريم تدل على طهارتها، وبراءة ساحتها، إذ لا مانع من ذلك، وقد دلت الأدلة الواضحة على جوازه.
8. إنما جحدت النصارى كلام المسيح في المهد، مع كونه آية ومعجزة، لأن في ذلك إبطالا لمذهبهم، لأنه قال ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ وهذا ينافي قولهم إنه ابن الله، فاستمروا على تكذيب من أخبر أنه شاهده كذلك.
9. ﴿قَالَتْ﴾ مريم يا ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ﴾ أي: كيف يكون ﴿لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾:
أ. لم تقل ذلك استبعادا واستنكارا، بل إنما قالت استفهاما واستعظاما لقدرة الله، لأن في طبع البشر التعجب مما خرج عن المعتاد.
ب. وقيل: إنما قالت ذلك لتعلم أن الله تعالى يرزقها الولد، وهي على حالتها، لم يمسها بشر، أو يقر لها زوجا، ثم يرزقها الولد على مجرى العادة.
10. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: يخلق ما يشاء مثل ذلك، وهو حكاية ما قال لها الملك أي: يرزقك الولد وأنت على هذه الحالة، لم يمسك بشر ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾:
أ. قيل: أي: خلق أمرا.
ب. وقيل: إذا قدر أمرا.
11. في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنه إخبار بسرعة حصول مراد الله في كل شيء أراد حصوله من غير مهلة، ولا معاناة، ولا تكلف سبب، ولا أداة، وإنما كنى بهذا اللفظ، لأنه لا يدخل في وهم العباد شيء أسرع من كن فيكون.
ب. الآخر: إن هذه الكلمة، كلمة جعلها الله علامة للملائكة فيما يريد إحداثه وايجاده، لما فيه من المصلحة والاعتبار.
12. إنما استعمل لفظة الأمر فيما ليس بأمر هنا، ليدل بذلك على أن فعله بمنزلة فعل المأمور، في أنه لا كلفة فيه على الآمر.
13. مسائل نحوية:
أ. ﴿وَجِيهًا﴾ يبشرك الله بهذا الولد وجيها، ﴿وَيُكَلِّمُ﴾: في موضع النصب أيضا على الحال، عطفا على ﴿وَجِيهًا﴾، وجائز أن يعطف بلفظ يفعل على فاعل لمضارعة يفعل فاعلا قال الشاعر: بات يغشيها بعصب باتر... يقصد في أسوقها وجائر أي: قاصد أسوقها وجائر.
ب. ﴿وَكَهْلًا﴾: حال من (يكلم)
ج. ﴿فَيَكُونُ﴾: هاهنا لا يجوز فيه غير الرفع، لأنه لا يصلح أن يكون جوابا للأمر الذي هو ﴿كُنْ﴾ لأن الجواب يجب بوجود الأول نحو: ائتني فأكرمك، وقم فأقوم معك، ولا يجوز قم فيقوم، لأنه يكون على تقدير قم فإنك إن تقم يقم، وهذا لا معنى له، ولكن الوجه الرفع عذ الإخبار بأنه سيقوم، ويجوز في قوله: أن يقول له كن فيكون: النصب عطفا على ﴿يَقُولُ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/749.
(2) يقصد الإمامية
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه قول الله له: (كن) فكان، قاله ابن عباس، وقتادة
ب. الثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان.
ج. الثالث: أن الكلمة اسم لعيسى، وسمّي كلمة، لأنه كان عن الكلمة، وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى.
2. في تسميته بالمسيح ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من القدم، رواه عطاء عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد.
د. الرابع: أن معنى المسيح: الصّدّيق؛ قاله مجاهد، وإبراهيم النّخعيّ، وذكره اليزيديّ، قال أبو سليمان الدّمشقيّ: ومعنى هذا أن الله مسحه، فطهّره من الذنوب.
هـ. الخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، ذكره ثعلب، وبيانه: أنه كان كثير السياحة.
و. السادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم.
3. قال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين:
أ. أحدهما: المسيح الدّجّال، والأصل فيه: الممسوح، لأنه ممسوح أحد العينين.
ب. والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية (مشيحا) بالشين، فلما عرّبته العرب، أبدلت من شينه سينا، كما قالوا: موسى، وأصله بالعبرانية موشى.
4. قال ابن الأنباريّ: وإنما بدأ بلقبه، فقال: المسيح عيسى ابن مريم، لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قلّ أن يقع على سميّ يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدّمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم، فأما قوله: عيسى ابن مريم، فإنما نسبه إلى أمّه لينفي ما قاله عنه الملحدون من النّصارى، إذ أضافوه إلى الله تعالى.
5. ﴿وَجِيهًا﴾ قال ابن زيد: الوجيه في كلام العرب: المحبّب المقبول، وقال ابن قتيبة: الوجيه: ذو الجاه، وقال الزجّاج: هو ذو المنزلة الرّفيعة عند ذوي القدر والمعرفة، يقال: قد وجه الرجل يوجه وجاهة، ولفلان جاه عند الناس، أي: منزلة رفيعة.
6. ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ قال قتادة: عند الله يوم القيامة، والمهد: مضجع الصّبيّ في رضاعه، وهو مأخوذ من التّمهيد، وهو التّوطئة.
7. في تكليمه للناس في تلك الحال قولان:
أ. أحدهما: لتبرئة أمّه مما قذفت به.
ب. الثاني: لتحقيق معجزته الدّالة على نبوّته، قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النّطق.
8. ﴿وَكَهْلًا﴾ قال ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا، ثم رفعه الله، وقال وهب بن منبّه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة؛ فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله، وقال ابن الأنباريّ: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن أربى عليها، فقد دخل في الكهولة، والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين، وإنما سمّي الكهل كهلا، لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم: قد اكتهل النّبات، وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشّيب.
9. سؤال وإشكال: قد علم أن الكهل يتكلّم، والجواب: عنه ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي: أنه يبلغ الكهولة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال ﴿وَكَهْلًا﴾ قال ذلك بعد نزوله من السماء.
ب. الثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثّر فيه، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التّغير، ذكره ابن جرير الطّبريّ.
ج. الثالث: أن المراد بالكهل: الحليم، قاله مجاهد.
10. في قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ وفي علّة قولها هذا قولان:
أ. أحدهما: أنها قالت هذا تعجّبا واستفهاما، لا شكّا وإنكارا، على ما أشرنا إليه في قصة زكريّا، وعلى هذا الجمهور.
ب. الثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنّه آدميا يريد بها سوءا، ولهذا قالت: ﴿أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ﴾ فلما بشّرها لم تتيقّن صحّة قوله، لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾، قاله ابن الأنباريّ.
11. ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ أي: ولم يقربني زوج، والمسّ: الجماع، قاله ابن فارس، وسمّي البشر بشرا، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها، وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصّبح: أوائله، قال يعني جبريل: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي: بسبب، وبغير سبب، وباقي الآية مفسّر في (البقرة)
__________
(1) زاد المسير: 1/283.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما شرح الله تعالى حال مريم عليها السلام، في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام، فقال: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾، واختلفوا في العامل في ﴿إِذِ﴾:
أ. قيل: العامل فيه، وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة.
ب. وقيل: يختصمون إذ قالت الملائكة.
ج. وقيل: إنه معطوف على ﴿إِذ﴾ الأولى في قوله ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ﴾
د. وقيل التقدير: إن ما وصفته من أمور زكريا، وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك، وأما أبو عبيدة: فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف، وهو أن (إذ) صلة في الكلام وزيادة.
2. القولان الأولان فيهما بعض الضعف، وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام، إلا قول الحسن: فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر، فإن ذلك كان من كراماتها، فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة، وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل، ومنهم من تكلف الجواب، فقال: يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع، كما تقول لقيته في سنة كذا، وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث، والرابع، أما قول أبي عبيدة: فقد عرفت ضعفه.
3. ظاهر قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام، وقد قررناه فيما تقدم، وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: 25]
4. ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان:
أ. الأول: أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله ﴿كُنْ﴾ إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود، ومحض الكرم، وصريح الإقبال، فكذا هاهنا.
ب. الثاني: أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه، وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل، ونور الإحسان، فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل.
5. سؤال وإشكال: لم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن؟ والجواب:
أ. أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان:
• الأول: أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم، والنطق أمر ممكن، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها، وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص، لا من نطفة الأب، وإذا ثبت الإمكان، ثم إن المعجز قام على صدق النبي، فوجب أن يكون صادقاً، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك، فثبت صحة ما ذكرناه.
• الثاني: ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59]، فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة.
ب. وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه:
• الأول: أن الفلاسفة اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا: لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن، وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة، فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع، فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجباً، وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجباً، فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن، وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان.
• الثاني: هو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد، كتولد الفأر عن المدر، والحيات عن الشعر، والعقارب عن الباذروج، وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعاً(2).
• الثالث: هو أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكروا في (كتب الفلسفة) أمثلة كثيرة لهذا الباب، وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات، فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها.
6. إذا كان كل هذه الوجوه ممكناً محتملًا كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولًا غير ممتنع، ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلًا إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة، وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلًا عن العلم، فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته.
7. ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ لفظة (من) ليست للتبعيض هاهنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملًا للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه، بل المراد من كلمة (من) هاهنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة ﴿اللهُ﴾ مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهّمه النصارى والحلولية.
8. ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، في اسم المسيح: هل هو اسم مشتق، أو موضوع قولان:
أ. الأول: قال أبو عبيدة والليث: أصله بالعبرانية مشيحا، فعربته العرب وغيروا لفظه، وعيسى: أصله يشوع كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا بالعبرانية، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق.
ب. الثاني: أنه مشتق وعليه الأكثرون، ثم ذكروا فيه وجوهاً:
• الأول: قال ابن عباس: إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة، إلا بريء من مرضه.
• الثاني: قال أحمد بن يحيى: سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها، ومنه مساحة أقسام الأرض، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال: لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب.
• الثالث: أنه كان مسيحاً، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى، فعلى هذه الأقوال: هو فعيل بمعنى: فاعل، كرحيم بمعنى: راحم.
• الرابع: أنه مسح من الأوزار والآثام.
• الخامس: سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص، فكان ممسوح القدمين.
• السادس: سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء، ولا يمسح به غيرهم، ثم قالوا: وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً.
• السابع: سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل صلّى الله عليه وآله وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان.
• الثامن: سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
• على هذه الأقوال يكون المسيح، بمعنى: الممسوح، فعيل بمعنى: مفعول، قال أبو عمرو بن العلاء المسيح: الملك، وقال النخعي: المسيح الصديق ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً لا لدلالة اللغة عليه.
9. أما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين:
أ. أحدهما: لأنه ممسوح أحد العينين.
ب. الثاني: أنه يمسح الأرض أي: يقطعها في المدة القليلة، قالوا: ولهذا قيل له: دجال لضربه في الأرض، وقطعه أكثر نواحيها، يقال: قد دجل الدجال إذا فعل ذلك، وقيل: سمي دجالًا من قوله: دجل الرجل إذا موه ولبس.
10. سؤال وإشكال: المسيح كان كاللقب له، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم؟ والجواب: أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة، فذكره الله تعالى أولًا بلقبه ليفيد علو درجته، ثم ذكره باسمه الخاص.
11. سؤال وإشكال: لم قال عيسى ابن مريم والخطاب مع مريم؟ والجواب: لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب، كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته.
12. سؤال وإشكال: الضمير في قوله: اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير؟ والجواب: لأن المسمى بها مذكر.
13. سؤال وإشكال: لم قال اسمه المسيح عيسى ابن مريم؟ والاسم ليس إلا عيسى، وأما المسيح فهو لقب، وأما ابن مريم فهو صفة؟ والجواب: الاسم علامة المسمى ومعرف له، فكأنه قيل: الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة.
14. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ معنى الوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر، يقال: وجه الرجل، يوجه وجاهة هو وجيه، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان، وقال بعض أهل اللغة: الوجيه: هو الكريم، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال.
15. وصف الله تعالى موسى صلّى الله عليه وآله وسلم بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69] ثم للمفسرين أقوال:
أ. الأول: قال الحسن: كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى.
ب. الثاني: أنه وجيه عند الله تعالى، وأما عيسى عليه السلام، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بسبب دعائه، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام.
ج. الثالث: أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عند الله تعالى.
16. سؤال وإشكال: كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه؟ والجواب: قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام، فكذا هاهنا.
17. قال (3): ﴿وَجِيهًا﴾ منصوب على الحال، المعنى: أن الله يبشرك بهذا الولد وجيهاً في الدنيا والآخرة، والفراء يسمي هذا قطعاً كأنه قال عيسى ابن مريم الوجيه فقطع منه التعريف.
18. في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة.
ب. ثانيها: أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة.
ج. ثالثها: أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات، ولذلك قال تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ إلى قوله ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: 7 ـ 11]
19. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ الواو للعطف على قوله: ﴿وَجِيهًا﴾ والتقدير كأنه قال وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف، لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا للضرورة، أو الفائدة، والأولى أن يقال تقدير الآية ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ فقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ عطف على قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾
20. في المهد قولان:
أ. أحدهما: أنه حجر أمه.
ب. الثاني: هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع، وكيف كان المراد منه: فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد.
21. ﴿وَكَهْلًا﴾ عطف على الظرف من قوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ كأنه قيل: يكلم الناس صغيراً وكهلًا، والكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى:
çيضاحك الشمس منها كوكب شرق...مؤزر بحميم النبت مكتهلé
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال.
22. سؤال وإشكال: تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات، فما الفائدة في ذكره؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم: إن عيسى كان إلهاً.
ب. الثاني: المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة.
ج. الثالث: قال أبو مسلم: معناه أنه يكلم حال كونه في المهد، وحال كونه كهلًا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز.
د. الرابع: قال الأصم: المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة.
23. سؤال وإشكال: نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر، وعلى هذا التقدير: فهو ما بلغ الكهولة، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين، فصح وصفه بكونه كهلًا في هذا الوقت.
ب. الثاني: هو قول الحسين بن الفضل البجلي: أن المراد بقوله ﴿وَكَهْلًا﴾ أن يكون كهلًا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناس، ويقتل الدجال، قال الحسين بن الفضل: وفي هذه الآية نص في أنه عليه السلام سينزل إلى الأرض.
24. أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر، وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع، وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء هاهنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلهاً، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة، وأجاب المتكلمون عن هذه الشبهة، وقالوا:
أ. إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان الحاضرون جمعاً قليلين، فالسامعون لذلك الكلام، كان جمعاً قليلًا، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء.
ب. وبتقدير: أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك.
ج. وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب: لما قرأ على النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة.
25. سؤال وإشكال: كون عيسى كلمة من الله تعالى، وكونه ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ وكونه من المقربين عند الله تعالى، وكونه مكلماً للناس في المهد، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؟ والجواب: إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح، والطريق الأكمل، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات.
26. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ قال المفسرون: إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 8/221.
(2) هذه مقولة قديمة للفلاسفة ومثلهم علماء الأحياء في ذلك الحين، لكنها فندت بعد ذلك
(3) الكلام هنا للزجّاج
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1)
1. ﴿إِذِ﴾ متعلقة بـ ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾، ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾، ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ وقرأ أبو السمان ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾، وقد تقدم.
2. ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ ولم يقل اسمها لأن معنى كلمة معنى ولد، والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق، قاله إبراهيم النخعي، وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك، وقال ابن فارس: والمسيح العرق، والمسيح الصديق، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه والمسح الجماع، يقال مسحها، والأمسح: المكان الأملس، والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها، وبفلان مسحة من جمال، والمسائح قسي جياد، واحدتها مسيحة، قال: لها مسائح زور في مراكضها...لين وليس بها وهن ولا رقق واختلف في المسيح ابن مريم مما ذا أخذ، فقيل: لأنه مسح الأرض، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن، وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فكأنه سمي مسيحا لذلك، فهو على هذا فعيل بمعنى فاعل، وقيل: لأنه ممسوح بدهن البركة، كانت الأنبياء تمسح به، طيب الرائحة، فإذا مسح به علم أنه نبي، وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل: لأن الجمال مسحه، أي أصابه وظهر عليه، وقيل: إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب، وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ، يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا، وقال ابن الأعرابي: المسيح الصديق، والمسيخ الأعور، وبه سمي الدجال، وقال أبو عبيد: المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى، وأما الدجال فسمي مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين، وقد قيل في الدجال مسيح بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقول كذلك بالخاء المنقوطة، وبعضهم يقول مسيخ بفتح الميم وبالخاء والتخفيف، والأول أشهر، وعليه الأكثر، سمي به لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس، فهو فعيل بمعنى فاعل، فالدجال يمسح الأرض محنة، وابن مريم يمسحها منحة، وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول، وقال الشاعر: (إن المسيح يقتل المسيحا)
3. قيل: إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به، فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو، وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، لأن فيه ألف، تأنيث، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه.
4. ﴿وَجِيهًا﴾ أي شريفا ذا جاه وقدر، وانتصب على الحال، قاله الأخفش، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عند الله تعالى وهو معطوف على ﴿وَجِيهًا﴾ أي ومقربا، قاله الأخفش، وجمع وجيه وجهاء ووجهاء، ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ عطف على ﴿وَجِيهًا﴾ قاله الأخفش أيضا.
5. ﴿الْمَهْدِ﴾ مضجع الصبي في رضاعه، ومهدت الأمر هيأته ووطأته، وفي التنزيل ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الروم]، وامتهد الشيء ارتفع كما يمتهد سنام البعير، ﴿وَكَهْلًا﴾ الكهل بين حال الغلومة وحال الشيخوخة، وامرأة كهلة، واكتهلت الروضة إذا عمها النور، يقول: يكلم الناس في المهد آية، ويكلمهم كهلا بالوحي والرسالة، وقال أبو العباس: كلمهم في المهد حين برأ أمه فقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ [مريم] الآية، وأما كلامه وهو كهل فإذا أنزل الله تعالى من السماء أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ﴾ كما قال في المهد، فهاتان آيتان وحجتان، قال المهدوي: وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى صلّى الله عليه وآله وسلم يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا، إذ كانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش، قال الزجاج: ﴿وَكَهْلًا﴾ بمعنى ويكلم الناس كهلا، وقال الفراء والأخفش: هو معطوف على ﴿وَجِيهًا﴾، وقيل: المعنى ويكلم الناس صغيرا وكهلا، وروى ابن جريح عن مجاهد قال: الكهل الحليم، قال النحاس: هذا لا يعرف في اللغة، وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين، وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست عشرة سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين، قاله الأخفش.
6. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عطف على ﴿وَجِيهًا﴾ أي وهو من العباد الصالحين، ذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن هلال بن يساف، قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب يوسف وصاحب جريج، كذا قال: (وصاحب يوسف)، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب الجبار وبينا صبي يرضع من أمه) وذكر الحديث، بطوله، وقد جاء من حديث صهيب في قصة الأخدود أن امرأة جئ بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي)، في غير كتاب مسلم (يرضع فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق)، وقال الضحاك: (تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف وصبي ماشطة امرأة فرعون وعيسى ويحيى وصاحب جريج وصاحب الجبار، ولم يذكر الأخدود، فأسقط صاحب لاخدود وبه يكون المتكلمون سبعة، ولا معارضة بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) بالحصر فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحي إليه في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك فأخبر به.
7. أما صاحب يوسف فيأتي الكلام فيه، وأما صاحب جريج وصاحب الجبار وصاحب الأخدود ففي صحيح مسلم، وستأتي قصة الأخدود في سورة ﴿الْبُرُوجِ﴾ إن شاء الله تعالى، وأما صبي ماشطة امرأة فرعون، فذكر البيهقي عن ابن عباس قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي سرت في رائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة قالوا ماشطة ابنة فرعون وأولادها سقط مشطها من يديها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربك ورب أبيك، قالت: أو لك رب غير أبي؟ قالت: نعم ربي وربك ورب أبيك الله ـ قال ـ فدعاها فرعون فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله ـ قال ـ فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها قالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع واحد قال: ذاك لك لما لك علينا من الحق، فأمر بهم فألقوا واحدا بعد واحد حتى بلغ رضيعا فيهم فقال قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنا على الحق ـ قال ـ وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم.
8. ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ أي يا سيدي، تخاطب جبريل عليه السلام، لأنه لما تمثل لها قال لها: إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا، فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد فقالت: أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ أي بنكاح، في سورتها: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ [مريم] ذكرت هذا تأكيدا، لأن قولها (لم يمسسني بشر) يشمل الحرام والحلال، تقول: العادة الجارية التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا عن نكاح أو سفاح، وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد: أمن قبل زوج في المستقبل أم يحلقه الله ابتداء؟ فروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم]، نفخ في جيب درعها وكمها، قاله ابن جريج، قال ابن عباس: أخذ جبريل ردن قميصها بأصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى، وقيل غير ذلك على ما يأتي بيانه في سورتها إن شاء الله تعالى.
9. قال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعض الماء في أصلاب الآباء وبعضه في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صارا ولدا، وأن الله تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها، فنفخ فيه جبريل لتهيج شهوتها، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى:﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ يعني إذا أراد أن يخلق خلقا ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/89.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتْ﴾ بدل من قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتْ﴾ المذكور قبله، وما بينهما اعتراض، وقيل: بدل من ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ وقيل: منصوب بفعل مقدر؛ وقيل: بقوله: ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ وقيل: بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾
2. المسيح اختلف فيه ممّا ذا أخذ؟ فقيل: من المسح، لأنه: مسح الأرض، أي: ذهب فيها فلم يستكن بكن؛ وقيل: إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء فسمي مسيحا، فهو على هذين: فعيل، بمعنى: فاعل؛ وقيل: لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به؛ وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين؛ وقيل: لأن الجمال مسحه؛ وقيل: لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال: فعيل، بمعنى: مفعول، وقال أبو الهيثم: المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة، وقال ابن الأعرابي: المسيح: الصديق، وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية: مشيخا، بالمعجمتين، فعرّب كما عرّب موشى بموسى، وأما الدجال فسمي مسيحا: لأنه ممسوح إحدى العينين؛ وقيل: لأنه يمسح الأرض، أي: يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس.
3. ﴿عِيسَى﴾ عطف بيان، أو بدل، وهو اسم أعجمي؛ وقيل: هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه، قال في الكشاف: هو معرّب من أيشوع، انتهى، والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل: ابن مريم، مع كون الخطاب معها، تنبيها على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه، والوجيه: ذو الوجاهة، وهي: القوّة والمنعة، ووجاهته في الدنيا النبوّة، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة، وهو منتصب على الحال من: كلمة، وإن كانت نكرة فهي موصوفة.
4. وكذلك قوله: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ في محل نصب على الحال، قال الأخفش: هو معطوف على وجيها، والمهد: مضجع الصبي في رضاعه، ومهدت الأمر: هيأته ووطأته، والكهل: هو من كان بين سن الشباب والشيخوخة، أي: يكلم الناس حال كونه رضيعا في المهد وحال كونه كهلا بالوحي والرسالة، قاله الزجاج، وقال الأخفش والفراء: إن كهلا معطوف على وجيها، قال الأخفش: ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عطف على وجيها، أي: هو من العباد الصالحين.
5. ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ أي: كيف يكون؟ على طريقة الاستبعاد العادي ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ جملة حالية، أي: والحال أنه على حالة منافية للحالة المعتادة من كون له أب ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ هو من كلام الله سبحانه، وأصل القضاء: الإحكام، وقد تقدّم، وهو هنا الإرادة: أي إذا أراد أمرا من الأمور ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ من غير عمل ولا مزاولة، وهو تمثيل لكمال قدرته.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/392.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ﴾ شروع في قصة عيسى عليه السلام ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ أي بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب ﴿اسْمُهُ﴾ ذكّر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر، أي اسمه الذي يميزه لقبا ﴿الْمَسِيحُ﴾ وعلما ﴿عِيسَى﴾ معرب يسوع بالسين المهملة كلمة يونانية معناها (مخلّص) ويرادفها (يشوع) بالمعجمة، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل، وفيها أن المسيح بمعنى الممسوح أو المدهون، قال البقاعيّ: وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهرا متأهلا للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركا، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يمسح.
2. إنما قال ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ مع كون الخطاب لها، تنبيها على أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت على نساء العالمين ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أي سيدا ومعظما فيهما ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ أي من الله عز وجل.
3. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ في محل النصب على الحال ﴿وَكَهْلًا﴾ عطف عليه بمعنى ويكلم الناس، حال كونه طفلا وكهلا، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين وذلك لا شك أنه غاية في المعجز، وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا، والمهد الموضع الذي يهيأ للصبيّ ويوطأ لينام فيه، والكهل من وخطه الشيب، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين، قال ابن الأعرابيّ: يقال للغلام مراهق، ثم محتلم، ثم يقال: تخرج وجهه، ثم اتصلت لحيته، ثم مجتمع، ثم كهل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، قال الأزهريّ: وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه وكماله قوته.
4. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال ابن جرير: يعني من عدادهم وأوليائهم، لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
5. ﴿قَالَتْ﴾ مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ أي لست بذات زوج ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ أي على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر ﴿اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ولا يحتاج إلى سبب، ولا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ولم يقل ﴿يُفْعَلَ﴾ كما في قصة زكريا، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكوّن أنسب بهذا المقام لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا﴾ [يس: 82] ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50]، أي إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر، وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/319.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ﴾ جبريل، أو هو وجماعته ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ زمان التبشير وزمان الاختصام واسع، التبشير في بعض والاختصام في بعض منه، سابق بمدَّةٍ طويلة كما مرَّ، وذلك كما يقال: كان كذا وكذا يوم كذا، أو شهر كذا، أو عام كذا، أو قرن كذا، وأحدٌ في وقت والآخر في وقت من ذلك، أي: آخر من ذلك الزمان، ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ ولد يكون بكلمة (كن) كما مرَّ بيانه بلا أب، كقوله تعالى في آدم: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبـِّكَ﴾ [آل عمران: 59 ـ 60]، وقيل: سمِّي لأنَّ الله يهدي به كما يهدي بكلمته سبحانه.
2. قال نصرانيٌّ حاذق طبيب لعليِّ بن الحسين الواقدي بحضرة الرشيد: إنَّ في كتابكم ما يدلُّ على أنَّ عيسى جزء من الله، وتلا قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: 171] فقرأ الواقدي: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الَارْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: 13]، فيلزم أنَّ الأشياء جزء منه تعالى، فانقطع النصرانيُّ وفرح الرشيد فرحا شديدا، وأعطى الواقديَّ صلة فاخرة.
3. ﴿اسْمُهُ﴾ اسم الكلمة، وذكَّرها لأنَّها عيسى، ولأنَّ الخبر مذكَّر، وهو قوله: ﴿الْمَسِيحُ﴾ لقب يدلُّ على المدح، معناه (المبارَك) في العبريَّة، وأصله فيها (مشيحا)، وقيل: لفظ عربيٌّ مشتقٌّ من المسح، إذ مسح بالبركة أو بالتطهير من الذنوب؛ أو مسحه جبريل بجناحه صونا من الشيطان وقت الولادة، أو بيده تبرُّكا به؛ أو كان ممسوح القدمين لا أخمص لهما؛ أو ممسوحا بدهن من الله تمسح به الأنبياء فقط حال الولادة، تعرفهم الملائكة أنبياء به؛ أو خرج من بطن أمِّه ممسوحا بدهن؛ أو مسح وجهه بالملاحة، (فعيل) بمعنى مفعول، والميم أصل لا زائد؛ أو لأنَّه يمسح الأرض، أو يقطعها لا يقيم في موطن؛ أو لأنَّه يمسح ذا العاهة فيبرأ؛ أو لأنَّه يمسح رأس اليتيم لله 8 ، والزائد الياء؛ أو لأنَّه يسيحُ في الأرض فالزائد الميم، (فعيل) بمعنى فاعل.
4. ﴿عِيسَى﴾ عطف بيان، أو بدل، أو هو عيسى، فليس اسمه مجموع قوله: ﴿الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ كما قيل؛ فـ (الْمَسِيحُ): لقبه، و(عِيسَى): اسمه، و(ابْنُ مَرْيَمَ): كنيته، والمشهور أنَّ الاشتقاق لا يدخل الأسماء العجميَّة، وقيل: التحقيق دخوله إيَّاها كما تشاهد فيها المعاني المصدريَّة والأفعال الماضية والمستقبلة والأمر، وأقول لا محيد عن ذلك إِلَّا أنَّه ليس يجوز أن يدَّعى لفظ عجميٌّ مشتقٌّ من لفظ عربيٍّ باعتبار المعنى، مثل أن يقال: عيسى عبرانيٌّ مشتقٌّ من العيس وهو البياض، وكان أبيض إلى حمرة.
5. خاطبوا مريم بنسبته إليها إيذانا بأنَّه يكون بلا أب، وإيذانا بكنيته، والمعتاد نسبة الناس إلى الآباء؛ ولذلك نسب إليها ولم يقولوا: ابنك.
6. ﴿وَجِيهًا﴾ ذا جاه، أي: قوَّة ومنعة وشرف، وقيل: وجاهته أنَّه لا يردُّ سائلا، وقيل: إنَّه نبيء وإنَّه تقبل شفاعته في الآخرة، وقبول دعائه، وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل: براءته مِمَّا رمته اليهود به، وهو من الوجه؛ لأنَّه أشرف الأعضاء، والجاه مقلوب منه، وكذا قال في موسى: ﴿وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69]، وهو حال من (كَلِمَةٍ)، أو من ضميرها في الاستقرار؛ لأنَّ منه نعت (كَلِمَةٍ)، وهي حال مقدَّرة؛ لأنَّ وجاهته تأتي بعدُ، ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بالنبوءة وشفاء الآفات، وبراءته مِمَّا قالت اليهود، كما برِّئ موسى مِمَّا قالت اليهود، ﴿وَالَاخِرَةِ﴾ بالشفاعة في أمَّته المحقِّين، وكثرة ثوابه وعلوِّ درجته، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ وكائنا من المقرَّبين عند الله دنيا وأخرى، ومن هذا رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة وقبول كلامه.
7. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ في زمان المهد قبل وقت الكلام، وهو ما يُوطَّأ للطفل، وظاهر الآية أنَّه لم يرتفع عنه الكلام؛ لأنَّ الفعل هنا للتكرير، لا كما قيل: إنَّه بعدما تكلَّم ارتفع الكلام إلى وقته، وعن ابن عبَّاس: (تكلَّم ساعة في المهد بقوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيئًا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا اَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ إلخ [مريم: 30 ـ 31]، ثمَّ لم يتكلَّم حتَّى بلغ مبلغ النطق)، وقالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدَّثني وحدَّثته، وإذا شغلني عنه إنسان سبَّح في بطني وأنا أسمع.
8. ﴿وَكَهْلاً﴾ عطف على الحال قبله، أي: ثابتا في المهد وكهلا، وذلك بشارة بأنَّه يحيى ويكون كهلا، أو إعلانا بأنَّ كلامه لم يتغيَّر بل هو حقٌّ، وكلام أنبياء قبله في حال مهده وحال كهولته، ولو كان إلها ـ كما تزعم النصارى ـ لم يتغيَّر من الصبا إلى الكهولة، وَأَوَّل الكهولة ثلاثون سنة أو اثنتان وثلاثون، أو ثلاث وثلاثون، بُعث على رأس ثلاثين، ومكث في نبوءته ثلاثين شهرا، أو ثلاثين سنة.
9. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وثابتا من الصالحين، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ولا شكَّ أنَّ الصلاح سبب لجميع مقامات الدين، ومتقدِّم في الوجود على النبوءة؛ ولذلك ذكره مع تقدُّم تلك الصفات، أو المراد: الكاملين في الصلاح، وأيضا يقال: لا مرتبة أعلى من كون المرء صالحا؛ لأنَّه لا يكون كذلك إِلَّا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح، فتناول جميع مقامات الدين اعتقادا وقولا وعملا، فلا يعترض بأنَّ مقام النبوءة أعظم فتغني؛ ولذلك قال سليمان بعد النبوءة: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19] وبأَنَّ الصلاح أوَّل درجات المؤمنين.
10. ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ يا ربِّ ﴿أَنَّىٰ يَكُونُ لِـي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ من الرجال بزنى ولا بنكاح شرعيٍّ، ومن حُرِّر لبيت المقدس لا يتزوَّج ذكرا كان أم أنثى، والمسُّ في (كهيعص)، بالنكاح الشرعيِّ لأنَّ فيها: ﴿وَلَمَ اَكُ بَغِيًّا﴾ وذلك تعجُّب واستعظام لا إنكار أو استفهام أيكون الولد كما ذكرت بلا تزوُّج أو بعد تزوُّج، ولا يجوز أن تقول: من أيِّ شخص يكون؛ لأنَّها قالت: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، وسمِّي الإنسان بشرا لأنَّ بشرته ظاهرة، أي: جلدته لم تُكْسَ بشعر، ولا تقل: أو لأنَّ الله باشر أباه وخلقه بيده؛ لأنَّ معناه أيضًا لاقى بشرته، أي: جلدته مجازًا، فالكلام الأوَّل يكفي.
11. ﴿قَالَ﴾ أي: قال جبريل، أو الله لأنَّه الآمر بالتبشير، وجبريل حاكٍ لها، وقيل: بلا حكاية، ﴿كَذَالِكَ﴾ الأمر كذلك، أو مثل ذلك الخلق، بالنصب، ﴿اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ من خلق حيوان بلا أب كعيسى، أو بلا أب ولا أمٍّ كآدم وناقة صالح، ومن ذكر بلا نكاح كحوَّاء، وولادة عجوز عاقر من شيخ، وأعظم من ذلك وأقلُّ على سواء في قدرة الله، وولادة عذراء بلا ذكر أغرب، فكان الخلق المُنبِئُ عن الاختراع أنسب بها، ودونها ولادة عجوز ثيِّب عاقر من شيخ، فذُكِرَتْ بالفعل، فهناك (يَخْلُقُ)، وهنالك (يَفْعَلُ) لاختلاف القصَّتين في الغرابة.
12. ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ إذا ثبت قضاؤه أمرا، وقضاؤه أزليٌّ، إِلَّا إن أراد القضاء الحادث، وهو الكَتْب في اللَّوح، أو أراد بالقضاء إرادة الخلق للأمر فلا يقدَّر: (ثبت)، ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن﴾ تتوجَّه إرادته إليه، ﴿فَيَكُونُ﴾ عطف على (يَقُولُ)، يكون بتدريج أسبابٍ كحمل الأنثى من ذكر، وبلا تدريج كولادة مريم لعيسى، ويروى أنَّها حملته بتدريج، أو أريد في الآية ونحوها عدم التدريج، وفي غيرهما التدريج، قيل: حملته ساعة فولدته.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/268.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. {إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك} شروع في خبر عيسى بعد قصة أمه وقصة زكريا عليهم السلام، وهو بدل من قوله: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ [آل عمران: 42] وما بينهما اعتراض ناطق بحكمة نزول الآيات، مبين وجه دلالتها على صدق من أنزلت عليه.
والمعنى أن الملائكة بشرت مريم بالولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها وأمرتها بمزيد عبادته والاستغراق في شكره، والمراد بالملائكة هنا الروح جبريل لقوله تعالى في سورة مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17] إلى آخر الآيات، وذكر بلفظ الجمع لما تقدم في قصة زكريا، أو لأنه كان معه غيره.
في لفظ (كلمة) أربعة وجوه:
أ. الأول: أن المراد بالكلمة كلمة التكوين لا كلمة الوحي؛ ذلك أنه لما كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري عز وجل مما يعلو عقول البشر عبر عنه سبحانه بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82] فكلمة (كن) هي كلمة التكوين، وسيأتي تفسيرها، وهاهنا يقال: إن كل شيء قد خلق بكلمة التكوين فلماذا خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه؟ وأجيب عن ذلك بأن الأشياء تنسب في العادة والعرف العام في البشر إلى أسبابها، ولما فقد في تكوين المسيح وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله، وأطلقت الكلمة على المكون إيذانا بذلك، أو جعل كأنه نفس الكلمة مبالغة، وهذا هو الوجه المشهور.
ب. الثاني: أنه أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به، فهو قد عرف بكلمة الله، أي بوحيه لأنبيائه. قاله محمد عبده، والكلمة تطلق على الكلام كقوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 171] إلخ.
ج. الثالث:أنه أطلق عليه لفظ الكلمة لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرفه قومه اليهود حتى أخرجوه عن وجهه، وجعلوا الدين ماديا محضا، قاله الرازي وجعله من قبيل وصف الناس للسلطان العادل بظل الله ونور الله؛ لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان، قال: فكذلك كان عيسى سببا لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته له وإزالة الشبهات والتحريفات عنه.
د. الرابع: أن المراد بالكلمة كلمة البشارة لأمه، فقوله: بكلمة منه معناه بخير من عنده أو بشارة، وهو كقول القائل: ألقى إلي فلان كلمة سرني بها، بمعنى أخبرني خبرا فرحت به، قاله ابن جرير واستشهد له بقوله: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ [النساء: 171] يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها، قال: فتأويل القول وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده هي ولد لك اسمه المسيح عيسى بن مريم، ثم قال مستدلا على هذا ما نصه: ولذلك قال عز وجل: اسمه المسيح فذكر ولم يقل (اسمها) فيؤنث و(الكلمة) مؤنثة؛ لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان، وإنما هي بمعنى البشارة. فذكرت كنايتها كما تذكر كناية الذرية والدابة والألقاب إلى آخر ما أطال به في المسألة من جهة العربية.
2. لفظ (المسيح) معرب وأصله العبراني: (مشيحا) بالمعجمة ومعناه المسيح وهو لقب الملك عندهم؛ لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس، وهم يعبرون عن تولية الملك بالمسح وعن الملك بالمسيح، وقد اشتهر أن أنبياءهم بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنهم كانوا يعتقدون أنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فلما ظهر عيسى عليه السلام وسمي بالمسيح آمن به قوم وقالوا: إنه هو الذي بشر به الأنبياء، ولا يزال سائر اليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها، وأنه لا بد أن يظهر فيهم ملك، وقد بين محمد عبده معنى صدق لفظ المسيح على عيسى عليه السلام بحسب عرفهم فقال: إن الناس إنما يولون الملك عليهم لأجل تقرير العدل فيهم ورفع أثقال الظلم عنهم وقد فعل المسيح ذلك، فإن اليهود كانوا عند بعثته فيهم متمسكين بظواهر ألفاظ الكتاب وخاضعين لأفهام الكتبة والفريسيين وأوهامهم حتى أرهقهم ذلك عسرا وتركهم يئنون من الظلم وأثقال التكاليف، فرفع المسيح ذلك عنهم بإرجاعهم إلى مقاصد الدين وحملهم على الأخوة الرافعة للظلم.
3. وقد نقلوا عنه ما يفيد هذا المعنى، وهو أن مملكته روحانية لا جسدية، وقد لاح لي عند الكتابة أن قوله تعالى: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى﴾ يراد به أن لفظ المسيح هنا أجري مجرى العلم لا مجرى الوصف، والعلم المشتق لا يشترط فيه أن يكون مسماه متصفا بالمعنى الذي يدل عليه إذا استعمل وصفا، فإذا وضعت لفظ (علي) علما على رجل يصير مدلوله شخص ذلك الرجل سواء كان ذا علة أم لا، وإذا سميت ابنتك (ملكة) لم يكن لأحد أن يفسر اللفظ بالمعنى الذي وضع له اللفظ قبل العلمية، وقد يجوز أن يلمح المعنى الذي ينقل لفظه إلى العلمية أحيانا. وقد ذكر المفسرون بضعة وجوه لتفسير لفظ المسيح بناء على أنه مشتق من المسح ولا حاجة إلى ذكر شيء منها.
4. أما لفظ (عيسى) فهو معرب (يشوع) بقلب الحروف بعد جعل المعجمة مهملة وهذا يكثر في المنقول من العبرانية إلى العربية. فسين المسيح وموسى شين في العبرانية، وكذلك سين شمس فهي عندهم بمعجمتين.
5. إنما قيل: ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ مع كون الخطاب لها، إعلاما لها بأنه ينسب إليها؛ لأنه ليس له أب ولذلك قالت بعد البشارة: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾؟ إلخ.
6. قوله تعالى في وصفه: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ معناه أنه يكون ذا وجاهة وكرامة في الدارين، فالوجيه ذو الجاه والوجاهة، والمادة مأخوذة من الوجه حتى قالوا: إن لفظ الجاه أصله وجه، فنقلت الواو إلى موضع العين، فقلبت ألفا ثم اشتقوا منه، فقالوا: جاه فلان يجوه، كما قالوا: وجه يوجه، وذو الجاه يسمى وجها كما يسمى وجيها، ويقال: إن لفلان وجها عند السلطان، كما يقال: إن له جاها ووجاهة، وكأن الأصل في الوجيه من يعظم ويحترم عند المواجهة لما له من المكانة في النفوس، وقال الغزالي: الجاه ملك القلوب،
7. سؤال وإشكال: إن كون المسيح ذا جاه ومكانة في الآخرة ظاهر، وأما وجاهته في الدنيا فهي قد تكون موضع إشكال؛ لما عرف من امتهان اليهود له ومطاردتهم إياه على فقره وضعف عصبيته، والجواب: قال محمد عبده: الجواب عن ذلك سهل، وهو أن الوجيه في الحقيقة من كانت له مكانة في القلوب واحترام ثابت في النفوس، ولا يكون أحد كذلك حتى يكون له أثر حقيقي ثابت من شأنه أن يدوم بعده زمنا طويلا أو غير طويل، ولا ينكر أحد أن منزلة المسيح في نفوس المؤمنين به كانت عظيمة جدا، وأن ما جاء به من الإصلاح هو من الحق الثابت، وقد بقي أثره بعده، فهذه الوجاهة أعلى وأرفع من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون في الظواهر لظلمهم واتقاء شرهم أو لدهانهم والتزلف إليهم، رجاء الانتفاع بشيء مما في أيديهم من عرض الحياة الدنيا؛ لأن هذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغض والانتقاص، وتلك وجاهة حقيقية مستحوذة على القلوب.. وحقيقة الوجاهة في الآخرة: هي أن يكون الوجيه في مكان علي ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها فيجلونه ويعلمون أنه مقرب من الله تعالى، ولا يمكننا أن نحددها ونعرف بماذا تكون.
8. سؤال وإشكال: إن هذه الوجاهة تكون بالشفاعة، والجواب: قال محمد عبده: إن الآية لم تبين ذلك، على أنكم تقولون: إن هذه الشفاعة عامة لكل نبي وعالم وصالح، فما هي مزية المسيح إذن؟ ولما كانت الوجاهة متعلقة بالناس وما يعود من مطارح أنظارهم على شعور قلوبهم وخطرات أفكارهم قال تعالى فيه: ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ أي هو مع ذلك من عباد الله المقربين إليه عز وجل، فما ينعكس عن أنظار الناظرين إليه هناك إلى مرايا قلوبهم حقيقي في نفسه.
9. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ قال محمد عبده: الجملة معطوفة على ما قبلها، ولا يضر عطف الفعل على الاسم، والكهل: الرجل التام السوي من غير تقييد بسن معينة، والكلام في المهد يصدق بما يكون في سن الكلام، وهي سنة فأكثر، وما يكون قبل ذلك، وهو آية على كل تقدير؛ لأن تعديته إلى الناس تفيد أنه يكلمهم كلام التفاهم، وكلام الأطفال في المهد لا يكون كذلك عادة. وفي قوله: ﴿وَكَهْلًا﴾ بشارة بأنه يعيش إلى أن يكون رجلا سويا كاملا، ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين أنعم الله عليهم وأصلح حالهم وهم الأنبياء الذين تعرف مريم سيرتهم.
10. قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي كيف يكون لي ولد والحال أنني لم أتزوج، فالمس كناية ظاهرة، والاستفهام على حقيقته في وجه، ومعناه هل يكون ذلك بزواج يطرأ أم بمحض القدرة؟؟
ب. وفي وجه آخر: للتعجب من قدرة الله والاستعظام لشأنه.
11. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي كمثل هذا الخلق البديع يخلق الله ما يشاء، فإن من شأنه الاختراع والإبداع..عبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل، وكل منهما خلق وفعل، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيرا فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة، ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ولا يقال: فعل السماوات والأرض، ولما كان إيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس عبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما عادة، وأما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد؛ لأنه من أم غير زوج في الظاهر، فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه، والتعبير عنه بالخلق أليق، وإن كان له سبب روحاني جعل أمه بمعنى الزوج كما سيأتي ولكن هذا السبب غير معهود للناس ولا معروف لهم، فمريم لا تعرفه ولكنها كانت مؤمنة بالله موقنة بقدرته على كل شيء؛ ولذلك أحالها في البشارة على مشيئته لتكون موقنة، فقال: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أي إذا أراد شيئا، كما عبر في آية أخرى، فالقضاء بمعنى الإرادة.
12. ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قالوا: إن هذا ورد مورد التمثيل لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، والتصوير لسرعة حصول ما يريد بغير ريث ولا تأخر، بتشبيه حدوث ما يريده عند تعلق إرادته به حالا بطاعة المأمور القادر على العمل للآمر المطاع، ويسمون الأمر بـ (كن) أمر التكوين، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] أي أراد أن يكونا فكانتا، ويقابله أمر التكليف الذي يعرف بوحي الله لأنبيائه، وقد مر الإلماع لهذا من قبل.
13. اعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شئون الكون ما لم يكن معتادا من قبل، فمنه ما يعرفون له سببا ويعبرون عنه بالاكتشاف والاختراع، ومنه ما لا يعرفون له سببا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة، ونحن معاشر المؤمنين نقول: إن تلك الأشياء المعبر عنها بالفلتات إما أن يكون لها سبب خفي وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة فلا ينكروا كل ما يخالفها؛ لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب، وحينئذ يجب أن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا، وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ما ويعده مستحيلا لأنه لا يعرف له سببا.
14. لعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي، أي تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم، وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول. نعم إنه خلاف الأصل وإن كونه جائزا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل على وقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه.
15. يمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:
أ. الأول: أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد، فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدا أنه سم ناقع فمات مسموما به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدا بمحض قدرته، وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين، انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متمما لهذا التأثير.
ب. الثاني: وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح، وهي أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها (روح) بكسر الراء، ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين، وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطا بين الكثيف واللطيف ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهربائية من الأرواح وناهيك بفعلها في الأشباح، فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحا هي التي تحدث معظم التغير الذي نشاهده في الكون، حتى إننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أجل وأعظم، فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم!!
16. إذا تمهد هذا نقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات قد أرسل روحا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرا ونفخ فيها، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام، وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم.. أما البحث في تمثل هذه الأرواح التي تسمى بلسان الشرع الملائكة فسيأتي الكلام عليه في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17] إذا أنسأ الله لنا في الأجل ووفقنا للمضي في هذا العمل (التفسير) ومحمد عبده لم يتعرض لهذا البحث.
__________
(1) تفسير المنار: 3/304.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر الله تعالى قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه.
2. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها، وأمرتها بعبادته ودوام شكره، والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
3. خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شيء قد خلق بكلمة التكوين، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين ـ أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية.
4. أطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح، وعن الملك بالمسيح، والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد.
5. إنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها، إذ ليس له أب.
6. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام في النفوس، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شيء مما في أيديهم من متاع الحياة، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء، ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عند الله يوم القيامة، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ما له من القرب والزلفى عنده.
7. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا، قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام، والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا، وعاش ثلاثين سنة، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار.
8. والخلاصة ـ إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به المفترون عليها، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه، وأمره ونهيه.
9. ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم.
10. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ أي قالت: كيف يكون لي ولد وليس لي زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه.
11. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أبـ ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾، ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل، وفي الثانية بيخلق، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال {خلق الله السموات والأرض}، ولا يقال فعل الله السموات والأرض.
12. إيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة ـ أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة، فالتعبير عنه بالخلق أليق.
13. ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء، وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع، يفعل ما يطلب منه على الفور.
14. هذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب، وقوفا عند العادة، وذهولا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلي ينبئ بالاستحالة، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شيء في الكون لم يكن معتادا من قبل، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة، والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا.
15. إن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن ـ ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان.
__________
(1) تفسير المراغي: 3/155.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لقد تأهلت مريم ـ إذن ـ بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى ـ لأول مرة ـ التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
2. إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله، بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة، وهو الكلمة في الحقيقة، فماذا وراء هذا التعبير؟
3. إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد.. ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: ﴿أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ الآية.
4. ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة: لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب، وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله، سر الحياة التي لا بست أول مخلوق حي، أو لا بست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت! وهذه كتلك في صنع الله، وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة.. من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعا شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض.. شيء زائد، وشيء مغاير، وشيء ينشئ آثارا وظواهر لا توجد أبدا في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق، هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم! نحن لا نعلم، وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها ـ نحن البشر ـ بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها، أو لإنشائها بأيدينا من الموات! نحن لا نعلم.. ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم.. وهو يقول لنا: إنها نفخة من روحه، وإن الأمر قد تم بكلمة منه، ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
5. ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟ ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه، لأنه ليس من شأنه، إنه لم يوهب القدرة على إدراكه، إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئا في وظيفته التي خلقه الله لها ـ وظيفة الخلافة في الأرض ـ إنه لن يخلق حياة من موات.. فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟
6. الله ـ سبحانه ـ يقول: إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة ـ حتى على الملائكة ـ فلا بد إذن أن تكون شيئا آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنسا نشأ نشأة ذاتية، وأن له اعتبارا خاصا في نظام الكون، ليس لسائر الأحياء! وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلا حول نشأة الإنسان! المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة؛ وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات.
7. شاء الله ـ بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة ـ أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقا معينا، طريق التقاء ذكر وأنثى، واجتماع بويضة وخلية تذكير، فيتم الإخصاب، ويتم الإنسال، والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة، ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة.. حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان، فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى، وإن لم تكن مثلها تماما، أنثى فقط، تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء، فتنشأ فيها الحياة! أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة: ﴿كُنْ﴾ التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ والكلمة هي عيسى، أو هي التي منها كينونته؟ كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات.. وخلاصتها هي تلك: أن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال، فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله، ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها، ويجب أن نجهلها، لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلا في تكليف الاستخلاف! والأمر هكذا سهل الإدراك، ووقوعه لا يثير الشبهات!
8. وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه، وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه.. ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
9. كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾.. ولمحة من مستقبله: ﴿وَكَهْلًا﴾.. وسمته والموكب الذي ينتسب إليه: ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
10. فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة، واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول ألفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
11. وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب! وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب، وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/397.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. متعلق الظرف (إذ) هو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي لم تكن يا محمد شاهدا لأمر مريم، وما وقع فيه من خصام في الولد الذي جاءت به من غير أب، إذ جاء هذا الولد بنفخة من روح الله، وبكلمة منه.
2. ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هو الاسم الذي اختاره الله لهذا المولود ﴿الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾! فالمسيح صفة هذا المولود، وقد ورد كلمة مسيح في كثير من المواضع في التوراة، وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالى (38 ق، م) باللفظ اليوناني الذي معناه الشخص الذي مسح بالزيت المقدس، وهو زيت الزيتون.. وكلمة مسيح في العبرية تنطق هكذا: (مسيح)، و(عيسى) هو اسمه، و(ابن مريم) هو صفة تكشف عن نسبه إلى من ولده، وهى أمّه، على حين ينسب الأبناء إلى آبائهم، وإذا كان ولا أب له، فإن نسبته إلى أمّه أمر لازم، لا بد منه.
3. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ الوجاهة هنا الرفعة وعلوّ الشأن.. أما في الدنيا، فيكاد المسيح ـ عليه السّلام ـ يكون واحدا من أفراد يعدّون على أصابع اليد، ملأ الدنيا ذكرهم، وعمرت قلوب الناس بحبّهم والولاء لهم، وأما الآخرة فعند الله وفاء هذا الوعد الكريم الذي وعده به، ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
4. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ ذكر القرآن الكريم، في أكثر من موضع، أن المسيح عليه السلام تكلم في المهد، وذلك، ليكون آية على طهر أمه وعفافها، وبراءة عرضها من أن يعلق به شيء مما تلوكه الألسنة، وتوسوس به الظنون، في حال كحال مولود يولد من غير زواج معترف به شرعا، أو عرفا! ففي البشارة الأولى التي تلقتها مريم من السماء، يكشف لها الوحى، عن وجه هذا الغلام، الذي ستلده العذراء هذا الميلاد العجيب، الذي لم تعهده في الناس، ولم تعلمه في واحدة من بنات جنسها، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
5. الصفة البارزة التي لهذا الوليد هنا، هي نطقه وهو في المهد، وحديثه إلى الناس حديثا واضحا مفهوما.. أما وجاهته في الدنيا والآخرة، فهو أمر معنوي لا ينكشف للناس انكشاف الكلام في المهد، ولا يقع منهم موقع هذا الكلام الذي يثير العجب والدهش، ولا يدع لأحد سبيلا إلى الإنكار أو المكابرة.
6. سؤال وإشكال: ما وجه الإخبار عن كلام المسيح كهلا، إلى جانب الإخبار عن كلامه في المهد.. مع أن كلامه كهلا أمر مفروغ منه، والإخبار به نافلة غير مطلوبة في ظاهر الأمر؟ والجواب: أكثر أقوال المفسرين لتعليل هذا، أنه إخبار عن رجعة المسيح ـ في آخر الزمان ـ وذلك أنه مات في سنّ الكهولة، وأنه سيعود إلى الدنيا مرة أخرى في سنّ الكهولة.. وهذا تعليل ـ إن صح ـ فإنه يقوم على اعتبار أن رجعة المسيح أمر سيقع، وأنه لا وجه لهذا التعليل إذا كانت تلك الرجعة مشكوكه فيها، أو مقطوعا بعدم وقوعها، وإذا كان من رأينا أن رجعة السيد المسيح من الأمور غير المحققة، وأن الشك في وقوعها ـ في رأينا ـ يغلب أي احتمال ينبنى على روايات وآثار تقول بها ـ إذا كان هذا هو رأينا، فإننا نرى لتعليل هذا الأمر ـ وهو كلام المسيح كهلا ـ وجها آخر، فنقول ـ والله أعلم ـ: إنه لمّا كان النطق في المهد أمرا واقعا على غير المألوف، خارجا عن طبيعة البشر، فقد يقع في حساب الناس وتقديرهم أن هذا الوليد الذي تكلم في المهد، سيسلك في الحياة مسلكا غير مسلكهم، ويسير في طريق غير طريقهم، وأنه وقد بدأ حياته متكلما يوم مولده، فغير مستبعد أن يكون كلاما بعد أن يكبر ويشب واقعا على صورة أخرى مفارقة لكلامه في المهد.. فالطفل يبدأ الكلام بأصوات أشبه بأصوات الحيوان.. ثم تستبين تلك الأصوات شيئا شيئا، حتى تصبح لغة واضحة، ذات دلالة محدودة مفهومة.. وقياسا على هذا.. قد يقع في التقدير أن كلام المسيح سيتدرج كما يتدرج كلام الطفل.. وأنه وقد بدأ بالكلام واضحا فصيحا من أول يوم، فإنه في تدرجه بعد هذا سينتهى إلى صورة أخرى من الكلام، يكون الفرق بين أولها وآخرها، كالفرق بين أصوات الطفل، وبين كلامه في الكهولة والشباب! هذه بعض المفاهيم التي يمكن أن تقع في الأفهام وتدور في الخواطر، عن هذا الحدث العظيم.. وهذا ما يدفعه قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾.. حيث تقرّر الآية أن كلام عيسى في المهد وكلامه في الكهولة على سواء، لا اختلاف بينهما، وأن صلة التفاهم لا تنقطع بينه وبين الناس في مراحل حياته، وأنه إذا كلّمهم في مولده بلغة سليمة مفهومة، فإنه سيكلمهم بهذه اللغة أيضا في أدوار حياته.. وبهذا تعلم مريم من أول الأمر أن وليدها الذي سيتكلم في المهد، لا يخرج به ذلك عن طبيعة البشر، ولا يجعل منه مولودا شاذا، تشقى به أمه، وتعانى من شذوذه هذا، ما تعانى الأمهات من مواليدهن الذين يجيئون على غير مألوف الحياة.
7. سؤال وإشكال: لم نصّ القرآن على دور الكهولة وحده، دون أدوار الحياة الأخرى.. من صبا وشباب وشيخوخة؟ والجواب: أن دور الكهولة هو الدور الذي يبلغ فيه الإنسان تمام نضجه الجسدي والعقلي.. فإذا كان كلام المسيح في المهد وفي الكهولة على حال واحدة، كان ذلك هو المعيار الذي تنضبط عليه لغته، وطريقة حديثه إلى الناس، في جميع أدوار حياته.
8. إن مريم ـ عليها السلام ـ إذ تلقت هذه البشرى من رسول ربها، قد لفتها منها أمران: أن يكون لها ولد من غير أن يمسسها بشر.. ثم أن يكون هذا المولود على صفات خاصة.. أهمها أنه يتكلم في المهد، كلاما سليما واضحا، كما يتكلم الراشدون من الناس، ولعلّ مريم لم تلتفت كثيرا إلى ما لهذا الوليد من صفات، إذ كان شغلها الشاغل إذ ذاك، هو أن تلد مولودا من غير زوج يتصل بها، ولهذا كان عجبها ودهشها، في هذا الاستفهام الإنكاري الذي ذكره القرآن على لسانها: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾؟.. فهذه هي مشكلتها، وهذا هو موضع عجبها، ودهشها في تلك الحال.
9. ثم إنه حين تم لها ما أراد الله، وجاءها المخاض، ووجدت نفسها أمام الأمر الواقع، وأنها في وجه فضيحة لا دفع لها ـ كان عزاؤها الوحيد في تلك الحال هو ما كان قد أبلغها إياه رسول ربّها، بأن وليدها سيتكلم في المهد، وسينطق بالشهادة التي تدفع قالة السوء عنها.. وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ ففي هذا الموقف المتأزّم جاءت المعجزة، لتواجه القوم، ولتخرس تلك الألسنة المتطاولة، ولتأخذ على المتقوّلين فيه وفي أمّه كل سبيل.. فهذا الوليد الذي ولد لغير أب، قد نطق في المهد وتكلّم في حال لا يتكلم فيها طفل غيره.. فمولده من غير أب، وكلامه في المهد، على حدّ سواء، في الغرابة والاستنكار.. وأنه إذا كان لأحد أن ينكر هذه المعجزة القاهرة، وهى معجزة كلام الوليد في المهد، فلينكر ميلاد هذا الوليد غير أب! وكلام السيد المسيح هنا صريح واضح، على شاكلة ما يتكلم به قومه، وباللغة التي يتعاملون بها، وقد فهموا عنه ما قال ولم يكن ما نطق به محتاجا إلى تأويل أو تخمين.
10. ذكر القرآن الكريم مرة ثالثة كلام المسيح في المهد، في معرض الامتنان على المسيح نفسه، بما كان من نعم الله عليه، وألطافه به.. حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾، ويلاحظ هنا أيضا كلام المسيح في المهد وكلامه كهلا، وذلك ليذكر المسيح ـ وهو المخاطب بهذا من ربّ العالمين ـ أن كلامه في المهد كان على صورة هذا الكلام الذي يتكلم به في كهولته.. فيه العقل والمنطق والحكمة، وليس أصواتا كأصوات الأطفال، ولا لغوا كلغو الصبيان!.
11. سؤال وإشكال: هل كان كلام المسيح في المهد حدثا وقع في موقف الدفاع عن التهمة التي رميت بها أمه من قومها.. ثم أمسك المسيح بعدها عن الكلام، ليأخذ الحياة على مألوف المواليد من الناس، وليدرج في مدارج الطفولة خطوة خطوة.. أم أنه استمر متكلّما مبينا إلى آخر أيامه؟ والجواب: إن كلام المسيح في المهد هو معجزة متحدّية، مثل معجزاته في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والشأن في تلك المعجزات المادية أن تظهر في الحال الداعية لها، ثم تختفى، فلا يرى الناس لها وجها إلى آخر الأبد، ومن الحكمة في هذا ألا تعيش المعجزة المادية طويلا في حياة الناس، حتى لا يألفوها، هذا الإلف الذي يذهب ببهائها وجلالها، ثم إن المعجزة المادية القاهرة امتحان وابتلاء، وما كان هذا شأنه فإن من الحكمة أن يلمّ بالناس إلماما، وألا يقيم إقامة دائمة، تلحّ على الناس فيه الآيات المنطلقة منه، إلحاحا ملازما، وبهذا يتمايز الناس ويتفاضلون في الإفادة من الفرصة العابرة، المتاحة لهم.
12. القرآن الكريم ـ وإن قطع بأن المسيح تكلم في المهد، فإنه لم يذكر شيئا عن صمته أو كلامه، بعد هذه الواقعة التي دافع فيها عن شرف مولده، وطهر أمه وعفافها.. لأن ذلك لا يقدّم ولا يؤخر في هذا الموقف، لكنا ـ مع ذلك، ومع احترامنا لصمت القرآن في هذا الأمر ـ نستطيع أن نقول: إن المسيح لم يكن كلامه في المهد، إلا تلك الكلمات التي نطق بها، في مواجهة الاتهام المصوّب إلى أمه من قومها، وأنه بهذه الكلمات الواضحة المحدودة، قد أرى القوم معجزة منه، تناظر المعجزة التي ولد بها، والتي ينكرونها على أمه! ثم عاد بعد هذه الكلمات إلى الطفولة في صمتها، وفي نطقها.. كما سيتضح ذلك في حديثنا عن الأناجيل وإغفالها لذكر هذا الحدث العظيم، من حياة المسيح! الأناجيل وحديث المسيح في مهده.
13. الذي يدعو إلى العجب حقّا، هو أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون اليوم، لم تشر أية إشارة من بعيد أو قريب إلى كلام المسيح في المهد، ولم تذكر دفاعه المفحم عن أمّه، في وجه تلك التهمة التي انعقد دخانها عليها، يوم جاءت به تحمله إلى قومها.
14. سؤال وإشكال: لماذا ذكر القرآن هذا الحدث الذي لم يكن عند أهل الكتاب ـ من أتباع المسيح ـ المعاصرين للنبيّ علم به، أو كان لهم به علم ولكن لم يجرؤوا على ذكره؟ لماذا يذكر القرآن هذا عن المسيح، ويعطى أتباع المسيح معجزة المسيح، هم ينكرونها؟ والجواب: إن القرآن الكريم إذ يقف هذا الموقف، وإذ يجبه إجماع أتباع المسيح على إنكار هذه الواقعة ـ ليعلم عن يقين أنه يواجه بهذه الحقيقة عالما متربّصا به، متلهفا إلى اصطياد المعاثر والمزالق له، فكان من المتوقع ـ والأمر كذلك ـ أنه إذا جاء يحدّث أهل الكتاب عن أمر هو في أيديهم، ومن خاصة أمورهم ـ كان حديثه معهم جاريا مع ما يعرفون منه، وما يروون عنه، فإن كان اختلاف في شيء، ففي ترتيب الأحداث وتلوينها، فإن زاد الخلاف شيئا، ففي الأحداث العارضة، التي لا تدخل في الصميم من ذاتية هذا الأمر، أمّا إذا كان الحديث عن أمر له شأنه وخطره في بناء العقيدة، ثم كان مما يقيم لأصحاب تلك العقيدة حجة دامغة ودليلا قاطعا لمقولاتهم التي ينكرها عليهم ـ فإن ذلك هو أعجب العجب.. حيث يجيء القرآن إلى هذه الدعوى التي ينكرها على أتباع المسيح، في تأليههم له ـ يجيء فيضع بين يدى أصحابها حجة أقوى من حجتهم لها، ودليلا أوضح من دليلهم عليها.. إن ذلك لعجب عجيب! ذلك أن أتباع المسيح يتخذون من معجزات المسيح الخارقة ـ كإحياء الموتى، وإبراء ذوى العاهات والزّمنى ـ يتخذون من ذلك دليلا على ألوهيته، ولو كانوا يرون سبيلا إلى القول بأنه تكلم في المهد لحرصوا على إظهار تلك المعجزة، وإضافتها إلى ما له من معجزات، ليقوى هذا من قولتهم فيه، وتأليههم له!.. فكيف يقدّم القرآن لخصومه في تلك الدعوى التي يدّعونها، والتي ينكرها عليهم ـ كيف يقدّم لهم مستندا جديدا، يؤيد هذه الدعوى عندهم، ويؤكد هذا الزعم لديهم؟ ونقول: إن القرآن الكريم لا يلتفت إلى شيء من هذا، ولا يجعل له شأنا في حسابه مع ما يدعيه المدعون.. وإنما الذي يلتفت إليه، ويحسب له حسابا، هو الحق، والحق وحده.. سواء وافق هذا الحق واقع الناس، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم، أم جاء على طريق غير طريقهم، وبعلم غير علمهم!
15. وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم، بأنه ليس من عمل بشر، ولا من تدبير إنسان، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب.. وإلا كان عليه أيضا ـ لو أنه من عمل بشر ـ أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به، في المعركة الدائرة بينه وبينهم، وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون، ويتمنّونه وهم منه وجلون.. خوفا من البهت والتكذيب.
16. لهذا، فإن القرآن الكريم، إذ يقول ما يقول في عيسى وأمه مما تنكره اليهود، وتقول بخلافه فيهما، وإذ يقول ما يقول في عيسى، وفي كلامه في المهد مما ينكره النصارى، ولا يجدون عليه شاهدا مما في أيديهم من أناجيل ـ إن القرآن، إذ يقول هذا، وذاك، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره، وعميت عليهم سبله، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به، أو كذبوه وأعرضوا عنه.. فإن الحق الذي نزل به، سيظل هكذا قائما على الدهر، يتحدى المكابرين والمعاندين، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين، ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ والعاقبة دائما للحق، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال، وانعقدت في سمائه ظلمات الجهل ـ فإنها أمور عارضة، لا تلبث أن تزول، وإن طال مقامها.
17. سؤال وإشكال: لماذا لم تذكر الأناجيل كلام المسيح في المهد؟ والجواب: إذا تركنا جانبا، النظر فيما وقع في الأناجيل من تحريف وتبديل، وقلنا إنها والقرآن على سواء في صحتها وسلامتها ـ كان ظاهر الحال يشهد بأن كفّتها هي الراجحة في هذه القضية، وأن الكلمة كلمتها فيما تقول فيها، وأن عدم ذكرها لكلام المسيح في المهد يقطع بأن المسيح لم يتكلم في المهد! إذ لو كان قد تكلم في المهد لما كان هناك من سبب يدعو كتّاب الأناجيل إلى إغفال هذه الحادثة، التي تعلى من شأن المسيح، وترفع قدره، وتكاد تخرج به عن حدود البشر، وترفعه إلى مقام الملأ الأعلى ـ الأمر الذي يقوّى من دعوى أتباعه، بأنه هو الله أو ابن الله!.. بل وأكثر من هذا، فإن عدم ذكرها لهذا الأمر العظيم لدليل على أنها كانت تلتزم جانب الحق في كل ما تقول في المسيح، وأنها لم تقل فيه قولا لم يكن له، أو منه! ولكن إذا أعدنا النظر في هذه المسألة على ضوء الظروف والملابسات التي كتبت فيها الأناجيل، والتي تبدو واضحة لأدنى نظرة ينظر بها إليها ـ إذ فعلنا ذلك، رأينا أنه ليس ببعيد أن ينخرم من الأناجيل هذا الخبر، وأن يسقطه الذين كتبوها، من حسابهم، لأمر قدروه ولحساب حسبوه! ويمكن أن يعلل لذلك يعلل كثيرة.. منها:
أ. أولا: أن الأناجيل قد كتبت في وقت كان اليهود يشنّعون فيه على المسيح، ويلاحقون أتباعه، ويأخذونهم بالبأساء والضراء حيث وجدوهم.
ب. ثانيا: قدّر كتاب الأناجيل أن الجوّ الذي يحيط بهم مشحون بالأكاذيب التي يطلقها اليهود في جنون، حول المسيح وأمه، ويبهتون كل ما كان له من معجزات، ويدخلونها في باب الشعوذة والدجل.. فليس معقولا والأمر كذلك أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للحرب بينهم وبين اليهود، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا، يزيدها اشتعالا، ويزيد اليهود سفاهة وتطاولا!
ج. ثالثا: لنا أن نجعل في اعتبارنا أن كلام المسيح في المهد، لم يكن حدثا قائما يعيش في الناس، وإنما كان للحظة عابرة ـ كما قلنا من قبل ـ أريد به أن يطفئ ثورة ثائرة على أمه.. وأنه إذا كانت تلك المعجزة قد أحدثت هزّة عميقة، ودويا عاليا ـ فإن صمت المسيح بعدها إلى أن جاوز دور الطفولة، قد أطفأ جذوتها، وجعلها تتوه خلال تلك الأحداث المذهلة التي دارت حول المسيح، في كل خطوة كان يخطوها، وسط صخب اليهود وجلبتهم.
د. رابعا: الذين شهدوا كلام المسيح في المهد لم يكونوا يجاوزون بضعة من الناس، هم القرابة القريبة من أمّه، الذين استقبلوها وهى تحمل وليدها، فأنكروها وأنكروا ما تحمل! ومثل هذا العدد، وإن وجدوا في كلام المسيح ما يمسك ألسنتهم عن قول السوء في العذراء البتول ـ لا يمكن أن يقف لهذه الأعداد الكثيرة التي تعيش خارج هذه الدائرة المحدودة، وتخفت صوتها، الذي إن بدأ خافتا، متهامسا، متقطعا، فإنه سيعلو ويعلو، ويصير صراخا، وعواء يملأ أرجاء اليهودية، حين يواجه المسيح اليهود بدعوته، ويواجهونه هم بالإنكار والتكذيب، ثم المطاردة، والمحاكمة!
18. الصورة التي تبدو لنا من هذا الموقف.. هي هكذا: عدّة من الناس.. قد يكونون عشرة، أو ما دون العشرة أو أكثر، هم رهط مريم الأقربون، قد رأوا الوليد، وسمعوه يتكلم، ويدفع عن أمه العار الذي واجهوها به.. فلما صمتوا حين تكلّم، صمت هو إلى أن فارق طور الطفولة، ثم هناك أعداد لا حصر لها من الناس، ترامى إلى سمعها هذا الخبر العجيب، فجاءت تطلب له الشاهد من فم هذا الطفل الذي نطق، فلم تجد إلا صمتا، ولم تشهد فيه إلا ملامح الطفولة ومخايلها.. فرجعوا بين مصدّق ومكذب، وبين متشكك ومتهم! ثم يمضى الزمن بهؤلاء وأولئك جميعا.. ويتقلب هؤلاء وهؤلاء، بين الشك واليقين، والتكذيب والاتهام، أما أصحاب اليقين، الذين عاينوا المعجزة ـ وهم قلة ـ فتذهب بهم الأيام واحدا واحدا، حتى إذا بلغ المسيح أشدّه، وطلع على الناس بمعجزاته، لم يكن منهم في الحياة إلا بضعة أفراد، أو ما دونهم، وأما المتشكّكون والمترددون، فقد أنساهم الزمن هذا الأمر، وما علق بنفوسهم منه.. من شك أو تردد.
19. فلما أن كان وقت كتابة الأناجيل، كانت تلك الحادثة ـ حادثة كلام المسيح في المهد، قد ضاعت في طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح، والتي انتهت بهذا الحدث العظيم، في قضية صلبه، وقيامه من الأموات.. ثم في مطاردة تلاميذه وأتباعه، والتنكيل بهم، حيث وقعت عليهم عين، أو وقعت عليهم يد! لقد كانت حادثة كلام المسيح في المهد، عند كتابة الأناجيل، شيئا باهتا، أشبه بأضغاث الأحلام، لم يمسك الناس منها إلا بذكريات غامضة مضطربة، فكان إعلانها وإذاعتها في هذا الوقت مما يقوّى جبهة أولئك الذين يجدّفون على المسيح، ويرمونه وأمّه بالمنكرات والأباطيل والمفتريات!
20. هذا، وليست حادثة كلام المسيح في المهد، هي وحدها التي أغفلت الأناجيل ذكرها، من متعلقات المسيح وأخباره، بل لقد أغفلت الأناجيل ـ عن تدبير وتقدير ـ كثيرا مما كان للسيد المسيح.. تقيّة وخوفا، تحت ضغط الظروف القاسية التي كتبت فيها الأناجيل:
أ. فمثلا: (ميلاد المسيح من عذراء)، هذا الحدث، لا يقلّ شأنا وإثارة، وتحديا عن كلام المسيح في المهد! ومع هذا، فإن إنجيلى (مرقس) و(يوحنا) لم يشيرا أيّة إشارة إلى هذا الميلاد.. والقديس (بولس) مؤسس المسيحية، وداعيتها الأول، لم يتحدث عن هذا الميلاد، ولم يشر إليه في رسائله، ولم يتخذ منه آية يغزو بها القلوب، لدعوته التي كان يدعو بها، ويجمع لها كل القوى المادية والمعنوية، لتأخذ طريقها إلى الناس! ثم إن إنجيلى (متى) و(لوقا) الذين تحدثا عن هذا الميلاد العذرى، لم يذكرا ذلك إلا ذكرا عابرا، وفي غير التفات إليه، أو احتفاء به، بل إنهما إذ يقولان بميلاد المسيح من عذراء، يعودان فيرجعان نسب المسيح إلى داوود عن طريق (يوسف) الأب المسمّى للمسيح، وكأنما أرادا بذلك أن يسدّا هذه الفجوة، بنسبة المسيح إلى يوسف، زوج أمّه! فإذا وقع في تقديرنا أنه كان من المكن إلغاء إنجيل (متى) و(لوقا) الذين ذكرا ميلاد المسيح من عذراء، كما ألغيت عشرات الأناجيل غيرهما، ثم أصبح اعتماد المسيحية على إنجيلى (مرقس) و(يوحنا) ـ لو وقع هذا ـ وكان من الممكن أن يقع ـ لما كان في المسيحية أية إشارة إلى هذا الميلاد، ولذهب من تاريخ المسيح، كما ذهب كثير غيره من أقواله، وأعماله.
ب. وحادثة مجيء المسيح إلى مصر، مع أمه، وزوج أمّه، هذه الحادثة، لا تقلّ خطرا، عن كلام المسيح في المهد، وعن ميلاده من عذراء، إذ كانت عن إرهاصات مزلزلة، لما سيكون لهذا الوليد من شأن، ومع هذا فإن إنجيلا واحدا من الأناجيل الأربعة المعتمدة هو الذي ذكرها، ذلك هو إنجيل متى، الذي يروى هذه الحادثة على هذا النحو: (ملاك الربّ)، ظهر ليوسف (زوج مريم) في حلم، قائلا: خذ الصبى وأمّه واهرب إلى مصر، وكن هناك، حتى أقول لك، لأن (هيرودس) (ملك اليهوديّة) مزمع أن يطلب الصبىّ ليهلكه، فقام وأخذ الصبىّ وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة (هيرودس) (متى: 2: 13 ـ 15) وهذا الخبر لم تذكره الأناجيل الثلاثة، ولم تشر إليه أية إشارة! فكيف كان الحال، لو ألغى إنجيل متى كما ألغيت عشرات الأناجيل، وكتب عليها أن تختفى إلى الأبد؟
21. ننتهى من هذا إلى القول بأن ما ذكره القرآن من كلام المسيح في (المهد) هو الحق الذي لا شك فيه، وأن خلوّ الأناجيل من ذكر هذا الحدث، لا يجعل لها حجة على القرآن في هذا المقام، خاصة وقد أغفل معظمها أحداثا تتعلق بالمسيح، ولا تقل شأنا عما ذكره القرآن عن كلامه في المهد! إن القرآن قد أخبر بأن المسيح تكلم في المهد، وهذا الخبر، هو معجزة متحدّية، إذ ينكره من هم أشد الناس حرصا على وقوعه، ليكون لهم منه حجة تقوّى معتقدهم في ألوهيته المسيح، وفي خروجه عن طبيعة البشر! إن ذلك عند المؤمنين بالقرآن معجزة متحدية، وهو عند غير المؤمنين، دعوى ينقصها الدليل والبرهان، أو فرية يردّدها أصحاب الأهواء والبدع! فهذه منازل ثلاث، في القول بأن المسيح تكلم في المهد، والناس على منازلهم تلك.. إلى أن يأتي أمر الله، فيكشف وجه الحق، ويومئذ تبيضّ وجوه، وتسودّ وجوه! بقيت كلمة لا بد منها، وهى أنه قد يقع لفهم بعض الناس من قولنا إن في الأناجيل اختلافا وتعارضا، وكتمانا لبعض الحقائق ـ قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين، ونسيء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح.. إذ أن الأناجيل الأربعة، ينسب ثلاثة منها إلى: متى، ومرقس، ويوحنا، وثلاثتهم من الحواريين.
22. ومعاذ الله أن نشكّ في أمانة الحواريين، عليهم السلام، إنهم أجلّ من أن يكذبوا، أو يخونوا الأمانة، إذ كان الله سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ والذي يمكن أن يقال فيما وقع في الأناجيل من اختلاف، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار ـ هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدي هؤلاء الحواريين المعروفين، ثم دخل عليها ما ليس منها، مما هو موضع خلاف، أو شك، أو إنكار، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين، وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها، ثم أضيفت إليهم، وحسبت عليهم، لتكتسب ثقة وذيوعا.. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل، وما تحمل في ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة!
23. عجبت مريم لهذا الأمر العجيب، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها.. أن تلد مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وما ذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة، وغمزات العيون، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة في عالمها، لم تكن لامرأة قبلها، فكيف لها باحتمالها، واحتمال تبعاتها؟
24. وفي وداعة العابدة المتبتلة، ولطف العذراء وحيائها.. نسأل ربها: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ويجيبها رسول ربها: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾.. لا حدود لقدرته، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها، بالتي تحول بين قدرة الله وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفي قوله تعالى هنا ﴿اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ وقوله في إجابة زكريا: ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ مراعاة تامة للمقام هنا وهناك.
25. في أمر مريم عملية خلق كاملة، فناسبها قوله تعالى: ﴿اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أما في قصة زكريا فهي على خلاف هذا.. مولود من رجل وامرأة، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل ﴿اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره في بناء الأسلوب البلاغي الرفيع، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا في القرآن الكريم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:2/448.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ بدل اشتمال من جملة ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ﴾ [آل عمران: 42] قصد منه التكرير لتكميل المقول بعد الجمل المعترضة، ولكونه بدلا لم يعطف على إذ قالت الأول، وتقدّم الكلام على يبشرك.
2. الكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله: (ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله)، ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة، ﴿مِنْهُ﴾ من للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ [البقرة: 117]
3. ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ عبر عن العلم واللقب والوصف بالاسم، لأنّ لثلاثتها أثرا في تمييز المسمّى، فأما اللقب والعلم فظاهر، وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم: زياد بن سمية قبل أن يلحق بأبي سفيان في زمن معاوية بن أبي سفيان، وإما لأنّ لأمّه مفخرا عظيما كقولهم: عمرو ابن هند، وهو عمرو بن المنذر ملك العرب.
4. المسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف، ونقلت إلى العربية علما بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعض أبنائهم (عبد المسيح) وأصلها مسّيّح ـ بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ـ ونطق به بعض العرب بوزن سكّين، ومعنى مسيح ممسوح بدهن المسحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهنا لبني إسرائيل، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملّكونهم عليهم من عهد شاول الملك، فصار المسيح عندهم بمعنى الملك: ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داوود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت (كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب)، فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يسمّون بملك ويحتمل أنه لقب لقبه به اليهود تهكما عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكا على إسرائيل ثم غلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك، فلذلك سمي به في القرآن.
5. الوجيه ذو الوجاهة وهي: التقدّم على الأمثال، والكرامة بين القوم، وهي وصف مشتق من الوجه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال: وجه النهار لأول النهار قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران: 72] وقال الربيع بن زياد العبسي:
çمن كان مسرورا بمقتل مالك...فليأت نسوتنا بوجه نهارé
وقال الأعشى: (ولاح لهم وجه العشيّات سملق)، ويقولون: هو وجه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم، واشتق من هذا الاسم فعل وجه بضم الجيم ككرم فجاء منه وجيه صفة مشبّهة، فوجيه الناس المكرّم بينهم، ومقبول الكلمة فيهم، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام: ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا﴾
6. المهد شبه الصندوق من خشب لا غطاء له يمهد فيه مضجع للصبي مدة رضاعه يوضع فيه لحفظه من السقوط.
7. خص تكليمه بحالين: حال كونه في المهد، وحال كونه كهلا، مع أنه يتكلّم فيما بين ذلك لأنّ لذينك الحالين مزيد اختصاص بتشريف الله إياه فأما تكليمه الناس في المهد فلأنه خارق عادة إرهاصا لنبوءته، وأما تكليمهم كهلا فمراد به دعوته الناس إلى الشريعة، فالتكليم مستعمل في صريحه وفي كنايته باعتبار القرينة المعينة للمعنيين وهي ما تعلق بالفعل من المجرورين، وعطف عليه ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فالمجرور ظرف مستقرّ في موضع الحال.
8. والصالحون الذين صفتهم الصلاح لا تفارقهم، والصلاح استقامة الأعمال وطهارة النفس قال إبراهيم: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]
9. الكهل من دخل في عشرة الأربعين وهو الذي فارق عصر الشباب، والمرأة شهلة بالشين، ولا يقال كهلة كما لا يقال شهل للرجل إلّا أن العرب قديما سمّوا شهلا مثل شهل بن شيبان الملقب الفند الزّماني فدلنا ذلك على أنّ الوصف أميت، وقد كان عيسى عليه السلام حيث بعث ابن نيف وثلاثين.
10. ﴿وَجِيهًا﴾ حال من ﴿بِكَلِمَةٍ﴾ باعتبار ما صدقها، ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عطف على الحال، ﴿وَيُكَلِّمُ﴾ جملة معطوفة على الحال المفردة: لأنّ الجملة التي لها محل من الإعراب لها حكم المفرد، وقوله: ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ حال من ضمير (يكلّم)، وكهلا عطف على محلّ الجار والمجرور، لأنهما في موضع الحال، فعطف عليهما بالنصب، ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ معطوف على ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
11. ﴿قَالَتْ رَبِّ﴾ جملة معترضة، من كلامها، بين كلام الملائكة، والنداء للتحسر وليس للخطاب: لأنّ الذي كلمها هو الملك، وهي قد توجهت إلى الله، والاستفهام في قولها ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب جوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها، والثاني إذا قضى أمرا.. لرفع تعجّبها.
12. جملة ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ﴾.. جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ وما بعدها في سورة البقرة [30] والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي.
13. اسم الإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ راجع إلى معنى المذكور في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَكَهْلًا﴾ [آل عمران: 45، 46] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء، وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله: ﴿اللهُ يَخْلُقُ﴾ لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر.
14. عبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يخلق: لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله، فهو خلق أنف غير ناشئ عن أسباب إيجاد الناس، فكان لفعل يخلق هنا موقع متعين، فإنّ الصانع إذا صنع شيئا من موادّ معتادة وصنعة معتادة، لا يقول خلقت وإنما يقول صنعت.
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/97.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. توالت في هذه القصة خوارق العادات متدرجة من القريب من المألوف إلى البعيد الذي لا يعرفه الناس قط بمقتضى السنن الكونية المطردة؛ فقد ولدت مريم البتول بعد أن نذرت لتكون خالصة للبيت المقدس، وكان يأتيها في المحراب الرزق من حيث لا تحتسب ولا تقدر، حتى أثار ذلك عجب نبيّ الله زكريا، ثم كانت ولادة امرأة زكريا، وهى عجوز عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيا؛ ثم كانت الحادثة الكبرى التي تدل على أن الله تعالى مبدع الكون وخالق الأسباب ينشئ الكون كما يريد، وتلك الحادثة هي ولادة عيسى من غير أب؛ وهذا هو ما اصطفى الله به مريم ابنة عمران؛ ولذا يقول سبحانه: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾
2. الكلام في هذه الآية الكريمة متصل بما سبقها؛ فإذ هنا متعلقة بما تعلقت به إذ في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران] فإذ هنا في مقام البدل أو البيان من الأولى؛ لأن هذا فيه تفصيل لمعنى الاصطفاء الذي اختصت به على نساء العالمين؛ والمعنى: اذكر إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك.. إذ كان ذلك الاصطفاء على نساء العالمين؛ بأن كانت هي التي تلقت البشارة الكبرى بأن تلد مولودا من غير أب قد أنجبه.
3. الملائكة الذين خاطبوا مريم بذلك الخطاب يتضح من السياق أنهم الذين خاطبوها بالاصطفاء؛ فكأنهم قد بشروها بالاصطفاء على نساء العالمين، وبشروها مع ذلك بنوع الاصطفاء، وقد استظهرنا كما استظهر ابن جرير الطبري أن الملائكة الذين بشروا بالاصطفاء كانوا عددا ولم يكونوا واحدا، فلا بد إذا أن الذين بشروا بحقيقته كانوا عددا أيضا، ولكن سورة مريم فيها بيان أن الذي أنبأها نهائيا بهبة الله تعالى لها كان ملكا تمثل في صورة بشر قد أودعها ما يكون منه الولد من غير تلقيح جنسي؛ لأن الملك ليس له تلك الشهوة الإنسانية؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم]، والتوفيق بين هذا النص الكريم، والنص الذي نتكلم في معناه سهل لا يحتاج إلى إعمال فكر؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل ملائكته إليها يبشرونها بالاصطفاء ويبشرونها بنوع الاصطفاء، ثم أرسل إليها بعد هذه البشارات المتكررة ملكا تمثل لها بشرا سويا.. ليودع رحمها نهائيا تلك الهبة التي أهداها رب العالمين إليها.
4. ذكر سبحانه البشارة بأنها كلمة منه، وأن معنى هذه الكلمة شخص حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فلما ذا اعتبره الكريم كلمة منه؟ لأنه سبحانه خلقه وأبدعه بكلمة منه؛ فإذا كان سبحانه قد خلق الأحياء بطريق التناسل: الرجل يلاقح الأنثى، ويخرج الأولاد من أصلاب الآباء، فإن عيسى عليه السلام لم يخلق ذلك الخلق، بل خلقه الله تعالى خلقا آخر؛ خلقه بكلمة منه وهى (كن) فكان، فكان جديرا بأن يعتبر كلمة، وأن تكون هذه الكلمة منسوبة إلى الله تعالى، ويقول ابن جرير: إن الكلمة هي كلمة البشرى، تشريفا لمريم البتول، وتكريما لها بأن تكون البشرى بكلمة من الله، أي بخطاب من الله تعالى مرسل منه إليها، ويزكى هذا قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء]
5. ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هو ما تضمنته البشارة، ويكون التأويل: يبشرك ببشارة جازمة قاطعة لا احتمال لتخلفها؛ هذه البشارة هي ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وكأن (اسمه المسيح) تكون خبرا لمبتدإ محذوف تقديره: البشارة ولد اسمه المسيح عيسى بن مريم.
6. عرّف سبحانه وتعالى ذلك المولود بثلاثة تعريفات: لقب، واسم وكنية؛ أما اللقب فهو المسيح، وأما الاسم فعيسى، وأما الكنية فهو ابن مريم، وهذه التعريفات الثلاثة، كل واحد منها يومئ إلى معنى قد تحقق في السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم:
أ. فأما الكنية فللإشارة إلى أن نسبه ثابت لأمه لا لأحد سواها، فليس ابنا لأى حيّ من الأحياء، وليس ابنا لله تعالى كما توهم أو كما لبّس على نفسه كل من لا يريد أن يحكّم عقله فيما لقّن من عقائد باطلة، ولا تعلق لهم في أن عيسى قيل عنه كلمة الله، فالكلمة هي البشارة، وهى مخلوقة، أو لأنه خلق بكلمة الله وهى (كن) وكلتاهما لا يمكن أن تكون ابنا لله تعالى.
ب. وأما الاسم فينبئ عن البياض والصفاء المعلم الواضح؛ ولذلك يقول الأصفهاني: (عيسى اسم علم وإذا جعل عربيا أمكن أن يكون من قولهم: بعير أعيس وناقة عيساء، وهى إبل بيضاء يعترى بياضها بعض الظلمة، أي فيها اغبرار يعطى بياضها صفاء وجمالا، فهو ينبئ عن جمال تكوينه، وجمال دعوته وصفاء رسالته.
ج. وأما اللقب فهو ينبئ عن البركة والفضل، وهو أحسن ما قيل في ذلك؛ فقد ذكر الزمخشري أن كلمة مسيح في أصلها العبرى، وهو مشيح، معناه مبارك، وهذا قد جاء في شكره لربه إذ قال ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم]
7. وصفه الله سبحانه وتعالى بأربعة أوصاف وأحوال:
أ. أولها: أنه وجيه في الدنيا والآخرة
ب. الثاني: أنه من المقربين.
ج. الثالث: أنه يكلم الناس في المهد وكهلا.
د. الرابع: أنه من الصالحين.
8. ذكرت هذه الأوصاف كلها لأمه وقت البشارة به، فكانت أجل تبشير لأم رؤوم في مثل تقوى مريم البتول.
9. ذكر الله سبحانه وتعالى الوصفين الأولين بقوله تعالى: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ هذان وصفان تمّا لعيسى الرسول بعد كمال رجولته، وظهرا أتم ظهور في أداء رسالته، وأحدهما وصف ذاتي أضفاه الله تعالى على ذاته النبوية الطاهرة ليكون صاحب رسالته، وداعى هدايته، وناشر رحمته، وذلك الوصف هو الوجاهة في الدنيا، والوصف الثاني وصف إضافي، وهو أنه في موضع المقربين من الله تعالى، وهذا وصف يضفى شرفا إضافيا، فوق شرف النبوة، وشرف الرسالة الإلهية.
10. كلمة (وجيه) مشتقة من الوجه؛ لأنه هو الذي يلقى به الناس، وهو مظهر كل ما في النفس مما يوجب الاحترام، ومنه اشتقت كلمة جاه، أي أن من له جاه يكون ذا وجه دال على الاحترام والشرف، فمعنى (وجيها) أي أنه ذو شرف ومكانة؛ أما مكانته يوم القيامة، فأمر مقرر ثابت، وإذا لم يكن لمثل عيسى هو وأمثاله من النبيين عليهم السلام وجاهة فوق تقديرنا، فلمن تكون وجاهة الآخرة؟
11. أما وجاهة الدنيا فأمر ثابت مقرر، وأي وجاهة وشرف وأثر في النفوس أكبر من وجاهة رجل روحاني يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، ويؤثر في القلوب فتنجذب له، ولم يستطع أن ينال خصومه منه شيئا، وإذا قيل إن اليهود آذوه وطردوه فليس ذلك بمانع من وجاهته، بل إنه دليل وجاهته وأثره فى القلوب، ولو كان خاملا ما تحركوا لإيذائه، ومع ذلك لم ينالوا منه شيئا، ولم يمكنهم الله من رقبته، بل نجاه من شرورهم ودسائسهم، فكيف لا يكون وجيها عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم!؟.. فعيسى عليه السلام كان وجيها، ووجاهته أكمل أنواع الوجاهة، وهى الوجاهة التي تتجرد من كل سلطان إلا سلطان الحق والروح، وبهما ملك القلوب، والجاه الحق ـ كما قال الغزالي ـ هو ملك القلوب.
12. أما كونه من المقربين إلى الله تعالى، فمعناه أنه مقرب إلى الله تعالى كما هو قريب من الناس، وأنه وجيه عند الله تعالى ذو مكانة قريبة منه، كما هو ذو مكانة عند الناس.
13. بين سبحانه وتعالى حالين هما من أحوال المسيح عليه السلام، فقال تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ المهد: هو مضجع الطفل، من مهد يمهد مهدا، بمعنى أنه مهيأ مسهل له وهو في الرضاعة، ومن في المهد يكون طفلا صغيرا يحمل لا يتصور منه كلام مطلقا، والكهل هو الرجل السوى، والأمر الخارق للعادة في هذا أن عيسى عليه السلام تكلم وهو في المهد، وكلامه وهو في المهد ليس لغو صبيان، بل هو كلام شبان مكتهلين، وقد بلغوا تمام الرجولة والاستواء العقلي وجمعهما معا في الكلام يدل على أن كلامه في الأول من نوع كلامه في الثاني؛ ولذا يقول (2): (ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة، وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء)، وإن ما حكاه الله تعالى عن كلامه في المهد ليوضح ذلك؛ ففي سورة مريم: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم]
14. ذكر سبحانه حالا ثانية من أحواله، أو وصفا من أوصافه، وهو أنه من الصالحين، وهذا رمز إلى ما يأتي به من إصلاح خلقي واجتماعى، وروحي فكرى؛ إذ يزيل النزعة المادية من قلوب المؤمنين؛ فإن الصالح حقا هو الذي يصلح، فليس بصالح صلاحا كاملا من لم يرشد غيره إلى طريق الصلاح.
15. هذه بشارة الله بطريق ملائكته لمريم البتول، وقد بين الله تعالى أن هذه البشارة أثارت عجبها واستغرابها: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها، وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مريم]
16. صدرت إجابتها بالنداء للرب، وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين، وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى، فهو تسليم بالقدرة الإلهية، وبأن خالق كل شيء لا يكبر عليه شيء، سبحانه وتعالى، و﴿أَنَّى﴾ في قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ هي بمعنى كيف، أي كيف يكون منى ولد ولم يمسسنى بشر أي لم يكن منى ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد، فالاستغراب في الكيفية، لا في أصل القدرة الإلهية.
17. كلمة ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي﴾ إما أن نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة، وهذا ظاهر، وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف، حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم؛ أو نقول: المس المراد به حقيقته، وهو أنها لم يلمسها رجل؛ لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط؛ وبذلك ينتفى ب الأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع العجب والسؤال هو أن يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة.
18. أزال عجبها رب البرية بقوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي كهذا الخلق الذي تجدينه في أن يكون لك ولد من غير أن يمسك رجل وهو إبداع، يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه، وكلمة يخلق غير ينشئ؛ لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق، فالتعبير بـ ﴿يُخْلَقْ﴾ يفيد الإبداع، وأنه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين، وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة:
أ. أولها: أن هذا النوع من التكوين، وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى؛ لأنه الخالق المبدع، وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه؛ لأن من خلق الخلق الأول وخلق السنن الكونية وغيرها قادر على تغييرها؛ لأنه مبدعها ومنشئها.
ب. ثانيها: أن خلق عيسى أمر من أمر الله تعالى، وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته، فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات، فليس إلها ولا ابن إله.
ج. ثالثها: أن خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته، وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من أجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو أن المخلوقات لا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته، ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ وفي ذلك رد عملي على أهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته.
19. ثم أشار سبحانه إلى عظيم قدرته بقوله تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يوجد أمرا لا يوجده إلا بكلمة (كن) وعبر سبحانه عن الإيجاد ب (قضى) للإشارة إلى أن إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود، فإذا حكم بالوجود في أمر نفذ حكمه، وحكمه هو أن يقول كن، فيترتب على ذلك أن يكون.
20. سؤال وإشكال: هل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية، أم أن هذا تصوير لسهولة الخلق؟ والجواب: الظاهر أن هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق، وبارئ النسم؛ فهو تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة، وسهولة الإنشاء عليه سبحانه، ونفاذ إرادته في خلقه، ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مريم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم]، فهذا التعبير الكريم صريح في أن السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق، ويفيد أيضا أن المقصود بيان أن الله سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1220.
(2) الكلام هنا للزمخشري
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ممتنع الوجود هو الذي ليس موجودا بالفعل، ولا يمكن وجوده في المستقبل، وهو على نوعين:
أ. الأول أن يمتنع وجوده ذاتا وعقلا، لأنه يستحيل بحكم العقل أن يوجد بحال من الأحوال، وصورة من الصور، كاجتماع النقيضين أو الضدين، مثل أن يكون الإنسان مؤمنا وكافرا بشيء واحد في آن واحد، وان يكون الأعمى بما هو أعمى مبصرا؛ والأخرس بما هو أخرس متكلما.. ويتفق على امتناع هذا النوع العقل والعادة، لأنه إذا امتنع ذاتا وعقلا فب الأولى أن يمتنع عادة.
ب. الثاني: أن لا يمتنع وجوده ذاتا وفي نظر العقل، بل يمكن وجوده بصورة من الصور، وطريق من الطرق، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، والأمثلة على ذلك لا تحصيها كثرة، وقد ذكر القرآن الكريم العديد من الحوادث التي تدخل في هذا النوع، منها جلوس ابراهيم الخليل في النار، دون أن تناله بأذى، وتحوّل عصا موسى إلى ثعبان، ووقوف مياه البحر كالجبال، وإلانة الحديد كالشمع لداود، ومعرفة منطق الطير والنمل لسليمان، واحياء عزير بعد موته بمائة عام، ومنها ولادة عيسى من غير أب، وكلامه ساعة ولادته، وإحياؤه الموتى، وابراؤه الأعمى والأبرص من غير علاج، وإخباره الناس بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، دون أن يشاهد ذلك، أو يخبره به انسان، كل هذه الحوادث، وما اليها جائزة الوقوع، ولكن لم تجر العادة بوقوعها، ولو كانت محالا في ذاتها لامتنع وقوعها على يد الأنبياء وغير الأنبياء، وإذا كانت هذه الحوادث ممكنة في ذاتها، وأخبر الوحي بوقوعها صراحة فوجب على كل مؤمن الجزم بها، دون تردد.
2. ذكر جماعة من الفلاسفة والمفسرين وجوها لخلق عيسى من غير نطفة الأب، ولكن ما قالوه لا طائل تحته.. والحق ان الله تعالى قادر على كل شيء، يوجده بكلمة (كن) من لا شيء، وقد اقتضت حكمته وقوع ما أراد فتم الذي أراد.
3. لسنا مكلفين بالبحث والعلم عن ماهية الحوادث التي أوجدها الله خرقا للعادة، ولا كيف وقعت.. وربما كانت عقولنا عاجزة عن إدراكها، تماما كما عجزت عن ادراك حقيقة الروح التي هي من أمر ربي.. أجل، نحن ندركها بآثارها ونتائجها، لا بكنهها وحقيقتها، وكفى بها معرفة من هذه الجهة.. وعلى هذا الأساس سنفسر الآيات الواردة في حق المسيح عليه السلام وما شابهها من الآيات الواردة في غيره.
4. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ المراد بالملائكة هنا جبريل، لقوله تعالى في سورة مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾، حيث المراد بالروح هو جبريل، وذكره بلفظ الجمع، لأنه رئيس الملائكة، وكلمة منه اشارة إلى قوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
5. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾، أما وجاهته في الدنيا فهي تقديس الناس وتعظيمهم له إلى يوم يبعثون، أما في الآخرة فلعلو درجاته غدا عند الله.
6. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، تكلم في المهد للدلالة على براءة أمه من قذف اليهود لها بيوسف النجار، وهم قومها، عليهم لعائن الله، وزعم النصارى أنه لم يتكلم في المهد.. وقال ابن عباس: كان كلام عيسى لحظة قصيرة، ولم يزد عما جاء في القرآن، ثم لم يتكلم، حتى بلغ أوان الكلام كغيره من الأولاد.. وهذا القول يساعد عليه الاعتبار، لأن الغرض من كلامه أن يبرئ أمه من التهم والشبهات، وقد حصل الغرض بما قاله أولا.. ﴿وَكَهْلًا﴾ أي يكلم الناس بالوحي، وهو كهل، وهذه معجزة أخرى تدل على نبوته، لأنه إخبار بالغيب انه سيعيش إلى سن الكهولة، وقيل: عاش في الأرض ثلاثين سنة، وقيل: أتاه الوحي ابن ثلاثين، وعاش بعده ثلاث سنين.
7. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، هذا استعظام منها لقدرة الله تعالى، لأنه خارج عن المعتاد، ولا وجه لما جاء في بعض التفاسير من أنها سألت: هل يأتيها الولد بسبب الزواج؟ لا وجه لهذا السؤال لأن الجواب عنه بقوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ان هذا الجواب يدل على انها كانت على علم بأنها ستلد من غير زواج.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/62.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ﴾ الآية، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ الآيات، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك، وقد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدواب وركب السفن، وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة، ويقال: قال له الناس كذا، وإنما قاله واحد وهكذا، ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ﴾ ثم قوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ الآية، وربما قيل: إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.
2. الذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما وتأخرا من حيث مقام القرب، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته عيناي وسمعته أذناي، ورأيته وسمعته، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا، وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، وقوله قولهم من غير اختلاف، وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله، كما قال تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، فنسب التوفي إلى نفسه، وقال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، فنسبه إلى ملك الموت وقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾، فنسبه إلى جمع من الملائكة، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾، وقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾، وقوله: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾، فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾، وسيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.
3. يؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ الآيات.. وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته.
4. ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾، قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده: كن، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.
5. أما المراد بالكلمة:
أ. فقد قيل: إن المراد به المسيح عليه السلام من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى عليه السلام: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، وظاهر قوله: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
ب. وربما قيل: إن المراد به عيسى عليه السلام لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
ج. وربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله: ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾: يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر، وفيه أن سياق الذيل أعني قوله: ﴿اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ لا يلائمه وهو ظاهر.
د. وربما قيل: إن المراد به عيسى عليه السلام من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن، وإنما اختص عيسى عليه السلام بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، وعمل العوامل المقارنة في ذلك، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها، ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات: (﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ الآية)، وهذا أحسن الوجوه.
6. المسيح هو الممسوح سمي به عيسى عليه السلام لأنه كان مسيحا باليمن والبركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح، لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم عليه السلام على ما يحكيه تعالى بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾)، وهذا اللفظ بعينه معرب (مشيحا) الواقع في كتب العهدين، والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه: إما الملك وإما المبارك، وقد يظهر من كتبهم أنه عليه السلام إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه، وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك ـ يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم ـ فقد ظفرت بنعمة من عند الله، وأنت تحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الربـ له كرسي داوود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ـ ولا يكون لملكه انقضاء) لوقا 1 ـ 34.
7. ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى عليه السلام لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حياته، ولذلك أيضا ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.
8. ليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، ويؤيده قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾
9. عيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين النبيين، وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفا بهذا النعت، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
10. ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾، الوجاهة هي المقبولية، وكونه عليه السلام مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنص القرآن، ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ ـ إلى أن قال ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾
11. إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهية والمقربون من الإنسان بالعمل.
12. ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾، المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين، وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى لمريم، وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ولذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، وربما قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى عليه السلام عاش نحوا من أربع وستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل.
13. الذي يظهر من سياق قوله: ﴿فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، وإنما ينتهي إلى سن الكهولة، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا والكهولة.
14. المعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالبا، وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، وبعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة، على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ الآيات:
15. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.
16. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له، وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها، وقوله: ﴿اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، وقوله: ﴿إِذَا قَضَى﴾، رفع لتوهم العسر والصعوبة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 3/192.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ قد انتهى الكلام قبل هذه الآية في (قصة مريم عليها السلام) من حين كانت حملاً مما يفيد: صلاح أمها وهي حامل بها، ويفيد: صلاح أمها حين وضعتها، ويفيد: حسن تربية مريم ونشأتها في كفالة نبي الله زكريا، ونشأتها على الطهارة والعبادة، ومالها من الكرامة عند الله بما دل عليه كلام الملائكة لها، وبالرزق من عند الله وغير ذلك، وهذه الآية تبدأ الكلام في (قصة حملها عيسى عليه السلام) من حين بشرت به.
2. ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ يفيدها: أن هذا الولد يوجد بكلمة من الله، فهو تقدمة لإفادتها أنه يوجد بدون أب، وإكمالاً للبشرى أخبرت باسمه ورسالته وما يعلمه الله من العلوم الواسعة، وما يجعل له من الآيات العظيمة عقيب ولادته، وعند رسالته ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾
3. ﴿الْمَسِيحُ﴾ لقب له عليه السلام تلقته العرب باشتهاره، ولعل العرب لا تعرف أصل معناه في العبرانية، ولا أن أصله في لغة قومه مشيحاً، فلا يلزم تفسير المسيح إلا بأنه لقب لعيسى عليه السلام.
4. ﴿عِيسَى﴾ هو العَلَمُ، وقوله: ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ عطف بيان يشير إلى أنه ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أب قريب، والوجيه: الذي له شرف وقدر رفيع وذلك بما جعل الله له من أسباب الشرف وعلو الشأن، وما هداه له من كمال التقوي والعلم والعمل والزهد الكامل الذي يضرب به المثل، والورع والحكمة وغير ذلك، فهو وجيه في الدنيا عند الله وعند الناس، وجيه عند الله بحيث يجيب دعوته وينصره على أعدائه ويختاره للرسالة، ووجيه عند الناس لأن له جلالة في النفوس وشرفاً وهو وجيه في الآخرة عند الله له ما يشاء عنده.
5. ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ في الدنيا والآخرة فهو مكرم معظم محبوب عند الله مرضي عنه، ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿الْمَهْدِ﴾ ما يمهد للصبي من الفراش والمضجع، فالمعنى: أنه يكلم الناس في صغره وهو في المهد لم يبلغ وقت التكلم في العادة، وفي إسناد التكليم إلى الناس هذا التكليم الخارق، إشارة وإطماع لها أنه سيكلم الناس بما ينزهها ويدل على طهارتها، والكهل: ابن الأربعين فما فوق، ولعل ذكر الكهولة لإفادة أنه يعيش معها حتى يكون كهلاً، وأن قوله: {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} ليس لتخصيص الكلام بالمهد، ووصفه بالصلاح لأنه أساس الخير كله، وسبب الوجاهة والتقريب، وبشرى لها لرغبتها في صلاحه.
6. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ جعلت جوابها للملائكة موجهاً إلى الله علام العيوب ﴿أَنَّى يَكُونُ﴾ من أين يكون!؟
7. ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ﴿قَالَ كَذَلِكَ﴾ يكون لك ولد من دون أن يمسك بشر بقدرة الله الذي ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ فقوله: ﴿كَذَلِكِ اللهُ﴾ بمعنى: يخلق ولداً من غير أب؛ لأنه على كل شيء قدير، وفسره بقوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ فهو تعريف بالله من حيث دلالته على أنه على كل شيء قدير.
8. ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿قَضَى﴾ يختلف معناه باختلاف سياق الكلام، وقد فسر هنا بالإرادة، والأقرب: أنه يشير إلى معنى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم:21] وأن الأمر المقضي: هو المحتوم الذي لا بد من وقوعه لأن الحكمة تقتضيه، فالمعنى: إذا حتم أمراً وأوجب أن يقع ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي لا يعسر عليه إيجاده، بل كأنه في إيجاده له إنما يأمره أن يكون، وعند ذلك يكون.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/463.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾.. وتأتي البشارة ـ المفاجأة من الله على لسان الملائكة بالإنسان ـ الكلمة، ولكنها ليست كلمة من نوع الحروف التي تتألف منها الكلمات، بل هي الوجود المتفجّر بالحياة، النّابض بالحركة، الذي يمثل إرادة الله في التكوين المعبّر عنها لإيضاح الفكرة بالأمر الإلهي في كلمة (كن)، وبذلك تتحول الكلمة ـ الإرادة إلى إنسان اسمه المسيح عيسى بن مريم عليهما السّلام، وإذا كانت الوجودات كلها خاضعة لإرادة التكوين، فإن خصوصية الوجود هنا أنها لا تخضع للأسباب الطبيعية في ولادة الأشياء، بل هي مرتبطة بالإرادة بشكل مباشر أو غير مألوف؛ لأمر الذي يجعل نسبته إلى الكلمة أقرب من نسبة سائر الأشياء إليه، أما كلمة المسيح فالأقرب أنّها معرّبة، وتعني المبارك أو الملك أو ما يقرب من ذلك، وذلك ما ينقله المفسرون، وربما يوحي بذلك ما ورد في آية أخرى، في ما حكاه الله عن قول عيسى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم: 31] وقد نسب إلى أمّه للإيحاء بأنه بلا أب.
2. يثير المفسرون ـ في هذا المجال ـ مشكلة الحديث عن الملائكة بصيغة الجمع.. مع أن سورة مريم تتحدث عن ملك واحد وذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]، ولكن هذه الآية لا توحي أنه كان وحده، فربّما كان هو الشخص الرئيس والآخرون معه كأتباع، وربّما كانت هناك وجوه أخرى تبرّر ذلك ممّا لا نطيل الحديث فيه.
3. يفيض الملائكة الحديث عن صفاته، للإيحاء بأهميّة هذا المولود وما يحققه للحياة من خير وبركة، وما يمنحه لأمّه من شرف ورفعة: ﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا﴾ فستكون له الوجاهة في الدنيا من خلال موقعه الرسالي في ما يثيره من قضايا ومواقف، ومن خلال إيمان الناس بنبوّته ورسالته، وتبجيلهم وتقديسهم له، ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ وسيحصل على الوجاهة في الآخرة في ما يرفعه الله من درجات جزاء لجهاده وتضحياته وآلامه القاسية التي تحمّلها في سبيل الله ﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ وسيكون من المقرّبين إلى الله، انطلاقا من قربه الروحي والفكري والعملي إلى الله في خشوع العبادة وخضوع العمل.
4. تتجسد المفاجأة أمامها وتأخذها الدهشة حتى لا تكاد تصدّق ما تسمع من الملائكة، فهم يقولون لها: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ ويحدّثهم ويحاورهم، مما لم يألفه الناس في أولادهم.. ويسترسلون في الحديث، كأنّهم لم يتحدثوا بشيء غريب يفرض التوقّف على المتكلم والسامع من أجل الخروج من جوّ الدهشة والغرابة: ﴿وَكَهْلًا﴾ فإنه سيعيش إلى عمر الكهولة، ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يعيش حياة متحركة مع الناس، وسيبقى رمزا للصلاح في خطواته وأعماله كما يعيش الصالحون في الحياة.
5. وتقف العذراء عليها السلام للتساؤل، بعد أن عاشت غيبوبة روحيّة لذيذة خاشعة مع هذه البشارة الكبيرة ومعناها، وكيف يكون لها ولد؛ وهي بعد لما تتزوّج ولم يمسها بشر لتتحقق من خلال ذلك الوسيلة الطبيعية لولادة هذا المولود العجيب؟ ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ في مناجاة تشبه الاستغاثة وتتوسّل في جلاء غموض هذا السرّ، ويأتيها الجواب من الله: ﴿كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ فليست هناك حدود للوسائل التي تحقق الوجود، لأن مشيئته هي كل شيء في الخلق، فإذا أراد الشيء وجد، فليس هناك إلا مشيئته فهي سرّ الوجود وسرّ الحياة ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وترجع إلى إيمانها في هدوء واستسلام، ولكنها تظل في جوّ الأسرار الذي يحيط بها من كل جانب، فهي تؤمن أن القضية كل القضية هي مشيئة الله، ولكنها لم تعرف ـ حتى الآن ـ كيف تتحرك المشيئة في ولادة هذا المولود العجيب.
6. هنا ملاحظة، وهي أن الآية تحدثت عن امتداد عمر عيسى عليه السّلام إلى مرحلة الكهولة، ولكن الأناجيل تصرّح أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وقد حاول البعض أن يتحدث عن بلوغه السن المذكورة بعد نزوله من السماء، ويتحدث بعض آخر عن أن عيسى عليه السّلام بلغ أربعا وستين سنة خلافا للأناجيل، وربّما أوّل بعض المفسرين الآية بأن المراد بها هو أن عيسى عليه السّلام يكلم الناس في المهد بالطريقة التي يكلمهم فيها كهلا، لأن قضية تكليمه للناس في المهد ـ وهي مرحلة السنة الثانية: ليس أمرا عجيبا، لأن أغلب الأطفال يتكلمون بطريقة طفولية معينة، ولكن العجيب أن يكلّمهم كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، فهذا هو الخارق للعادة، وقد يلاحظ على ذلك بأن عيسى عليه السّلام تكلّم بكلام مفيد بالطريقة العقلانية شكلا ومضمونا في أول ولادته، وذلك هو قوله تعالى في سورة مريم: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: 27 ـ 29]
7. سؤال وإشكال: إن الله عبّر بكلمة (يخلق) هنا، بينما جاء التعبير في قصة زكريا بقوله: ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾، فما هو وجه الاختلاف؟ والجواب: قد يجاب بأن حالة زكريا ليست حالة غير طبيعية في علاقة المسبب بالسبب، لأن الولادة ـ على تقديرها ـ تحصل بالطريقة الطبيعية للتناسل، لكن هنا مانعا يمنع من فعليتها وهو الشيخوخة والعقم، أما حالة مريم فإنها تخالف طبيعة القانون العام لولادة الإنسان لأنها بلا زوج، مما يجعل القضية لديها قضية (خلق)، بينما هي في قضية زكريا قضية (فعل) من خلال رفع المانع، ولكن في هذه الملاحظة تأمّلا، لأن مسألة الخلق صادقة على وجود الإنسان، سواء كان ذلك بالطريقة الطبيعية في القانون العام أو بالطريقة الخارقة للعادة، فقد عبّر الله عن خلق آدم عليه السّلام وعيسى عليه السّلام كما عبر به عن خلق الإنسان بالطريقة العادية، وذلك هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]
__________
(1) من وحي القرآن: 6/16.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية تبيّن حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم بأمر من الله قائلين لها إنّ الله سوف يهب لك ولدا اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند الله.
2. في هذه الآية وفي آيتين أخريين يوصف المسيح بأنّه (الكلمة) وهو تعبير موجود في كتب العهد الجديد أيضا، وكلام المفسّرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح، إلّا أنّ أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، أو لأنّ البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أمّه، كما أنّ لفظة (الكلمة) وردت في القرآن بمعنى (المخلوق): ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾، ففي هذه الآية (كلمات ربي) هي مخلوقات الله، ولمّا كان المسيح أحد مخلوقات الله العظيمة فقد سمّي بالكلمة، وهذا يتضمّن أيضا ردّا على الذين يقولون بالوهيّة المسيح عليه السّلام.
3. ﴿الْمَسِيحُ﴾ بمعنى الماسح أو الممسوح، وإطلاقها على عيسى إما لأنّه كان يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله، إذ كانت هذه الموهبة قد خصّصت له منذ البداية، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته، أو لأنّ الله قد مسح عند الدنس والإثم وطهّره.
4. يصرّح القرآن في هذه الآية بأنّ عيسى هو ابن مريم، وهو تصريح يدحض مفتريات المفترين عن الوهيّة المسيح، إذ أنّ من يولد من امرأة وتطرأ عليه جميع التحوّلات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادّي لا يمكن أن يكون إلها، ذلك الإله المنزّه عن كلّ أنواع التغيّرات والتحوّلات.
5. تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى عليه السّلام وهي تكلّمه في المهد: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أمّه تكلّم في المهد كلاما فصيحا أعرب فيه عن عبودّيته لله، وعن كونه نبيّا، ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أمّه.
6. ﴿الْمَهْدِ﴾ هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثا، سواء أكان متحرّكا أم ثابتا والظاهر من آيات سورة مريم أنه عليه السّلام تكلّم منذ بداية تولده ممّا يستحيل على كلّ طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة، ولكن الكلام في مرحلة الكهولة، امر عادي، ولعلّ ذكره في الآية أعلاه مقارنا للحديث في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب الصواب والحقّ والحكم.
7. تشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلّا بالحقّ منذ ولادته حتّى كهولته، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة، ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنّبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا، إذ أنّنا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى عليه السّلام قد رفع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي عليه السّلام ويعيش معه بين الناس ويؤيّده.
8. بعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها ﴿وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والاعتزاز، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأخرى.
9. ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأنّ الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كلّ كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل، فلكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك عن طريق الاتّصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة، لذلك حقّ لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها: كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتّصال جنسي مع أيّ بشر؟ ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يَشَاءَ﴾، ثمّ لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
10. إنّ تعبير (كن فيكون) إشارة إلى سرعة الخلق، بديهيّ أن لفظة (كن) تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لا يعتورها الأخذ والرد، أي أنّه ما إن يشاء أمرا ويصدر أمره بالخلق حتّى تتحقّق مشيئته في عالم الوجود.
11. من الجدير بالالتفات أنّه بشأن خلق عيسى قال: ﴿يُخْلَقْ﴾ ولكنّه بشأن خلق يحيى قبل بضع آيات قال (يفعل)، ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من اختلاف طريقة خلق هذين النبيّين، فأحدهما خلق بطريقة طبيعية، والآخر خلق بطريقة خارقة للطبيعة، وهناك ملاحظة أخرى وهي أنّ هذه الآيات تذكر في بدايتها محادثة الملائكة مع مريم، وهنا محادثتها مع الله عزّ وجلّ، وكأنها بلغ بها الوجد والجذبة الإلهيّة أن زالت الوسائط واتّصلت مع مبدأ العزة، فأخذت تحدثه وتسمع منه مباشرة، (وطبعا لا إشكال في تكلّم غير الأنبياء مع الله تعالى إذا لم يكن بصورة الوحي)
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/499.