...
54. دعاء إبراهيم والبركات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈54⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 126]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس(1).
2. روي أنه قال: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، يعني: من وحد الله، وآمن باليوم الآخر(2).
3. روي أنه قال: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ كان إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس؛ فأنزل الله: ومن كفر أيضا، فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقا لأرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ﴾ [الإسراء: ٢٠](1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٢٩.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنه قال: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ﴾ استرزق إبراهيم لمن آمن بالله وباليوم الآخر، قال الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ فأنا أرزقه(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: [عيينة] سفيان بن عيينة (ت 198 هـ).
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ هذا دعاء دعا به إبراهيم، فاستجاب له دعاءه، فجعله بلدا آمنا(1).
2. روي أنه قال: لما قال إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قال الله تعالى: إني مجيبك، وأجعله بلدا آمنا لمن ﴿آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يوم القيامة، ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ فإني أمتعه ﴿قَلِيلًا﴾، وأرزقه من الثمرات، وأجعله آمنا في البلد، وذلك إلى قليل، يعني: إلى خروج محمد، وذلك أن الله تعالى كرم محمدا أن يخرجهم من الحرم؛ وهو المسجد الحرام: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ عند الموت ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٢٩.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٧٧.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: دعا إبراهيم للمؤمنين، وترك الكفار لم يدع لهم بشيء، فقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(1).
__________
(1) الأزرقي: ١/٤٠.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الناس لم يحرموا مكة، ولكن الله حرمها، فهي حرام إلى يوم القيامة، وإن من أعتى الناس على الله ثلاثة: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله، ورجل أخذ بذحول الجاهلية)(1).
__________
(1) الأزرقي في أخبار مكة: ٢/١٢٥.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنه قال: قال إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦]، فاستجاب الله تعالى له، فجعله بلدا آمنا، وأمن فيه الخائف، ورزق أهله من الثمرات تحمل إليهم من الأفق(1).
__________
(1) الأزرقي في تاريخ مكة: ١/١٣٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ من المقيمين بمكة من الثمرات؛ ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ﴾ يعني: من صدق منهم بالله واليوم الآخر، وصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فأما مكة فجعلها الله أمنا، وأما الرزق فإن إبراهيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين(1).
2. روي أنه قال: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾، أي: قال الله تعالى: والذين كفروا أرزقهم أيضا مع الذين آمنوا، ولكنها لهم متعة من الدنيا قليلا(1).
3. روي أنه قال: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ ألجئه إن مات على كفره ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٣٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: لما قال إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وعزل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته، وفراقا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره؛ فقال الله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ فإني أرزق البر والفاجر ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٤٥.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ لما علم أن المكان ليس بمكان ثمر ولا عشب دعا، وسأل ربه: أن يرزق أهله عطفا على أهله، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق، ثم خص المؤمنين بذلك؛ لوجوه:
أ. أحدها: أنه لما أمرهما بتطهير البيت عن الأصنام والأوثان ظن أنه لا يجعل لسوى أهل الإيمان هنالك مقاما؛ فخص لهم بالدعاء، وسؤال الرزق.
ب. الثاني: أنه أراد أن يجعل آية من آيات الله؛ ليرغّب الكفار إلى دين الله، فيصيروا أمة واحدة؛ فكان كقوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ﴾ الآية [الزخرف: 33].
ج. ووجه آخر قيل: لما كان قيل له: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فلعله خشى أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.
2. ذلك يدل على أنه: أن لا بأس ببيع الطعام من الكفرة، ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه، ويحتمل الدعاء المبهم للكفرة: القبح؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير الله.
3. ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ بالنعم؛ لأن الدنيا دار محنة، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا، وأما الآخرة فهي دار جزاء، ليست بدار محنة؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.
4. معنى قوله: ﴿قَلِيلًا﴾ لأن الدنيا كلها قليل.
5. الامتحان على وجهين: امتحان بالنعم، وامتحان بالشدائد.
6. قرئ: (فأمتعه) على معنى دعاء إبراهيم عليه السلام (ومن كفر فأمتعه) بالجزم.
7. سؤال وإشكال: لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم، وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل، ويعلم أن المؤمن هو المفضّل بالعقل، والجواب: كيف لا وقع فضل ما به يمتحن ـ وهو النعم ـ لأن العقل الذي به يدرك الحق واحد، لا تفاضل فيه لأحد، ثم العقل الذي به يمتحن واحد؛ فهما متساويان ـ فيما به درك الحق ـ إلا أن أحدهما يدركه فيتبعه، والآخر يدركه فيعانده، فهو ـ من حيث معرفته ـ ذو عقل، أعرض عنه؛ فيسمى معاندا، إذ من لا عقل له يسمى مجنونا.
8. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ ذكر الاضطرار، وهو كقوله: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الدخان: 47] وهو السوق، وكقوله: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [مريم: 86] إنهم يساقون إليها، ويدعّون، لا أنهم يأتونها طوعا واختيارا.
9. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي بئس ما صاروا إليه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/564.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ يعني مكة ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ يعني الذين آمنوا ليجتمع لهم الأمن والخصب فيكونوا في رغد من العيش وكان هذا السؤال لمن آمن به وصدقه.
2. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ ومكة لم تزل حرماً من الجبارين المسلطين ومن الخسوف والزلازل وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعله آمناً من الجدب والقحط وأن يرزق أهله من الثمرات.. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما افتتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من هذيل فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيباً فقال: (يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً أو أن يعضد بها شجر وإنها لا تحل لأحد من بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ألا وهي قد رجعت على حالها بالأمس؛ ليبلغ الشاهد الغائب، فمن قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قتل بها، فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك.. وكذلك المدينة حرمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدما كانت حلالاً فقال: (إن إبراهيم كان عبدالله وخليله وإني عبدالله ورسوله وإن إبراهيم حرّم مكة وأنا حرّمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يعضد فيها شجر إلا لبعير.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/84.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ يعني مكة ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش.
2. في قوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن هذا من قول إبراهيم متصلا بسؤاله، أن يجعله بلدا آمنا، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ أن فيهم ظالما هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات.
ب. الثاني: أنه سؤاله كان عاما مرسلا، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ يعني في الدنيا.
3. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ يعني بذنوبه إن مات على كفره.
4. اختلفوا في مكة، هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك، على قولين:
أ. أحدهما: أنها لم تزل حرما من الجبابرة والمسلّطين، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربّه: أن يجعله آمنا من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية سعيد بن المقبري، قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما افتتح مكة، قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطيبا فقال: (يا أيّها النّاس، إنّ الله تعالى حرّم مكّة يوم خلق السّماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضّد بها شجرا، وأنّها لا تحلّ لأحد بعدي ولم تحلّ لي إلّا هذه السّاعة غضبا على أهلها، ألا وهي قد رجعت على حالها بالأمس، ألا ليبلّغ الشّاهد الغائب، فمن قال إنّ رسول الله قد قتل بها فقولوا: إنّ الله تعالى قد أحلّها لرسوله ولم يحلّها لك)
ب. الثاني: أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها بدعوته صارت حرما آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حراما، بعد أن كانت حلالا، لرواية أشعب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنّ إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإنّي عبده ورسوله، وإنّ إبراهيم حرّم مكّة، وإنّي حرّمت المدينة ما بين لابتيها عضاها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر لعلف)
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/188.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
التقدير: واذكروا إذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً.
1. سؤال وإشكال: هل كان الحرم آمنا قبل دعوة ابراهيم عليه السلام؟ والجواب: قيل فيه خلاف:
أ. قال مجاهد عن ابن عباس، وابو شريح الخزاعي: كان آمنا لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين فتح مكة هذه حرم حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو الظاهر في رواياتنا.
ب. وقال قوم: كانت قبل دعوة ابراهيم كسائر البلاد، وإنما صارت حرماً بعد دعوته عليه السلام كما صارت المدينة، لما روي ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ان ابراهيم عليه السلام حرم مكة، واني حرمت المدينة.
ج. وقال بعضهم: كانت حراماً والدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة:
• والاول يمنع الله إياها من الاضطلام، والانتقام، كما لحق غيرها من البلاد، وبما جعل في النفوس من تعظيمها، والهيبة لها.
• والوجه الثاني ـ بالأمر على ألسنة الرسل، فأجابه الله الى ما سأل وإنما سأل أن يجعلها آمنا من الجدب، والقحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع، ولا ضرع، ولم يسأله أمنه من انتقال، وخسف، لأنه كان آمنا من ذلك.
د. وقال قوم: سأله الامرين على ان يديمهما له، وان كان أحدهما مستأنفا، والآخر كان قبل.
2. معنى قوله تعالى: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ أي يأمنون فيه، كما يقال: ليل نائم أي النوم فيه.
3. البلد والمصر والمدينة نظائر، ورجل بليد إذا كان بعيد الفطنة، وكذلك يقال للدابة التي تقصر عن نظائرها، وأصل البلادة التأثير، ومن ذلك قولهم لكركرة البعير: بلدة لأنه إذا برك تأثرت عنها.
4. قرئ في الشواذ فامتعه على وجه الدعاء بصورة الامر، ثم اضطره بمثل ذلك على ان يكون ذلك سؤالا من ابراهيم ان يمتع الكافر قليلا ثم يضطره بعد ذلك الى عذاب النار، والاول أجود لأنه قراءة الجماعة، هذا مروي عن ابن عباس.. والراء مفتوحة في هذه القراءة وكان يجب ان تكسر كما يقال مد ومد ولم يقرأ به أحد وقرأ: ابن عباس وحده (فأمتعه قليلا) من المتعة على الخبر الباقون بالتشديد بدلالة قوله: {مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}.
5. الفرق بين متعت وأمتعت ان التشديد يدل على تكثير الفعل، وليس كذلك التخفيف، وفعلت وافعلت يجيء على خمسة اقسام:
أ. ان يكونا بمعنى واحد كقولهم: سميت وأسميت.
ب. على التكثير والتقليل.
ج. على النقص كقولك: فرطت: قصرت، وافرطت: جاوزت.
د. توليت الفعل وتركته حتى يقع: كقوله ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ اي يهدمون. فأما اخربت فمعناه تركت المنزل وهربت منه حتى خرب.
هـ. ان ينفرد احدهما عن الآخر. كقولك: كلمت لا يقال فيه افعلت واجسلت ولا يقال: منه فعلت.: كلمت لا يقال فيه افعلت وأجلست ولا يقال: منه فعلت.
6. معنى ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ ادفعه الى عذاب النار وأسوقه اليها، والاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه، إذا كان من جنس مقدوره، ولهذا لا يقال فلان مضطر الى كونه ـ وان كان لا يمكنه دفعه عن نفسه ـ لما لم يكن الكون من جنس مقدوره، ويقال هو مضطر الى حركة الفالج وحركة العروق، لما كانت الحركة من جنس مقدوره.
7. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هو الحال التي يؤدي اليها أولها.
8. صار وحال وآل نظائر، يقال صار يصير مصيرا، قياسه رجع يرجع مرجعا وصيره تصييرا، قال صاحب العين: صير، كل امر مصيرة والصيرورة مصدر صار يصير صيرورة، وقال بعضهم: صيور الامر اخره، قال الكميت يمدح هشام ابن عبد الملك:
çملك لم يصنع الله منه...بدء أمر ولم يضع صيوراé
وصارة الجبل: رأسه، والصير: الشق، وفي الحديث من نظر في صير باب ففقئت عينه فهي هدر، وصير البقر: موضع يتخذه للحظيرة، وإذا كان للغنم فهو زريبة وأصل الباب: المصير، وهو المآل.
9. معنى الآية سأل سؤال عارف بالله مطيع له، وهو ان يرزق من الثمرات من آمن بالله، واليوم الآخر، فأجاب الله ذلك، ثم أعلمه انه يمنع من كفر به، لأجل الدنيا، ولا يمنعه من ذلك كما يتفضل به على المؤمن، ثم يضطره في الآخرة، الى عذاب النار، وبئس المصير، وهي كما قال نعوذ بالله منها.
10. قوله تعالى: ﴿قَلِيلًا﴾ يحتمل:
أ. ان يكون صفة للمصدر كما قال متاعا حسنا فوصف به المصدر، وليس لاحد ان يقول كيف يوصف به المصدر، وهو فعل يدل على التكثير، وكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ وهلا كانت قراءة ابن عامر ان حج على هذا وذلك ايضاً إنما وصفه بانه قليل من كان آخره الى نفاد، ونقص، وفناء، كما قال ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
ب. ان يكون صفة للزمان، كما قال ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ يعني بعد زمان قليل و
11. عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ اي تحمل اليهم من الآفاق.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/457.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البلد والمصر والمدينة نظائر، وأصله من قولهم بلد للأثر في الجلد، وجمعه أبلاد، ومن ذلك سميت البلاد؛ لأنها مواضع مواطن الناس وتأثيرهم، والبلدان الجمع.
ب. الثمرة جمعها ثمرات وثمار.
ج. نُمْتِعُهُ بالتخفيف من أُمْتَعْتُ، وأُمَتِّعُهُ بالتشديد من مَتَّعْت، وفعلت وأفعلت يجيء على خمسة أوجه: التكثير والتقليل، كمتعت وأمتعت وعلى النقيض، كفرطت قصرت، وأفرطت تجاوزت، ويجمعها مجاوزة حد الاستقامة والاعتدال إما إلى التقليل أو التكثير.. والثالث: وَلِيتُ الفعل وتركته حتى يقع، كخَرَّبت البيت هدمته، وأخربته تركته حتى خرب.. والرابع: أن يكونا بمعنى واحد كسميت وأسميت.. والخامس: أن ينفرد أحدهما عن الآخر، كقولك: كلمت ليس فيه أفعلت، وأجلست ليس فيه فعلت.
د. الاضطرار: فِعْلٌ لا يتهيأ له الامتناع منه.
هـ. صار يصير مصيرًا على قياس رجع يرجع مرجعًا، والمصير المآل، يقال: صار أمره إلى كذا، أي آل ورجع.
2. ثم بَيَّنَ تعالى ما دعا به إبراهيم لأهل مكة فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي اذكر إذ قال إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا﴾ يعني مكة: ﴿آمَنَّا﴾ يعني مأمونًا من أهله، ومن دخل فيه:
أ. قيل: إنما صار حرمًا آمنًا بدعاء إبراهيم، وقبلها كانت كسائر البلاد يدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: {إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة}
ب. وقيل: كان الحرم آمنًا قبل دعوة إبراهيم، وأكده إبراهيم بالدعاء، يدل عليه ما روي عن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لما فتح مكة: {إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض} الخبر.
ج. وقيل: كانت حرامًا قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حرامًا بعد الدعوة:
• فالأول بمنع الله إياها من الاصطلام، وبما جعل في النفوس من التعظيم.
• والثاني: بالأمر على ألسنة الرسل، فأجابه الله تعالى إلى ما سأل.
3. اختلفوا في قوله: ﴿آمَنَّا﴾ من ماذا؟
أ. قيل: من الجدب والقحط؛ لأن أهلها بواد غير ذي زرع، ولم يسأله أَمْنَة من خسف وانتقال؛ لأنه كان آمنًا قبل ذلك.
ب. وقيل: سأله الأمرين، وإن كان أحدهما مستأنفًا، والآخر قد كان قبل مسألته، فسأله أن يديمها له.
4. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ أي أعطهم من أنواع الرزق والثمرات: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإنما خص المؤمنين بالدعاء في الرزق:
أ. قيل: تأدبًا بآداب الله تعالى لما وفى عليه في جواب مسألته لذريته من الإمامة التي هي النبوة، فخص في الدعوة الثانية المؤمنين تقبلاً لأمر الله وتأديبه، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: ظن إبراهيم أنه إن دعا للكفار أيضًا بالرزق أنهم يكفرون بمكة ويفسدون، وربما يصدون الناس عن الحج، فدعا للمؤمنين خاصة عن القاضي.
ج. وقيل: خص المؤمنين بالدعاء لأنهم أهله دون الكفار.
5. ﴿قَالَ﴾ الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾:
أ. قيل: بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته.
ب. وقيل: بالبقاء في الدنيا.
ج. وقيل: بالأمن والرزق إلى خروج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقبله أو يخليه إن أقام على الكفر، عن الحسن.
6. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ يحتمل أُلْجِئُهُ، ويحتمل أصيره في الآخرة ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ المرجع والمثوى، وإنما قال: ﴿أَضْطَرُّهُ﴾ لأنه يصيره بحيث يتعذر عليه الخلاص منها.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. تحريم مكة بعد الدعاء، وإن اختلفوا قبله، وكُلّ تَعَبُّدٍ، ذكره الله في قصة إبراهيم فهو تعبد للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته، على ما يدل عليه الكلام من بعد، فلذلك وجب ذكر أحكامه.
ب. أن الكفر لا يمنع الرزق الحلال، وأنه يمتع بالبقاء والرزق كما يمتع المؤمن، وإن اختلفا في العاقبة؛ لأن الرزق ليس من باب الاستحقاق والتعظيم، ولأنه نوع تمكين يصح معه التكليف.
ج. على وعيده من عصى وكفر.
د. على الفرق بين الرزق والنبوة من حيث لا يكون نبيّ إلا ويكون معصومًا مختارًا؛ لأنه من باب الألطاف.
8. قرأ ابن عامر: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بسكون الميم خفيفة من أمتعت، والباقون بفتح الميم مشددة من مَتَّعْتُ، كقوله: ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ والفرق بينهما أن متَّعت بالتشديد، يدل على التكثير خلاف التخفيف، وعن أُبَيٍّ بن كعب، {فنمتعه} و{نضطره،} بالنون، وعن ابن عباس: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بتخفيف الألف، وكسر التاء خفيفة، ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ موصولة الألف مفتوحة الراء على جهة الدعاء من إبراهيم، والدعاء صيغته صيغة الأمر، وإنما يختلف بالرتبة.
9. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَنْ آمَنَ﴾ محله نصب؛ لأنه بدل من أهله، قال الأخفش: هذا بدل البعض عن الكل.
ب. ﴿قَلِيلًا﴾: نصب لأنه صفة لمحذوف، ويجوز فيه وجهان: أحدهما أن يكون المحذوف مصدرًا تقديره إمتاعًا قليلاً، أو زمانًا تقديره: زمانًا قليلاً.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/585.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. {و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أي: هذا البلد يعني مكة ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾:
أ. أي: ذا أمن، كما يقال: بلد آهل أي: ذو أهل.
ب. وقيل: معناه يأمنون فيه كما يقال: ليل نائم أي: ينام فيه.
ج. قال ابن عباس: يريد حراما محرما لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاؤه، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السلام من قوله: من دخل الحرم مستجيرا به، فهو آمن من سخط الله عز وجل، ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم.
2. اختلف هل صارت مكة حرما بدعائه:
أ. قيل: أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام، وإنما تأكدت حرمته بدعائه عليه السلام، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة: (إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار)
ب. وقيل: إنما صار حرما بدعائه عليه السلام، وقبل ذلك كان كسائر البلاد، واستدل عليه بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة).
ج. وقيل: كانت مكة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة:
• فالأول: بمنع الله إياها من الاصطلام والائتفاك، كما لحق ذلك غيرها من البلاد.. وبما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها والهيبة لها.
• والثاني: بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل، فأجابه الله تعالى إلى ما سأل، وإنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط، لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع، ولم يسأله أمنها من الائتفاك والخسف الذي كان حاصلا لها.
د. وقيل: إنه عليه السلام سأله الأمرين على أن يديمهما، وإن كان أحدهما مستأنفا، والآخر قد كان قبل.
3. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أي: أعط من أنواع الرزق والثمرات، ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾:
أ. سأل لهم الثمرات، ليجتمع لهم الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش.
ب. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من الآفاق.
ج. وروي عن الصادق عليه السلام قال: هي ثمرات القلوب أي: حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم.
4. اختلف لم خص بذلك من آمن بالله:
أ. قيل: لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فخص بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدبا بأدب الله تعالى.
ب. وقيل: إنه عليه السلام ظن أنه إذا دعا للكفار بالرزق، أنهم يكثرون بمكة ويفسدون فربما يصدون الناس عن الحج، فخص بالدعاء أهل الإيمان.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾:
أ. قيل: أي: قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم، ومن كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته.
ب. وقيل: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.
ج. وقيل: أمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيقتله إن أقام على كفره، أو يجليه عن مكة، عن الحسن.
6. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ أي: أدفعه إلى النار، وأسوقه إليها في الآخرة، ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي: المرجع والمأوى والمال.
7. قرأ ابن عامر: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بسكون الميم خفيفة من أمتعت.. والباقون بالتشديد وفتح الميم من متعت.. وروي في الشواذ عن ابن عباس: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ على الدعاء من إبراهيم عليه السلام.. وعن ابن محيصن: ثم (أطره) بإدغام الضاد في الطاء.
8. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَنْ آمَنَ﴾: محله نصب، لأنه بدل من ﴿أَهْلِهِ﴾ وهو بدل البعض من الكل، كما تقول: أخذت المال ثلثه، وجعلت متاعك بعضه على بعض.
ب. ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ يجوز أن يكون موصولا وصلة في موضع الرفع على الابتداء.. ويجوز أن يكون من أسماء الشرط في موضع رفع بالابتداء وكفر شرطه.
ج. ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾: الفاء وما بعده جزاء، ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه: ﴿مِنَ﴾ مع الشرط والجزاء في موضع خبر المبتدأ.. وعلى القول الأول فالفاء وما بعده خبر المبتدأ.
د. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: فعل وفاعل في موضع الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وبئس المصير النار، أو العذاب.
هـ. انتصب ﴿قَلِيلًا﴾ على أحد وجهين:
• أحدهما: أن يكون صفة للمصدر نحو قوله: ﴿مَتَاعًا حَسَنًا﴾ قال سيبويه: ترى الرجل يعالج شيئا فيقول رويدا أي: علاجا رويدا، وإنما وصفه بالقلة مع أن التمتيع يدل على التكثير من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، كقوله سبحانه: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾.
• الثاني: أن يكون وصفا للزمان أي: زمانا قليلا، ويدل عليه قوله سبحانه: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ وتقديره بعد زمان قليل، كما يقال عرق عن الحمى، وأطعمه عن الجوع أي: بعد الحمى، وبعد الجوع.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/386.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، البلد: صدر القرى، والبالد: المقيم بالبلد، والبلدة: الصّدر، ووضعت النّاقة بلدتها: إذا بركات، والمراد بالبلد هاهنا: مكّة.
2. معنى ﴿آمَنَّا﴾: ذا أمن، وأمن البلدة مجاز، والمراد: أمن من فيه، وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: الأمن من القتل.
ب. الثاني: من الخسف والقذف.
ج. الثالث: من القحط والجدب.
3. الإمتاع: إعطاء ما تحصل به المتعة، والمتعة: أخذ الحظّ من لذّة ما يشتهى، وبما ذا يمتّعه؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: بالأمن.
ب. الثاني: بالرّزق.
4. الاضطرار: الإلجاء إلى الشّيء، والمصير: ما ينتهي إليه الأمر.
__________
(1) زاد المسير: 1/111.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى هاهنا، قال القاضي: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: 128] وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى.
2. المراد من الآية دعاء إبراهيم عليه السلام للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه، فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها، ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمناً من الآفات، فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل.
3. سؤال وإشكال: أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟ والجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر.
4. سؤال وإشكال: المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب، وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
ب. ثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة.
ج. ثالثها: لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة.
5. قوله تعالى: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: مأمون فيه كقوله تعالى: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [القارعة: 7] أي مرضية.
ب. الثاني: أن يكون المراد أهل البلد كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد.
6. اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه:
أ. أحدها: سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع.
ب. ثانيها: سأله الأمن من الخسف والمسخ.
ج. ثالثها: سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولًا، ثم سأله الرزق ثانياً، ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكراراً فقال في هذه الآية: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وقال في آية أخرى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ ثم قال في آخر القصة: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [إبراهيم: 37]، وهذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ، أو لعله الأمن من القحط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة.
7. اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته:
أ. قال قائلون: إنها كانت كذلك أبداً لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)، وأيضاً قال إبراهيم: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37] وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء.
ب. وقال آخرون: إنها إنما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة).
ج. والقول الثالث: إنها كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة، فالأول: يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم، والثاني: بالأمر على ألسنة الرسل.
8. إنما قال في هذه السورة: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ على التنكير، وقال في سورة إبراهيم: ﴿هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ على التعريف لوجهين:
أ. الأول: أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال اجعل هذا الوادي بلداً آمناً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: 37] فقال: هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأنه قال اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً.
ب. الثاني: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً، فقوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حاراً، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة، فقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة.
9. معنى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم، فاستجاب الله تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء.
10. قوله: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ بدل من قوله: ﴿أَهْلِهِ﴾ يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة، وهو كقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]
11. لما أعلمه الله تعالى أن منهم قوماً كفاراً بقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس، أما النص فقوله تعالى: ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 68] وأما القياس فمن وجهين:
أ. الوجه الأول: أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] فصار ذلك تأديباً في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم إن الله تعالى أعلمه بقوله: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ الفرق بين النبوة ورزق الدنيا، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه.
ب. الوجه الثاني: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.
12. أمتعه قيل: بالرزق، وقيل: بالبقاء في الدنيا، وقيل: بهما إلى خروج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر، والمعنى أن الله تعالى كأنه قال إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا، ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار، فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلًا، إذ كان واقعاً في مدة عمره، وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد، وهو بالنسبة إليهما قليل جداً، والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة، بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة.
13. اختلف في معنى الاضطرار في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وهاهنا كذلك، كما قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13]، و﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: 48] يقال: اضطررته إلى الأمر أي الجأته وحملته عليه من حيث كان كارهاً له، وقالوا: إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها.
ب. الثاني: أن الاضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ [البقرة: 173] [الأنعام: 145] [النحل: 115] فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة، وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والاستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه، لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار، ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير، لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/48.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش، فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام، فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات.
2. اختلف العلماء في مكة هل صارت حراما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين:
أ. أحدهما: أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى، ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب، وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم عليه السلام حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا.. واحتج هؤلاء بحديث ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم فتح مكة (إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر)، ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره.
ب. الثاني ـ أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمنا بعد أن كانت حلالا.. واحتج هؤلاء بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة)، قال ابن عطية: (ولا تعارض بين الحديثين، لان الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الأول من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه)
ج. وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.
3. ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بدل من أهل، بدل البعض من الكل، و(من) في قوله ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ وهو الجواب، واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام:
أ. قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرؤوا ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء، ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بقطع الالف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء، وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي (فنمتعه قليلا ثم نضطره) بالنون.
ب. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إبراهيم عليه السلام، وقرؤوا (فأمتعه) بفتح الهمزة وسكون الميم، (ثم اضطره) بوصل الالف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في ﴿قَالَ﴾ لإبراهيم، وأعيد ﴿قَالَ﴾ لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين.
4. الفاعل في ﴿قَالَ﴾ على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الالف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ ثم جاء بقوله عز وجل: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ﴾ فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم.
5. صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب، وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار، قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾) وقال جل ثناؤه: ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾)، قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لان الله تعالى قال: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/118.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ أي: مكة؛ والمراد: الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله: ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ أي: راض صاحبها.
2. ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بدل من قول أهله، أي: ارزق من آمن من أهله دون من كفر، وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّ على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، أي: وارزق من كفر، فأمتّعه بالرزق قليلا، ثم أضطره إلى عذاب النار؛ ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية؛ أي: من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بعد هذا التمتيع ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض، وهو عذاب النار.
3. على قراءة من قرأ: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بصيغة الأمر وكذلك له: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ بصيغة الأمر، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلا، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار، ومعنى: ﴿أَضْطَرُّهُ﴾: ألزمه حتى صيّره مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا، ولا منه متحوّلا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/165.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا﴾ أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي ﴿بَلَدًا﴾ أي يأنس من يحل به ﴿آمَنَّا﴾ أي من الخوف، أي لا يرعب أهله.
2. وقد أجاب الله دعاءه، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، وقوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت: 67]، إلى غير ذلك من الآيات.
3. صحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح)، فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله، كما فعل بأصحاب الفيل.
4. قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا، خلاف ما هنا:
أ. إمّا أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى المذكورة هنا، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنه قال اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: 37]، فقال، هاهنا، اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنه قال اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة.
ب. وإمّا أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر، فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين، وقد حكى ذلك هنا، واقتصر هناك على حكاية سؤل الأمن، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال أجعل أفئدة الناس تهوي إليه، هذا خلاصة ما حققوه.
5. الصحيح أن السؤال والمسؤول واحد، إلا أنه تفنن في الموضعين، فحذف من كلّ ما أثبته في الآخر احتباكا، والأصل: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا، وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف، على ما فيه من إفادة المبالغة، أي بلدا كاملا في الأمن: كأنه قيل: اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك: كان هذا اليوم يوما حارا.
6. في القاموس وشرحه التاج: البلد والبلدة علم على مكة، شرفها الله تعالى، تفخيما لها، كالنجم للثريا، وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة، وفي النهاية: البلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء.
7. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ إنما سأل إبراهيم عليه السلام ذلك، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له، فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء.
8. ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ بدل من ﴿أَهْلِهِ﴾، بدل البعض، يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة، وإنما خصّهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان، واهتماما بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة، حيث ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين، في باب الإمامة في قوله ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ بعد أن سأل، عليه السّلام، جعلها في ذريته، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان، وزجر عن الكفر.
9. ﴿قَالَ﴾ الله تعالى معلما أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي أنيله أيضا ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، فهو عطف على مفعول فعل محذوف، دلّ الكلام عليه، ويجوز أن تكون ﴿مِنَ﴾ مبتدأ موصولة أو شرطية، وقوله ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ خبره أو جوابه، وعبر عن رزقه بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة، تخسيسا له، وأكد ذلك بقوله ﴿قَلِيلًا﴾ تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا.
10. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ أي ألجئه إليه كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13]، و﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: 48] وقرئ فأمتعه قليلا ثم اضطره، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام، وفي ﴿قَالَ﴾ ضميره ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ النار أو عذابها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/396.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا﴾ أي: هذا البلد، دعا بعد أن كان عمارة، أو هذا المكان وهو أرض مكَّة قبل أنْ يكون فيها ماء وعمارة، وهذا الدعاء قبل ذلك، ﴿بَلَدًا ـ امِنًا﴾ ذا أمْنٍ، كـ (لَابِنٌ) بمعنى ذي لبن، أو مجاز عقليٌّ من الإسناد إلى المكان، إذ الآمِنُ مَن فيه، أو آمنًا أهلُه، طلب في المرَّة الأولى: كون الوادي بلدًا آمنًا، أي: معمورًا آمنًا، فاستجيب له في كونه بلدًا معمورًا، وتأخَّرت الاستجابة في الأمن.
2. ثم كرَّر الطلب للأمن فاستجيب له، إذ قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا﴾ [إبراهيم: 35] فجعله الله بلدًا آمنًا، لا ينفر صيده، ولا يسفك فيه دم، ولو قصاصًا أو حَدًّا، إلَّا إن جنى فيه، وعن الشافعيِّ: يُقتصُّ منه ويحدُّ فيه، ولو جنى خارجه إذا دخله، ولا يختلى خلاه، وتضاعف فيه السيِّئات: الواحدة بمائة كالحسنات: الواحدة بألف وبمائة ألف؛ ولا يظلم فيه، ولا يخسف، ولا يمسخ فيه، إلَّا ما قيل أنَّه مسخ رجل وامرأة زنيا في الكعبة، ولا يقحط، ولا يخاف من عدوٍّ.
3. وليس طلب الأمن تكريرًا لقوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [الآية: 125]؛ لأنَّ ذلك إخبار من الله وما هنا طلب من إبراهيم؛ أخبرنا الله بما استجاب له فيه قبلُ، فلا حاجة إلى أنْ يُقالَ: أرادَ هنا الأمن من القحط، كما قال: ﴿وَارْزُقَ اَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أي: من أنواعها، وقد استجيب له حتى إنَّه يجتمع فيها في اليوم الواحد ثمرات الفصول من الطائف، قال ابن عباس: نقل الله بقعة فلسطين بالشام، وقيل: من الأردن، وجعلها في الطائف، وسمِّيت بالطائف لأنَّ جبريل طاف بها سبعًا ووضعها في ذلك الموضع، توسعةً لرزق الحرم، إجابةً لدعائه عليه السلام .
4. ﴿مَنَ ـ امَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ لا جميع أهله، ولا كفَّاره، متابعة لقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ﴾ [الآية: 124]، فأخبره الله أنَّ الرِّزق يعمُّ الظالم لا كالإمامة؛ لقوله: ﴿قَالَ﴾ الله جلَّ وعزَّ ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ عطف من الله على قول إبراهيم: (مَنَ ـ امَنَ)، كما في قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيـَّتِي﴾ [الآية: 124]، كما يقول الرجل: (أكرمْ زيدًا) فتقول: (وابنه)، أو يقدَّر: وأَرزُقُ من كفر ـ بفتح الهمزة وضمِّ القاف ـ .
5. وعطَف على هذا المقدَّر بقوله: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ أو قل يا إبراهيم: ومن كفر، أو أَرزُقُ من آمن ومن كفر ـ بالفتح والضمِّ ـ ، أو من كفر فأنا أمتِّعه، أو فقد أمتِّعه، فحذف (أنا) أو (قد)، وإنْ جعلنا (مَن) موصولة مبتدأ فالفاء صلة في خبرها بلا تقدير، والمراد: تمتيعًا قليلاً، أو زمانًا قليلاً، وكلَّما كثر أو طال من الدنيا فقليل قاصر.
6. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ أُلجِئه بَعْدَ موته ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ لكفره، فلا يجد امتناعًا عنها، وذلك بلا تحرُّك منه، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: 13]، وقوله: ﴿إِذِ الَاغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [غافر: 71]، وقوله: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُوخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالَاقْدَامِ﴾ [الرحمن: 41]، وبتحرُّك كقوله تعالى : ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الزمر: 71].
7. ﴿وَبِيسَ الْمَصِيرُ﴾ النار أو عذابها، أو الصيرورة، فإنَّه يصار إلى المعاني كما يصار إلى الأجسام، والمتسبِّب عن الكفر شيئان: الأوَّل تقليل التمتيع إذ قصر على التمتيع الدنيويِّ، ولم يوصل بالأخرويِّ، والثاني اضطراره إلى عذاب النار.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/219.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ هذه الآية معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان منة أو منن أخرى على أهل الحرم وهى ما تضمنه دعاء ابراهيم من جعل البلد آمنا في نفسه، وهو غير ما سبقت به المنة من جعل البيت آمنا.
2. فسر الجلال ﴿آمَنَّا﴾ بقوله: ذا أمن: مع أن المعنى ظاهر وهو أن يكون محفوظا من الأعداء الذين يقصدونه بالسوء، وهو غير معنى كونه ذا أمن، أي إن من يكون فيه يكون آمنا ممن يسطو عليه فيظلمه أو ينتقم منه، وقد استجاب الله دعاء إبراهيم في ذلك، ومن تعدى على البيت لم يطل زمن تعديه بحيث يقال: إنه قد مر زمن طويل لم يكن البيت فيه آمنا؛ بل لم ينجح أحد تعدى عليه لذاته، وإنما كان التعدي القصير هو التعدي العارض على بعض من اعتصم فيه.
3. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فسر الجلال الرزق من الثمرات بنقل جبريل الطائف من حوران في بلاد الشام أو من فلسطين إلى مكانه الآن في أرض الحجاز مع أن الكلام في البيت وبلده مكة لا في الطائف، ورزق أهل هذا البلد الأمين من الثمرات ظاهر معروف بالمشاهدة والاختبار المصدقين لما جاء به الكتاب في سورة القصص بقوله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فالثمرات تجبى وتجمع من حيث تكون وتساق إلى مكة، ولا فرق في ذلك بين كونها من الطائف أو من الشام أو مصر أو الروم مثلا، وكونها تجمع من أقطار متفرقة أظهر في صدق الآية وأدل على التسخير، وحديث نقل الطائف لا يصح ولكنهم ألصقوه بكتاب الله وجعلوه تفسيرا له وهو بريء منه وغير محتاج في صدقه إليه.
4. خص إبراهيم عليه السلام بدعائه المؤمنين كما هو اللائق به، ولكن الله واسع الرحمة وقد جعل رزق الدنيا عاما للمؤمن والكافر: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ ولكن تمتيع الكافر محدود بهذا العمر القصير؛ ومصيره في الآخرة إلى شر مصير، وذلك جواب الله تعالى لإبراهيم قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي وأرزق من كفر أيضا فأمتعه بهذا الرزق قليلا وهو مدة وجوده في الدنيا ثم أسوقه إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا يقصده هو ولا يعلم أن كفره ينتهى به اليه، وذلك أن لجميع أعمال البشر الاختيارية غايات وآثارا اضطرارية تفضى وتنتهى إليها بطبيعتها بحسب نظام الأسباب والمسببات، كما يفضى الاسراف في الشهوات أو التعب أو الراحة إلى بعض الأمراض في الدنيا، فالكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسقهم، فعقابهم عليها إنما هو عقاب على أعمال اختيارية، وهو أن كفرهم بآيات الله سيسوقهم إلى عذاب الله بما أقام الله تعالى عليه الإنسان من السنن الحكيمة، وأساسها أن علم الإنسان وأعماله النفسية والبدنية لها الاثر الذي يفضى به إلى سعادته أو شقائه اضطرارا، ولما كانت هذه السنة بقضاء الله وتقديره صح أن يقال: إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه إذ جعل الأرواح المدنسة بالعقائد الفاسدة والأخلاق المذمومة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأجساد القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.. ولما كانت هذه العقائد والمعارف والأخلاق والأعمال كسبية وكان الإنسان متمكنا من اختيار الحق على الباطل والطيب على الخبيث، وقد هداه الله إلى ذلك بما أعطاه من العقل، وما نزله من الوحى ـ صح أن يقال: إنه ظلم نفسه وعرضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي وأثرها ضروري.
5. في قوله تعالى ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ الخ إيجاز بالعطف على محذوف علم منه أنه تعالى استجاب دعاء ابراهيم في المؤمنين، فجعل لهم هذا الخير في الدنيا وأعد لهم ما هو أفضل منه في الآخرة، وهو إيجاز لم يكن يعهد في غير القرآن جار على الأصل الذي تقدم بيانه في خطاب القرآن للعرب خاصة دون ما كان يخاطب به بنى اسرائيل وإن كان كل ما في القرآن عبرة عامة لجميع المعتبرين.
__________
(1) تفسير المنار: 1/464.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أي قال رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول.
2. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
3. خص إبراهيم عليه السلام بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير، ثم إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بينه عزّ اسمه بقوله: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أن عملهم ينتهى بهم إليه.
4. ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسبّبات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضى إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة.
5. كل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضى بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء، وهى أعمال كسبية اختيارية؛ فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحى، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرّضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبيّ وأثرها اضطراري.
6. هذه السنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه، وجعل الأرواح المدنّسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/213.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
أ. مرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت، ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير.. إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى، لقد وعى منذ أن قال له ربه: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.. وعى هذا الدرس.. فهو هنا، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات، يحترس ويستثني ويحدد من يعني: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
ب. إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه، فيراعيه في طلبه ودعائه.. وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه، شطر الذين لا يؤمنون، ومصير هم الأليم: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/114.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. وإذ جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وإذ جعله الله مقاما لإبراهيم عليه السلام ومصلّى للمؤمنين، وإذ عهد إلى إبراهيم وإسماعيل بالقيام على هذا البيت وتطهيره من أن يلمّ به رجس ـ إذ ذاك توجه إبراهيم إلى ربّه أن يبارك البيت وما حوله، وأن يصيب البلد الذي يقوم حول هذا البيت ببعض نفحاته وبركاته.. هكذا الطيب يعبق ريحه، فيطيّب الأجواء من حوله.. ومن شأن هذا البيت الطهور القدس أن يجد ريحه الطيب كلّ شيء يدنو منه، من إنسان وحيوان ونبات.. فأماكنه آمنة، والناس فيها آمنون، وحيوانها ونباتها آمن، فلا يصاد حيوانها ولا يعضد شجرها، ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أمنا مطلقا يصيب كل شيء.. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ فهذا الرزق هو مما يكفل الأمن لأهله.. ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾
2. في قول إبراهيم عليه السلام: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾، وقوله في آية أخرى في سورة إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ ما يشعر بأن بين (البلد) و(بلدا) فرقا.. وهذا ما يحدّث عنه التاريخ، من أن إبراهيم كانت له عودة إلى البلد الحرام بعد أن ترك إسماعيل وأمه فيها.. فحين تركهما لأول مرة كانت غير معمورة، فهي (بلد) لم يكتمل بعد، فلما عاد إليها بعد مدة كانت قد أخذت تعمر فهي (البلد)!
3. وقد تأدب إبراهيم مع ربّه، ونظر إلى قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فخصّ بدعائه هذا من آمن بالله واليوم الآخر، حيث لا مكان في هذا البيت القدس لمن كفر بالله، ولكن رحمة الله تسع البرّ والفاجر، ومن طبيعة الحياة ألا يستقيم فيها الناس جميعا على صراط الله، فكان ردّ الله على إبراهيم أن سمع دعاءه في المؤمنين، وأما من كفر فلا يحرم هذا الرزق المساق إلى البيت الحرام، متاعا له في هذه الدنيا، ثم يوفّى حسابه في الآخرة، بما أعد للكافرين من عذاب أليم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/142.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ عطف على ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً﴾ [البقرة: 125] لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنينا إلى أحوالهم، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]
2. اسم الإشارة في قوله: ﴿هَذَا بَلَدًا﴾ مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء، أو الذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح، وأصل أسماء الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان، وقد يزيدون الإشارة بيانا فيذكرون بعد اسم الإشارة اسما يعرب عطف بيان أو بدلا من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتمادا على حضور المراد من اسم الإشارة.
3. عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا ورزق أهله من الثمرات، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولا ثانيا استغنى عن بيان اسم الإشارة، وفي سورة إبراهيم [35] لما جعل ﴿آمَنَّا﴾ مفعولا ثانيا بين اسم الإشارة بلفظ (البلد)، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمنا.
البلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامرا أو غامرا، وهو أيضا الأرض مطلقا، قال صنّان اليشكري:
çلكنّه حوض من أودى بإخوته...ريب المنون فأضحى بيضة البلدé
يريد بيضة النعام في أدحيّ النعام أي محل بيضه، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها، وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة.
4. الظاهر أن دعوة إبراهيم عليه السلام المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصا لنبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولا بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطورا والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.
5. الآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال وذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقا فتعين ذكر متعلقه، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة: (كليني لهم يا أميمة ناصب)، أي ذي نصب، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان، ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان، فالتقدير في الكلام اجعل هذا المكان بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.
6. وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام (الكشاف) هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم [35] بقوله: ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا.
7. لقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوة فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.
8. الثّمرات جمع ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له، وكأن اسمه منتسب من اسم التمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرّطب وبالمثناة التمر اليابس، وللثمرة جموع متعددة وهي ثمر بالتحريك وثمار، وثمر، بضمتين، وأثمار، وأثامير، قالوا: ولا نظير له في ذلك إلا أكمة جمعت على أكم وإكام وأكم وآكام وأكاميم.
9. التعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.
10. ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ﴾ بدل بعض من قوله ﴿أَهْلِهِ﴾ يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبدل البعض مخصص.
11. خصّ إبراهيم عليه السلام المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان، فجعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: 124] فقال: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾.
12. مقصد إبراهيم عليه السلام من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرنا.
13. جملة: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ﴾ جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة، وضمير ﴿قَالَ﴾ عائد إلى الله، فمن جوز أن يكون الضمير في ﴿قَالَ﴾ لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾.
14. ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ الأظهر أنه عطف على جملة: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ باعتبار القيد وهو قوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ فيكون قوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ مبتدأ وضمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله، لما قدمناه في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: 124] أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.
15. معنى (أمتعه) أجعل الرزق له متاعا، و﴿قَلِيلًا﴾ صفة لمصدر محذوف لبعد قوله: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾.
16. في هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا، وقال الأشعري: لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي.
17. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ احتراس من أن يغتر الكافر بأنّ تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
18. ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى العذاب متأخرا عن تمتيعه بالمتاع القليل.
19. الاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة، فالأصل أن يكون اضطر قاصرا لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غير جار على قياس يقال اضطرّه إلى كذا أي ألجأه إليه، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان [24]: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾
20. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/695.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بنى خليل الله أبو الأنبياء بيت الله تعالى بأمر ربه اتجه ضارعا إليه، أن يجعل ما حول البيت آمنا، وقد أقاموا في مكان جدب؛ ولذا دعا ربه أن يرزقهم من الثمرات، فقال تعالى حاكيا دعاءه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ وفى هذا دعاء إلى أن يكون ما حول البيت بلدا آمنا، وأن يرزقه من الثمرات، وهذا يشير إلى أنه عند بناء البيت لم يكن البلد قد تكوّن، ولكن آية أخرى تشير أن هنا بلدا متكونا؛ ولذلك ذكر بالتعريف، فقال تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم]
2. قال بعض المفسرين: إن الدعوة قد تكررت، فالدعوة الأولى كانت ولم يكن البلد، ولذلك كانت الدعوة بتكوين البلد وجعله آمنا، كما في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم] وإنه عند تمام البيت استجاب الله تعالى لنبيه، فأخذ الناس يأوون إليه بينون ويقيمون الخيام، وإن البلد ينشأ بعد بضع سنين فلما نشأ، وإبراهيم ذو ضراعة، وأوّاه حليم دعا فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ وخشى من الكثرة النسبية في البلد الذي وجد أن يكون فيهم عبدة الأوثان فضمن دعاءه قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾
3. إن كثيرين يرون أن طلب إبراهيم لم يكن إنشاء بلد آمن، بل كان طلبه فقط أن يكون آمنا، فالطلب من إبراهيم عليه السلام كان منصبا على الأمن، والإشارة إلى المكان، فالمعنى اجعل هذا بلدا موصوفا بالأمن، ويكون المطلوب الأمن، كما تقول مشيرا إلى ابنك اجعل هذا ابنا بارا، ويكون المراد وصفه بالبر، وقد أجاب الله سبحانه تضرعه، فجعله بيتا آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
4. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، الرزق الإعطاء والتمكين، ومن هنا للبعضية، أي ارزقهم بعض الثمرات فكان الطلب قانعا غير مسرف فيه، وكذلك شأن الذين لا يسرفون على أنفسهم، والثمرات ظاهرها أنه يكون مما تنبت الأرض، وقد أعطاه الله تعالى الثمرات في حدائق الطائف وغيرها من نخيل وأعناب، وأعطاهم ثمرات التجارة، فكانت مكة موطن الاتجار في الجزيرة العربية، وكانت مزار العرب في الحج، وقد كان ذلك إجابة لإبراهيم خليل الله تعالى إذ قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم]
5. في هذه الآية طلب أن تهوى إليهم أفئدة الناس، فيقدموا على الحج، وطلب أن يعطيهم من الثمرات، كما طلب في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها السامي وطلب الثمرات لا يتنافى مع أنها غير ذات زرع؛ لأن الثمرات من الأشجار لا من الزرع وقد رزقهم النخيل والأعناب، والفاكهة والرمان، وغيره مما ينبت في الصحراء.
6. خص خليل الله تعالى المؤمنين من ذريته بهذا الدعاء، فقال: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بدل اشتمال من أهله فكان الطلب لهؤلاء فقط، وذلك لأن الله تعالى رد طلبه بتخصيص غير الظالمين بالنسبة للإمامة، إذ قال تعالى بعد إتمام الكلمات التي اختبره الله تعالى بها: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ فرد الله تعالى طلبه بقوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فظن نبيّ الله تعالى أن الرزق يكون للمؤمنين فقط كالإمامة، فبين الله تعالى أن الرزق يعم والإمامة خاصة بالعادلين غير المشركين؛ ولذلك قال تعالى ردا لخليله: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي أن الرزق يعم، البريء والسقيم، والعادل والظالم، والمؤمن والكافر، بخلاف الإمامة التي تكون من الله تعالى، فلا تكون إلا لمؤمن عادل، ولقد قال تعالى في سورة الزخرف: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف].
7. ذلك ليس للمحبة ولا للرضا عن كفره، ولكنه لاستدراجه إذا لم يرشد ويهتد كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف] ولذا قال سبحانه، بعد أن نبه خليله إبراهيم إلى أنه يرزق الكافر: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ أي أعطيه المتعة أمدا قليلا، وهو ما يكون في الدنيا، والدنيا مهما طالت أمد قليل بالنسبة للآخرة التي هي الباقية الخالدة، وعذابها خالد، ونعيمها مقيم، ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ والعطف بثم هنا، للدلالة على تفاوت ما أعطاه من رزق وما ادخره من عذاب، واضطره معناها ألجئه وأسوقه إلى جهنم سوقا، كما قال: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور] أي يدفعون دفعا، وكما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر]، وبذلك ينالهم عذاب الحرمان، والإلجاء إلى جهنم فاقدى الاختيار؛ لأنه جزاء وفاقا لما قدموا، والثاني النار الدائمة كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، جنبنا الله عقابه، وغفر الله لنا، وكتب ثوابه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/401.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، هذا دعاء ورجاء من ابراهيم الى الله أن يجعل مكة المكرمة من الأمكنة الآمنة، أي يأمن أهلها من الغزاة والجبابرة، ومن الزلازل والعواصف، ونحو ذلك، وقال جماعة من المفسرين: ان الله قد استجاب دعاء ابراهيم، حيث لم يقصد أحد مكة بسوء إلا قصم الله ظهره، ومن تعدى عليها لم يطل زمن تعديه.
2. ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، لما بنى ابراهيم البيت في أرض مقفرة لا ماء فيها ولا كلأ دعا الله سبحانه لهذه الأرض بالأمن والأمان، وبأن تجبى اليها الأرزاق، ولم يعين نوعها، ولا أرضها، إذ المهم وصول الرزق كيف كان، ومن أين كان.
3. استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام فجبي الرزق الى مكة من شتى الأنواع والأقطار، وكانت ممرا للقوافل، ومقرا للتجارة.. وإلى هذا أشارت الآية 57 من القصص: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وإنما خص ابراهيم طلب الرزق للمؤمنين فقط، لأن الله كان قد أعلمه ان في ذريته قوما ظالمين، وانه سبحانه لا يعهد بالإمامة الى من ظلم.
4. ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾، أي قال الله لإبراهيم: اني أرزق أيضا الكافرين، وبالأولى الفاسقين، لأن الرزق شيء، والامامة شيء آخر، فان الإمامة سلطة دينية وزمنية، وهذه تستدعي الإيمان والعدالة، بل العصمة: أما الرزق فيكون للبر والفاجر، تماما كالماء والهواء.. والذنوب والمعاصي لا تأثير لها في الأعمار والأرزاق في هذه الحياة، وإنما يظهر تأثيرها غدا يوم القيامة، حيث يلاقي العصاة جزاء أعمالهم.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/200.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ﴾، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة والرزق وقد أجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغا به لاغ جاهل، وقد قال تعالى: ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾
2. نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها وسألها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسألته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسألته بعثة النبي من ذريته، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.
3. ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾، لما سأل عليه السلام لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهله أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعاؤه للأهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرأ من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾، فشهد تعالى له بالبراءة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم ـ وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية ـ غير أنه خص مسألته ـ والله أعلم ـ بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فأجيب عليه السلام بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل: وارزق من آمن من أهله من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولولا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلا يسكنونه.
4. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾، قرئ فأمتعه من باب الإفعال والتفعيل والإمتاع والتمتيع بمعنى واحد.
5. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ إلخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت وتطييب لنفس إبراهيم عليه السلام، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، وإنما ذلك إكرام لهذا البلد، وإجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، وبئس المصير.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/282.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. {و} اذكروا يا بني إسرائيل {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا} أي الحرم: حرم الكعبة، أو الإشارة إليه وإلى ما حوله ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أراد عليه السلام: أن يتمكنوا من البقاء حول البيت ليقيموا الصلاة ولا يضطرهم الجوع إلى المغادرة لذلك الوادي الذي ليس بذي زرع.
2. ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فالرزق في هذه الدنيا للمؤمن والكافر، وقد أجيبت دعوة إبراهيم، وصار في مكة المركز الديني مركز بني إسماعيل على دين إبراهيم وإسماعيل، خلاف مركز بني إسرائيل، فلم تكن اليهودية ولا النصرانية من ضروريات دين الله.
3. دعوة إبراهيم ربه أن يجعل ﴿هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ معناها: طلب جعله كذلك بقدرة الله وفعله، وإعداد قلوب الناس لذلك لا مجرد الحكم التشريعي.. ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص:57] فهو أمرٌ استمر في عهد الجاهلية حتى في عهد الشرك.
4. ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ ظاهره: أنه تعالى يلجيه إلى عذاب النار كإلجاء السجين لدخول السجن، وهو السّوق المذكور في قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر:71] فيظهر أنهم يمشون إلى جهنم لعنف السوق وهيبة السائق، ولعل من الاضطرار ما روي فيه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما معناه: أنه يبلغ بهم التوبيخ والتخزية على رؤوس الأشهاد أن يتمنوا أنهم سورع بهم إلى النار.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/186.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يثير القرآن أمامنا تطلّعات إبراهيم عليه السلام المستقبلية، فهو لا يريد لعمله هذا أن يظلّ في نطاق هذا البناء المتمثّل بالكعبة، بل يريد له أن يتحول إلى بلد واسع كقاعدة بشريّة للسلام، ولهذا نجده يدعو الله أن يجعله بلدا آمنا يجتمع فيه المؤمنون بالله حول هذا البيت، فيلتقون على طاعة الله وعبادته، وتمتد بهم الحياة في مجتمع إنساني آمن، ويفكر فيهم كيف يعيشون في هذا الجو الذي لا ينبت الزرع ولا يقدّم للإنسان أيّ شروط من شروط الحياة الكريمة، فيلجأ إلى الله لكي يرزق أهله من المؤمنين الثمرات، أمّا الكافرون فلم يلتفت إليهم ولم يشعر بضرورة الاهتمام بهم، لأنه لا يريد لهم أن يعيشوا في أجواء هذا البيت، خوفا من أن يشوّهوا روحيته ويعطلوا دوره، ولأنه لا يجد أيّ أساس للاهتمام بالكافرين الذين يكفرون بنعمة الله ويجحدونها ويفسدون في الأرض، فتركهم لله، فهو الذي خلقهم، وهو أعلم بما تقتضيه الحكمة في ذلك كله.
2. يستجيب الله دعاءه كما توحي هذه الآيات، فقد تحدّث الله عن الكافرين الذين لم يذكرهم إبراهيم في دعائه، فأراد الله أن يكمّل الصورة، فأوحى إليه أنه لا يستثني الكافرين من متع الحياة الدنيا، لأن عطاءه لا يختص بأحد دون أحد في الدنيا، فهو يعطي الكافرين كما يعطي المؤمنين، لأن العطاء في الدنيا لا ينطلق من فكرة الثواب والتكريم، بل ينطلق من الإمداد للكافرين، والبلاء للمؤمنين، ولكن الدار الآخرة هي التي يختص فيها المؤمنون برحمة الله ولطفه ورضوانه، بينما يقف الكافرون هناك ليضطرّهم إلى عذاب النار، وبئس المصير، جزاء لكفرهم وجحودهم، ولم يتحدث عن المؤمنين إيذانا بأنّ دعاء إبراهيم قد صادف موقعه.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/23.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآية توجّه إبراهيم عليه السلام إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشار إلى أحدهما في الآية السّابقة، القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾، واستجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض المقدسة مركزا آمنا بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.
2. الطلب الآخر هو: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، وهكذا يطلب إبراهيم (الأمن) أوّلا، ثم (المواهب الاقتصادية)، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلّا بعد الأمن الكامل.
3. للمفسرين آراء عديدة في معنى (الثّمرات)، ويبدو أن معناها واسع يشمل النعم المادية والنعم المعنوية، وعن الإمام الصادق عليه السّلام: (هي ثمرات القلوب) إشارة إلى جعل قلوب النّاس تهوي إلى هذه الأرض.
4. إبراهيم عليه السلام في دعائه اقتصر على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعل ذلك كان بعد أن قال له الله سبحانه: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ففهم أن مجموعة من ذريّته سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم في دعائه.
5. استجاب الله تعالى لإبراهيم طلبه الثاني أيضا، ولكنه ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا﴾ في الدّنيا، ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ في الحياة الآخرة.. هذه في الواقع صفة (الرحمانية) وهي الرحمة العامة للباري تعالى التي تشمل كل المخلوقات، صالحهم وطالحهم في الدنيا، أما الآخرة فهي عالم رحمته الخاصة التي لا ينالها إلّا من آمن وعمل صالحا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/381.
55. دعاء إبراهيم وإسماعيل والهداية
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈55⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 127 ـ 129]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
كعب:
روي عن كعب الأحبار (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: شكت الكعبة إلى ربها، وبكت إليه، فقالت: أي رب، قل زواري، وجفاني الناس، فقال الله لها: إني محدث لك إنجيلا، وجاعل لك زوارا يحنون إليك حنين الحمامة إلى بيضاتها(1).
2. روي عن جابر الجزري: جلس كعب الأحبار أو سلمان الفارسي بفناء البيت، فقال: شكت الكعبة إلى ربها ما نصب حولها من الأصنام، وما استقسم به من الأزلام، فأوحى الله إليها: إني منزل نورا، وخالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه، ويدفون إليك دفيف النسور، فقال له قائل: وهل لها لسان؟ قال نعم، وأذنان وشفتان(2).
__________
(1) البيهقي: ٤٠٠١.
(2) الأزرقي: ١/٢٥١.
علي:
ذكر الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال قد فعلت، أي رب، فأرنا مناسكنا؛ أبرزها لنا، علمناها، فبعث الله جبريل، فحج به(1).
2. روي أن رجلا قال له: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال لا، ولكنه أول بيت وضع للناس فيه البركة والهدى ومقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، ثم حدث: أن إبراهيم لما أمر ببناء البيت ضاق به ذرعا، فلم يدر كيف يبنيه، فأرسل الله إليه السكينة؛ وهي ريح خجوج، ولها رأسان، فتطوقت له على موضع البيت كالحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فبنى إبراهيم، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل: اذهب فالتمس لي حجرا أضعه ههنا، فذهب إسماعيل يطوف في الجبال، فنزل جبريل بالحجر، فوضعه، فجاء إسماعيل، فقال: من أين هذا الحجر؟ قال جاء به من لم يتكل على بنائي ولا بنائك، فلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم انهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم، فبنته جرهم، ثم انهدم، فبنته قريش، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر تشاحوا في وضعه، فقالوا: أول من يخرج من هذا الباب فهو يضعه، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل باب بني شيبة، فأمر بثوب، فبسط، فأخذ الحجر فوضعه في وسطه، وأمر من كل فخذ من أفخاذ قريش رجلا يأخذ بناحية الثوب، فرفعوه، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيده، فوضعه في موضعه(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٦٩.
(2) الحاكم: ١/٦٢٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾ القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك(1).
2. روي أنه قال: القواعد: أساس البيت(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ قاما يرفعان القواعد من البيت، ويقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني(3).
4. روي أنه قال: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء(4).
5. روي أنه قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِم﴾ يعني بالزكاة: طاعة الله، والإخلاص(5).
6. روي أنه قال: ﴿الْعَزِيزِ﴾ الذي لا يوجد مثله(6).
7. روي أنه قال: إن إبراهيم لما أري المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، فسبقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أراه منى، فقال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به جمرة الوسطى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به جمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعا، فقال: هذا المشعر، ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ قال نعم، ولذلك سميت: عرفة، أتدري كيف كانت التلبية؟ إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج؛ أمرت الجبال فخفضت رؤوسها، ورفعت له القرى، فأذن في الناس بالحج(7).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٥٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٣١.
(3) ابن جرير: ٢/٥٥٧.
(4) ابن جرير: ٢/٥٦٥.
(5) ابن جرير: ٢/٥٧٧.
(6) تفسير الثعلبي: ١/٢٧٦.
(7) الطيالسي: ٢٨٢٠.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا(1).
__________
(1) البزار كما في: كشف الأستار،: 1177.
ابن العاص:
روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر، وحواء تنقل، حتى أجابه الماء، نودي من تحته: حسبك، يا آدم، فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه)(1).
__________
(1) البيهقي في الدلائل: ٢/٤٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم﴾، يعني: أمة محمد، فقيل له: قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان(1).
2. روي أنه قال: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ عزيز في نقمته إذا انتقم، حكيم في أمره(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٦.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٨.
السجاد:
ذكر الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال: أن رجلا سأله: ما بدء هذا الطواف بهذا البيت؟ لم كان؟ وأنى كان؟ وحيث كان؟ فقال: أما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تعالى قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، فقالت: أي رب، أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها، ويسفك الدماء، ويتحاسدون، ويتباغضون، ويتباغون؟ أي رب، اجعل ذلك الخليفة منا؛ فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]، قال فظنت الملائكة أن ما قالوا رد على ربهم تعالى، وأنه قد غضب عليهم من قولهم؛ فلاذوا بالعرش، ورفعوا رؤوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون؛ إشفاقا لغضبه، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر الله إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله سبحانه تحت العرش بيتا على أربع أساطين من زبرجد، وغشاهن بياقوتة حمراء، وسمى البيت: الضراح، ثم قال الله للملائكة: طوفوا بهذا البيت، ودعوا العرش، فطافت الملائكة بالبيت، وتركوا العرش، فصار أهون عليهم، وهو البيت المعمور الذي ذكره الله، يدخله كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدا؛ ثم إن الله تعالى بعث ملائكته، فقال: ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره، فأمر الله سبحانه من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما تطوف أهل السماء بالبيت المعمور(1).
__________
(1) الأزرقي في فضائل مكة: ١/٤.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، يعني: عالم بها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال إبراهيم: ربنا أرنا مناسكنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيده، فذهب به حتى أتى به البيت: ارفع القواعد، فرفع إبراهيم القواعد، وأتم البنيان، فذهب به إلى الصفا، فقال: هذا من شعائر الله، ثم ذهب به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم أخذ بيده، فذهب به نحو منى، فإذا هو بإبليس عند العقبة، عند الشجرة، فقال له جبريل: كبر، وارمه، فكبر، ورمى، فذهب إبليس حتى قام عند الجمرة الوسطى، فحاذى به جبريل وإبراهيم، فقال جبريل: كبر، وارمه، فكبر، ورمى، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة القصوى، فقال له جبريل: كبر، وارمه، فكبر، ورمى، فذهب إبليس، وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع، فذهب حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات، فقال: هذه عرفات، قد عرفت ما أريتك؟ قال نعم ـ ثلاث مرات ـ، قال فأذن في الناس بالحج، قال وكيف أؤذن؟ قال قل: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم ـ ثلاث مرات ـ، فأجاب العباد: لبيك اللهم ربنا لبيك ـ مرتين ـ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج(1).
2. روي أنه قال: قال الله لإبراهيم عليه السلام: قم، فابن لي بيتا، قال أي رب، أين؟ قال سأخبرك، فبعث الله إليه سحابة لها رأس، فقالت: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تخط قدر هذه السحابة، قال فجعل إبراهيم ينظر إلى السحابة ويخط، فقال الرأس: قد فعلت؟ قال نعم، فارتفعت السحابة، فحفر إبراهيم، فأبرز عن أساس ثابت من الأرض، فبنى إبراهيم، فلما فرغ قال أي رب، قد فعلت، فأرنا مناسكنا، فبعث الله إليه جبريل يحج به، حتى إذا جاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له جبريل: احصب، فحصب بسبع حصيات، ثم الغد، ثم الغد، ثم اليوم الرابع، ثم قال اعل ثبيرا، فعلا ثبيرا، فقال: أي عباد الله، أجيبوا، أي عباد الله، أطيعوا الله، فسمع دعوته ما بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، أطعناك، اللهم أطعناك، وهي التي آتى الله إبراهيم في المناسك: لبيك اللهم لبيك، ولم يزل على الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها(2).
3. روي أنه قال: الحكمة فهم القرآن(3).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٢٢٠.
(2) الدرّ المنثور: الجندي.
(3) تفسير الثعلبي: ١/٢٧٦.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: قال قال إبراهيم: تجعلنا مسلمين لك؟ قال الله: نعم، قال إبراهيم: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾؟ فقال الله: نعم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٤.
أبو مجلز:
روي عن لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ لما فرغ من البيت جاءه جبريل عليه السلام، فأراه الطواف بالبيت ـ وأحسبه قال والصفا والمروة ـ، ثم انطلقا إلى العقبة، فعرض لهما الشيطان، قال فأخذ جبريل عليه السلام سبع حصيات، وأعطى إبراهيم عليه السلام سبع حصيات، فرمى، وكبر، وقال لإبراهيم: ارم، وكبر، قال فرميا، وكبرا مع كل رمية، حتى أفل الشيطان، ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل عليه السلام سبع حصيات، وأعطى إبراهيم عليه السلام سبع حصيات، فرميا، وكبرا مع كل رمية، حتى أفل الشيطان، ثم أتيا الجمرة القصوى، قال فعرض لهما الشيطان، قال فأخذ جبريل عليه السلام سبع حصيات، وأعطى إبراهيم عليه السلام سبع حصيات، وقال: ارم، وكبر، فرميا، وكبرا مع كل رمية، حتى أفل الشيطان، ثم أتى به إلى منى، فقال: ههنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعا، فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة، ثم أتى به عرفات، فقال: عرفت؟ قال نعم، قال فمن ثم سميت: عرفات(1).
__________
(1) عبد بن حميد ـ كما في فتح الباري: ٣/٤٤٠.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: وكان إسماعيل يقول وهما يبنيانه: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، فتقبل منهما(1).
2. روي أنه قال: إن جبريل أرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المناسك كلها، ولكنه أصل عن إبراهيم عليه السلام(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الكتاب: القرآن(3).
4. روي أنه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمة: حكمة السنة(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٣.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٧٩.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٦.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٧.
الباقر:
ذكر الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (إن الله عز وجل أمر إبراهيم ببناء الكعبة، وأن يرفع قواعدها ويري الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت كل يوم سافا حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، فنادى أبو قبيس إبراهيم: أن لك عندي وديعة فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه، ثم إن إبراهيم أذن في الناس بالحج، فقال: أيها الناس، إني إبراهيم خليل الله، وإن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة، وكان أول من أجابه من أهل اليمن، وحج إبراهيم هو وأهله وولده)(1).
2. روي أنّه قال: جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يجرون دلاء من زمزم، فقال: نعم العمل الذي أنتم عليه، لولا أني أخشى أن تغلبوا عليه لجررت معكم، انزعوا دلوا، فتناوله فشرب منه(2).
__________
(1) الكافي: 4/205.
(2) علل الشرائع: 599/50.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ التي كانت قواعد البيت قبل ذلك(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أراهما الله مناسكهما؛ الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمة: السنة، قال ففعل ذلك بهم؛ بعث فيهم رسولا منهم، يعرفون اسمه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم(3).
__________
(1) الأزرقي في تاريخ مكة: ١/١١٠.
(2) عبد الرزاق: ١/٥٩.
(3) ابن جرير: ٢/٥٧٤.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ فالقواعد: الأساس.. والواحدة قاعدة،(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ معناه علّمنا مناسكنا،(1).
3. روي أنه قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ معناه يطهرهم.. وقال في سورة أخرى: ﴿نَفْسًا زَكِيَّةً﴾ معناه مطهّرة،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 91.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: بنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم﴾(1).
2. روي أنه قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي، فقال: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧]، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تحجوا بيته، قال فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل شيء سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك لبيك، فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، وأتاه من أتاه، فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها، فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان، فرده، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، فطار، فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده، فرماه، وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه، وكبر، فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب؛ انطلق حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي: ذا المجاز، ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال قد عرفت، فسميت: عرفات، فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت: المزدلفة، فوقف بجمع، ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة، فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره، وذلك قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٥٧.
(2) ابن جرير: ٢/٥٦٧.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنه قال: الحكمة: العقل في الدين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم﴾، هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقيل له: قد استجبت لك، وهو في آخر الزمان(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٧٥.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنه قال: ﴿الْعَزِيزِ﴾ المنتقم ممن يشاء(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٧٦.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: إن قريشا في الجاهلية هدموا البيت فلما أرادوا بناءه حيل بينهم وبينه، وألقي في روعهم الرعب، حتى قال قائل منهم: ليأتي كل رجل منكم بأطيب ماله، ولا تأتوا بمال اكتسبتموه من قطيعة رحم أو حرام، ففعلوا فخلي بينهم وبين بنائه فبنوه حتى انتهوا إلى موضع الحجر الأسود فتشاجروا فيه أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه حتى كاد أن يكون بينهم شر فحكموا أول من يدخل من باب المسجد، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما أتاهم أمر بثوب فبسط ثم وضع الحجر في وسطه ثم أخذت القبائل بجوانب الثوب فرفعوه، ثم تناوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فوضعه في موضعه، فخصه الله به(1).
2. روي أنه قال: إنما هدمت قريش الكعبة لأن السيل كان يأتيهم من أعلى مكة فيدخلها فانصدعت، وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه جوهر وكان حائطها قصيرا، وكان ذلك قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاثين سنة، فأرادات قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرضها، ثم أشفقوا من ذلك وخافوا إن وضعوا فيها المعاول أن ينزل عليهم عقوبة، فقال الوليد بن المغيرة: دعوني أبدأ فإن كان لله رضا لم يصبني شيء، وإن كان غير ذلك كففنا، وصعد على الكعبة وحرك منه حجرا فخرجت عليه حية وانكسفت الشمس، فلما رأوا ذلك بكوا وتضرعوا، وقالوا: اللهم إنا لا نريد الا الإصلاح، فغابت عنهم الحية، فهدموه ونحوا حجارته حوله حتى بلغوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام، فلما أرادوا أن يزيدوا في عرضه وحركوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام أصابتهم زلزلة شديدة وظلمة فكفوا عنه، وكان بنيان إبراهيم الطول ثلاثون ذراعا، والعرض اثنان وعشرون ذراعا، والسمك تسعة أذرع، فقالت قريش: نزيد في سمكها فبنوها فلما بلغ البناء إلى موضع الحجر الأسود تشاجرت قريش في وضعه، وقالت كل قبيلة: نحن أولى به نحن نضعه، فلما كثر بينهم تراضوا بقضاء من يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: هذا الأمين قد جاء فحكموه فبسط رداءه، ووضع الحجر فيه، ثم قال يأتي من كل ربع من قريش رجل، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس، والأسود بن المطلب من بنى أسد بن عبد العزى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بنى مخزوم، وقيس بن عدي من بنى سهم، فرفعوه ووضعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في موضعه، وقد كان بعث ملك الروم بسفينة فيها سقوف وآلات وخشب وقوم من الفعلة إلى الحبشة ليبني له هناك بيعة فطرحتها الريح إلى ساحل الشريعة، فبطحت، فبلغ قريشا خبرها فخرجوا إلى الساحل فوجدوا ما يصلح للكعبة من خشب وزينة وغير ذلك فابتاعوه، وصاروا به إلى مكة، فوافق ذلك ذرع الخشب البناء ما خلا الحجر، فلما بنوها كسوها الوصائد، وهي الأردية(2).
3. روي أنه قال: ساهم رسول الله قريشا في بناء البيت فصار لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من باب الكعبة إلى النصف ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود(3).
__________
(1) الكافي: 4/217/3.
(2) الكافي: 4/218/5.
(3) الكافي: 4/219/5.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يُزَكِّيهِم﴾ يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه(1).
2. روي أنّه قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ مذابحنا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٧٧.
(2) ابن جرير: ٢/٥٦٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: فلما فرغا من بناء البيت قالا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ يعني: بناء هذا البيت الحرام؛ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لدعائهما، ربنا تقبل منا(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ يعني: علمنا مناسكنا، نظيرها: ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥]، يعني: بما علمك الله، ونظيرها: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٤٢، التوبة: ١٦]، يعني: يرى الله، ونظيرها أيضا: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [سبأ: ٦] يعني: ويعلم، ونظيرها: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، يعني: وليرين الله، ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣]، يعني: ويرى، ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ فنصلي لك، ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ يعني إبراهيم وإسماعيل: أنفسهما، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ففعل الله تعالى ذلك به، فنزل جبريل عليه السلام، فانطلق بإبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل ربه، فلما أراه الله المناسك والمشاعر علم أن الله تعالى سيجعل في ذريتهما أمة مسلمة(2).
3. روي أنه قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾، يعني: يقرأ عليهم آيات القرآن(2).
4. روي أنه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن(2).
5. روي أنه قال: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾، يعني: المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام(2).
6. روي أنه قال: ﴿وَيُزَكِّيهِم﴾، يعني: ويطهرهم من الشرك والكفر(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٣٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٣٩.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يعلمهم الخير والشر؛ ليعرفوا الخير فيعملوا، والشر فيتقوه، ويخبركم برضائه عنكم إذا أطعتموه؛ لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الْعَزِيزِ﴾ في نصرته ممن كفر به إذا شاء، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في عذره وحجته إلى عباده(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٧.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنه قال: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمة: الدين الذي لا يعرفونها إلا به صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعلمهم إياها، قال والحكمة: العقل في الدين، وقرأ: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩]، وقال لعيسى: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ٤٨]، قال وقرأ ابن زيد: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٧٥]، قال لم ينتفع بالآيات حين لم تكن معها حكمة، قال والحكمة: شيء يجعله الله في القلب ينوره له به(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٧٦.
ابن وهب:
روي عن عبد الله بن وهب (ت 197 هـ) أنّه قال: قلت لمالك بن أنس: ما الحكمة؟ قال المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٧٦.
عيينة:
روي عن سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، سألا القبول، وتخوفا أن يكون منه شيء لا يتقبل منهما(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٢/٦١٥.
الناصر للحق:
ذكر الإمام الناصر للحق (ت 304 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كذلك قد غلطت المجبرة في قول الله سبحانه: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، فقولنا في ذلك: إنه لا يكون أحد مسلما حتى يجعله الله سبحانه كذلك بما يعلمه إياه، فيقبله عنه، والله جل جلاله فلا يجبر أحدا على طاعته، ولا على معصيته، ولا يضطر عباده الى الإسلام؛ يدل على ذلك قوله: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، وقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾؛ ولكن لقول الله جل ذكره تأويل غير إجبار ولا اضطرار لعباده إلى طاعته، واكراه لهم على ما يحبه، وهو: أن احدا لا يعمل شيئا من الإيمان إلا بأمر الله وترغيبه، ولا يزدجر عن معاصيه وما نهى عنه إلا بترهيبه، بعد تقويته على ما أمر به، وعلى ترك ما نهي عنه، ومحمود خواطر يتلطف بها لمن أطاعه، فمن رغب وقبل عن الله وأسلم فقد جعله الله مسلما مؤمنا، ثم يزداد إيمانا وخيرا، فيكون الله هو الجاعل له كذلك.
2. أراد: إبراهيم وإسماعيل بقولهما: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، أي: فيما بقي من أعمارنا، واجعل {من ذريتنا أمة مسلمة لك}، عند البلوغ بالأمر والنهي والتعليم لهم.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/67.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ أمرا برفع البيت وببنائه؛ ففعلا، ثم سألا ربهما: أن يتقبل منهما، فهكذا الواجب على كل مأمور بعبادة، أو قربة ـ إذا فرغ منها، وأداها ـ أن يتضرع إلى الله، ويبتهل؛ ليقبل منه، وألا يرد عليه؛ ليضيع سعيه.
2. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لدعائهم، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما نووا وأضمروا.
3. والإسلام في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ يتوجه إلى وجوه:
أ. أحدها: هو الخضوع له والتذلل.
ب. الثاني: هو الإخلاص.
4. اختلف أهل الكلام في الإسلام:
أ. قال بعضهم: إنه يتجدد في كل وقت؛ لذلك سألوا ذلك، وهو كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 136] معناه: آمنوا بالله في حادث الوقت؛ لأنه تارك فعل الكفر في كل وقت؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان، وعلى ذلك: يخرج تأويلنا في الزيادة بقولهم: زادتهم إيمانا يتجدد له، ويزداد في حادث الوقت.
ب. وقال آخرون: كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام، وقد ذكرنا أن العصمة لا ترفع خوف الزوال.
5. مثل هذا: الدعاء والسؤال ـ على قول المعتزلة ـ يكون عبثا؛ لأنه لا يملك إعطاء ما سألوا عندهم، بل هم الذين يملكون ذلك، فيخرج السؤال في هذا ـ عندهم ـ مخرج اللعب والعبث، فنعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الهدى.
6. الإيمان: هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكون، أو حال حركة.
7. قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ يحتمل أن الأمة المسلمة هي أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وذلك: أنّه لم يكن من أولاد إسماعيل رسول سوى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألا: أن يجعل من ذريتهما رسولا، وأمة مسلمة، خالصة له، وإنما الرسل كانوا من أولاد إسحاق ومن نسله.
8. قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ يريد الإراءة إلى يوم القيامة، يدل عليه قراءة عبد الله: (وأرهم مناسكهم)، وفى قراءة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه، والمنسك: هو القربة، وأَفعالُ الحج سميت مناسكًا:
أ. لا يحتمل: أن يسألا ذلك، من غير أَمر سبق منه عَزَّ وَجَلَّ بذلك؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال: إِيجاب فضل عبادة، أَو قربة بغير أَمر؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أمر، لكنه لم يبين لهما، فسألا: تعليم ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك، ففيه: دلالة تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم.
ب. وقيل: أن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم عليه السلام فدل أن الأمر به قد سبق.
ج. وقيل: قوله تعالى في نفس الحج: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، ثم لا يحتمل: لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج؛ لما لم يأمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض، لكنها أوجبت شكرا لما أنعم عليه؛ فدل أن الحج كان واجبا قبل الخروج، وقد تأخر الإمكان؛ فمثله البيان.
9. احتج بقوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أن ظاهره يوجب خضوعا، لزم به ما أداه السمع على تأخر ما بينه، وكذلك الزكاة، وكذا ظاهر قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]، واحتج أيضا بقول القائل وسؤاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أوقات الصلاة ففعله في يومين، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال، لكنه أخر؛ فدل أن البيان يجوز تأخره عن وقت قرع الخطاب السمع.. ثم في تأخير البيان محنة المخاطب به، أمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب.
10. ذكر في أمر الحج ـ عند كل نسك من المناسك ـ معانى لها، لكنها ذكرت لأحوال كانت في شأن آدم وأمر إبراهيم، وأمر محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد كان الحج قبلهم.
11. ذكر في أمر الرّمل أنه كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه؛ ليعلم به قوتهم؛ حتى قال عمر: (علام أهز كتفي، وليس أحد إزاءه!؟ لكنى أتبع رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو كما قال.. وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام: أنه رمل، ولم يكن في وقته من كان الفعل لأجله، وكذلك غيره من الأنبياء، صلى الله عليهم وسلم، إلا أنّا نقول: جعل الله كذلك؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكا، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارنا له في كل وقت، على ما قيل: (إن صلة الرحم تزيد في العمر) ـ بمعنى جعل الله أجله ذلك بما علم أنه يصل الرحم ـ فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك. وكما يكتب شقيّا أو سعيدا في الأزل للوقت الذي فيه يكون كذلك، ونحو ذلك(2)..
12. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ دل سؤال التوبة:
أ. أن الأنبياء عليهم السلام قد يكون منهم الزلات والعثرات، على غير قصد منهم.
ب. أن العبد قد يسأل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها؛ لأنهم سألوا التوبة مجملا، ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه؛ فدل سؤالهم التوبة مجملا على أن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.
13. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾: من المسلمين؛ لأنه أخبر أن عهده لا يناله الظالم.
ب. ويحتمل ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾: من جنسهم، من البشر؛ لأنه أقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ الآية [الأنعام: 9].
ج. ويحتمل ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾: أي من قومهم، ومن جنسهم، وبلسانهم، لا من غيرهم، ولا بغير لسانهم ـ والله أعلم ـ كقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 128].
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾:
أ. قيل: الآيات هي الحجج.
ب. وقيل: الآيات هي الدين.
ج. ويحتمل: يدعوهم إلى توحيدك، والله أعلم.
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعنى القرآن: ما أمرهم به، ونهاهم عنه، ونحو ذلك.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: الفقه، يقول: يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه.
ب. وقيل: الحكمة ما فيه من الأحكام من الحلال والحرام.
ج. وقيل: الحكمة: هي السنة هاهنا.
د. وقيل: الحكمة: هي الإصابة، وبعض هذا قريب من بعض.
هـ. وقال الحسن: الحكمة: هي القرآن؛ أعاد القول به، يعنى تكرارا.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قال ابن عباس: يأخذ زكاة أموالهم ـ فذلك يزكيهم ـ كقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103].
ب. وقيل: يزكيهم إلى ما به زكاة أنفسهم.
ج. وقيل: يزكيهم بعمل الصالح.
17. سؤال وإشكال: أليس الله ـ عزّ وجل ـ أضاف التزكية والهداية إلى رسوله، ولم يكن منه ـ حقيقة ـ فعل التزكية والهداية، ولا خلق ذلك منه ـ كيف لا قلتم أيضا ـ فيما أضاف ذلك إلى نفسه: أن ليس فيه منه خلق ذلك، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان، على ما لم يكن في إضافة ذلك إلى رسوله سوى الدعاء والبيان!؟ والجواب: كذلك على ما قلتم: أنه أضاف ذلك إلى رسوله بقوله: ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾ [التوبة: 103]، وبقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، وقوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، غير أنه جعل إلى نفسه فضل هداية، لم يجعل ذلك لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأثبت زيادة تزكية، لم يثبت ذلك لرسوله عليه السلام؛ كقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، وكقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 21]، فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على: أنّ له فضل فعل، ليس ذلك لرسوله، وهو خلق فعل الاهتداء، وفعل التزكية.
18. الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يحتمل أن يملك قدرة فعل أحد يقدره عليه لو أراده بما أقدرهم الله على الفعل، حتى قدروا؛ فجاز أن يكون له عليه قدرة، وفى تحقيقها جواز خلق ذلك له، ومثله في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يحتمل، ولا قوة إلا بالله.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾:
أ. قيل: أي لا شيء يعجزه، والعزيز بذاته، وكل شيء دونه غير عزيز، ذليل.
ب. وقيل: العزيز: المنيع.
ج. وقيل:على وحدانيته.
20. ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال: سميت العرفات عرفات؛ لما قيل له: عرفت، ومنى؛ لما قيل له: تمنّه، ورمى الجمار؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى.. فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب، وتنفر عنها الطباع:
أ. ألا ترى أنه ذكر في قصة آدم فعل ذلك جملة؛ فزال المعنى الذي ذكر في إبراهيم عليه السلام!؟
ب. ثم قد ذكر في الخبر أن الملائكة قالت لآدم: حججناها قبلك بألفي عام؛ فثبت أنهم قد فعلوا هذا كله.
ج. ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل، وهو أن الحج قصد لزيارة ذلك المكان؛ فأمر بمختلف الأفعال الواقع بها الزيارة، كالصلاة: إنها الخضوع لعينه؛ ولذلك أمر فيها بإحضار الأفعال المختلفة من حال الخضوع، ثم المرء قد يخضع مرة بالقيام، ومرة بالركوع، ومرة بالسجود، أمر بإحضار مختلف الأفعال التي فيها الزورة.
21. الصلاة تخالف الحج لأن أفعالها فعل المعاش أمر فيها بإحضار حالة تذكره الخضوع، والوقوف لله، مفرقا بين تلك الحالة وحالة المعاش؛ ولهذا تقضى في كل مكان، ثم أفعال الحج في ظاهرها إلى أفعال المعاش، وما إليه وقع القصد ـ لا عينها ـ غير أن فيه تكلف المعاش؛ ولهذا ما لا يقضى في كل مكان.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/565.
(2) ذكر هنا بعض المباحث المربتطة بمقاصد الشريعة نقلناها إلى محلها من السلسلة.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. معنى قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾: هي الأساس من البناء، وهو الموثر بلغة اليمن، ورفعهما لذلك يحتمل وجهين:
أ. إما أن يكون رفعاها: أي نزهاها وطهراها، وعظما قدرها.
ب. وإما أن يكونا رفعا بناها بعد ما انهدم، لأن البيت الحرام الذي هو الكعبة أول بيت من بيوت الله وضع للناس، فحج إليه آدم صلى الله عليه، ثم لا يؤمن أن يكون تهدم لطول الزمان والحوادث، والله أعلم وأحكم.
2. معنى قولهما: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾: أي علمنا يا رب معالم ديننا، وأصل النسك فيما قيل: هو الغسل والطهارة، ثم استعمل بعد ذلك فيما اشتهر من التطهر والتنزه والتقرب إلى الله عز وجل، قال الشاعر:
çولا تنبت المرعى سباخ عراعر... ولو نسكت بالماء ستة أشهرé
أي ولو طهرت وغسلت بالماء.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 278.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ وهما أول من بناه وكانا يصليان قبل بنائه إلى جهته وهما أول من حج البيت، والقواعد: جمع قاعدة وهي كالأساس.
2. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ والتقدير يقولان ربنا تقبل منا، كما قال ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد]، أي يقولون: سلام عليكم.
3. ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ على التثنية وقرئ (مسلمِين) على الجمع، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ قابلة لأوامرك منتهية عن زواجرك ومن أهل بيت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المطيع منهم البر التقي.
4. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي:
أ. عرفنا المناسك أي المعالم.
ب. وقيل: المناسك جمع منسك وهي الذبائح والنسيكة الذبيحة.
ج. وقيل: النسك العبادة والناسك العابد.
5. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يعني هذه الأمة.. رسولاً يعني محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم وسأل نفر من الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: خبرنا عن نفسك فقال: (أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى)
6. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ تتلو عليهم آياتك:
أ. أي يقرأ عليهم حجتك.
ب. ويحتمل وجهاً ثانياً وهو معناه يبين دينك.
7. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والكتاب القرآن والحكمة العلم بالدين والفقه ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/86.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيم، وهو أول من بناه مع إسماعيل، وأول من حجه، وإنما كانوا قبل يصلون نحوه، ولا يعرفون مكانه.
2. القواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها.
3. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ المعنى: يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يقولون سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربّنا تقبّل منّا.
4. تفسير ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾: اسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا.
5. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ على التثنية، وقرأ عوف الأعرابي: ﴿مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ على الجمع، ويقال: أنه لم يدع نبيّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سرا وجهرا.
6. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان:
أ. أحدهما: أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة والسدي.
ب. الثاني: أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عزّ وجل، وهذا قول مجاهد وعطاء.
7. المناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكا على وجهين:
أ. أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم إن لفلان منسكا، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها.
ب. الثاني: أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سمّي الزاهد ناسكا لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.
8. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ يعني في هذه الأمة ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل في قراءة أبيّ بن كعب ربّنا وابعث في آخرهم رسولا منهم، وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى.
في قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: يقرأ عليهم حجتك.
ب. الثاني: يبين لهم دينك.
9. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني القرآن.
10. في قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنها السنة، وهو قول قتادة.
ب. الثاني: أنها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له، وهو قول ابن زيد.
11. في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه يطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان.
ب. الثاني: يزكيهم بدينه إذا اتبعوه فيكونون به عند الله أزكياء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/191.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الرفع والاعلاء، والإصعاد نظائر، ونقيض الرفع الوضع، ونقيض العلو: السفل، ونقيض الإصعاد الانزال تقول: رفع يرفع رفعا، وارتفع الشيء بنفسه، وبرق رافع: ساطع، والمرفوع: من سير الفرس، والبرذون دون الحضر، وفوق الموضوع، ويقال: إنه لحسن الموضوع، ويقال ارفع من دابتك، وقد رفع الرجل يرفع رفاعة، فهو رفيع والمرأة رفيعة، والحمار يرفع في عدوه ترفيعاً: إذا كان عدو بعضه ارفع من بعض، وكذلك لو أحدث شيئاً فرفعته: الاول فالأول، قلت رفعة ترفيعا، فالرفع نقيض الخفض في كل شيء، والرفعة نقيض الذلة، ورفعته الى السلطان رفعاً اي قربته اليه، وفي التنزيل ﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ اي مقربة،والمرفع كل شيء رفعت به شيئاً، فجعلته عليه، وأصل الباب الرفع: نقيض الخفض، تقول رفع رفعاً وارتفع ارتفاعاً، ورفع ترفيعاً، وترافعوا ترافعاً، وترفع ترفعاً، ورافعه مرافعة.
2. القواعد: واحدها قاعدة، قال الزجاج: أصله في اللغة الثبوت والاستقرار، فمن ذلك القاعدة من الجبل، وهي أصله، وقواعد البناء أساسه الذي بني عليه، واحدتها قاعدة، وامرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لا تزوج، ومنه قوله: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ وإذا لم تحمل المرأة، ولا النخلة، يقال: قد قعدت وهي قاعدة، وجمعها قواعد ايضاً، وتأويلها انها قد ثبتت على ترك الحمل، وإذا قعدت المرأة عن الحيض، فهي قاعد ايضاً بغير هاء ـ لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض وقد قعدت المرأة إذا كانت بأولاد لئام فهي قاعدة، والاقعاد ان يقعد الرجل عن الشيء البتة يقال: اقعد فهو مقعد اي أقعدته الزمانة، وللجارية ثدي مقعد إذا كان متمكناً لا ينكس وشهر ذي القعدة كانت العرب تقعد فيه عن القتال، والقعود ما يقتعد الراعي ويحمل عليه متاعه، وجمعه قعدان، وقعيد الإنسان جليسه، ومنه قوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ يعني الملكين، والقعيد كلما اتي من طائر أو ظبي، ويقال للئيم: قعد، والجبان: قاعد، لأنه قعد عن الحرب، وقعد اللئيم عن الكرم قال الحطيئة:
çدع المكارم لا ترحل لبغيتها...واقعد فإنك انت الطاعم الكاسيé
والقعدة في النسب أقرب القرابة إلى الأب أو الجد، والمقاعد مواضع العقود في الحرب، وغيرها، ومنه قوله: ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ وقعيدة الرجل امرأته القاعدة في بيته، وأصل الباب القعود، نقيض القيام، والقواعد والأساس والأركان نظائر.
3. موضع الجملة من قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ نصب بقول محذوف، فكأنه قال يقولان ربنا تقبل منا، واتصل بما قبله، لأنه من تمام الحال لان (يقولان) في موضع الحال.
4. قال ابن عباس معناه يقولان: ربنا، ومثله ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي يقولون ومثله {وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي يقولون، وقال بعضهم: هو شاذ تقديره يقول: ربنا، يرده الى إسماعيل وحده، ولا يعمل على ذلك لشذوذه.
5. قال أكثر المفسرين كالسدي وعبد بن عمير الليثي، واختاره الجبائي، وغيرهم: إن ابراهيم وإسماعيل معاً رفعا القواعد، وقال ابن عباس: كان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله، وقال بعض الشذاذ أن ابراهيم وحده رفعها وكان إسماعيل صغيراً ـ وهو ضعيف لأنه خلاف ظاهر اللفظ وخلاف اقوال المفسرين.
6. قال أكثر أهل العلم: أنهما رفعا البيت للعبادة لا للسكنى، بدلالة قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، واختلفوا هل كانت للبيت قواعد قبل إبراهيم أم لا:
أ. قال ابن عباس وعطا: قد كان آدم عليه السلام بناه ثم عفي أثره، فجدده ابراهيم، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقال مجاهد، وعمرو بن دينار: بل انشأه ابراهيم بأمر الله عز وجل إياه.
ج. وكان الحسن يقول: أول من حج البيت ابراهيم عليه السلام.
د. وقد روي في اخبارنا ان أول من حج البيت آدم عليه السلام، وذلك يدل على انه قد كان قبل ابراهيم، وإنما قال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لأنه لما ذكر الدعاء، اقتضى حينئذ ذكر ذلك، كأنه قال انك أنت السميع العليم بنا، وبما يصلحنا.
7. معنى قوله تعالى: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ اي اثبنا على عمله، وهو مشبه بتقبل الهدية في أصل اللغة، وروي عن محمد بن علي الباقر عليه السلام انه قال: (ان الله تعالى وضع تحت العرش اربع أساطين وسماه الصراح وهو البيت المعمور وقال للملائكة طوفوا به ثم بعث ملائكة، فقال ابنوا في الأرض بيتاً بمثاله، وقدره وامر من في الأرض ان يطوفوا بالبيت)، وقال ابو جعفر: إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، وكان أبوه يقول: وهما يبنيا البيت: ـ يا إسماعيل هابي ابن، اي اعطني حجراً، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبي هاك حجراً ـ وابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.
8. روي في الشواذ عن عوف بن الاعرابي انه قرأ ﴿مُسْلِمِينَ﴾ على الجمع.
9. إنما سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: ان يفعل لهما من الألطاف ما يتمسكان معه بالإسلام في مستقبل عمرهما، لان الإسلام كان حاصلا في وقت دعائهما، ويجري ذلك مجرى أحدنا، إذا أدب ولده وعرّضه لذلك حتى صار أديباً جاز أن يقال: جعل ولده أديباً وعكس ذلك إذا عرّضه للبلاء، والفساد، جاز ان يقال: جعله ظالماً محتالًا فاسداً، ويجوز ان يكونا قالا ذلك تعبداً كما قال تعالى: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾
10. الإسلام: هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع، والإقرار بجميع ما أوجب عليه، وهو والايمان واحد عندنا، وعند اكثر المرجئة والمعتزلة، وفي الناس من قال بينهما فرق، وليس ذلك بصحيح، لقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾
11. إنما خصّا بالدعوة بعض الذرية في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾:
أ. لان ﴿مِنَ﴾ للتبعيض من حيث أن الله تعالى: كان أعلمه أن في ذريتهما من لا ينال العهد، لكونه ظالماً، وهو الصحيح، وهو قول اكثر المفسرين.
ب. وقال السدي: إنما عينا بذلك العرب.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾:
أ. قيل: المناسك ها هنا المتعبدات قال الزجاج: كل متعبد منسك.
ب. وقال الجبائي: المناسك هي ما يتقرب به الى الله من الهدى، والذبح، وغير ذلك من اعمال الحج والعمرة.
ج. وقال قتادة: أراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والافاضة عن عرفات والافاضة من جمع ورمي الجمار حتى أكمل الله الدين، فهذا القول أقوى لأنه العرف في معنى المناسك.
د. وقال عطا: مناسكنا مذابحنا.
13. النسك في اللغة: العبادة، رجل ناسك عابد، وقد نسك نسكا، والنسك: الذبيحة يقال: من فعل كذا فعليه نسك، اي دم يهريقه، ومنه قوله: (او نسك) اي دم واسم تلك الذبيحة: النسيكة والموضع الذي يذبح فيه المناسك والمنسك هو النسك نفسه، قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾ ويقال: نسك ثوبه اي غسله وقال ابن دريد: النسك أصله ذبائح كانت تذبح في الجاهلية، والنسيكة: شاة كانوا يذبحونها في الحرم في الإسلام، ثم نسخ ذلك بالاضاحي قال الشاعر:
çوذا النصب المنصوب لا تنسكنه...ولا تعبد الشيطان والله فاعبداé
وأصل الباب العباد،ة وقيل: ان النسك الغسل، قال الشاعر:
çفلا ينبت المرعى سباخ عراعر...ولو نسكت بالماء ستة أشهرé
اي غسلت، ذكره الحسين بن علي المغربي، قال: وليس بمعروف.
14. قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: ان يكون من رؤية البصر.
ب. والآخر: أن يكون من رؤية القلب بمعنى أعلمنا، قال حطائط بن جعفر:
çاريني جوادا مات هزلا لعلني... ارى ما ترين أو بخيلا مخلداé
اي عرفني.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾:
أ. قيل: اي ارجع علينا بالرحمة والمغفرة، وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة، أو فعل القبيح عليهم، ومن ادعى ذلك، فقد أبطل.
ب. وقال قوم: معناه تب على ظلمة ذريتنا.
ج. وقيل: بل قالا: ذلك انقطاعا اليه تعالى تعبدا ليقتدي بهما فيه، وهو الذي نعتمده.
16. ﴿التَّوَّابُ﴾ القابل للتوبة ها هنا، وإذا وصف به العبد، فمعناه أنه فاعل التوبة دفعة بعد أخرى، فيفيد المبالغة، فعلى مذهبنا(2). إذا قلنا: قبل الله توبته اي تاب عليه معناه انه يستحق الثواب، وإذا قلنا: تاب العبد من كبيرة مع الاقامة على كبيرة أخرى معناه عند من أجاز ذلك انه رفع العقاب بها على تلك الكبيرة التي تاب منها، وعندنا أنه يستحق بها الثواب ايضاً.
17. في الآية دلالة على انه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة، لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يفارقان الإسلام، ولا يأتيان الكبيرة.
18. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الضمير في قوله ﴿فِيهِمْ﴾ راجع الى الامة المسلمة التي سأل الله ابراهيم من ذريته.
19. المعني بقوله: ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال أنا دعوة أبي ابراهيم وبشارة عيسى عليه السلام، يعني قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ وهو قول الحسن وقتادة والسدي وغيرهم من اهل العلم.
ب. ويدل على ذلك ايضاً، وان المراد به نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم دون الأنبياء الذين بعثهم الله من بني إسرائيل انه دعي بذلك لذريته الذين يكونون بمكة وما حولها على ما تضمنته الآية.
ج. وفي قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ ولم يبعث الله من هذه صورته إلا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.
20. المراد بالكتاب القرآن ـ على قول ابن زيد واكثر المفسرين ـ
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ ها هنا، وكل حسن:
أ. قيل: السنة.
ب. وقيل: المعرفة بالدين والفقه في التأويل.
ج. وقيل: العلم بالاحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عليه السلام.
د. وقال قوم: هو كلام مثنى كأنه وصف التنزيل بانه كتاب، وبانه حكمة، وبانه آيات.
هـ. وقال بعضهم: الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره به كما ينور البصر فيدرك المبصر.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قال ابن عباس: هو طاعة الله والإخلاص له.
ب. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه.
ج. وقال الجبائي: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ معناه يستدعيهم الى فعل ما يزكون به، من الايمان والصلاح.
د. ويحتمل ان يراد به انه يشهد لهم بالزكاء آمنوا وأصلحوا.
23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْعَزِيزِ﴾:
أ. قيل: القادر الذي لا يعجزه شيء.
ب. وقيل: القادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله.
ج. وقيل: القدير وهو مبالغة الوصف بالقدرة.
24. نقيض العز الذل، ويقال: عزه يعز عزة وعزازاً، واعتز به اعتزازاً، وتعزّز تعززاً، وعازّه معازة، تقول: عز يعز عزة وعزاً: إذا صار عزيزاً، وعز يعز عزاً: إذا قهر، ومنه قولهم: من عز بز اي من غلب سلب، وكل شيء صلب، فقد اعتز، وسمي العزاز من الأرض: وهو الطين الصلب الذي لا يبلغ ان يكون حجارة، وعن الشيء إذا قل لا يكاد يوجد، وفلان اعتز بفلان إذا تشرف به ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ اي غلبني في محاوراة الكلام والعزاء: السنة الشديدة، والمطر يعزز الأرض تعزيزاً إذا لبدها، وأصل الباب: القوة.
25. قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: المدبر الذي يحكم الصنع، يحسن التدبير.
ب. الثاني:بمعنى عليم، والاول بمعنى حكيم في فعله بمعنى محكم، فعدل الى حكيم، للمبالغة، وإنما ذكر الحكيم ها هنا، لأنه يتصل بالدعاء، كأنه قال فزعنا إليك، لأنك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا وبما هو أصلح لنا مما لا يبلغه علمنا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/461.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرفع نقيض الوضع، يقال: رفع رفعًا، وارتفع الشيء بنفسه ارتفاعًا.
ب. القواعد جمع قاعدة، قال الزجاج: أصله في اللغة الثبوت والاستقرار، فمن ذلك قاعدة البناء أساسه، وقاعدة الجبل أصله، والقواعد من النساء واحدها: قاعدٌ بغير هاء، وهي التي عليها سنون، ولم تتزوج، وفي الفرق بين الواحد من ذلك والواحدة من القواعد قولان: قيل: واحدها قاعد نحو طالق وخالص، وما أشبه ذلك من الصفات التي تختص بالمؤنث دون المذكر، فلم يُحْتَجْ إلى علامة التأنيث، فإذا أردت الجلوس قلت: قاعدة؛ لأنها حينئذ مشتركة، والثاني: أنها على وجه التشبيه أي ذات قعود، كما يقال: نابل وزارع، أي ذو نبل، وذو زرع.
ج. الإسلام: الانقياد والخضوع، وهو الاستسلام لأمر الله.
د. الذرية: النسل والأولاد، أخذ من الذَّرْءِ، وقيل: من الذَّرْي.
هـ. الأمة: الجماعة من الناس، وأصله القصد.
و. الرؤية: الإدراك للمرئي هذا هو الأصل، ثم يستعمل في العِلْمِ تشبيهًا كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾.
ز. النسك: العبادة، يقال: رجل ناسك عابد، ومنه النسك الذبيحة؛ لأنه يُتَعَبَّدُ به، والمنسك بفتح السين هو النسك نفسه، وبكسر السين الموضع الذي يذبح فيه المناسك، والمنسك أيضا المُتَعَبَّدُ، وهو موضع العبادة.
ح. البعث: الإرسال، ومنه بعثه رسولاً، وبعثه من قبره.
ط. التزكية: التطهير، يقال: نفس زكية، أي طاهرة، وسمي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن النفس الزكية؛ لأخبار ظهرت أنه يُقْتَلُ بموضع كذا النفس الزكية، فقتل هو.
ي. العزيز: القادر الذي لا يغالب، وأصل العزة القوة، وقيل: هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء، وقيل: المنيع، وهو في صفته تعالى بمعنى القادر، فيكون من صفات ذاته.
ك. حكيم: بمعنى عالم من صفة الذات، وبمعنى مُحْكِمٍ لأفعاله من صفات الفعل.
2. ثم بَيَّنَ تعالى كيف بنى إبراهيم البيت فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ يعني اذكر إذ يرفع، وهو عطف على ما تقدم ﴿إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾:
أ. قيل: أصول البيت التي كانت من قبل ذلك، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أساسه، عن أبي علي وأبي مسلم.
3. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ يعني يرفعه مع إبراهيم: ﴿رَبِّنَا﴾ فيه إضمار يعني، ويقولان: ربنا، عن ابن عباس، وفي حرف ابن مسعود: ويقولان: ربنا، ونظيره: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ أي ويقولون: سلام، وإنما جاز حذفه لدلالة الكلام عليه، وقيل: المحذوف: ﴿يَقُولُ﴾، برده إلى إسماعيل، وهو شاذ لا يعمل عليه.
4. اختلف في من رَفَعَ القواعد:
أ. قيل: إنما رَفَعَ القواعد إبراهيم وإسماعيل جميعًا، عن السدي وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجر، فَوُصِفَا بأنهما رفعا البيت، عن ابن عباس.
ج. وقيل: كان إبراهيم رفعها، وإسماعيل صغير، وهذا خلاف الظاهر، وخلاف ما عليه أهل العلم.
5. سؤال وإشكال: رفعا البيت مسكنًا أو متعبدًا؟ والجواب: متعبدًا، ولذلك قالا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، عن أبي القاسم.
6. سؤال وإشكال: هل كان للبيت قواعد قبل إبراهيم؟ والجواب: فيه خلاف:
أ. قيل: كان بناه آدم، ثم عفا أثره فجدده إبراهيم، عن ابن عباس وعطاء.
ب. وقيل: بل ابتدأه إبراهيم، عن مجاهد وعمرو بن دينار.
7. واختلفوا في أول من حج البيت:
أ. قيل: أول من حج البيت إبراهيم، عن الحسن.
ب. وقيل: إن آدم حجه.
8. اختلفوا كيف علم إبراهيم مكان البيت:
أ. قيل: دله عليه جبريل بأمر الله تعالى.
ب. وقيل: جاءت سحابة قدر البيت، ونودي: ابْنِ على ظِلِّهَا.
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ يعني ما بنيناه للتعبد، والتقبل: إيجاب الثواب على العمل، قال أبو علي: وهو مشبه بتقبل الهدية في أصل اللغة.
9. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ ذكرهما للتأكيد ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يعني سميع لدعائنا، عليم بنياتنا وما يصلحنا.
10. ثم بَيَّنَ تعالى تمام دعاء إبراهيم، فقال تعالى: ﴿رَبِّنَا﴾ يعني قالا: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾:
أ. قيل: باللطف الذي نتمسك معه بالإسلام، في المستقبل، عن أبي علي.
ب. وقيل: احكم لنا بالإسلام، وصفنا به في المستقبل، عن أبي القاسم وأبي مسلم، قال القاضي: وذلك بعيد؛ لأن الموصوف إذا حصل له، فلا فائدة في الصفة، وقيل: ذلك لا يصح؛ لأن وصفه بذلك ثناء ومدح، وذلك مرغوب.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُسْلِمِينَ﴾:
أ. قيل: موحدَين مخلصَين، لا نعبد إلا إياك، ولا ندعو ربا سواك.
ب. وقيل: قائمَين بجميع شرائع الإسلام، وهو الأوجه لعمومه.
12. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ أي ومن أولادنا، و﴿مِنَ﴾ للتبعيض، وخص بعضهم:
أ. قيل: لأنه تعالى أَعْلَمَ أن في ذريتهما من لا ينال عهده لما ارتكب من الظلم.
ب. وقيل: أراد به العرب؛ لأنهم من ذريتهما.
13. ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة وهم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل قوله: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾.. ﴿مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ موحدَين منقادَين لك.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾:
أ. قيل: هو من رؤية العين.
ب. وقيل: من رؤية القلب، أي علمنا.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَنَاسِكَنَا﴾:
أ. قيل: مناسكنا متعبدنا، فكل متعبد منسك، عن الزجاج.
ب. وقال أبو علي: هي ما يتقرب به إلى الله سبحانه من الهدْي والذبائح، وغير ذلك من أعمال الحج والعمرة.
ج. وقال قتادة: فأراهما الله تعالى مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل له الدين.
د. وقيل: مدائحنا، عن عطاء ومجاهد.
هـ. وقيل: شرائع أبينا، فأجاب الله دعاءهما، وبعث جبريل فعلمهما ذلك في يوم عرفة، فكان يقول في كل شيء: عَرَفْتَ عَرَفْتَ؟ قال: نعم، فسمي المكان عرفات، واليوم عرفة.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾:
أ. قيل: تقبل توبتنا.
ب. وقيل: وفقنا للتوبة، وإنما تابا من الصغائر؛ لأن الكبائر على الأنبياء لا تجوز.
ج. وقيل: تجب على ظَلَمَةِ ذريتنا.
د. وقيل: قالاه على جهة الانقطاع إليه، والتسبيح ليقتدي بهما فيه.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ﴾:
أ. قيل: كثير قبول التوبة مرة بعد أخرى.
ب. وقيل: قابل التوبة من عظائم الذنوب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده المنعم عليهم.
18. لما بَيَّنَ تعالى دعاءهما للذرية بَيَّنَ دعاءهما لنبينا، فقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ قيل: هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذلك قال: {أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى} وتلك البشارة قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، و﴿فِيهِمْ﴾ يعني في الأمة التي سبق ذكرها، عن الحسن وقتادة وجماعة من أهل العلم، قال أبو علي: لأنه دعاء للذرية التي تكون حول مكة فلم يَبْعث مَنْ هذه صفته إلا محمدًا صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أنبياء بني إسرائيل.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: يعني من الأمة المسلمة.
ب. وقيل: من أهل مكة فدعا بشيئين: نبي يهديهم، وأن يكون منهم، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الصفة.
20. ﴿يَتْلُو﴾ يقرأ: ﴿عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾:
أ. قيل: حججك.
ب. وقيل: هو القرآن، وهو أولى لتعلقه بالتلاوة.
21. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني القرآن:
أ. فبالأول تلاوته ليعلموا أنه معجز، وأنه نبي.
ب. وبالثاني: يُعْلَمَ ما يتضمنه من الشرائع، وأدلة التوحيد، والعدل وغير ذلك من أحكامه، فلا يعد تكرارًا.
ج. وقيل: وصف الكتاب بصفتين مختلفتين: الأول: أنه مكتوب، والثاني: أنه حجة وبرهان.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: السنة، عن قتادة.
ب. وقيل: المعرفة بالدين والفقه في التأويل، عن مالك بن أنس.
ج. وقيل: العلم بالأحكام التي لا تدرك إلا من جهة الرسول، عن ابن زيد.
د. وقيل: هو صفة الكتاب كأنه وَصَفَهُ بأنه كتاب، وأنه حكمة، وأنه آيات.
هـ. وقيل: هو العلم والعمل، عن ابن قتيبة.
و. وقيل: مواعظ القرآن وحلاله وحرامه، عن مقاتل.
23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: أي يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء من الإيمان والصلاح، عن أبي علي.
ب. وقيل: يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهدت كل نفس بما كسبت، عن الأصم.
ج. وقيل: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه، عن ابن جريج.
د. وقيل: هو الطاعة لله والإخلاص، عن ابن عباس.
24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾:
أ. قيل: القادر الذي لا يعجزه شيء، عن الأصم.
ب. وقيل: الغالب، عن الكسائي.
ج. وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي، عن المفضل، وكل ذلك يرجع إلى معنى قادر.
د. وقيل: العزيز الذي لا يوجد مثله، عن ابن عباس كقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وهو العزيز المعز فعيل بمعنى مُفْعِلٍ، وهو خلاف الظاهر.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمُ﴾:
أ. قيل: العليم.
ب. وقيل: المُحْكِم لأفعاله، عدل عن محكم إلى حكيم للمبالغة.
26. إنما ذكر هاتين الصفتين لاتصاله بالدعاء، كأنه قال: دعوناك لأنك قادر على إجابة دعائنا، العليم بضمائرنا، وبما هو أصلح لنا.
27. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن البيت بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم يحتمل أنهما بنياه معًا، أو كان يبني أحدهما، والآخر يناوله الحجر، وليس في الظاهر ما يدل على أحدهما، إلا أن الأول أوجه لتحقيق الإضافة.
ب. أن ذلك كان عبادة منهما؛ لأن التقبل لا يدخل إلا فيهما.
ج. أن الفعل ينقلب من العادة بالنية؛ لأن بناء البيت إنما صار قربة بالنية، ولولاه لما كان عبادة فهو كالإمساك في الصوم.
د. الترغيب في الدعاء عند الفراغ من العبادة كما فعلاه.
هـ. وجوب الانقطاع إليه تعالى، وطلب اللطف والمعونة في الدين.
و. حسن دعاء الغير للغير.
ز. أن في ذريتهما من يكون مسلمًا، كمن يكون فيهم من يكون ظالمًا.
ح. جواز الصغائر على الأنبياء؛ إذ لا يحسن أن يقول: اغفر ذنبي ولا ذنب له، كذلك لا تحسن التوبة ولم يسلف منه شيء.
ط. جواز الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة؛ لأنهما علما أنهما لا يفارقان الإسلام، ولا يقترفان الكبائر.
ي. أنهما دعوا لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنه كان مذكورًا فيما بينهم مُبَشَّرًا به.
ك. سؤالهما له جميع شرائط النبوة؛ لأنه تجبّ التلاوة الأداء، ويجبّ التعليم البيان، ويجب الحكمة السُّنَّة.
ل. أنه كما سأل البعثة دعا للأمة، بقوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾؛ لأنه مسألة لهم باللطف الذي لأجله تمسكوا بالكتاب فيصيروا أزكياء.
م. أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدعو له من ولد إسماعيل لا من ولد إسحاق؛ لأن الدعاء صدر من إسماعيل.
28. قرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو في بعض الروايات: ﴿أَرِنَا﴾ بإسكان الراء كل القرآن، ووافقهم عاصم وابن عامر في حرف واحد في حم السجدة: ﴿أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا﴾ وقرأ أبو عمرو في الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع كل القرآن، والباقون بالكسر مشبعة، وأصله أَرْئِنَا، بالهمزة المكسورة نقلت كسرة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة، وهو الاختيار؛ لأن أكثر القراء عليه، ولأنه سقطت الهمزة، فأما التسكين فعلى حذف الهمزة، فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة، وتذهب الدلالة على الهمزة، فأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها، وعلى التشبيه بما يسكن، كقولك: كبد وفخذ، فأما الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة.
29. مسائل نحوية:
أ. موضع الجملة من ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ قيل: موضعه نصب بقول محذوف، تقديره: يقولان: ربنا، واتصاله على أنه من تمام الحال؛ لأن يقولان في موضع الحال.
ب. إسماعيل: اسم أعجمي معرفة، فلا ينصرف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/588.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرفع والإعلاء والاصعاد نظائر، ونقيض الرفع الوضع، ونقيض الإصعاد الإنزال، يقال: رفع يرفع رفعا، وارتفع الشيء نفسه، والمرفوع من عدو الفرس دون الحضر وفوق الموضوع، يقال: ارفع من دابتك، والرفع: نقيض الخفض في كل شيء، والرفعة: نقيض الذلة.
ب. القواعد والأساس والأركان نظائر، وواحد القواعد: قاعدة، وأصله في اللغة: الثبوت والاستقرار، فمن ذلك القاعدة من الجبل وهي أصله، وقاعدة البناء أساسه الذي بني عليه، وامرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لم تتزوج، وإذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل: قد قعدت فهي قاعدة، وجمعها قواعد، وتأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل، وإذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها، لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض، وقعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام، فهي قاعدة، وقيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان: أحدهما: إنها من الصفات المختصة بالمؤنث نحو: الطالق والحائض، فلم يحتج إلى علامة التأنيث.. والآخر: وهو الصحيح أن ذلك على معنى النسبة أي: ذات قعود، كما يقال: نابل ودارع أي: ذو نبل، وذو درع، ولا يراد بذلك تثبيت الفعل.
ج. العزيز: القادر الذي لا يغالب، وقيل: هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله، ونقيض العز الذل، وعز يعز عزة، وعزا: إذا صار عزيزا، وعز يعز عزا: إذا قهر، ومنه قولهم: من عز بز أي: من غلب سلب، واعتز الشيء: إذا صلب، وهو من العزاز من الأرض، وهو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة، وعز الشيء: إذا قل حتى لا يكاد يوجد، واعتز فلان بفلان: إذا تشرف به.
د. الحكيم: معناه المدبر الذي يحكم الصنع، ويحسن التدبير.. فعلى هذا يكون من صفات الفعل، وبكون بمعنى العليم، فيكون من صفات الذات.
2. ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت، فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ وتقديره واذكر إذ يرفع: ﴿إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾:
أ. أي: أصول البيت التي كانت قبل ذلك، عن ابن عباس، وعطاء قالا: قد كان آدم عليه السلام بناه، ثم عفا أثره، فجدده إبراهيم عليه السلام، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام:
• وفي روايات أصحابنا: إن أول من حج البيت آدم عليه السلام، وذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم.. وروي عن الباقر أنه قال: إن الله تعالى وضع تحت العرش أربع أساطين، وسماه الضراح، وهو البيت المعمور، وقال للملائكة: طوفوا بالبيت.
• وفي كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال: إن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم، وكان البيت درة بيضاء، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وبقي أساسه، فهو حيال هذا البيت، وقال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد.
• وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إن أول شيء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة، أنزله الله ياقوته حمراء، ففسق قوم نوح في الأرض، فرفعه.
ب. وقال مجاهد: بل أنشأه إبراهيم عليه السلام بأمر الله عز وجل، وكان الحسن يقول: أول من حج البيت إبراهيم.
3. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ أي: يرفع إبراهيم وإسماعيل أساس الكعبة يقولان: ربنا تقبل منا، وفي حرف عبد الله بن مسعود: ويقولان ربنا تقبل منا، ومثله قوله سبحانه: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يقولون سلام عليكم، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أي: يقولون.. وقال بعضهم: تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم عليه السلام، قال: لأن إبراهيم وحده رفع القواعد من البيت، وكان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها، وهو شاذ غير مقبول لشذوذه، فإن الصحيح أن إبراهيم وإسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا.. وقيل: كان إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجر، فوصفا بأنهما رفعا البيت، عن ابن عباس.
4. في قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا، لأنهما التمسا الثواب عليه، والثواب إنما يطلب على الطاعة.
5. معنى: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ أثبنا على عمله، وهو مشبه بقبول الهدية، فإن الملك إذا قبل الهدية من انسان أثابه على ذلك.
6. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي: أنت السميع لدعائنا، العليم بنا وبما يصلحنا.
7. روي عن الباقر أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، وكان أبوه يقول له، وهما يبنيان البيت: يا إسماعيل! هات ابن أي: أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبه! هاك حجرا.. فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.
8. في هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه مندوب إليه كما فعله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
9. ثم ذكر تمام دعائهما عليهما السلام فقال سبحانه: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾:
أ. أي: قال ربنا واجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا، كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا، بأن توفقنا وتفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الاسلام، ويجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده، ويعرضه لذلك حتى صار أديبا، فيجوز أن يقال: جعل ولده أديبا، وعكس ذلك إذا عرضه للبلاء والفساد، جاز أن يقال: جعله ظالما فاسدا.
ب. وقيل: إن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك، لا نعبد إلا إياك، ولا ندعو ربا سواك.
ج. وقيل: قائمين بجميع شرائع الاسلام، مطيعين لك، لأن الاسلام هو الطاعة والانقياد والخضوع وترك الامتناع.
10. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ أي: واجعل من ذريتنا أي: من أولادنا، ومن للتبعيض، وإنما خصا بعضهم:
أ. لأنه تعالى أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين، لما يرتكبه من الظلم، وهو الصحيح.
ب. وقال السدي: أراد بذلك العرب.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾:
أ. قيل: أي: جماعة موحدة منقادة لك، يعني أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلالة قوله: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾.
ب. وروي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾:
أ. قيل: أي: عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها، ونقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها، قال قتادة: فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، ومن جمع ورمي الجمار، حتى أكمل بها الدين، وهو أقوى.
ب. وقال عطاء ومجاهد: معنى مناسكنا مذابحنا.
13. في قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ وجوه:
أ. أحدها: إنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه، ليقتدي بهما الناس فيها، وهذا هو الصحيح.
ب. ثانيها: إنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما.
ج. ثالثها: إن معناه: ارجع إلينا بالمغفرة والرحمة، وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم، أو ارتكاب القبيح منهم، لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر والصغائر، وليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ﴾:
أ. قيل: أي: القابل للتوبة من عظائم الذنوب.
ب. وقيل: الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى.
15. ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده، المنعم عليهم بالنعم العظام، وتكفير السيئات والآثام.
16. في هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة، لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب والآثام، ولا يفارقان الدين والإسلام.
17. الضمير في قوله: ﴿فِيهِمْ﴾ يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن يجعلهم من ذريته، والمعني به بقوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ هو نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما روي عنه أنه قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى عليهما السلام) يعني قوله (مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وهو قول الحسن وقتادة وجماعة من العلماء، ويدل على ذلك أنه دعا بذلك لذريته الذين يكونون بمكة وما حولها، على ما تضمنه الآية في قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ أي: في هذه الذرية رسولا منهم، ولم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
18. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ أي: يقرأ عليهم آياتك التي توحي بها إليه.
19. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآن، وهذا لا يعد من التكرار، لأنه خص الأول بالتلاوة ليعلموا بذلك أنه معجز دال على صدقه ونبوته، وخص الثاني بالتعليم ليعرفوا ما يتضمنه من التوحيد وأدلته، وما يشتمل عليه من أحكام شريعته.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: هي ها هنا السنة عن قتادة.
ب. وقيل: المعرفة بالدين والفقه في التأويل عن مالك بن أنس.
ج. وقيل: العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عن ابن زيد.
د. وقيل: إنه صفة للكتاب، كأنه وصفه بأنه كتاب وأنه حكمة وأنه آيات.
هـ. وقيل: الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره الله به كما ينور البصر، فيدرك المبصر.
و. وقيل: هي مواعظ القرآن وحرامه وحلاله عن مقاتل وكل حسن.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: أي: يجعلهم مطيعين مخلصين، والزكاء: هو الطاعة والإخلاص لله سبحانه، عن ابن عباس.
ب. وقيل: معناه يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه، عن ابن جريج.
ج. وقيل: معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به من الإيمان والصلاح، عن الجبائي.
د. وقيل: يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، عن الأصم.
22. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي: القوي في كمال قدرتك، المنيع في جلال عظمتك، المحكم لبدائع صنعتك.. وإنما ذكر هاتين الصفتين لاتصالهما بالدعاء، فكأنه قال: فزعنا إليك في دعائنا لأنك القادر على إجابتنا، العالم بما في ضمائرنا، وبما هو أصلح لنا، مما لا يبلغه كنه علمنا، وقصار بصائرنا.
23. في هذه الآية دلالة على أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
أ. دعوا لنبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بجميع شرائط النبوة، لأن تحت التلاوة الأداء، وتحت التعليم البيان، وتحت الحكمة السنة.
ب. ودعوا لأمته باللطف الذي لأجله تمسكوا بكتابه وشرعه، فصاروا أزكياء.
24. لأن الدعاء صدر من إسماعيل عليه السلام، فعلم بذلك أن النبي المدعو به من ولده، لا من ولد إسحاق، ولم يكن في ولد إسماعيل نبي غير نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم سيد الأنبياء.
25. قرأ ابن كثير: ﴿أَرِنَا﴾ بإسكان الراء كل القرآن، ووافقه ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم في السجدة: (ربنا أرنا الذين) وقرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن.
26. مسائل نحوية:
أ. ﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾: الجار والمجرور يتعلق بيرفع، أو بمحذوف فيكون في محل النصب على الحال.. وذو الحال: ﴿الْقَوَاعِدِ﴾ وموضع الجملة من قوله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ نصب بقول محذوف، كأنه قال: يقولان ربنا تقبل منا، واتصل بما قبله لأنه من تمام الحال، لأن يقولان في موضع الحال.
ب. اللام في: ﴿لَكَ﴾: تتعلق بمسلمين.
ج. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾: من فيه تتعلق بمحذوف تقديره واجعل من ذريتنا.. والجار والمجرور مفعول اجعل، وأمة: مفعول ثان لأجعل.
د. أرنا يحتمل وجهين:
• أحدهما: أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر، نقلت بهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير حذف المضاف كأنه قال: أرنا مواضع مناسكنا أي: عرفناها لنقضي نسكنا فيها، وذلك نحو مواقيت الإحرام والموقف بعرفات وموضع الطواف، فهذا من رأيت الموضع وأريته إياه.
• والآخر: أن يكون منقولا من نحو قولهم: فلان يرى رأي الخوارج، فيكون معناه علمنا مناسكنا، ومثله قول الشاعر:
çأريني جوادا مات هزلا، لعلني... أرى ما ترين، أو بخيلا مخلداé
أراد: دليني، ولم يرد رؤية العين.
هـ. ﴿ابْعَثُ﴾: جملة فعلية معطوفة على (تب) فيهم تتعلق بابعث.. ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره رسولا كائنا فيهم، فيكون في موضع نصب على الحال.
و. ﴿يَتْلُو﴾: منصوب الموضع بكونه صفة قوله: ﴿رَسُولًا﴾ أي: تاليا.. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: تتعلق بيتلو.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/389.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. القواعد: أساس البيت، واحدها: قاعدة، فأمّا قواعد النّساء؛ فواحدتها: قاعد، وهي العجوز.
2. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، أي: يقولان: ربّنا، فحذف ذلك؛ كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أراد: يقولون.
3. ﴿السَّمِيعُ﴾ بمعنى: السّامع، لكنه: أبلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة، قال الخطّابيّ: ويكون السّماع بمعنى القبول والإجابة، كقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أعوذ بك من دعاء لا يسمع)، أي: لا يستجاب، وقول المصلّي: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله حمد من حمده، وأنشدوا:
çدعوت الله حتّى خفت أن لا...يكون الله يسمع ما أقولé
4. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، قال الزّجّاج: المسلم في اللغة: الذي قد استسلم لأمر الله، وخضع.
5. المناسك: المتعبّدات، فكلّ متعبّد منسك ومنسك، ومنه قيل للعابد: ناسك، وتسمّى الذّبيحة المتقرّب بها إلى الله تعالى: النّسيكة، وكأنّ الأصل في النّسك إنّما هو من الذّبيحة لله تعالى.
6. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، أي: مذابحنا، قاله مجاهد، وقال غيره: هي جميع أفعال الحجّ.
7. في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، في الهاء والميم من ﴿فِيهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود على الذّرّيّة، قاله مقاتل والفرّاء.
ب. الثاني: على أهل مكّة في قوله: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾
8. المراد بالرّسول: محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد روى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمّي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشّام.
9. الكتاب: القرآن، والحكمة:
أ. السّنّة، قاله ابن عبّاس.
ب. وروي عنه: الحكمة: الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرآن.
وسمّيت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل.
10. في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: يأخذ الزّكاة منهم فيطهّرهم بها، قاله ابن عباس والفرّاء.
ب. الثاني: يطهّرهم من الشّرك والكفر، قاله مقاتل.
ج. الثالث: يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء.
11. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾، قال الخطّابيّ: العزّ في كلام العرب على ثلاث أوجه:
أ. أحدها: بمعنى الغلبة، يقولون: من عزّ بزّ، أي: من غلب سلب، يقال منه: عزّ يعزّ، بضم العين من يعزّ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾.
ب. الثاني: بمعنى الشّدة والقوة، يقال منه: عزّ يعزّ، بفتح العين من يعزّ.
ج. الثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عزّ يعزّ، بكسر العين من يعزّ، ويتأول معنى العزيز على أنّه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له.
__________
(1) زاد المسير: 1/112.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء.
2. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ حكاية حال ماضية، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس، والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها، لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبني عليه ويوضع فوقه، ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات.
3. الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها.
4. اختلفوا في كون إسماعيل عليه السلام شريكاً لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه:
أ. قال الأكثرون: إنه كان شريكاً له في ذلك والتقدير: (وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت)، والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم، فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها، ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفاً على إبراهيم في ذلك، ثم ان اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين:
• أحدهما: أن يشتركا في البناء ورفع الجدران.
• والثاني: أن يكون أحدهما بانياً للبيت، والآخر يرفع إليه الحجر والطين، ويهيئ له الآلات والأدوات.
وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما، وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة.
ب. ومن الناس من قال: إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلًا صغيراً وروي معناه عن علي رضي الله عنه، وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا: إلى من تكلنا؟ فقال إبراهيم: إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بإصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله: ﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ ثم ابتدؤوا: وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكاً في الدعاء لا في البناء، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل، فوجب صرفه إلى المذكور السابق، وهو رفع البيت، فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه، فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده.
5. إنما قال ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾، ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى.
6. حكى الله تعالى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾
ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾:
أ. قال المتكلمون: كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود، فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر، فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه، فشبه الفعل من العبد بالعطية، والرضا من الله بالقبول توسعاً.
ب. وقال العارفون: فرق بين القبول والتقبل، فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله، وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل، فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف بالعجز والانكسار، وأيضاً فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم الذي عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه.
8. بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون، ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجباً على الله تعالى، لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة، فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول: يا إلهي اجعل النار حارة والجمد بارداً، بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة، والجمد حال بقائه على صورته في الانجماد والبياض حاراً، ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء هاهنا أقبح، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلا.
9. إنما عقب هذا الدعاء بقوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ كأنه يقول: تسمع دعاءنا وتضرعنا، وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك.
10. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعاً، والجواب: إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره.
11. احتج القائلون بخلق الأعمال بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة، وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما، فإن الجعل عبارة عن الخلق، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1] فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
12. رد المخالفون لهم بما يلي:
أ. هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين، إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين، ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها.
ب. ولو سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد، بل له معان أخر سوى الخلق:
• أحدها: جعل بمعنى صير، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47]
• ثانيها: جعل بمعنى وهب، نقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس.
• ثالثها: جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: 19]، وقال: ﴿وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ [الأنعام: 10]
• رابعها: جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ [الأنبياء: 73] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: 124] فهو بالأمر.
• خامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك.
• سادسها: البيان والدلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلًا إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك.
ج. إذا ثبت ذلك: لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصاً، وجعلني فاضلًا أديباً إذا وصفه بذلك.
د. ولو سلمنا أن المراد من الجعل الخلق، لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له، ومثاله: من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال: صيرتك أديباً وجعلتك أديباً، وفي خلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصاً محتالًا.
هـ. ولو سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به، وإنما قلنا: أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد.
13. أجاب القائلون بخلق الأعمال عما ذكره المخالفون من كون الآية متروكة الظاهر بأنها ليست كذلك من وجوه:
أ. الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي اخلق هذا العرض فينا في الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.
ب. الثاني: أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17] وقال إبراهيم: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 26] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.
ج. الثالث: أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد، فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله: ﴿مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال.
فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.
14. أجاب القائلون بخلق الأعمال عما ذكره المخالفون من حمل الجعل على الحكم بذلك، بأنه مدفوع من وجوه:
أ. أحدها: أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه، قلنا: نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى.
ب. ثانيها: أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب، فكان ذلك الوصف حاصلًا وأي فائدة في طلبه بالدعاء.
ج. ثالثها: أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال جعله مسلماً.
15. أجاب القائلون بخلق الأعمال عما ذكره المخالفون من حمل ذلك على فعل الألطاف بأنه مدفوع من وجوه:
أ. أحدها: أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.
ب. ثانيها: أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز.
ج. ثالثها: أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون، فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع، فإن وجب فهو المطلوب، وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام امر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك، فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلًا، وقد فرضناه كذلك هذا خلف، وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.
16. أجاب القائلون بخلق الأعمال عما ذكره المخالفون من أن الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم، بأنه معارض بسؤال العلم، وسؤال الداعي(2)..
17. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك، وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره، وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 77] ثم هاهنا قولان:
أ. أحدهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك.
ب. الثاني: قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه.
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ المعنى: واجعل من أولادنا و(من) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] ومن الناس من قال أراد به العرب لأنهم من ذريتهما، و﴿أُمَّةٍ﴾ قيل هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل قوله: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾
18. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالما فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟ والجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والشفيق بسوء الظن مولع.
19. سؤال وإشكال: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء؟ والجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة، قال الله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات، ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم.
20. سؤال وإشكال: الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه، وحينئذ يتوجه الإشكال، فإن في زمان أجداد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن أحد من العرب مسلماً، ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والجواب: قال القفال: أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ولم تزال الرسل من ذرية إبراهيم، وقد كان في الجاهلية: زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة، والثواب والعقاب، ويوحدون الله تعالى، ولا يأكلون الميتة، ولا يعبدون الأوثان.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾:
أ. الأول: معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا الناس إلى حجه، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: 45]، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1]
ب. الثاني: أظهرها لأعيننا حتى نراها، قال الحسن: إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها، حتى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات.
ج. الثالث: وهو أن المراد العلم والرؤية معاً، وهو قول القاضي لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز.
22. القول المعتبر هو القولان الأولان، فمن قال بالقول الثاني قال إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها، ومن قال بالأول قال إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف.
23. معنى النسك: هو التعبد، يقال للعابد ناسك، ثم سمى الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة، وسمى أعمال الحج مناسك، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عن مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).. والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى: مناسك أيضاً، ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل، وبكسر السين بمعنى المواضع، كالمسجد والمشرق والمغرب، قال الله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: 67] قرئ بالفتح والكسر، وظاهر الكلام يدل على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم)، أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد: خذوا عني مواضع نسككم.
24. إن حملنا المناسك على مناسك الحج:
أ. فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال.
ب. وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع.
ج. ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط، وهو خطأ، لأن الذبيحة، إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً، وهو كونه عملا من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال، فوجب دخول الكل فيه.
د. وإن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك وبما ذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه.
25. احتج من جوز الذنب على الأنبياء بقوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلباً للمحال، وأما المعتزلة فقالوا: إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة، ولقائل أن يقول: إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال، لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
26. هناك أجوبة أخر لفهم قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه:
أ. أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشديداً في الانصراف عن المعصية، لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي، فيكون ذلك لطفاً داعياً إلى ترك المعاصي.
ب. ثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو، أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.
ج. ثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة، فقال: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ أي على المذنبين من ذريتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول: أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده: إن ولدي أذنب فاقبل عذره، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه:
• الأول: ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 35، 36] فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
• الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب عليهم.
• الثالث: أنه قال عطفاً على هذا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾
• الرابع: تأولوا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: 11] بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذا كانوا منه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: {أَرِنا مَناسِكَنا} أي أر ذريتنا.
27. احتج القائلون بأن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى محالًا وجهلًا، وقال المخالفون: هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم: 8] ولو كانت فعلًا لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالًا وجهلًا، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد.
28. لا شبهة في أن قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا﴾ يريد من أراد بقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فعطف عليه بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾
29. هذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام.
ب. الثاني: أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه:
• أحدها: ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها.
• ثانيها: أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته.
• ثالثها: أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.
30. إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين، ويضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة، وأما إن الرسول هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيدل عليه وجوه:
أ. أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
ب. ثانيها: ما روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى)، وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله: {مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]
ج. ثالثها: أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم.
31. سؤال وإشكال: ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في باب الصلاة حيث يقال: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟ والجواب: من وجوه:
أ. أولها: أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة.
ب. ثانيها: أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84] يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته.
ج. ثالثها: أن إبراهيم كان أب الملة لقوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: 78] ومحمد كان أب الرحمة، وفي قراءة ابن مسعود: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقال في قصته: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما أنا لكم مثل الوالد)، يعني في الرأفة والرحمة، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة.
د. رابعها: أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: 27] وكان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم منادي الدين: ﴿سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران: 193] فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل.
32. لما طلب الله تعالى بعثة رسول منهم إليهم، ذكر لذلك الرسول صفات:
أ. أولها: قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ وفيه وجهان:
• الأول: أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.
• الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدلالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم: أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها، والتلاوة مطلوبة لوجوه:
• منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف.
• ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزاً لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة.
• ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة.
ب. ثانيها: قوله: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وذلك لأن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونوراً لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولًا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾
ج. ثالثها: قوله: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أي ويعلمهم الحكمة، والحكمة هي: الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه، قال القفال: وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية.
د. رابعها: قوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ ذلك أن كمال حال الإنسان في أمرين:
• أحدهما: أن يعرف الحق لذاته.
• الثاني: أن يعرف الخير لأجل العمل به.
فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكياً عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ وأعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلًا فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار.
33. اختلف المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا على وجوه:
أ. أحدها: قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له.
ب. ثانيها: قال الشافعي: الحكمة سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولًا وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. ثالثها: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالعقدة والجلسة، والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة.
د. رابعها: ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أراد بها الآيات المتشابهات.
هـ. خامسها: {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ} أي يعلمهم ما فيه من الأحكام، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.
34. من الناس من قال الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة.
35. سؤال وإشكال: لم لا يجوز حمل الحكمة على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟ والجواب: لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى.
36. التزكية في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ لها تفسيران:
أ. الأول: ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق.
ب. الثاني: يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود.
والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الإخلال بالعمل وهو التزكية.
37. اختلف في معنى التزكية في قوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ على وجوه:
أ. أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولًا منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم.
ب. ثانيها: التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس.
ج. ثالثها: ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]
38. لما ذكر إبراهيم عليه السلام هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، والعزيز: هو القادر الذي لا يغلب، والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً، وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه، ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل، ولا إنزال الكتاب.
39. العزيز: من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة، لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج، ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام، فهو عزيز لا محالة.
40. الحكيم: إذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات.
41. إذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات، بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه:
أ. أحدها: أن صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك.
ب. ثانيها: أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات، وصفات الفعل ليست كذلك.
ج. ثالثها: أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل، وصفات الذات ليست كذلك.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/51.
(2) راجع هذه المسألة بتفصيل في محلها من السلسلة.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء، وقال الكسائي: هي الجدر، والمعروف أنها الأساس، وفي الحديث: (إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام) فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها، ابن عباس: وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته، والقواعد واحدتها قاعدة، والقواعد من النساء واحدها قاعد.
2. اختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه:
أ. قيل: الملائكة، روي عن جعفر بن محمد قال سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ قالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضي عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت.
ب. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء، قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا.. فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام.
3. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ المعنى: ويقولان ﴿رَبِّنَا﴾، فحذف، وكذلك هي في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا)
تفسير إسماعيل: اسمع يا الله، لان (إيل) بالسريانية هو الله، فقيل: إن إبراهيم لما دعا ربه قال اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه.
4. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي صيرنا، و﴿مُسْلِمِينَ﴾ مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام، والإسلام في هذا الموضع: الايمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾) ففي هذا دليل لمن قال إن الايمان والإسلام شي واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
5. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الامة، و(من) في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ للتبعيض، لان الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين، وحكى الطبري: أنه أراد بقوله ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ العرب خاصة، قال السهيلي: وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل، أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لان دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم.
6. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله}، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في زيد بن عمرو بن نفيل: (يبعث أمة وحده) لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم، وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي بعد حين وزمان، ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد، والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة.. وقيل: الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم.
7. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدي، قال حطايط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر:
çأريني جوادا مات هزلا لأنني... أرى ما ترين أو بخيلا مخلداé
8. مناسكنا: يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا:
أ. فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي.
ب. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح.
ج. وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك، والناسك: العابد.
9. اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ وهم أنبياء معصومون:
أ. فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب، وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة.
ب. وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا.
10. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى.
11. ﴿رَسُولًا﴾ أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة، قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسله، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق، ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال، يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع.
12. قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾) الكتاب) القرآن و(الحكمة): المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد، وقال قتادة: (الحكمة) السنة وبيان الشرائع، وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب.
13. نسب الله تعالى التعليم إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه.
14. قيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ، والكتاب معاني الألفاظ، والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم.
15. العزيز: معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب، وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شي، دليله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، الكسائي: (العزيز) الغالب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، وفي المثل: (من عز بز) أي من غلب سلب، وقيل: (العزيز) الذي لا مثل له، بيانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/121.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ هو حكاية لحال ماضية استحضارا لصورتها العجيبة، والقواعد: الأساس، قاله أبو عبيدة والفرّاء، وقال الكسائي: هي الجدر، والمراد برفعها: رفع ما هو مبنيّ فوقها، لا رفعها في نفسها، فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال: ارتفع البناء، ولا يقال: ارتفع أعالي البناء، ولا أسافله.
2. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ في محل الحال بتقدير القول، أي: قائلين: ربنا.. وقوله: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي: اجعلنا ثابتين عليه، أو زدنا منه، قيل المراد بالإسلام هنا: مجموع الإيمان والأعمال.
3. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ أي: واجعل من ذريتنا، و(من) للتبعيض أو للتبيين، وقال ابن جرير: إنه أراد بالذرية: العرب خاصة، وكذا قال السهيلي، قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به.
4. الأمة: الجماعة في هذا الموضع؛ وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ وتطلق على الدين ومنه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ وتطلق على الزمان، ومنه: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾
5. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ هي من الرؤية البصرية، وقرأ عمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن كثير، وابن محيصن، وغيرهم: (أرنا) بسكون الراء، ومنه قول الشاعر:
çأرنا إداوة عبد الله نملؤها...من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئواé
6. المناسك: جمع نسك، وأصله في اللغة: الغسل، يقال نسك ثوبه: إذا غسله، وهو في الشرع: اسم للعبادة؛ والمراد هنا مناسك الحج؛ وقيل: مواضع الذبح، وقيل: جميع المتعبدات.
7. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ قيل المراد بطلبهما للتوبة: التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما؛ وقيل المراد: تب على الظلمة منا.
8. الضمير في قوله: ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقا، وقرأ أبيّ وابعث في آخرهم ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الذرية، وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم، ومراده هذه الدعوة، والرسول: هو المرسل، قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله: ناقة مرسال ورسلة: إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق، ويقال: جاء القوم أرسالا، أي: بعضهم في أثر بعض.
9. المراد بالكتاب: القرآن، والمراد بالحكمة: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم للشريعة، وقوله: ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي، وقيل: إن المراد بالآيات: ظاهر الألفاظ، والكتاب: معانيها، والحكمة: الحكم، وهو مراد الله بالخطاب، والعزيز: الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، وقال الكسائيّ: ﴿الْعَزِيزِ﴾: الغالب.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/166.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أي اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية، لاستحضار صورتها العجيبة والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، وقال الزجاج: القواعد: أساطين البناء التي تعمده.
2. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ على إرادة القول أي يقولان، وترك مفعول ﴿تُقْبَلَ﴾ ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء، كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية.
3. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لدعائنا ﴿الْعَلِيمُ﴾ بضمائرنا ونياتنا.
4. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ مخلصين لك أوجهنا، من قوله: أسلم وجهه لله، أو مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم، واستسلم، إذا خضع وأذعن، والمعنى: زدنا إخلاصا أو إذعانا لك.
5. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ واجعل من ذريتنا ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ و﴿مِنَ﴾ للتبعيض، أو للتبيين، كقوله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [النور: 55]، وإنما خصّا الذرية بالدعاء، لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
6. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي عرفنا متعبداتنا، جمع منسك بفتح السين وكسرها، وهو المتعبد، وشرعة العبادة، يقع على المصدر والزمان والمكان، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة، وكل ما تقرّب به إلى الله تعالى، ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه، فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك وأن الشيطان تعرض له، فرماه عليه السلام، قالوا: العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عامّا لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك، وبما ذا نتقرب إليك، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه؟
7. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ هذا الدعاء استتابه لما فرط من التقصير، فإن العبد، وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما، عليهما السلام، لأجل ذلك.
8. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم، وهم العرب من ولد إسماعيل، وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته رسول منهم، وهو محمد، صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى الناس كافة، وقد أخبر صلّى الله عليه وآله وسلّم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم، ومراده هذه الدعوة، وذلك فيما خرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إني، عند الله، لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين.. وأخرج أيضا نحوه عن أبي أمامة، قال قلت: يا نبيّ الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام.
9. أول من نوه بذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره في الناس مشهورا حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم، عليهما السلام، حيث قال ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، وهذ معنى قوله في الحديث: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، وقوله فيه، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام، قيل: كان منها ما رأته حين حملت به، وقصته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة وإرهاصا، وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم ـ إذا نزل بدمشق ـ بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك) وفي صحيح البخاري (وهم بالشام)
10. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ هي إما الفرقان الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، المتلوّ عليهم، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها، ويدعوهم إليها، ويحملهم على الإيمان بها.
11. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن و﴿الْحِكْمَةَ﴾ هي السنة، فسرها بها كثيرون، وعن مالك: هي معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له.
12. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من الشرك، وسائر الأرجاس، كقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157].
13. لما ذكر عليه السلام هذه الدعوات، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، والعزيز ذو العزة وهي القوة، والشدة، والغلبة، والرفعة و﴿الْحَكِيمُ﴾ بمعنى الحاكم، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وكلاهما من أوصافه تعالى.
14. سؤال وإشكال: ما وجه الترتيب في الآية؟ والجواب(2).: أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقا بالقرآن، وأما الترتيب، فلأن أول منزلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ادعاء النبوة، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة، وهي أشرف منزلة العلم، ولهذا قال ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269] ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى أي مطهّرا مستصلحا لمجاورة الله عز وجل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/398.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. 2. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ المضارع لحكاية الحال الماضية، كأنَّ المخاطب حَضَر حين رَفَعَ ﴿إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾ الأساس، أي: ينشئها، والجُدر؛ لأنَّ كل جزء منها قاعدة لما فوقه، أو رفعها تعظيمها بالحجِّ إليها، من القعود، وهو الثبوت.
3. ﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ وليس المراد أنَّها كانت قصيرة وأطالها، أوقَعَ الإطالة على القاعدة للجوار أو الحلول؛ لأنَّ الجدار المجاور لها أو الحالِّ فيها غير مرفوع أيضًا، بل يحدث بإحداث سافة ثم سافة، ولا مانع من أن يراد برفع الجدُر جعل آخرها عاليًا بإكثار السافات.
4. ﴿وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أخَّره لأنَّه غلام تابع له معين له بمناولة الحجر والطين، ومع ذلك سمَّاه رافِعًا؛ لأنَّ الرفع بواسطة المناولة، وذلك من عموم المجاز، وهو هنا مطلق ما به حصول الرفع، أو جمع بين الحقيقة والمجاز، أو يقدَّر: وإسماعيل يناوله كقوله: (وزججـن الحواجب والعيونا) ويضعف أن يقال: تارة يبني إبراهيم وتارة إسماعيل، أو يبني أحدهما موضعًا منه والآخر موضعًا، ولو في وقت واحد.
5. قائلين: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ﴾ التفعُّل للمبالغة بمعنى: اِقبل قبولاً عظيمًا، بأنْ يزيد له ثوابًا على القبول؛ ﴿مِنَّـآ﴾ بِنَاءَنَا وسَعْيَنا فيه؛ ﴿إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ﴾ لدعائنا، أي: العليم به، واختار لفظ السَّمع لأنَّه في الجملة للأصوات، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنيَّاتنا.
6. ﴿رَبَّنَا﴾ تأكيد للأوَّل أو استجب دعاءنا يا ربَّنا؛ ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ منقادَيْن إليك، ومخلصين لك أعمالنا؛ ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً﴾ واجعل من ذرِّيتنا أمَّة ﴿مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ طلب البعض لعلمه من قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ﴾ [الآية: 124] أنَّ من ذرِّيته من لا يكون مسلمًا لله، واختار الذرِّية لأنَّها أحقُّ بالشفقة ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الَاقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، ولم يلغِ غيرهم لأنَّ صلاح بعض الذرِّية صلاح لغيرهم من الأتباع.
7. وقد أوقع الله ذلك فأخبر به نبيئه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ قال: ﴿وَمِن ذُرِّيـَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافَّات: 113] ومن ذلك البعض أمَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المجيبة المخلصة العربيَّة التي من نسل إبراهيم، وَأَمَّا غيرهم فتبعٌ لهم، ﴿وَأَرِنَا مَناسِكَنَآ﴾ علِّمناها وهي شرائع ديننا أو مناسك الحجِّ، ومنها الذَّبح، أو بصِّرنا مواضعها، ومنها مواضع الذَّبح، وأصل النسك: العبادة الشاقَّة، ثم خُصَّ بالحجِّ لمشقَّته، وربَّما خُصَّ بعده بالذَّبحِ.
8. وموضع الكعبة قبل الأرض بألفي عام زبدة بيضاء، وبسطت الأرض من تحتها، واستوحش آدم وشكا إلى الله تعالى فأنزل عليه البيت المعمور ياقوتة من الجنَّة لها بابان من زمرد أخضر: باب غربيٌّ وباب شرقيٌّ في موضع الكعبة، وقال: طف وصلِّ عنده كعرشي، وأنزلَ عليه الحجر الأسود فحجَّ آدم من الهند ماشيًا معه ملَك يدلُّه، واستقبلته الملائكة أربعين فرسخًا وقال له الملائكة: (برَّ حجُّك يا آدم)، وقالوا دفعا لما قد تستعظم النفس من عبادتها: لقد حججناه قبلك بألفي عام، وزاد بعد ذلك تسعة وثلاثين حجَّةً من الهند ماشيًا، ورفع في عهد آدم إلى السَّماء الرَّابعة، وبنى الكعبة في موضعه، وقيل: رُفع في الطوفان، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه، وأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أنْ يخبِّئ الحجر في أبي قبيس صيانة من الغرق، وبقي البيت خربًا إلى أن أمر الله إبراهيم ببنائه وبناه وردَّ إليه الحجر.
9. وقد أمر الله تعالى الملائكة أن يبنوا في كلِّ سماء وأرض بيتًا على سمت الكعبة، روي أنَّ الأرض انشقَّت إلى منتهاها، وقذفت فيها الملائكة حجارة كالإبل أو كأسنمتها خضرًا، وبنوا عليها البيت ثم بَناهُ آدم لطول عهده من حين بنوه، فتلك التي بنى عليها إبراهيم أظهرها الله، فذلك بناءان، ثُمَّ شيت ثمَّ إبراهيم ثمَّ العمالقة ثمَّ الحَارث بن مضاض الجرهمي، ثمَّ قصيٌّ جدُّ النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمَّ قريش لضعفه بالسَّيل، وحضره صلّى الله عليه وآله وسلّم ابن خمس وثلاثين، ثمَّ عبد الله بن الزبير ليدخل فيه الحطيم على أصله، مع ضعفه بحجارة المنجنيق إذ حاصره الحجَّاج، حفر إلى حجارة الملائكة وبنى منها، وإذا ضرب المعول فيها تحرَّكت كلُّها وسائر الأرض القريبة، وجعل لها بابا تحت الموجود الآن، وبابًا مقابلاً له من جهة الركن اليمنيِّ ملتصقين بالأرض، ابتداء في جمادى الأخيرة وختم في رجب سنة خمس وستِّين، وذبح مائة بدنة للفقراء وكساهم، وهدمه الحجَّاج كلَّه وبناه وأخرج الحطيم، وقيل: هدم الجدار الذي يلي الحطيم فقط، وبناه وسدَّ باب جهة ركن اليمن، وهدم جهة الحجر القرامطة وأخذوا الحجر، وقتلوا من وجدوا من المسلمين، ثمَّ ردَّ بعد مدَّةٍ طويلةٍ، وبُنيَ ما هدَموه، وبَنى فيه بعض الملوك سنة ألف وتسع وثلاثين، وهو من حجارة خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتاء ولبنان بالشَّام والجودي بالجزيرة وقواعده من حراء بمكَّة.
10. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾ فيما فرط منَّا مِن تَرْكِ ما هو أفضل إلى ما دونه، وذلك ما ليس بمعصية في حقِّ غير الأنبياء كنوم أكثر الليل، وكما يكون من طبع البشر كعُجب ضروريٍّ ينفيانه، وكالانتقام الجائز، ونحو ذلك ممَّا ليس ذنبًا في حقِّ الناس، وفعلاه عمدًا أو سهوًا أو نسيانًا، أو ذلك هضم للنفس أو تعليم للتوبة، أو استتابة لذنوب ذرِّيَّتهما وأضافا لأنفسهما مبالغة، أو يقدَّر: (وتُب على ذرِّيَّتنا)، أو إجراءٌ للولد مجرى النفس لعلاقة البعضيَّة ليكون أقرب للإجابة، والمعنى: اِقبَلْ توبتنا، وتوبة العامة: النَّدم عن المعصية وإصلاح ما فسد، والعزم على إصلاحه إن لم يمكن في الحال، وتوبة الخواصِّ: الندم عن المكروه والتقصير والكسل في العبادة، وتوبة خواصِّ الخواصِّ: الترقِّي في الدرجات، وهما 6 من الثالث، أو يخافان أنْ يكونا من الثاني، ويجوز أنْ يقدَّر: تب على عُصاتنا، أو أراد المجموع فيرجع الكلام إلى العصاة.
11. ﴿إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ﴾ لمن تاب ﴿الرَّحِيمُ﴾ به، كالحجَّة لقولهما: (تُبْ عَلَيْنَا)، وقد مرَّ أنَّ توبة الله التوفيق إلى التوبة أو قبوله التوبة.
12. ﴿رَبَّنَا﴾ استجب دعاءنا، أو كرَّره تأكيدًا وتلذُّذًا، وهكذا يقدَّر محذوف، أو يجعل تأكيدًا إذ كرَّر النِّداء، ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ في الأمَّة المسلمة لك من ذرِّيتي أو في ذرِّيتي؛ ﴿رَسُولاً﴾ عظيمًا ترسله بشرع جديد وكتاب مجيد، ﴿مِّنْهُمْ﴾ من أنفسهم.
13. وقد استجاب الله دعاءهما بسيِّدنا محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنَّهما لم يجتمعا إلَّا فيه، فإنَّ أكثر الأنبياء من ذرِّيَّة نبيء الله يعقوب ولد نبيء الله إسحاق ولد إبراهيم نبيء الله، وقليل من ولدِ روم بن إبراهيم، وهو: أيُّوب وذو القرنين في قول، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أنا دعوة أبي إبراهيم ـ يعني هذه الآية، وهو أيضًا دعوة إسماعيل ولم يذكره اجتزاء بالأب الأكبر ولتقدُّمه ـ وبشرى عيسى ـ يعنى قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ﴾ [الصف: 6] ـ ورؤيا أمِّي التي رأت حين وضعتني أنَّه أضاءت بي قصورُ الشام)، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم دعوة أبيه إسماعيل أيضًا لهذه الآية، ولم يذكره النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنَّه تبع لأبيه إبراهيم، ولأنَّ أباه إبراهيم هو الأصل في هذا الدُّعاء الذي في الآية.
14. ﴿يَتْلُو﴾ يقرأ ﴿عَلَيْهِمُ ءَايَاتِكَ﴾ أي: القرآن، والمراد: معانيه لكن بألفاظه، وهو دلائل النُّبوءة والتَّوحيد والشَّرع، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن أيضًا، والمراد لفظه، أو الآيات: ألفاظه والكتاب معانيه عكس ذلك، أي: ويعلِّمهم معانيه.
15. ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ ما فيه من الأحكام بيَّنها لهم، أو الحكمة: العمل به، أو وضع الأشياء في مواضعها، أو ما يزيل حبَّ الدنيا، أو الآداب، أو السنَّة.
16. ﴿وَيُزَكِّيهِم﴾ من الشرك والمعاصي، ومعلوم أنَّ التَّخلية قبل التَّحلية ولكن أخَّرها هنا لشرف التَّحلية هذه، ولتقدُّم التخلية هذه في الذِّهن والقصد، فجيء بترتيب الذِّهن ولو تقدَّمت التَّخلية في الخارج، ولأنَّ المقصود التحلية، والتخلية وسيلة.
17. ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب لمن أراد مخالفته، فالغلبة فعلٌ، أو المنتفي عنه الذُّل فهي صفةٌ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه، لا يقول عبثًا ولا يفعله، ولا سفها، ولا يضع الشيء إلَّا موضعه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/221.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكّر الله تعالى العرب:
أ. أولا بنعمته عليهم بهذا البيت: أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء ابراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهى نعم يعرفونها لا ينكرها أحد.
ب. وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية، فذكر عهده إلى ابراهيم واسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الاصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه.
ج. ثم ذكرهم بعد هذا بأن ابراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه اسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى ابراهيم واسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة ابراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم، وسائر العرب تبع لقريش.
2. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه، وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان، ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض، أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من ادخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها، ومن ذلك:
أ. زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحواء في عرفة بعد أن كانت قد ضلت عنه بعد هبوطهما من الجنة، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدة.
ب. وزعمهم أنها هبطت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان وحليت بالحجر الأسود، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء ـ وقيل زمردة ـ من يواقيت الجنة أو زمردها وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبى قبيس فتمخض الجبل فولدها وأن الحجر إنما اسود لملامسة النساء الحيض له، وقيل لاستلام المذنبين إياه.
3. كل هذه الروايات خرافات اسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه، قال محمد عبده: لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، ولكنها إذا راقت للبله من العامة فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي هو ما شرفه الله تعالى، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بانه من عالم الضياء، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.
4. أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الامام عمر إذ قال عند استلام الحجر الأسود: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبلك ما قبلتك: ثم دنا فقبله)، وروى ابن أبى شيبة والدارقطني في العلل عن عيسى بن طلحة عن رجل رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقف عند الحجر فقال: (انى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ثم قبله، ثم حج أبو بكر فوقف عند الحجر ثم قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقبلك ما قبلتك) وحديث عمر يؤيد الرواية المرفوعة، وإنما قدمناه لأنه أصح سندا، وما روى من مراجعة علىّ لعمر في ذلك غير صحيح، فلا يعول عليه، والحديث يرشدنا إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة، وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى لله الذي لا يحدده مكان ولا تحصره جهة من الجهات، على أنه قد غرز في طبائع البشر تكريم الييوت والمعاهد، والآثار والمشاهد، التي تنسب للأحباء، أو تضاف إلى العظماء
çأمر على الديار ديار ليلى...أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى...ولكن حب من سكن الدياراé
وإنما يكون التعظيم والتكريم للديار، في حال غيبة الساكن والديّار، لأن النفس إذا حرمت من المشاهدة التي تذكى نار الحب، وتهيج الاحساس والشعور بلذة القرب، تحاول أن تذكى تلك النار، بالتعلل بالاطلال والآثار.
5. لا يقال لماذا خصص الحجر الاسود بالتقبيل؟ فان كل مشعر من تلك المشاعر قد خص بمزية تثير شعورا دينيا خاصا يليق به، فلا يقال: لماذا كان الوقوف والاجتماع، وتعارف أهل الآفاق والاصقاع، مخصوصا بعرفة دون غيرها من البقاع، ولهذه المشاعر والشعائر معان وأسرار أخرى عند بعض الخواص، لا ينبغي شرحها لعامة الناس.
6. جهل القصاص تلك الاحاديث والآثار، وهذه المعاني والأسرار، وجعلوا مزية البيت الحرام ومشاعره وحجره المكرم محصورة في مخالفتها لسائر الحجارة وكون أصلها من جواهر الجنة التي هي من عالم الغيب، ولو كان ذلك صحيحا لبقيت حجارتها كما كانت عندما نزلت من الجنة بزعمهم وقد راجت بضاعتهم المزجاة عند أهل العلم والعقل عند من لا يعرف من الدين إلا هذه الرسوم الظاهرة، ومنها كسوة الكعبة الحريرية المزركشة فإنها عند عامتنا في هذه الأزمنة من أعظم شعائر الدين؛ وإن حرم حضور احتفالها أو رؤيتها بعض علماء الأزهر المتأخرين (كالباجوري) وليس هذا التحريم لذاتها فإنها مشروعة بل لما في الاحتفال بها من البدع وما عليه العوام من اعتقاد البركة فيها وفى جملها الذي يقبل مقوده الأمراء والوزراء ورؤساء العلماء الرسميين المدهنين لهم، وهكذا كل واحد يفهم الدين، ويأخذ من كتب الأولين والآخرين، ما يناسب استعداد عقله، ويحسن في نظر جيرانه وأهله، حتى يخرج المسلمون من هذه الفوضى في الدين والعلم، ويدير شئونهم الاجتماعية أهل الحكمة والفهم، فيضعون لهم نظاما يتبع في تعميم التربية والتعليم: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
7. من مباحث اللفظ في الجملة: أن القواعد جمع قاعدة وهى ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات، ورفعها إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف و﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ قال الجلال: إنه متعلق بيرفع، وهذا إنما يصح إذا أريد بالبيت العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء، والأكثرون على أن (من) للبيان وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران، وهناك قول ثالث وهو أن (من) للتبعيض بناء على أن البيت مجموع العرصة والبناء.
8. في الكلام نكتة لطيفة وهى أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي، وقواعد أي شيء هي، فاذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس، وأشد تمكنا في الذهن.
9. النكتة في تأخير ذكر اسماعيل عن ذكر المفعول، مع أن الظاهر أن يقال: وإذ يرفع ابراهيم واسماعيل القواعد من البيت: فهي الالماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو ابراهيم، وإنما كان اسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة.
10. قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ الخ حكاية لدعاء ابراهيم واسماعيل عند البناء وهو أنهما كانا يقولان ذلك، حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب، وجملة القول بيان لحالهما وقتئذ، وتقبل الله العمل: قبله ورضى به ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالنا ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأعمالنا وبنيتنا فيها.
11. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ المسلم والمسلّم والمستسلم واحد وهو المنقاد الخاضع والمراد بالكلمة ما يشمل التوحيد والاخلاص لله تعالى في الاعتقاد والعمل جميعا:
أ. ومعنى الأول ـ أي الاخلاص في الاعتقاد ـ أن لا يتوجه المسلم بقلبه إلا إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلا بالله.
ب. ومعنى الثاني أن يقصد بعمله مرضاة الله تعالى لا اتباع الهوى وإرضاء الشهوة.
12. إنما يرضيه تعالى منا ان نزكى نفوسنا بمكارم الأخلاق، ونرقى عقولنا بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان، فبذلك نكون محل عنايته تعالى ومستودع معرفته وموضع كرامته، ومن يقصد بأعماله إرضاء شهوته واتباع هواه لا يزيد نفسه إلا خبثا، وبذلك يكون بعيدا عن الإسلام ويصدق عليه قوله: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾
13. سؤال وإشكال: إن الانسان يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة وهو سائق فطرى، فكيف ينافيه الاسلام وهو دين الفطرة، ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق اليه التلذذ بالطعام، ومنل ذلك طلب اللذات العقلية والأدبية فكيف يمكن أن يكون ما يطلب للذة خالصا لله وحده؟ والجواب: أن الاسلام قد حل هذه المسألة حلا لا يجده الانسان في ديانة أخرى، ذلك أنه لم يحرم علينا إلا ما هو ضار بنا، ولم يوجب علينا إلا ما هو نافع لنا، وقد أباح لنا مالا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة إذا قصد بها مجرد اللذة، وأما إذا قصد بها مع اللذة غرض صحيح وفعلت بنية صالحة فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها، ومن نية المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يسر اخوانه بلقائه، وأن يظهر نعم الله عليه، وأن يتقرب إلى امرأته ويدخل السرور عليها، وإنما الهوى المذموم في الاسلام هو الهوى الباطل كأن يتزين الرجل ويتطيب للمفاخرة والمباهاة أو ليستميل اليه النساء الأجنبيات عنه، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعا (وانما الأعمال بالنيات)
14. دعا هذا النبيان العظيمان لأنفسهما بحقيقة الاسلام ثم دعوا بذلك لذريتهما فقالا: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ أي واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك كإسلامنا ليستمر الاسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة.
15. أضافا الذرية إلى ضمير الاثنين للدلالة على أن المراد الذرية التي تنسب إليهما معا وهى ما يكون من ولد اسماعيل، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ويرجحه الحال والمحل الذي كانا فيه، وعزم ابراهيم على أن يدع اسماعيل في بلاد العرب داعيا إلى توحيد الله، وإسلام القلب اليه، ويرجع هو إلى بلاد الشام، وكذلك الدعاء لهذه الذرية بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي، وقد استجاب الله تعالى دعاء ابراهيم وولده عليهما السّلام، وجعل في ذريتهما أمة الإسلام، وبعث فيها منها خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى هذا الدعاء الاشارة بقوله في سورة الحج: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ وعلم مما تقدم أن المراد بالإسلام معناه الذي شرحناه فمن قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمة مخصوصة حتى يكون كل من يولد فيها أو يقبل لقبها مسلما ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن، ويكون من الذين تنالهم دعوة ابراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد جرى ابراهيم وولده على سنة الفطرة في هذا الدعاء أيضا فخصاه ببعض الذرية لأنه قد يكون منها من لا يتناول الإسلام.
16. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي علمنا إياها علما يكون كالرؤية البصرية في الجلاء والوضوح، والمناسك جمع منسك بفتح السين في الأفصح من النسك (بضمتين) ومعناه غاية العبادة، وغلب استعمال النسك في عبادة الحج خاصة؛ والمناسك في معالمه أو أعماله.
17. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ أي وفقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل حال أو عمل يشغلنا عنك، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ أو المعنى اقبل توبتنا، ومنه الحديث: (ويتوب الله على من تاب) وتاب ـ بالمثناة ـ كثاب (بالمثلثة) ومعناه رجع، ويقال: تاب العبد إلى ربه أي رجع اليه لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله أي عن طريق دينه وموجبات رضوانه، ويقال: تاب الله على العبد: لأن التوبة من الله تتضمن معنى الرحمة والعطف كأن الرحمة الإلهية تنحرف عن المذنب باقترافه أسباب العقوبة فاذا تاب عادت إليه، وعطف ربه عليه.
18. التوبة تختلف باختلاف درجات الناس فعبدك يتوب اليك من ترك ما أمرته بفعله، أو فعل ما أمرته بتركه؛ وصديقك يتوب اليك ويعتذر إذا هو قصر في عمل لك فيه فائدة عما في إمكانه واستطاعته؛ وولدك يتوب إذا قصر في أدب من الآداب التي ترشده إليها ليكون في نفسه عزيزا كريما، وكذلك تختلف توبات التائبين إلى الله تعالى باختلاف درجاتهم في معرفته، وفهم أسرار شريعته، فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله تعالى وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهى عنها، وإذا تابوا من عمل سيء فإنما يتوبون منها، وخواص المؤمنين يعرفون أن لكل عمل سيء لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال، ولكل عمل صالح أثرا فيها يقربها من الله وصفاته، فالتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله تعالى، فهي إذا قصرت فيها تتوب، وإذا شمرت لا تأمن النقائص والعيوب، ويختلف اتهام هؤلاء الأبررا لأنفسهم باختلاف معرفتهم بصفات النفس وما يعرض لها من الآفات في سيرها، ومعرفتهم بكمال الله جل جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه، ولذلك قال بعض العارفين: حسنات الابرار سيئات المقربين، ومن هنا نفهم معنى التوبة التي طلبها ابراهيم واسماعيل، عليهما وعلى آلهما الصلاة والتسليم.
19. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي إنك أنت وحدك الكثير التوب على عبادك وإن كثر تحولهم عن سبيلك بتوفيقهم للتوبة اليك وقبول توبتهم منهم الرحيم بالتائبين.
20. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ أي من أنفسهم ويتضمن هذا الدعاء لهم بالارتقاء الذي يؤهلهم ويعدهم لظهور النبيّ منهم، وقد أجاب الله تعالى هذه الدعوة بخاتم النبيين والمرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ورد في حديث أحمد: (أنا دعوة ابراهيم وبشارة عيسى)
21. ثم وصف هذا الرسول بقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ الدالة على وحدانيتك وتنزيهك وعظمة شأنك، والدالة على صدق رسلك إلى خلفك، فالمراد بالآيات الآيات الكونية والعقلية، أو المراد آيات الوحى التي تنزلها عليه فتكون دليلا على صدقه، ومشتملة على تفصيل آيات الله في خلقه، كبراهين التوحيد والتنزيه، ودلائل النبوة والبعث، وتلاوتها، ذكرها المرة بعد المرة لترسخ في النفس، وتؤثر في القلب.
22. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فسروا الكتاب بالقرآن والحكمة بالسنة والثاني غير مسلم على عمومه، أما الأول فله وجه، وعليه يكون المراد بالآيات فيما سبق دلائل العقائد وبراهينها كما تقدم فيما سبق دون الوحى وإلا كان مكررا، وفيه وجه ثان وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب يقال: كتب كتابا وكتابة: وإنما الدعاء لأمة أمية لا بد في إصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة وقد كانت الأمم المجاورة لها من أهل الكتاب فلا يتيسر لها اللحاق بها أو سبقها، حتى تكون من الكاتبين مثلها.
23. أما الحكمة فهي في كل شيء معرفة سره وفائدته والمراد بها أسرار الأحكام الدينية والشرائع ومقاصدها، وقد بين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك بسيرته في المسلمين، وما فيها من الفقه في الدين، فان أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلم، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول وإن أرادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الأصول والمحدثون فلا تصح على إطلاقها فالحكمة مأخوذة من الحكمة ـ بالتحريك ـ وهى ما أحاط بحنكى الفرس من اللجام وفيها العذاران، وفى ذلك معنى ما يضبط به الشيء، ومن ذلك إحكام الأمر واتقانه، وما كل من يروى الأحاديث يحقق له هذا المعنى، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم أسراره ومقاصده يصح أن يقال: إنه قد أوتى الحكمة التي قال الله فيها: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ولن يكون أحد داخلا في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبيّ الكريم.
24. علم إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفى في إصلاح الأمم وإسعادها، بل لا بد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل والحمل على الأعمال الصالحة بحسن الأسوة والسياسة فقالا: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهر نفوسهم من الأخلاق الذميمة، وينزع منها تلك العادات الرديئة، ويعودها الاعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير، ويبغض اليها الأعمال القبيحة التي تغريها بالشر.
25. ثم ختما الدعاء بهذا الثناء ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز هو القوى الغالب على أمره فلا ينال بضيم، ولا يغلب على أمر، والحكيم هو الذي يضع الأشياء أحسن موضع، ويتقن العمل ويحسن الصنع.
26. السر في ذكر هذين الوصفين هنا إزالة ما ربما يعلق بالذهن، أو يسبق إلى الوهم، من أن هذه الأمور التي دعي بها للعرب منافية لطبائعهم، بعيدة من أحوالهم ومعايشهم، فإنهم جمدوا على بداوتهم، وألفوا غلظتهم وخشونتهم، فهم أعداء العلم والحكمة، خصماء التهذيب والتربية، لا يخضعون لنظام، ولا يؤخذون بالأحكام، ولا استعداد فيهم للمدنية والحضارة، التي هي أثر تعليم الكتاب والحكمة، وتزكية أفراد الأمة، فكان يتوقع أن يقول قائل: من بقدر أن يغير طباع هذه الأمة المعروفة بالخشونة والقسوة، فيجعلها من أهل العلم والمدنية والحكمة؟ لولا أن علم أن المدعو والمسئول هو العزيز الذي لا مرد لأمره، والحكيم الذي لا معقب لحكمه.
__________
(1) تفسير المنار: 1/466.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة، انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعى أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.
2. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ أي واذكروا إذ يرفع إبراهيم قواعد البيت وأساسه، وهذا نصّ في أنهما هما اللذان بنياه لعبادة الله في تلك البلاد الوثنية، وجعلاه موضعا لضروب من العبادة التي لا تكون في غيره، وذلك هو مصدر شرفه لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بأنه نزل من السماء، فكل ما روى بصدد هذا فهو من الإسرائيليات التي لا يعول عليها ولا ينبغي تصديقها، ولا يقبلها العلماء الذين يفقهون أسرار الدين ويفهمون مراميه، ومن ثم قال عمر عند استلام الحجر الأسود: (أما والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبّلك ما قبّلتك، ثم دنا فقبّله)، وفي هذا الأثر إيماء إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار، وإنما استلامه امر تعبدي كاستقبال الكعبة في الصلاة، وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدّه مكان، ولا تحصره جهة.
3. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ أي إن إبراهيم وإسماعيل كانا يقولان في دعائهما وهما يرفعان قواعد البيت: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا.
4. في الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك ـ فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبّلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.
5. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة.
6. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين.
7. مما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.
8. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي عرّفنا مواضع نسكنا أي أفعال الحج كالمواقيت التي يكون منها الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف إلى نحو ذلك من أفعاله وأقواله.
9. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ أي ووفقنا للتوبة، لنتوب ويرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾، وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.
10. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.
11. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانة وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي.
12. وقد أجاب الله دعوته، وأرسل خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا منهم، ومن ثمّ روى أحمد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى)
13. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من الآيات التي تنزلها عليه، متضمنة تفصيل الآيات الكونية الدالة على وحدانيتك، ومشتملة على إمكان البعث والجزاء، بالثواب على صالح الأعمال والعقاب على سيئها، فيكون في ذلك عبرة لمن هداه الله ووفقه للخير والسعادة.
14. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ أي ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها بسيرته بين المسلمين فيكون قدوة لهم في أقواله وأفعاله.
15. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسّيها وتفسد الأخلاق وتقوّض نظم المجتمع، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضى المولى جلّ وعلا.
16. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي إنك أنت القوى الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك، الحكيم في أفعالك في عبادك، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
17. ختم إبراهيم عليه السلام دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يردّ له أمر، وأنه الحكيم الذي لا معقّب لحكمه، فمن الهيّن عليه أن يجيبه إلى ما طلب، مما هو متنافر مع طباع العرب، بعيد من معايشهم وأحوالهم، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم، وفيهم خشونة في الطباع، وغلظ في الأكباد، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية، وقد أجاب الله دعاءه وكوّن منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقى والحضارة.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/214.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يرسم الله تعالى مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.. يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن.
2. التعبير يبدأ بصيغة الخبر.. حكاية تحكى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾.. وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال، إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا﴾ فنغمة الدعاء، وموسيقى الدعاء، وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة.. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل، رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة.. إنها خصيصة (التصوير الفني) بمعناه الصادق، اللائق بالكتاب الخالد.
3. ماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود.. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.. إنه طلب القبول.. هذه هي الغاية.. فهو عمل خالص لله، الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول.. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء، عليم بما وراءه من النية والشعور.
4. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام؛ والشعور بأن قلبيهما بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ وأن الهدى هداه، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان.
5. ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن.. تضامن الأجيال في العقيدة: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾..وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن، إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول، وشعور إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما.. نعمة الإيمان.. تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام.. لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان؛ وأن يريهم جميعا مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم، بما أنه هو التواب الرحيم.
6. ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
7. وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون، بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل، يتلو عليهم آيات، الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس.. إن الدعوة المستجابة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته، غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون!
8. وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف.. إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين، وهما أصل سادني البيت من قريش.. إنهما يقولان باللسان الصريح: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾.. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾.. كما يقولان باللسان الصريح: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾.. وهما بهذا وذاك يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم، ووراثتها للبيت الحرام سواء، وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه، وهي أولى به من المشركين، وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين! وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش.. فليسمع: إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة، قال له ربه: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.. ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.. وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما: أن يكونا مسلمين لله، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث في أهل بيته رسولا منهم.. فاستجاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/115.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذه الآيات خبر بناء البيت الحرام بيد إبراهيم وإسماعيل، وقد ذكر البيت قبل هذه الآيات وهو مستكمل وجوده، ومهيأ للعبادة، وهذا ما يشعر بجلاله وقدسيته، وأنه كان معدا من قبل بيد القدرة، وأن يدى إبراهيم وإسماعيل اللتين جرتا عليه بعد هذا، إنما لإظهار هذا السرّ المضمر، والقدر المقدور.
2. في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ هو ظرف حاو للحال التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، ويدعوان الله بما دعواه به، في قولهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ وقد استجاب الله لهما، فجعل منهما أمة محمد، ثم كان من دعائهما قولهما: {رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ}، وقد استجاب الله لهما فبعث النبيّ العربيّ، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، وفى هذا يقول النبيّ الكريم: (أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخي عيسى)، والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنّة، وبهما يتزكى المؤمن ويتطهر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/143.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام، وتذكير بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً﴾ [البقرة: 128] إلخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 142] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذ تنبيها على الاستقلال.
2. خولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: 124] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشئونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة، وكلمة (إذ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن (إذ) تخلص المضارع إلى الماضي.
3. القواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علّامة.
4. رفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارا لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد، فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعا، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع، ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له.
5. عطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله، وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف مواليا للمعطوف عليه.
6. إسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح، ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملا بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق، وكان إسماعيل مقيما بمكة حول الكعبة، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريبا، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة.
7. جملة ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ مقول قول محذوف يقدر حالا من ﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ﴾ وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل كان حينئذ صغيرا.
8. العدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال.
9. جملة ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ تعليل لطلب التقبل منهما، وتعريف جزئي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم، ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني.
10. فائدة تكرير النداء بقوله: ﴿رَبِّنَا﴾ إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل، والثانية لطلب الاهتداء، فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا﴾ [البقرة: 129]
11. المراد بمسلمين لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد، وأما قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان.
12. ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم.
13. معنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ [البقرة: 131] الآية.
14. قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ يتعين أن يكون {مِنْ ذُرِّيَّتِنا} و﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ معمولين لفعل ﴿وَاجْعَلْنَا﴾ بطريق العطف، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما، و(من) في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ للتبعيض، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة، وهذا من أدب الدعاء.. ومن هنا ابتدئ التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك، والتمهيد لشرف الدين المحمدي.
15. الأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي بزنة فعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليها قبائل العرب، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية، وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: 38] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه.
16. استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 129]، وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة.
17. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا، ففعل ﴿أَرِنَا﴾ هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في (المفردات) والزمخشري في (المفصل) وتعدت بالهمز إلى مفعولين، وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني شبيها برؤية البصر، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول: أراني فلان الهلال طالعا، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند الزّمّاني:
çعسى أن يرجع الأيّا...م قوما كالذي كانواé
وقال حطائط بن يعفر:
çأريني جوادا مات هزلا لعلّني...أرى ما ترين أو بخيلا مخلّداé
فإن جملة مات هزلا ليست خبرا عن جوادا إذ المبتدأ لا يكون نكرة، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة.
18. جملة ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تعليل لجمل الدعاء.
19. المناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقربا، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: 200].
20. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا على تمام هديهم.
21. إنما قال ﴿فِيهِمْ﴾ ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولا إليهم فقط، ولذلك حذف متعلق ﴿رَسُولًا﴾ ليعم، فالنداء في قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ﴾ اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.
22. جاء في التوراة (في الإصحاح 17 من التكوين) (ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم) وقال له: أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا وفي فقرة 20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا)، وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجودا بها سنة 736 في كتاب له سماه (الحسام المحدود في الرد على اليهود): أن كلمة كثيرا جدا أصلها في النص العبراني (مادا مادا) وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمّل لأن عدد حروف (مادا مادا) بحساب الجمّل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد، وتبعه على هذا البقاعي في (نظم الدرر).
23. معنى ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ يقرؤها عليهم قراءة تذكير، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع، فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب، وما نسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكا للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبة حجة الوداع (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا).
24. جيء بالمضارع في قوله: ﴿يَتْلُو﴾ للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته.
25. الحكمة العلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده، وعن مالك: الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئا من المغايرة بزيادة معنى.
26. التزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك.
27. جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 18، 19] العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.
28. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء، والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 10] وقوله: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/699.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان بناء الكعبة من الكلمات التي اختبر الله تعالى بها نبيه إبراهيم، فقد قلنا إن المراد من الكلمة مدلولاتها من أمر ونهى، ونحوها، وقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم ببناء الكعبة لتكون المزار، وبها نسك الحج؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾
2. ﴿إِذِ﴾ ظرف زمان دال على الماضي ويتعلق بمحذوف تقديره اذكر أو اذكروا الوقت الذي كان يرفع فيه القواعد من البيت وإسماعيل، وذكر الوقت ليس بذكر الزمان المجرد إنما يكون بذكر الوقائع التي وقعت فيه، وإنها تكون قليلة خطيرة، لها أثرها فيما وراءها.
3. حكى الله تعالى قصة البناء بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ وعبر بفعل المستقبل، وهى واقعة في الماضي لأن الفعل المضارع يصور الواقع كأنه حاضر تستحضره، وتراه: شيخ هو خليل الله تعالى وشاب هو ذبيح الله تعالى يقومان معا ببناء البيت، ويتضرعان إلى الله تعالى في كل حجر يضعانه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
4. القواعد جمع قاعدة، وهى الأساس لما فوقها، وكل حجر يوضع هو قاعدة لما فوقه، والحجر الثاني قاعدة للثالث؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ وعبر سبحانه عن وضع القواعد بعضها فوق بعض ب (يرفع)؛ لأن البناء هو الغاية من الوضع، فعبر سبحانه وتعالى عن الفعل بغايته ونهايته.
5. إبراهيم الخليل وولده الطاهر الذبيح المحتسب، لا يبنيان لذات البناء ولا لغرض دنيوي ولا للمأوى والسكن، بل استجابة لأمر الله تعالى، بأمره، ويتضرعان بالبناء، طالبين قبوله.
6. البناء كان بأمر الله، روى البخاري وجاء مثله في مصنف عبد الرزاق أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده ـ الذي تركه في البيداء ـ الوقت بعد الآخر، فجاءه وقد صار فتى سويا وتزوج فوجده يصلح النبل، فقال: يا إسماعيل إن ربي عزّ وجل أمرني أن أبنى له بيتا، فقال الابن البار المطيع: أطع ربك عزّ وجل، قال إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال الشاب القوى: إذن أفعل، فقام فجعل إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
7. الدعاء على ما بينه الحديث كان محفوفا بالعمل فهما يعملان بأيديهم، ويحملان على عاتقهما، وقلوبهما ضارعة بالدعاء وألسنتهما لاهجة بالثناء على الله تعالى، والتقرب إليه، وقد قيل إن إبراهيم الخليل كان يبنى وإسماعيل كان يدعو، وذلك يخالف النص في القرآن ويخالف الحديث ويخالف منطق العبادة، فإنه لا تكون عبادة أحدهما بالدعاء مغنية عن عبادة الآخر.
8. هذا العمل من الخليل إبراهيم، وابنه الذبيح المفدّى، يدل على أن أي عمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان لله تعالى.. نعم إن ذلك العمل كان استجابة لأمر الله، فهو أجل من أي عمل، ولكن ذلك لا يمنع أن أي عمل فيه أداء فرض كفاية يكون بأمر الله ما دام مطلوبا لصالح الجماعة، وإذا اقترنت به نية القربى كان عبادة، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب العمل لا يحبه إلا لله).
9. أقام ابراهيم خليل الله مع ابنه المطيع لأبيه وربه البناء، ودارا حول جدرانه يتممانها، وهما يحفانه بدعائهما ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، وقد أحسا بالاستجابة، لكمال الضراعة، وخاطبا ربهما في إحساس بالقرب منه قائلين: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وقد أكدا أن علمه تعالى علم من يسمع من غير أذن، وعلم من يعلم علم إحاطة لا يخفى عليه شيء؛ أكداه أولا بالجملة الاسمية، وأكداه بإن، وأكداه بالتأكيد اللفظي بتكرار (أنت) وأكداه بتعريف الطرفين، أي أنه لا سميع غيرك، ولا عليم سواك، وهكذا كانت ضراعة الإيمان.
10. أتم إبراهيم بناء الكعبة، وكان مما اختبره الله به، ومن الكلمات التي أتمها، وقد اتجه الأواب الحليم بعد أن دعا ربه بقبول عمله، إذ قال ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، أي اقبله راضيا عنا؛ لأن التقبل أبلغ من القبول، إذ القبول المجرد أقل من التقبل برضا، وجزاء لهذا العمل.
11. اتجه خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته، بعد دعائه لنفسه وابنه، فقال هو وابنه عليهما السلام: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، والواو في قوله تعالى ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، عاطفة على قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ وكرر بين المعطوفين كلمة (ربنا) للشعور بكمال ربوبية الله تعالى، وبكمال الضراعة له سبحانه، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما، وبذكر نعمه، وأنه كالئ هذا الوجود كله.
12. ﴿وَاجْعَلْنَا﴾ جعل هنا بمعنى صيّر، وكوّن؛ أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام، وأن يكونا لله وحده، مثل قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة] وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان.
13. إنهما لم يدعو لأنفسهما فقط، بل دعوا أيضا لذريتهما، فقالا في دعائهما الضارع المخلص: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ أي واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك.
14. ﴿مِنَ﴾ هنا للتبعيض، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك، بحيث تكون كلها لك، وقالوا: إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة] ونحن نرى أن ﴿مِنَ﴾ بيانية؛ لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لا بأدناه، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة لك، والمقام مختلف عن دعاء الإمامة؛ لأن الإمامة لا تكون للجميع، إنما تكون للبعض المختار منها، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع.. والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة.
15. هذا دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج، وأتم الإخلاص والضراعة ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا.
16. المناسك جميع منسك، وأصل النسك الطهارة، وأصله الغسل والتنظيف، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة، ويطلق على العباد بالحج، وإقامة شعائره من طواف، وسعى وذبح ورمى جمار بعد الوقوف بعرفة، وبالمزدلفة، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة.
17. المراد بالمناسك هنا: فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، ومنها الحج.. وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف، وسعى وذبح هدى ووقوف بعرفة والمزدلفة ورمى الجمار، وغير ذلك من شعائر الحج.. وإني أميل إلى تعميم مدلول المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية.
18. الدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التوبة: الرجوع إلى الله تعالى، وتاب عليه بمعنى قبل التوبة، ومعنى {تُبْ عَلَيْنا}، اقبل توبتنا، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم.
19. التواب صيغة مبالغة من تائب، والمراد منها قبول التوبة، وكأن المعنى: إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ [غافر]، وإن قبول التوبة، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى؛ ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة؛ لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لا عن استحقاق.
20. سؤال وإشكال: الأنبياء معصومون عن الذنوب، فلم يتوبون، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران؟ والجواب: أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه، والتوبة على ذلك مراتب:
أ. الأولى: وهى أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر].
ب. الثانية: وهى متوسطة بين أعلاها وأدناها، وهى الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ج. الثالثة: وهى الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم، وقربهم من الله، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل، فهذه توبة إبراهيم.
21. التوبة كيفما كانت رتبتها عبادة، وأهل الله يقولون: رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا، فالطاعة من الأنبياء لا تورث دلا، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له، فيتوبون، ثم يتوبون.
22. نبيّ الله وخليله وابنه لا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة، بل يطلبان هاديا مرشدا لهم من بعدهما؛ ولذلك يقولان في دعواتهما: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ الواو عاطفة عطفت (ابعث) على (واجعل)، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه، وتبليغها، و(فيهم) أي في وسطهم على أنه منهم، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف، ولهم آلف، كما قال تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوف رَحِيمٌ} [التوبة] وواضح أن الرسول الذي دعا إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد روى أنه قال إجابة لنفر من الصحابة قالوا: يا رسول الله عرفنا بنفسك، فقال: (نعم، أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى) فإبراهيم عليه السلام دعا، ببعثه وعيسى بشر به كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف]، ونكر (رسولا) للتعظيم، أي رسولا عظيما كريما منهم.
23. ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليه فقال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومعنى ﴿يَتْلُو﴾ يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلا كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان] أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة محمد هي القرآن المتلو، تكون النتيجة واحدة، وهى أن المتلو القرآن.
24. كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينا، ولذا قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه، لأنه الكامل كمالا مطلقا، وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المبين له، والشارح لأحكامه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل]، فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه، وبيان شرائعه، وما اشتمل عليه.
25. ﴿الْحِكْمَةَ﴾: قال الشافعي إنها السنة؛ ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى ابن وهب عن الإمام مالك: المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى، وقيل: الحكمة هي الحكم، والفصل في عدالة بين الناس.. والحكمة معناها حسن التدبير للأمور، وفهمها وفقه الدين، ومعرفة أسراره، وفى الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته، وعلاجه للأمور، وسياسة الناس، وتصريف الأمور معهم، وكانت جلسات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تحوى الكثير من أدب النفس، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال أبو حنيفة: إن ساعة في حضرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تغني عن فقه سنين.
26. عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم، بمعنى ينمى فيهم قوة الخلق وقوة الدين، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام، وبقائه خالدا قائما.
27. يستفاد من هذا أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾، ويعلم الشرع منه؛ إذ فيه كله، ويشير إلى هذا قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾.. وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يهذب النفوس، ويزكى القلوب بتعليم الحكمة والتزكية.
28. ختم إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ العزيز: هو ذو العزة، وتتضمن معنى القدرة والمنعة، والغلب، والسلطان، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام.
29. أكد هذين الوصفين بأنّ المؤكدة، وبتوكيد القول، بقوله (أنت)، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان، فلا عزة لأحد بجوار عزته، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/404.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف المفسرون والمؤرخون في تاريخ الكعبة: هل كانت قبل ابراهيم عليه السلام ثم عرض لها الخراب، فجددها هو وولده إسماعيل بأمر الله تعالى، أو ان تاريخ بنائها وانشائها يبتدئ بإبراهيم؟.. ذهب أكثر أهل التفسير والتاريخ من المسلمين الى انها أسبق بكثير من ابراهيم، وقال البعض: بل ولدت الكعبة على يد ابراهيم عليه السلام، وتوقف آخرون، ولم يحكموا بشيء، وقالوا: الله أعلم، ونحن مع هؤلاء.. ذلك ان العقل لا مجال له في هذا الباب سلبا ولا إيجابا، والطريق الى معرفته ينحصر بالآثار والحفريات، أو بآية قرآنية، أو سنة قطعية.
2. لم أطلع على أقوال الباحثين في الآثار والحفريات، والقرآن لم يحدد صراحة تاريخ البناء، وكل ما جاء فيه ان ابراهيم وولده إسماعيل قد باشرا بناء البيت، وتعاونا معا على إقامته، وهذا أعم من عدم وجوده إطلاقا من قبل، أو كان موجودا، ولكن عرض له الخراب والدمار، ثم جدده ابراهيم وولده إسماعيل.. والسنة القطعية منتفية، والأخبار الواردة في هذا الباب كلها آحاد، والخبر الواحد حجة في الأحكام الشرعية فقط، أو فيها وفي موضوعاتها على قول، أما في العقائد، والمسائل التاريخية، والموضوعات الخارجية البحتة فليس بحجة الا مع قرينة توجب ركون النفس واطمئنانها، وعندها يكون الخبر بحكم السنة القطعية.
3. مهما يكن، فنحن غير مسؤولين أمام الله سبحانه، ولا مكلفين بمعرفة تاريخ بناء الكعبة، وزمن انشائها وولادتها، وانها: هل هي جزء من الجنة، أو قطعة من الأرض؟، وان آدم والأنبياء من بعده قد حجوا اليها، أو لا؟.. وانها عند الطوفان: هل ارتفعت الى السماء، ثم نزلت بعده الى الأرض؟.. وان الحجر الأسود: هل جاء به جبريل من السماء، أو صحبه آدم معه من الجنة، أو تمخض عنه جبل أبي قبيس؟، وانه: هل اسودّ من ملامسة المذنبين؟.. الى غير ذلك مما لا سند له الا خبر واحد، أو قصّاص مخرف.
4. نحن غير مسؤولين عن شيء من هذه الأشياء، ولا مكلفين بمعرفتها وجوبا ولا استحبابا، ولا عقلا ولا شرعا.. ولا فائدة في بحثها دينية ولا دنيوية، وقد عاشت هذه الأبحاث وما اليها حينا من الدهر، ثم ذهبت مع الريح.. ومن أراد إحياءها فإنه تماما كمن يحاول إرجاع عقارب الساعة الى الوراء.
5. ان الشيء الذي نسأل عنه، ونطالب به ـ فيما يعود الى الكعبة ـ هو قصدها للحج والعمرة من استطاع الى ذلك سبيلا، واحترامها وتقديسها، والمحافظة عليها، والذب عنها بالنفس والنفيس اقتداء بالرسول الأعظم وأهل بيته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه والتابعين والعلماء وجميع المسلمين.. فإنهم يؤمنون ايمانا لا تشوبه شائبة بأن تعظيم بيت الله تعظيم لله، والحرص عليه حرص على حرمات الله، والذب عنه ذب عن دين الله.. قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فرض الله عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الانعام، ويألهون ـ أي يفزعون ـ اليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته.. جعله سبحانه للإسلام علما، وللعائذين حرما).
6. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، هذا دعاء من ابراهيم وإسماعيل أن يثيبهما الله على هذا العمل، لأن معنى القبول عند الله هو الثواب على العمل الذي يقبله، كما ان عدم الثواب على العمل معناه رده ورفضه، ولا تفكيك بموجب كرم الله وجوده، وليس من شك ان الله قد قبل دعاءهما، وأجزل لهما الثواب على هذه الطاعة، لأنه هو الذي فتح باب الدعاء، وما كان ليفتح على عبد باب الدعاء، بخاصة المتقي، ويغلق عنه باب الاجابة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام.
7. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، المسلم، والمسلّم، والمستسلم بمعنى واحد، وهو الذي يذعن وينقاد، والمراد به هنا من أخلص لله في عقيدته وأعماله، وليس من شك ان السعيد الحميد هو الذي يسلم لله جل وعز جميع أموره وشئونه.
8. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ وقد استجاب الله دعاءهما، وجعل في ذريتهما ملايين الملايين من المسلمين.
9. اختص الشيعة من دون جميع الطوائف الاسلامية، اختصوا بالقول: ان آباء محمد وأجداده، وأمهاته وجداته كانوا جميعا موحدين، ما أشرك أحدهم بالله شيئا، وان محمدا منذ الخليقة كان ينتقل من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهرة حتى ساعة ولادته صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال شيخ الشيعة الشهير بالمفيد في شرح عقائد الصدوق: (ان آباء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أبيه الى آدم كانوا موحدين على الإيمان بالله، وعليه إجماعنا، قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾، وقال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا.. فدل قول النبي على ان آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان بعضهم كافرا لما استحق الوصف بالطهارة، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾، فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك دل على انهم كانوا مؤمنين).
10. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، أي علمنا مناسك الحج، وغيرها من العبادات.. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾، وليس من الضروري أن يلازم طلب المغفرة وجود الذنب، بخاصة إذا كان الطلب من الأنبياء والأوصياء، لأن هؤلاء الكرام يرون أنفسهم مقصرين في حق الله مهما اجتهدوا في العبادة لله، وأخلصوا لجلاله، لأنهم أدرى الناس بعظمته، وبأن عبادة الإنسان بالغة ما بلغت فلن تفي ببعض الحق لتلك العظمة التي لا بداية لها، ولا نهاية.
11. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، واستجاب الله هذه الدعوة بخاتم النبيين وسيد المرسلين، فلقد جاء في أحاديث السنة والشيعة ان النبي قال: أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى).. وفي سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وليس أحد من العرب يقرأ كتابا، ولا يدعي نبوة ولا وحيا).
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/203.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الأرض، واستقر عليه الباقي، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها.. وفي قوله تعالى: ﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ تلميح إلى هذه العناية المجازية.
2. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، دعاء لإبراهيم وإسمعيل، وليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، والمعنى يقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ إلخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: ﴿يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعاءهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما، وهذا كثير في القرآن، وهو من أجمل السياقات القرآنية ـ وكلها جميل ـ وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شيء من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه.
3. في عدم ذكر متعلق التقبل ـ وهو بناء البيت ـ تواضع في مقام العبودية واستحقار لما عملا به والمعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير إنك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا.
4. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، من البديهي أن الإسلام على ما تداول بيننا من لفظه، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدينية، أعم من الإيمان والنفاق، وإبراهيم عليه السلام ـ وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية ـ أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسمعيل رسول الله وذبيحة، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، وهما أعلم بمن يسألانه، وأنه من هو، وما شأنه، على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر والنهي كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك، فهذا الإسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ الآية، حيث يأمرهم إبراهيم بالإسلام وقد كان مسلما، فالمراد بهذا الإسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإسلام الموجود، ولهذا نظائر في القرآن.
5. هذا الإسلام هو الذي سنفسره من معناه، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو إن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له ـ وحاله حاله ـ كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن أن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الإنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإنسان متصفا به.
6. على أن هنا نظرا أدق من ذلك، وهو أن الذي ينسب إلى الإنسان ويعد اختياريا له، هو الأفعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الإنسان، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ الآية، فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، بل معنى أرقى وأعلى منه.
7. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، يدل على ما مر من معنى الإسلام أيضا، فإن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما والأعمال التي يعملانها دون الأفعال، والأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بآرائه حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾، وسنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، وكأنه إليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾
8. تبين أن المراد بالإسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، وكذلك المراد بقوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾، لأن إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي الصادرة عنا.
9. سؤال وإشكال: كل ما ذكر من معنى الإسلام وإراءة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم وإسمعيل عليه السلام، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه إسماعيل إلا في دعوة الإسلام وقد سأل لهم الإسلام بلفظ آخر في جملة أخرى، فقال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ ولم يقل: واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الإسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإسلام، فإن الظاهر من الإسلام أيضا له آثار جميلة، وغايات نفيسة في المجتمع الإنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإبراهيم عليه السلام يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث اكتفى صلّى الله عليه وآله وسلّم من الإسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، ويجوز التزويج، ويملك الميراث، وعلى هذا يكون المراد بالإسلام في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾، ما يليق بشأن إبراهيم وإسماعيل، وفي قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المنافق، وضعيف الإيمان وقويه والجميع مسلمون، والجواب: مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر:
أ. فما اكتفى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمته بظاهر الشهادتين من الإسلام، إنما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الإسلام، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.
ب. أما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق، والغرض متعلق هناك بحق الأمر، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للأنبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لإبراهيم عليه السلام في ذريته ولو كان له هوى لبدأ فيه لأبيه قبل ذريته ولم يتبرأ منه لما تبين أنه عدو لله، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، ولم يقل ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك، فليس الإسلام الذي سأله لذريته إلا حقيقة الإسلام، وفي قوله تعالى: ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، إشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الإسلام على الذرية لقيل: أمة مسلمة، وحذف قوله: ﴿لَكَ﴾، هذا.
10. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ إلخ دعوة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أنا دعوة إبراهيم.
11. ما لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصة القصة(2).، وقد اشتملت عدة منها، وورد في أخبار أخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن أمورا خارقة للعادة، ففي بعض الأخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور، نزلت على آدم، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، ولم تغرق البقعة، فسمي لذلك البيت العتيق.. وفي بعض الأخبار: أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة.. وفي بعضها: أن الحجر الأسود نزل من الجنة ـ وكان أشد بياضا من الثلج ـ فاسودت: لما مسته أيدي الكفار.. ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة، وهي وإن كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس.
12. ما ورد من نزول القبة على آدم، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق، ونحو ذلك، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي أمور لا دليل على استحالتها، مضافا إلى أن الله سبحانه خص أنبياءه بكثير من هذه الآيات المعجزة، والكرامات الخارقة، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها.
13. ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الأسود من الجنة، ونزول حجر المقام ـ ويقال: إنه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم ـ من الجنة وما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها: أنها من الجنة، وكذا ما ورد: أنها من جهنم، ومن فورة الجحيم، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة: إن طينة السعداء من الجنة، وإن طينة الأشقياء من النار، أو هما من عليين، وسجين، ومن هذا الباب أيضا ما ورد: أن جنة البرزخ في بعض الأماكن الأرضية، ونار البرزخ في بعض آخر، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الأخبار، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذي يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من إلهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، وانعطف إلى الجري على مسيرها الأخبار الذي يقضي به كلامه تعالى: أن الأشياء التي في هذه النشأة الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيرا جميلا، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، وإليها تعود، وما كان منها شرا، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، وإليها ترجع، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، أفاد: أن كل شيء موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر، وعند التنزيل ـ وهو التدريج في النزول ـ يتقدر بقدره ويتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، وقد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾، على ما سيجيء من توضيح معناها إن شاء الله العزيز، فكل شيء نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، وقد أفاد في كلامه: أن الكل رجوع إليه سبحانه، فقال: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾، وقال تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾، وقال تعالى: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
14. وأفاد: أن الأشياء ـ وهي بين بدئها وعودها ـ تجري على ما يستدعيه بدؤها، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء، والخير والشر، فقال تعالى: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، وقال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، وسيجيء توضيح دلالتها جميعا، والغرض هاهنا مجرد الإشارة إلى ما يتم به البحث، وهو أن هذه الأخبار الحاكية عن كون هذه الأشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، لمطابقتها لأصول قرآنية ثابتة في الجملة، وإن لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا، يصح الركون إليه، فافهم المراد.
15. ربما قال القائل: إن قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ الآية ظاهر في أنهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين، جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، وتفننوا في رواياتهم، عن قدم البيت، وعن حج آدم، وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان.. قال وهذه الروايات فاسدة، في تناقضها وتعارضها في نفسها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب.. وهذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين، ليشوهوا عليهم دينهم، وينفروا أهل الكتاب منه.. وما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، إلا أنه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع، أما قوله: إن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض والتعارض وثانيا من جهة مخالفة الكتاب، ففيه:
أ. أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها، وأما الأخذ بمجموعها من حيث المجموع (بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك: الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والطاهرين من أهل بيته، وأما غيرهم من مفسري الصحابة، والتابعين، فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل، كما لا حجية إلا للكتاب والسنة القطعية، في أصول المعارف الدينية الإلهية.
ب. فهناك ما هو لازم القبول، وهو الكتاب والسنة القطعية، وهناك ما هو لازم الطرح، وهو ما يخالفهما من الآثار، وهناك ما لا دليل على رده، ولا على قبوله، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، ولا من جهة النقل أعني: الكتاب والسنة القطعية على منعه.. وبه يظهر فساد إشكاله بعدم صحة أسانيدها فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح.
ج. أما مخالفتها لظاهر قوله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ﴾ الآية فليت شعري: أن الآية الشريفة كيف تدل على نفي كون الحجر الأسود من الجنة؟ أم كيف تدل على نفي نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء إبراهيم؟ وأي ربط له إثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، ولا يرتضيه رأيه لعصبية مذهبية توجب نفي معنويات الحقائق عن الأنبياء، واتكاء الظواهر الدينية على أصول وأعراق معنوية، أو لتبعية غير إرادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة، الحاكمة في جميع شئون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية.
د. قد كان من الواجب: أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها، ذاك الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط، وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها، المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولا يسعها أن تتكلم فيها، أو تتعرض لإثباتها، أو تقضي بنفيها فالعلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر، وإلى بان يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الأحجار السود وكذا الأبحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء إبراهيم للبيت، وهي جمل من تاريخ حياته، وحياة هاجر، وإسماعيل، وتاريخ، تهامة ونزول جرهم، إلى غير ذلك، وأما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه، أو تنفي ما قيل، أو يقال فيه، وقد عرفت: أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه (أيما إلى جنة أيما إلى نار)، وهو الناطق بكون الأعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾، والتقوى فعل، أو صفة حاصلة من فعل، وقال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وإنما اتكاؤها وركونها إلى حقائق ومعان وراء ذلك.
هـ. أما قوله: إن شرف الأنبياء والمعاهد والأمور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الأسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الإلهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الأمر المعنوي الذي يتضمن الشرافة؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الإنسان وغلاء القيمة في الذهب والفضة وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدى عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حياة الإنسان، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، وإن كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور والظلمة، والعلم والجهل، والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وإن كانت حواسنا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾،وسيجيء بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة، فإذا جاز تحققها في الأنبياء بنحو فليجز تحققها في غير الأنبياء كالبيت والحجر ونحوهما وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع.
و. وليت شعري: ماذا يصنع هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود؟ فماذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع؟ فهل لهذه البيانات الإلهية والظواهر الدينية وجه غير أنها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الأمور نشأة الدنيا.
16. في تفسير العياشي، عن الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: أخبرني عن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من هم؟ قال أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بنو هاشم خاصة ـ قلت: فما الحجة في أمة محمد ـ أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال قول الله: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة ـ وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة ـ يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ـ وردف دعوته الأولى دعوته الأخرى ـ فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الأصنام ـ ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة والأمة المسلمة ـ التي بعث فيها محمدا إلا من ذرية إبراهيم ـ لقوله: {اجْنُبْنِي وَبَنِيَ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾.. استدلاله عليه السلام في غاية الظهور، فإن إبراهيم عليه السلام إنما سأل أمة مسلمة من ذريته خاصة، ومن المعلوم من ذيل دعوته: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ أن هذه الأمة المسلمة هي أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليهم ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الأمة أعم من ذرية إبراهيم وإسماعيل بل أمة مسلمة هي من ذرية إبراهيم عليه السلام ثم سأل ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة، ومن المعلوم أن ذرية إبراهيم وإسماعيل ـ وهم عرب مضر أو قريش خاصة فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله: ﴿وَبَنِيَّ﴾، أهل العصمة من ذريته خاصة، وهم النبي وعترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في دعوة إبراهيم عليه السلام، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، ويؤيده قوله: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية، حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءا من نفسه، وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم.
17. سؤال وإشكال: لو كان المراد بالأمة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، عدة معدودة من الأمة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة، والجواب: إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الإسلامية وإلا فالأمة بمعنى القوم كما قال تعالى {عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}، وربما أطلق على الواحدة كقوله تعالى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله﴾، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو أريد فيه معناها، فقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ الآية ـ والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم ـ لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذا قوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الأمة، وكيف يشمل فراعنة هذه الأمة ودجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه ومحوه، ولا لأوليائه عظما إلا كسروه وسيجيء تمام البيان في الآية إن شاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعا، كما أن قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، لا يعم جميع هذه الأمة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى، أما قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فالخطاب فيه متوجه إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه.
18. إذا رجعنا إلى قصة إبراهيم عليه السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما من الأمر، حتى آل الأمر، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإعراض عن زخارف الدنيا، وملاذها، وأمانيها من جاه، ومال، ونساء وأولاد، والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين، وتكديرهم صفو الإخلاص والإقبال والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء، فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والإخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة ولمعانا.
19. ثم إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم، أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ إلى آخر الآيات، وما شرعه عليه السلام وإن لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾، وكيف كان فما شرعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نسك الحج المشتمل على الإحرام والوقوف بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والطواف والصلاة بالمقام تحكي قصة إبراهيم، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية والسائق نحوها ذلة العبودية.
20. العبادات المشروعة ـ على مشرعيها أفضل السلام ـ صور لمواقف الكملين من الأنبياء من ربهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وهذا أصل، وفي الأخبار المبينة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبع البصير.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/283.
(2) ساق بعض الآثار مما سقنا مثله سابقا، ثم ذكر هذا.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اذكروا يا بني إسرائيل {إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أي يبنيان أساس البيت رافعين له، أو كان أصل القواعد موجوداً فزادا عليه بناءً مجانساً لها قوياً كما تبنى القواعد أي أسس البناء، فصار هذا البناء رفعاً للقواعد، ولعل السبب كونه قريباً من مجرى السيل فرفعا أساسه لئلا يدخله السيل داعيين ربهما أدعية.
2. الدعاء الأول: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وتقبُّل العمل الصالح أن يجعله تعالى مقرباً إليه سبباً لثوابه.
3. الدعاء الثاني: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي مسلمَين وجوهنا لك، أي مخلصَين لك العبادة، ويحتمل مسلمَين أنفسَنا لك، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات:103] وإسلام النفس أبلغ من إسلام الوجه؛ لأن إسلام النفس لله شأن الخواص الذين لم يبق لهم في الحياة الدنيا غرض نفسي غير عبادة الله وذكره والتقرب إليه بكل وسيلة من الجهاد وغيره، والاشتغال بذلك عن كل غرض نفسي حتى المباحات يصير غرضهم فيها الاستعانة على العبادة أو نيتهم فيها تصيّرها قربة، وحتى أنهم يختارون الأشق على النفس إذا كان أفضل عند الله، وذلك كله لأنهم جعلوا أنفسهم خالصة لله، فسلموها له هذا التسليم ولا إشكال في هذا؛ لأنهم باعوا أنفسهم من الله وطلقوا الدنيا، فلا يقال: ما معنى إسلام النفس لله وهي له وحده لا شريك، سواء أسلمها أم لم يسلمها، فقد صح بيعها من الله، وهي له سبحانه من قبل البيع.
4. واجعل {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الاحتمال فيه كالاحتمال الأول، وقد روي عن الإمام زيد بن علي عليهما السلام أنه قال: (نحن الأمة المسلمة)، فهو يقوي احتمال مسلمة أنفسها لك، فتكون خاصة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبذوي القربى، الذين باعوا أنفسهم من الله، وأسلموها له كما أسلم إبراهيم وإسماعيل، وبالخُلَّص الذين ذكر الله تعالى وصفهم بعد آية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ [التوبة:111] فقال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة:112] فدل على جمعهم هذه الصفات مع بيعهم أنفسهم من الله ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ [التوبة:111].
5. ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ علّمنا عبادتنا لك حول هذا البيت، أي مناسك الحج والعمرة ونحوهما ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تب علينا، والتوبة من الله على عباده الرجوع عليهم برحمته وألطافه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة:118] وهو أعم من قبول التوبة والهداية لها.
6. الدعاء الثالث: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ أي في ذريتنا، وهم ذرية إسماعيل؛ لأن ذريته ذرية لأبيه إبراهيم عليهما السلام ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ فهو من ذرية إسماعيل ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ الدالة عليك، وعلى أنه رسول الله إليهم، وعلى اليوم الآخر وغير ذلك، ليعلموا أنه رسول الله ويؤمنوا به وبما يتلو عليهم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ فيحفظوه ويعلموا معانيه ويعلمهم ﴿الْحِكْمَةَ﴾ ليكونوا حكماء في منطقهم وسلوكهم على طريق الصواب وحسن الرأي ورجاحة العقل، وذلك يتوقف على أن يكونوا علماء؛ لأن الجاهل لا يكون حكيماً.
7. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يصلحهم، وقد فسر بأن يطهرهم، ولم يظهر لي؛ لأن الله تعالى قال ﴿صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:103] فدل على التغاير، فالتزكية بما يكون من الرسول من أسباب صلاحهم من التعليم والمواعظ والترغيب وما يكون لحاضريه ومشاهدي سيرته من بركات النبوة وما يكون لمن سمع بذلك من التأسي به وغير ذلك.. وأيضاً يكون إصلاحهم بالدعوة وظهور الآيات والمعجزات على يديه والبركات الخارقة، وأيضاً بما يكون من جهاده لأعداء الدين الذين يفتنون من أسلم ويدعون إلى الباطل والشرك حتى ترتفع راية الحق ويظهر أمر الله وهم كارهون، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ فيه طلب ما يحصل به العلم.
8. وقوله تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فيه طلب ما يُحَصّل به الرسول الإيمان والعمل الصالح والتقوى في الأمة المذكورة.
9. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ومن عزتك أن تظهر دينك وتعلي كلمتك، ومن حكمتك أن لا تهمل عبادك بلا بشير ولا نذير، فهذه الدعوات تفيد: أنها ستكون أمة مسلمة، رسولها منها ليس من بني إسرائيل، يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فهم على أساس مستقل وصراط مستقيم لا يحتاجون إلى اليهودية ولا النصرانية، قد كفاهم كتابهم ورسولهم واستغنوا بهما عن التوراة والإنجيل، وهذا يبطل تعصب اليهود والنصارى لملتهم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/187.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تتجسد الصورة أمامنا، ويبرز المشهد واضحا في قوّة وحياة، كما لو كنا ننظر ونستمع، فهذا هو إبراهيم وولده إسماعيل يقفان ليرفعا قواعد البيت في عمل يستغرق كل جهدهما واهتمامهما، ويشعران في هذا الجو بعباديّة العمل، تماما كأيّة فريضة عباديّة، ونستمع إليهما كما لو كان الصوت يهزّ أسماعنا في لهاث العاملين الخاشعين المجاهدين، ونصغي بقلوبنا إلى ذلك الدعاء الخاشع الذي ينساب من أعماق الأعماق في روحية طاهرة، كأنها هينمات الفجر عندما يتنفس في الفضاء، فتتصاعد أنفاسه نورا وسلاما وحياة وروحانية وبركة، إنها الروح المؤمنة الصافية، تعبّر عن نفسها في ابتهالات حبيبة خاشعة، فتحتضن في تطلّعاتها كل انطلاقات الحياة الوديعة السابحة في بحيرات الصفاء.
2. وهو ـ بعد ذلك ـ دعاء العاملين الذين يتحرك الدعاء لديهم من مواقع العمل لا من حالات الاسترخاء، فتحسّ ـ مع الدعاء ـ كما لو كانا يقدّمان تقريرا لربهما يحمل معه شظايا الروح وخفقات القلب وهدهدات الشعور في أحلام المستقبل.
3. إنهما يتطلّعان إلى أن يعرفا في خطوات عملهما رضى الله وقبوله، فليس المهمّ أن ينجحا في عيون الآخرين أو يكونا مقبولين لدى المجتمع الذي يعيشان فيه، بل المهمّ أن يعيشا الشعور بالرضى والقبول من الله، فهو الغاية في كل عمل.. إنهما يطلبان من الله أن يتقبل منهما هذا العمل، فهو السميع الذي يسمع طلبات عباده ويعلم ما في قلوبهم في ما يعملون ويتركون.. ويتجاوزان هذا العمل فيمتدان إلى كل مجالات حياتهما العملية في حاضرها ومستقبلها، ويبتهلان إليه أن يجعلهما يعيشان إسلام القلب والفكر والجوارح واللسان لله، لتكون حياتهما صورة متجسدة لإرادة الله وأمره.
4. وينتقلان في تطلّعاتهما وتمنياتهما إلى ذريتهما، فلا يريدان لهذه الذرية أن تنحرف عن الله سبحانه، بل يتطلعان إلى أن تعيش الإسلام لله، فتولد منها الأمّة المسلمة الممتدة التي تحوّل الحياة كلها إلى إسلام يتحرك في كل اتجاه، لتتجسّد عبودية الإنسان لله في صدق وإخلاص.
5. ويختمان هذه التطلعات بالرغبة إلى الله أن يعرّفهما أصول مناسكهما أو مواضعها، وأن يتوب عليهما لأن التوبة تجسّد المعنى الذي يوحي برضى الله وثوابه ورحمته، وليس من الضروري أن تكون مسبوقة بالذنب في أيّ حال من الأحوال.
6. ثم يتجه الدعاء اتجاها آخر، فقد لا يكفي أن يسلم الفرد وجهه لله، أو يسلم المجتمع حياته لله إذا لم يكن هناك مضمون فكري وعملي يحقّق للإسلام المعنى الحيّ المتحرك الذي يحقق للحياة أن تكون صورة لإرادة الله في ما يفعله الإنسان أو يتركه، وذلك من خلال الرسالات التي تضع للإنسان الخطوط التفصيلية الواضحة المحدّدة لحركته في الحياة، وتشير إلى الأهداف الكبيرة التي تحكم مسيرته في الكون، لتكون الصلة بالله عميقة، منفتحة في نطاق الوسيلة والهدف، فلا لبس هناك ولا غموض ولا انحراف، بل هو الوضوح في الرؤية والاستقامة في الخط والانفتاح الواعي على الله في كل إرادته.. فكان الدعاء الأخير أن يبعث الله في أفراد هذه الأمّة التي تعيش في هذا البلد رسولا منهم، فيعرف كل نوازعهم وأوضاعهم وتطلّعاتهم وعقلياتهم.. فيتلو عليهم آياته بالأسلوب الذي يتناسب مع عقلياتهم وأفكارهم، ويعلمهم الكتاب الذي أنزله الله عليهم والحكمة التي يتضمنها ذلك الكتاب، ويزكيهم بمواعظه ونصائحه وسيرته، لتتحوّل الأمّة إلى خط الوعي والريادة التي تعيش المسؤولية في حمل الرسالة بعيدا عن كل النوازع الذاتية والآفاق الضيّقة.
7. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ ويقيمان الأسس التي يرتكز عليها البناء، في روحية خاشعة منفتحة على رضى الله في مواقع القرب إليه، من بناء بيته وتهيئة الأجواء التي تقرب الناس منه وتبعدهم عن مجالات سخطه، لأن المسجد هو المكان الذي يهيئ للناس الفرصة للاجتماع في العبادة والاندماج في روحية الدعاء وخشوع الابتهال، فكانا يبنيان البيت كما لو كانا في حالة صلاة أو موقف طاعة يبتهلان إلى الله فيها أن يتقبل منهما ذلك: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾، قرباتنا وابتهالاتنا وأعمالنا، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الذي يسمع نجوانا ويعلم ما في خفايا ضمائرنا ونيّاتنا من المحبة لك وإخلاص القرب إليك.
8. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ لنسلم لك في كل أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وأفكارنا ومشاعرنا، لنذوب في عمق رضاك ومحبتك، فلا يكون لنا شيء إلا ما يرضيك في ذلك كله، ليكون إسلامنا حركة في وجودنا كله في الباطن والظاهر، وإذا كان الإسلام هو ما نتطلع إليه في منهج حياتنا، فإننا ننطلق به من خلال إيماننا بأنه هو الصراط المستقيم الذي ينتهي إليك في مواقع رحمتك ورضاك، ولذلك فإننا نريد له أن يمتد في ذريتنا، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ تتحرك في كل حركتها في الحياة في خط الإسلام لك ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ من شرائع عباداتنا أو حجنا، والنسك هو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج وأعماله.
9. حاول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان أن يفرّق بين الإسلام المتداول عندنا وبين الإسلام المسؤول في الآية، فإن المتداول منه مما يتبادر إلى الأذهان، هو (أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدينية، أعم من الإيمان والنفاق، وإبراهيم عليه السّلام وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملّة الحنيفية، أجلّ من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد نالاه إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسماعيل رسول الله وذبيحة، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى)، ويضيف إلى ذلك قوله: (على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر والنهي، كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131]، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك)، أما الإسلام المطلوب، فهو (تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو، وإن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته، إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري، بمعنى كونه غير ممكن النيل له، وحاله حاله، كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن أن يعد أمرا إليها خارجا عن اختيار الإنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإنسان متصفا به، على أن هنا نظرا أدق من ذلك، وهو أن الذي ينسب إلى الإنسان، ويعدّ اختياريا له، هو الأفعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية له بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى أولى من نسبتها إلى الإنسان)
10. نلاحظ على كلام العلامة الطباطبائي أنه ينطلق من التفسير الحر للكلمة التي تتضمن الإيجاد بعد العدم، الأمر الذي يجعل المعنى المطلوب غير حاصل في حال الطلب، ولذلك اضطر إلى تكلف التفرقة بين (الإسلامين)، وفي مناقشته نقول:
أ. أوّلا: إن إبراهيم وإسماعيل كانا في ذلك الحين مسلمين بالمعنى الشامل للإسلام المنطلق من المعرفة العميقة الواسعة بالله، مما نستوحيه من حوار إبراهيم مع نفسه ومع قومه ومع أبيه، وانفتاحه على الله في كل شؤونه وتسليمه له في كل أموره، ومن الموقف الإيماني الرائع الذي وقفه مع ولده إسماعيل عندما أمره الله أن يذبح ولده الذي يعني أمر إسماعيل بتسليم نفسه لأبيه، فإن الظاهر أن هذه الحادثة كانت قبل بناء البيت، كما هو ظاهر القرآن الذي يوحي بأن التجربة الصعبة كانت عندما بلغ معه السعي الذي يمثل أوائل مشيه، وذلك هو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102] وقد جاء عن الفراء: (كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة)، ومن المعروف أنها ليست السنّ التي يتمكن فيها من أن يكون شريكا لأبيه في بناء البيت، فلا بد من أن يكون ذلك متأخرا عنه.. وفي ضوء ذلك، لا يكون إسلام إبراهيم وإسماعيل آنذاك هو الإسلام التقليدي الظاهري، ولا سيما إذا عرفنا أن إبراهيم كان نبيا في ذلك الوقت، فكيف يتفق هذا مع تفسير العلامة الطباطبائي، فإن ما هو مطلوبـ حسب هذا الرأي ـ كان حاصلا آنذاك.
ب. وثانيا: إن الاختيارية في الفعل مشتركة بين نوعي الإسلام، فإن الإسلام الذي يمثل تمام العبودية أمر ممكن للإنسان العادي الذي يعيش عمق المعرفة لله، ولولاه لما كلّف الإنسان به.
ج. وثالثا: إن الحديث عن أن الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها ليست اختيارية بحسب الحقيقة، ليس دقيقا، لأن الله عندما ربط الملكات والصفات بأسبابها، كانت اختيارية تماما كما هي اختيارية الأفعال، ولا فرق بينهما إلا أن تلك كانت بالواسطة، أما الأفعال فهي بدون واسطة.
11. ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ من موقع الإخلاص لك والاندماج في الإحساس بعظمتك، حتى يخيّل إلينا أننا لم ننسجم مع كل ما يرضيك في الوقت الذي لم يصدر منا شيء من شؤون سخطك، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ الذي يتعهّد عباده بالمحبة والعفو والرضوان، فيغفر للعاصين منهم، ويزيد الطائعين من رضاه انطلاقا من رحمته التي وسعت كل شيء.
12. ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ من داخل مجتمعهم يعيش كل أوضاعهم ويطّلع على كل مشاكلهم، ويعرف كل حاجاتهم الروحية والفكرية والعملية، فإن قضية أن يكون الرسول من داخل الأمة التي يتحرك منها نحو العالم هي قضية الرسول الذي يعي كل الواقع، وكل الآفاق الواسعة التي ينطلق بأمته فيها، يحاكي شجونها وقضاياها قبل أن يصل إلى مرتبة النبوّة والرسالة.
13. ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ التي توحي إليهم بكل الشرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأساليب والأهداف، التي تمثل إرادتك في حياة خلقك لتكون طوع رضاك.
14. ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الذي يمثل خط النظرية العام في المنهج الرسالي للإنسان والحياة ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ التي تمثل حركة التطبيق العملي للنظرية فيضعون الأشياء في مواضعها، ويتحركون بها في مسارها الطبيعي، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فيطهّر نفوسهم من الشرك، ومن كل القذارات الروحية الأخلاقية التي تشوّه إنسانيتهم، وتربك خطواتهم، وتبتعد بهم عن نظافة التصور والسلوك.
15. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الذي لا ينتقص أحد من عزته، الذي جعل لكل شيء قدرا ووضع كل شيء في موضعه انطلاقا مما يصلح الحياة والإنسان ويجنّبهما المفاسد في كل حركة الواقع.
16. مما نستوحيه من هذه الآيات الجوّ الروحي الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادية التي تفرضها طبيعة هذا النوع من العمل، عن البقاء في الخط الروحي الواعي الذي ينفتح فيه الإنسان على الله الذي كان العمل من أجله، ليبقى للعمل جوّ العبادة والواجب والمسؤولية، فلا يتحوّل إلى غاية بعد أن كان وسيلة، كما نشاهده في كثير من المؤسسات الدينية التي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرسالية في البداية، حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا في الأجواء المادية التي تفرضها العلاقات والالتزامات، تحوّلوا إلى أشخاص جامدين لا يملكون أيّة حيويّة روحيّة في هذا المجال، بل ربما تبدأ العقلية الفردية الضيّقة في التحكّم بطبيعة المؤسسات وخطواتها العملية، فتتحول إلى شيء يخصّ الشخص أو الجهة، في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصة، وقد يحدث ـ في هذا الجوّ ـ أن يبدأ الصراع بين مؤسسة وأخرى من خلال تعارض المصالح الفردية للقائمين عليها، أو لتصادم الخطوط التي يسير عليها هذا أو ذاك، وبذلك تصبح المؤسسات الدينية خطرا على العمل الديني بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتنافس الفردي على الأطماع والامتيازات، وبما تتحرك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القيم الدينية للمحافظة على أطماع الدنيا وشهواتها، وربما كان السرّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن الله واستغراقها في ظلمات الذات، خلافا لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل في روحيّتهما الفيّاضة الدافقة في بناء البيت الحرام.
17. وقد نستوحي من ذلك أن يعيش العاملون بالله الحلم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتركيز على أن يكونوا مؤمنين بالله، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم والأمّة المسلمة، فتتحول التربية، في هذا الجو، إلى التخطيط العملي، الأمر الذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطا رساليا يتحرك في نطاق الحركة الرسالية، لا في موقع العاطفة الذاتية التي تحلم وتفكر لهم بالنجاح المادي في الدنيا بعيدا عن النجاح الروحي في الدنيا والآخرة، وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدعاة إلى الله الذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين، فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبعد عن الأخطار التي يفرضها العمل على السائرين في الطريق، ولكنهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من الناس وأولادهم، فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل الله ويحشدون في سبيل ذلك كل ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال.. إنها الازدواجية في الفكر والعاطفة والعمل، التي تجعل للعاملين شخصيتين مختلفتين تتحرك إحداهما في النطاق الذاتي بعيدا عن الرسالة، وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كل الأجواء من خلال شعارات الرسالة، خلافا لما توحيه الآية من وحدة الشخصية التي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل لأولادهما بما يحلمان به للذات ولأولاد الآخرين، لأن المسؤولية تتحرك في داخلهم من موقع واحد نحو هدف واحد.
18. ويستوحي المتأمل من هذه الآيات، أن يفكر المسؤولون عن العمل الإسلامي في مسئوليتهم الرسالية في تهيئة الأجواء الإسلامية للناس من خلال وجود مسئولين دينيين في حياة المجتمع، باعتبارهم الذين يملكون قدرة قيادة الناس في خطوات الفكرة على أساس تفصيلي واضح، فلا يغرقون في الشموليات التي تفقدهم الرؤية الواضحة للطريق، ولا يضيعون في الطريق بين العلامات المتنوعة أو الرمال المتحركة.
19. إن هذا الدعاء الأخير الذي يطلب من الله إرسال الرسول، يوحي لنا بالحاجة إلى الرسالة والرسول في كل عمل تغييري يستهدف تغيير المجتمع من الجذور، فلا قيمة للقيادة بدون رسالة، ولا قيمة للرسالة بدون قيادة تدل الناس على مواضع الطريق.. وقد يجدر بنا أن نشير، في نهاية الحديث، إلى الحديث المأثور عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يعلّق على هذه الآية: (أنا دعوة أبي إبراهيم)
__________
(1) من وحي القرآن: 3/27.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أن بيت الكعبة كان موجودا قبل إبراهيم، وكان قائما منذ زمن آدم، تتحدث الآية 37 من سورة إبراهيم عن لسان إبراهيم تقول: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾، وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.
2. وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾، ومن المؤكد أن عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.
3. عبارة الآية الاولى يؤكد هذا المعنى، إذ تقول: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة، وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السّلام في نهج البلاغة، وهي المسماة بالقاصعة، يقول: (ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار.. فجعلها بيته الحرام.. ثمّ أمر آدم عليه السّلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه..).
4. القرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أوّلا بيد آدم، ثم انهدمت في طوفان نوح، ثم أعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل.
5. في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة، وهذه الطلبات المقدّسة حين الاشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة هذين النبيين الكبيرين، قالا أوّلا: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ﴾، ثم أضافا: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾، وطلبا تفهم طريق العبادة: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، ليعبد الله حقّ عبادته، ثم طلبا التوبة: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
6. الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذرية ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
7. في هذه الآيات الكريمة بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من الله ظهور نبي الإسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثته:
أ. الأوّل: تلاوة آيات الله على النّاس، أي إيقاط الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.. ﴿يَتْلُو﴾ من تلا، أي اتبع الشيء بالشيء، وسميت (التلاوة) كذلك لأنها قراءة وفق تتبع ونظم، هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.
ب. الثّاني: (تعليم الكتاب والحكمة) ولا تتحقق التربية إلّا بالتعليم، ولعل التفاوت بين (الكتاب) و(الحكمة) في أن الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النّبي أيضا.
ج. الثّالث: (التزكية) وهو الهدف الأخير، و(التزكية) في اللغة هي الإنماء، وهي التطهير أيضا، وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل (العلمي) و(العملي).
8. ينبغي التأكيد هنا على أنّ علوم البشر محدودة، مقرونة بآلاف الفجوات المبهمة والأخطاء الكبيرة، والإنسان أيضا لا يطمئن بدقة إلى معلوماته، لأنه شاهد أخطائه وأخطاء الآخرين، ومن هنا كان من الضروري مجيء الأنبياء بعلومهم الحقّة الخالية من الأخطاء المستمدة من مبدأ الوحي إلى النّاس، ليزيلوا أخطاءهم، ويملأوا فراغات جهلهم، ويبعثوا فيهم اطمئنانا بعلمهم.
9. يلزم التأكيد أيضا على أن الشخصية البشرية تتكون من (عقل) و(غرائز)، ولذلك كان الإنسان بحاجة إلى (التربية) بقدر حاجته إلى (العلم)، وينبغي أن يتكامل عقله، وأن تتجه غرائزه نحو هدف صحيح، لذلك فإن الأنبياء معلمون، ومربون، يزودون النّاس بالعلم، وبالتربية.
10. في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قدمت (التربية) على (التعليم) (البقرة، 151 ـ آل عمران، 164 ـ الجمعة، 2)، وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية، ونعلم أن التربية لا تتم إلّا بالتعليم.. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما، وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنها الهدف، لأن الهدف الاصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.
11. تعبير ﴿مِنْهُمْ﴾ في الآية ﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يشير إلى أن قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشرا بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية، ومن الطبيعي أنهم ـ لو كانوا من غير البشر ـ ما استطاعوا إدراك حاجات النّاس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة وأسوة لهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/383.
56. ملّة إبراهيم والإسلام
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈56⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 130 ـ 131]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ من خسر نفسه(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ عمله يجزى به في الآخرة(2).
3. روي أنه قال: يعني: مع آبائه الأنبياء في الجنة(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٧٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٨.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه قال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم؛ الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بملة إبراهيم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٨.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ اخترناه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سأله الإسلام، فأعطاه إياه، وأجاب ربه فيه خيرا ومعرفة له: أسلمت لرب العالمين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٩.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِم﴾ أسلم إلى الله تعالى، وفوض أمورك إليه(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/٢٧٩.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ معناه أهلكها،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 91.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّهُ﴾ يعني: إبراهيم، يعني: اخترناه بالنبوة والرسالة في الدنيا، ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، فقال لهما: ألستما تعلمان أن الله تعالى قال لموسى: إني باعث نبيا من ذرية إسماعيل، يقال له: أحمد، يحيد أمته عن النار، وأنه ملعون من كذب بأحمد النبي، وملعون من لم يتبع دينه، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، ورغب عن الإسلام؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، يعني: الإسلام(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٠.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٣٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنه قال: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ إلا من أخطأ حظه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٧٩.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى الملة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، وكله واحد:
أ. قيل: الملة: الدين.
ب. وقيل: الملة السنة.
ج. وقيل: الإسلام.
2. قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ يحتمل:
أ. بما يعمل من عمل السفه.
ب. أي بنفسه؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض.
ج. وقيل: جهل نفسه فيضعها في غير موضعها.
3. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ يحتمل وجوها:
أ. بالنبوة والرسالة والعصمة.
ب. ما جزاهم في الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم في الآخرة.
4. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. في المنزلة والثواب.
ب. لمن المرسلين.
ج. أن يكون بشّره في الدنيا: أنه كان من الصالحين في الآخرة؛ فيكون ـ في ذلك ـ وعد له بصلاح الخاتمة، كما وعد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر.. وفى ذلك أيضا: وعد بصلاح الخاتمة ـ والله أعلم ـ فأخبر بما كان بشّره.
د. ويجوز: تفاضلهم في الآخرة، على ما كانوا عليه.
5. قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. قيل: أخلص.
ب. ويحتمل: أن يكون أمرا بابتداء إسلام، على ما ذكرنا من تجدده في كل وقت يهمد.
ج. ثم يحتمل: أن يكون وحيا أوحى إليه، أن قل كذا، فقال به، فإن كان وحيا فهو على أن يسلم نفسه لله.
د. ويحتمل: أن يكون إسلام القلبـ بتغاضي الخلقة بالإسلام ـ فإن كان على هذا؛ فهو على الإسلام دون توحيده.
هـ. ويحتمل: أن يكون إسلام خلقة؛ كقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]، بالخلقة، وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم: وأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: 27]؛ فدعاهم، فأجابوه في أصلاب آبائهم إجابة الخلقة وقت كونهم.
و. وقيل: يحتمل: أن يكون أمر بابتداء الإسلام، كقوله: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ [الأنعام: 76] إلى آخره، ثم قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام: 89] يكون جواب قوله: أَسْلِمْ.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/575.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي ليس يرغب عن دين إبراهيم إلا من يستخف بنفسه ويلعب بها، لسوء أدبه وضعف تمييزه وعقله(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً وقيل سفه بكسر الفاء متعدية وبضم الفاء لازم.
2. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة أي اخترناه في الدنيا للرسالة ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في إنجائها من الهلكة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/86.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن ذلك سفّه نفسه، أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها، وهذا قول الأخفش.
ب. الثاني: أنها بمعنى سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما حذف من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي على عقدة النكاح، وهذا قول الزجّاج.
ج. الثالث: أنها بمعنى أهلك نفسه وأوبقها، وهذا قول أبي عبيدة.
2. قال المبرّد وثعلب: سفه بكسر الفاء يتعدى، وسفه بضم الفاء لا يتعدى.
3. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي اخترناه، ولفظه مشتق من الصفوة، فيكون المعنى: اخترناه في الدنيا للرسالة.
4. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لنفسه في إنجائها من الهلكة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/193.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ﴾ الرغبة: المحبة لما فيه للنفس منفعة، ورغب فيه ضد رغب عنه، والرغبة: المحبة، ورغبت عنه إذا صددت عنه، وأنا راغب به فيهما جميعاً، والشيء مرغوب فيه، ومرغوب عنه، ولي عن فلان مرغب، وهو رجل رغيب: نهم شديد الاكل كثير الأخذ بقوائمه من الأرض، وموضع رغيب واسع والرغبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله، وقال صاحب العين: اللهم اليك الرغباء ومن لدنك النعماء، ورغبت عن الشيء إذا تركته.
2. معنى ﴿وَمِنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ لفظه الاستفهام، ومعناه الجحد، كأنه قال ما يرغب عن ملة ابراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه، وكأنه قال وأي الناس يزهد فيها ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ والاولى على الاستفهام، ومعناه الجحد.. والثانية ـ بمعنى الذي كأنه قال إلا الذي سفه نفسه.
3. في نصب ﴿نَفْسِهِ﴾ خلاف:
أ. الأول: قال الأخفش: معناه سفّه نفسه، وقال يونس: أراها لغة، قال الزجاج: أراد أن فعل لغة في المبالغة، كما أن فعل كذلك، فعلى هذا يجوز سفهت زيداً: بمعنى سفهت، وقال ابو عبيدة: معناه أهلك نفسه، وأوبق نفسه، وقال ابن زيد: إلا من اخطأ حظه، وقال ابن تغلب والمبرد: سفه ـ بكسر الفاء ـ يتعدى، وسفه ـ بضم الفاء ـ لا يتعدى، فهذا كله وجه واحد.
ب. الثاني:أن يكون على التفسير، كقوله ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ وهو قول الفراء: قال العرب توقع سفه على نفسه، وهي معرفة، وكذلك ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾، وأنكر الزجاج هذا الوجه، وقال: معنى التمييز لا يحتمل التعريف، لأن التمييز انما هو واحد يدل على جنس، فإذا عرفته صار مقصوداً بعينه.
ج. الثالث: ان يكون على التمييز، والمضاف على الانفصال، كما تقول: مررت برجل مثله أي مثل له.
د. الرابع ـ على حذف الجار، كما قال ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ اي لأولادكم، ومثله ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ اي على عقدة النكاح، قال الشاعر:
çنغالي اللحم للأضياف نيئاً...ونرخصه إذا نضج القديرé
والمعنى نغالي باللحم، وقال الزجاج: وهذا مذهب صحيح. واختار هو أن سفه بمعنى جهل، وهو موافق لمعنى ما قال ابن السراج في ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾ لان البطر مستقل النعمة غير راض بها.
4. ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ قال ابومسلم: معناه جهل نفسه، وما فيها من الآيات الدالة على ان لها صانعا ليس كمثله شيء فيعلم به توحيد الله وصفاته.
5. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ اخترناه للرسالة والصفو: التميز من سائر الكدر، واصطفيناه على وزن افتعلناه من الصفوة، وانما قلبت التاء طاء، لأنها اشبه بالصاد بالاستعلاء والاطباق، وهي من مخرج التاء فاتى بحرف وسط بين الحرفين. والاصطفاء والاختيار والاجتباء نظائر، والصفاء والنقاء والخالص نظائر والصفاء نقيض الكدر، وصفوة كل شيء خالصه من صفوة الدنيا، وصفوة الماء وصفوة الإخاء تقول: صفا صفاء، وأصفاه اصفاء، واصطفاه، اصطفاء، وتصفى تصفيا وتصافوا تصافيا، وصفاه تصفية وصافاه مصافاة، واستصفاه استصفاء.. والصفا مصافاة المودة والإخاء، والصفاء مصدر الشيء الصافي وإذا أخذت صفوة ماء من غدير، قلت استصفيت صفوة، وصفي الإنسان: الذي يصافيه المودة، وناقة صفي كثيرة اللبن، ونخلة صفية: كثيرة الحمل، والجمع الصفايا والصفا: الحجر الضخم الأملس الصلب، فإذا أنثوا الصخرة قالوا صفاة صفواء، وإذا ذكروا قالوا صفا صفوان والصفوان واحدته صفوانة، ومن الحجارة: الملس لا تنبت شيئاً، قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ﴾، وأصل الباب: الصفا: الخلوص.
6. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ انما خص الآخرة بالذكر وان كان في الدنيا كذلك لان المعنى من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا، وصفه بما ينبئ عن ذلك، ففي قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ دلالة على ان ملة ابراهيم هي ملة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لان ملة ابراهيم داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع زيادات في ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة ابراهيم، قد سفهوا أنفسهم وهو معنى قول قتادة والربيع.
7. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ وموضعه نصب وتقديره: ولقد اصطفيناه حين قال له ربه اسلم، وقال الحسن: انما قال ذلك، حين أفلت الشمس، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ وانه اسلم حينئذ، وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة، وأنه قال له ذلك: إلهاً ما استدعاه به الى الإسلام، فاسلم حينئذ، لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات، والعبر الدالة على توحيده، ولا يصح أن يوحي الله تعالى اليه قبل إسلامه بانه نبي الله، لان النبوة حال إعظام وإجلال، ولا يكون ذلك قبل الإسلام، وانما قال ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ على لفظ المتكلم مع قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ على لفظ الغائب للتصرف في الكلام كما قال الشاعر:
çباتت تشكي الي النفس مجهشة...وقد حملتك سبعا بعد سبعيناé
8. والإسلام واجب على كل مكلف، وان اختلفت شرائع الأنبياء فيما يتعبدون: من الحلال، والحرام، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ وان الإسلام انما هو الإخلاص لله بالعمل بطاعته، واجتناب معصيته وذلك واجب على كل متعبد، وكله اسلام.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/469.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرغبة: الميل إلى الشيء بالمحبة، يقال: رغبت فيه إذا ملت إليه وأودته، ورغبت عنه: تركته.
ب. الاصطفاء: الاختيار، وأصله الخلوص، ومنه الصفو نقيض الكدر، ووزن اصطفينا: افتعلنا، من الصفة، وإنما قلبت التاء طاء؛ لأنهما أشبه بالصاد بالاستعلاء والإطباق، وهو من مخرج التاء، فأتي بحرف وسط بين حرفين.
ج. أسلم: أمر وإيجاب من الاستسلام، وهو الانقياد.
2. لما بَيَّنَ تعالى قصة إبراهيم، وأن ملته ملة محمد، وإن كان في ملته زيادات، عقبه بذكر ما حيث على اتباعه، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي يترك دينه وشريعته، وهو عام في جميع الكفار.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾:
أ. قيل: أهلك نفسه وأوبقها، عن أبي عبيدة.
ب. وقيل: أضل نفسه، عن الحسن.
ج. وقيل: جهل قدره؛ لأن من جَهِلَ خالقه فهو جاهل بنفسه، عن الأصم.
د. وقيل: أنفسهم حقيرة عندهم؛ إذ حملوها على الكفر، عن أبي علي.
هـ. وقيل: معناه سفه نَفْسًا، ثم أضاف، وتقديره: إلا السفيه، وذكر النفس توكيدًا، يقال: هذا الأمر نَفْسُهُ، والسفه: الجهل، عن قطرب وأبي مسلم.
و. قال أبو مسلم: ويحتمل وجهًا آخر، يعني جهل نفسه بما فيه من أدلة التوحيد.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾:
أ. قيل: أي اخترناه بالرسالة.
ب. وقيل: أخذناه صافيا، والمعنى أنه خالص الدين لا يعبد سواه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
أ. قيل: من الفائزين، عن الزجاج.
ب. وقيل: مع آبائه الأنبياء في الجنة، عن ابن عباس.
ج. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، وتقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى.
د. وقيل: من الَّذِينَ يستوجبون على الله الكرامة، وحسن الثواب، عن الحسن.
6. لما ذكر تعالى أنه اصطفى إبراهيمَ بيَّنَ ما لأجله اصطفاه، فقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ واختلفوا متى قال ذلك:
أ. قيل: لما بلغ حد التكليف، واستدل بالكوكب والشمس والقمر، وعلم أن جميعها محدثة، ولها مُحْدِث، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ وإنما أسلم حينئذ، عن الحسن، وعلى هذا يكون هذا قبل النبوة، وأنه قال ذلك إلهاما، فلما وضح له طريق الاستدلال أسلم.
ب. وقيل: إنه قال ذلك حين خرج ذلك من السَّرَبِ، عن ابن عباس.
ج. وقيل: قال ذلك بعد النبوة، ومعناه اسْتَقِمْ على الإسلام، واثْبُتْ على التوحيد، كقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله﴾
7. اختلف في معنى أسلم:
أ. قيل: أخلص دينك بالتوحيد.
ب. وقيل: اخضع له.
ج. وقيل: المراد هنا الانقياد لأمره، عن أبي علي.
8. ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي أخلصت الدين لرب العالمين.
9. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لذلك قال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، فلولا أن ملته داخلة في ملتنا لما قُبِلَت، وهو معنى قول قتادة والربيع وأبي ويدل عليه قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾.
ب. يدل قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ على أنه نبي، وأنه معصوم من الكبائر.
ج. حسن إجابة إبراهيم وقبوله ما أُمِرَ به لَمَّا وضحت الحجة، ولم يَمِلْ إلى هوى وإِلْفٍ، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن قابلا للحق غير معاند.
د. أنه إنما اصطفاه لإجابته إلى ما كلف وحسن قيامه به.
هـ. كون الأنبياء معصومين منزهين؛ لذلك صح الاصطفاء.
10. مسائل نحوية:
أ. معنى ﴿مِنَ﴾:
• الأولى استفهام، ومعناها الجحد.
• والثانية: بمعنى: ﴿الَّذِي﴾ تقديره: وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا الذي سفه نفسه.
ب. اختلف لم انتصب ﴿نَفْسهِ﴾:
• منهم من قال: لأنه مفعول، ثم اختلفوا في تقدير الكلام، فمنهم من قال سفه نفسه، ومنهم من قال: أَوْبَقَ نفسه.
• وقيل: نصب على التفسير، كقوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ عن الفراء.
ج. موضع: ﴿إِذِ﴾ نصب بـ ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾، تقديره: اصطفيناه حين قلنا له: أسلم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/595.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرغبة: المحبة لما فيه للنفس منفعة، ورغبت فيه: ضد رغبت عنه، والرغبة والمحبة والإرادة نظائر، ونقيض الرغبة: الرهبة، ونقيض المحبة: البغضة، ونقيض الإرادة: الكراهة، وتقول رغبت فيه رغبة ورغبا ورغبا ورغبى: إذا ملت إليه، ورغبت عنه: إذا صددت عنه، ورجل رغيب: نهم شديد الأكل، وفرس رغيب الشحوة أي: كثير الأخذ بقوائمه من الأرض، وموضع رغيب: واسع، والرغيبة: العطاء الكثير الذي يرغب في مثله.
ب. الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر، والصفاء والنقاء والخلوص نظائر، والصفو: نقيض الكدر، وصفوة كل شيء: خالصه، وصفي الانسان: أخوه الذي يصافيه المودة، وناقة صفي: كثيرة اللبن، ونخلة صفية: كثيرة الحمل، والجمع الصفايا، واصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة، وإنما قلبت التاء طاء، لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء والإطباق، وهي من مخرج التاء، فأتي بحرف وسط بين الحرفين.
2. لما بين سبحانه قصة إبراهيم، وأن ملته ملة محمد، عقبه بذكر الحث على اتباعها، فقال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾:
أ. قيل: أي: لا يترك دين إبراهيم وشريعته إلا من أهلك نفسه وأوبقها.
ب. وقيل: أضل نفسه عن الحسن.
ج. وقيل: جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه، عن الأصم.
د. وقيل: جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء، عن أبي مسلم.
3. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: اخترناه بالرسالة واجتبيناه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾:
أ. قيل: أي: من الفائزين، عن الزجاج.
ب. وقيل: معناه لمع الصالحين أي: مع آبائه الأنبياء في الجنة، عن ابن عباس.
ج. وقيل: إنما خص الآخرة بالذكر، وإن كان في الدنيا كذلك لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا، وصفه فيها بما ينبئ عن ذلك.
5. في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد، مع زيادات في ملة محمد، فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد، التي هي ملة إبراهيم، قد سفهوا أنفسهم، وهذا معنى قول قتادة والربيع، ويدل عليه قوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾.
6. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا متصل بقوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ وموضع إذ نصب باصطفيناه، وتقديره ولقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم.
7. اختلف في متى قيل له ذلك:
أ. قال الحسن: كان هذا حين أفلت الشمس، ورأى إبراهيم تلك الآيات والأدلة، فاستدل بها على وحدانية الله سبحانه وقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الآية، وأنه أسلم حينئذ.. وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة، وأنه قال له ذلك إلهاما استدعاء منه إلى الاسلام، فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات، ولا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه بأنه نبي الله، لأن النبوة حال إجلال وإعظام، ولا يكون ذلك قبل الاسلام.
ب. وقال ابن عباس: إنما قال ذلك إبراهيم عليه السلام حين خرج من السرب.
ج. وقيل: إنما قال ذلك بعد النبوة، ومعنى أسلم استقم على الاسلام، وأثبت على التوحيد، كقوله سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله﴾.
د. وقيل: إن معنى أسلم أخلص دينك بالتوحيد، وقوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: أخلصت الدين لله رب العالمين.
8. مسائل نحوية:
9. لفظة: ﴿مِنَ﴾ للاستفهام، ومعناه الجحد، فكأنه قال: ما يرغب عن ملة إبراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي: الذي سفه نفسه.. فمن الأولى على الاستفهام، والثانية بمعنى الذي.
10. ﴿إِلَّا﴾: حرف الاستثناء.. ويجوز أن يكون لنقض النفي.
11. من اسم موصول، و﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾: صلته والموصول والصلة في محل النصب على الاستثناء، أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب.
12. في انتصابـ ﴿نَفْسِهِ﴾ خلاف:
• قال الأخفش معناه: سفه نفسه، وقال يونس: أراها لغة، قال الزجاج: أراد أن فعل لغة في المبالغة، كما أن فعل كذلك، ويجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا، وقال أبو عبيدة: معناه أهلك نفسه وأوبق نفسه، فهذا كله وجه واحد.
• والوجه الثاني: أن يكون على التفسير كقوله: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) وهو قول الفراء، قال: إن العرب توقع سفه على نفسه، وهي معرفة، وكذلك بطرت معيشتها، وأنكر الزجاج هذا الوجه، قال: إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف، لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال، فإذا عرفته صار مقصودا قصده، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.
• والوجه الثالث: أن يكون على التمييز والإضافة، على تقدير الانفصال، كما تقول مررت برجل مثله أي: مثل له.
• والوجه الرابع: أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه، كقوله سبحانه: (ولا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم) أي: لأولادكم، فحذف حرف الجر من غير ظرف، ومثله: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: على عقدة النكاح، ومثله قول الشاعر:
çنغالي اللحم للأضياف نيا... ونبذله إذا نضج القدورé
والمعنى: نغالي باللحم.. قال الزجاج: وهذا مذهب صحيح.
• والوجه الخامس: ما اختاره الزجاج وهو أن سفه بمعنى جهل، وهو موافق في المعنى لما قاله السراج في قوله بطرت معيشتها: إن البطر مستقل للنعمة، غير راض بها، فعلى هذا يكون: ﴿نَفْسِهِ﴾ مفعولا به.
13. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ﴾: في تتعلق بمحذوف فهو منصوب الموضع على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في قوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
14. ﴿قَالَ﴾: فعل فارغ، وله جار ومجرور، واللام تتعلق بقال، و﴿قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾: مجرور الموضع بإضافة إذ إليه، واللام في: ﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: تتعلق بـ ﴿أَسْلَمْتُ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/396.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناها: إلّا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس، قال يونس: ولذلك تعدّى إلى النّفي فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النّفس لإسقاط حرف الجرّ، لأنّ المعنى: إلّا من سفه في نفسه، قال الشاعر:
çنغالي اللحم للأضياف نيئا... ونرخصه إذا نضج القدورé
ب. الثاني: إلّا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة.
ج. الثالث: إلّا من سفهت نفسه، كما يقال: غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفرّاء وابن قتيبة، قال الفرّاء: نقل الفعل عن النّفس إلى ضمير (من)، ونصبت النّفس على التّشبيه بالتّفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعا، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾
د. الرابع: إلّا من جهل نفسه، فلم يفكّر فيها، وهو اختيار الزجّاج.
2. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، قال ابن الأنباريّ: لمن الصّالحي الحال عند الله تعالى، وقال الزّجّاج: الصّالح في الآخرة: الفائز.
3. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾، وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لمّا رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربّه: أسلم، أي: أخلص.
__________
(1) زاد المسير: 1/115.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعه التي ابتلاه بها، ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم، وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس، فقال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه من نسب إسرائيل، والنصارى فافتخارهم بعيسى، وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل، وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله، وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام.
2. لما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان، وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه.
3. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ يقال: رغبت من الأمر إذا كرهته، ورغبت فيه إذا أردته، و(من) الأولى استفهام بمعنى الإنكار، والثانية بمعنى الذي، قال صاحب الكشاف: ﴿مَنْ سَفِهَ﴾ في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد.
4. سؤال وإشكال: وهو يتفرع إلى شقين(2).:
أ. الشق الأول، وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال: إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع، أو يقال: هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق، ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال.. أما الأول: فباطل لأنه عليه السلام كان يدعى أن شرعه نسخ كل الشرائع، فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع.. وأما الثاني: فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب؟
ب. الشق الثاني، وهو أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ، ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع، فيلزم أن يكون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم.
5. والجواب: أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته، عبّر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله، وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام.
6. سؤال وإشكال: وهو يتفرع إلى شقين(2).:
أ. الشق الأول، وهو أن القوم ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى، وإنما محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية، ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته، فيفضي إلى الدور وهو ساقط.
ب. الشق الثاني، وهو أنا سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولًا من ذريته وذرية إسماعيل، فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص؟ فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك، وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة، وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام، فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين؟
7. والجواب:
أ. عن الأول: لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية، ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى.
ب. عن الثاني: أن المعتمد في إثبات نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم ظهور المعجز على يده، وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات، ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم.
8. في انتصاب ﴿نَفْسِهِ﴾ قولان:
أ. الأول: لأنه مفعول، قال المبرد: سفه لازم، وسفه متعد، وعلى هذا القول وجوه:
• الأول: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه الخفة، ومنه زمام سفيه، والدليل عليه ما جاء في الحديث: (الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس)، وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها، حيث خالف بها كل نفس عاقلة.
• الثاني: قال الحسن: إلا من جهل نفسه وخسر نفسه، وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته، فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• الثالث: أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة.
• الرابع: أضل نفسه.
ب. الثاني: أن نفسه ليست مفعولًا، وذكروا على هذا القول وجوهاً:
• الأول: أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه.
• الثاني: أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه، وذكر النفس تأكيد كما يقال: هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه.
• الثالث: قرئ: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ بتشديد الفاء.
9. ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب، فقال: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾، والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة، وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والإمامة الباقية إلى قيام الساعة، ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر، فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه.
10. ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة.. وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى، قال الحسن: من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى.
11. قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام، وموضع ﴿إِذِ﴾ نصب وفي عامله وجهان:
أ. الأول: أنه نصب باصطفيناه، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به.
ب. الثاني: أنه نصب بإضمار أذكر كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
12. سؤال وإشكال: قوله: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ إخبار عن النفس وقوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً؟ والجواب: هذا من باب الالتفات.
13. سؤال وإشكال: إنما يقال له: أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه، فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم؟ والجواب: اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم:
أ. الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه قال له تعالى: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه.
ب. ويحتمل أيضاً أن يكون قوله: ﴿أَسْلَمَ﴾ كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول، بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر:
çأمتلأ الحوض وقال قطني...مهلًا رويداً قد ملأت بطنيé
وأصدق دلالة منه قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 35] فجعل دلالة البرهان كلاماً.
ج. ومن الناس من قال هذا الأمر كان بعد النبوة، وقوله: ﴿أَسْلَمَ﴾ ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر:
• أحدها: الانقياد لأوامر الله تعالى، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول، وترك الإعراض بالقلب واللسان، وهو المراد من قوله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: 128]
• ثانيها: قال الأصم: ﴿أَسْلَمَ﴾ أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار.
• ثالثها: استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]
• رابعها: أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح، وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله: ﴿أَسْلَمَ﴾.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/61.
(2) جواب السؤال في المسألة التالية.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مِنَ﴾ استفهام في موضع رفع بالابتداء، و﴿يَرْغَبُ﴾ صلة ﴿مِنَ﴾.. ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ في موضع الخبر، وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس، والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع.
2. مما قيل في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾:
أ. قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى.
ب. وقال الزجاج: ﴿سَفِهَ﴾ بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها.
ج. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه.
د. وحكى ثعلب والمبرد أن ﴿سَفِهَ﴾ بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها، وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة.
هـ. وقال الأخفش: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها، وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي، فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب.
و. وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت (في) فانتصب، قال الأخفش: ومثله ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، أي على عقدة النكاح، وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن، الفراء: هو تمييز.
ز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شي، فيعلم به توحيد الله وقدرته.. وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الاطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ أشار إلى هذا الخطابي.
3. استدلّ بهذه الآية من قال إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾، ﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾
4. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الاطباق، واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الأصفى.
5. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الصالح في الآخرة هو الفائز.
6. سؤال وإشكال: كيف جاز تقديم ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ وهو داخل في الصلة، والجواب: قال النحاس: الجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل العربية فيه أقوال:
أ. منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف.
ب. وقيل: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة.
ج. والقول الثالث: أن ﴿الصَّالِحِينَ﴾ ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام.
د. وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف.
هـ. وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، وروي عن معاوية بن قرة قال: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وأرض عنا.
7. العامل في ﴿إِذِ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قوله: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم، وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس، قال ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد، وقيل: اخضع واخشع، وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب.
8. الإسلام هنا على أتم وجوهه، والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم، وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لان من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله، وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الايمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾) فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن، ودليلنا قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ الآية، فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أو مسلم) الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الايمان ليس الإسلام، فإن الايمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين، وقد يطلق الايمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الايمان، للزوم أحدهما الأخر وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الايمان ودلالة على صحته، فاعلمه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/133.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ﴾ في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ في موضع الخبر، وقيل: هو بدل من فاعل يرغب.. والتقدير: وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه.
2. ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ قال الزجّاج: سفه بمعنى: جهل، أي: جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها، وقال أبو عبيدة: المعنى: أهلك نفسه، وحكى ثعلب والمبرد: أن سفه بكسر الفاء يتعدّى كسفه بفتح الفاء مشدّدة، قال الأخفش: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي: فعل بها من السفه ما صار به سفيها؛ وقيل: إن نفسه منتصب بنزع الخافض؛ وقيل: هو تمييز، وهذان ضعيفان جدا، وأما سفه بضم الفاء: فلا يتعدّى، قاله المبرد وثعلب.
3. الاصطفاء: الاختيار، أي: اخترناه في الدنيا وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب؟
4. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ﴾ يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ أي: اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو: اذكر، قال في الكشاف: كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت، ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، والضمير في قوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ راجع إلى الملة، أو إلى الكلمة، أي: أسلمت لرب العالمين، قال القرطبي: وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي: قولوا أسلمنا.. والأوّل أرجح؛ لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم لكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/168.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم، وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين، أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغرّاء إلا من سفه نفسه، أي حملها على السفه وهو الجهل.
2. سفه نفسه أبلغ من جهلها، وذاك أن الجهل ضربان(2).:
أ. جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء.
ب. وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل، وفي الباطل أنه حق، والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده، فبيّن تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لسفه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ كل نقيصة، وذاك أن من جهل نفسه، جهل أنه مصنوع، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعا، فكيف يعرف أمره ونهيه، وما حسّنه وقبّحه؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه، قال ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]
3. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة، وتكثير الأنبياء من نسله، وإعطاء الخلة، وإظهار المناسك عليه، وجعل بيته آمنا، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة.
4. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين لهم الدرجات العلى، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح، حيث جعله من المتصفين بها، فهو حقيق بالإمامة، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه، والاهتداء بهديه، وأشدّ ذم لمن خالفه.
5. سؤال وإشكال: كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا، وبالصلاح في الآخرة، والنظر يقتضي عكس ذلك، فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل، وذلك يكون في الدنيا، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحا، فحقه أن يكون في الآخرة؟ والجواب(2).: الاصطفاء ضربان، أحدهما كما قلت، والآخر في الدنيا، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه، وهو المعنيّ بقوله ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ﴾ [النحل: 121]، والصلاح، وإن اعتبر بأحوال الدنيا، فمجازى به في الآخرة، فبيّن تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه، ومحكوم له في الآخرة، بصلاحه في الدنيا، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا، وإنما استحقه بصلاحه فيها، ويجوز أن يكون قوله ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين.. ويجوز أنه عنى بقوله ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ حال بقائه، و﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ أي حال وفاته، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84].. ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: ظالم، ومقتصد، وسابق، عبر عن السابق بالصالح، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح.
6. كل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم، وإقامة المحجة عليهم، لأن أكثر ذلك معطوف على ﴿اذْكُرُوا﴾ في قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: 40]
7. لما ذكر إمامته عليه السلام، ذكر ما يؤتم به فيه، وهو سبب اصطفائه، وصلاحه، وذلك دينه، وما أوصى به بنيه، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفا عن خلف، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبه أهل الكتاب إليه فقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
8. ﴿إِذِ﴾ أي اصطفيناه لأنه ﴿قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أي لربك، أي انقد له، وأخلص نفسك له، أو استقم على الإسلام، واثبت على التوحيد ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقيّ، وليس في ذلك مانع، ولا ما جاء ما يوجب تأويله، وقول بعضهم: هو تمثيل، والمعنى: أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام ـ ليس بشيء، ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/401.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَمَنْ يَّرْغَبُ﴾ توبيخ، ونفيٌ لأنْ يصحَّ عقلاً أو شرعًا تصويب أنْ يرغب راغبٌ، ﴿عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ ويتركها، ﴿إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ حملها على الخسَّة والحقارة، وهو متعدٍّ، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (الكِبْر أنْ تَسْفَهَ الحقَّ..) إلخ بفتح الفاء في رواية التخفيف، واللَّازم (سَفُهَ) بضمِّها، أو تعدَّى في الآية لتضمُّن معنى جَهِلَ أو أهلكها، أو أذلَّها بالإعراض عن النظر، وأنَّ أصله اللزوم، أي: جَهِلَهَا لخفَّة عقله، أو جهل أنَّها مخلوقة لله، أو يقدَّر: سفَه في نفسه.
2. ﴿وَلَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ﴾ اخترناه للرِّسالة، والخلَّة، والإمامة، والحكمة، أو بذلك، ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ وشهر بذلك في الأزمنة بعده عند مسلميها وكافريها، ﴿وَإِنَّهُ فِي الَاخِرَةِ﴾ حال من اسم (إنَّ) على قول سيبويه بجواز الحال من المبتدأ، أو متعلِّق بنسبة الكلام، أي: وأنَّه محكوم عليه في الآخرة بأنَّه من الصالحين، وإنْ علقناه بقوله: ﴿لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أو بمتعلَّقه المحذوف، أي: لمعدود أو ثابت من الصالحين في الآخرة ففيه خروج للَّام في خبر (إنَّ) على الصدر كما هو ظاهر، ﴿وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَالِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 7 ـ 8] ولا يتعلَّق بـ (صالحين) لأنَّه ليس المراد أنَّه يصلح في الآخرة، بل المراد أنَّه يتبيَّن في الآخرة، ويشاهَد أنَّه من جملة الصَّالحين الذين لهم الدرجات العلى.
3. ﴿إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ﴾ اذكر إذ قال، أو متعلِّق بـ (اصْطَفَيْنَاهُ)، والتعليل مستفاد من المقام فإنَّه إذا قيل (اصْطَفَيْنَاهُ وقت قَال له..) إلخ، عُلِمَ أنَّ الاصطفاء لقوله: (أَسْلَمْتُ..) إلخ بعد قول الله جلَّ وعلا: (أَسْلِمْ)، أو حرف تعليل كما تكون (على) و(عن) حرفا واسمًا، بل كما قال سيبويه في (إذما): إنَّ (إذ) حرف وفي غير الشرط اسم، أي: نال الاصطفاء بالمبادرة إلى الإذعان والإخلاص، ومعنى ﴿أَسْلِمْ﴾: أذعِنْ، أو أخلِصْ وجهك، وجاء على المعنيين قوله: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، أو ﴿أَسْلِمْ﴾ لفظُهُ أمرٌ، ومعناه إِخطارُ دلائلِ التوحيد بباله، كالقمر والشمس والنجم، فيكون قوله: (أَسْلَمْتُ) مجازًا عن النظر والمعرفة على حدِّ (كُن فَيَكُونُ).
4. والمراد بالآية على كلِّ حال ما بعد النبوءة أو قبلها حين كبر، فالمراد ازدياد ذلك، أو ما في حال الصِّغر إذ كان في الغار، فيكون المراد إنشاء ذلك، ﴿وَلَقَدَ ـ اتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾ [الأنبياء: 51] وتقدَّم على هذا أيضًا أنَّ كلَّ مولود يولد على الفطرة، قال ابن عيينة: دعا عبدُ الله بن سلام ابني أخيه سلمة ومهاجرًا إلى الإسلام، وقال: قد علَّمتنا أنَّ الله قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيئًا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فنزل: ﴿وَمَنْ يَّرْغَبُ﴾ الآية، قال السيوطي: لم نجد هذا في كتب الحديث.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/227.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلام في هذه الآيات متصل بما سبقه من ابتداء قوله ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ فقد ذُكر أنه تعالى ابتلى ابراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه جعله إماما للناس وجعل من ذريته أئمة، وأنه عهد اليه ببناء بيته وتطهيره لعبادته ففعل، وكان يومئذ يدعو بما علم منه ما هي ملته، وإن هي إلا توحيد الله وإسلام القلب إليه والاخلاص له بالأعمال، وتعظيم البيت بتطهيره وإقامة المناسك فيه عن بصيرة بأسرارها تجعل المعنى المتصور، كالمحسوس المبصر.
2. ثم قال بعد هذا: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي امتهنها واستخف بها، كأنه تعالى يقول: هذه هي ملة أبيكم ابراهيم الذي تنتسبون اليه وتفخرون به، فكيف ترغبون عنها، وتنتحلون لأنفسكم أولياء لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، لا بالذات ولا بالوساطة.
3. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ بهذه الملة فجعلناه إماما للناس وجعلنا في ذريته الكتاب والنبوة ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لجوار الله بعمله بهذه الملة ودعوته إليها وإرشاده الناس بها، فملة جعلت لإبراهيم هذه المكانة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وجنى على إدراك عقله فاستحب العمى على الهدى، وإن خسر الآخرة والأولى
4. من مباحث اللفظ في الآية: قول الجلال في تفسير ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي جهل أنها مخلوقة لله: قال محمد عبده: ولم يقل بهذا أحد من المفسرين الذين يعتد بهم، والسياق لا يقتضيه، وسفه يستعمل لازما ومتعديا ومعنى المتعدى استخف وامتهن، وأخره الجلال وهو الراجح، وفى الكشاف أن (نفسه) تمييز لفاعل (سفه) ولا يمنع من ذلك الإضافة إلى الضمير لأنه تعريف لفظي والمعنى أنه لا يرغب عن ذلك إلا من سفهت نفسه أي حمقت، وقدم هذا القول كأنه رجحه على ما قبله.. وأقول: سفه بالضم ـ كضخم ـ سفاهة صار سفيها؛ وسفه بالكسر ـ كتعب ـ سفها هو الذي قيل: إنه يستعمل لازما ومتعديا، وقيل بل هو لازم دائما وأن أصل سفه نفسه بالرفع، فنصب على التمييز كسفه نفسا، فأضيفت النفس إلى ضميره كما تقدم ومثله غبن رأيه.
5. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من آياته ونصب له من بيناته، فأجاب الدعوة و﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والجلال قدر كلمة (اذكر) متعلقا للظرف (إذ) كما هي عادته في مثله، وإن وجد في الكلام ما يتعلق به، كقوله هنا ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾، وقد نشأ إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوم يعبدون الكواكب ويتخذون الأصنام، فأراه الله حجته، وأنار بصيرته، فنفذت أشعتها من العالم الشمسي، وأدركت أن لجميع العالمين ربا واحدا منفردا بالخلق والتدبير وحاجه قومه فبهرهم ببرهانه، وأفحمهم ببيانه، وقد قص الله تعالى خبره معهم في سورة الأنعام، وسيأتي تفسير الآيات إن شاء الله تعالى
__________
(1) تفسير المنار: 1/475.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهى التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم ردّ على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته: نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
2. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ أي إن ملّتكم هي ملّة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنتسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون عنها وتحتقرون عقولكم وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا.
3. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة، ولا شكّ أن ملة هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربه، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.. وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك.
4. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته، فلبّى الدعوة، ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي قال أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا، ونحو هذا قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
5. نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/219.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. عند هذا المقطع من قصة إبراهيم، يلتقط السياق دلالته وإيحاءه، ليواجه بهما الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة؛ وينازعون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم النبوة والرسالة؛ ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
2. هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها، مستهتر بها.. إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما، وشهد له في الآخرة بإصلاح.. اصطفاه ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾.. فلم يتلكأ، ولم يرتب، ولم ينحرف، واستجاب فور تلقي الأمر.. ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/116.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الدّين الذي اصطفاه الله سبحانه لإبراهيم واصطفى إبراهيم له، هو الإسلام، وهو دين الله، كما يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾.. وتلك هي ملة إبراهيم، فمن رغب عنها فقد رغب عن الحق، وتنكّب عن الهدى، ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق، اشترى الضلالة بالهدى.
2. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هو مما ابتلى الله به إبراهيم من كلماته، وقد استجاب إبراهيم لله، وخرج من الابتلاء سليما معافى، مستأهلا لرضى الله ورضوانه.
3. في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ يعود الضمير في (بها) إلى الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، والتي وصّى بها إبراهيم يعقوب، ثم وصّى بها يعقوب بنيه من بعده.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/144.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل، فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى﴾ [البقرة: 124] إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل أفن الرأي، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء، وإنما عدل من الفاء إلى الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم، وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكي عنه في الآيات السالفة وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنا لملة إبراهيم، والدلالة عن التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن تقول فهو رجل حكيم.
2. الاستفهام للإنكار والاستبعاد، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام فيكون كناية، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازا في الإنكار، ويكون معناه معنى النفي، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية، فإن الإعراض عن ملة إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد، ولما كان شأن المنكر المستبعد أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيها، والاستثناء قرينة عن إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما الإنكار، والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضى أنه نقل من مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية سواء بقي اللفظ دالا على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه، ولك أن تجعل استعمال الاستفهام في معنى الإنكار مجازا بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة: الاستفهام الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء، والتحقيق أنه لا يطرد أن يكون بمعنى النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوما ولهذا فالاستثناء هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأنّ مجيبا أجاب السائل بقوله: (لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.
3. الرغبة طلب أمر محبوب، فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا التضمين في الكلام حتى صار منسيا.
4. الملة الدين وتقدم بيانها عند قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120].
5. سفه بمعنى استخف لأن السفاهة خفة العقل واضطرابه يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة:
çمشين كما اهتزت رماح تسفّهت... أعاليها مرّ الرياح النّواسمé
ومنه السفاهة في الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة، والسفه في المال وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته، وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاستخفاف ينشأ عنه الإهانة وسفه صار سفيها وقد تضم الفاء في هذا.
6. انتصاب ﴿نَفْسِهِ﴾ إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سفهت نفسه أي خفت وطاشت فحوّل الإسناد إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصدا للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت صفة لجثمانه، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيرا لذلك الإبهام في الإسناد المجازي، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفة بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي.
7. المقصود من قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الإسلام مقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها ملة إبراهيم قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: 123] وقال في الآية السابقة ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: 128] وقال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ [البقرة: 132] إلى قوله: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].
8. جملة ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى إذ جعله للناس إماما وضمن له النبوءة في ذريته وأمره ببناء مسجد لتوحيده واستجاب له دعواته.
9. دلت تلك الجمل على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين، واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة.
10. لأجل الاهتمام بهذا الخبر الأخير أكد بقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ﴾ إلى آخره اعتراض بين جملة ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾ وبين الظرف وهو قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه، قصد من هذه الظرفية التخلّص إلى منقبة أخرى، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله بوحي وأمره بما تضمنه قوله ﴿أَسْلَمَ﴾ من معان جماعها التوحيد والبراءة من الحول والقوة وإخلاص الطاعة، وهو أيضا وقت ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلّ ميسّر لما خلق له.
11. فهم أن مفعول ﴿أَسْلَمَ﴾ ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وشاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: 67].
12. ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].
13. قوله: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا، قال ابن عرفة: إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله.. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/705.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاؤوا بعده، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لا بد أن يكون ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر] ويقول: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر].
2. دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده؛ لأنها إجابة للفطرة، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم، ولقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ ومن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفى الوقوع، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا، والمعنى لا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه.
3. ﴿يَرْغَبُ عَنْ﴾ فيها التجاوز والترك إلى أوهام، ونقيض يرغب عنها: يرغب فيها، فالرغبة فيها إقبال عليها، والرغبة عنها تجاوز عنها، وترك لها، وهذا يتضمن أمرين:
أ. أولهما ـ أنه علمها، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لا عن انصراف مجرد، بل عن قصد وإعراض.
ب. ثانيهما ـ أنه اتجه ورغب في غيرها، ونفى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه.
4. ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، أي جهلها في حمق ورعونة؛ لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كلها يدل على الإيمان الحق ويهدى، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم، فيقول: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف]، فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدى وترشد إلى الحق، ولقد قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات].
5. ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا، والفرق بين جهل النفس، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة، وأسبابها ويتركها حمقا ورعونة، ولقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر] وسفه نفسه، قيل إنها بمعنى سفّه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدى إليه الفطرة.
6. ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران] وقال تعالى في سورة الحج: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الحج].
7. ملة إبراهيم كانت ملة النبيين؛ لأن الله تعالى اختاره للإمامة، وابتلاه بالكلمات، ولأنه كان يشكر نعم ربه، ولأنه اختاره لبناء البيت، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج، ولأنه اختاره ليكون أبا الأنبياء؛ ولذلك كله قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وقال تعالى في آية أخرى: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل].
8. معنى اصطفاه الله تعالى، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له، وكان أمة وإماما، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما.
9. أكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين، ففي الدنيا اصطفاه، فكان معه فيها على الخير المطلق، وقد ابتلى فأحسن البلاء، وكان صفيا وكان وليا، واختص بأن يكون خليلا.
10. سؤال وإشكال: وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وإن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لا دار عمل، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين!؟ والجواب: إن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضى عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء، فليس في الآخرة عمل، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح، والجزاء عليه، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين.
11. أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فأكد بأنّ الدالة على توكيد الخبر، وأكد ب (اللام) في قوله لمن الصالحين، وأكده بتقديم في الآخرة، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح.
12. عده من الصالحين يوم القيامة، إنما كان لأنه أخلص وأسلم وجهه لله رب العالمين مستجيبا طلب الله تعالى منه، إذ طلب ربه منه أن يكون كله له وحده؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الإسلام هنا هو الإخلاص والإذعان لله تعالى، وهو كالإسلام في قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [البقرة] فهو غاية الإيمان وأقصاه، وقد ذكرنا أن الإيمان تصديق وإذعان وتسليم، والإسلام تخليص القلب والنفس والجوارح لله تعالى، فهو أعلى درجات الإيمان، وهو ليس الإسلام الذي هو نقيض الإيمان أو يغايره، وهو الإذعان المادي، والخضوع لأحكام الإسلام سواء أكانت مع القلب، أم لم تكن، وهو الذي قال فيه للأعراب إذ قالوا: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات]، وهذا هو الإسلام الذي يفرق علماء الكلام بينه وبين الإيمان، وليس موضوعه، وإنما هنا الإسلام بمعنى إسلام الوجه والجوارح لله تعالى، وهو الذي قال الله تعالى فيه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران].
13. سؤال وإشكال: إن إبراهيم أثبت إخلاصه لله تعالى ودعا الله تعالى أن يجعله وابنه إسماعيل مسلمين، فقال في ذلك: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة] فلم كان الأمر بذلك، وقد طلباه؟ والجواب:
أ. أنه أمر بالاستدامة على الإسلام وتثبيت التوحيد.
ب. إن الآية لبيان مقام إبراهيم عليه السلام في الاستجابة لأمر ربه، وخلوص نفسه إذ أمره بذلك فاستجاب فورا قائلا أسلمت لرب العالمين، فهذا النص لبيان مدى استجابة خليل الله تعالى لربه غير متردد، ولا متلكئ، ولكن صار إبراهيم يقول: أسلمت أي خلصت نفسي وجعلتها لرب العالمين، أي لخالق العالمين والقائم عليهم وربهم وكالئهم، وإن ذلك شكر له، فهو في ذلك شاكر لأنعم الله تعالى كحاله دائما.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/412.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، هذا توبيخ من الله لليهود والنصارى ومشركي العرب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسر التوبيخ والتقريع ان اليهود يفتخرون بنسبتهم الى إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم، والنصارى يفتخرون بعيسى، وعيسى يتصل نسبه من جانب الأم بإسرائيل أيضا، أما مشركو العرب فسائرهم عدنانيون يرجعون بنسبهم الى إسماعيل بن ابراهيم، بالإضافة الى انهم نالوا الخير في الجاهلية ببركة البيت الذي بناه ابراهيم.. فالكل ـ اذن ـ يفتخرون بإبراهيم، وملة ابراهيم، والمعلوم ان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من نسل ابراهيم، وعلى ملة ابراهيم، وعليه فمن كفر بمحمد وملته فقد كفر بإبراهيم وملته.. وليس من شك ان من يكفر بمصدر عزه وافتخاره فهو سفيه، تماما كمن تصرف في نفسه تصرفا يودي به الى الهلاك.
2. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾، أي جعلناه صافيا خالصا من الأرجاس، على حد قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
3. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، بديهة، لأنه في الدنيا كذلك، فان الإسلام يربط الآخرة بأعمال الدنيا، ولا يفصل بينهما أبدا، فمن كان في هذه مبصرا صالحا، فهو في تلك كذلك، ومن كان في الدنيا أعمى شقيا فهو في الآخرة أعمى وأشقى.
4. سؤال وإشكال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، متى طلب الله الإسلام من ابراهيم؟ هل طلبه منه قبل النبوة، أو بعدها؟ والأول غير ممكن، لأن الله لا يطلب بطريق الوحي ممن ليس بنبي، والثاني تحصيل حاصل، لأن الله لا ينزل الوحي على انسان إلا بعد أن يسلم؟ والجواب: ان قوله تعالى: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ﴾ كناية عن ان ابراهيم هو من صفوة الصفوة، وانه أهل للنبوة والرسالة.. ذلك انه استجاب لجميع أوامر الله ونواهيه، وقام بأعباء النبوة والرسالة على أتم الوجوه وأكملها، فالمقصود بالآية مجرد الثناء على ابراهيم، لإخلاصه وطاعته وانقياده، وفي الوقت نفسه توبيخ لليهود والنصارى والمشركين الذين يفتخرون بإبراهيم، ثم يعصون ويتمردون على من جاء لإحياء ملة ابراهيم، ونشر سنته وعقيدته.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/207.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: ﴿نَفْسِهِ﴾ مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنىما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.
2. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: ﴿أَسْلَمَ﴾، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، بمنزلة التفسير لقوله: ﴿اصْطَفَيْنَاهُ﴾.
3. في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ولم يقل: قال أسلمت لك:
أ. أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.
ب. وأما الثاني فلأن قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ﴾، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
4. الإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾، وقال تعالى: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾، ووجه الشيء ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.
أ. الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، ويتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع.
ب. الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾، وقال أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، ويتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان وهو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، وقال أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.
ج. الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية، فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، ويتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة.. والأخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.
د. الرابعة: ما يلي المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه، والأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا ولا صفة، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه، فالإنسان ـ وهو في المرتبة السابقة من التسليم ـ ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه عليه السلام في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام، ويتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.
5. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾، وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه:
أ. فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: ﴿صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾
ب. ومنها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾
ج. ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾
6. يستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزلة المادة.
7. أما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى حكاية عن سليمان: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى: {وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً إلى قوله وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
8. ليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، وليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك، وكانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، وسيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.
9. نعم الأثر الخاص بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، وهو الأمن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾، أي في الجنة، وقال تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ أي في الجنة.. وإذا تدبرت قوله تعالى: ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾، وقوله: ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد ـ ثم تأملت أنه تعالى قصر الأجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة وربما تبين به معنى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ ـ وهو ما بالعمل ـ وقوله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ ـ وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾
10. إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد أولي العزم من الأنبياء، وأنه إمام، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو عليه السلام مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم عليه السلام سأل اللحوق بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وآله الطاهرين عليه السلام، فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه عليه السلام يسأل اللحوق بالصالحين، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعيه لنفسه، قال تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾، فإن ظاهر الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/300.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ يقال: رغب عن الشيء إذا لم يُردْه ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ دينه الذي هو الإسلام لله ورفض الأديان المخالفة للتوحيد، والسفه: خفة العقل، ولعله عدي إلى نفسه لتضمينه معنى خسر أو أضاع أو أهمل أو أهان أو نحو ذلك مما هو شأن السفيه، ويفهم من السياق، والمعنى: أيّ عاقل يرغب عن ملة إبراهيم!؟ كأن ذلك لا يتصور إلاَّ ممن سفه نفسه وذلك لوضوح حجته في أنه إذا عبد الله ولم يلبس إيمانه بمعصية فهو أحق بالأمن ممن عبد غير الله بدون برهان من الله، فعبادة الله لا جدال فيها؛ لأنه الخالق الرازق، وترك الشرك لا ينبغي أن يكون فيه جدال؛ لأنه مجرد خرافة وأسماء يسميها الجاهلون، ليس فيه إذن من الله ولا أي حجة من العقل، فملة إبراهيم هي النهج الواضح والصراط المستقيم، فاتباعها مقتضى العقل، والعدول عنها علامة السفه.
2. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ﴾ الاصطفاء: اختيار صفوة الشيء وأفضله ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ للنبوة والرسالة، وما كان معها من مقاومة الشرك والعمل لإعلاء كلمة الله وتمكين دين الله في الأرض، فدينه دين الله الذي اصطفاه لعباده.
3. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فله ثوابه وكرامته عند الله؛ لأنه من الصالحين، وفيه دلالة على أن سبب الثواب هو الصلاح لا ما يمني أهل الكتاب أنفسهم، وفي الآية دلالة على أن الدين هو عبادة الله الخالصة له؛ لأن هذا دينه، فلا حكم لصورة من صور العبادة إلاَّ لكونها عبادة لله خالصة، فمتى خرجت عن ذلك بنسخ أو رياء أو نحوه فليست من دين إبراهيم؛ لأنها خرجت عن كونها عبادة لله خالصة، ودين إبراهيم العبادة الخالصة، وقوالب العبادة غير مقصودة لذاتها في دينه عليه السلام.
4. اذكروا يا ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ وجهك لربك ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي يجب على العالمين أن يسلموا له وجوههم؛ لأنه ربهم المالك لهم، المستحق لأن يعبدوه وحده، ولعل هذا القول كان أول نبوته، كما قال لموسى في أول ما أوحى إليه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه: 14]
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/190.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. تبدأ مسيرة الرسالات الواحدة من إبراهيم عليه السلام، فليس هناك تناف بين طبيعة رسالة ورسالة، بل هو التنوّع في التفاصيل في النطاق الموحّد الذي تمثله كلمة الإسلام، فكل الرسالات السماوية التي جاءت من بعد إبراهيم تعتبر خطوة متقدمة في طريق إبراهيم نحو الهدف الواحد، لأنّ الحياة لا بد من أن تخضع لله في كل مجالاتها وخطواتها وتطلّعاتها، ولا بد للإنسان من أن يخشع لله في قلبه وفي فكره وحياته، فيسلم كل وجهه لله، فلا كلمة له أمام كلمة الله، ولا شريعة له أمام شريعة الله.
2. إنها الإيجابية الإيمانية التي ترتكز على السلبيّة المطلقة أمام الله، لأنها تتمثل في تركيز الإرادة على ما يريده الله، لا على ما تريده النفس الأمّارة بالسوء، إنها الانتظار الدائم لاستقبال كلمة الله ورسالاته، كلما غابت كلمة أو انتهت مدة رسالة، فلا عصبية لشخص ـ حتى لو كان نبيا ـ على حساب نبيّ آخر، ولا استغراق في الارتباط برسالة على حساب رسالة أخرى، فإن الإسلام لله يمثل مواجهة الإنسان للحياة من خلال خضوعه لله في كل أمر، فالقضية ـ كل القضية لديه ـ هي أن يثبت له أنّ هذه هي رسالة الله، وأن هذا رسول الله، ليؤمن بالرسالة وبالرسول، ويخضع لكل ما يفرضه عليه ذلك من أقوال وأفعال.
3. وفي ضوء ذلك، نفهم التقاء الأديان كلها على القاعدة الأساسية في ملّة إبراهيم، التي تمثّل الموقف الداخلي للإنسان المنفتح على الله في استسلام إيماني خاشع، ونكتشف ـ في هذا الخط ـ معنى الإيمان بجميع الأنبياء في العقيدة الإسلامية، لأنهم يمثلون العقيدة الواحدة في خط الإسلام الحق لله، فلا معنى للإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر ما دامت الرسالات واحدة في جميع الحالات.
4. لعلّ هذا ما توحي به هذه الآيات، التي تعتبر الإنسان الذي يرغب عن ملة إبراهيم أو يرفضها سفيها يقود نفسه إلى السفه، لأن إبراهيم لا يمثّل نفسه في ما يدعو إليه، كمن ينطلق من الشعور بالكفاءة الذاتية في دعوته وقيادته العامة، بل يمثّل الإنسان الذي اصطفاه الله واختاره في الدنيا من بين الناس ليكون رسولا له يحمل رسالته ويبلّغها للناس ليهديهم إلى صراطه المستقيم، وجعله في الآخرة من الصالحين الذين ينالون رضاه، جزاء لعمله وجهاده في سبيله واستسلامه له في كل شيء.
5. ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ التي ترتكز على التوحيد الخالص والإسلام الشامل لله المنفتح على كل قيم الروح، وخصال الخير، واستقامة الخط، وطهارة القلب، وصفاء السريرة.. والتي تلتقي مع كل الرسالات في خطوطها العامة، لأنها أصل الرسالات، فكل رسالة منفتحة على ملّته وكل نبيّ يستوحي منه، فهل يبتعد عنها ويعرض عن الالتزام بها ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ من هؤلاء الجاهلين الذين لا يميزون بين الحسن والقبيح والخير والشر، فينحرفون بها عن خط الاستقامة إلى خط الانحراف.
6. ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ نبيا ورسولا وإماما وداعيا إلى الحق، واخترناه من بين الناس لذلك كله، لتميّزه عنهم في عقله وروحه واستقامته وإخلاصه لله.. وهكذا أردنا له أن يملك الموقع القويّ الذي يملك زمام الحياة في مسئوليته الشاملة، ليكون رسول الله إلى الإنسان ليخرجه من الظلمات إلى النور.
7. ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فهو في هذه الزمرة الطيبة الطاهرة التي انطلقت في الدنيا لتجسّد الصلاح في روحيتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خط الله، وقد تمنى وهو في الحياة أن يلحقه الله بهؤلاء لينال الدرجة العليا التي ينالونها، وليعيش القرب إلى الله الذي عاشوه وليبلغ النعيم الذي بلغوه، وهذا هو التعبير الكنائي عن صلاحه في الدنيا الذي يجعله من الصالحين في الآخرة، وقد ارتفع في هذه الدرجة حتى جعله الله خليلا.
8. ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ ربما كان القول وحيا أو إلهاما، وربما كان فكرا وشعورا وإحساسا يتحسس الإنسان فيه من داخل روحيته الذاتية وفكره الإيماني أن الله يريد منه أن يسلم أمره إليه، فلا تكون له كلمة أمام كلمته، ولا خط غير خطه، ولا قضاء إلا قضاؤه، ولا منهج إلا منهجه، فإن ذلك من وحي الإيمان الصافي النقي، والعقل المنفتح على الحقيقة، الذي يسمع ـ من خلاله ـ أوامر الله ونهيه ووحيه إليه، وقد عبّر في بعض الكلمات عن العقل بأنه (الرسول الباطني)
9. ﴿قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فعاش الإسلام لله بكل عمق الإيمان، وبكل استقامة الطريق، ووضوح المنهج وصفاء الشعور، وانفتاح الروح.. ولم يكن إسلامه إسلام الكلمة المنطلقة من اللسان البعيدة عن القلب، أو إسلام الرغبة والرهبة من دون قناعة، أو إسلام الشكل من غير مضمون، فذلك هو الإسلام الذي لا يعيش حركة الوجود في الذات.. إنه الصورة في الظاهر لا الحقيقة في الباطن، إنه الإسلام الكلي، لأنّ الله يريد من الإنسان أن يخلص له بكله، ويستغرق في عبوديته له حتى لا يبقى لأحد منه شيء، حتى لنفسه، ليكون محياه لله ومماته له.
10. سؤال وإشكال: هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره الله بأن يسلم، باعتبار أن كلمة (إذ) هي في موضع نصب باصطفينا؟ والجواب: قد يكون الأمر كذلك على أساس الجانب التعبيري، ولكن ذلك ليس ضروريا، فربما كانت المسألة منطلقة من الإشارة إلى السبب في هذا الاصطفاء من خلال إخلاصه لله في إسلامه المطلق له، لأن الله يختار لرسالته الإنسان الذي يعيش عمق الصفاء الروحي الذي يؤهله لاحتضان روح الرسالة بفكره، وكل كيانه، وربما كان ذلك بداية للحديث عن حركته الرسالية التي ابتدأت من إحساسه الذاتي لتمتد في بنيه، مما يوحي بأنه استطاع أن يجذّرها في الجيل الذي جاء بعده من خلال تجذرها في مهمته الرسالية.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/39.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم عليه السّلام، فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية، ومن مجموع ما مرّ نفهم أن الله سبحانه شاء أن يكون هذا النّبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مرّ العصور، لذلك تقول الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾!؟ أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا!؟
2. ثم تضيف الآية: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ نعم، إبراهيم عليه السّلام اصطفاه الله في الدنيا ليكون (الأسوة) و(القدوة) للصالحين.
3. الآية التالية تؤكد على صفة أخرى من صفات إبراهيم التي هي الواقع أساس بقية صفاته العظيمة وتقول: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.. هذا الإنسان المتحرر من الانشدادات الوضيعة يسارع إلى التسليم التام حال سماعه نداء ربّه: (أسلم)، ولا يتوانى في رفض كل أوهام زمانه القائمة على عبادة النجوم والشمس والقمر، فيتركها بعد أن رآها محكومة بالقوانين التي تسود الخليفة ويقول: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
4. مرّ بنا في الآيات السابقة أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام بعد بناء الكعبة طلبا من الله سبحانه أن يتقبل أعمالهما، ثم بعد ذلك طلبا أن يمنّ عليهما الله بنعمة التسليم لوجهه الكريم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ ومثل هذا طلباه لذريّتهما: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ ذلك لأن الخطوة الاولى في سموّ الشخصية الإنسانية الطهر والإخلاص، ومن هنا أسلم إبراهيم عليه السّلام وجهه لربّه دون سواه، ولذلك عرف هو ودينه بهذا العنوان.
5. حياة إبراهيم عليه السّلام بأجمعها كانت مفعمة بأعمال جسيمة نادرة، نضاله المرير ضد المشركين، صموده الكبير في قلب النيران، هذا الصمود الذي أثار إعجاب نمرود الطاغية نفسه حيث راح يردد دون وعي: من اتخذ إلها فليتخذ إلها مثل إله إبراهيم.. وكذلك إسكان الزوج والطفل الرضيع في تلك الأرض الجافة القاحلة والمقدسة، وبناء الكعبة، وتقديم الولد على مذبح التضحية والفداء استجابة لأمر الله تعالى.. كل واحدة من هذه الأعمال قمة من سلسلة قمم حياة إبراهيم عليه السّلام.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/387.
57. وصية إبراهيم ويعقوب
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈57⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 132 ـ 134]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بنيه مثل ذلك(1).
2. روي أنه قال: ﴿مُسْلِمِينَ﴾ موحدين(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٨٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٠.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه قال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾، يعني أهل الكتاب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٩.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ على الإسلام، وعلى ذمة الإسلام(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنه قال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ الآية: يقول: لم تشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت: ألا يعبدوا إلا إياه، فأقروا بذلك، وشهد عليهم أن قد أقروا بعبادتهم، وأنهم مسلمون(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٣٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنه قال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٨٢.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: ٢٨]: الإسلام، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢](1).
__________
(1) ابن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ٢/١٤٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: (﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ معناه أخلصه لكم.(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 91.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، يعني: مخلصون بالتوحيد(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، يعني: مخلصون له بالتوحيد(1).
3. روي أنه قال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا محمد، ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾، يعنى بالملة، والملة تحتمل ما ذكرنا.
2. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وهو الإسلام؛ ردّا على قول أولئك الكفرة: إن إبراهيم كان على دينهم؛ لأن اليهود زعمت أنه كان على دينهم يهوديّا، وقالت النصارى: بل كان على النصرانية، وعلى ذلك قالوا لغيرهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135]، فلما ادّعى كلّ واحد من الفريقين: أنه كان على دينهم، أكذبهم الله ـ عزّ وجل ـ في قولهم، ورد عليهم في ذلك فقال: قل يا محمد: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: 67]؛ فعلى ذلك قوله: ﴿اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
3. أخبر ـ عزّ وجل ـ أن دينه كان دين الإسلام، وهو الذي اصطفاه له، لا الدين الذي اختاروا هم من اليهودية والنصرانية؛ لقوله تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ [النجم] أي ليس له.
4. قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ يحتمل:
أ. يقول: أكنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت!؟ أي ما كنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت.
ب. ويحتمل: أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي أكنتم شهداء وصية يعقوب بنيه!؟ أي لم تشهدوا وصيته، فكيف قلتم ذلك!؟
5. ثم أخبر ـ عزّ وجل ـ عن وصية يعقوب بنيه فقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾.. وقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يعنى: مخلصين بالتوحيد، وبجميع الكتب والرسل، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ثم يدعون: أن ذلك دين إبراهيم، ودين بنيه.
6. في الآية دلالة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه أخبر عن الأخبار التي قالوا، من غير نظر منه في كتبهم، ولا سماع منهم، ولا تعلم، دل: أنه بالله علم، وعنه أخبر.
7. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} كان ـ والله أعلم ـ لما ادعوا أن إبراهيم ومن ذكر من الأنبياء كانوا على دينهم؛ فقال عند ذلك: لا تسألون أنتم عن دينهم وأعمالهم، ولا هم يسألون عن دينكم وأعمالكم، بل كلّ يسأل عن دينه وما يعمل به.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/576.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ الهاء كناية ترجع إلى الملة لتقدم قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ ووصى أبلغ من أوصى لأن أوصى يجوز أن يقول مرة واحدة ووصى لا يكون إلا مكرراً والمعنى أن إبراهيم وصى بنيه ثم وصى بعدها يعقوب بنيه فقالا جميعاً: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
2. إن قيل: كيف ينهون عن الموت والموت ليس من فعلهم؟ قيل: في هذا سعة اللغة لأن النهي توجه إلى مفارقة الإسلام ومعناه الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/86.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ الهاء كناية ترجع إلى الملة لتقدّم قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، ووصّى لا يكون إلا مرارا ﴿وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ والمعنى أن إبراهيم وصّى، ثم وصّى بعده يعقوب بنيه، فقالا جميعا: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ يعني اختار لكم الدين، أي الإسلام، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
2. سؤال وإشكال: كيف ينهون عن الموت وليس من فعلهم، وإنما يماتون؟ والجواب: هذا في سعة اللغة مفهوم المعنى، لأن النهي توجّه إلى مفارقة الإسلام، لا إلى الموت، ومعناه: الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/193.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الوصية مأخوذة من قولهم: اوصى النبت: إذا اتصل بعضه ببعض فلما أوصل الموصي جل أمره الى الموصى إليه، قيل: وصية، ووصى وأوصى وأمر وعهد نظائر في اللغة، وضد أوصى أهمل، والوصاة كالوصية، والوصاية مصدر التوصي، والفعل أوصيت إيصاء ووصيت توصية، في المبالغة، والكثرة وتقول: قد قبل الوصاية، وإذا انطاع المرعى للسائمة فأصابته رواعد، قبل وصى لها الرعي يصي وصيا، ووصيا، وأصل الباب: الوصية وهي الدعاء إلى الطاعة.
2. الهاء في قوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ يحتمل ان تعود الى احد شيئين:
أ. أحدهما: الى الملة، وقد تقدم ذكرها في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، وهو أقوى، لأنه مذكور في اللفظ، وهو قول الزجاج، واكثر المفسرين.
ب. الثاني: ان يعود الى الكلمة في قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، حكاه البلخي وبعض اهل اللغة.
3. اختلف في سبب ارتفاع لفظ (يعقوب):
أ. قيل: لأنه معطوف على ابراهيم، والمعنى ووصى بها يعقوب، وبه قال ابن عباس وقتادة، وهو اظهر لأن عليه اكثر المفسرين.
ب. وقال بعضهم: إنه على الاستئناف كأنه قال ووصى يعقوب أن ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾
4. الألف واللام في ﴿الدِّينَ﴾ للعهد دون الاستغراق، لأنه إنما أراد بذلك دين الإسلام دون غيره من الأديان.
5. إنما أسقطت (أن) في {وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أن ﴿يَا بَنِي﴾ واثبت في ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ﴾، لأن اوصى في الآية بمعنى القول، فجعل بمنزلة قولك الّا تقديره تقدير القول، فيجوز حينئذ إلحاق أن، كما قال ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ﴾، ومثله ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لله﴾، وقوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ وكل هذا الباب يجوز فيه الوجهان: بان تقدّره تقدير القول، ليكمل به تقدير الفعل الذي ليس بقول، واما قوله: ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾ فلا يجوز إسقاطها في مثله من الكلام، لأنه ليس فيه معنى الحكاية، والقول كما في الدعوى، والإرسال، واما قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ فلا يجوز في مثله إثبات، لأنه يضمر معه القول، ولا يجوز معه التصريح بالقول، ولا مع إضمار أن لأنه حكاية كما تقول: قلت له: زيد في الدار، ولا يجوز قلت له: أن زيداً في الدار وانشد الكسائي:
çإني سأبدى لك فيما ابدي...لي شجنان: شجن بنجدé
وشجن لي ببلاد الهند
لأن الإبداء قول، ومنه قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾، لأن العدة قول.
6. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ﴾ على وجه النهي لهم عن الموت، والموت ليس في مقدورهم، فيصح أن ينهوا عنه؟ والجواب: اللفظ وإن كان على لفظ النهي. فما نهوا عن الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام: لئلا يصادفهم الموت عليه، وتقديره لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر، ومثله من كلام العرب لا رأيتكّ هاهنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم، وإنما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال لا تتعرض لأن أراك بكونك هاهنا.. ومثله لا يصادفنك الامام على ما يكره، وتقديره: لا تتعرض لأن يصادفك على ما يكره، ومثله لا يكوننّ زيد إلا عندك تقديره: لا تتعرض لأن يكون زيد ليس عندك: بالتفريط في ذلك، والإهمال له والأصل في هذا أن التعريض لوقوع الشيء بمنزلة إيقاع الشيء.
7. ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ جملة في موضع الحال، وتقديره: لا تموتن إلا مسلمين.
8. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ (أم) ها هنا منقطعة وليست بمتصلة كقوله: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ ومثله قول الشاعر:
çكذبتك عينُك أم رأيت بواسط...غلس الظلام من الرباب خيالاé
ولا تجيء منقطعة الألف وقد تقدمها كلام، لأنها بمعنى بل، وألف الاستفهام،كأنه قيل: بل كنتم شهداء، ومعناها ـ هنا ـ الجحد: اي ما كنتم شهداء، واللفظ لفظ الاستفهام، والمعنى على خلافه، لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج: أن يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فتلزم الحجة، والإنكار له فتظهر الفضيحة، فلذلك اخرج الجحد في الاخبار مخرج الاستفهام.
9. المخاطب بـ ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أهل الكتاب في قول الربيع، والمعنى: انكم لم تحضروا ذلك، فلا تدّعوا على انبيائي ورسلي الأباطيل بنحلكم إياهم خلاف الإسلام من اليهودية والنصرانية، فاني ما بعثّهم إلا بالحنفية، والشهداء جمع شهيد.
10. ﴿إِذِ﴾ ها هنا بدل من ﴿إِذِ﴾ الاولى، والعامل فيها معنى الشهادة، وقيل بل العامل فيها حضر، وكلاهما حسن.
11. الحاضر والشاهد من النظائر، ونقيض الحاضر الغائب، ويقال: حضر حضوراً، وأحضره إحضاراً، واستحضره استحضاراً، واحتضره احتضاراً، وحاضره محاضرة، والحضر خلاف البدو، وحضرت القوم أحضرهم حضوراً: إذا شهدتهم، والحاضر خلاف الغائب، واحضر الفرس إحضاراً: إذا عدا عدواً شديداً واستحضرته استحضاراً، والحضرة الجماعة من الناس ما بين الخمسة الى العشرة، وحاضرت الرجل محاضرة وحضاراً: إذا عدوت معه، وحاضرته: إذا جانيته عند السلطان، أو في خصومة، ومحضر القوم مرجعهم الى المياه بعد النجعة، وفرس محضر، ولا يقال: محضاراً، وألقت الشاة حضيرتها يعني المشيمة وغيرها، والإبل الحضار البيض. لا واحد لها من لفظها مثل الهجان سواء، وحضرة الرجل فناؤه وأصل الباب الحضور: خلاف الغيبة.
12. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ يحتمل انتصابه أحد أمرين:
أ. أحدهما ـ أن يكون حالا من قوله: (إلهك):
ب. الآخر ـ أن يكون بدلا من إلهك، وتكون الفائدة فيه التوحيد، وإنما قدم إسماعيل على إسحاق، لأنه كان أكبرهم. به قال ابن زيد.
13. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال، وقيل لا موضع لها، لأنها على الاستئناف و﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ في موضع خفض، والعامل فيها ما عمل في إبائك، لأنه مبين له. كما تقول: مررت بالقوم: أخيك، وغلامك وصاحبك، وإنما قال ﴿آبَائِكَ﴾ وإسماعيل عم يعقوب، لما قاله الفراء وابو عبيدة: من أن العرب تسمي العم أباً فالآية دالة على ان العمومة يسمون آباء، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال ردّوا علي أبي يعني العباس عمه فسمي العم أباً كما سمي الجد أباً من حيث يجب له التعظيم، نحو ما يجب للأب، وقد قرئ في الشواذ (واله أبيك)، فعلى هذا ينجر إسماعيل وإسحاق على العطف، وهو غير المعنى الاول، لأنه مترجم عن الآباء وفي الثاني عطف غير ترجمة كما تقول رأيت غلام زيد وعمر، أي غلامهما فكأنه قال لهم ولم يذكر بالأبوة إلا ابراهيم وحده والقراءة الاولى هي المشهورة وعليها القراء.
14. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ الامة المراد بها هنا الجماعة والامة على ستة اقسام: الجماعة.. والامة: الحين لقوله: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي بعد حين.. والامة القدوة والامام، لقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾.. والامة القامة وجمعها أمم، قال الأعشى:
çوان معاوية الأكرمين...حسان الوجوه طوال الأممé
والامة: الاستقامة في الدين والدنيا، قال النابغة: (وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع)، والأمة: أهل الملة الواحدة. كقولهم: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصل الباب: القصد من أمه يؤمه، إذا قصده.
15. معنى خلت. مضت كما تقول: لثلاث خلون من الشهر، أي مضين وأصله: الانفراد ومنه خلا الرجل بنفسه: إذا انفرد، وخلا المكان من أهله أي انفرد منهم، وحد الخلو: حصول الشيء وحده، والفرق بين الخلو والفراغ، أن الخلو إذا لم يكن مع الشيء غيره، وقد يفرغ منه وهو معه. فإذا قلت خلا منه فليس معه، والكسب: العمل الذي يجلب به نفع، ويدفع به ضرر عن النفس، وكسب لأهله: إذا اجتلب، ذلك لهم بعلاج ومراس، ولذلك لا يجوز في صفة الله.
16. ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ معناه انه لا يقال لكم اعملوا كذا وكذا، وعلى جهة المطالبة بما يلزمهم من أجل عملهم، كما لا يقال لهم لم عملتم أنتم كذا وكذا، وإنما يطالب كل انسان بعمله دون عمل غيره كما قال: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
17. في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الأبناء يؤخذون بذنوب الآباء، ويؤخذ الطفل بذنب أبيه، لان الله تعالى نفى ذلك ومثله قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وقوله: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾
18. الاشارة بقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ الى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ولدهم، يقول الله تعالى لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما عم اهله، ولا تنسبوا اليهم الكفر، واليهودية والنصرانية، ولا تضيفوها اليهم وإنها أمة قد خلت ولا تسألون أنتم عما كانوا يعملون.
19. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ يحتمل ان يكون موضعه نصب بأنه حال كأنه قال قد يلزمها ما تستحقه بعملها، ويجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة، ولا يكون جزء من الجزء الاول، لكن تكون متصلة به في المعنى وان لم تكن جزء منه، لأنهما خبران في المعنى عن شيء واحد. كأنه قيل للجماعة قد خلت والجماعة لها ما كسبت.
20. قرأ أهل المدينة، وابن عامر (واوصى) بهمزة مفتوحة بين الواوين، وتخفيف الصاد. الباقون ووصى مشددة الصاد، ومن قرأ وصى ذهب إلى قوله: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ ومصدر وصى مثل قطع تقطعة ولم يجيئوا به على تفعيل كراهية اجتماع الياءات مع الكسرة، ومن قرأ أوصى فلقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ وكلاهما جيدان.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/473.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. وصى وأوصى نظائر، والوصية: الأمر بالطاعة.
ب. الشاهد والحاضر من النظائر، ونقيض الحاضر الغائب، حضر حضورًا.
ج. الآباء واحده الأب، وهو حقيقة في الوالد مجاز في العم به يسمى العم توسعًا وتشبيهًا؛ ولذلك يصح نفيه عنه.
د. الأمة: الجماعة، وأصله القصد، يقال: أَمَّهُ يَؤُمَّهُ أَمًّا، فالأمة الجماعة: التي تَؤُمُّ جهة واحدة، ثم يستعمل على ستة أوجه:
• الأول: بمعنى الجماعة: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾
• الثاني: الحين: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾
• الثالث: القدوة: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾
• الرابع: الأمة القامة، قال الشاعر: (حِسَانُ الوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمِ)
• الخامس: الاستقامة في الدين والدنيا.
• السادس: الأمة أهل الملة الواحدة كقولهم: أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والخِلْوُ: أصله الانفراد، يقال: خلا المكان من أهله، ويقال لِمَا مضى: خلا؛ لأنه بمعنى خالٍ مكانُه، والكسب: العمل يجتلب به نفع أو يُدْفَعَ به ضرر؛ ولذلك لا يوصف به تعالى.
2. لما بَيَّنَ تعالى شدة محبة إبراهيم وذريته، وما يعود إلى صلاحهم، وأنه دعا لهم بما تقدم، وحكى عنه استنصاره في الدين، ذكر أنه أوصى بذلك بنيه وذريته، وبين أن اهتمامه كان بأمر الدين فقط، فقال تعالى: ﴿وَوَصَّى﴾ أمرهم بها:
أ. قيل: بالملة، وقد تقدم ذكرها، فرجعت الكناية إليه، عن أبي علي والزجاج.
ب. وقيل: بالكلمة التي هي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حكاه أبو القاسم وبُرَيْدةُ، ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾
ج. وقيل: بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، عن ابن عباس ومقاتل.
والوجه: الأول؛ لأنه مصرح به، ولأنه يشتمل على جميع ذلك.
3. ﴿إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ إنما خص البنين؛ لأن إشفاقه عليهم أكثر، والوصية بهم أليق، وهم إلى قبوله أليق، وإلا فمن المعلوم أنه كان يدعو للكل بالإسلام.
4. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ هو ابن إسحاق، وسمي يعقوب؛ لأنه وعِيصُو كانا توأمين، فتقدم عِيصُو، وخرج يعقوب على أثره، آخذا بعقبه، عن ابن عباس، والمعنى وَصَّى يعقوب بنيه الاثني عشر، وهم الأسباط.
5. ﴿يَا بَنِي﴾ تقديره: أن يا بني فحذف: ﴿إِنَّ﴾ لأن الوصية قول، فكأنه قال يعقوب: يا بني، كقوله: ﴿وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾:
أ. قيل: استخلصه، وميزه بالأدلة، حتى اتضح وتجلى لمن طلب.
ب. وقيل: اختار لكم الدين.
7. الألف واللام للعهد، وأراد دين الإسلام: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ النهي عن ترك الإسلام، لا عن الموت، وإن اتصل في اللفظ، وتقديره لا تتركوا الإسلام، كي يصادفكم الموت عليه، أو لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر، ونظيره لا أَرَيَنَّكَ ههنا، أي لا تتعرض لأن أراك ههنا، أوْ لا تكن ههنا فأراك.
8. ﴿إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ قيل: مخلصون، وقيل: مؤمنون منقادون.
9. لما تقدم أن ملة إبراهيم هو دين الإسلام احتج على من أنكر ذلك، فقال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي ما كنتم حضورًا، والخطاب لأهل الكتاب، والمراد أنكم لم تحضروا ذلك فلا تَدَّعُوا على الأنبياء الأباطيل، وأن تنسبوهم إلى اليهودية والنصرانية.
﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ قيل: لما دخل يعقوب مصر، ورآهم يعبدون الأوثان جمع بنيه ووصاهم قال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ وعن عطاء خَيَّرَهُ الله تعالى بين الموت والحياة، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟
10. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ وإنما أضاف، ولم يصف المعبود بصفته؛ لأنه أوجز وأدل، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب، كأنهم قالوا: لا نَجْرِي إلا على طريقتك وطريقة آبائك ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ فبدؤوا بجدهم، ثم بإسماعيل؛ لأنه أكبر ولديه، ثم بإسحاق، ﴿إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون خاضعون، والمراد نوحده ونعبده ونطيعه.
11. لما ذكر تعالى ملة يعقوب وآبائه، وادعاء أهل الكتاب أنهم على دينهم، احتج عليهم فقال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ أي جماعة، والخطاب لليهود والنصارى؛ لأن الاحتجاج بذكرهم إنما يصح على المعترف بهم، والمراد بالأمة إبراهيم وأولاده، وهم جماعة قد مضت: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أي ما عملت من طاعة ومعصية، ولكم يا معشر اليهود والنصارى ما عملتم من طاعة ومعصية، ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ عن أعمالهم، أي لا تجزون بها ولا تسألون عنها.
12. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الإسلام كان طريقة ذرية إبراهيم.
ب. الترغيب في الوصية عند الموت، وأنه يجب أن يوصى بالدِّين مَنْ يلي أمرهم، قال الحسن: كتب الله الوصية عند الموت، ولم يكن له شيء أن يوصيهم بتقوى الله.
ج. أنه تعالى يعرف بأفعاله؛ لذلك قال: ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ كأنه قال: خالقك، وخالق آبائك، ثم نبهوا بقوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ أنه إله الكل وخالقهم، وأضاف إليهم الاختصاص له به بدعائهم إلى عبادته وتوحيده، واختياره إياهم لرسالته.
د. أن الجد يسمي أبا، وكذلك العم، وهو فيهما تَوَسعُ، ولذلك يقال لمن فقد أباه، وله جد: إنه يتيم لا أب له، وقد استدلّ به بعض الحنفية في أن الجد بمنزلة الأب في حجب الإخوة والأخوات.
هـ. أن شفقة الأنبياء على أولادهم تكون في باب الدِّين فقط، وكذلك ينبغي للمؤمن أن يهتم بأمر دينهم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾.
و. أن كل أحد يؤخذ بكسبه، ولا يؤخذ بكسب غيره، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في أطفال المشركين، وقولهم تحمل ذنوب المسلمين على الكفار.
ز. بطلان التقليد.
ح. أن طاعة الآباء لا تنفع الأولاد، وكذلك ينبغي لكل مكلف ألا يتكل على غيره في دِينِهِ وأعماله.
13. قراءات:
أ. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر: {وأوصى} بالألف، وكذلك في مصاحف المدينة والشام، وقرأ الباقون: ﴿وَوَصَّى﴾ بغير ألف بالتشديد، وكذلك هو في مصاحفهم، والمعنى واحد، إلا أن في: ﴿وَصَّى﴾ مبالغة وتكثيرًا.
ب. القراءة الظاهرة: ﴿آبَائِكَ﴾ على الجمع. وعن يحيى بن يعمر {أبيك} على الواحد. قال: إن إسماعيل عم يعقوب لا أبوه. وهذا لا يجوز القراءة به؛ لأن الإجماع على خلافه. والعرب تسمي العم أبا. وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للعباس: {هذا بقية آبائي}.
14. مسائل نحوية:
أ. يعقوب: رفع؛ لأنه عطف على إبراهيم، كأنه قيل: وصى إبراهيم ويعقوب، وقيل: على الاستئناف، فكأنه قيل: ووصى يعقوب بنيه.
ب. الألف واللام في قوله: ﴿الدِّينَ﴾ للعهد لا للجنس، ولأنه لم يختر لهم جميع الأديان، وإنما اختار دين الإسلام.
ج. ﴿أَمِ﴾ ههنا منقطعة، كقوله تعالى: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ وقال الشاعر:
çكَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رأيت بِوَاسِطٍ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَé
ولا تجيء منقطعة إلا وقد تقدمها كلام؛ لأنها بمعنى: ﴿بَلْ﴾، والألف للاستفهام كأنه قيل: بل كنتم شهداء، ويكون معناه الجحد، أي ما كنتم شهداء.
د. جعل اللفظ على الاستفهام، والمعنى على خلافه لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج، كأنه أراد منه أن يقر بذلك.
هـ. ﴿إِذِ﴾ الثانية هي بدل من ﴿إِذِ﴾ الأولى، والعامل فيها معنى الشاهد، وقيل: العامل فيها معنى حضر.
و. انتصب ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ لأنه:
• حال من قوله: ﴿إِلَهِكَ﴾
• بدل من ﴿إِلَهِكَ﴾، وتكون الفائدة فيه ذكر التوحيد.
ز. اختلف في موضع الجملة من ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾:
• قيل: نصب على الحال.
• وقيل: لا موضع لها؛ لأنها على الاستئناف.
ح. موضع إبراهيم وإسماعيل: محله خفض، والعامل فيه ما عمل في: ﴿آبَائِكَ﴾؛ لأنه بدل منه، فأما إسماعيل وإسحاق فعلى القراءة الظاهرة عطف على إبراهيم، ومترجم عليه، ومن وَحَّدَ فهو عطف من غير ترجمة.
ط. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ موضعه نصب على الحال، كأنه قال: ملزمة ما تستحقه بعملها، وقيل: لا موضع لها؛ لأنها مستأنفة، فلا تكون خبرًا من المخبر [عنه] الأول، ولكن تتصل به كأنه قيل: الجماعة قد خلت، والجماعة لها ما كسبت.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/598.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. وصى وأوصى وأمر وعهد بمعنى، وقد قالوا: وصى البيت: إذا اتصل بعضه ببعض، فالوصية كأن الموصي بالوصية وصل جل أمره بالموصى إليه.
ب. الشاهد والحاضر من النظائر، تقول: حضرت القوم أحضرهم حضورا: إذا شهدتم، والحضيرة: الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة، وأحضر الفرس إحضارا: إذا عدا شديدا، وحاضرت الرجل محاضرة: إذا عدوت معه، وحاضرته: إذا جاثيته عند السلطان، أو في خصومة، وحضرة الرجل: فناؤه، وأصل الباب: الحضور خلاف الغيبة.
ج. الأمة على وجوه:
• الأول: الجماعة كما في الآية.
• الثاني: القدوة والإمام في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾.
• الثالث: القامة في قول الأعشى:
çوإن معاوية الأكرمين... حسان الوجوه، طوال الأممé
• الرابع: الاستقامة في الدين والدنيا، قال النابغة:
çحلفت فلم أترك لنفسي ريبة... وهل يأثمن ذو أمة، وهو طائعé
أي: ذو ملة ودين.
• الخامس: الحين في قوله: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾
• السادس: أهل الملة الواحدة في قولهم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وعليهما.
أصل الباب القصد من أمه يومه أما: إذا قصده.
د. خلت أي: مضت، وأصله الانفراد، خلا الرجل بنفسه: إذا انفرد، وخلا المكان من أهله: إذا انفرد منهم، والفرق بين الخلو والفراغ أن الخلو إذا لم يكن مع الشيء غيره، وقد يفرغ من الشيء وهو معه، يقال: فرغ من البناء وهو معه، فإذا قيل: خلا منه، فليس معه.
هـ. الكسب: العمل الذي يجلب به نفع، أو يدفع به ضرر عن النفس، وكسب لأهله: إذا اجتلب ذلك لهم بعلاج ومراس، ولذلك لا يطلق الكسب في صفة الله.
2. لما بين عز اسمه دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته وحكم بالسفه على من رغب عن ملته، ذكر اهتمامه بأمر الدين، وعهده به إلى نبيه في وصيته فقال: ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ أي بالملة، أو بالكلمة التي هي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ وقيل: بكلمة لإخلاص، وهي: لا إله إلا الله.
3. ﴿إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر، وهم بقبول وصيته أجدر، وإلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام.
4. يعقوب وهو ابن إسحاق، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا كانا توأمين، فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه عن ابن عباس، ووصى يعقوب بنيه الاثني عشر وهم الأسباط.
5. ﴿وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي: فقالا جميعا: يا بني إن الله أختار لكم دين الاسلام: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾:
أ. أي: لا تتركوا الاسلام فيصادفكم الموت على تركه، أو لا تتعرضوا للموت على ترك الاسلام بفعل الكفر.
ب. وقال الزجاج: معناه إلزموا الاسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين.
6. في هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية عند الموت، وأنه ينبغي أن يوصي الانسان من يلي أمرهم بتقوى الله ولزوم الدين والطاعة.
7. خاطب سبحانه أهل الكتاب، فقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أي: ما كنتم حضورا: ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، وما كنتم حضورا: ﴿إِذْ قَالَ﴾ يعقوب ﴿لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ ومعناه أنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، بأن تنسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فإني ما بعثتهم إلا بالحنيفية، وذلك أن اليهود قالوا: إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، فرد الله تعالى عليهم قولهم.
8. إنما قال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل من تعبدون، لأن الناس كانوا يعبدون الأصنام، فقال: أي الأشياء تعبدون من بعدي؟ ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، وإنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأنه كان أكبر منه، وإسماعيل كان عم يعقوب، وجعله أبا له، لأن العرب تسمي العم أبا، كما تسمي الجد أبا، وذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ردوا علي أبي) يعني العباس عمه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: أي: مذعنون مقرون بالعبودية.
ب. وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لأمره ونهيه قولا وعقدا.
ج. وقيل: داخلون في الاسلام يدل عليه قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾.
10. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أي: جماعة قد مضت، يعني إبراهيم وأولاده ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أي: ما عملت من طاعة، أو معصية: ﴿وَلَكُمُ﴾ يا معشر اليهود والنصارى: ﴿مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي: ما عملتم من طاعة، أو معصية.
11. ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: لا يقال لكم: لم عملوا كذا وكذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم، كما لا يقال لهم: لم عملتم أنتم كذا وكذا، وإنما يطالب كل انسان بعمله دون عمل غيره، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
12. في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء، وإن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار، لأن الله تعالى نفى ذلك.
13. قرأ أهل المدينة، والشام: (وأوصى) بهمزة بين واوين وتخفيف الصاد.. وقرأ الباقون: ﴿وَوَصَّى﴾ مشددة الصاد:
• حجة من قرأ: ﴿وَصَّى﴾ قوله تعالى: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ فتوصية مصدر وصى، مثل قطع تقطعة، ولا يكون منه تفعيل، لأنك لو قلت في مصدر حييت تفعيل، لكان يجتمع ثلاث ياءات، فرفض ذلك.
• وحجة من قرأ (وأوصى بها إبراهيم) قوله: ﴿يُوصِيكُمُ الله﴾ {ومن بعد وصية توصون بها أو دين}
14. مسائل نحوية:
أ. ﴿يَعْقُوبَ﴾: رفع لأنه عطف على: ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والتقدير ووصى إبراهيم ويعقوب وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة.. وقيل: إنه على الاستئناف كأنه قال: ووصى يعقوب أن يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، والأول أظهر.. والفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه لأنه معطوف، والثاني فيه إضمار.
ب. الهاء في: ﴿بِهَا﴾ تعود إلى الملة، وقد تقدم ذكرها، وهو قول الزجاج.. وقيل: إنها تعود إلى الكلمة التي هي: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
ج. الألف واللام في: ﴿الدِّينَ﴾ للعهد دون الاستغراق، لأنه أراد دين الاسلام.
د. ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وإن كان على لفظ النهي لهم عن الموت، فالنهي على الحقيقة عن ترك الاسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه، ومثله من كلام العرب: لا أرينك ها هنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم، وإنما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال: لا تتعرض لأن أراك بكونك ها هنا.
هـ. ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ جملة في موضع الحال وتقديره: لا تموتوا إلا مسلمين، وذو الحال الواو في (تموتوا) ومعناه: ليأتكم الموت وأنتم مسلمون.
و. ﴿أَمِ﴾ ها هنا: منقطعة، وهي لا تجئ إلا وقد تقدمها كلام، لأنها التي تكون بمعنى بل، وهمزة الاستفهام كأنه قيل: بل أكنتم شهداء، ومعنى أم ها هنا الجحد أي: ما كنتم شهداء، وإنما كان اللفظ على الاستفهام، والمعنى على خلافه، لأن اخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج، إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق، فيلزم الحجة أو الانكار له فتظهر الفضيحة.
ز. إذ الأولى ظرف من قوله شهداء، وإذ الثانية بدل من إذ الأولى، وقيل: العامل في الثانية حضر، وكلاهما جائز.
ح. ﴿مَا﴾ للاستفهام، وهو منصوب الموضع، لأنه مفعول: ﴿تَعْبُدُونَ﴾.
ط. ﴿مِنْ بَعْدِي﴾: الجار والمجرور في محل النصب على الظرف وقوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ منصوب على أحد وجهين: أن يكون حالا، فكأنه قال: نعبد إلهك في حال وحدانيته، أو يكون بدلا من إلهك، وتكون الفائدة فيه ذكر التوحيد.
ي. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾: جملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون على الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب.
ك. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾: في موضع جر على البدل من آبائك، كما تقول: مررت بالقوم: أخيك وغلامك وصاحبك.
ل. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال، فكأنه قيل: ملزمة ما تستحقه بعملها.. ويجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة فلا تكون جزءا من الخبر الأول، لكن تكون متصلة به في المعنى، وإن لم تكن جزءا منه، لأنهما خبران في المعنى عن شيء واحد، فكأنه قيل: الجماعة قد خلت، والجماعة لها ما كسبت.
م. ﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: ما اسم موصول، و﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: صلته، والموصول والصلة في موضع الجر بعن.. و﴿عَنْ﴾ تتعلق (بتسألون)
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/400.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام.
2. قرأ نافع وابن عامر وأوصى بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في ﴿وَصَّى﴾ دليل مبالغة وتكثير.
3. في الضمير في ﴿بِهَا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ﴾ إلى أي شيء يعود قولان:
أ. الأول: أنه عائد إلى قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131] على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ [الزخرف: 28] إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26، 27] وقوله: ﴿كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة.
ب. الثاني: أنه عائد إلى الملة في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 130]، قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين:
• الأول: أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم.
• الثاني: أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك.
4. هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين:
أ. أحدها: أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه، بل قال: وصاهم، ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه، كان القول إلى قبوله أقرب.
ب. ثانيها: أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصهم بذلك في آخره عمره، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره.
ج. ثالثها: أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية، وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام.
د. رابعها: أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين، وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر.
هـ. خامسها: أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر.
5. لما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام، وأجراها بالرعاية، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين.
6. في قوله تعالى: ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم، والمعنى أنه وصى كوصية إبراهيم.
ب. الثاني: قرئ ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بالنصب عطفاً على بنيه، ومعناه: وصى إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب.
7. ﴿يَا بَنِي﴾ هو على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول، وفي قراءة أبي وابن مسعود، أن يا بني.
8. ﴿اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ المراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره.
9. ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ المراد بعثهم على الإسلام، وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلًا نفسه في الخطر والغرور.
10. لما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى، ومبالغة في البيان، فقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
11. ﴿أَمِ﴾ في قوله تعالى ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ معناها حرف الاستفهام، أو حرف العطف، وهي تشبه من حروف العطف (أو) وهي تأتي على وجهين: متصلة بما قبلها ومنقطعة منه:
أ. أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فأنت لا تعلم كون أحدهما عنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم، أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ أي اعلم أن أحدهما عندك لكن أهو هذا أو ذاك؟
ب. أما المنقطعة فقالوا: إنها بمعنى (بل) مع همزة الاستفهام، مثاله: إذا قال إنها إبل أم شاء، فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل، فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل، ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا، فالإضراب عن الأول هو معنى (بل) والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام، فقولك: إنها إبل أم شاء جار مجرى قولك: إنها إبل أهي شاء بقولك: أهي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله: إنها إبل، وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ بمعنى أيهما عندك ولم يكن (ما) بعد (أم) منقطعاً عما قبله بدليل أن عمراً قرين زيد وكفى دليلًا على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول: أيهما عندك؟
12. جاء في كتاب الله تعالى من النوعين كثير:
أ. أما المتصلة فقوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا﴾ [النازعات: 27، 28] أي أيكما أشد.
ب. وأما المنقطعة فقوله تعالى: ﴿الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [السجدة: 1 ـ 3] والله أعلم بل يقولون افتراه، فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده، إذ ليس في الكلام معنى، أي كما كان في قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن (أم) هاهنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن (أم) هذه المنقطعة: تتضمن معنى بل.
13. بناء على ما سبق، فإن في (أم) في هذه الآية، وهل هي منفصلة أم متصلة قولان:
أ. الأول: أنها منقطعة عما قبلها، ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي: بل ما كنتم شهداء، (والشهداء) جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت، والخطاب مع أهل الكتاب، كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل: كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو نفس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده.
ب. الثاني: في أن ﴿أَمِ﴾ في هذه الآية متصلة، وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؛ يعنى إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد، وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟
14. سؤال وإشكال: باعتبار أن ﴿أَمِ﴾ منقطعة عما قبلها، الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل، والمحكي عن يعقوب في هذه الآية ليس كلاماً باطلًا بل حقاً، فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه؟ والجواب: الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى، فأما ما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية.
15. معنى ﴿إِذِ﴾ قوله تعالى: ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾
أ. الأولى وقت الشهداء.
ب. الثانية وقت الحضور.
16. الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره.
17. سؤال وإشكال: لفظة ﴿مَا﴾ في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن ﴿مَا﴾ عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون.
ب. الثاني: قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ كقولك عند طلب الحد والرسم: ما الإنسان؟
18. قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ تمسك به فريقان من أهل الجهل:
أ. الأول: المقلدة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف.
ب. الثاني: التعليمية، قالوا: لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية، فإنهم لم يقولوا: نعبد الإله الذي دل عليه العقل، بل قالوا: نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم.
19. الجواب على كلا الشبهتين هو: كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي، فليس فيها أيضاً دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم، ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلًا على سبيل الاستدلال، أقصى ما في الباب أن يقال: فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال، والجواب عنه من وجوه:
أ. أولها: أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله.
ب. ثانيها: أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا: لسنا نجزي إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له.
ج. ثالثها: لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21] وهاهنا مرادهم بقولهم: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ أي: نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد.
20. مما روي في سبب وصيته لهم:
أ. قال القفال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى.
ب. حكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك، ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين:
أ. الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.
ب. الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوماً صالحين وذلك لا يليق بحالهم.
21. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لآبائك، قال القفال: وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.
22. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ بدل {إِلهَ آبائِكَ} كقوله: ﴿بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ﴾ [العلق: 15، 16] أو على الاختصاص، أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً.
23. في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في ﴿لَهُ﴾
ب. ثانيها: يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد.
ج. ثالثها: أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون.
24. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة، وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون، والأمة الصنف.
25. ﴿خَلَتْ﴾ سلفت ومضت وانقرضت، والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه، فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم.
26. تدل الآيات الكريمة على:
أ. بطلان التقليد، لأن قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع، فكأنه قال إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق.
ب. ترغيبهم في الإيمان، واتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتحذيرهم من مخالفته.
ج. أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم، وتحقيقه ما روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال (يا صفية عمة محمد، يا فاطمة بنت محمد، ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً)، وقال (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال الله تعالى: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101] وقال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] وقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: 54]
د. بطلان قول من يقول: الأبناء يعذبون بكفر آبائهم، وكان اليهود يقولون: إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك.
هـ. أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب(2).
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/64.
(2) ذكر هنا بحثا مفصلا حول الخلاف في تفسير الكسب نقلناه إلى محله من السلسلة.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ﴾ أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا، ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرى بهما.
2. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ رفع بفعله، ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ عطف عليه، وقيل: هو مقطوع مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب، وقال: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه.
3. بنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع، وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له أربع عشرة سنة، والأول أصح.. وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة، وقيل: مائة وثلاثون، وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة، وهو الذبيح في قول، وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح(2)... ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم(3). وبنو إسرائيل، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام، ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي عليه السلام، وكان بين وفاته وبين مولد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة.
4. قرأ عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي: ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بالنصب عطفا على ﴿بَنِيهِ﴾، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى وهو بعيد، لان يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأنه عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده.
5. ﴿يَا بَنِي﴾ معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك، قال الفراء: ألغيت أن لان التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها، قال: وقول النحويين إنما أراد (أن) فألغيت ليس بشيء.. النحاس: ﴿يَا بَنِي﴾ نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لألتقي ساكنان، ومثله ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾
6. ﴿لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي الإسلام، والألف واللام في ﴿الدِّينَ﴾ للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ إيجاز بليغ، والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا، فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الامر دائبا لازما.
7. (لا) نهي (تموتن) في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، ﴿إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.
8. قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ (شهداء) خبر كان، ولم يصرف لان فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون!
9. (أم) بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب، والعامل في (إذ) الاولى معنى الشهادة، و(إذ) الثانية بدل من الاولى، و(شهداء) جمع شاهد أي حاضر.
10. معنى ﴿حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا، وعبر عن المعبود بـ (ما) ولم يقل من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال (من) لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال (ما)، وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه.
11. معنى ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ أي من بعد موتي، وحكي أن يعقوب حين خير كما تخير الأنبياء اختار الموت، وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ الآية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى.
12. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية، قال الكسائي: وإن شئت صرفت (إسحاق) وجعلته من السحق، وصرفت (يعقوب) وجعلته من الطير، وسمي الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق.
13. ﴿إِلَهًا﴾ بدل من ﴿إِلَهِكَ﴾ بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية، وقيل: ﴿إِلَهًا﴾ حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لان الغرض إثبات حال الوحدانية.
14. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال، والعامل ﴿نَعْبُدُ﴾.
15. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، و﴿أُمَّةٍ﴾ خبر، ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ نعت لامة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون ﴿أُمَّةٍ﴾ بدلا من ﴿تِلْكَ﴾
16. ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ (ما) في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين. ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ مثله، يريد من خير وشر، وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة، فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف، وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح، وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله.
17. ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/135.
(2) هذا مخالف لظاهر القرآن الكريم.
(3) هذا غريب جدا.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ (أم) هذا قيل: هي المنقطعة؛ وقيل: هي المتصلة، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية، فردّ الله ذلك عليهم وقال لهم: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى به بنيه فتدّعون ذلك عن علم، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون.
2. الشهداء: جمع شاهد، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة، والعامل في ﴿إِذِ﴾ الأولى: معنى الشهادة، وإذ الثانية: بدل من الأولى.
3. المراد بحضور الموت: حضور مقدماته، وإنما جاء بـ ﴿مَا﴾ دون من في قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان والنار والشمس والكواكب.
4. معنى ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ أي: من بعد موتي، وقوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لقوله ﴿آبَائِكَ﴾ وإسماعيل وإن كان عمّا ليعقوب؛ لأن العرب تسمي العمّ أبا.
5. وقوله: ﴿إِلَهًا﴾ بدل من إلهك؛ وإن كان نكرة؛ فذلك جائز، ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله: واحِداً فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة، وقيل: إن إلها: منصوب على الاختصاص؛ وقيل: إنه حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض الإثبات حال الوحدانية.
6. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ جملة حالية، أي: نعبده حال إسلامنا له، وجوز الزمخشري أن تكون اعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام.
7. الإشارة بقوله: ﴿تِلْكَ﴾ إلى إبراهيم وبنيه؛ ويعقوب وبنيه و﴿أُمَّةٍ﴾ بدل منه، وخبره ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أو أمة: خبره، وقد خلت: نعت لأمة، وقوله: {لَها ما كَسَبَتْ ولَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} بيان لحال تلك الأمة؛ وحال المخاطبين؛ بأن لكل من الفريقين كسبه، لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه شيء، ولا يضرّه ذنب غيره، وفيه الردّ على من يتكل على عمل سلفه، ويروّح نفسه بالأماني الباطلة، ومنه ما ورد في الحديث (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه) والمراد: أنكم لا تنتفعون بحسناتهم، ولا تؤاخذون بسيئاتهم، ولا تسألون عن أعمالهم، كما لا يسألون عن أعمالكم، ومثله: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى}
8. لما ادّعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها؛ والخير مقصور عليها؛ ردّ ذلك عليهم بقوله: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: قل يا محمد هذه المقالة، ونصب ملة بفعل مقدر، أي: نتبع؛ وقيل التقدير: نكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملته؛ وقيل: بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا.
9. الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو في أصل اللغة: الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها. قال الزجّاج: وهو منصوب على الحال، أي: نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفا، وقال عليّ بن سليمان: هو منصوب بتقدير أعني، والحال خطأ؛ كما لا يجوز: جاءني غلام هند مسرعة، وقال في الكشاف: هو حال من المضاف إليه، كقولك: رأيت وجه هند قائمة، وقال قوم: الحنف: الاستقامة، فسمّي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته، وسمّي معوج الرجلين: أحنف، تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ: سليم، وللمهلكة: مفازة، وقد استدلّ من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر:
çإذا حوّل الظّل العشيّ رأيته حنيفا... وفي قرن الضّحى يتنصّرé
أي: أن الحرباء تستقبل القبلة بالعشيّ، وتستقبل المشرق بالغداة، وهي قبلة النصارى، ومنه قول الشاعر:
çوالله لولا حنف في رجله... ما كان في رجالكم من مثلهé
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/169.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).: في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره، إثر بيان كماله في نفسه، والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته.
2. الضمير في ﴿بِهَا﴾ إما عائد لقوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾ [الزخرف: 28] إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26 ـ 27]
3. قوله تعالى: ﴿كَلِمَةَ﴾ دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة، وإما عائد إلى الملة في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾، وأيّد الأول بكون الموصى به مطابقا في اللفظ لأسلمت، وقرب المعطوف عليه، ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا، وردّ الإضمار إلى المصرح بذكره، إذا أمكن، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم، ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة، والكل حسن، وقوله تعالى ﴿بَنِيهِ﴾
4. تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق، وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج، بعد وفاة سارة أم إسحاق، امرأة أخرى اسمها قطورة، فولدت له: زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية.
5. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ معطوف على إبراهيم، ومفعوله محذوف تقديره: ووصى يعقوب بنيه، لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ [البقرة: 133]
6. قرئ ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بالنصب عطفا على بنيه، ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب، وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام، ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، وكان لإسحاق، حين ولد له يعقوب وعيسو، ستون سنة، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه، ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [الأنعام: 84]، وفي آية أخرى ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [العنكبوت: 27]
7. ﴿يَا بَنِي﴾ أي قال كل من إبراهيم ويعقوب، على القراءة الأولى، وعلى الثانية: قال إبراهيم: يا بنيّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، الذي لا دين غيره عند الله تعالى.
8. ﴿فَلَا﴾ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا ﴿تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وفي هذه الجملة إيجاز بليغ، والمراد: الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا، وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، لأنه هو المقدور، فلا يقال: صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، وذا ليس بمقصود، لأنه غير مقدور، وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام، فيعود النهي إليه، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال، فإما أن يقال: استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني، فيكون مجازا، أو يقال: استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه، فيكون كناية، قال الزمخشريّ: ونظير ذلك قولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته، والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهيّ عنه، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام، موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم، كما تقول في الأمر: مت وأنت شهيد، فليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات، وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته، وإظهارا لفضلها على غيرها، وإنها حقيقة بأن يحثّ عليها، هذا.
9. قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك، ولما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيدا للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان بقوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
10. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أي ما كنتم حاضرين حينئذ، ف ﴿أَمِ﴾ منقطعة مقدّرة ب (بل) والهمزة، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ.
11. الشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر، وحضور الموت حضور مقدماته ﴿إِذْ قَالَ﴾ أي يعقوب ﴿لِبَنِيهِ﴾ وهم: رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويسّاكر، وزبولون، ويوسف، وبنيامين، ودان، ونفتالي، وجاد، وأشير، وهم الأسباط الآتي ذكرهم.
12. ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لآبائك، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه. لأن العم أب والخالة أم، لا نخراطهما في سلك واحد، وهو الأخوّة، لا تفاوت بينهما، ومنه حديث الترمذيّ عن علي كرم الله وجهه، رفعه (عم الرجل صنو أبيه)، أي لا تفاوت بينهما، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، وفي الصحيحين عن البراء، رفعه (الخالة بمنزلة الأم)، وروى ابن سعد عن محمد بن عليّ مرسلا (الخالة والدة)
13. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ بدل من إله آبائك، كقوله تعالى: ﴿بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق: 15 ـ 16] أو على الاختصاص، أي نريد بإله آبائك إلها واحدا، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك، للتصريح بالتوحيد.
14. ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم، بقولهم ﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ أي وحده لا لأب ولا غيره ﴿مُسْلِمُونَ﴾ أي مطيعون خاضعون، كما قال تعالى ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [آل عمران: 83] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث. منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد)
15. اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين:
أ. منها أنه تعالى لم يقل (وأمر إبراهيم بنيه) بل قال (وصاهم)، ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فدل على الاهتمام بالوصي به، والتمسك به.
ب. ومنها تخصيص بنيهما بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصّاهم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره.
ج. ومنها أنهما، عليهما السلام، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى، وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضا. إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر، عليه الرحمة.
16. ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين ﴿أُمَّةٍ﴾ أي جيل وجماعة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي سلفت ومضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم، لا يسألون هم عن أعمالكم.
17. ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا: فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. فما اقتص عليكم أخبارهم، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه، إلا لتفعلوا ما فعلوه، فتنتفعوا، وإن أبيتم، لم تنتفعوا بأعمالهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/401.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَوْصَى بِهَا﴾ بالملَّة، أي: باتِّباعها لصراحة ذكرها وإظهار (إِبْرَاهِيمُ) وعطفِ (يَعْقُوبُ) عليه مع أنَّ عطف (أَوْصَى) على ما قال له ربُّه يقتضي الضَّمير، وأصل الإيصاء: التقدُّم إلى أحد بخبر، والوصل، يقال: وصَّاه إذا وصله، وقصَّاه إذا قطعه، أو بكلمةِ ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، لقوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةَم بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف: 28]، فإنَّه أنسب، ولا سيما إنْ رجعنا الضمير إلى قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: 26] بتأويل الكلمة، ولقربه، ولو كان فيه تأويل؛ وفيه أنَّه لو رجع الضمير لكلمة (أَسْلَمْتُ) لقال: (أَسْلَمْتُ لربِّ العالمين، وأوصى بها بنيه ويعقوب).
2. ﴿إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ ثمانية أو أربعة عشر، إسماعيل وهو أوَّلهم، وأمه هاجر (بفتح الجيم) القبطية، وإسحاق، وأمُّه سارة، وأمُّ الباقين قنطوراء بنت يقطن الكنعانيَّة، تزوَّجها بعد وفاة سارة، مدين، ومدائن، وزمران، ولنشان، ولبشق، وشوخ، زاد بعض: روم.
3. ﴿وَيَعْقُوبُ﴾ بنيه كما أوصيَا غير بنيهما، أو خصَّهم للشفقة، ولأنَّ صلاحهم صلاح لغيرهم، قال كل منهما لبنيه: ﴿يَابَنِيَّ﴾ وقال: ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾ لأنَّه أشدُّ عمدة ولذكر بنيه، أو يحكى بـ (أَوْصَى) لأنَّه بمعنى قال، أو المقدَّر: (ويعقوب قال).
4. ﴿يَابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اَصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ الكامل المعهود دين الإسلام الذي جاء به إبراهيم ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ راسخون فيه، أي: دوموا عليه حتَّى إذا جاءكم الموت وافاكم عليه متَّصفين به، وَأَمَّا الموت نفسه فليس بأيديهم.
5. وأولاد يعقوب: روبين، بضمِّ الراء وكسر الباء الموحَّدة بعدها مثنَّاة فنون، ويروى باللام بدل النون، وشِمعون بكسر الشين، وبشوخور، ولاوي، ويروى: ليوى، ويهوذا، أو زبولون بفتح الزاي وزوانى بفتح الزَّاي والنُّون، ويروى: تفتالى بفتح التَّاء واللام، ويروى: نفتلي بفتح النون والتاء وكسر اللام، ويروى: بتيون بدله، وإسَّاخر بكسر الهمزة وشدِّ السين وفتح الخاء، ويروى بالياء المثنَّاة بدل الهمزة بذلك الضبط، وكاد ويروى: كوذى، ويروى بإهمال الدال، وآشر كناصر، ويروى: أوشير، وبنيامين بكسر الباءِ، ويوسف، وأكبرُهُم سنًّا رُوبين، وأصغرهم سنًّا يوسف، وأكبرُهُم رايا شمعون، وقيل: يهوذا، والنبوءة في أولاد لاوي، والملك في أولاد يهوذا.
6. ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ جمع شاهد، كعالم وعلماء، أو شهيد ككريم وكرماء، ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، قالت اليهود لعنهم الله للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم : ألم تعلم أنَّ يعقوب يوم مات وصَّى بنيه باليهوديَّة، وما مات نبيء إلَّا عليها؟ فنزل: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ وعَنَوْا باليهوديَّة ملَّة موسى، وعَنَوْا أن لا تخالف فيما خالفها القرآن والإنجيل فيه، أو عنوا اليهودية المحدثة الباطلة، فكذَّبهم الله بأنَّ يعقوب أوصاهم بدين الحقِّ ولم تحضروا، ولو حضرتم في زمانه لسمعتموه في ذلك، وإنَّما اليهوديَّة بعد موسى.
7. ﴿إِذْ﴾ بدل مِن (إذ) [الأولى] ﴿قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ من بَعْدِي﴾ من بعد موتي، أراد بـ (ما) العموم، من يعلم ومن لا يعلم، ويبعد أنْ يكون المراد ما لا يعلم فقط، وأنَّه كمختبِر لهم، وكانت المعبودات في زمانه أصنامًا ونجومًا وغير ذلك ممَّا لا يعلم، فيقول لهم: أيَّها تعبدون؟ فأجابوا: أنْ لا نعبدها بل نعبد الله كما قال: ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ﴾ أي: الله الذي هو معبودك ومعبود آبائك.
8. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ عَدَّهُ أبًا ليعقوب تغليبًا للأكثر، ولأنَّه عمُّه، والعم أبٌ كما في الحديث: (وأنَّ العمَّ صنو الأب، وأنَّ العباس بقيَّة آبائي)، وقال: (ردوا عليَّ أبي)، وهو العبَّاس حين بعثه لمكَّة ليدعوهم لئلَّا يقتلوه (واحفظوني في العبَّاس فإنَّه بقيَّة آبائي)، وقدَّمه على إسحاق الأب الحقيقيِّ تغليبا ولكبر سنِّه إذ زاد على أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، وأنَّه جدُّ نبيئنا صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم، ولو جعلنا (إِبْرَاهِيمَ) بدلا من (إِلَهَ) على حذف مضاف، أي: إله إبراهيم، لم نحتج لتأويل في ذكر إسماعيل، إلَّا أنَّ فيه سوء أدب.
9. ﴿وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ بدل من (إِلَهَكَ)، أو نعني: إلها واحدا، تصريح بالتوحيد نفيا للتعدُّد المتوهَّم من قوله: ﴿إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ﴾، فإنَّ أغلبيَّة كون المعرفة المكرَّرة عين الأولى: لا تكون نصًّا، ولأنَّها في غير العطف، أمَّا فيه كما هنا فقد عارضها أغلبيَّة أخرى هي أنَّ الأصل في العطف التغاير، ولو أراد أنْ لا يكرِّرَ لقال: نعبد إلهكم أنتم وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وقد تستفاد الوحدَة من (إِلَهًا) فيكون قوله: (وَاحِدًا) نفيًا للتركيب والمشاركة في الصِّفات، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ مخلصون التوحيد، أو منقادون لأمره ونهيه.
10. ﴿تِلْكَ﴾ أي: هؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوهم، وقال: ﴿تِلْكَ﴾ لمعنى الجماعة، أو للخبر وهو قوله: ﴿أُمَّـةٌ﴾ جماعة، سمِّيت أمَّة لأنَّها تُؤَمُّ، أي: تُقصَدُ، ويؤم بعضُها بعضًا، ويجمعهم أمر واحدٌ: دين أو زمان أو مكان، هذا أصل الأمَّة، وقد يطلق على الملَّة أو على الزمان أو على المنفرد بشيء في زمانه؛ وحمل بعضهم الآية عليه، بمعنى أنَّ كلَّ واحد من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أمَّةٌ في زمانه، فالإشارة إلى الأربعة على هذا، لعلَّه لا يرِدُ علينا ما يعمل الأربعة من خير أو شرٍّ، إذ لا يعملون شرًّا، اللهمَّ إلَّا على سبيل الفرض للبرهان.
11. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿لَهَا﴾ لا لغيرها ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ أجر عملها، ﴿وَلَكُم﴾ لا لغيركم ﴿مَّا كَسَبْتُمْ﴾ ولهم أو لكم ما كسب لهم أو لكم، وحذف ذلك، وذلك مثل أن يتصدَّق واحد أو يصلِّي النَّفل أو يصومه وينوي بثوابه غيره من الأحياء أو الأموات، وَأَمَّا العلم المنتفع به والصدقة الجارية فمن كسب الإنسان، ومنفِّذ ذلك كوكيله، وولد الرجل من كسبه، وقيل: يختصُّ ذلك بهذه الأمَّة، والخطاب لليهود، والمراد: الجزاء بخير أو شرٍّ كما في قوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من خير أو شرٍّ، ولا يُسألون عمَّا كنتم تعملون.
12. والسؤال عبارة عن لازمه وهو المؤاخذة ولو كان حقيقًا فكيف وهو توبيخ؟، قال ابن أبي حاتم مرسلاً: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يا معشر قريش إنَّ أولى الناس بالنبيء المتَّقون فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال الصالحة وتلقوني بالدنيا تجمعونها فأصدُّ عنكم بوجهي) وفي معناه ما روي: (يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، أو لا تُسألون عمَّا يعمل هؤلاء الأنبياء قبلكم من الشرائع، بل عمَّا يعمل نبيئكم محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم .
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/228.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا﴾ أي بالملة أو الخصلة التي ذكرت أخيرا ﴿إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ بنيه أيضا، إذ قال كل منهما لولده ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي اختاره لكم بهدايتكم إليه وجعل الوحى فيكم ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي فحافظوا على الإسلام لله والاخلاص في الانقياد إليه بحيث لا تتركوا ذلك لحظة واحدة لئلا تموتوا فيها فتموتوا غير مسلمين، فإن الإنسان لا يضمن حياته بين الشهيق والزفير، ويتضمن هذا النهى إرشاد من كان منحرفا عن الإسلام إلى عدم اليأس، وأن يبادر بالرجوع إليه والاعتصام بحبله لئلا يموت على غبره.
2. في هذه الآية انتقال إلى إشراك أهل الكتاب وغيرهم من العالمين مع العرب في التذكير والإرشاد إلى الإسلام، ولذلك ذكرت وصية يعقوب، واختلف الأسلوب، فقد كان جاريا على طريقة الإيجاز، فانتقل إلى طريقة الإطناب والإلحاح، لما تقدم الإلماع إليه من مراعاة الأولى في خطاب العرب، والثانية في خطاب أهل الكتاب، الذين لا يكتفون بالإشارة والعبارة المختصرة لجمود أذهانهم واعتيادهم على التأويل والتحريف.
3. فصل بين العاطف والمعطوف بالمفعول ولم يقل: ووصى بها ابراهيم ويعقوب بنيهما، لئلا يتوهم أن الوصية كانت منهما في وقت واحد أو أنها خاصة بأبنائهما معا وهم أولاد يعقوب على نحو ما تقدم في تفسير ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾
4. ذكر ملة ابراهيم وحكم الراغب عنها ووصيته بنيه بها ووصية حفيده يعقوب بنيه بها أيضا، وذلك يشعر بأن بنى ابراهيم كانوا يوصون بما أوصاهم أبوهم، فإن يعقوب أخذ الوصية عن أبيه اسحاق، وذلك من ضروب الإيجاز الدقيقة.
5. أراد أن يقرر أمر هذه الوصية ويؤكدها ويقيم الحجة بها على أهل الكتاب فقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾، وهذا إضراب عما قبله وانتقال إلى استفهام إنكاري وجه إلى اليهود عن وصية جدهم يعقوب لآبائهم الأسباط، ويجوز أن يكون معناه أكنتم غائبين أم كنتم شهداء إذ احتضر يعقوب فسأل بنيه عما يعبدون من بعده سؤال تقرير ليشهدوه على أنفسهم بالتوحيد الخالص، والسؤال بـ ﴿مَا﴾ أعم من السؤال بمن لأن هذا خاص بمن يعقل وما نزل منزلته بسبب يجيز ذلك، والسؤال بكلمة (ما) يعم العاقل وغيره، وتتعين (ما) في السؤال عن العاقل إذا أريد وصفه نحو ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وهذا الاصطلاح للنحاة لا يدل على جواز وصف الله تعالى بلفظ (العاقل) شرعا لأن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾
6. عرفوا الاله بالإضافة إلى آبائهم لأنهم هم الذين انفردوا بعبادة رب العالمين خالق السموات والأرض وحده، ودعوا الامم إلى ذلك في وقت فشت فيه عبادة آلهة كثيرين من الكواكب والاصنام والحيوانات وغيرها، ولذلك قال سحرة موسى عندما آمنوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾
7. اسماعيل عم يعقوب ذكر مع آيائه للتغليب أو لتشبيه العم بالأب، كما في حديث: (عم الرجل صنو أبيه) رواه الشيخان، والجمع بين الحقيقة والمجاز جائز يكثر في القرآن وفاقا للشافعي وابن جرير الطبري وخلافا لجمهور الأصوليين.
8. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ أي نعبده حال كونه إلها واحدا، أو نخص بالعبادة إلها واحدا لا نشرك معه أحدا بدعاء، ولا توجه في قضاء حاجة ولا غير ذلك من العبادات ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي والحال أننا نحن منقادون مذعنون مستسلمون له وحده دون غيره كما يدل عليه تقديم الظرف (له)
9. خلاصة هذه الوصية(2). عقيدة الوحدانية في العبادة واسلام القلب لله تعالى والاخلاص له، وتكرار لفظ (الاسلام) في هذه الآيات يراد به تقرير حقيقة الدين، ذلك أن العرب كانت تدعى أن لها دينا خاصا بها وأنه الحق، وإن اختلفت فيه القبائل والشعوب، ومنهم من كان ينتمى إلى ابراهيم على وثنيتهم، وكذلك اليهود والنصارى كل يدعى دينا خاصا به وأنه الحق، فبينت هذه الآيات أن هذه الدعاوى من التعصب للتقاليد وأن دين الله تعالى واحد في حقيقته، وروحه التوحيد والاستسلام لله تعالى والخضوع والاذعان لهداية الانبياء، وبهذا كان يوصى أولئك النبيون أبناءهم وأممهم، فتبين أن دين الله تعالى واحد في كل أمة وعلى لسان كل نبيّ ولذلك قال في آية أخرى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ فالتفرق في الدين ما جاء إلا من الجهل والتعصب للأهواء، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرؤوسين والرؤساء، فالقرآن يطالب الجميع بالاتفاق في الدين والاجتماع على أصليه، العقلي وهو التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، والقلبي وهو الاسلام والاخلاص لله في جميع الأعمال.
10. علم من هذا(2). أن لفظ الاسلام والمسلمين في كلام ابراهيم واسماعيل ويعقوب يراد به معناه الذي تقدم، فمن لم يكن متحققا بهذا المعنى فليس بمسلم أي ليس على دين الله القيم الذي كان عليه جميع أنبياء الله، وأما لفظ الاسلام في عرفنا اليوم فهو لقب يطلق على طوائف من الناس لهم مميزات دينية وعادية تميزهم عن سائر طوائف الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، ولا يشترط في إطلاق هذا اللقب العرفي عند أهله أن يكون المسلم خاضعا مسلما لدين الله مخلصا له أعماله، بل يطلقونه أيضا على من ابتدع فيه ما ليس منه، أو ما ينافيه، ومن فسق عنه واتخذ إلهه هواه، ومعنى الاسلام الذي دعا إليه القرآن تقوم به الحجة على المشركين، ويعترف به اليهود والنصارى لأنه روح كل دين، وهو الذي دعا إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والدعوة إلى اللقب لا معنى لها.. وبه يظهر خطأ من خصص الرغبة عن ملة ابراهيم بالميل إلى اليهودية أو النصرانية.
11. من مباحث اللفظ في الآية أن (أم) تستعمل في الاستفهام إذا كان مبنيا على كلام سابق كما هنا لما فيها من الاشعار بالانتقال ففيها معنى الاضراب.
12. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الامة هنا الجماعة من الناس والمشار إليه يعقوب وآباؤه وأبناؤه، وإذا بدأت بالأفضل قلت ابراهيم وأولاده وأحفاده المذكورون في الآية السابقة.
13. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت وذهبت من هذا العالم ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من عمل تجزى به، ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ من عمل تجزون به، ولا يجزى أحد بعمل غيره ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ يوم الحساب والجزاء ﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ سؤال حساب وجزاء، ولا يسألون عما تعملون كذلك، بل كل يسأل عن عمله ويجازى به دون عمل غيره، فلا ينتفع أحد بعمل غيره ولا يتضرر به من حيث هو عمله، إلا أنه قد ينتفع أو يتضرر بعمل غيره إذا كان هو سببا له لأنه أرشده إليه وكان قدوة له فيه.
14. جاءت هذه الآية الكريمة(2). بعد الكلام عن وصية ابراهيم لبنيه واسماعيل واسحاق ويعقوب لبنيهم استدراكا على ما عساه يقع في أذهان ذراري هؤلاء الانبياء الكرام عليهم الصلاة والسّلام من أن هذا السلف الذي له عند الله هذه المكانة يشفع لهم فينجون ويسعدون يوم القيامة بمجرد الانتساب اليهم. فبين الله في هذه الآية أن سنته في عباده أن لا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله، وقد بين في سورة النجم أن هذه القضية من أصول الدين العامة التي جاء بها الأنبياء من قبل ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ ا
15. بين الله تعالى في آيات متعددة في سور متفرقة، أن المرسلين لم يرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فمن آمن بهم وعمل بما يرشدون اليه كان ناجيا، وإن بعد عنهم في النسب، ومن أعرض عن هديهم كان هالكا وإن أدلى إليهم بأقرب سبب، قال: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ وإذا لم تنتفع بهم ذرياتهم الذين لم يقتدوا بهم فكيف ينتفع بهم أولئك البعداء الذين ليس بينهم وبينهم صلة إلا الأقوال الكاذبة التي يعبر عنها أهل هذا العصر (بالمحسوبية) ويقولون في مخاطبة أصحاب القبور عند الاستغاثة بهم (المحسوب كالمنسوب) وما أحسن قول الإمام الغزالي: إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب فالعاصي ينجو بصلاح والده، والآيات التي تؤيد هذه الآية كثيرة جدا فهي أصل من أصول الدين الإلهي لا يفيد معها تأويل المغرورين، ولا غرور الجاهلين.
__________
(1) تفسير المنار: 1/476.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي ووصّى بهذه الملة التي ذكرت في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ﴾ إبراهيم أولاده ووصّى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا، قائلين لهم: إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه.
2. ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.
3. في هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت.
çدقات قلب المرء قائلة له...إن الحياة دقائق وثوانىé
4. ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا، وأقام الحجة على أهل الكتاب فوجه إليهم الخطاب وقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا الجاحدين نبوّته ـ شهودا حين حضر يعقوب الموت، فتدّعون أنه كان يهوديّا أو نصرانيّا، فقد روى أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية؟
5. خلاصة ذلك ـ أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة، وبها وصّوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم.
6. ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ أي أكنتم شهداء حين قال لبنيه: أيّ معبود تعبدون من بعدي؟ ومراده من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بثباتهم على الإسلام والتوحيد، وأن يكون مقصدهم في جميع أعمالهم وجه الله ومرضاته، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، كما قال في دعائه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾.
7. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي قالوا: نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه، ونحن له منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمّات، وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب، والحيوان وغيرها.
8. جعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا تشبيها له بالأب، وقد روى الشيخان قوله عليه السلام (عم الرجل صنو أبيه).
9. قد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كلّ نبيّ وروحه التوحيد والاستسلام لله، والإذعان لهدى الأنبياء، وبهذا كان يوصى النبيون أممهم كما قال ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾، فالقرآن يحثّ الناس على الاتفاق في الدين الذي أساسه أمران: أولهما التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، وثانيهما الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال، فمن لم يتصف بذلك فليس بالمسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه الأنبياء.
10. الناس يطلقون الإسلام اليوم لقبا على طوائف من الناس لهم ميزات دينية، وعادات تميزهم من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، وقد يكون من بعض أهله من لم يكن مستسلما مخلصا لله في أعماله، بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه، أو فاسقا عنه قد اتخذ إلهه هواه، والإسلام الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يدع إلى الإسلام بمعنى ذلك اللقب المعروف اليوم.
11. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي إن سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله، ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله كما جاء في قوله: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ وجاء في الحديث: (يا بنى هاشم، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)
__________
(1) تفسير المراغي: 1/221.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه، ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم! ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله عليهم في اختياره الدين لهم: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾.. فهو من اختيار الله، فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه، وأقل ما توجبه رعاية الله لهم، وفضل الله عليهم، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه، والحرص على ما اختاره لهم، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.. وها هي ذي الفرصة سانحة، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم.
2. تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه.. الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته؛ والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته، فليسمعها بنو إسرائيل: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
3. إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟.. إنها العقيدة.. هي التركة، وهي الذخر، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته.
4. ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾.. هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله، وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها، وهذه هي الأمانة والذخر والتراث.
5. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.. إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه.
6. وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب، وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم ﴿مُسْلِمُونَ﴾
7. والقرآن يسأل بني إسرائيل: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾.. فهذا هو الذي كان، يشهد به الله، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل!
8. في ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة.. حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. فلكل حساب؛ ولكل طريق؛ ولكل عنوان؛ ولكل صفة.. أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين. إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف. هؤلاء حزب وأولئك حزب. لهؤلاء راية ولأولئك راية.. والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي.. فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب. أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق؛ فليسا أمة واحدة، وليس بينهما صلة ولا قرابة.. إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين.
9. إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض؛ وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة، وهذا هو التصور اللائق بالإنسان، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية، لا من التصاقات الطين الأرضية!
10. في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم، لقصة العهد مع إبراهيم: وقصة البيت الحرام كعبة المسلمين؛ ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين؛ يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين، ويعرض لحججهم وجدلهم ومحالهم، فيبدو هذا كله ضعيفا شاحبا، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل: كذلك تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة لا ينحرف عنها إلا المتعنتون.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/116.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخطاب هنا لبنى إسرائيل، ليذكروا تلك الوصية التي وصّى بها يعقوب بنيه حين حضرته الوفاة، وأنه أقامهم على دين الله، دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهو دين الإسلام.
2. إذن فهذا الدين الذي جاء به (محمد) ليس بدعا من الدين، وإنما هو امتداد لدين إبراهيم، الذي وصّى به بنيه: إسماعيل وإسحاق، والذي وصّى به إسحاق يعقوب، كما وصى به يعقوب بنيه! وإذن فلم يدّعى بنو إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ أنهم على الحقّ وحدهم؟ وكيف ودينهم هو فرع من أصل هو دين إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق؟
3. إن دعوى أنهم المصطفون وحدهم لدين الله دعوى باطلة، إذ ليس إبراهيم لهم وحدهم، وليس دينهم ميراثا من إبراهيم، مقصورا على إسرائيل (يعقوب) وحده فإن يكن هذا الدين ميراثا، فقد ذهب إسماعيل بشطره، على حين ذهب إسحاق بالشطر الآخر!.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/145.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متّبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.
2. الإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما، وفي فوته ضر، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصى ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ [البقرة: 133]، وفي حديث العرباض: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا) الحديث، وإما بالنسبة إلى الموصى كالوصية عند السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لليمن: (كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال حسّن خلقك للناس)، وجاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له أوصني قال: لا تغضب)
3. وصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية: ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 133] وإما في مظان خشية الفوات.
4. الضمير المجرور بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131] فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته، وإن كان الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.
5. بنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه، ومديان، ومدان، وزمران، ويقشان، وبشباق، وشوح، وهؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليه السلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل (هو شعيب) كان كاهن أهل مدين، وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الآرامية تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان (بلد الخليل) حيث دفن جده وأبوه عليهم السلام.
6. عطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل (الذي هو يعقوب) بوصية جدهم فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.
7. ﴿يَا بَنِي﴾ إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم وسيجيء ذكر وصية يعقوب.
8. لما كان فعل (أوصى) متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية لتفسر جملة (أوصى)، وإنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو بمعناه والأكثر أن يحكى بالمعنى، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه (ما عدا مخالفة المفردات العربية) عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن التفسيرية بحال، ولهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا للكوفيين القائلين بأن وصى ونحوه ناصب للجملة المقولة، ويشبه أن يكون الخلاف بينهم لفظيا.
9. ﴿اصْطَفَى لَكُمُ﴾ اختار لكم الدين أي الدين الكامل، وفيه إشارة إلى أنه اختاره لهم من بين الأديان وأنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله، وأراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
10. معنى ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ النهي عن مفارقة الإسلام أعني ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهي أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على تلك المنهي.
11. للعرب في النهي المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة:
أ. الأول: أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي لا ترتكب أسباب النسيان، ومثل قولهم: لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن معرفة المتكلم لا ينهى عنها المخاطب، وفي الحديث: (فلا يذادن أقوام عن حوضي)
ب. الثاني: أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب ولا يريد المتكلم النهي عنه ولكن عما يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء ويقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
ج. الثالث: أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول ويجعله مفيدا مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا ولو لم يفعل أحدهما نحو لا تجئني سائلا وأنت تريد أن لا يسألك، فإما أن يجيء ولا يسأل، وإما أن لا يجيء بالمرة.
12. في الثانية إثبات أن بني إبراهيم ويعقوب كانوا على ملة الإسلام وأن الإسلام جاء بما كان عليه إبراهيم وبنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم، وفيه إيماء إلى أن ما طرأ على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت وهي دون الكمال الذي كان عليه إبراهيم ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19] وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج: 78].
13. قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132] وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، وتمهيد لإبطال قولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135] وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها، وقد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي والبغوي بدون سند، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 140] الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوى اليهود ونقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ إلخ.
14. ﴿أَمِ﴾ عاطفة جملة ﴿كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ على جملة ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾ [البقرة: 132] فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت، وهي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم ويعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر، ولما كانت أم يلازمها الاستفهام كما مضى عند قوله تعالى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ [البقرة: 108] إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق، فتعين أن الاستفهام مجاز، ومحمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي، ولأن مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري.
15. كون الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم، خلافا لمن جوز كون الخطاب للمسلمين من المفسرين، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة وغفلوا عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري وبين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في الإنكار مجازا بدلالة المطابقة وهو يستلزم النفي بدلالة الالتزام، ومن العجيب وقوع الزمخشري في هذه الغفلة، فتعين أن المخاطب اليهود وأن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من سياق الكلام وسوابقه وهو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية وأوصى بها فلزمت ذريته، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا وهو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم يشهدوا كما سيأتي، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل الله القصة تعليما وتفصيلا واستقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره وما أجابه أبناؤه وليس ذلك بداخل في حيز الإنكار، فالإنكار ينتهي عند قوله: ﴿الْمَوْتَ﴾ والبقية تكملة للقصة، والقرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ [الزخرف: 19]، فلما قال هنا: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾، علم السامع موقع الإنكار، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر، وبذلك يستقر كلا الكلامين في قراره، ولم يكن داع لجعل (أم) متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له، كأن يقدر أكنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء وأن الخطاب لليهود أو للمسلمين والاستفهام للتقرير، ولا لجعل الخطاب في قوله: ﴿كُنْتُمْ﴾ للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم احتضار يعقوب أي على حد ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: 44] وحد ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾ [آل عمران: 44] كما حاوله الزمخشري ومتابعوه، وإنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود وهو من الإيجاز والإكمال إذ جمع الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه، وتعليمهم ما جهلوه، ولأجل التنبيه على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ ليكون كالبدل من ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ فيكون مقصودا بالحكم أيضا.
16. الشهداء جمع شهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر والشأن، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
17. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من مجيء القول في المحاورات كما قدمنا، فقوله: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية، أي ولو شاهدتم ما اعتقدتم خلافها فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم وأنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة، وبهذا تعلمون وجهة الاقتصار على نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعى لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.
18. ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ بدل من ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ وفائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت، هي قصد استقلال الخبر وأهمية القصة وقصد حكايتها على ترتيب حصولها، وقصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو من حدث هام سيحكى بعدها فيترقبه السامع.
19. هذه الوصية جاءت عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصى فيكون له رسوخ في نفوس الموصين، أخرج أبو داوود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا) الحديث.
20. جاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطّلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
21. اقترن ظرف ﴿بَعْدِي﴾ بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.
22. بنو يعقوب هم الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابنا: رأوبين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، (وهؤلاء أمهم ليئة) ويوسف وبنيامين (أمهما راحيل) ودان ونفتالي (أمهما بلهة) وجاد وأشير (أمهما زلفة)، وقد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء وأن يوسف كان رسولا(2).، وواحد الأسباط سبط ـ بكسر السين وسكون الباء ـ وهو ابن الابن أي الحفيد، وقد اختلف في اشتقاق سبط قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ في سورة الأعراف [160] عن الزجاج: الأظهر أن السبط عبراني عرب.. وفي العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.
23. جملة: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ جواب عن قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ جاءت على طريقة المحاورات بدون واو وليست استئنافا لأن الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام ولا تمام له قبل حصول الجواب.
24. جيء في قوله: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ﴾ معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد الله لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقنه لأبنائه منذ نشأتهم، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأمم تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين وأراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة وكانوا يعبدون آلهة أخرى، وأيضا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
25. في الإتيان بعطف البيان من قولهم ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول ربيعة بن نصر بن قعين:
çإن يقتلوك فقد ثللت عروشهم...بعتيبة بن الحارث بن شهابé
26. إنما أعيد المضاف في قوله: ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام وليست بواجبة، وإطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل وهو عم ليعقوب إطلاق من باب التغليب ولأن العم بمنزلة الأب.
27. إسحاق هو ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة وأمه سارة، ولد سنة 1896 قبل ميلاد المسيح وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب لهم، واليهود يقولون: إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق، والحق أن الذي أمر بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره ليظهر كمال الامتثال ومن الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن إسحاق وحيدا قط، وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد ودفن مع أبيه وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون (بلد الخليل).
28. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه فقوله: ﴿إِلَهًا﴾ حال من ﴿إِلَهِكَ﴾ ووقوع (إلها) حالا من (إلهك) مع أنه مرادف له في لفظه ومعناه إنما هو باعتبار إجراء الوصف عليه بواحدا فالحال في الحقيقة هو ذلك الوصف.
29. إنما أعيد لفظ إلها ولم يقتصر على وصف واحدا لزيادة الإيضاح لأن المقام مقام إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد وتوكيد لما قبله، وهذا أسلوب من الفصاحة إذ يعاد اللفظ ليبني عليه وصف أو متعلق ويحصل مع ذلك توكيد اللفظ السابق تبعا، وليس المقصود من ذلك مجرد التوكيد ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72] وقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: 7] وقوله: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾ [الشعراء: 132، 133] إذ أعاد فعل أمدكم وقول الأحوص الأنصاري:
çفإذا تزول تزول عن متخمّط...تخشى بوادره على الأقرانé
قال ابن جني في (شرح الحماسة) محال أن تقول: إذا قمت قمت لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول: فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ [القصص: 63] وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك.. وجوز الزمخشري أن يكون قوله: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ بدلا من ﴿إِلَهِكَ﴾ بناء على جواز إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة مثل ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ﴾ [العلق: 63]، أو أن يكون منصوبا على الاختصاص بتقدير امدح فإن الاختصاص يجيء من الاسم الظاهر ومن ضمير الغائب.
30. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ جملة في موضع الحال من ضمير ﴿نَعْبُدُ﴾، أو معطوفة على جملة ﴿نَعْبُدُ﴾، جيء بها اسمية لإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه بعد أن أفيد بالجملة الفعلية المعطوف عليها معنى التجدد والاستمرار.
31. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ عقبت الآيات المتقدمة من قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: 124] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذرا لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فإن لنا من فضل آبائنا مسلكا لنجاتنا، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال.
32. الإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة.
33. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ صفة لأمة ومعنى خلت مضت، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به، ولذا فقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الآية بدل من جملة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ بدل مفصل من مجمل.
34. الخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم، فقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ تمهيد لقوله: ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ إذ هو المقصود من الكلام، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه، ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب.
35. تقديم المسندين على المسند إليهما في ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم.
36. ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت، فإن جعلت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ خاصا بالأعمال الصالحة فقوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل، وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير:
çلعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم...بما لا يواتيهم حصين بن ضمضمé
فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين، وإن جعلت قوله: ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ مرادا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ إلخ احتراسا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/708.
(2) هذا غريب جدا، ومعارض للقرآن الكريم.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن إبراهيم عليه السلام، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا بعد جيل، وصى بها بنيه، ووصى بها أحفاده، وأبناءهم، فمن كفر بها، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، ولقد رد الله تعالى قولهم بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران].
2. ذكر الله تعالى وصية إبراهيم، فقال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ الضمير فى ﴿بِهَا﴾ يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهي موضوع الحديث.
3. التوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه، وهى غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته.
4. وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته، ويعقوب عليه السلام ـ وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام ـ قد وصى أيضا بذلك.
5. أولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، وذريتهما من بعدهما، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [العنكبوت]، وقال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام].
6. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى؛ لأنها صيغة الوصية؛ ولذا قالوا إن هناك تقديرا، وهو أن بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها.
7. الوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم، ويعقوب لأبنائه بقوله: يا بني، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم.
8. ناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه، وفى ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم.
9. مضمون الملة التي وصى بها ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾، أي أن الله جل جلاله، وهو ربكم الذي ذرأكم وأنعم عليكم، اختار لكم الدين الكامل، والدين هنا، هو ملة ابراهيم، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده، وهو ملته، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له، كما فسر الله تعالى، من قبل بقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
10. صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ حال من تموتن.
11. أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة، وليس النهى متجها إلى الموت؛ لأن الموت ليس أمرا اختياريا يجرى فيه التكليف بالأمر، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام، أي لا بد أن تبقوا على الإسلام مؤكدا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه، كما تقول: لا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيا عن الصلاة.
12. اختلف في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ﴾، وهل هي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا؟ الظاهر ذلك، وقال بعضهم: إنها وصية إبراهيم وأمها وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة].. والصحيح أن قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ﴾ وصيتهما معا، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم، مبينا حقيقة الأمر ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ إلى آخر الآية، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة.
13. ادعى المشركون أنهم على ملة إبراهيم، شرفهم وشرف محتدهم، وادعى اليهود أنهم يسيرون على ملة إبراهيم وقد غيروا وبدلوا، بل جرى على ألسنتهم ما يومئ إلى أن إبراهيم كان يهوديا، وبذلك يقلبون التاريخ، فيجعلون أوله آخره، وصدره عجزه، وادعى النصارى الذين يعبدون الأوهام أن ثالوثهم دين النبيين أجمعين وافتروا فرية واهمة تبهت العقول، ولكن الأوهام غلبتهم، فديانتهم وهم في وهم، ليس فيها إلا أوهام تكاثفت فاعتنقوها، والمسيح منهم براء.. هؤلاء جميعا، وخصوصا من كانوا ينتحلون نحلة ينسبونها إلى نبيّ من أبناء يعقوب عليه السلام كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
14. لقد وجه الخطاب إليهم، وخصوصا اليهود والنصارى لبيان أنهم ليسوا على ملة إبراهيم، وهم على غير الوصية التي وصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب، فقال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ أم هنا تدل على الاستفهام والإضراب معا فهي تتضمن معنى (بل) و(الهمزة)، فهي استفهام إنكاري مع التوبيخ والاضراب عن إفكهم، والمعنى نضرب صفحا عما تقولون، ونسألكم: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ وشهداء جمع شاهد، كما قال تعالى في الشهادة على الديون: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ [البقرة] وتكون جمع شهيد، والمعنى على كل حال أكنتم حاضرين الوقت الماضي الذي حضر فيه يعقوب الموت، أي كنتم حاضرين الوقت الذي بدت فيه على يعقوب أمارات الموت، فمعنى حضور الموت ظهور أماراته، ومقدماته، أي وهو يحتضر؛ ولذا كان التعبير بحضر، فحضور أماراته ومقدماته، حضوره؛ ولذا لم يقل نزل به إذ الأولى في قوله تعالى: ﴿إِذْ حَضَرَ﴾ تدل على وقت حلول الموت بمقدماته وأماراته، وقد ذكر سبحانه وتعالى ﴿إِذِ﴾ مرة أخرى في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ وهما يدلان على وقت واحد قد مضى.
15. قال يعقوب أبو بنى إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، قال لبنيه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ أي من الذي تعبدونه من بعدى؟، وعبر بما هنا دون من لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى؟ قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾.
16. ابتدؤوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهى تدل على أنهم لا يغيرون ولا يبدلون بل هم مقتدون، ولذلك قالوا: ﴿إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ ولم يقولوا مثلا: نعبد الله وحده.. وإن أباهم إبراهيم وإسحاق وليس من آبائهم إسماعيل بل هو عم يعقوب وليس أباه ولا جده ولكن العرب تسمى على المجاز العم أبا ـ كما يسمى العم ابن أخيه ابنه، كما قال أبو طالب لقريش عندما طلبوا أن يعطوا أبا طالب بدلا لمحمد ابن أخيه أنهد فتى من قريش ليسلم إليهم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لهم موبخا: آخذ ولدكم أغذوه لكم وأعطيكم ابنى تقتلونه؟ وروى على بن أبى طالب أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (عم الرجل صنو أبيه) هذا وإن عدّ إسماعيل عليه السلام في آباء يعقوب يدل على أن إسماعيل وإسحاق، لا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بنى إسرائيل.
17. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ قيل إنها بدل من إلهك ولا مانع من أن تكون النكرة بدلا من المعرفة مثل قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق].. ويصح أن تكون حالا من إلهك، أي حال كونه إلها واحدا، أي نعبده على هذه الحال، ولعل اعتباره بدلا؛ على أنه يكون بدل اشتمال أي أن البدل والمبدل منه شيء واحد.
18. نرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب يعقوب، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه، وإشارة ثانية إلى الاتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها إبراهيم ويعقوب، وفيها إثبات السلسلة الموحدة في أولاده في يعقوب عليه السلام، وإن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء].
19. ختم الأبناء المخلصون إجابة أبيهم، البر الرحيم، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده؛ ولذا قدم قوله: ﴿لَهُ﴾ على ﴿مُسْلِمُونَ﴾ لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية.
20. اليهود كانوا كلما ذكرت محمدة لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم، وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم، وإن لم يهتدوا بهديهم. فرد الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بأنهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم، ولا يسلكون مسلكهم، وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفا وذكرا عند الله والناس فقال: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
21. الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله تعالى بوصيتهم، وهي ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم، وتأخذوا بوصيته، وأن تعبدوا إلها واحدا هو الله جل جلاله، إن كنتم تنتمون إليه فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لا يغنى فتيلا من غير اتباع.. وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم، وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم، وإن لم تجدّوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم، ولذا قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي لها ما كسبته مكسوبا إليها بقدره محسوبا لها في اليوم الآخر بجزائه.
22. يتضمن قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الجزاء لهذا الكسب، وهو خير ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾، إن عملتم مثل عملهم، واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم وكانت لكم شعارا ودثارا تتحلون به، وهذا حث على الاقتداء، ودعوة إليه، فإن تجانفوا لإثم، وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون، وإنكم لستم مسئولين عن أفعالهم إن خيرا أو شرا فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم؛ لأنكم انفصلتم بعملكم عنهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وكذلك لا يكفيكم عملهم، إن خيرا فخيره لهم إلا أن تكونوا قد عملتم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/415.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾. الضمير في (بها) يعود الى ملة ابراهيم.
2. ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي أثبتوا على الإسلام، حتى الموت، كي تبعثوا عليه، وتقابلوا الله به.
3. تشعر هذه الآية بأن الوالد مسؤول عن تربية ولده وإرشاده الى دين الحق، قال الإمام زين العابدين: (أما حق ولدك فان تعلم انه منك، ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وانك مسؤول عنه من حسن الأدب، والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم انه مثاب على الإحسان اليه، معاقب على الاساءة اليه).
4. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ حضره الموت معناه احتضر، ونزلت به أمارات الموت. قال صاحب مجمع البيان: ان اليهود زعموا ان يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية.. فأبطل الله هذا الزعم بقوله لهم: انكم لم تشهدوا يعقوب عند موته، فكيف تدعون عليه الأباطيل؟، والحقيقة أن يعقوب قال لبنيه في تلك اللحظة: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؟
5. سؤال وإشكال: (ما) تستعمل لغير العاقل، فكيف استعملت هنا في المعبود الحق؟ والجواب: ان الناس آنذاك كانوا يعبدون الأصنام فنزّل السؤال على معبود الناس، لا على معبود الحق، وعليه تكون (ما) بمعنى أي شيء تعبدون؟
6. سؤال وإشكال: ان يعقوب هو ابن اسحق، وإسماعيل عمه أخو أبيه، فكيف صح إدخال إسماعيل مع الآباء في قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾؟ والجواب: ان العم بمنزلة الأب، لأنه أخوه، ويعظم كما يعظم، وفي الحديث الشريف ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ردوا عليّ أبي) يعني عمه العباس.
7. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾. هذه الآية تشير الى مبدأ عام، وهو ان نتائج الأعمال وآثارها تعود غدا على العامل وحده، لا ينتفع بها من ينتسب اليه، ان تكن خيرا، كما لا يتضرر بها غيره ان تكن شرا، وقرر الإسلام هذا المبدأ بأساليب شتى، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ وقوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، ومنها قول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم لوحيدته فاطمة: (يا فاطمة اعملي، ولا تقولي: اني ابنة محمد، فاني لا أغني عنك من الله شيئا)، وأمثال ذلك.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/209.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ﴾، أي وصى بالملة، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للإنسان، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا والزموا الإسلام لئلا يقع موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
2. ﴿وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب، وحجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.
3. ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: ﴿إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ﴾ إلخ دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.
4. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه والدعوة إلى غيره.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/306.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ وقُرِئ: {وَأَوْصَى} والمراد: أنه أوصى بهذه الكلمة التي قال له ربه ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ أوصى بها بنيه، قائلين لهم: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ أي اختاره لكم من حيث هو خير الأديان ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لله وجوهكم، لا تشركون به شيئاً، فأهل الكتاب قد عدلوا عن وصية آبائهم حين أشركوا عزيراً وعيسى وأحبارهم ورهبانهم.
2. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ أي بل أكنتم شهداء، ومعنى الإضراب الانتقال من حجة إلى أعظم منها، كقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان:44] وفي هذه الآية دلالة على شدة اهتمام يعقوب بعبادة الله وحده وشدة خوفه على بنيه من الشرك حيث أقبل عليهم ليأخذ منهم الوعد بالثبات على التوحيد، وهو في حال حضور الموت له.
3. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وجوهنا لا نعبد غيره، فنحن على هذا الدين الذي ورثناه منك وورثته من آبائك وورثوه من إبراهيم، لا نعدل عن دين آبائنا الذي توارثوه، الذي هو التوحيد، فقد طمئنوا آباءهم بإفهامه أن تمسكهم بالتوحيد كالأمر الطبيعي لهم؛ لأن من طبع الخلف الميل النفسي إلى طريق السلف، فكيف يعدلون عنه وسلفهم إبراهيم الخليل وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.
4. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ الإشارة إلى إبراهيم ويعقوب، وأبناء إبراهيم عليهم السلام، ويحتمل أن أبناء يعقوب داخلون فيها ﴿أُمَّةٍ﴾ أهل دين واحد. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ ليس لكم من عملهم شيء ولا لهم من عملكم شيء ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر:18]
5. أما قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ فيظهر: أن المراد به: أن يقول لأهل الكتاب: لا سبيل لكم إلى معرفة ما كانوا عليه إلاَّ الأخبار، وخبر الله عنهم أصدق الأخبار.
6. أما قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ ففائدته ـ والله أعلم ـ قطع الأماني ورجاء أنهم سينفعونكم بشفاعة أو يهب الله مسيئكم لهم فيعفو عنه لأجل تلك الأمة، وذلك أنهم إنما عملهم لهم وحدهم.
7. أما قوله تعالى: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فلعل المراد به: لستم مسئولين عما كانوا يعملون، والمهم لكم: أن تتبعوا الرسول، وما أنزل إليه من الله الذي أنزل هذا القرآن.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/191.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لم يقتصر إبراهيم على نفسه في إسلامه هذا، بل وصّى بها بنيه، لأن الإسلام هو الذي اصطفاه الله للناس، فلا بد لهم من أن يحيوا بالإسلام ويموتوا وهم يحملون كلمته.. وحملها يعقوب ـ حفيد إبراهيم ـ وصيّة يختم بها حياته، فلم يقف في اللحظات الأخيرة منها ليتحدث عن شؤونه الحياتية في ما يخلّفه لهم من إرث مالي، كما يتحدث الناس إلى ورثتهم في ذلك عندما يفكرون بالوصية إليهم، بل وقف ليطمئنّ على انسجامهم مع الخط العبادي المتمثل في هذا الإسلام لله.
2. ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ فقد انطلقت هذه التجربة في حياة الجد في حديثه مع بنيه وفي حياة الحفيد في وصيته لأولاده، في دلالة رسالته على أن الرسالة كانت كل اهتماماتهما الروحية، فلم يكتفيا بالجهاد في سبيلها في حياتهما، بل انطلقا ليدفعا بها للاستمرار في الجيل الجديد بعد وفاتهما، لأن الوصية تعبر في مضمونها عن القلق النفسي الذي يشعر به الإنسان تجاه ما أوصى به ومن أوصى له.
3. ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ واختاره منهجا للنجاة في الحياة ووسيلة للسعادة في الآخرة من خلال برامجه التي تكفل لكم العيش الرغيد والسلامة المريحة، وانفتاحه على معرفة الله وطاعته للوصول إلى رضوانه، وذلك من قاعدة واحدة، وهي إسلام القلب والوجه والحياة كلها لله، ليلتقي الإسلام بمعنى العبودية الحقة الخاضعة للألوهية المطلقة، فليكن هذا الدين ـ الإسلام ـ هو الخط المستقيم الذي تتحركون فيه في كل حياتكم فلا تنحرفوا عنه، أو تتركوه إلى غيره، مهما اشتدت الضغوط واهتزت الأرض من تحت أقدامكم وتنوعت الإغراءات حتى نهاية حياتكم، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لتلتقوا بالله على خط الإسلام عندما يقوم الناس لرب العالمين.
4. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ أيها الناس، قال في مجمع البيان إن (أم) ها هنا منقطعة، وهي لا تجيء إلا وقد تقدمها كلام لأنها التي تكون بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام. كأنه قيل: بل أكنتم شهداء، ومعنى (أم) ها هنا الجحد، أي ما كنتم شهداء، وإنما كان اللفظ على الاستفهام والمعنى على خلافه، لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام وأشدّ مظاهرة في الحجاج، إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فيلزم الحجة أو الإنكار له فتظهر الفضيحة)
5. ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ واجتمع إليه بنوه الاثنا عشر وهم الأسباط ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ سائلا سؤال الإنسان الذي يبدي لهم رغبته الأخيرة في سلوكهم مستقبلا في الخط الذي بدأه أبوه النبي إبراهيم في إسلام الروح لله وحمله كمسؤولية رسالية يبلغه للناس كافة.
6. ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ هل تتراجعون عن الخط المستقيم لتتبعوا مجتمعاتكم الوثنية، أم تستمرون في السير عليه لتنسجموا مع آبائكم وأجدادكم من الرسل؟ فكان الجواب الذي يبعث الاطمئنان في نفسه ليموت وهو قرير العين، باستمرار الخط الرسالي في التوحيد الخالص من بعده.
7. ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ فلن نشرك بعبادة غيره، ولن نؤمن بإله سواه. فهي العبادة الخالصة لله الواحد الأحد التي تجعل الحياة في نطاق الإسلام، ليكون الإسلام هو الطابع الذي يطبع شخصيتهم في كل مجالاتهم العملية.. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ في أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقعنا وفي جميع مجالات حياتنا العامة والخاصة.
8. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ وتنتهي قصة التاريخ في هذه الآيات، بالآية التي تتوجه إلى الناس بالنداء التالي: إن هذا التاريخ هو تاريخ الأمم السابقة في ما عملت وفي ما كسبت، ولستم مسئولين عن كل أعمالهم في قليل أو في كثير، بل هم المسؤولون عن ذلك كله في ما استقاموا به وفي ما انحرفوا عنه، أمّا أنتم فلكم تاريخكم المستقل المتمثل في أعمالكم التي تكسبون بها الجنة أو النار، فعليكم أن تواجهوا مصيركم من خلال ذلك وتحددوا خطواتكم العملية من خلال دراستكم للنتائج المصيرية لخطوات الآخرين، لتأخذوا منها العبرة في طبيعة الأشياء ونتائجها في كل المجالات.
9. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ وذهبت مع التاريخ بعد أن عاشت تجاربها وقامت بمسؤولياتها، وأدّت رسالاتها، وتحركت في الدروب التي فتحتها أو كانت مفتوحة لها، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من نتائج أعمالها، ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ مما تحملون من مسئوليتكم في كل التكاليف الموجهة إليكم، والمهمات الموكولة إليكم في ساحات الخير والشر، والحق والباطل، وفي كل مجالات حركية الصراع مع الآخرين، ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لأن الجيل الجديد لا يتحمل أوزار الجيل القديم ولا علاقة له بحسناته، لأن التجربة السلبية أو الإيجابية مختصة به من خلال حركة إرادته الذاتية، وفي ضوء هذا لا معنى للقول بأن الأبناء يتحملون المسؤولية السلبية تجاه ما قام به الآباء من السيئات.
10. سؤال وإشكال: لماذا لم يتحدث الله عن مسئولية الآباء عن عمل الأبناء؟ والجواب: إن الخطاب هو للأبناء الذين يراد لهم أن ينفتحوا على التاريخ كعبرة يعتبرون بها، لا كمسؤولية يتحملونها، مع ملاحظة أخرى، وهي أن الآباء قد يتحملون مسئولية الأبناء عندما يتحركون ببعض الأوضاع التربوية أو البرامج التعليمية التي قد تؤدي إلى ضلال الأبناء بنحو التسبيب العملي.
11. في هذه الآية إيحاء بأن على الأمّة ـ في أجيالها الجديدة ـ أن لا تستغرق في تاريخها القديم ليغيب وعيها في داخله، وليشغلها ذلك عن عملية صنع التاريخ في الحاضر، كالكثيرين الذين يتحدثون عن أمجاد الآباء القديمة من دون أن يشغلوا أنفسهم بصنع الأمجاد الجديدة، لتعرف أن الماضي لا يمثل مسئوليتها بل مسئولية الذين صنعوه، وعليها أن تأخذ منه الدروس والعبر، ثم تتابع سيرها وتتحرك تجربتها في صنع التاريخ الجديد الذي تتحمل مسئولية إيجاده ومسئولية كل تفاصيله أمام الله، وفي ضوء ذلك، لا تكون الأمّة مشدودة إلى الماضي لتتابع خلافاته وأحقاده ومشاكله، لتكون أحقادا وخلافات ومشاكل لها في الحاضر، فتتجدد الحروب والنزاعات، على أساس حروب الماضي ونزاعاته، بل تكون المسألة مسألة قضايا الواقع الجديد في ما يتحرك به الإنسان في أفكاره وهمومه وغاياته، سواء كانت متأثرة ببعض ما في الماضي من خطوط ومبادئ عامة، أو كانت منطلقة من خلال مبادئ الحاضر وخطوطه.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/43.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. وصية إبراهيم بنية في أواخر أيّام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾.. فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أبناء هما بالقول: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
2. لعلّ القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنه مسئول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.
3. يعقوب كإبراهيم وصّى أيضا أبناءه، بنفس هذه الوصايا، وأكد لأبنائه أن رمز نجاحهم يتلخص في جملة واحدة، هي التسليم لربّ العالمين.
4. ربّما يعود ذكر اسم يعقوب هنا من بين سائر الأنبياء، إلى أن اليهود والنصارى كانوا يعتقدون بانتسابهم إلى يعقوب بشكل من الأشكال، فأرادت الآية أن توضح لهم أن خط الشرك الذي يسلكونه لا يتناسب مع منهج يعقوب، وهو منهج التسليم المحض لربّ العالمين.
5. ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ كان جمع من اليهود يعتقدون أن يعقوب عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه أن يعتنقوا اليهودية بتحريفاتها السائدة خلال عصر البعثة المباركة، والله سبحانه أنزل هذه الآية.
6. كما رأينا في سبب النّزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضا، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النّبي يعقوب، والقرآن يرد عليهم بالقول: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾!؟ هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؟
7. في الجواب ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.. أجل فإنّ يعقوب لم يوص أبناءه بشيء غير التوحيد والتسليم لربّ العالمين والذي هو الأساس لبرنامج الأنبياء.
8. من الآية يبدو أن قلقا ساور يعقوب لدن أن حضرته الوفاة بشأن مستقبل أبنائه، وعبّر عن قلقه هذه متسائلا: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾؟ وإنما قال ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ ولم يقل (من تعبدون..) لتلوث البيئة الاجتماعية آنذاك بالشرك والوثنية، أي بعبادة الأشياء من دون الله، فأراد يعقوب أن يفهم ما في قرارة نفوس أبنائه من ميول واتجاهات، وبعد أن استمع الجواب اطمأنت نفسه.
9. يلفت النظر هنا أن إسماعيل لم يكن أبا ليعقوب ولا جدّه، بل عمّه، بينما الآية استعملت كلمة (آباء)، ويتضح من ذلك أن كلمة (الأب) تطلق أيضا على (العم) توسعا، ومن هنا نقول بالنسبة لآزر، الذي ذكره القرآن باعتباره والد إبراهيم، أنه لا يمنع أن يكون عمّ إبراهيم لا والده.
10. آخر آية تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من الله تعالى، فلا يرون بأسا في انحرافهم هم ظانين أنهم ناجون بوسيلة أولئك الأسلاف، يقول القرآن: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. وبذلك أرادت الآية أن توجّه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الانغماس في الافتخار بالماضين.
11. هذه الآية ـ وإن اتجهت في الخطاب إلى فئة اليهود، أهل الكتاب في عصر البعثة ـ تخاطبنا نحن المسلمين أيضا، وتطرح أمامنا مبدأ:
çإن الفتى من يقول ها أنا ذا...ليس الفتى من يقول كان أبيé
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/389.
58. الإسلام واليهود والنصارى
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈58⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 135 ـ 138]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، صبغت اليهود أبناءهم، خالفوا الفطرة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٠٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما الهدى إلا ما نحن عليه؟ فاتبعنا ـ يا محمد ـ تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك؛ فأنزل الله فيهم: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ الآية(1).
2. روي أنه قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نفر من يهود، فيهم أبو ياسر ابن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: (آمنوا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون)، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٥٩](2).
3. روي أنه قال: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام(3).
4. روي أنه قال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ ونحو هذا: أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على من تركه(4).
5. روي أنه قال: ﴿فِي شِقَاقٍ﴾ في خلاف ومنازعة(5).
6. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ دين الله(6).
7. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر، يقال له: المعمودي، وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا، فأخبر الله أن دينه الإسلام، لا ما يفعله النصارى(7).
8. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ البياض(8)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٨٩.
(2) ابن جرير: ٢/٥٩٦.
(3) تفسير الثعلبي: ١/٢٨٢.
(4) ابن جرير: ٢/٦٠٠.
(5) تفسير الثعلبي: ١/٢٨٤.
(6) ابن جرير: ٢/٦٠٥.
(7) تفسير الثعلبي: ٢/٥.
(8) الدرّ المنثور: ابن النَّجّار في تاريخ بغداد.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ فراق(1).
2. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ دين الله، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ ومن أحسن من الله دينا(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٤.
(2) ابن جرير: ٢/٦٠٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنه قال: علموا نساءكم وأولادكم وخدمكم أسماء الأنبياء المسمين في الكتاب؛ ليؤمنوا بهم، فإن الله أمر بذلك، فقال: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٢/٦١٧.
أبو قلابة:
روي عن أبو قلابة (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: الحنيف: الذي يؤمن بالرسل كلهم؛ من أولهم إلى آخرهم(1).
2. روي أنه قال: اتخذ عثمان بن مظعون بيتا فقعد يتعبد فيه، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأتاه فأخذ بعضادتي باب البيت الذي هو فيه، فقال: (يا عثمان، إن الله لم يبعثني بالرهبانية ـ مرتين أو ثلاثا ـ وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٢.
(2) الطبقات الكبرى: 3/395.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿حَنِيفًا﴾ متبعا(1).
2. روي أنه قال: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس(2).
3. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ فطرة الله التي فطر الناس عليها(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٩٣.
(2) تفسير البغوي: ١/١٥٥.
(3) تفسير مجاهد: ص٢١٤.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنّه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ الآية(1).
__________
(1) أبو عُبَيد القاسم بن سلّام في كتاب الإيمان: ص٣٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى إن منها قص الشارب وقلم الأظفار والختان(1)..
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/61.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا، ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم﴾ أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقوا بكتبه كلها، وبرسله(2).
3. روي أنه قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أمر الله المؤمنين أن لا يفرقوا بين أحد منهم(2).
4. روي أنه قال: إن اليهود تصبغ أبناءها يهود، وإن النصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، ولا صبغة أحسن من صبغة الله الإسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن كان بعده من الأنبياء(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٩٧.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٣.
(3) ابن جرير: ٢/٦٠٥.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: الحنيف: المستقيم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ معناه في عداوة وحرب.(1).
2. روي أنه قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ معناه دين الله.(1).
3. روي أنه قال: ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ معناه ابتداء خلقهم.(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 91.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنه قال: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: ١٢٥]: مخلصا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٥٩٤.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾، فقال: من تكلم بهذا صدقا من قلبه ـ يعني: الإيمان ـ فقد اهتدى، ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عنه، يعني: عن الإيمان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مغضبا يحمل نعليه، حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له: (يا عثمان، لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)(1).
2. روي أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام: التوحيد والإخلاص وخلع الأنداد والفطرة الحنيفية السمحة، ولا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبائث، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(2).
3. روي أنه قال: (إن الحنيفية هي الإسلام)(3).
4. روي أنه قال: (إن الله عز وجل مكن أنبياءه من خزائن لطفه وكرمه ورحمته، وعلمهم من مخزون علمه، وأفردهم من جميع الخلائق لنفسه، فلا يشبه أخلاقهم وأحوالهم أحد من الخلائق أجمعين، إذ جعلهم وسائل سائر الخلق إليه، وجعل حبهم وطاعتهم سبب رضاه، وخلافهم وإنكارهم سبب سخطه، وأمر كل قوم باتباع ملة رسولهم، ثم أبى أن يقبل طاعة أحد إلا بطاعتهم ومعرفة حقهم وحرمتهم ووقارهم وتعظيمهم وجاههم عند الله، فعظم جميع أنبياء الله، ولا تنزلهم بمنزلة أحد من دونهم، ولا تتصرف بعقلك في مقاماتهم وأحوالهم وأخلاقهم إلا ببيان محكم من عند الله وإجماع أهل البصائر بدلائل تتحقق بها فضائلهم ومراتبهم، وأنى بالوصول إلى حقيقة مالهم عند الله؟ وإن قابلت أقوالهم وأفعالهم بمن دونهم من الناس أجمعين فقد أسات صحبتهم، وأنكرت معرفتهم، وجهلت خصوصيتهم بالله، وسقطت عن درجة حقيقة الايمان والمعرفة، فإياك ثم إياك)(4).
5. روي أنه سئل: لأي شيء بعث الله الانبياء والرسل إلى الناس؟ فقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، ولئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتكون حجة الله عليهم، ألا تسمع الله عزو جل يقول حكاية عن خزنة جهنم واحتجاجهم على أهل النار بالأنبياء والرسل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك: 8، 9](5).
__________
(1) الكافي: 5/494.
(2) الكافي: 2/17.
(3) تفسير العيّاشي: 1/61.
(4) مصباح الشريعة، ص61.
(5) علل الشرائع: 51.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، وذلك أن رؤوس اليهود ـ كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبا ياسر ابن أخطب، ومالك بن الضيف، وعازارا، وإشماويل، وخميشا، ونصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما ـ قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا؛ فإنه ليس دين إلا ديننا، فكذبهم الله تعالى، فقال: قل: بل الدين ملة إبراهيم(1).
2. روي أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على اليهود والنصارى، فقال: (إن الله تعالى أمرني أن أوصي بهذه الآية، فإن أنتم آمنتم ـ يعني: صدقتم ـ بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والكتاب فقد اهتديتم، وإن توليتم وأبيتم عن الإيمان فإنما أنتم في شقاق)، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا: لا نؤمن بعيسى، وقالت النصارى: وعيسى بمنزلتهم مع الأنبياء، ولكنه ولد الله(2).
3. روي أنه قال: ﴿قُلْ بَل﴾ الدين ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: الإسلام، ثم قال ﴿حَنِيفًا﴾ يعني: مخلصا، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يعني: من اليهود والنصارى(1).
4. روي أنه قال: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ يعني: التوراة، وما أوتى ﴿عِيسَى﴾ يعني: الإنجيل، يقول: ما أنزل على موسى وعيسى، وصدقنا، ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم﴾، وأوتي داوود وسليمان الزبور(1).
5. روي أنه قال: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم﴾ فنؤمن ببعض النبيين، ونكفر ببعض، كفعل أهل الكتاب، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ يعني: مخلصون، نظيرها في آل عمران(1).
6. روي أنه قال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ يقول: فإن صدق أهل الكتاب بالذي صدقتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ من الضلالة(1).
7. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ يعني: في ضلال واختلاف، نظيرها: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: ١٧٦]، يعني: لفي ضلال واختلاف؛ لأن اليهود كفروا بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاءا به، وكفرت النصارى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبما جاء به(2).
8. روي أنه قال: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ يا محمد، يعني: أهل الكتاب، ففعل الله تعالى ذلك.. ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لقولهم للمؤمنين: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤١.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٤٢.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنه قال: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ الشقاق: المنازعة والمحاربة، إذا شاق فقد حارب، وإذا حارب فقد شاق، وهما واحد في كلام العرب، وقرأ: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ [النساء: ١١٥](1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٠١.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي دين الله، ومن أحسن من الله ديناً وتعليماً(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ فإن قيل: فهل للإيمان مثل؟ قيل له: التقدير فإن آمنوا بمثل إيمانكم وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي في عداوة ومشقة وأصل الشقاق البعد من قولهم قد أخذ فلان في شق وفلان في شق آخر إذا تباعدوا وقيل لمن فارق الجماعة قد شق العصا
2. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾:
أ. أي دين الله، وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولاداً لهم في مآلهم ويقولون: هذا تطهير لهم كالجنابة فرد الله ذلك عليهم بأن قال صبغة الله أي صبغة الإسلام أحسن.. وإنما سمي الدين صبغة لظهوره على صاحبه كظهور الصبغ على الثوب.
ب. ويحتمل أن تكون الصبغة بمعنى الخلقة.
3. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ قالت اليهود للمسلمين كونوا هوداً، وقالت النصارى لهم كونوا نصارى.
4. ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وتقديره بل نتبع ملة إبراهيم، وفي الكلام محذوف والملة الدين مأخوذ من الإملال أي ما يملون من كتبهم، وأما الحنيف فهو المخلص ويحتمل أن يكون المتبع وفي أصل الحنيفية في اللغة وجهان:
أ. أحدهما: أن إبراهيم حنف إلى دين الله أي مال إليه فسمي حنيفاً، والأحنف هو الذي تميل إحدى رجليه إلى الأخرى.
ب. والثاني: أن وجهه للاستقامة فسمي دين إبراهيم الحنيفية باستقامتها، وقيل ذلك نظير كما قيل للديغ سليم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/87.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا﴾ يحتمل وجوها:
أ. تنقض على من يستثنى في إيمانه؛ لأنه أمرهم أن يقولوا قولا باتّا، لا ثنيا فيه ولا شك، وكذلك قوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾
ب. يحتمل: أن يكون هذا ردّا على أولئك الكفرة، حيث فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض، وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها؛ فأمر الله ـ عزّ وجل ـ المؤمنين، ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم، والكتب جميعا، لا يفرقون بين أحد منهم، كما فرق أولئك الكفرة.
ج. ويحتمل: أن يكون ابتداء تعليم الإيمان من الله ـ عزّ وجل ـ لهم بما ذكر من الجملة.
2. اختلف في الحنيف:
أ. قيل: الحنيف: المسلم.
ب. وقيل: الحنيف: الحجاج.
ج. وقيل: كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم.
د. وقيل: الحنيف: المائل إلى الحق والإسلام.
3. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾:
أ. روى عن ابن عباس قال لا تقرأ ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾؛ فإن الله ليس له مثل، ولكن اقرأ: (بما آمنتم به)، وكذلك في حرف ابن مسعود: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، تصديقا لذلك، وعلى ذلك قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] إن الكاف زائدة، أي ليس مثله شيء، وهو في حرف ابن مسعود كذلك.
ب. ويحتمل: آمنوا بلسانهم، بمثل ما آمنتم بلسانكم، من الرسل والكتب جميعا فقد اهتدوا.
ج. ويحتمل بمثل ما آمنتم به: أي بلسان غير لسانهم فقد اهتدوا.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾:
أ. قيل: الشقاق هو الخلاف.
ب. وقيل: الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة.
﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ هذا وعيد من الله ـ عزّ وجل ـ لهم، ووعد وعد نبيّه بالصبر له؛ لأن أولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوعد له عزّ وجل النصر له بقتل بعضهم، وإجلاء آخرين إلى الشام وغيره.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾:
أ. قيل: دين الله.
ب. وقيل: فطرة الله؛ كقوله: (كل مولود يولد على الفطرة).
ج. وقيل: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾: حجة الله التي أقامها على أولئك.
د. وقيل: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾: سنة الله.
6. يرجع قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾:
أ. أي دينا وسنة وحجة تدرك بالدلائل التي نصبها وأقامها فيه، ليس كدين أولئك الذين أسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل.
ب. وقيل: إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ليطهروهم بذلك؛ فقال الله عزّ وجل: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ يعنى الإسلام هو الذي يطهرهم لا الماء.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾:
أ. قيل: موحدون.
ب. وقيل: مسلمون مخلصون.
ج. ويحتمل: ونحن عبيده.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/577.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ يعني أن اليهود قالوا: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، فرد الله تعالى ذلك عليهم، فقال: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وفي الكلام حذف، يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: أن المحذوف بل نتبع ملة إبراهيم، ولذلك جاء به منصوبا.
ب. الثاني: أن المحذوف بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر، صار منصوبا.
2. الملة: الدين، مأخوذ من الإملاء، أي ما يملون من كتبهم.
3. في الحنيف أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أنه المخلص، وهو قول السدي.
ب. الثاني: أنه المتّبع، وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: الحاج، وهو قول ابن عباس، والحسن.
د. الرابع: المستقيم.
4. في أصل الحنيف في اللغة وجهان:
أ. أحدهما: الميل، والمعنى أن إبراهيم حنف إلى دين الله، وهو الإسلام فسمي حنيفا، وقيل للرجل أحنف لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها.
ب. الثاني: أن أصله الاستقامة، فسمّي دين إبراهيم (الحنيفية) لاستقامته وقيل للرجل أحنف، تطيّرا من الميل وتفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للّديغ سليم، وللمهلكة من الأرض مفازة.
5. سؤال وإشكال: حول قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ هل للإيمان مثل لا يكون إيمانا؟ والجواب: معنى الكلام: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدّقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، وهذا هو معنى القراءة، وإن خالف المصحف.
6. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ يعني في مشاقة وعداوة، وأصل الشّقاق البعد، من قولهم قد أخذ فلان في شقّ، وفلان في شقّ آخر، إذا تباعدوا، وكذلك قيل للخارج عن الجماعة، قد شقّ عصا المسلمين لبعده عنهم.
7. في قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه دين الله، وهذا قول قتادة، وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم، ويقولون هذا تطهير لهم كالختان، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي صبغة الله أحسن صبغة، وهي الإسلام.
ب. الثاني: أن صبغة الله، هي خلقة الله، وهذا قول مجاهد.
8. إن كانت الصبغة هي الدين، فإنما سمّي الدين صبغة، لظهوره على صاحبه، كظهور الصّبغ على الثوب، وإن كانت هي الخلقة فلإحداثه كإحداث اللون على الثوب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/194.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الضمير في قوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا﴾ يرجع الى اليهود، والنصارى، لان كل فريق منهم دعي الى ما هو عليه.
2. معنى ﴿تَهْتَدُوا﴾ أي تصيبوا طريق الحق. كأنهم قالوا: تهتدوا الى الحق، وروي عن عبد الله بن عباس، انه قال قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى: مثل ذلك فانزل الله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ الآية.
3. ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ حجة على وجوب اتباع ملة ابراهيم إذ كانت سليمة من التناقض، وكان في اليهودية والنصرانية تناقض، وذلك لا يكون من عند الله، فصارت ملة ابراهيم أحق بالاتباع من غيرها، والتناقض في اليهودية مثل:
أ. منعهم من جواز النسخ مما في التوراة مما يدل على جواز ذلك.
ب. وامتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الامي مع اظهارهم التمسك بها.
ج. وامتناعهم من الإذعان لما يوجب الحاجة والحدث، ويقولون: مع ذلك انه قديم لم يزل.
الى غير ذلك من مناقضاتهم التي لا تحصى كثيرة، وهي موجودة في الكتب عليهم نبهنا على جملها.
4. الحنيفية: هي الاستقامة، وإنما قيل للذي يقبل بإحدى قدميه على الأخرى أحنف تفاؤلا بالسلامة كما قيل للهلكة: مفازة تفاؤلا بالفوز، والنجاة، وهو قول الرياشي وابن قتيبة، واهل اللغة، وقال الزجاج: أصله الميل، وابراهيم حنيف الى دين الإسلام، وقال: العادل الى دين ربه عن اليهودية، والنصرانية، وقال ابو حاتم: قلت للأصمعي من أين عرف في الجاهلية الحنيف؟ فقال: لأنه من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عندهم، ولأن كل من حج البيت كانوا يسمونه حنيفاً وكانوا إذا أرادوا الحج قالوا: هلم نتحنف، وقال صاحب العين: الحنف ميل في صدر القدم. يقال رجل حنف، وسمي الأحنف لحنف كان به، وقالت حاضنته وهي ترقصه:
çوالله لولا حنف برجله...ما كان في صبيانكم كمثلهé
قال بل نتبع ملة ابراهيم. فالأول عطف والثاني [حذف].
والحنيف: المسلم الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة ابراهيم {وكان حنيفا مسلما}، وقال بعضهم: الحنيف كل من أسلم في أمر الله، ولم يلتو في شيء والجمع الحنفاء، وقال بعضهم: قيل حنيف، لأنه تحنف عن الاديان كلها: أي مال إلى الحق، وفي الحديث أحب الاديان إلى الله الحنفية السمحة، وهي ملة ابراهيم لا حرج فيها، ولا ضيق.. وأصل الباب الحنف، وهو الميل.
5. نصب ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ يحتمل اربعة أوجه:
أ. احدها ـ ان ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ قد تضمن معنى اتبعوا اليهودية والنصرانية، فعطف به على المعنى.
ب. الثاني ـ على الحال كأنه قال بل نتبع ملة ابراهيم.
ج. الثالث ـ على معنى بل أهل ملة ابراهيم، فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
د. الرابع ـ على الإغراء.
6. قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل ان يكون جوابا ـ على ما روي عن ابن عباس: أن نفراً من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما انزل الى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.. الى آخرها ـ، فلما ذكر عيسى جحدوا بنبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾.
ب. الثاني ـ قال الحسن وقتادة: أمر الله المؤمنين أن يقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ الآية، وجعل ذلك محنة فيما بينهم وبين اليهود والنصارى.
7. الأسباط جمع سبط، قال تغلب: يقال: سبط عليه العطاء والضرب: إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض وانشد الثوري في قطيع بقر: كأنه سبط من الأسباط شبهه بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر، والسبط: جماعة، ومن ثم قيل لولد يعقوب أسباط، وشعر سبط: سلس منبسط، ومنه سمي الساباط لانبساطه بين الدارين حتى يجمعهما، والسباطة: الكناسة بعضها الى بعض، وقال ابن دريد: السبط واحد الأسباط، وهم أولاد إسرائيل، وقالوا: الحسن والحسين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أي ولداه، والسباطة ما سقط من سقط الشعر إذا سرحته، وأخذت فلاناً سباط: إذا أخذته الحمى، والسبط من اليهود بمنزلة القبيلة من قبائل العرب، ويقال هو سبط الكفين: إذا كان طويل الأصابع، والسبط: قناة جوفاء مضروبة بالقصب يرمى فيها سهام صغار ينفخ نفخاً لا يكاد يخطئ وأصل الباب: السبط وهو التتابع، وقال الزجاج: السبط الجماعة الذين يرجعون الى أب واحد، والسبط: الشجر، والسبط: الذين من شجرة واحدة.
8. الأسباط: قال قتادة: الأسباط يوسف واخوته ولد يعقوب اثني عشر رجلا فولد كل واحد منهم أمة من الناس، فسموا الأسباط، وبه قال السدي والربيع وابن إسحاق، واسماء الاثني عشر ذكر وهم: يوسف ويامين، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاب، ويشجر، وتفتالى، وجاذ، واشر، ولا خلاف بين المفسرين انهم ولد يعقوب.
9. قال كثير من المفسرين: ان الأسباط كانوا أنبياء، والذي يقتضيه مذهبنا انهم لم يكونوا أنبياء بأجمعهم، لأنه وقع منهم من المعصية ما فعلوه مع يوسف عليه السلام ما لا خفاء به، والنبي عندنا، لا يجوز عليه فعل القبائح: لا صغيرها، ولا كبيرها، فلا يصح مع ذلك القول بنبوتهم، وليس في ظاهر القرآن أنهم كانوا أنبياء، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ لا يدل على انهم كانوا أنبياء لأن الانزال يجوز أن يكون على بعضهم ممن كان نبياً، ولم يقع منه ما ذكرناه من الافعال القبيحة، ويحتمل أن يكون المراد انهم أمروا باتباعه، كما يقال: انزل الله الى أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن، كما قال ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وان كان المنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكن لما كانوا مأمورين بما فيه أضيف بانه انزل اليهم.
10. معنى قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أنا لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكفرت النصارى بسليمان ونبينا محمد صلى الله عليهما.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: خاضعون بالطاعة.
ب. وقيل: مذعنون له بالعبودية.
ج. وقيل: مستسلمون لأمره، ونهيه اعتقاداً وفعلا.
د. وقيل: داخلون في حكم الإسلام الذي هو دينه، كما قال ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
12. والفرق بين التفريق والفرق: ان التفريق جعل الشيء مفارقا لغيره، والفرق نقيض الجمع، والجمع جعل الشيء مع غيره، والفرق جعل الشيء لا مع غيره والفرق بالحجة هو البيان الذي يشهد ان الحكم لاحد الشيئين دون الآخر.
13. فائدة الآية الامر بالإيمان بالله والإقرار بالنبيين، وما انزل اليهم من الكتب ليتعبدوا به من الأحكام، والرد على من فرق بينهم فيما جمعهم الله عليه من النبوة.
14. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به، فقد اهتدوا الى طريق الجنة.
15. الباء في قوله تعالى: ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ﴾ يحتمل ثلاثة أشياء:
أ. أولها: ان تكون زائدة والتقدير، فان آمنوا مثل الذي أمنتم أي مثل ايمانكم كما قال: ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾ والمعنى كفى الله، قال الشاعر: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً)
ب. الثاني: ان يكون المعنى بمثل هذا ولا تكون زائدة، كأنه قال: (فان آمنوا على مثل ايمانكم)، كما تقول: كتبت على مثل ما كتبت، وبمثل ما كتبت كأنك تجعل المثال آلة يتوصل به الى العمل، وهذا أجود من الاول.
ج. الثالث ـ أن تلغى مثل، كما ألغيت الكاف في قوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ وهذا أضعف الوجوه لأنه إذا أمكن حمل كلام الله على فائدة، فلا يجوز حمله على الزيادة، وزيادة الاسم أضعف من زيادة الحرف، كزيادة ما ولا وما أشبه ذلك، وروي عن ابن عباس انه قال لا تقولوا: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ فانه ليس لله مثل ولكن قولوا (فان آمنوا بالذي آمنتم به) وهذه رواية شاذة مخالفة لما أجمع عليه القراء، ومتى صحت فالوجه فيها أن يكون أراد أن يفسر المعنى فكأنه قال لا تتأولوه على الجعل لله عز وجل مثلا فإنه شرك، لكن تأولوه على ما يصح تأويله من غير تمثيل للمعبود تعالى، وقال ابن عباس: ان الايمان هو العروة الوثقى وانه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على تركه.
16. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ معناه ان اعرضوا عن الايمان وجحدوه ولم يعترفوا به.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾:
أ. قيل: معناه انهم في مفارقة، في قول قتادة والربيع.
ب. وقال ابن زيد: الشقاق هو المنازعة والمجادلة.
ج. قال الحسن: معناه التعادي.
18. أصل الشقاق يحتمل:
أ. ان يكون مأخوذاً من الشق، لأنه صار في شق غير شق صاحبه، للعداوة المباينة.
ب. أن يكون مأخوذاً من المشقة لأنه يحرص على ما يشق على صاحبه، ويؤذيه.
19. في الآية دلالة على نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لان الله تعالى وعده ان يكفيه من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه بقوله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ فكان الامر على ما وعد به.
20. الكفاية والوقاية والسلامة نظائر تقول كفى يكفي كفاية: إذا قام بالأمر واكتفى اكتفاء، واستكفى استكفاء، وتكفى تكفياً، وكفاك هذا الامر أي حسبك ورأيت رجلا كافيك من رجل أي كفاك به رجلا، وأصل الباب الكفاية، وهو بلوغ الغاية يقال يكفي ويجزي ويغني بمعنى واحد.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾:
أ. قيل: معناه فطرة الله. في قول الحسن وقتادة وأبي العالية، ومجاهد وعطية وابن زيد والسدي.
ب. وقال الفراء والبلخي: انه شريعة الله في الختان الذي هو التطهير، وقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ مأخوذ من الصبغ، لان بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود جعلوه في ماء طهور يجعلون ذلك تطهيراً له، ويسمونه العمودية: فقيل: صبغة الله أي تطهير الله، لا تطهيركم بتلك الصبغة، وهو قول الفراء.
ج. وقال قتادة: اليهود تصبغ أبناءها يهوداً والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، فهذا غير المعنى الاول، وإنما معناه: انهم يلقنون أولادهم اليهودية والنصرانية، فيصبغونهم بذلك لما يشربون قلوبهم منه، فقيل صبغة الله التي امر بها ورضيها يعني الشريعة، لا صبغتكم.
د. وقال الجبائي سمى الدين صبغة لأنه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة، وقال امية:
çفي صبغة الله كان إذ نسي ال...عهد وخلىّ الصواب إذ عزماé
22. الصبغة لغة: قال صاحب العين: الصبغ ما يلون به الثياب، والصبغ مصدر صبغت والصباغة حرفة الصباغ، والصبغ، والصباغ: ما يصطبغ به في الاطعمة، والأصبغ من الطير ما ابيض ذنبه أو بعضه، وأصل الباب الصبغ: وهو المزج للتلوين.
23. نصب (صبغة الله) في الآية يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ أن يكون مردوداً على (بل ملة ابراهيم) بدلا منه وتفسيراً له.
ب. الثاني ـ اتبعوا صبغة الله، والأجود الاول، وكان يجوز الرفع بتقدير هي صبغة الله.
24. معنى قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ واللفظ لفظ الاستفهام، وبه قال الحسن وغيره.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾:
أ. قيل: يجب أن نتبع صبغته لا ما صبغنا عليه الآباء والأجداد.
ب. وقيل: معناه ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ في اتباعنا ملة ابراهيم صبغة الله للاعتراف بالوجه الذي اتبعوه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/479.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحَنَفُ: الميل، والحنيف: العادل من دين إلى دين، وبه سمي الحنيفية؛ لأنها مالت من اليهودية إلى النصرانية، فالحنيف كل من مال إلى الحق، وقيل: أصله الاستقامة، وسمي الأحنف تفاؤلاً.
ب. السِّبْط: واحد الأسباط، وهم أولاد يعقوب، ويقال: الحسن والحسين سِبْطَا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وكانوا اثني عشر سبطًا من اثني عشر أبًا، وأصل السبط قيل: الجماعة الَّذِينَ يتتابعون في معنى من المعاني، وقال الزجاج: السبط الجماعة الَّذِينَ يرجعون إلى أب واحد.
ج. التفريق جعل الشيء مفرقًا لغيره، والفرق: نقيض الجمع، والافتراق والاجتماع أعراض من جنس الأكوان.
د. تولى: أعرض.
هـ. الشقاق: قيل: أخذ من الشق، كأنه صار في شق غير شق صاحبه بالعداوة والمباينة، وقيل: إنه من المشقة؛ لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه، والشقاق: الخلاف.
و. كفى يكفي كفاءة: إذا قام بالأمر، وكفاك هذا الأمرُ، أي حَسْبُك، ويُقال:
ز. يكفي ويجزي ويغني بمعنى.
ح. الصِّبْغُ: ما يلون به الثياب، ويقال: صَبَغَ الثوب يصِبَغُ ـ بفتح الباء وضمها وكسرها ـ ثلاث لغات صَبْغًا وصِبْغًا بفتح الصاد وكسرها لغتان، ويقال للدين: صبغة الله، واختلفوا مم أخذ؟
• فقيل: من الصَّبْغِ؛ لأن بعض النصارى كانوا يجعلون المولود في ماء لهم أصفر يزعمون أنه تطهير له، فكأنه قيل: تطهير الله لا تطهيركم له بتلك الصبغة، عن الفراء.
• وقيل: اليهود تصبغ أبناءها يهودًا، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، يعني يلقنونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون قلوبهم، عن قتادة.
• وقيل: سمي الدين صبغة؛ لأن هيأته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة، والصلاة وغير ذلك.
2. لما بَيَّنَ تعالى أن لكل نفس ما كسبت، بين أن من جملة كسبه الدعاء إلى الحق والباطل، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني اليهود والنصارى: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ أي على دينهم، وليس المراد التخيير، وإنما المراد أن كل فرقة منهما تدعو إلى طرائقها: ﴿تَهْتَدُوا﴾ يعني إذا فعلتم ذلك كنتم قد اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي نتبع ملة إبراهيم، أي دينه.
3. في قوله تعالى: ﴿حَنِيفًا﴾ قولان:
أ. الأول: قول أهل اللغة، فمنهم من قال: مستقيمًا على دين إبراهيم، وأصله الاستقامة، ثم يقال: أحنف تفاؤلاً، كما يقال: مفازة، عن أبي علي، وقيل: أصله الميل، يعني مالوا إلى دين الإسلام.
ب. الثاني: قول المفسرين، وفيه أربعة أقوال:
أ. قيل: الحنفية حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.
ب. وقيل: اتباع الحق، عن مجاهد.
ج. وقيل: اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام.
د. وقيل: إخلاص الدين لله.
وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد، ونستقيم، ولا تناقض بين جملته وتفصيله، خلاف غيره من الأديان، كالتهود والتنصر.
4. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فنفى الشرك عن ملته وأثبته في اليهود والنصارى، يعني ليس هو من اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله، ولا من النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله.
5. لما حكى الله تعالى عنهم قولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ أمر المسلمين في مقابلته بهذا القول فقال تعالى: ﴿قُولُوا﴾ خطاب للمسلمين، وقيل: للنبي وللمؤمنين، ﴿آمَنَّا بِالله﴾ أمرهم بإظهار ما يدينون به على الشرح، فبدأ بالإيمان بِالله؛ لأن ذلك أول الواجبات، ولأنه ما لم يُعْرَف الله تعالى لا يصح معرفة النبوات والشرائع ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ يعني القرآن نؤمن بأنه حق وصدق، وأنه الذي يجب اتباعه في الحال، وإن تقدمه كتب.
6. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ قيل: هم الأنبياء من ولد يعقوب، وقيل: بنو يعقوب يوسف وإخوته عن قتادة والسدي والربيع.
7. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ أي أُعْطِيَا، فخصهما بالذكر؛ لأن لليهود والنصارى في ذكرهما اختصاصًا، ولأنه محاجة عليهم، والمراد بما أوتي موسى التوراة، وما أوتي عيسى الإنجيل، ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ أي أعطوا، ﴿مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بأن نؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كما فعلته اليهود والنصارى.
8. ﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ قيل: لما تقدم ذكره، وقيل: لله: ﴿مُسْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: خاضعون بالطاعة.
ب. وقيل: مذعنون بالعبودية.
ج. وقيل: منقادون لأمره ونهيه، مستسلمون.
د. وقيل: داخلون في دين الإسلام.
9. ثم أمر تعالى بالإيمان، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾:
أ. أي صدقوا بما صدقتم، وأقروا بمثل ما أقررتم به.
ب. وقيل: آمنوا بمثل إيمانكم، وكان ابن عباس يقول: أقروا بما آمنتم به، فليس لله مثل، وهذا محمول على أنه فسر الكلام، لا أنه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى.
10. ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ أي سلكوا طريقة الاستقامة، والهداية ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: أعرضوا عما أمروا به ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾:
أ. أي ليسوا إلا في شقاق، أي في خلاف، قد فارقوا الحق، وتمسكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله، عن ابن عباس وعطاء والأخفش.
ب. وقيل: في ضلال، عن أبي عبيدة ومقاتل.
ج. وقيل: في منازعة ومحاربة، عن ابن زيد.
د. وقيل: الشقاق والعداوة، عن الحسن.
11. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ وعد منه له بالنصرة، وتقوية لقلبه، يعني أنه تعالى يكفيك أمرهم ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم، وقيل: سميع بمكرهم، عليم بعملهم في إبطال أمرك، ولن يصلوا إليك.
12. لما ذكر تعالى دين الإسلام وأمر به بين فضله وشرفه، فقال تعالى: ﴿صِبْغَةَ الله﴾:
أ. قيل: دين الله، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي والأصم.
ب. وقيل: فطرة الله، عن عبد الله بن كثير.
ج. وقيل: شريعة الله التي هي الكتاب الذي هو تطهير، حكاه أبو القاسم والفراء.
د. وقيل: حجة الله، عن الأصم.
هـ. وقيل: سنة الله، عن أبي عبيدة.
13. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً﴾ أي لا أحد أحسن منه دينًا، ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾:
أ. يعني يجب علينا أن نتبع دينه؛ إذ كانت أحسن الأديان بأن نعبده.
ب. وقيل: ﴿لَهُ عَابِدُونَ﴾ أي مخلصون مطيعون.
14. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾:
أ. قيل: معناه هذا الدين ثابت لا يغير ولا يبدل، فهو أولى بالحسن من شرائع من تقدم لزوال التعبد بها، وتغييرها، عن أبي علي.
ب. وقيل: معنى أنه الحسن، وما عداه فليس بحسن.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. صحة الحجاج في الدين، وأن للمحتج أن يحتج بما يجري مجرى المناقضة لقوله، ويعدل عن الأدلة؛ لأن من المعلوم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم احتج عليهم بالمعجزات، فلما لم يقبلوا رد عليهم ما يناقض مذهبهم، فقال: إن كان هذا الدين بالاتباع كما زعمتم، فالأولى ما اتفقت عليه الكلمة أنه حق وهو ملة إبراهيم.
ب. وجوب إظهار الحق عند ظهور الخلاف؛ ولذلك قال: ﴿قُولُوا﴾ وذلك إيجاب.
ج. وجوب الإيمان بسائر الأنبياء من غير تخصيص، وإن كانت شرائعهم مختلفة، ولا يلزمنا؛ لأن الإيمان بهم لا يقتضي لزوم شرائعهم.
د. أن الأسباط كانوا أنبياء، ولا خلاف بين المفسرين أنهم ولد يعقوب(2)..
هـ. صحة نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه أخبر أنه يكفيه أمر أعدائه، ويظهر دينه، فكان كما أخبر.
و. أن شيئًا من الأعمال، لا تقبل إلا بعد صحة الإيمان.
ز. أن دين الإسلام أحسن الأديان؛ لأنه لا يُنْسَخُ ولا يزول؛ لأنه يكثر أهله، ولأن عباداته وشرائعه أكثر وأحسن.
ح. يدل قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ أن الإيمان يجب أن يكون مقرونًا بالعمل؛ لأن الغرض لا يتكامل إلا بالأمرين.
16. قراءة العامة: ﴿مِلَّةَ﴾ بالنصب، وعن الأعرج بالرفع، وله وجهان: أحدهما: بل الهدى ملة إبراهيم، والثاني: ملتنا ملة إبراهيم.
17. مسائل نحوية:
أ. في انتصاب ﴿مِلَّةَ﴾ أربعة أقوال:
• الأول: كأنه عطف في المعنى على قوله: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وتقديره: قالوا اتبعوا اليهودية، قل بل اتبعوا ملة إبراهيم.
• الثاني: على الحذف تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم.
• الثالث: على معنى أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهل القرية، فهذا عطف على اللفظ.
• الرابع: على الإغراء، كأنه قيل: بل اتبعوا ملة إبراهيم.
ب. حنيفًا: نصب على الحال من إبراهيم، عن الزجاج وغيره، وقيل: نصب على القطع، أراد بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة، فانقطع منه فانتصب، قاله نحاة الكوفة.
ج. في معنى الباء في قوله: ﴿بِمَثَلٍ﴾ ثلاثة أقوال:
• الأول أن يكون معناه فإن آمنوا مثل إيمانكم.
• الثاني: فإن آمنوا على مثل إيمانكم.
• الثالث: إلغاء: ﴿مَثَلُ﴾ كأنه قيل: بما آمنتم به.
د. في نصب ﴿صِبْغَةَ﴾ قولان:
• أحدهما: أنه بدل عن ملة، وتفسير له.
• الثاني: ابتغوا صبغة الله، ويجوز الرفع على تقدير: هي صبغة.
هـ. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ معناها الجحد، أي لا أحد أحسن من الله صبغة، واللفظ على الاستفهام، ومعناه الجحد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/600.
(2) هذا غير صحيح.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، قال ابن دريد: الحنيف العادل عن دين إلى دين، وبه سميت الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية، وقيل: الحنيف الثابت على الدين المستقيم، والحنيفية: الاستقامة على دين إبراهيم، وإنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى: أحنف، تفاؤلا بالسلامة، كما قيل للمهلكة: مفازة، تفاؤلا بالفوز والنجاة، وهو قول كثير من المفسرين، وأهل اللغة، وقال الزجاج: أصله من الحنف وهو ميل في صدر القدم، وسمي الأحنف: لحنف كان به، وقالت حاضنته وهي ترقصه: (والله لولا حنف برجله ما كان في صبيانكم كمثله)، وفي الحديث: (أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة)، وهي ملة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا حرج فيها ولا ضيق.
ب. الأسباط: واحدهم سبط، وهم أولاد إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهم اثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا، وقالوا: الحسن والحسين سبطا رسول الله أي: ولداه، والأسباط في بني إسرائيل بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، قال الزجاج: السبط الجماعة يرجعون إلى أب واحد، والسبط في اللغة: الشجر، فالسبط: الذين هم من شجرة واحدة، وقال ثعلب: يقال سبط عليه العطاء أو الضرب: إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض، وأنشد التوزي في قطيع بقر: (كأنه سبط من الأسباط) شبهه بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر، ومن ثم قيل لولد يعقوب أسباط.
ج. الفرق بين التفريق والفرق أن التفريق جعل الشيء مفارقا لغيره، والفرق: نقيض الجمع، والجمع: جعل الشيء مع غيره، والفرق: جعل الشيء لا مع غيره، والفرق بالحجة:، هو البيان الذي يشهد أن الحكم لأحد الشيئين دون الآخر.
د. الشقاق: المنازعة والمحاربة، ويحتمل أن يكون أصله مأخوذا من الشق، لأنه صار في شق غير شق صاحبه للعداوة والمباينة، ويحتمل أن يكون مأخوذا من المشقة، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه.
هـ. الكفاية: بلوغ الغاية، يقال: يكفي ويجزي ويغني بمعنى واحد، وكفى يكفي كفاية: إذا قام بالأمر، وكفاك هذا الأمر أي: حسبك، ورأيت رجلا كافيك من رجل أي: كفاك به رجلا.
2. ﴿وَقَالُوا﴾ الضمير يرجع إلى اليهود والنصارى أي: قالت اليهود: ﴿كُونُوا هُودًا﴾، وقالت النصارى: كونوا: ﴿نَصَارَى﴾ كل فريق منهم دعا إلى ما هو عليه.
3. معنى: ﴿تَهْتَدُوا﴾ أي: تصيبوا طريق الحق، كأنهم قالوا: تهتدوا إلى الحق أي إذا فعلتم ذلك كنتم قد اهتديتم، وصرتم على سنن الاستقامة: ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: بل نتبع دين إبراهيم، وعلى الوجه الآخر بل اتبعوا دين إبراهيم، وقد ذكرت الوجوه الثلاثة في الإعراب.
4. ﴿حَنِيفًا﴾: مستقيما، وقيل: مائلا إلى دين الاسلام، وفي الحنيفية أربعة أقوال:
أ. أحدها: إنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.
ب. ثانيها: إنها اتباع الحق عن مجاهد.
ج. ثالثها: إنها اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الاسلام.
د. الرابع: إنها الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية، والإذعان للعبودية.
وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة والميل إلى ما أتى به إبراهيم عليه السلام من الملة.
5. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: وما كان إبراهيم من المشركين، نفى الشرك عن ملته، وأثبته في اليهود والنصارى، حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
6. في قوله سبحانه: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾: حجة على وجوب اتباع ملة إبراهيم عليه السلام لسلامتها من التناقض، ولوجود التناقض في اليهودية والنصرانية، فلذلك صارت ملة إبراهيم أحرى بالاتباع من غيرها:
أ. فمن التناقض في اليهودية منعهم من جواز النسخ مع ما في التوراة من الدلالة على جوازه، وامتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي، مع إظهارهم التمسك بها، وامتناعهم من الإذعان لما دلت عليه الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، من نبوة عيسى ومحمد صلى الله عليهما، مع إقرارهم بنوبة عيسى بدلالة المعجزات عليها، إلى غير ذلك من أنواع التناقض.
ب. ومن التناقض في قول النصارى قولهم الأب والابن وروح القدس إله واحد، مع زعمهم أن الأب ليس هو الابن، وأن الأب إله، والابن إله، وروح القدس إله، وامتناعهم من أن يقولوا ثلاثة آلهة، إلى غير ذلك من تناقضاتهم المذكورة في الكتب.
7. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِالله﴾:
أ. قيل: خطاب للمسلمين.
ب. وقيل: خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، أمرهم الله تعالى بإظهار ما تدينوا به على الشرع، فبدأ بالإيمان بالله لأنه أول الواجبات، ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرائع.
8. ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ يعني القرآن، نؤمن بأنه حق وصدق، وواجب اتباعه في الحال، وان تقدمته كتب.
9. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ قال قتادة: هم يوسف وإخوته بنو يعقوب، ولد كل واحد منهم أمة من الناس، فسموا الأسباط، وبه قال السدي والربيع ومحمد بن إسحاق، وذكروا أسماء الاثني عشر: يوسف وبنيامين وزابالون ويهوذا وشمعون ولاوي ودان وقهاب ويشجر ونفتالي وجاد، وأشرفهم ولد يعقوب لا خلاف بين المفسرين فيه.
10. قال كثير من المفسرين: إن ﴿الْأَسْبَاطِ﴾ كانوا أنبياء، والذي يقتضيه مذهبنا أنهم لم يكونوا أنبياء بأجمعهم، لأن ما وقع منهم من المعصية فيما فعلوه بيوسف عليه السلام، لا خفاء به، والنبي عندنا معصوم من القبائح، صغيرها وكبيرها، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أنهم كانوا أنبياء، وقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ لا يدل على أنهم كانوا أنبياء، لأن الإنزال يجوز أن يكون كان على بعضهم ممن كان نبيا، ولم يقع منه ما ذكرناه من الأفعال القبيحة، ويحتمل أن يكون مثل قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وأن المنزل على النبي خاصة، لكن المسلمين لما كانوا مأمورين بما فيه، أضيف الإنزال إليهم، وقد روى العياشي في تفسيره عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر الباقر قال: قلت له: أكان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: لا، ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلا سعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا.
11. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ أي: أعطيا، وخصهما بالذكر لأنه احتجاج على اليهود والنصارى، والمراد بما أوتي موسى التوراة، وبما أوتي عيسى الإنجيل، ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ أي: ما أعطيه النبيون: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أي: بأن نؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما فعله اليهود والنصارى، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد، وكفرت النصارى بسليمان ونبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾:
أ. قيل: أي: نحن لما تقدم ذكره.
ب. وقيل: لله خاضعون بالطاعة، مذعنون بالعبودية.
ج. وقيل: منقادون لأمره ونهيه.
13. فائدة الآية: الأمر بالإيمان بالله، والإقرار بالنبيين، وما انزل إليهم من الكتب والشرائع، والرد على من فرق بينهم، فيما جمعهم الله عليه من النبوة، وإن كانت شرائعهم غير لازمة لنا، فإن الإيمان بهم لا يقتضي لزوم شرائعهم، وروي عن الضحاك أنه قال: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه، حتى يؤمنوا بهم، ويصدقوا بما جاؤوا به، فإن الله تعالى يقول: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِالله﴾ الآية.
14. ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾ أخبر الله سبحانه أن هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾:
أ. قيل: إلى طريق الجنة.
ب. وقيل: سلكوا طريق الاستقامة والهداية.
ج. وقيل: كان ابن عباس يقول: اقرأوا بما آمنتم به، فليس لله مثل، وهذا محمول على أنه فسر الكلام، لا أنه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى.
15. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي: أعرضوا عن الإيمان وجحدوه، ولم يعترفوا به ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾:
أ. أي: في خلاف قد فارقوا الحق، وتمسكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله سبحانه، عن ابن عباس، وقريب منه ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يعني في كفر.
ب. وقيل: في ضلال عن أبي عبيدة.
ج. وقيل: في منازعة ومحاربة عن أبي زيد.
د. وقيل: في عداوة عن الحسن.
16. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ وعد الله سبحانه رسوله بالنصرة، وكفاية من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه، وفي هذا دلالة بينة على نبوته وصدقه صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى أن الله سبحانه يكفيك يا محمد أمرهم: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم: ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأعمالهم في إبطال أمرك، ولن يصلوا إليك.
17. اختلف في معنى ﴿صِبْغَةَ الله﴾:
أ. قيل: مأخوذة من الصبغ، لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه في ماء لهم يسمونه المعمودية، يجعلون ذلك تطهيرا له، فقيل: صبغة الله تطهير الله لا تطهيركم بتلك الصبغة، وهو قول الفراء.
ب. وقيل: إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى أي: يلقنون أولادهم اليهودية والنصرانية عن قتادة، وإلى هذا يؤول ما روي عن عمر أخذ العهد على بني تغلب أن لا يصبغوا أولادهم أي لا يلقنونهم النصرانية، لكن يدعونهم حتى يبلغوا، فيختاروا لأنفسهم ما شاءوا من الأديان في صبغة الله.
ج. وقيل: سمي الدين صبغة، لأنه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة عن الجبائي، قال أمية:
çفي صبغة الله كان إذ نسي... العهد، وخلى الصواب إذ عرفاé
ويقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وضمها وكسرها صبغا بفتح الصاد وكسرها.
18. اختلف المفسّرون في معنى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾:
أ. قيل: ﴿صِبْغَةَ الله﴾ أي: اتبعوا دين الله، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، ويقرب منه ما روي عن الصادق عليه السلام قال: يعني به الاسلام.
ب. وقيل: شريعة الله التي هي الختان الذي هو تطهير، عن الفراء والبلخي.
ج. وقيل: فطرة الله التي فطر الناس عليها، عن أبي العالية وغيره.
19. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً﴾ أي: لا أحد أحسن من الله صبغة أي: بينا لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الجحد، عن الحسن وغيره، ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾:
أ. قيل: أي: من نحن له عابدون، يجب أن تتبع صبغته، لا ما صبغنا عليه الآباء والأجداد.
ب. وقيل: ونحن له عابدون في اتباعنا ملة إبراهيم صبغة الله.
20. مسائل نحوية:
أ. جزم (تهتدوا) على الجواب للأمر، ومعنى الشرط قائم في الكلمة أي: إن تكونوا على هذه الملة، تهتدوا، فإنما انجزم: ﴿تَهْتَدُوا﴾ على الحقيقة بالجزاء.
ب. قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ في انتصابه وجوه:
• أحدها: إن تقديره بل اتبعوا ملة إبراهيم، لأن قولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ تتضمن معنى اتبعوا اليهودية، أو النصرانية، وتقديره: قالوا اتبعوا اليهودية أو النصرانية، قل بل اتبعوا ملة إبراهيم، فهذا عطف على المعنى.
• الثاني: أن يكون على الحذف، كأنه قيل: بل نتبع ملة إبراهيم، فالأول عطف، والثاني حذف.
• الثالث: أن ينتصب على تقدير: بل نكون أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ فهذا عطف على اللفظ، وهو قول الكوفيين.
ج. ﴿حَنِيفًا﴾: نصب على الحال، أي: في حال حنيفيته.
د. ﴿مَا أُوتِيَ﴾: تقديره ما أوتيه، حذف الهاء العائد إلى الموصول.
هـ. من في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمُ﴾: تتعلق بأوتي، أو بمحذوف، فيكون مع المحذوف في موضع نصب على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في أوتي، والعامل أوتي أو يكون العامل فيه أنزل، وذو الحال ما أوتي.
و. ﴿لَا نُفَرِّقُ﴾: جملة منفية منصوبة الموضع على الحال، والعامل فيه: ﴿آمَنَّا﴾، و﴿مِنْهُمْ﴾ تتعلق بمحذوف مجرور الموضع بكونه صفة لأحد، ومعنى أحد منهم أي: بين اثنين أو جماعة، وتقديره: ولا نفرق بين أحد، وأحد منهم.
ز. نصب ﴿صِبْغَةَ الله﴾ على أنه بدل من قوله: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وتفسير له عن الأخفش، وقيل: إنه نصب على الإغراء، تقديره: اتبعوا صبغة الله، والزموا صبغة الله.
ح. ﴿مِنَ﴾: استفهام وهو مبتدأ، و﴿أَحْسَنِ﴾: خبره، و﴿صِبْغَةَ﴾: نصب على التمييز.
ط. الباء في قوله: ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ يحتمل ثلاثة أشياء:
• أحدها: أن تكون زائدة، والتقدير فإن آمنوا مثل ما آمنتم به أي: مثل إيمانكم به، كما يقال: كفى بالله أي: كفى الله، قال الشاعر: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا)
• الثاني: أن يكون المعنى بمثل هذا، ولا تكون زائدة كأنه قال: (فإن آمنوا على مثل إيمانكم) كما تقول: كتبت على مثل ما كتبت، وبمثل ما كتبت، كأنك تجعل المثل آلة توصل بها إلى العمل، وهذا أجود من الأول.
• الثالث: أن تلغى مثل كما ألغيت الكاف في قوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ وهذا أضعف الوجوه، لأنه إذا أمكن حمل كلام الله على فائدة، فلا يجوز حمله على الزيادة، وزيادة الاسم أضعف من زيادة الحرف، نحو ما ولا وما أشبه ذلك.
ي. ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ في محل الجزم أو في محل الرفع، لأنه جواب شرط مبني، وكذلك قوله: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ وإنما حرف لإثبات الشيء ونفي غيره، و﴿هُمْ﴾: مبتدأ، و﴿فِي شِقَاقٍ﴾: في موضع خبره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/403.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ أي قالت اليهود: كونوا هودا، وقالت النّصارى: كونوا نصارى، تهتدوا ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، بل نتّبع ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته.
2. في الحنيف قولان:
أ. أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، قال الزجّاج: الحنيف في اللغة: المائل إلى الشّيء، أخذ من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كلّ واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أمّ الأحنف ترقّصه:
çوالله لولا حنف برجله...ودقّة في ساقه من هزلهé
ما كان في فتيانكم من مثله
ب. الثاني: أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيف، نظرا له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة.
3. وصف المفسّرون الحنيف بأوصاف:
أ. فقال عطاء: هو المخلص.
ب. وقال ابن السّائب: هو الذي يحجّ.
ج. وقال غيرهما: هو الذي يوحّد ويحجّ، ويضحّي ويختتن، ويستقبل الكعبة.
4. الأسباط: هم بنو يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلا، قال الزجّاج: السّبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى ربّ واحد، والسّبط في اللغة: الشّجرة، فالسّبط: الذين هم من شجرة واحدة.
5. ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾، يعني: أهل الكتاب، وفي قوله تعالى: ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناه: مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتّوكيد، كما زيدت في قوله: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾، قاله ابن الأنباريّ.
ب. الثاني: أنّ المراد بالمثل هاهنا: الكتاب، وتقديره: فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النّحويّ.
ج. الثالث: أنّ المثل هاهنا: صلة، والمعنى: فإن آمنوا بما آمنتم به، ومثله قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، أي: ليس كهو شيء، وأنشدوا:
çيا عاذلي دعني من عذلكا...مثلي لا يقبل من مثلكاé
أي: أنا لا أقبل منك.
6. الشّقاق: هو المشاقّة والعداوة، ومنه قولهم: فلان قد شقّ عصا المسلمين، يريدون: فارق ما اجتمعوا عليه من اتّباع إمامهم، فكأنّه صار في شقّ غير شقّهم.
7. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾، هذا ضمان لنصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾:
أ. قال ابن مسعود وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والنّخعيّ، وابن زيد: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾: دينه.
ب. قال الفرّاء: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ مردودة على الملّة، وقرأ ابن عبلة: (صبغة الله) بالرفع على معنى: هذه صبغة الله، وكذلك قرأ: (ملة إبراهيم) بالرفع أيضا على معنى: هذه ملّة إبراهيم.
ج. قال ابن قتيبة: المراد بصبغة الله: الختان، فسمّاه صبغة، لأنّ النّصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون: هذا طهرة لهم، كالختان للحنفاء، فقال الله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، أي: الزموا صبغة الله، لا صبغة النّصارى أولادهم، وأراد بها ملّة إبراهيم، وقال غيره: إنّما سمّي الدّين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصّبغ على الثّوب.
__________
(1) زاد المسير: 1/116.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما بين الله تعالى بالدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام، والشبهة الأولى ما حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة، بل أصروا على التقليد، فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه(2).، أولها ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد، فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم، لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف، إن كان المعول في الدين على التقليد، فكأنه سبحانه قال: إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى.
2. سؤال وإشكال: أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعى أنه على دين إبراهيم عليه السلام؟ والجواب: لما ثبت أن إبراهيم كان قائلًا بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام، وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد، كان هو على دين إبراهيم.
3. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ لا يجوز أن يكون المراد به التخيير، إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر، والمعلوم من حال النصارى أيضاً ذلك، بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله: ﴿تَهْتَدُوا﴾ أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة.
4. في انتصاب ملة في قوله تعالى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أربعة أقوال:
أ. الأول: لأنه عطف في المعنى على قوله: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وتقديره قالوا: اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم.
ب. الثاني: على الحذف تقديره: بل نتبع ملة إبراهيم.
ج. الثالث: تقديره: بل نكون أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهلها.
د. الرابع: التقدير: بل اتبعوا ملة إبراهيم، وقرأ الأعرج: ملة إبراهيم بالرفع أي ملته ملتنا، أو ديننا ملة إبراهيم، وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبراً.
5. ﴿حَنِيفًا﴾: لأهل اللغة في الحنيف قولان.
أ. الأول: أن الحنيف هو المستقيم، ومنه قيل للأعرج: أحنف، تفاؤلًا بالسلامة، كما قالوا للديغ: سليم، والمهلكة: مفازة، قالوا: فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف، وهو مروي عن محمد بن كعب القرظي.
ب. الثاني: أن الحنيف المائل، لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها، وتحنف إذا مال، فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله، أي مال إليه، فقوله: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي مخالفاً لليهود والنصارى منحرفاً عنهما.
6. ذكر المفسرون عبارات في معنى ﴿حَنِيفًا﴾:
أ. أحدها: قول ابن عباس والحسن ومجاهد: أن الحنيفية حج البيت.
ب. ثانيها: أنها اتباع الحق، عن مجاهد.
ج. ثالثها: اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام.
د. رابعها: إخلاص العمل وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم.
قال القفال: وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات، وأصله من إبراهيم عليه السلام.
7. في نصب حنيفاً قولان:
أ. أحدهما: قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك: رأيت وجه هند قائمة.
ب. الثاني: أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب، قاله نحاة الكوفة.
8. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود والنصارى شركاء على ما بيناه، لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك.
ب. ثانيها: أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حج البيت والختان وغيرهما، فمن دان بذلك فهو حنيف، وكان العرب تدين بهذه الأشياء. ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا: ﴿حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، ونظيره قوله: ﴿حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: 31]، وقوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106]
الآية تدل(3). على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقصة لقوله: إفحاماً له وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة، ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم، فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه فقال: إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع.
9. سؤال وإشكال: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم، ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث، امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى، والجواب: أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام.
10. لما أجاب الله تعالى بالجواب الجدلي أولًا، ذكر بعده جواباً برهانياً في قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وهو: أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلًا، فهذا هو المراد من قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ إلى آخر الآية، وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية.
11. سؤال وإشكال: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة، والجواب: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه، وأنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قيام المعجز على يده، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق.
12. اختلف في المأمور بالقول في قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾:
أ. قيل: لما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 135] ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 135] ثم قال لأمته: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ وهذا قول الحسن، واحتج على قوله بوجهين:
• الأول: أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾
• الثاني: أنه في نهاية الشرف، والظاهر إفراده بالخطاب.
وهذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾
ب. وقال القاضي قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ يتناول جميع المكلفين، أعني النبي عليه السلام وأمته، والدليل عليه وجهان:
• أحدهما: أن قوله: ﴿قُولُوا﴾ خطاب عام فيتناول الكل.
• الثاني: أن قوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ لا يليق إلا به صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلا أقل من أن يكون هو داخلًا فيه.
13. إنما قدم قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع، فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً، وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى: الكتاب والسنة.
14. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ قال الخليل: السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وقال الزمخشري السبط، الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والأسباط: الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر.
15. في قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز، وهو أليق بسياق الآية.
ب. الثاني: لا نفرق بين أحد منهم، أي لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام، كما قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾
16. معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى، وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به. فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول، والبعض بالرد، فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له، بل اتباع الهوى والميل.
17. لما بين الله تعالى الطريق الواضح في الدين، وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته، وأن يحترز في ذلك عن المناقضة رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ من وجوه:
أ. أحدها: أن المقصود منه التثبيت، والمعنى: إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا، لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوفيقه على أن ما رأيت لا رأي وراءه، وإنما قلنا: إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته، وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة، والمتناقض يستحيل أن يكون مساوياً لغير المتناقض في السداد والصحة.
ب. ثانيها: أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] أي ليس كهو شيء، وقال الشاعر: وصاليات ككما يؤثفين، وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول:
çوالله لولا حنف برجله...ودقة في ساقه من هزلهé
ما كان منكم أحد كمثله
ج. ثالثها: أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. رابعها: أن يكون قوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا، فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين، وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل، ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به، قال القاضي: لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهباً لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد.
18. ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ المراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه، ومن هذا حاله يكون ولياً لله داخلًا في أهل رضوانه، فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها.
19. ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾:
أ. قال بعض أهل اللغة: الشقاق مأخوذ من الشق، كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها، ونظيره: المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر، والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة، والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر.
ب. وقال آخرون: إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر.
20. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة، ثم للمفسرين عبارات:
أ. أولها: قال ابن عباس: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله.
ب. ثانيها: قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاق. أي في ضلال.
ج. ثالثها: قال ابن زيد في منازعة ومحاربة.
د. رابعها: قال الحسن في عداوة.
21. لا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق(3).، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلًا على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن، فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ تقوية لقبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به.
22. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالًا على صدقه، وذلك:
أ. لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون ألبتة على التخلص من أيديهم.
ب. وإنما قلنا: إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل.
23. سؤال وإشكال: لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضاً للعادة، وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له: اصبر فإن الله يكفيك شره، ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى، وإذا كان هذا معتاداً فكيف يقال: إنه معجز وأيضاً لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها، وذلك مما لا سبيل إلى دفعه، فإن المنجمين يقولون: من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبياً، والجواب: أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الأخبار وحده معجز، بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع، والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب.
24. ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وفيه وجهان:
أ. الأول: أنه وعيد لهم، والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه.
ب. الثاني: أنه وعد للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يعني: يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرادك.
25. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ بناء مبالغة فيتناول كونه عالماً بجميع المعلومات، فلو كان كونه سميعاً عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عليماً.
26. لما ذكر الله تعالى الجواب الثاني، وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، والصبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها لغتان. (والصبغة) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.
27. اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال:
أ. الأول: أنه دين الله(4).، وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوهاً:
• أحدها: أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً، فقال الله تعالى: اطلبوا صبغة الله وهي الدين، والإسلام لأصبغتهم، والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم: اغرس كما يغرس فلان تريد رجلًا مواظباً على الكرم، ونظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: 14، 15]، {يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَخادِعُهُمْ} [النساء: 142]، ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54]، ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ [هود: 38]
• ثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهوداً والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم، عن قتادة قال ابن الأنباري: يقال: فلان يصبغ فلاناً في الشيء، أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثواب وأنشد ثعلب:
çدع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا...إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغé
• ثالثها: سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]
• رابعها: قال القاضي قوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 136] إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136] فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم.
ب. الثاني: أن صبغة الله فطرته وهو كقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30] ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة، قال القاضي: من حمل قوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ على الفطرة فهو مقارب في المعنى، لقول من يقول: هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع، وهو الدين أيضاً لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ فكأنه تعالى قال في ذلك: إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا كظهور حسن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول: إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى، لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه.
ج. الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية.
د. الرابع: إنه حجة الله، عن الأصم، وقيل: إنه سنة الله، عن أبي عبيدة.
28. في نصب صبغة أقوال:
أ. أحدها: أنه بدل من ملة وتفسير لها.
ب. الثاني: اتبعوا صبغة الله.
ج. الثالث: قال سيبويه: إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ كما انتصب وعد الله عما تقدمه.
29. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ المراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغته.
30. قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ فقال الزمخشري: إنه عطف على: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/71.
(2) نكتفي هنا بالوجه الأول، وسائر الوجوه ذكرها في محلها بحسب ترتيب الآيات الكريمة.
(3) الكلام هنا للقاضي.
(4) رجحه الرازي وذكر أنه القول الجيد.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة، وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا، وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة: (بل ملة) بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم.
2. اختلف في معنى ﴿حَنِيفًا﴾:
أ. قيل: مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة، وقال علي بن سليمان: هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة، وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام، والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف:
çوالله لولا حنف برجله...ما كان في فتيانكم من مثلهé
وقال الشاعر:
çإذا حول الظل العشي رأيته...حنيفا وفي قرن الضحى يتنصرé
أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى.
ب. وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته، وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.
3. قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾:
أ. خرج البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل) الآية.
ب. وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك أنت مؤمن؟ فقل: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ الآية.
ج. وكره أكثر السلف أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا.. واسأل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان نبيا فقد آمنت به.
4. الخطاب في هذه الآية لهذه الامة، علمهم الايمان، قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية، فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به.
5. جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقاله الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لان الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع، وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه، وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبه ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل، والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه.
6. الأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل: أصله من السبط (بالتحريك) وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة، قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما روي عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب، والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد، وشعر سبط وسبط: غير جعد.
7. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ قال الفراء: أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.
8. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته، والمعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة، وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: (فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا) وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، ف (مثل) زائدة كما هي في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي ليس كهو شي، وقال الشاعر: (فصيروا مثل كعصف مأكول)، وروى بقية عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به.. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾، وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شي ذهب إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل، وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول، وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم، وقيل: (مثل) على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: ﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ وقوله: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾.
9. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي عن الايمان ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة، وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي، وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر:
çإلى كم تقتل العلماء قسرا...وتفجر بالشقاق وبالنفاقé
وقال آخر:
çوإلا فاعلموا أنا وأنتم... بغاة ما بقينا في شقاقé
وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
10. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ أي فسيكفي الله رسوله عدوه، فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير.. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان، ويجوز في غير القرآن: (فسيكفيك إياهم)
11. ﴿السَّمِيعُ﴾ لقول كل قائل ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم، وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾:
أ. قال الأخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من ﴿مِلَّةَ﴾، وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي ألزموا، ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله، وروى شيبان عن قتادة قال إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، قال الزجاج: ويدلك على هذا أن ﴿صِبْغَةَ﴾ بدل من ﴿مِلَّةَ﴾
ب. وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لان الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام، وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين، واصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم، وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لان الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: ألان صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب، وقال بعض شعراء ملوك همدان:
çوكل أناس لهم صبغة...وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا...فأكرم بصبغتنا في الصبغé
ج. وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، لان معنى ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم، وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما، روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة: أن ثمامة الحنفي أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (حسن إسلام صاحبكم)، وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق.
د. وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل.
هـ. وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/140.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فيه تعريض باليهود لقولهم ـ عزير ابن الله ـ وبالنصارى لقولهم ـ المسيح ابن الله ـ أي: أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله، فكيف تدّعون عليه أنه كان على اليهودية أو النصرانية؟
2. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ خطاب للمسلمين، وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة؛ وقيل: إنه خطاب للكفار؛ بأن يقولوا ذلك حتى يكونوا على الحق، والأول أظهر.
3. الأسباط: أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ولدا، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة، والسّبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسمّوا الأسباط من السبط؛ وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون؛ وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر، أي: هم في الكثرة بمنزلة الشجر؛ وقيل: الأسباط: حفدة يعقوب، أي: أولاد أولاده لا أولاده، لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه، فهم أفراد لا أسباط.
4. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ قال الفرّاء: معناه: لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى. قال في الكشاف: وأحد: في معنى الجماعة، ولذلك صحّ دخول بين عليه.
5. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ هذا الخطاب للمسلمين أيضا، أي: فإن آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله؛ ولم يفرّقوا بين أحد منهم؛ فقد اهتدوا، وعلى هذا: فمثل زائدة، كقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقول الشاعر: (فصيّروا مثل كعصف مأكول)، وقيل: إن المماثلة وقعت بين الإيمانين، أي: فإن آمنوا بمثل إيمانكم، وقال في الكشاف: إنه من باب التبكيت، لأن دين الحقّ واحد لا مثل له؛ وهو دين الإسلام، قال أي: فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحة والسّداد فقد اهتدوا؛ وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة؛ وقيل: إنها للاستعانة.
6. الشقاق أصله من الشق وهو الجانب، كأنّ كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر؛ وقيل: إنه مأخوذ من فعل ما يشقّ ويصعب، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين، وكذلك قول الشاعر:
çوإلّا فاعلموا أنّا وأنتم...بغاة ما بقينا في شقاقé
وقول الآخر:
çإلى كم تقتل العلماء قسرا...وتفجر بالشّقاق وبالنّفاقé
7. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده وخالفه من المتولين، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع.
8. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ قال الأخفش وغيره: أي: دين الله، قال وهي منتصبة على البدل من ملة، وقال الكسائي: هي منصوبة على تقدير اتبعوا، أو على الإغراء، أي: الزموا، ورجّح الزجاج الانتصاب على البدل من ملة، كما قاله الفراء، وقال في الكشاف: إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ كما انتصب ـ وعد الله ـ عما تقدّمه؛ وهي فعلة من صبغ، كالجلسة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى: تطهير الله، لأن الإيمان تطهير النفوس.. وبه قال سيبويه، أي: كونه مصدرا مؤكدا.
9. ذكر المفسرون: أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمّونه: المعمودية، ويجعلون ذلك تطهيرا لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانيا حقا، فردّ الله عليهم بقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي: الإسلام، وسمّاه صبغة: استعارة، ومنه قول بعض شعراء همدان:
çوكلّ أناس لهم صبغة...وصبغة همدان خير الصّبغ
صبغنا على ذاك أولادنا...فأكرم بصبغتنا في الصّبغé
وقيل: إن الصبغة: الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي، وقال الجوهري: صبغة الله: دينه، وهو يؤيد ما تقدم عن الفرّاء؛ وقيل: الصبغة: الختان.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/171.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم، بأن صاروا دعاة إلى الكفر، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
2. ﴿وَقَالُوا﴾ أي الفريقان من أهل الكتاب ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ﴾ نتبع ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم ﴿حَنِيفًا﴾ أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق، لأن الحنف، محركة، يطلق على الاستقامة، ومنه قيل للمائل الرّجل، أحنف تفاؤلا بالاستقامة كم قالوا للديغ: سليم، وللمهلكة: مفازة.. ويطلق على ميل في صدر القدم، واعوجاج في الرجل، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى، المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه.
3. لما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام، مع إشراكهم بقولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
4. أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضيّ عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق على توحيده تعالى، وعبادته وحده، لا شريك له، ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمدا خاتم النبيين لدعوة الناس جميعا إلى هذا الأصل.
5. ﴿قُولُوا﴾ أي يا أيها الذين آمنوا، وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ من الأحكام التي كانوا متعبدين بها، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة.
6. الأسباط: هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم، جمع سبط وهو الحافد، سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق.
7. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من التوراة والإنجيل ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ مما ذكر، وغيرهم. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون.
8. ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾ أي أهل الكتاب الذي أرادوا أن يستتبعوكم ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي بما آمنتم به على الوجه الذي فصّل على أن المثل مقحم، وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود بما آمنتم به، وقرأ أبيّ: بالذي آمنتم به ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم عكس ما قالوا: كونوا مثلنا تهتدوا ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عن الإيمان بما آمنتم به.
9. ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء، قال القاضي: ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية إنه شقاق، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه، وفي استحقاق النار، فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم، وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول، مضمرون له السوء، مترصدون لإيقاعه في المحن، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أتبع وعده بالنصر والكفاية، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى. فهو يسبب لكل قول وضمير.
10. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد منتصب عن قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ كذا قاله سيبويه، فهو بمثابة فعله، كأنه قيل صبغنا الله صبغة، أي صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه، ولا تغلب صبغة غيره عليها، والصبغة كالصبغ (بالكسر فيهما لغة) ما يصبغ به وتلون به الثياب، ووصف الإيمان بذلك لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر، وحلية تزيّنهم بآثاره الجميلة، ومتداخلا في قلوبهم، كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك، ويقال: صبغ يده بالماء غمسها فيه، وأنشد ثعلب:
çدع الشر وانزل بالنجاة تحرزا...إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغé
11. قال الراغب: الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30] الآية، والمعنى بقوله عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة.. الخبر، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان التي ركب عليها، إذا اعتبرت بذاته، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ، ولما كانت اليهود والنصارى، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية، يقولون: قد صبغناه ـ بيّن تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن صبغة منه.. وقول الحسن وقتادة ومجاهد: إن الصبغة هي الدين، وقول غيرهم: إنها الشريعة، وقول من قال هو الختان ـ إشارة إلى مغزى واحد.
12. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ الاستفهام للإنكار والنفي، أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى، لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، والجملة اعتراضيه مقررة لما في ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ من معنى الابتهاج.
13. ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ شكرا لتلك النعمة ولسائر نعمه، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نؤكدها بالعبادة، وهي تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية.. وهو عطف على آمنا، داخل معه تحت الأمر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/407.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا اَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ﴾ (أَوْ) للتفصيل، قالت يهود المدينة: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وأبو يسار بن أحطب، وعبد الله بن صوريا الأعور، وهم رؤساء يهود المدينة، للمسلمين: كونوا هودًا تهتدوا، لا دين إلَّا دين اليهود، وأنكروا الإنجيل وعيسى والقرآن ومحمَّدا صلَّى الله وسلَّم عليهما، وقالت نصارى نجران لهم: كونوا نصارى تهتدوا، وأنكروا التوراة وموسى والقرآن ومحمَّدا صلَّى الله وسلَّم عليهما.
2. ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهم: ﴿بَلْ﴾ نتَّبع ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ كما جاء: (اتَّبِعُوا)، أو نلزمها كما كنَّا لا نفارقها، أو: اتَّبِعوا أنتم كما اتَّبعناها، وذلك مضمون الردِّ على قولهم: (كُونُوا..) إلخ، أو بل نكون ملَّة إبراهيم، أي: أهل ملَّة إبراهيم، كما هو لفظ ﴿كُونُوا هُودًا﴾، أو يقدَّر: بل كونوا أهل ملَّة إبراهيم كما كنَّا على ملَّته.
3. ﴿حَنِيفًا﴾ عن الأديان كلِّها إلَّا دين الإسلام، ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ كما كان الشرك في يهوديَّتكم ونصرانيَّتكم، إذ قلتم: عزير ابن الله والمسيح ابن الله، أو إله، ونحو ذلك، وكما أشركتم بإنكار القرآن وبعض الرُّسل، واليهود بإنكار الإنجيل، والنصارى بإنكار التوراة، والآية تعريض بشرك العرب المشركين إذ يعبدون الأصنام كما أنَّها تعريض بشرك اليهود والنصارى.
4. ﴿قُولُواْ﴾ أيُّها المؤمنون، أي: النبيء والمؤمنون، وكلُّ نبيء أوَّل من يؤمن بما أنزل عليه، ﴿ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي: أخبِروهم بأنَّا على الهدى مؤمنون بما يجب الإيمان به ممَّا أنزل علينا وهو القرآن، أو هذا القول من جملة ما حكي بـ (قُلْ)، والخطاب لليهود والنصارى، كأنَّه قيل: قلْ لهم: قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا من التوراة والإنجيل والقرآن، فإنَّه نزل عليهم كغيرهم.
5. ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَىآ إِبْرَاهِيمَ﴾ من الصحف العشر ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ أنزلت على إبراهيم خاصَّة، لكن خوطبوا بالعمل بها فهي منزَّلة إليهم، فهُمْ كَمَن أَرسَلَ إليهم السلطانُ في شأن بواسطة كبيرِهِم، ﴿وَيَعْقُوبَ﴾، اجتمع هو وعيص في بطن أمِّهما، فقال عيص: تأخَّر أنزل قبلك، وإلَّا خرقت بطن أمِّي، فتأخَّر فخرج عيص قبله، فخرج عقبه يعقوب، أو متصلاً بعقبه فسمِّي يعقوب، وهذا ممَّا يقال.
6. ﴿وَالَاسْبَاطِ﴾ أولاد يعقوب، سمَّاهم لأنَّهم أولاد الولد لإسحاق ولإبراهيم، والسبط ولد الولد، أو يراد أولاد أولادِ يعقوب، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل، من السبوطة وهي الاسترسال، أومن السبط وهو شجر كثير الأغصان لكثرتهم، أو من البسط فقُلِب، لكثرتهم، وليسوا كلُّهم أنبياء، بل بعضهم على الصحيح، لصدور كبائر منهم، والصحيح أنَّها لا تصدر من نبيء ولو قبل البلوغ.
7. ﴿وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من ربِّهم فحذف لدلالة ما بعده، جمع التوراة والإنجيل بلفظ (مَا) لشهرة التوراة لموسى والإنجيل لعيسى، واتِّصال ذكرهما إلى وقت الخطاب، ولأنَّ الإنجيل مقرِّر للتوراة وما نَسَخَ منها إلَّا قليلا، وموسى وعيسى داخلان في الأسباط وخصَّهما بالذكر لعظمهما ولتخصيصهما بكتابيهما، وكانت العبارة كذلك تحرُّزًا عمَّا زاد اليهود والنَّصارى ونقصوا من الكتابين، وكذا في قوله: ﴿وَمَآ أُوتِيَ﴾ من الكتب والمعجزات والدلائل.
8. ﴿النَّبِيئُونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ﴾ واحد فحذف العطف، أو (أَحَدٍ) بمعنى الجماعة بعد السلب، أي: لا نفرِّق بينهما على أنَّه موضوع للواحد والاثنين فصاعدًا بعد كلٍّ، أو النفي كما قال الفارسيُّ.
9. ﴿مِّنهُمْ﴾ بل نومن بهم كلِّهم، لا كاليهود والنصارى، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وَأَمَّا التفريق بتفضيل بعض على بعض تفضيلا لا يؤدِّي لنقصٍ فجائز ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253].
10. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنَ ـ امَنُواْ﴾ أي: اليهود والنصارى، وهذا يناسب أنَّ قوله: ﴿قُولُواْ﴾ خطاب لليهود والنصارى، ﴿بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْاْ﴾ متعلِّق بقوله: 8 ﴿قُولُواْ ءَامَنَّا﴾، أو بقوله سبحانه: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: إنْ حصَّلوا الإيمان بمثل ما حصَّلتم الإيمان به، وهو الاعتقاد والنطق والتعميم في كتب الله وأنبيائه، أو إنْ حصَّلوا دينًا مثل دينكم وهو لا يوجد، فيكون تعجيزًا عن أن يوجد دين صحيح غير دين الإسلام، مثل ﴿فَاتُوا بِسُورَةٍ﴾ [البقرة: 23] ولو ادَّعوا أنَّ ما هم عليه الحقُّ؛ لأنَّهم بين عالمٍ أنَّ دين الإسلام هو الحقُّ وكتم، وعاقل لو فكَّر لأدرك ذلك، وهَاءُ (بِهِ) لِـ (مَا)، أو (مِثْلِ) زائدا والباء زائد، وعليه فـ (مَا) مصدريَّةٌ، أي: مثل إيمانكم بالله، وهاءُ (بهِ) للهِ.
11. ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان بالحقِّ المذكور، أو عن قوله عليه السلام لهم: ﴿قُولُواْ ءَامَنَّا بِاللهِ﴾، ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ عظيم مخالفة لكم لأجل دينكم، أو مخالفة للقول، و(الفِعَال) على بابه فإنَّ المسلمين أيضًا مخالفون لهم، فإنَّه في معنى جازوكم على مخالفتكم لهم وأنتم المحقُّون، وأصله الشقُّ وهو الجانب، أو المشقَّة، أو من شقّ العصا إذ أظهروا العداوة.
12. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُم﴾ مضرَّة شقاقهم ﴿اللهُ﴾ يا محمَّد بقتل قريظة وبني قينقاع وسبيهم، وإجلاء بني النضير، وضرب الجزية قبل إجلائهم وضرب الجزية على اليهود والنَّصارى، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم، أي: العليم بها، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالهم فيعاقبهم عليها، وهو متعلِّق بـ (شِقَاقٍ)، أو السميع لأقوالكم الحقَّة أيُّها المؤمنون، العليم بأحوالكم الصالحة فيجازيكم عليها، فيتعلَّق بالكفاية الممتنِّ بها الموعود بها.
13. ﴿صِبْغَةَ اللهِ﴾ قيل: بدل من (مِلَّة)، أو الزموا صبغة الله، أو صَبَغَنَا اللهُ صبغة، وحذف صَبَغَنَا، وأضيف للفظ الجلالة، أو متعلِّق بقوله: ﴿ءَامَنَّا﴾ على حدِّ: (قعدتُ جلوسًا)، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي الإسلام أو التوفيق، أو الحجَّة، أو تطهير القلب من الكفر والمعصية، شبِّه بالصبغة في كونه ظاهرًا ظهور الصبغة وحلية، ومتداخلاً في أعماق المصبوغ لأنَّه راسخٌ، وفي كونه يمتاز به الإنسان عن سائر الحيوان وعن الكفَّار امتياز الثوب المصبوغ، وهو استعارة تصريحيَّة أصليَّة تحقيقيَّة، أو سمَّى ذلك صبغةً للمشاكلة لوقوعه في جوار محذوف، هو صبغة النصارى أولادهم في ماء المعموديَّة لتحقُّق نصرانيَّتهم، وهو ماء أصفر، ويدَّعون أصله ماء غسل به عيسى عليه السلام في اليوم الثالث من ولادته، وكلَّما انتقص زادوا فيه ماء، ويقولون: هو تطهير بهم، ويقال: هو معرَّب (معموذينا) بإعجام الذال، أو معناه الطهارة، ماء يقدَّس بما يُتلَى من الإنجيل ثمَّ تغتسل به الحاملات، أمر الله المؤمنين أنْ يقولوا للنصارى: قولوا آمنا بالله، وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغة المعموديَّة، والإبدالُ ضعيف لكثرة الفصل بالأجنبيِّ.
14. ﴿وَمَنَ اَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ لا أحسن من صبغة الله ولا مساوي لها؛ لأنَّها الإسلام المنجي من خزي الدنيا والآخرة المورثُ لخيرهما، ﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ لا لغيره، كما تشركون معشر اليهود والنصارى غيره في العبادة، ﴿عَابِدُونَ﴾ قيل: أو داخل فيما أمروا أن يقولوه، أي: قولوا معشر اليهود والنصارى نحن له عابدون.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/233.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بين في الآيات السابقة حقيقة ملة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الاسلام ثم أشرك معهم أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه، وانتقل الكلام بهذه المناسبة إلى بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيين في جوهره، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة، وقصر نظرهم على ما يمتاز به كل دين من الفروع والجزئيات، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل فبعد بها كل فريق من الآخر أشد البعد، وصار الدين الواحد كفرا وإيمانا، كل فريق من أهله يحتكر الايمان لنفسه ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد، وإن كان نبيهم واحدا وكتابهم واحدا.
2. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين والضمير فى ﴿وَقَالُوا﴾ لأهل الكتاب و(أو) للتوزيع أو التنويع، أي إن اليهود يدعون إلى اليهودية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها، والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها ـ وهذا الأسلوب معهود في اللغة ـ ولو صدق أي واحد منهما لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكيف وهم متفقون على كونه إمام الهدى والمهتدين لذلك قال تعالى ملقنا لنبيه البرهان الأقوى في محاجتهم ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي بل نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم الذي لا نزاع في هداه ولا في هديه، فهي الملة الحنيفية القائمة على الجادة بلا انحراف ولا زيغ.. العريقة في التوحيد والاخلاص بلا وثنية ولا شرك.
3. الحنيف في اللغة: المائل، وإنما أطلق على إبراهيم عليه السلام، لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهى الكفر، فخالفهم كلهم وتنكب طريقتهم، ولا يسمى المائل حنيفا إلا إذا كان الميل عن الجادة المعبدة وفى الأساس: من مال عن كل دين أعوج، ويطلق على المستقيم، وبه فسر الكلمة بعضهم وأورد له شاهدا من اللغة وهو أقرب، ومن التأويلات البعيدة: ما روى من تفسير الحنيف بالحاج ووجه القول به أنه مما حفظ من دين إبراهيم.
4. قال محمد عبده: قال بعض المشغلين بالعربية من الافرنج إن الحنيفية هى ما كان عليه العرب من الشرك واحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية (إن فعلت هذا أكون حنيفيا) وإنها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة، وقد ناظرت بعض الافرنج في هذا فلم يجد ما يحتج به إلا عبارة ذلك النصراني، وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة لينظر كيف كانوا يستعملونها، ولا دليل في كلمة النصراني العربي على أن الكلمة تدل لغة على الشرك، وإنما مراده بكلمته البراءة من دين العرب مطلقا، ذلك أن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء وينتسبون إلى ابراهيم ويزعمون أنهم على دينه، وكان الناس يسمونهم الحنفاء أيضا، والسبب في التسمية والدعوى أن سلفهم كانوا على ملة ابراهيم حقيقة ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها ـ نسوا بعضها بالمرة وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج، ونفى الشرك عن ابراهيم في آخر الآية احتراس من وهم الواهمين، وتكذيب لدعوى المدعين.
5. لا بدع أن ينسى الأميون ما كانوا عليه فان أهل الكتاب خرجوا بدينهم عن وضعه الأول فنسوا بعضا وحرفوا بعضا وزادوا فيه ونقصوا منه، فاليهود أضافوا التلمود إلى ما عندهم من التوراة وسموا مجموع ذلك مع تفاسيره وآراء أحبارهم فيه باليهودية، وأما النصارى فقد ظهر دينهم بشكل لوراء الحواريون الذين أخذوا الدين عن المسيح مباشرة لما عرفوا أي دين هو، وهؤلاء المسلمون على حفظ كتابهم في الصدور والسطور يعملون باسم الدين أعمالا يظنها الجاهلون بدينهم أعظم أركان الدين، وما هي من الدين وإنما هي بدع المضلين، فالإفرنج يكتبون في رحلاتهم أن رقص المولوية من أعظم العبادات الإسلامية، وأن ما يكون في جامع القلعة في ليالي المولد والمعراج ونصف شعبان من الرقص والعرف بالطبول والدفوف وغيرها من أهم الشعائر الإسلامية، وسماها بعضهم (الصلاة الكبرى) ولولا أن القرآن محفوظ وسنة الرسول وسيرة السلف الصالح مدونتان في الكتب لنسينا الأصل واكتفينا بهذه البدع فان مئات الألوف التي يحج مشاهد أهل البيت والجيلاني بالعراق والبدوي وأمثاله بمصر كل عام لا يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويحج البيت منهم إلا أقلهم، ولهم في عبادتهم الباطلة أخشع منهم في عبادتهم المشروعة، ولكن الله أراد بقاء هذا الدين وحفظه وسيرجع إلى كتابه الراجعون، ويهتدى به المهتدون ولو كره المقلدون، وعند ذلك تنقشع ظلمات هذه البدع التي هم فيها يتخطبون.
6. توهم بعض العلماء أن هذا الجواب ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الخ جاء على طريقة الإقناع، وليس حجة حقيقية، ووجهوه بقولهم: إن أهل الكتاب يعاندون الحق ويكابرون في معجزة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمر الله نبيه بأن يلزمهم بالدلائل الاقناعية التي لا يقدرون على مكابرتها والمراء فيها، والحق أن هذا الجواب حجة حقيقية، وقد أشرنا إلى وجهها الوجيه أول الكلام في تفسير الآية، وقد تجرأ كثير من العلماء على مثل هذا الكلام في كثير من الآيات التي احتج بها القرآن حتى في إثبات الوحدانية والسبب في ذلك: افتتانهم بالطريقة النظرية التي أخذوها عن كتب اليونان، ولقد اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف وقلما اهتدى بتلك الأدلة النظرية المحضة أحد من الناس، وإنما تفيد في دفع شبهاتهم التي يوردونها على العقائد، ولا فائدة فيها سوى المراء والجدل، وقد محيت في عصرنا تلك الشبهات، ورغب الناس عن هاتيك النظريات، وقام بناء العلم على أسس الوقائع والحوادث والمجربات.
7. قال الجلال: ان الآية نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران فهم القائلون ما ذكر، والتحقيق أن الآية في بيان طبيعة أهل الملتين كما تقدم، وقول يهود المدينة ونصارى نجران ما ذكر ـ إن صح ـ لا يقتضى التخصيص فإنهم ما قالوا إلا ما هو لسان حال ملتهم، وغيرهم يقول مثل قولهم، أو يصدق القائلين باعتقاده وسيرته أمر الله النبيّ بان يدعو الى اتباع ملة ابراهيم ثم أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أي لا تكن دعوتكم الى شيء خاص بكم يفصل بينكم وبين سائر أهل الأديان السماوية بل انظروا الى جهة الجمع والاتفاق، وادعوا الى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين، مع الاسلام لرب العالمين، لا نعبد إلا الله، ولا نفرق بين أحد من رسل الله.
8. الأسباط: أولاد يعقوب والفرق أو الشعوب الإثني عشر المتشعبة منهم. قال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ وقد ورد أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء ولم يرد أنهم كانوا مرسلين فان صح هذا كما يفهم من إطلاق محمد عبده في الدرس فالمراد بالأسباط الاطلاق الأول وإلا كان في الكلام تقدير مضاف أي أنبياء الأسباط، كأنه قال وسائر أنبياء بنى إسرائيل وهو المختار، ولم يصح في نبوة غير يوسف من أبناء يعقوب شيء.
9. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ قال محمد عبده: ههنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحى الذي منحه الله الأنبياء إذ عبر بأنزل تارة وبأوتي تارة أخرى، وهى أن التعبير بأنزل ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر، ولا صحف تنقل، وذلك أن إنزال الوحى على نبيّ لا يستلزم إعطاءه كتابا يؤثر عنه، وهذا ظاهر إذا كان النبيّ غير مرسل فان الوحى إليه يكون خاصا به، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بعث فيهم رسول وإلا كان قدوة في الخير ومعدا للنفوس لبعثة نبيّ مرسل، وأما النبيّ المرسل فقد يؤمر بالتبليغ الشفاهي ولا يعطى كتابا باقيا وقد يكتب ما يوحى اليه في عصره فيضيع من بعده، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبر عنهم بقوله: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح، وإننا نؤمن بأنهم كانوا أنبياء، وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق، وأنه موافق في جوهره وأصوله لما أنزل على من بعدهم، وما ذكر الله من ملة إبراهيم بالنص هو روح ذلك الوحى كله، وقد جاء في سورة النجم وسورة الأعلى ذكر صحف لإبراهيم، وقال الجلال هنا: إنها عشر فنؤمن أنه كان له صحف ولا نزيد على ما ورد شيئا، وأما اسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط فلم يثبت أن لهم صحفا ولا كتبا، فنؤمن بما أنزل إليهم بالإجمال ونعتقد أنه عين ملة إبراهيم وجاء التعبير عن وحى الذين كان لهم كتب تؤثر بقوله ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أوحى إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه فان أقوامهم يأثرون عنهم كتبا.
10. إن المراد الإيمان بما أنزل الله تعالى وما أعطاه لأولئك النبيين والمرسلين إجمالا، وأنه كان وحيا من الله فلا نكذب أحدا منهم بما ادعاه ودعا اليه في عصره، بصرف النظر عما طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض، فان ذلك لا يضرنا، لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أنزل إلينا، فقد روى البخاري من حديث أبى هريرة: (أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية)، وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن معقل بن يسار مرفوعا: (آمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وليسعكم القرآن)
11. ما ذكره محمد عبده من نكتة اختلاف التعبير فيشكل بقوله في أول الآية ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ أي معشر المسلمين وهو القرآن وقوله بعد ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ ولم يعلم أنه كان لغير داوود منهم كتاب منزل، على أن عدم العلم بكتب أنزلت على إبراهيم وإسماعيل وإسحق لا يدل على عدم تلك الكتب، ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتى موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدهما بها كما قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وقال: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ ثم قال: ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى.
12. قال الله تعالى بعد ما ذكر الفريقين ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ أي سواء منهم من له كتاب يؤثر ومن ليس له ذلك، نؤمن بالجميع إجمالا ونأخذ التفصيل عن خاتمهم الذي بين لنا أصل ملتهم التي كانوا عليها وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان.
13. العمدة في الدين على إسلام القلب لله تعالى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي مذعنون منقادون كما يقتضى الايمان الصحيح ولستم كذلك أهل الكتاب وإنما أنتم متبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها.
14. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ قال صاحب الكشاف: إن الآية تعريض بأهل الكتاب وتبكيت لهم، وقال الجلال: إن لفظ (مثل) زائد واستنكر محمد عبده ذلك واستكبره كعادته فإنه يخطئ كل من يقول: إن في القرآن كلمة زائدة أو حرفا زائدا، وقال: إن لمثل هنا معنى لطيفا ونكتة دقيقة، وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على الأنبياء ولكن طرأت على إيمانهم بالله نزغات الوثنية، وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس، وتمسكوا بالقشور وهى رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلا منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدعون العمل بالدين، فلما بين الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق، وأن هؤلاء الذين يدعون اتباع الأنبياء قد ضلوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق، أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين بأن يؤمنوا بمثل ما نؤمن نحن به لا بما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر، وكون رسولهم إلها أو ابن الله ومن التفرق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد، فالذي يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالتنزيه، وهم يؤمنون بالتشبيه، وعلى ذلك القياس، فلو قال فإن آمنوا بالله وبما أنزل على أولئك النبيين وما أوتوه، فقد اهتدوا، لكان لهم أن يجادلونا بقولهم: إننا نحن المؤمنون بذلك دونكم، ولفظ (مثل) هو الذي يقطع عرق الجدل.
15. على أن المساواة في الإيمان بين شخصين بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم والإدراك، ولو كانت القراءة: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما روى عن ابن عباس في الشواذ لكان الأولى أن يقدر المثل فكيف نقول وقد ورد لفظ مثل متواترا: إنه زائد؟
16. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أي أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل دين الأنبياء ولبابه بإيمان كايمانكم ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي إن أمرهم محصور في العداوة والمشاقة أي الإيذاء والإيقاع في المشقة أو شق العصا بتحري الخلاف والتعصب لما يفضلهم ويبينهم منكم ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي يكفيك إيذاءهم ومكرهم السيء ويؤيد دعوتك، وينصر أمتك، فهذا الوعد بالكفاية عام للمؤمنين وإن كان الخطاب خاصا، فإن أهل الكتاب وغيرهم ما شاقوا النبيّ لذاته وما كان لهم حظ في مقاومة شخصه، فالإيذاء كان متوجها إليه من حيث هو نبيّ يدعو إلى دين غير ما كانوا عليه، وقد أنجز الله وعده للنبي والمؤمنين عندما كانوا على ذلك الإيمان وكان الناس يقاومونهم لأجله، فلما انحرفوا من بعدهم عنه خرجوا عن الوعد، ولو عادوا لعاد الله عليهم بالكفاية والنصر ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
17. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي صبغنا بما ذكر من ملة ابراهيم صبغة الله وفطرته فطرنا عليها وهى ما صبغ الله به أنبياءه ورسله والمؤمنين من عباده على سنة الفطرة فلا دخل فيها للتقاليد الوضعية ولا لآراء الرؤساء وأهواء الزعماء، وإنما هو من الله تعالى بلا واسطة متوسط ولا صنع صانع، والصبغة في أصل اللغة صيغة للهيئة من صبغ الثوب إذا لونه بلون خاص.
18. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي لا أحسن من صبغته فهي جماع الخير الذي يؤلف بين الشعوب والقبائل، ويزكى النفوس ويطهر العقول والقلوب، وأما ما أضافه أهل الكتاب إلى الدين من آراء أحبارهم ورهبانهم فهو من الصنعة الإنسانية، والصبغة البشرية، قد جعل الدين الواحد مذاهب متفرقة مفرقة، والأمة الواحدة شيعا متنافرة متمزقة.
19. ﴿وَنَحْنُ لَهُ﴾ وحده ﴿عَابِدُونَ﴾ فلا نتخذ أحبارنا وعلماءنا أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، وبحلون لنا بآرائهم ويحرمون، ويمحون من نفوسنا صبغة الله الموجبة للتوحيد، ويثبتون مكانها صبغة البشر القاضية بالشرك والتنديد، قال محمد عبده: والآية تشير إلى أنه لا حاجة في الإسلام إلى تمييز المسلم من غيره بأعمال صناعية كالمعمودية عند النصارى مثلا، وإنما المدار فيه على ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحب الخير والاعتدال والقصد في الأمور: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/480.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحقّ لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بيّن أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغيّر من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشدّ البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد.
2. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وأنتم جميعا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه، فهي الملة التي لا انحراف فيها ولا زيغ.
3. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم، وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ودين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي عليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه المؤمنون به.
4. بعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي قولوا آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذّب أحدا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقا جمليا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب.
5. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وتبرّأت النصارى من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأقرّت بغيره، بل نشهد أن الجميع رسل الله بعثوا بالحقّ والهدى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أي ونحن خاضعون له بالطاعة مذعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، وأنتم لستم كذلك، بل أنتم متبعون أهواءكم لا تحولون عنها.
6. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ أي فإن آمنوا الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين، كما نؤمن به نحن وتركوا ما هم عليه من ادّعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن إله، فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم، ذاك أنه قد طرأ على إيمانهم بالله نزعات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس، وتمسكوا برسوم العبادات ونقصوا منها وزادوا عليها مما بعدوا به عن مقاصد الأديان من حيث يدعون العمل بها كاملة غير منقوصة.
7. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي وإن أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل الدين ولبّه، وفرّقوا بين رسل الله فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض، فإن أمرهم يكون محصورا في المشاقّة والعداوة وكل ما يوسع مسافة الخلف بينكم وبينهم.
8. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي فسيكفيك الله إيذاءهم وسيّئ مكرهم ويؤيد دعوتك وينصرك عليهم نصرا مؤزرا، وقد أنجز الله وعده للنبي والمؤمنين، فقتل وسبى بنى قريظة، ونفى بنى النّضير إلى الشام، وضرب الجزية على نصارى نجران، وهو سميع لما يقولون بألسنتهم ويبدو بأفواههم من الدعوة إلى الكفر والضلال، عليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين من الحسد والبغضاء.
9. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أي صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحق والإيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون، ولا نتبع آراء الرؤساء وأهواء الزعماء وتقاليدهم الوضعية، وهو زينتنا التي بها نتحلى كما يتحلى الثوب بالصبغ.
10. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي لا أحد تكون صبغته أحسن من صبغة الله، فإنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الكفر، وينجيهم من الشرك، فهي جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب، وتزكو النفوس أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهو من الصبغة البشرية، والصبغة الإنسانية، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة، والأمة شيعا متنافرة.
11. ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ ولا نعبد سواه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون ويحرّمون، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضى إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له.
12. في الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعوّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحبّ الخير والاعتدال كما قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 1/224.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إنما كان قول اليهود: كونوا يهودا تهتدوا؛ وكان قول النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، فجمع الله قوليهم ليوجه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يواجههم جميعا بكلمة واحدة: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.. قل: بل نرجع جميعا، نحن وأنتم، إلى ملة إبراهيم، أبينا وأبيكم، وأصل ملة الإسلام، وصاحب العهد مع ربه عليه.. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.. بينما أنتم تشركون.
2. ثم يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم، إلى الإسلام الأخير، ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾
3. تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام.
4. من ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة. حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى، من اتبعها فقد اهتدى، ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت؛ ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه، فهو وحده المهتدي، ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى، ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره، ولا عليه من جداله ومعارضته. فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
5. إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه، فيعرفون بها في الأرض: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان.
6. نقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إن صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾.. أما باقيها فهو من كلام المؤمنين يلحقه السياق ـ بلا فاصل ـ بكلام البارئ سبحانه في السياق، وكله قرآن منزل، ولكن الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين، وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم، وأمثال هذا في القرآن كثير، وهو ذو مغزى كبير.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/118.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال اليهود للمسلمين: كونوا هودا تهتدوا، وقال لهم النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، حيث حسب اليهود أن اليهودية وحدها هي الدين الحق، وحيث حسب النصارى أن النصرانية وحدها هي الدين الحق، فردّ الله سبحانه وتعالى على الفريقين هذا الردّ الذي لقّنه المسلمين، وأمرهم أن يكون هو المعتقد الذي يعتقدونه، والدّين الذي يدينون به، والقول الذي يلقون به اليهود والنصارى على السواء: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فهذا هو دين الله، الذي حمله الأنبياء والرسل إلى عباد الله.. فمن آمن برسول من رسل الله ولم يؤمن بجميع الرسل، فليس من المؤمنين، ومن تمسك بكتاب وكفر بما سواه من كتب الله، فهو من الكافرين.
2. ذمّ الله أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ الذين فرّقوا دين الله وتوعدهم بالعذاب الأليم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ على حين الله مدح المؤمنين الذين يؤمنون برسله جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم، وأنزلهم منازل رضوان، وأوسع لهم في جناب رحمته ومغفرته، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
3. الإيمان بالله وكتبه ورسله من غير تفرقة بين الله ورسله، هو الإيمان الذي قامت عليه دعوة الإسلام، واستقام عليه المسلمون، فإن آمن أهل الكتاب مثل هذا الإيمان فقد اهتدوا، وصح إيمانهم، وإن تولّوا فقد ضلّوا سواء السبيل، وصار أمرهم إلى خلاف وشقاق بينهم وبين المؤمنين، ثم بينهم وبين أنفسهم، وليس على النبيّ والمسلمين من بأس في مخالفة أهل الكتاب لهم، واتباعهم سبيلا غير سبيل المؤمنين، فالله سبحانه، سيكفى النبيّ شرّهم، ويبطل كيدهم.
4. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ داخل في مقول القول، في قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ أي قولوا آمنا بالله وصبغنا صبغة الله، أو رضينا صبغة الله، والصبغة هنا هي السّمة واللون الذي يظهر به المسلمون في الناس، وهو الإسلام.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/146.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ الظاهر أنه عطف على قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]، فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه.. ووجه الحصر حاصل من جزم ﴿تَهْتَدُوا﴾ في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من لم يكن يهوديا لا يراه اليهود مهتديا ومن لم يكن نصرانيا لا يراه النصارى مهتديا أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم.
2. الواو في قال عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ [البقرة: 133] وقوله: ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 134]، و(أو) في قوله: ﴿أَوْ نَصَارَى﴾ تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلا إلى من قاله، وجزم ﴿تَهْتَدُوا﴾ في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين.
3. ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جردت جملة (قل) من العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ على نحو ما تقدم، أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان.
4. انتصب ﴿مِلَّةَ﴾ بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن ﴿كُونُوا هُودًا﴾ بمعنى اتبعوا اليهودية، ويجوز أن ينصب عطفا على ﴿هُودًا﴾ والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن حاتم لما وفد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليسلم: (إني من دين أو من أهل دين) يعني النصرانية.
5. الحنيف فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس فيما ترقصه به:
çوالله لولا حنف برجله...ما كان في فتيانكم من مثلهé
والمراد الميل في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد.. وإنما كان هذا مدحا للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم فلقب بالحنيف، ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة، والوجه أن يجعل ﴿حَنِيفًا﴾ حالا من ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالا لملة إلا أن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56] أي إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول.
6. دلت هذه الآية على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم.
7. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾
8. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ بدل من جملة ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ﴾ [البقرة: 135] لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾.
9. الأمر بالقول أمر بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلا لها وكمالا لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ بقوله ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾، واختتم بقوله ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، ووسّط ذكر ما أنزل على النبيئين بين ذلك.
10. جمع الضمير ليشمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك، وجعله بدلا يدل على أن المراد من الأمر في قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ﴾ النبي وأمته.
11. أفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبي فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ إلخ وقوله الآتي: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ [البقرة: 139] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعني قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ إلخ لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبي، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها، وأما في قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ﴾ إلخ فلكونه جوابا مواليا لقولهم: ﴿كُونُوا هُودًا﴾ [البقرة: 135] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع، وأما في قوله الآتي: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا﴾ فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ و﴿رَبِّنَا﴾ و﴿لَنَا﴾ و﴿أَعْمَالُنَا﴾ و﴿نَحْنُ﴾ و﴿مُخْلِصُونَ﴾ فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها.
12. قدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.
13. المراد بما أنزل إلينا القرآن، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضا، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه، ولذلك قدم ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ للاهتمام به، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ ﴿أَنْزَلَ﴾ وفي بعضها بلفظ ﴿أُوتِيَ﴾ تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مرارا، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنبا لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى.
14. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام، قال أبو علي بن سينا في (الإشارات) ردا على من انتصر في الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون: (والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه)، وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض.
15. أحد: أصله وحد بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه، وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه همزة تخفيفا ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى: ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: 282] وهذا استعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: 6]، وقد يكون تعميمه في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47] وقول العرب: أحد لا يقول ذلك، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في حالة النفي، وبهذا يظهر أن أحد لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد، ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف، وهذا يجمع مشتت كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه (العقد المنظوم في الخصوص والعموم)
16. دلت كلمة ﴿بَيْنِ﴾ على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر.
17. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]
18. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ كلام معترض بين قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 136] وقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 138] والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيرا، وإن تردد فيه بعض النحاة والتفريع على قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ والمراد من القول أن يكون إعلانا أي أعلنوا دينكم واجهروا بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 135] فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافا لزعمهم أنهم عليه من قولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير مؤمنين بالإسلام.
19. جاء الشرط هنا بحرف (إن) المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو.
20. الباء في قوله: ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم، فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست مشابهة معتبرا فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق، وقيل لفظ مثل زائد، وقيل الباء للآلة والاستعانة، وقيل: الباء زائدة، وكلها وجوه متكلفة.
21. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ أي فقد تبين أنهم ليسوا طالبي هدى ولا حق إذ لا أبين من دعوتكم إياهم ولا إنصاف أظهر من هذه الحجة، والشقاق شدة المخالفة، مشتق من الشق بفتح الشين وهو الفلق وتفريق الجسم، وجيء بفي للدلالة على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه ظرف محيط بهم، والإتيان بأنّ هنا مع أن توليهم هو المظنون بهم لمجرد المشاكلة لقوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾.
22. فرع قوله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ على قوله: ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ تثبيتا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم.
23. السين: حرف يمحض المضارع للاستقبال فهو مختص بالدخول على المضارع وهو كحرف سوف والأصح أنه لا فرق بينهما في سوى زمان الاستقبال، وقيل إن سوف أوسع مدى واشتهر هذا عند الجماهير فصاروا يقولون سوّفه إذا ماطل الوفاء بالآخر، وأحسب أنه لا محيص من التفرقة بين السين وسوف في الاستقبال ليكون لموقع أحدهما دون الآخر في الكلام البليغ خصوصية ثم إن كليهما إذا جاء في سياق الوعد أفاد تخفيف الوعد ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: 47] فالسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه يكفيه سوء شقاقهم.
24. معنى كفايتهم كفاية شرهم وشقاقهم فإنهم كانوا أهل تعصب لدينهم وكانوا معتضدين بأتباع وأنصار وخاصة النصارى منهم، وكفاية النبي كفاية لأمته لأنه ما جاء لشيء ينفع ذاته.
25. ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي السميع لأذاهم بالقول العليم بضمائرهم أي اطمئن بأن الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم بكثرتهم، وفي قوله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وعد ووعيد.
26. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ هذا متصل بالقول المأمور به في ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 136] وما بينها اعتراض كما علمت والمعنى آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الأنبياء من قبل إيمانا صبغة الله.
27. صبغة: أصلها صبغ بدون علامة تأنيث وهو الشيء الذي يصبغ به بزنة فعل الدال على معنى المفعول مثل ذبح وقشر وكسر وفلق، واتصاله بعلامة التأنيث لإرادة الواحدة مثل تأنيث قشرة وكسرة وفلقة، فالصبغة الصبغ المعين المحضر لأن يصبغ به، وانتصابه على أنه مفعول مطلق نائب عن عامله أي صبغنا صبغة الله كما انتصب ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [الروم: 6] بعد قوله: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 5] بتقدير وعدهم النصر. أو على أنه بدل من قوله: ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: 135] أي الملة التي جعلها الله شعارنا كالصبغة عند اليهود والنصارى، أو منصوبا وصفا لمصدر محذوف دل عليه فعل ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ والتقدير آمنا إيمانا صبغة الله، وهذا هو الوجه الملائم لإطلاق صبغة على وجه المشاكلة، وما ادعاه الزمخشري من أنه يفضي إلى تفكيك النظم تهويل لا يعبأ به في الكلام البليغ لأن التئام المعاني والسياق يدفع التفكك، وهل الاعتراض والمتعلقات إلا من قبيل الفصل يتفكك بها الألفاظ ولا تؤثر تفككا في المعاني، وجعله الزمخشري تبعا لسيبويه مصدرا مبينا للحالة مثل الجلسة والمشية وجعلوا نصبه على المفعول المطلق المؤكد لنفسه أي لشيء هو عينه أي إن مفهوم المؤكد (بالفتح) والتأكيد متحدان فيكون مؤكدا لآمنا لأن الإيمان والصبغة متلازمان على حد انتصاب ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ من قوله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ توكيدا لمضمون الجملة التي قبله وهي قوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم: 4، 5] وفيه تكلفتان لا يخفيان.
28. الصبغة هنا اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنوانا على التوبة لمغفرة الذنوب والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضا في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام، وعند النصارى الصبغة أصلها التطهر في نهر الأردن وهو اغتسال سنه النبي يحيى بن زكرياء لمن يتوب من الذنوب فكان يحيى يعظ بعض الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزا للتطهر الروحاني وكانوا يسمون ذلك (معموذيت) بذال معجمة وبتاء فوقية في آخره ويقولون أيضا معموذيتا بألف بعد التاء وهي كلمة من اللغة الآرامية معناها الطهارة، وقد عربه العرب فقالوا معمودية بالدال المهملة وهاء تأنيث في آخره وياؤه التحتية مخففة، وكان عيسى بن مريم حين تعمد بماء المعمودية أنزل الله عليه الوحي بالرسالة ودعا اليهود إلى ما أوحى الله به إليه وحدث كفر اليهود بما جاء به عيسى وقد آمن به يحيى فنشأ الشقاق بين اليهود وبين يحيى وعيسى فرفض اليهود التعميد، وكان عيسى قد عمد الحواريين الذين آمنوا به، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيرا، وقد تعمد قسطنطين قيصر الروم حين دخل في دين النصرانية، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم السابع من ولادته.
29. إطلاق اسم الصبغة على المعمودية يحتمل أن يكون من مبتكرات القرآن ويحتمل أن يكون نصارى العرب سموا ذلك الغسل صبغة، ولم أقف على ما يثبت ذلك من كلامهم في الجاهلية، وظاهر كلام الراغب أنه إطلاق قديم عند النصارى إذ قال: (وكانت النصارى إذا ولد لهم ولد غمسوه بعد السابع في ماء معمودية يزعمون أن ذلك صبغة لهم)
30. وجه تسمية المعمودية (صبغة) فهو خفي إذ ليس لماء المعمودية لون فيطلق على التلطخ به مادة صبغ وفي (دائرة المعارف الإسلامية) أن أصل الكلمة من العبرية ص ب ع أي غطس، فيقتضي أنه لما عرب أبدلوا العين المهملة غينا معجمة لعله لندرة مادة صبع بالعين المهملة في المشتقات وأيا ما كان فإطلاق الصبغة على ماء المعمودية أو على الاغتسال به استعارة مبنية على تشبيه وجهه تخييلي إذ تخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوبا مصبوغا وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم وخلقهم وأنشدوا لبعض ملوك همدان:
çوكل أناس لهم صبغة...وصبغة همدان خير الصّبغ
صبغنا على ذلك أبناءنا...فأكرم بصبغتنا في الصبغé
وقد جعل النصارى في كنائسهم أحواضا صغيرة فيها ماء يزعمون أنه مخلوط ببقايا الماء الذي أهرق على عيسى حين عمده يحيى وإنما تقاطر منه جمع وصب في ماء كثير ومن ذلك الماء تؤخذ مقادير تعتبر مباركة لأنها لا تخلو عن جزء من الماء الذي تقاطر من اغتسال عيسى حين تعميده كما ذلك في أوائل الأناجيل الأربعة.
31. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ رد على اليهود والنصارى معا أما اليهود فلأن الصبغة نشأت فيهم وأما النصارى فلأنها سنة مستمرة فيهم، ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة تأثير المحسوسات على عقائدهم رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل المشار إليهما بقوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 136] إلى قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136] أي إن كان إيمانكم حاصلا بصبغة القسيس فإيماننا بصبغ الله وتلوينه أي تكييفه الإيمان في الفطرة مع إرشاده إليه، فإطلاق الصبغة على الإيمان استعارة علاقتها المشابهة وهي مشابهة خفية حسنها قصد المشاكلة، والمشاكلة من المحسنات البديعية ومرجعها إلى الاستعارة وإنما قصد المشاكلة باعث على الاستعارة، وإنما سماها العلماء المشاكلة لخفاء وجه التشبيه فأغفلوا أن يسموها استعارة وسموها المشاكلة، وإنما هي الإتيان بالاستعارة لداعي مشاكلة لفظ للفظ وقع معه. فإن كان اللفظ المقصود مشاكلته مذكورا فهي المشاكلة، ولنا أن نصفها بالمشاكلة التحقيقية كقول ابن الرّقعمق:
çقالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه...قلت اطبخوا لي جبّة وقميصاé
استعار الطبخ للخياطة لمشاكلة قوله نجد لك طبخه، وإن كان اللفظ غير مذكور بل معلوما من السياق سميت مشاكلة تقديرية كقول أبي تمام:
çمن مبلغ أفناء يعرب كلها...أني بنيت الجار قبل المنزلé
استعار البناء للاصطفاء والاختيار لأنه شاكل به بناء المنزل المقدر في الكلام المعلوم من قوله قبل المنزل، وقوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ من هذا القبيل والتقدير في الآية أدق من تقدير بيت أبي تمام وهو مبني على ما هو معلوم من عادة النصارى واليهود بدلالة قوله: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 135] على ما يتضمنه من التعميد.
32. الاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ إنكاري ومعناه لا أحسن من الله في شأن صبغته، فانتصب (صبغة) على التمييز، تمييز نسبة محول عن مبتدأ ثان يقدر بعد (من) في قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ والتقدير ومن صبغته أحسن من الله أي من صبغة الله قال أبو حيان في (البحر المحيط): وقل ما ذكر النحاة في التمييز المحول عن المبتدأ، وقد تأتي بهذا التحويل في التمييز إيجاز بديع إذ حذف كلمتان بدون لبس فإنه لما أسندت الأحسنية إلى من جاز دخول من التفضيلية على اسم الجلالة بتقدير مضاف لأن
çإخواننا قصدوا الصّبوح بسحرة...فأتى رسولهم إليّ خصيصاé
ذلك التحويل جعل ما أضيفت إليه صبغة هو المحكوم عليه بانتفاء الأحسنية فعلم أن المفضل عليه هو المضاف المقدر أي ومن أحسن من صبغة الله.
33. جملة ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ عطف على ﴿آمَنَّا﴾ وفي تقديم الجار والمجرور على عامله في قوله: ﴿لَهُ عَابِدُونَ﴾ إفادة قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية لكنهم عبدوا المسيح.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/717.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن ملة إبراهيم عليه السلام، وهى التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا، وهى الحق الذي لا ريب فيه، وهى مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق، وهو الهداية، كذلك ضلت أفهامهم، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ أي قال اليهود: أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم: كونوا هودا، أي كونوا يهودا تهتدوا؛ لأن الهداية تحوطهم، وهم في قبتها، وقال النصارى المثلثون الوثنيون: كونوا نصارى تهتدوا؛ لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم، مع أنهم وثنيون، لا يتبعون نبيا مرسلا، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة.
2. قال اليهود ما قالوا، وقال النصارى المثلّثون ما قالوا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، أي قل لهم يا رسول الله: إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع؛ لأجل البعد عن الباطل، والاهتداء بهدى الحق ـ مضربا عن كلامهم صفحا ـ هو ملة إبراهيم؛ ولذا قال تعالى: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره: بل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، أي مائلا للاستقامة أو مائلا نحو الحق هاديا إليه، فالحنيفية السمحة أي الحق، وجنف وحنف معناهما الميل، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾ [المائدة]، والحنيف المائل نحو الحق، والحنف يطلق على الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
3. يثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة إبراهيم، فيقول: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهذا نفى للشرك عن ملته، ورد للعرب المشركين عن تبعيته، وإن كانوا من سلالته.
4. وكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين؛ لأنه من تبليغ رسالة ربه، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها، وإن ذلك الرد كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران].
5. يجمع الرسل على اختلاف ما أنزل على النبيين من كتب لا تتباين في معناها، وإن اختلفت أزمانها، يجمع هذه الكتب أنها كلها في لبها وغايتها ملة إبراهيم عليه السلام، فهي ملة جامعة لا تختلف رسائل النبيين ولا تتباين عندها، فهي ملة النبيين أجمعين، وقد كانت رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هي ملة إبراهيم عليه السلام؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج] وقد تلونا هذا النص الكريم من قبل، ولذا دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعلنوا أنهم يؤمنون بذلك فقال تعالى مخاطبا المؤمنين: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
6. إن هؤلاء جميعا على ملة إبراهيم، وهى التوحيد، وهذا كقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى].
7. إن إبراهيم ويعقوب وصى كلاهما أبناءه بملته، واتبعه من بعدهم موسى وعيسى والنبيون الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، فهم جميعا على ملة واحدة جامعة، وهى ملة إبراهيم التي هي التوحيد والتنزيه، والاستقرار على الحق، والحنيفية السمحة.
8. أمر الله تعالى المؤمنين، ولم يكن أمره إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده، بل كان أمره له ولمن اتبعه، وفيه بيان أن إيمانهم هو إيمان إبراهيم، وبنيه، ويعقوب وبنيه، والنبيين أجمعين، فهو إيمان عام بالرسالة الإلهية لا فرق بين رسول ورسول، ولذلك قال بحق بعض الذين علموا الإسلام وما يدعو إليه: إن الإسلام دين عام، وقيل لمسيحي أسلم: لماذا خرجت عن المسيحية؟. فقال: إني لم أخرج عن المسيحية دين المسيح، ولكن دخلت فيها بدخولي في الإسلام.
9. أمر الله المؤمنين أن يقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾، والأسباط هم ولد يعقوب عليه السلام الذين قال لهم: ما تعبدون من بعدى، وهم اثنا عشر، وقد ذكر القرآن لهم ذلك العدد في رؤيا يوسف بن يعقوب، إذ قال الله تعالى عنه: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يوسف]، وإن الأحد عشر كوكبا رمز لأبناء يعقوب غير يوسف، وبضم يوسف إليهم يكونون اثنى عشر.. والأسباط واحدهم سبط، وهو بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل إن السبط هو الحفيد، وسموا بذلك لأنهم في أصلهم حفدة إبراهيم.
10. سؤال وإشكال: لماذا ذكر الأسباط مع أن ذكر يعقوب يغنى عن ذكرهم، لأنهم أبناء يعقوب، وقد وصاهم باتباع ملة إبراهيم وشدد في الوصية؟ والجواب: أنهم صاروا من بعده جموعا، كونوا العشائر والقبائل، فكانت لهم صفة بهذا الانفراد.
11. أمر الله تعالى المؤمنين، بأن يقولوا: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ لأنهم جميعا يتكلمون عن الله، ويذكرون أمره ونهيه، ورسالتهم رسالة من الله تعالى، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، أي أسلمنا وجهنا وقلوبنا وكل جوارحنا له سبحانه وتعالى، جمع الله قلوبنا ونفوسنا وحواسنا لتكون لله تعالى، وهو الحكيم العليم.. إن ذلك هو الإيمان الحق، وهو الإيمان الجامع غير المفرق؛ ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم، وهو الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة الإلهية؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾.
12. الضمير في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ يعود إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط.
13. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة] وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة]، وفى الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لا يفرق، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا، لا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق.
14. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى، والوحدة في الرسالة، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها ـ فقد اهتدوا، فكلمة (مثل) في موضعها من القول ولها دلالتها، فالمراد ـ وعند الله تعالى علمه ـ أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث، فقال إن مثل (مقحم) أستغفر الله لي وله، إنه ليس في القرآن مقحم، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط، إنما هي تنزيل من حكيم حميد، ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إلى آخر الآية الكريمة، يتحقق فيه أمران: أولهما ـ الإيمان بالوحدانية، والثاني ـ الصفة الجامعة، فالمثلية ليست في أصل الإيمان، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة.
15. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر؛ لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب، والانحياز، ويفقد الدين سلطانه في القلوب، ويصير لجاجة، وعداوة وبغضاء بين الناس، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لا يلتقى ولا يهتدى؛ ولذلك قال ﴿فِي شِقَاقٍ﴾، والشقاق: أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس.
16. عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين، إلى أن يتوقع منهم الشر، والبغضاء المستمرة؛ ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه، وأنه ناصره تعالى عليهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والمعنى: إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك، ومانعك منهم. يقال كفاك هذا الرجل، أي منعك ودافع عنك، و(السين) هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، ف (السين) و(سوف) الدالان على المستقبل القريب أو البعيد، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم.
17. أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون، وما يخفون وما يعلنون، عليم علم من يسمع، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم، ويكفيك أمرهم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
18. إن الإيمان الجامع بالنبيين أجمعين لا يفرق بين أحد من رسله، لأنهم جميعا يحملون رسالات ربهم إلى عباده وهى واحدة، إن هذا الإيمان هو دين الله تعالى، وهو ملة إبراهيم وهى الشارة الوحيدة للدين الحق؛ ولذا قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾
19. الصبغة: هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهى ملة إبراهيم، وهى دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه، والصبغة في الأصل ما يصبغ منه، ويتشربه الثوب حتى يصير لونا غير قابل للتغيير، بيد أن هذه الصبغة في القلب يتشربها فتكون لونا ثابتا مستقرا دائما بالإيمان والإذعان، يخالط مداركه، ويتشربها قلب المؤمن كما يتشرب الثوب صبغته؛ لأنه مفطور على الإيمان والإيمان في فطرته، إلى أن يتدرن بالأهواء والشهوات فتطمس الفطرة، ولقد قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم]، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء).
20. صبغة هنا منصوبة على الإغراء لفعل محذوف تقديره الزم صبغة الله، فإنها إيمان القلوب، وزينة النفوس للمؤمنين؛ كما يتزين الجسم بزينة الثياب الملونة بأبهى الصباغ.
21. التعبير عن الدين بأنه صبغة الله إشارة لما يفعله اليهود والنصارى من صبغ أولادهم باليهودية أو النصرانية بما يغمسونهم فيه بماء يسمى المعمودية، فإذا كان هؤلاء يعملون تلك الأعمال حاسبين أنها تصبغهم بدينهم غير الحق الذي ارتضوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يجعل القلوب تتشرب حب الدين الحق، فلا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل.
22. بين سبحانه وتعالى أن صبغة الإيمان الجامع الذي اختاره الله تعالى دينا للعالمين هي أحسن صبغة وأبهاها حسا ومعنى، وطهارة؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي لا صبغة أفضل من صبغة الله تعالى؛ لأنها الحق والحق وحده زينة القلوب، وغيرها الباطل، وهو طمس للفطرة وفرق بين زين القلب وحسن الإيمان، والإشراق بنوره، وطمس النور منه وامتلائه بالظلمات، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق] من شأنه الإذعان للحق، والتمسك به، وقال هنا: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ فالقلوب قسمان: قلوب على الفطرة يدخلها نور الإيمان فيشرق فيها، وقلوب طمست عليها الأهواء وسيطرت عليها وأخفت منابع الهداية فهي في عمياء عن الهدى، غلقت فلا تدخلها هداية.
23. إنما يدرك جمال صبغة الله تعالى، وتزيينها للقلب والنفوس الذين يوقنون بالحق، ومن شاء الإيمان به إذا قامت دلائله، وبدرت محاسنه؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ خاضعون له لا لسواه؛ ولذا قدم (له) على (عابدون) إذ التقديم للاختصاص فلا نعبد سواه ولا نؤمن بغيره.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/421.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾. الضمير في قالوا يعود الى أهل الكتاب، والمعنى قال اليهود، كونوا يهودا تهتدوا، لأن الهداية بزعمهم تنحصر بهم وحدهم، وقال النصارى مثل قول اليهود.. وقال الله لنبيه الأكرم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، أي لا نتبع اليهودية، ولا النصرانية، بل نتبع ملة إبراهيم.
1. سؤال وإشكال: ربّ قائل يقول: اليهود قالوا: نحن المحقون فقط، والنصارى قالوا: بل نحن فقط.. ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: بل ابراهيم هو المحق، لا اليهود ولا النصارى، وكل هذه الأقوال مصادرات وادعاءات بظاهرها، وإذا صح لليهود والنصارى أن يستعملوا هذا النحو من المنطق الباطل، فإنه لا يصح نسبة مثله الى الله ورسوله، فما هو الوجه؟ والجواب: أن الغرض من قوله: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ هو النقض على اليهود وافحامهم، لا اثبات الحقيقة بالذات، ويجوز للإنسان أن ينقض على خصمه بشيء لم يكن حجة في نفسه، بل حجة عند الخصم فقط، أو ينقض عليه بمثل ما هو حجة عنده، كالنقض على النصارى بآدم الذي لا أب له، حيث قالوا: المسيح رب، لأنه من غير أب، فينقض عليهم بأن آدم من غير أب، فينبغي أن يكون ربا أيضا، مع انكم تنفون عنه الربوبية.. ويسمى هذا النوع من المنطق بالمنطق الجدلي.
2. وجه النقض على اليهود والنصارى، وافحامهم فيما نحن فيه: ان اليهود والنصارى مختلفون دينا وعقيدة، وكل طائفة تكفّر الأخرى، وهم في الوقت نفسه متفقون على صحة دين ابراهيم، وبديهة ان ابراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، بل كان (حنيفا ـ أي موحدا ـ وما كان من المشركين). أي لم يكن ابراهيم يهوديا، لأنه لم يقل: عزير ابن الله، ولا جعل لله شبيها كما زعم اليهود بأن الله شيخ أبيض الرأس واللحية، ولم يكن نصرانيا، لأنه لم يقل المسيح ابن الله، لأن ذلك هو الشرك واقعا.. وما دام كل من اليهود والنصارى يعترفون بدين ابراهيم فيلزمهم أن يكونوا موحدين، بل ويحجوا أيضا الى بيت الله الحرام، تماما كما كان يعتقد ويفعل ابراهيم، وكما اعتقد وفعل محمد، مع العلم بأنهم لم يوحدوا ولم يحجوا، فإذن هم كاذبون بنسبتهم الى دين ابراهيم، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الصادق الأمين على دين الله، وملة ابراهيم.
3. بتعبير ثان ان الأخذ بالمتفق عليه، وهو دين التوحيد الذي كان عليه ابراهيم، وعليه الآن محمد أولى من الأخذ بالمختلف فيه، وهو اليهودية المشبهة، والنصرانية المثلثة.
4. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الخطاب للمسلمين ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾، وهو القرآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، وهي صحف إبراهيم، وقيل: انها عشر ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾. هما ولدا ابراهيم، وإسماعيل أكبر من اسحق، وأمه هاجر، وأم اسحق سارة، ويعقوب، ابن اسحق، والصحف لم تنزل اليهم جميعا، وانما أنزلت الى ابراهيم فقط، ولكن صحّت نسبة الانزال الى الجميع بالنظر الى أنهم متعبدون بها، وداعون اليها، تماما كما يصح لنا نحن المسلمين أن نقول: انزل القرآن إلينا، لأننا نؤمن ونعمل به، وندعو اليه.
5. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾. هم حفدة يعقوب من أبنائه الاثني عشر، وهم بمنزلة القبائل العربية من ذرية إسماعيل، وفي الأسباط أنبياء كثيرون كداود، وسليمان، ويحيى، وزكريا، وأيضا فيهم المؤمنون الذين تعبدوا بصحف ابراهيم عليه السلام.
6. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ التوراة والإنجيل، ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ كالزبور المنزلة على داوود، ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ أي نؤمن بالجميع، سواء من كان له كتاب يؤثر، أو لم يكن، ولسنا كاليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، بل الجميع عندنا سواء، من حيث الاعتراف بنبوتهم.. وبديهة ان الايمان بجميع الأنبياء انما يجب بنحو الإجمال، ولسنا مكلفين بالتفاصيل إلا بعد البيان من كتاب أو سنة ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. أي معترفون له بالوحدانية، ومخلصون في العبودية.
7. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ أي فان آمنوا ايمانا صحيحا، وهو التوحيد الخالص من شوائب الشرك، واعترفوا بجميع الأنبياء بما فيهم محمد، تماما كما آمن المسلمون بجميع الأنبياء دون استثناء فعندها يكونون مهتدين.. وليس المراد أن يؤمنوا بدين مثل دين الإسلام، إذ لا مثيل للإسلام إطلاقا.
8. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ كل من عاند الحق فقد شق العصا، وبدد الشمل ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ إذ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
9. الكلمة الجامعة باختصار لكل ما قدمناه هي ان الإسلام يرفض التعصب، ويدعو للتعاون على أساس الخير والعدل، ويعترف بالحق أينما كان ويكون، ويدعو أتباعه أن يفتحوا قلوبهم للناس، كل الناس في مودة واخلاص.
10. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ وهي دين الحق الذي يطهّر القلوب والعقول من الأقذار والأكدار، لا الغمس بالماء الأصفر، كما تفعل النصارى، ولا غير ذلك. قال محيي الدين ابن عربي في تفسيره: (ان كل ذي اعتقاد ومذهب باطنه مصبوغ بصبغ اعتقاده، ودينه ومذهبه، فالمتعبدون بالملل المتفرقة مصبوغون بصبغ نيتهم، والمتمذهبون بصبغ إمامهم وقائدهم، والحكماء بصبغ عقولهم، وأهل البدع والأهواء المتفرقة بصبغ أهوائهم، والموحدون بصبغة الله خاصة التي لا صبغ أحسن منها، ولا صبغ بعدها)
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/211.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات والانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى، أمور اخترعتها هوساتهم، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف وأحزابا دينية، وصبغوا دين الله سبحانه، وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، مع أن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم، وبه فليتمسك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب.
2. من طبيعة هذه الحياة الأرضية الدنيوية التغير والتحول في عين الجري والاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها، ويوجب ذلك أن تتغير الرسوم والآداب والشعائر القومية بين طوائف الملل وشعباتها، وربما يوجب ذلك تغييرا وانحرافا في المراسم الدينية، وربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه والأغراض والغايات الدنيوية ربما تحل محل الأغراض الدينية الإلهية (وهي بلية الدين)، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية، فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصلي، ويؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر (وهو ما ليس من الدين)، معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم، والمعروف منكرا ليس له حام يحميه، ولا واق يقيه، ويئول الأمر إلى ما نشاهده اليوم.
3. بالجملة فقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، إجمال تفصيل معناه: (وقالت اليهود كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا)، كل ذلك لتشعبهم وشقاقهم.
4. ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملته هذه الانشعابات، وهي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.
5. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق {والحق يقول}، وهو الشهادة على الإيمان بالله، والإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، وهو الإسلام وخص الإيمان بالله بالذكر وقدمه وأخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأن الإيمان بالله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، ودليل الرسالة.
6. ثم ذكر سبحانه ما أنزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنية وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم.
7. اختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال وعما عند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء، لعل الوجه فيه أن الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، ومن بعده ومن قبله من الأنبياء في سورة الأنعام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي والإنزال كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾، ولما كان كل من اليهود والنصارى يعدون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، والنصارى من النصارى، واعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما أوتي إبراهيم وإسماعيل لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي والإنزال واحتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى وعيسى نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، وأما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.
8. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾، الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما وكل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثني عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس.
9. إن كان المراد بالأسباط الأمم والأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى﴾
10. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام والجدال، فإنه لو قيل لهم (أن آمنوا بما آمنا به) أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما وراءه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق، فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء والمكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق.
11. ﴿فِي شِقَاقٍ﴾، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق.
12. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، وقد أنجز وعده وسيتم هذه النعمة للأمة الإسلامية إذا شاء، واعلم: أن الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة.
13. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾، الصبغة بناء نوع من الصبغ، أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهية لنا، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية والنصرانية بالتفرق في الدين، وعدم إقامته.
14. ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾، في موضع الحال، وهو كبيان العلة لقوله: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/310.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿وَقَالُوا﴾ أي اليهود والنصارى ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ ﴿أَوْ﴾ ليست للتخيير، وإنما هي للترديد بين الأمرين، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ:24] وقول الشاعر: (لنفسي تقاها أو عليها فجورها)، ذلك أن من طلب منه أن يكون يهودياً وطلبه آخرون أن يكون نصرانياً، فمجموع الطلبين يتضمن: أن يكون على إحدى الملتين، من حيث أنه لا يمكن الجمع بينهما، وكونه على إحدى الملتين إجابة لأحد الطلبين، فقد طلب منه اليهود أن يكون على أحدهما؛ وهو اليهودية، وطلبه النصارى أن يكون على أحدهما؛ وهو النصرانية، فمجموع الطلبين لإحدى الملتين التي هي اليهودية أو النصرانية.
2. ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي بل اتبعوا ملة إبراهيم؛ لأن قولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ يفهم منه اتباع دينهم كأنهم قالوا: اتبعوا ديننا، فجوابه: بل نتبع، أو بل اتبعوا ملة إبراهيم.
3. ﴿حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ تكررت هذه الكلمة الكريمة، ففي سورة آل عمران: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آية:95] وفي سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آية:161] وفي سورة النحل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آية:120]، وفي سورة آل عمران أيضاً: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آية:67] وفي سورة الأنعام أيضاً: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آية:79] وفي سورة النحل أيضاً: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آية:123] هذا كله في إبراهيم عليه السلام.. وفي سورة الحج: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [آية:30 ـ 31] وفي سورة لم يكن: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [آية:5]
4. قيل في تفسير (الحنيف): أنه من الحَنَفِ الذي هو الميل في القدم، وهذا بعيد؛ لأن الاشتقاق من العيوب يكون على وزن أفعل مثل: أحنف، أعرج، أعور، أعمى، أصم.. إلى غير ذلك، ولأن قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ هو معنى العدول عن أديان الشرك، فيكون ذكر الميل فضلة، وهو بعيد في القرآن الحكيم، ولأن الوصف بالميل إذا أطلق كان ذماً نحو ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾ [النساء:129] ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء:27] فكيف يستعمل الوصف بالحنف بمعنى المائل، ولا يقيد بأن يقول عن الباطل أو نحوه؟ فهذا لا يليق بكتاب الله الذي هو أحسن الحديث لفظاً ومعنى، فلا يليق به استعمال العبارة الناقصة؛ لأن نقصها خلل في الفصاحة وإن كان المراد صحيحاً، كقول الشاعر:
çوالعيش خير في ظلال الن ـ.. ـ ـ ـوك ممن عاش كداّé
أي العيش منها في ظلال الحماقة خير ممن عاش كدّاً في ظلال العقل، فكيف إذا كان نقصها يوهم المعنى الفاسد، وقد قيل في معاني (الحنيف) غير ذلك، وأحسن ما قيل في ذلك أنه: الطائع المستقيم الخاشع، وفي كتاب (الدليل الكبير) أول كتاب من مجموع القاسم عليه السلام: (والحنيف هو: المحب الخاشع)، أفاده القاسم عليه السلام في تفسير (سورة لم يكن)، وقال الشرفي في (المصابيح) في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج:30 ـ 31]: (ومعنى قوله: ﴿حُنَفَاءَ لله﴾ خاشعين لله ثابتين على دينه، وقد ذكر المعنى الذي هو مائلين، لكن الراجح الذي أفاده القاسم عليه السلام كما ذكرت)
5. هذا في وصف إبراهيم عليه السلام، فأما من بعده، فيحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أنه الخاشع الثابت كما هو الظاهر في قوله تعالى في أهل الكتاب والمشركين: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة:5] من أجل قوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ لأنه يغني عن وصف العبادة بكونها على ملة إبراهيم، فأما الخشوع مع الإخلاص فهو مناسب، وكذا في قوله: ﴿حُنَفَاءَ لله﴾ لأنه أنسب لكلمة: ﴿خَاشِعِينَ لله﴾ [آل عمران:199].
ب. ويحتمل: ما كان في كلام الجاهلية من كلامهم أنهم أرادوا به دين إبراهيم لكون إبراهيم كان حنيفاً، فحفظوا الاسم فجعلوا الاسم لمن كان على دينه بزعمهم أنه على دينه، وهذا لا ينافي المعنى الأصلي لوصف إبراهيم عليه السلام أنه كان حنيفاً، واعتقاد الجاهلية أن من اختتن وحج البيت الحرام حنيفٌ؛ لأنهم لم يتمسكوا من دين إبراهيم إلاَّ بالختان والحج، وقولهم ـ مع كونهم يعبدون الأوثان ـ: نحن حنفاء على دين إبراهيم، لعل ذلك الاعتقاد والقول هو سبب استمرار قوله تعالى: ﴿حَنِيفًا﴾ مقروناً بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ليردّ عليهم باطلهم وانتسابهم كذباً إلى دين إبراهيم.
6. ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وهو القرآن والسنة ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ أسباط إبراهيم عليه السلام، أي أبناء بنيه أو أسباط المذكورين.
7. ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ وهو التوراة؛ لأنها كانت لهما، والإنجيل وغير ذلك ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ آمنا بذلك كله خصوصاً وعموماً ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بل نؤمن أن دينهم واحد هو الإسلام لله، وأنهم كلهم على الحق وأنهم كلهم مؤمنون برسل الله كلهم ولا يكفر نبي بنبي.
8. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ وجوهَنا، نعبده ولا نعبد غيره، وهذا ردّ على اليهود والنصارى القائلين: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ فديننا الإيمان بالله ورسله، وبما أوتي النبيئون من ربهم، ولا شك أن ذلك كله حق؛ لأن القرآن قد جاء به وأثبت نبوة موسى وعيسى، وصدْق التوراة والإنجيل، فنحن نصدق ما صدق الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونحن لله مسلمون وجوهنا لا نعبد غيره، بل نعبد الله وحده، فأي عيب في ديننا ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة:59].
9. ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾ أي أهل الكتاب ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ فقالوا: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ إلخ، ما ذكر في الآية ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ إلى الحق، ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن ذلك وتركوه وقالوا نؤمن بما أنزل علينا، نؤمن ببعض ونكفر ببعض ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ ليسوا طالبين للحق ولا هم أهل إنصاف إنما يريدون الخلاف ومجانبة الحق.
10. ﴿بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ لو كان المعنى المقصود ومفهوم اللفظ: فإن آمنوا بالله وما أنزل لقيل فإن آمنوا بمن آمنتم به على طريقة التغليب، فإما أن يكون المعنى بمثل الله ومثل ما أنزل إليكم، فلا يصح.. فالراجح: أن المراد: فإن آمنوا بأن قالوا مثل القول هذا الذي عبرتم به عن إيمانكم، وليس المراد مجرد القول بدون الإيمان بالقلب؛ لأن قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ إلخ، المراد القول المقبول المطابق لما في القلب، فإيمانهم بقول مثله لا يكون مثله، إلاَّ إذا طابق ما في القلب، والمراد بالمماثلة أن يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلى محمد وما أنزل إلى إبراهيم.. إلى آخر الآية.
11. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما يخفي كل منكم ومنهم وما يعلن، ومعنى (يكفيكهم) ينجيك منهم، ويتولى دفعهم عنك ودفع شقاقهم.
12. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ التي جعلها لنا نصطبغ بها، أي آمنا بالله وما أنزل ونحن له مسلمون، وصبغ الله لنا فهو مصدر نوعي مثل قِعدَة البدوي، فهي خير من صبغتكم التي تصبغون بها أولادكم.
13. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أي لا أحسن، فالصبغة التي صبغناها لا أحسن منها، ذكر الشرفي في (المصابيح) أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يُسَمّونه المَعمُودِيّة، ويقولون: هو تطهير لهم، فإذا فعل الواحد بولده ذلك قالوا: الآن صار نصرانيّاً حقاً.. فصبغة المسلم قوله: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ إلى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فإذا قالها صار مسلماً حقاً وهذه مشاكلة، كقول حاتم لما نحر نحيرة من الإبل: (هكذا فَزْدِيْ أَنهْ)، وذلك أنهم كانوا يفصدون عرقاً من الناقة أو الجمل ويجعلون الدم في إناء ثم يأكلونه، فأراد حاتم أنه ينحرها بدلاً من الفصد.
14. ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ لا لغيره، لأنا عباد الله وحده لا شريك له فينا، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، ولا نعبد عيسى ولا عزيراً.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/193.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذا الفصل من السورة، يلتفت القرآن إلى تحديد الخط المستقيم الذي أراد الله للحياة أن تسير فيه في العقيدة والعمل، ويشجب الخطوط المتعرّجة المنحرفة في صعيد الواقع الذي يسير عليه الناس، فقد واجه هؤلاء الذين ينغلقون على أنفسهم ليجعلوا من الدين انتماء فئويّا لا ينفتح إلّا على جماعة معيّنة وأفق ضيّق، فكانوا يقولون للناس إنّ طريق الهدى لا يتّسع لغير اليهود، في ما يقوله اليهود، أو لا يتسع لغير النصارى في ما يقوله النصارى، وكان الجواب أن طريق الحق أوسع من ذلك، فإذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بإبراهيم وملّته، فإنّ ملّة إبراهيم هي الملة التي تلتقي عليها كل الخطوط، باعتبارها تمثل خط التوحيد الخالص الذي يستوعب كل الرسالات ويحتضن كل الأنبياء، فلا يضيق عن أحد ولا ينغلق على فئة، فهو الدين الحق الذي يهتدي المؤمنون به، أمّا الذين يعرضون عنه، فهم الذين لا يريدون للحياة أن تهدأ وتطمئن وتسير في الطريق المستقيم، بل يثيرون فيها الشقاق والخصام الذي لا ينتهي إلى أية نتيجة مما يحاولونه من الأهداف الشريرة، مهما عملوا ومهما امتدوا في أساليبهم، لأن الله سيتكفل بهم في الدنيا والآخرة، فقد وعد نبيّه بأنه سيكفيه عدوانهم وشرّهم، وهو السميع لكل ما يفيضون فيه من قول وما يثيرونه من مشاكل وهو العليم بسرّهم وعلانيتهم.
2. يلاحظ في هذه الآيات أن القرآن يعتبر القياس في صحة سلوكهم هو انسجامهم مع ملّة إبراهيم، باعتبار أن رسالة موسى وعيسى كانت سائرة في هذا الاتجاه، فإذا كان هناك انحراف عنها، فمعنى ذلك أنهم يسيرون على غير هدى هاتين الرسالتين.
3. ثم يعود الحديث عن الإسلام باعتباره الصفة التي لا تعادلها صفة والميزة التي لا تقاربها ميزة في ما تشتمل عليه من المعاني الكبيرة التي ترفع مستوى الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنها تمثل خط العبادة لله سبحانه في أصدق معانيها وأوضح خطوطها في استقامة وإيمان، ثم يواجههم بالحقيقة التي أرادوا أن يتهربوا منها، وهي أن الله لا يكون لجماعة دون جماعة، ولا لشعب دون شعب، بل الخلق كلهم متساوون أمامه في عبوديتهم له وربوبيته لهم، فلا معنى لمحاجّتهم في الله على أساس ما يزعمونه من العلاقة الخاصة التي تربطهم به وتشدهم إليه في ما يعبّرون عنه بأنهم (شعب الله المختار)، وفي ما يتخيلونه من أن الطريق إليه لا بد من أن تمر بهم، فهو ﴿رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾
4. في هذا الاتجاه تتحرك الحقيقة الثانية من خلال الحقيقة الأولى، وهي أن الأعمال هي القاعدة التي ترتكز عليها العلاقة القوية بين العبد وربه ليواجه فيها الإنسان مسئوليته أمام الله من خلالها من دون أن يتحمل أحد مسئولية أحد في عمله، فلكلّ عمله، ولكلّ مسئوليته في هذا الاتجاه، ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ ثم يحدّد الموقف الحق الذي يلتزم به المسلمون كطابع بارز للشخصية التي تتميز بالإخلاص لله في النية والعمل.
5. ويعود الحديث من جديد إلى شخصية إبراهيم، فاليهود يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ بأن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى يعتبرون ـ أو هكذا يوحي أسلوبهم العملي ـ أن إبراهيم كان نصرانيا.. ويحسم القرآن الموقف بإثارة التساؤل في معرض الإنكار، فينفذ إلى مواجهة معلوماتهم عن إبراهيم ليتساءل في إنكار: هل أنتم أعلم أم الله؟.. ومن البديهي أنهم لا يستطيعون إلا الإقرار بأن الله أعلم من خلال إيمانهم الذي يزعمون.. وفي هذا الجو يتحرك الموقف من حركة الرسالة في الحوار، ليوحي بأن الله قد عرّفنا، بما لا يقترب منه الشك، أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، بل كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين.
6. ثم يواجههم بالحقيقة الصارخة، وهي أنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، ولكنهم يكتمون هذه المعرفة ويمتنعون عن أداء الشهادة وهذا يعتبر من أشد أنواع الظلم، لأنه تمرّد على الله، وظلم للحقيقة واعتداء على الناس وعلى الحياة. ثم يختم الآية بما يشبه التهديد، فإن الله ليس بغافل عما يعملون، فهو الرقيب عليهم في الدنيا والحاكم عليهم في يوم القيامة.
7. ووصل القصة إلى نهايتها لتواجه المسلمين بالفكرة الأساسية التي يتحرك في نطاقها التاريخ في حياة الناس، فإن التاريخ لا يحمّل الفئات اللاحقة مسئولية الفئات التي عاشت فيه، كما أن الفئات السابقة لا تتحمل وزر الفئات اللاحقة، لأن المسؤولية لا تتحرك إلا في المجال الذي يتحرك فيه العمل وتنطلق معه الحياة.. أمّا التاريخ، فهو كتاب الحياة الذي يحمل الدروس والعبر من جيل لآخر، لتعيش الأجيال الفكرة الحقة من خلال تجاربها وتجارب الآخرين في السير الواعي لحركة الحضارات.
8. ﴿وَقَالُوا﴾ أي اليهود والنصارى: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، فقد انطلق كل فريق من أتباع هذين الدينين ليؤكد صحة دينه في مقابل الإسلام الذي دخل فيه الناس هناك، على أساس أن اليهودية من وجهة نظر اليهود، أو النصرانية من وجهة نظر النصارى، هي الوسيلة الوحيدة التي تقود إلى الهدى في قضايا الدنيا والآخرة انطلاقا من دعواهم بأنهم هم الذين يمثلون شريعة إبراهيم في خصوصياتهم العقيدية والشرعية والأخلاقية التي أصبحت جزءا من هذا الدين أو ذاك، مما يختلف عن خصوصيات الدين الإسلامي الذي جاء به النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
9. ﴿قُلْ﴾ يا محمد، أو من يقف مثل هذا الموقف في ساحة المواجهة من المسلمين: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ التي تمثل الملّة المستقيمة على منهج الله في امتداد وحيه، المائلة عن كل الاتجاهات الباطلة من الأديان المنحرفة بسبب الأهواء والأغراض والأطماع الإنسانية.. ومن المبادئ التي أبدعها الإنسان من فكره الذاتي وتجربته الشخصية مما لا علاقة له بالله ورسله.
10. اختلف المفسرون في تفسير (الحنيفية) التي هي ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ بين تفسير يحصرها في دائرة تشريع معين، وبين قائل: بأنها حجّ البيت كما عن ابن عباس والحسن ومجاهد، وبين قائل: إنها الطهارة وهي عشرة: خمسة في الرأس، وخمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر (جزّه وتوفيره) والسواك والخلال، وأما التي في البدن، فأخذ الشهر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولن تنسخ إلى يوم القيامة، كما عن تفسير القمي، وبين تفسير يتسع بها إلى أي موقع يمثل (اتباع الحق) أو ينفتح بها على الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية والإذعان بالعبودية، مما يختزن في داخل مفهومه كل المفردات التي تفرضها حركة العبودية في الإنسان أمام الربوبية الإلهية.. وهناك القول الذي يتسع لكل الشريعة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام، مما يتصل بالحياة الروحية العقيدية أو الحياة العملية السلوكية، وكما جاء عن الإمام محمد الباقر عليه السّلام: (ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب، وقلم الأظفار، والختان).. والظاهر أن القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى المنهج الرسالي الذي يتصل بالحياة الروحية والمادية للإنسان مما يعتقده أو يعمله أو ينفتح عليه، والله العالم.
11. هكذا يريد الله للنبي ولمن اتبعه أن يؤكد لهم أن ملّة إبراهيم الحنيفية هي الملة الجامعة التي تمثل الخط العريض المستقيم للهدى، فمن اتبعها اهتدى، وليس الهدى بالأهواء والخصوصيات الذاتية أو الفئوية التي تؤدي إلى التفسيرات والتأويلات والتخييلات التي تتحول إلى طوائف ومذاهب، فقد أنزل الله على إبراهيم رسالته التوحيدية التي تعبّر عن توحيد الله في كل شيء، في العقيدة والشريعة والعبادة والحياة مما فصله الأنبياء من بعده، من خلال وحي الله الذي يعطي كل مرحلة حاجاتها، التي مهما تنوّعت فإنها تلتقي على التوحيد الذي آمن به إبراهيم.
12. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فلا مجال لكل هذه الزوائد التي استحدثوها مما قد يلتقي بالشرك من قريب أو من بعيد، فإن كل ما عدا الله مما يلتزمه الناس هو عنوان من عناوين الشرك.
13. ﴿قُولُوا﴾ أيها المسلمون لكل الذين يجادلونكم في الدين: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ﴾ فنحن نؤمن بالله الواحد ونؤمن بكل ما أنزل إلينا وإلى هؤلاء ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى﴾ من التوراة والإنجيل ﴿وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ مما أنزله الله عليهم وكلّفهم به.
14. ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾، لأننا نؤمن بالرسل كلهم مهما اختلفت خصوصياتهم ومراحلهم، كما نؤمن بالكتاب كلّه مهما تنوعت آياته، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، فإننا نسلم إلى الله كل حياتنا وكل أمورنا، لأن الإسلام هو دين الله في كل مواقعه في حركة الرسل في التاريخ.
15. هذه الآية الكريمة تمثل أنموذجا لأسلوب الحوار في الإسلام، وخلاصته البحث عن مواطن اللقاء في بداية الحديث من أجل الإيحاء بوجود قاعدة مشتركة للفكر المتنوع، وأرض مشتركة للموقف المتعدد، مما يوحي للآخر بأنك إذا اختلفت معه في إيمانك بما أنزل إليك من القرآن، فإنك لن تختلف معه في إيمانك بما يؤمن به ـ من ناحية المبدأ ـ من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، وتعاليم النبوّات المشتركة بين الأديان من خلال الأنبياء الذين يلتقون على رسالات الله، فيلتقي المؤمنون على الإيمان بهم.
16. هذا الأسلوب من أوضح الأساليب وأكثرها حكمة وانفتاحا، لأنه يخلق جوّا نفسيا ملائما يؤدي إلى حالة حوارية حميمة تفتح العقل من خلال النافذة المطلة على القلب، باعتبار أن أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو الطريق الذي يؤدي إلى قلبه، لأنه إذا أحبّك أحبّ فكرك، وإذا انفتح عليك ـ من الناحية الشعورية ـ انفتح عليك من الناحية العقلية.
17. لعلّ مشكلة الكثيرين من الناس أنهم يركزون على مواقع الخلاف التي تغلق القلوب بدلا من مواقع الوفاق التي تفتحها، لأنهم لا يعيشون المحبة للآخرين في الرسالة، بل ينطلقون بها من موقع العقدة والحقد والانفعال، حتى أعطوا الحقد ـ الذي لا قداسة له ـ معنى القداسة.
18. سؤال وإشكال: هناك اختلاف في التعبير في الآية، فقد عبّر عما عندنا وعمّا عند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال وعند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء، كما أشار إلى ذلك في تفسير الميزان، فهل هناك نكتة في ذلك؟ والجواب: يذكر العلامة الطباطبائي أن النكتة هي أن اليهود والنصارى يعتبرون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، والنصارى من النصارى، واعتقادهم أن الملة الحقة من النصرانية أو اليهودية هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما أوتي إبراهيم وإسماعيل، لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال، واحتمل أن يكون ما أوتوه هو الذي أوتيه موسى وعيسى عليهما السّلام نسب إليهم بحكم التبعية، كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل، فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، وأما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.. وخلاصة الفكرة هي أن المطلوب هو بيان استقلالية إبراهيم ومن بعده عن موسى وعيسى، مما يفرض اختلاف التعبير الذي يوحي بتعدد المواقع، لكننا نلاحظ:
أ. أنّ ذلك لا يدلّ على اختلاف فريق الإيتاء وفريق الإنزال في طبيعة الرسالة، فلا مانع من أن يكون ما أوتيه إبراهيم وفريقه هو نفسه الذي أوتيه موسى وعيسى مع إنزال الوحي على هذا أو ذاك مع وحدة المضمون الرسالي في تنوّع الخصائص، وهذا ما يريد الله تأكيده في القرآن من الإيمان بالكتاب كله وبالرسل كلهم الذين يلتقون على الخطوط العامة، حيث يكون الإيمان بأحدهم إيمانا بالآخر.
ب. مع ملاحظة أخرى، وهي أن فريق إبراهيم لم يعلم أنه أوحي إليه غير ما أنزل على إبراهيم، ولا سيما الأسباط الذين ذكر أن المراد بهم يوسف وإخوته الذين لم يكونوا أنبياء، لأن الذين تآمروا على يوسف لا يمكن أن يكونوا في مستوى النبوة، فيكون الإيتاء لهم باعتبار أنهم من الأمّة التي يؤتى نبيّها الرسالة التي تؤمن بها. إننا لا نرى في اختلاف التعبير إلا التنوّع فيه الذي يمنح الكلام حيويّة وحركة مع اتّحاد الفكرة.
19. ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ من الشمولية في الإيمان للأنبياء كلهم وللكتاب كله، ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ إلى الطريق الحق الذي يؤدي بهم إلى الجنة، وربما كان التعبير بكلمة (مثل) ـ مع أن المقصود المضمون الإيماني نفسه بالمحافظة على شخصية المحاور الآخر الذي لا يريد أن يلغي ذاته بالسقوط تحت تأثير الآخر ـ للإيحاء بأن المسألة مسألة توافق في الرأي الواحد بحيث يصدر من كل واحد منهما بشكل مستقلّ، على نهج توارد الأفكار أو الخواطر.
20. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن الإيمان وأنكروا مضمونه الحق وجحدوه، ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ ونزاع لإثارة الجدال المعقّد الذي لا يريد أن يصل بالحديث إلى نتيجة حاسمة، بل يريد أن يربك الأجواء بالمزيد من عناصر الفرقة والاختلاف، للإبقاء على خط الكفر من دون أن يتحوّل السائرون عليه إلى خط الإيمان. ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ ويحميك من شرّهم وينصرك عليهم لتكون كلمتك التي هي كلمة الله هي العليا، وكلمتهم التي هي كلمة الشيطان السفلى. ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ الذي يسمع أقوالهم ويعلم أعمالهم، فلن يصلوا إليك بسوء ما دمت في حماية الله ورعايته.
21. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ إنه الإيمان الذي يمنح صاحبه اللون المميز، الذي يطبع الذات بطابعه في جميع خصائصها، تماما كما هو الصبغ عندما يطبع الثوب أو الجسد فيلوّن كلّ جزئياته ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ لأنه الخالق الذي يعطي الإنسان وجوده ويمنحه أفضل الامتيازات المعنوية والروحية التي تمنحه حسنا وإشراقا.
22. ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ وسائرون على النهج الذي أرادنا أن ننهجه في الحياة في تأكيد معنى عبوديتنا له التي هي سر التوحيد والفطرة التي تنطلق في الذات بالإسلام في جميع إيحاءاتها وألوانها، وذلك خلافا لمن يرون الصباغ أمرا ماديا، كما هي المعمودية لدى النصارى، في دخول الإنسان في دين الله.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/48.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. التمحور والانغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحقّ لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم الى معتقداته.
2. الآية الاولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾، فيردّ عليهم القرآن مؤكدا أن الأديان المحرّفة لا تستطيع إطلاقا أن تهدي الإنسان ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، التدين الخالص هو اتباع الخط التوحيدي الخالص غير المشوب بالشرك، ورعاية هذا الأساس أهم معيار للتمييز بين الأديان الصحيحة والأديان المنحرفة.
3. يعلمنا الإسلام أن لا نفرق بين الرسل، وأن نحترم رسالاتهم، لأن المبادئ الأساسية للأديان الحقّة واحدة، موسى وعيسى كانا أيضا من أتباع ملة إبراهيم.. أي من أتباع الدين التوحيدي الخالص من الشرك، وإن حرّف المغرضون من أتباعهما ما جاءا به، وجعلوه مشوبا بالشرك، وكلامنا هذا لا يتنافى طبعا مع إيماننا بأن البشرية يجب أن تتبع آخر الأديان السماوية أي الإسلام.
4. الآية التالية تأمر المسلمين أن ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، أي لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النّبي أو ذاك، بل يجب أن ننظر إلى الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعا رسل ربّ العالمين ومعلّمي البشرية، قد أدّى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم واحدا، وهو هداية النّاس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.
5. ثم يضيف القرآن قائلا: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾، ولو تخلى هؤلاء عن عنصريتهم وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء الله فقد اهتدوا أيضا، وإلّا فقد ضلوا سواء السبيل.
6. (الشّقاق) النزاع والحرب، وفسرت في الآية بالكفر وبالضلال، وبالابتعاد عن الحق والاتجاه نحو الباطل، وكل هذه المعاني تعود إلى حقيقة واحدة.
7. ذكر بعض المفسرين أن الآية السابقة التي ساوت بين عيسى وسائر الأنبياء، أثارت اعتراض جمع من النصارى وقالوا: إن عيسى ليس كسائر الأنبياء، بل هو ابن الله، فنزلت هذه الآية لتؤكد على انحراف هؤلاء وأنهم في شقاق، ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وهُوَالسَّمِيعُ} لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بمؤامراتهم.
8. في مواضع عديدة أكد القرآن على أن هدف الأنبياء واحد، ولا انفصال في خط النبوات، فكل الأنبياء عليهم السّلام يصدرون عن منبع الوحي الإلهي، ولذلك يوصي القرآن باحترام جميع الأنبياء، لكن هذا لا يمنع ـ كما قلنا ـ أن تنسخ كلّ رسالة جديدة تنزل من الله سبحانه الرسالات السابقة، والإسلام خاتم الرسالات السماوية.
9. أنبياء الله كالمعلمين، ربّى كل منهم البشرية في فصل دراسي، وبعد انتهاء المرحلة الدراسية الخاصة به يسلم المجتمع البشري إلى معلم آخر ليجتاز الأفراد مرحلة دراسية أعلى، ومن هنا فالمجتمع البشري مكلّف بتحمل مسئوليات ما يأتي به آخر نبي، وهذا لا يتعارض مع كون سائر الأنبياء على حق.
10. الأسباط جمع سبط، والأسباط أحفاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا، أو أنهم قبائل من بني إسرائيل، والسّبط في اللغة: الجماعة يرجعون إلى أب واحد، والسبط (على وزن درج) قد يأتي بمعنى: الشجر، والأسباط الذين هم من شجرة واحدة، ويقال: سبط عليه العطاء، إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض.. والمقصود من الأسباط ـ إذن ـ ليس أبناء يعقوب، فهؤلاء ارتكبوا جميعا ذنبا بحق أخيهم ولا يصلحون للنبوّة، بل المقصود قبائل بني إسرائيل، أو أحفاد يعقوب ممن كان لهم أنبياء، ولما كان بين هؤلاء الأسباط أنبياء، فالآية عدتهم بين أولئك الذين نزلت عليهم آيات الله.
11. الحنيف، من مادة حنف: أي مال عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، وبه سميت الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية، وعكس ذلك (جنف) أي مال عن الطريق المستقيم إلى الانحراف، ولهذا السبب كان أحد معاني الحنيف هو المستقيم والذي لا عوج فيه.
12. للمفسرين آراء في الحنيفية، منها حج بيت الله، وأتباع الحق، وأتباع إبراهيم، والإخلاص في العمل، وكلها ترجع إلى معنى عام وشامل، ما ذكره المفسرون مصاديق لذلك.
13. بعد الدّعوة التي وجهتها الآيات السابقة لاتّباع الأديان بشأن انتهاج طريق جميع الأنبياء، قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ يأمرهم جميعا بترك كل صبغة، أي دين، غير (صبغة الله).. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾!؟ أي لا أحسن من الله صبغة، ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ في اتباع ملّة إبراهيم التي هي صبغة الله، وقيل المعنى: من نحن له عابدون يجب أن تتبع صبغته، لا ما صبغنا عليه الآباء والأجداد.
14. بهذا أمر القرآن بالتخلي عن الصبغات العنصرية والطائفية والذاتية وعن كل الصّبغات المفرّقة، والاتّجاه نحو صبغة الله.
15. ذكر المفسرون أن النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيرا للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم! القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي، ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة، وتصطبغوا بصبغة الله، لتطهر روحكم.
16. ما أجمل تعبير (الصبغة) في هذه الآية! وما أروع هذه الدعوة إلى الاصطباغ بصبغة الله! لو حدث ذلك.. لو اختارت البشرية صبغة الله.. أي صبغة الطهر والتقوى والعدالة والمساواة والأخوّة.. صبغة التوحيد والإخلاص.. لاستطاعت أن تستأصل جذور الشرك والنفاق والتفرقة.. إنّها في الحقيقة الصبغة التي لا لون بها وتطهر الإنسان من جميع الألوان، وعن الإمام الصادق عليه السّلام: أن (صبغة الله) هي الإسلام، وهذا إشارة إلى ما ذكرناه.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/393.
59. احتجاجات الكاتمين الظالمين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈59⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 139 ـ 141]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ أتخاصموننا في الله!؟(1).
2. روي أنه قال: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أتجادلوننا!؟(2).
3. روي أنه قال: ﴿مَا كَسَبَت﴾ من العمل(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٥.
(2) ابن جرير: ٢/٦٠٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٤١.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه قال: زعم اليهود والنصارى أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، وإنما كانت اليهودية بعد هؤلاء بزمان، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، هم اليهود والنصارى، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، وكتموا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يعلمون أنه رسول الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل أنه ليس يهوديا ولا نصرانيا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٦.
أبو العالية:
روي عن أبو العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنه قال: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَت﴾ يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَت﴾، يعني: ما عملت من خير أو شر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنه قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ في قول يهود لإبراهيم وإسمعيل ومن ذكر معهما: إنهم كانوا يهودا أو نصارى، فيقول الله لهم: لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم، وقد علم الله أنهم كاذبون(1).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنه قال: كانت شهادة الله الذي كتموا أنهم كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم أن الدين الإسلام، وأن محمدا رسول الله، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقروا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، فذلك ما كتموا من شهادة الله، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنه قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ الآية: أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمدا وهم يعلمون أنه رسول الله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦١٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦١١.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنه قال: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُم﴾ لنا ديننا، ولكم دينكم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُل﴾ لهم يا محمد: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ﴾ بدينهم ﴿أَمِ اللَّهُ﴾!؟ ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ يقول: فلا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، فكتموا تلك الشهادة التي عندهم، وذلك أن الله تعالى بين أمر محمد في التوراة والإنجيل، وكتموا تلك الشهادة التي عندهم، وذلك قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، يعني: أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنه قال: فلما قالوا: إن إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه كانوا على ديننا؛ قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ يعني: عصبة، يعني: إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه ﴿قَدْ خَلَت﴾ يعني: قد مضت، ﴿لَهَا مَا كَسَبَت﴾ يعني: من العمل، يعني: من الدين، ﴿وَلَكُمُ﴾ معشر اليهود والنصارى ﴿مَا كَسَبْتُم﴾ من العمل، يعني: من الدين، ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أتخاصموننا!؟(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ هم يهود يسألون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٠٩.
(2) ابن جرير: ٢/٦١٣.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ﴾ وهم اثنا عشر سبطاً ولد يعقوب والسبط الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد والسبط في اللغة الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض.
2. ﴿كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ يعني اليهود تزعم أن هؤلاء على ما كانوا هوداً والنصارى تزعم أنهم كانوا نصارى فرد الله عليهم ذلك ثم قال ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ هم اليهود كتموا ما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/87.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾:
أ. روى عن ابن عباس أنه قال قالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أولى بالله منكم، فأنزل الله في ذلك: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾.
ب. وقيل: في الله، يعنى: في دين الله، أي أتحاجون وتخاصمون في دين الله!؟
2. ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي أتحاجّون في الله مع علمكم وإقراركم أنه ربّنا وربكم بقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: 87]
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾:
أ. قيل: لنا ديننا ولكم دينكم؛ كقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].
ب. ويحتمل: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾ لا تسألون أنتم عنها، ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ لا نسأل نحن عن أعمالكم؛ كقوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134، 141].
﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ دينا وعملا، لا نشرك فيه غيره.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾
أ. قيل: بل تقولون.
ب. وقيل: على الاستفهام في الظاهر: أيقولون، لكنه على الرد والإنكار عليهم، وذلك أن اليهود قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا هودا أو نصارى، قال الله تعالى: قل يا محمد: أنتم أعلم بدينهم أم الله، مع إقراركم أنه ربكم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!؟ ومعنى الاستفهام: هو تقرير ما قالوه، كالرد عليهم والإنكار.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾:
أ. قيل: الشهادة التي عنده: علمهم أنهم كانوا مسلمين، ولم يكونوا على دينهم.
ب. وقيل: الشهادة التي عندهم بالإسلام: أنه دين الله وأنه حق.
ج. وقيل: الشهادة التي كانت عندهم: محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ بيّنه الله في كتابهم وأخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187] فكتموه وكذبوه.
د. وقيل: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ في قول اليهود لإبراهيم عليه السلام وما ذكر من الأنبياء كانوا هودا أو نصارى؛ فيقول الله ـ عزّ وجل ـ: لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك، وقد علم الله أنكم كاذبون.
6. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾: بنو يعقوب؛ سموا أسباطا؛ لأنه ولد لكل رجل منهم أمّة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: خرج على الوعيد، أي لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون.
ب. ويجوز أن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون، بل على علم بما يعملون خلقهم؛ ليعلم أن ليس له في شيء من عمل الخلق له حاجة؛ ليخلقهم على رجاء النفع له، ولا قوة إلا بالله، خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/580.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يقول لهؤلاء الكفار ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ ومعناه: تخاصموننا وتجادلوننا فيه وهو تعالى الذي خلقنا وأنعم علينا، وخلقكم وأنعم عليكم.
2. اختلف في محاجتهم له صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أ. قيل: انهم زعموا انهم أولى بالحق، لأنهم راسخون في العلم، وفي الدين، لتقدم النبوة فيهم، والكتاب، فهم أولى بأن يكون الرسول منهم.
ب. وقال قوم: بل قالوا: نحن أحق بالإيمان، لأنا لسنا من العرب الذين عبدوا الأوثان، فبين الله تعالى وجه الحجة عليهم انه ربنا وربهم، فهو أعلم بتدبيرنا وتدبيرهم، ومصلحتنا ومصلحتهم، وانه لا حجة علينا في اجرام غيرنا ومعاصيهم،
ج. وقال الحسن: كانت محاجتهم أن قالوا: نحن اولى بالله منكم، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وقالوا ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ وغرضهم بذلك الاحتجاج بان الدين ينبغي ان يلتمس من جهتهم، وأن النبوة اولى أن تكون فيهم وليس الامر على ما ظنوا، لان ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ومن الذي يقوم بأعبائها، ويتحملها على وجه يكون أصلح للخلق واولى بتدبيرهم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾:
أ. قيل: معناه الإنكار لاحتجاجهم بأعمالهم، لأنهم مشركون، ونحن له مخلصون.
ب. وقيل: معناه الإنكار للاحتجاج بعبادة العرب للأوثان، فقيل: لا حجة في ذلك إذ لكل احد عمله، لا يؤخذ بجرم غيره.
4. الاعمال والافعال والأحداث نظائر، والإخلاص والافراد والاختصاص نظائر وضد الخالص المشوب.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾:
أ. قيل: فيه احتجاج بأن المخلص لله اولى بالحق من المشرك به.
ب. وقيل معناه: الرد عليهم بما احتجوا به من عبادة العرب للأوثان، بانه لا عيب علينا في ذلك إذا كنا مخلصين، كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من الاسلاف إذا اعتقدتم الإنكار عليهم، بأنهم على الاشراك بالله بالتشبيه له، والكفر بآياته.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾:
أ. قال ابن عباس: معنى ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أتجادلوننا.
ب. وقال مجاهد: معناه أتخاصموننا، وبه قال ابن زيد.
7. معنى ﴿فِي اللَّهِ﴾ في دين الله.
8. الالف صورتها الاستفهام، ومعناه الإنكار ويجوز في ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ ثلاثة أوجه من العربية: الاظهار، والإدغام، والحذف.. فالإدغام تشديد النون، والحذف تخفيف النون الواحدة.
9. ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (أم تقولون) بالتاء، ووافقهم ابن عامر ورويس، الباقون بالياء:
أ. ومن قرأ بالياء جعله متصلا بما قبله من الاستفهام كأنه قال: (اتحاجوننا في الله أم تقولون ان الأنبياء كانوا على دينكم)، والتقدير بأي الحجتين متعلقون في أمرنا: أبا لتوحيد، فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء، فنحن لذلك متبعون.
ب. ومن قرأ بالياء، فالوجه فيه انه عدل الى حجاج آخر عن الحجاج الاول، كأنه قال: (بل أتقولون ان الأنبياء من قبل ان تنزل التوراة والإنجيل كانوا هوداً أو نصارى)، ويكون قد اعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم، كما يقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنعة، فيقول: قد قامت عليه الحجة أم يقول بابطال النظر المؤدي الى المعرفة.
10. أنكر الطبري القراءة بالياء في قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾، وقال هي شاذة لا تجوز القراءة بها وليس الامر على ما ظن، بل وجهها ما بيناه، ومعنى الآية: الاحتجاج عليهم في قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ فقيل لهم: كيف ذلك، والامر بخلافه من وجهين:
أ. أحدهما ـ ما اخبر به نبينا عليه السلام مع ظهور المعجز الدال على صدقه.
ب. والآخر ما في التوراة والإنجيل من أنهم كانوا على الحنيفية، لان عندهم اسم اليهودية يقع على من تمسك بشريعة التوراة، والنصرانية اسم لمن تمسك بشريعة الإنجيل، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾
ج. وقيل ايضاً ان معناه التوبيخ لأهل الكتاب بادعائهم عليهم خلاف الإسلام بغير حجة ولا برهان.
11. ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ صورته صورة الاستفهام، والمراد به التوبيخ، ومثله قوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾
12. الأعلم والأعرف والأدري بمعنى واحد، والأظلم والأجور والأعتى نظائر.
13. سؤال وإشكال: لم قال ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ وقد كانوا يعلمونه وكتموه، وإنما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم، والجواب: من قال انهم كانوا على ظن وتوهم: فوجه الكلام على قوله واضح، ومن قال كانوا يعلمون ذلك وإنما كانوا يجحدونه يقول: معناه ان منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم ان الله اخبر به فما ينفعه ذلك مع إقراره بان الله اعلم منه، وانه لا يخفى عليه شيء، لان ما دل على انه اعلم هو الدال على انه لا يخفى عليه شيء، وهو انه عالم لنفسه ويعلم جميع المعلومات.
14. اختلف في معنى ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ على ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ انها بمعنى ابتداء الغاية، لان الله تعالى ابتدأ الشهادة في التوراة والإنجيل بصحة النبوة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون ابتداء الشهادة بأن الأنبياء كانوا على الحنيفية، فهذه شهادة من الله عندهم.
ب. الثاني ـ كتمها من عباد الله.
ج. الثالث ـ ما حكاه البلخي: انه بمنزلة من أظلم ممن يجوز على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي: أي فلا احد أظلم منه، والمعنى انه يلزمكم ان لا أحد أظلم من الله، تعالى عن ذلك إذ ما يكتم ما فيه الغرور للعباد، ليوقعهم في الضلال وهو الغني بنفسه الذي لا يجوز أن يلحقه المنافع والمضار جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وهذا الذي ذكره يلزم اليهود والجهال، كما حكى الله تعالى عنهم وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا.
15. في الشهادة التي كتموها قولان:
أ. أحدهما ـ قال مجاهد والربيع وابن أبي نجيح: انهم كتموا الشهادة بأنهم كانوا على الإسلام.
ب. الثاني ـ قال الحسن وقتادة وابن زيد واختاره الجبائي: انهم كتموا الشهادة بالبشارة التي عندهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال الحسن: كتموا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه لأن في دينه ان ابراهيم كان مسلما ولم يك من المشركين.
16. الاحتجاج عليهم بقوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ على وجه الإلزام لهم بالجهالة كأنه قيل: إذا زعمتم أن هؤلاء كانوا يهوداً أو نصارى، وقد اخبر الله بخلاف ذلك عنهم فقد لزمكم أن تكونوا أعلم من الله تعالى، وهذا غاية الخزي لمن بلغه.
17. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الغفلة والسهو والسنة نظائر ومعنى الآية يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله تعالى.
ب. الثاني ـ ان يكون على عمومه والمعنى: أنه لا يخفى عليه شيء من المعلومات لا صغيرها، ولا كبيرها فكونوا على حذر من الجزاء على السيئات بما تستحقونه من العقاب، وكتم وأخفى وأسر معناها واحد والبينة والحجة واحد.
18. قيل في تكرار قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} قولان:
أ. أحدهما: انه عنى بالأول: ابراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء، والثاني ـ عنى به أسلافهم من آبائهم الذين هم على ملتهم.
ب. الثاني: ان الجواب إذا اختلفت أوقاته، فكان الثاني في غير موطن الاول، وكان بعد مدة من وقوع الاول بحسب ما اقتضاه الحال، لم يكن ذلك معيباً عند أهل اللغة، ولا عند العقلاء.
19. اختلف في معنى الاعتراض عليهم بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾:
أ. قيل: انه إذا لم تشكوا أن يكون فرضهم غير فرض الامة التي قد خلت قبلكم، ولا تحتجوا بأنه لا يجوز أن يخالفوا عليه، ولو سلم لكم أنهم كانوا على ما تذكرونه ما جاز لكم أن تتركوا ما نقل لكم الله عنه على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ لله تعالى ان ينسخ من الشريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة، وعموم المصلحة.
ب. وقيل: ان ذلك ورد مورد الوعظ لهم بانه: إذا كان لا يؤخذ الإنسان إلا بعمله فينبغي ان تحذروا على أنفسكم، وتبادروا بما يلزمكم، ولا تتكلوا على فضائل الاباء والأجداد فان ذلك لا ينفعكم إذا خالفتم امر الله فيما أوجب عليكم.
20. اختلف في المعني بقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾:
أ. على قول قتادة والربيع: ابراهيم عليه السلام ومن ذكر معه.
ب. وعلى قول الجبائي، وغيره: من سلف من آبائهم الذين كانوا على ملتهم اليهودية والنصرانية.
21. الأمة: الجماعة التي تؤم جهة واحدة كأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تؤم العمل على ما دعا اليه، وكذلك أمم سائر الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم.
22. الخلاء: الفراغ يقال: فرغ من عمله، وفرغ من مكانه، وإنما قيل لما مضى خلا، لأنه خلا منه مكانه.
23. الكسب: الفعل الذي يجرّ لفاعله نفعاً أو يدفع به ضرراً، وإنما قيل كسب السيئة، لأنه اجلب النفع عاجلا.
24. {وَلا تُسْئَلُونَ} معناه لا تطالبون، والسؤال الطلب، وهو ايضاً الاخبار الذي اقتضاه ما تقدم من الكلام أي لا يقال لكم لم عصي آباءكم، وإنما يقال لكم لم عصيتم ولم ظلمتم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/487.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحِجَاجُ والجدال والخصام نظائر، والمحاجَّة مفاعلة من الحجاج.
ب. الإخلاص والإفراد والاختصاص نظائر، ونقيض الخالص الشائب.
ج. العمل والفعل نظائر، والفعل: ما حدث عن قادر.
د. الأعلم والأعرف: الأكثر معرفة وعلمًا.
هـ. الأظلم والأجور: الأشد ظلمًا، و﴿افْعَلْ﴾ إنما يستعمل على وجهين بمعنى الزيادة، كقولهم: أفضل، وبمعنى الصفة كقولهم: أسود، ويصح معناه فيما يقع فيه التزايد، كقولهم: أجسم وأطول وأحسن، وقد قال مشايخنا: الصفات على ثلاثة أضرب: صفة ذات، وصفة تحصل بالفاعل، وصفة تحصل بالمعنى، فالأول ككونه جوهرا أسود، وهذا لا يصح فيه التزايد، والثاني: كالوجود، ولا يصح فيه التزايد أيضًا، فأما الثالث: فعلى ضربين كل معنى له مثل يوجب صفة، فالتزايد في تلك الصفة تصح كالألوان ونحوها، وما لا مثل له لا يصح فيه التزايد، واختلفوا فقال مشايخنا: يجوز وجود مثلين في محل واحد، فعند ذلك يقع التزايد، وقال أبو القاسم: لا يجوز ذلك.
و. الغفلة والسهو نظائر، وهو ذهاب المعنى عن النفس، والسهو: فَقْدُ علوم ضرورية، وليس بمعنى في نفسه، وعن بعضهم: إنه معنى، فالأول قول أبي هاشم في بعض المواضع، واختيار أبي إسحاق وابن عباس والقاضي، والثاني: قول المشايخ، واختلفوا فقيل: إنه مقدور لله تعالى فقط، عن أكثر المشايخ، وعن أبي عبد الله أنه مقدور للعباد، إلا أنه لا داعي له إلى فعله.
ز. الشهادة نقيض الغيبة، ومنه أخذت الشهادة.
ح. الأمة: الجماعة، وأصله القصد، كأنهم قصدوا أمرًا واحدًا.
ط. خلت: مضت، وأصله من الخلاء، وهو المكان الخالي.
ي. الكسب: الفعل يُجْتَلَبُ به نفع أو يدفع به ضرر، وما يقوله الْمُجْبِرَة في الكسب لا يعقل؛ لأن عندهم أنه تعالى أحدث أفعالهم؛ وأوجدها بجميع صفاتها، فما الكسب وما تأثير العبد؟
2. ثم بَيَّنَ تعالى ما يبطل شبه القوم فقال تعالى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهَؤُلَاءِ اليهود وغيرهم: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾:
أ. قيل: أتجادلوننا، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أتخاصموننا، عن مجاهد وابن زيد.
3. اختلفوا في تلك المحاجة:
أ. قيل: كان ذلك قولهم: إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم.
ب. وقيل: هي قولهم: نحن أحق بالإيمان من العرب الَّذِينَ عبدوا الأوثان.
ج. وقيل: هي قوله: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ فَبَيَّنَ تعالى أنه أعلم بتقدير خلقه، ومن يصلح للرسالة ومن هو أصلح فيبعثه.
د. وقيل: ﴿فِي الله﴾ أي في دينه.
4. ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي خالقنا وخالقكم:
أ. قيل: هو خطاب لليهود والنصارى.
ب. وقيل: لمشركي العرب وكانوا يقرون بالخالق.
ج. وقيل: للجميع.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾:
أ. قيل: يعني ما علينا مضرة من أعمالكم، وما عليكم منفعة من أعمالنا، فضرر أعمالكم عليكم، ونفع أعمالنا لنا.
ب. وقيل: إنه إنكار لقولهم: إن العرب تعبد الأوثان، فذكر أنه لا حجة فيه؛ لأن كل أحد يؤخذ بعمله.
ج. وقيل: لنا ديننا، ولكم دينكم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾:
أ. قيل: أراد: موحدون.
ب. وقيل: نخلص العبادة له ولا نشرك.
ج. وقيل: المراد أن المخلص أولى بالحق من المشرك.
د. وقيل: هو رد عليهم في قولهم: إن العرب عبدة الأوثان، فكأنه قيل: لا عيب علينا في ذلك؛ إذ كنا مخلصين موحدين، كما لا عيب عليكم بفعل مَنْ عَبَدَ العجل منكم إذا أنكرتموه.
7. ثم ذكر ضربا آخر من الحِجَاجِ، فقال تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهَؤُلَاءِ الأنبياء: ﴿كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وفي هذا احتجاج عليهم من وجوه:
أ. أحدها: ما أخبر به صاحب المعجز.
ب. الثاني: ما ذكر في الكتابين أنهم كانوا على الحنيفية.
ج. الثالث: أن الكتاب أنزل بعدهم.
د. الرابع: أنهم ادعوا ذلك من غير برهان، فوبخهم الله تعالى بهذه الوجوه.
8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ يعني أنه أخبر بأنهم كانوا على الحنيفية، فزعموا أنهم كانوا يهودًا أو نصارى، فلزمكم أن تكونوا أعلم من الله، وهذا غاية الخزي، فقيل: معناه الله أعلم، وخبره أصدق، وقد أخبر أنهم كانوا مسلمين، عن أبي علي.
9. سؤال وإشكال: إنما يقال هذا فيمن لا يعلم، وهم عَلِمُوُه وكتموه، فكيف يصح الكلام؟ والجواب:
أ. من قال: إنهم على ظنٍّ وتوهم، فالكلام ظاهر.
ب. ومن قال: علموا وجحدوا معناه أن منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم منه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله﴾:
أ. قيل: من أظلم من هَؤُلَاءِ حيث كتموا شهادة لله عندهم، وهو أوجه، وهو قول أبي علي وأكثر المفسرين.
ب. وقيل: ومن أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها، وذلك نحو قولهم: (مَنْ أظْلَمُ ممن يَجُور على الفقير الضعيف من السلطان القوي)، وتقديره: يلزمكم أن لا أحد أظلم من الله إذ كتم شهادة عنده، وهو الغني بنفسه، يعني لو كانوا يهودًا لأخبر بذلك في معنى قول أبي القاسم وأبي مسلم.
ج. وقيل: كتم شهادة من عباد الله.
11. اختلفوا في تلك الشهادة التي كتموها:
أ. فقيل: كتموا الشهادة بأنهم كانوا على الإسلام، عن مجاهد والربيع.
ب. وقيل: كتموا الشهادة التي عندهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بصحة نبوته عن الحسن وقتادة وأبي علي.
12. ﴿عِنْدَهُ﴾ يعني يعلمه، ويلزمه أداؤه ﴿مِنَ الله﴾ أي من جهته؛ لأنه أوجب عليه إظهاره.
13. ثم أوعدهم على ذلك ما هو جامع لكل وعد، فقال: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾:
أ. يعني عالمًا بأعمالكم فكونوا على حذر.
ب. وقيل: ليس بغافل عما تعملون من كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها.
14. اختلفوا فيمن أريد بالآية من اليهود، قيل: علماؤهم، لأنهم كتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن الحسن، وقيل: جميع اليهود والنصارى.
15. لما حاجَّ الله تعالى اليهود في هَؤُلَاءِ الأنبياء عقبه بهذه الآية ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لوجوه:
أ. منها: وعظًا لهم وزجرًا حتى لا يتكلوا على فضل الآباء، فكل واحد يؤاخذ بعمله.
ب. ومنها: أنه بين أنه متى لم يستنكر أن يكون فرضكم غير فرضهم؛ لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح، فينقلكم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من ملة إلى ملة.
ج. ومنها: أنه لما ذكر حسن طريقتهم بَيَّنَ أن الحجاج لا يتم بذلك، بل كل إنسان مسؤول عن عمله، فلا عذر في ترك الحق، بأن يوهم أنه يتمسك بطريقة مَنْ تقدم؛ لأنهم أصابوا وأخطؤوا، ولا ينفع هَؤُلَاءِ ولا يضرهم؛ لئلا يتوهم أحد أن طريقة الدين التقليد.
16. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ يعني قل يا محمد لهم ما أوردته من البينات ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾:
أ. قيل: الإشارة بـ ﴿تِلْكَ﴾ إلى إبراهيم ومن ذكر معه، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: إلى من سلف من آبائهم الَّذِينَ كانوا على طريقتهم، عن أبي علي.
17. ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي لهم جزاء عملهم، ولكم جزاء عملكم ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ لأن كل أحد يسأل عن عمله.
18. سؤال وإشكال: لم كررت هذه الآية؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه عنى بالأول إبراهيم، ومن ذكر معه، وبالثاني: أسلاف اليهود، عن أبي علي.
ب. الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يعد معيبًا.
19. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن أحدًا لا ينتفع ولا يستضر في باب الدِّين بعمل غيره، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق؛ لأنه يؤاخذ بما خلق الله فيهم، ويبطل قولهم في أطفال المشركين، ويبطل قولهم بأن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار، واختلفوا فقيل: الآية منسوخة بآية السيف، عن الكلبي، وليس في الآية ما ينافي الجهاد حتى تحمل على النسخ.
ب. حظر كتمان كل شهادة ووجوب إقامتها؛ لأنه وإن تعلق بما قبله، فالمعتبر عموم اللفظ، فيدخل فيه كتمان العلوم والديانات التي أوجب الله تعالى إظهارها والدعاء إليها، ويدخل فيه الشهادات بالحقوق، ويدخل فيه الفتاوى.
ج. يدل قوله: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ على وعيد عظيم؛ لأنه نبه أنه عالم بسرهم وعلانيتهم، يجازي كل أحد بعمله.
د. أن أحدًا لا يؤخذ بذنب غيره، ولا يسأل إلا عن عمل نفسه، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في أطفال المشركين، وفي خلق الأفعال، وفي الكافر يحمل عليه ذنوب المسلمين.
هـ. أن التعلق بما تقدم لا يكون طريقًا للتوصل إلى الدين، وإنما الطريق اتباع الأدلة والنظر فيها، وفيه حيث على العمل.
20. قراءات:
أ. القراءة الظاهرة: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ بنونين. وعن بعضهم بنون واحدة. وقال الزجاج: ويجوز فيه ثلاثة أوجه: الإظهار، والإدغام، والحذف.
ب. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالتاء على المخاطبة، كأنه قيل: أتحاجوننا أم تقولون، وقرأ الباقون بالياء، على أنه إخبار عن اليهود والنصارى، فعلى الأول تقديره بأي الحجتين يتعلقون في أُمِرْنا بالتوحيد، فنحن موحدون، أمرنا باتباع دين الأنبياء، فنحن متبعون، وعلى الثاني: معناه الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول كأنه قيل: أتقولون: إن الأنبياء قبل نزول التوراة والإنجيل كانوا هودًا أو نصارى.
21. مسائل نحوية:
أ. الألف في: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ استفهام والمراد الإنكار، وقد يجيء ذلك بمعنى الإنكار، وبمعنى الإيجاب والتقرير.
ب. الألف في قوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ﴾ قيل: ألف استفهام، والمراد التوبيخ، ومثله: ﴿أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾.
ج. ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِمَّنْ كَتَمَ﴾ قيل: معناه ابتداء الغاية؛ لأنه تعالى ابتدأ الشهادة في التوراة والإنجيل، بصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجوز ابتداء الشهادة بأن الأنبياء كانوا على الحنيفية.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/612.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحجاج والجدال والخصام نظائر.
ب. الأعمال والأحداث والأفعال نظائر.
ج. الإخلاص والإفراد والاختصاص نظائر، وضد الخالص: المشوب.
د. الأعلم والأعرف والأدري بمعنى واحد.
هـ. الأظلم والأجور والأعتى نظائر، وأفعل هذه تستعمل بمعنى الزيادة، وإنما يصح معناه فيما يقع فيه التزايد كقولهم أفضل وأطول، وقد قال المحققون: الصفات على ثلاثة أضرب صفة ذات، وصفة تحصل بالفاعل، وصفة تحصل بالمعنى:
• فالأول: مثل كون الذات جوهرا أو سوادا وهذا لا يصح فيه التزايد.
• والثاني: كالوجود، ولا يصح فيه أيضا التزايد.
• والثالث: على ضربين أحدهما يصح فيه التزايد، وهو كل ما يوجبه معنى له مثل كالألوان والأكوان ونحوها والآخر: لا يصح فيه التزايد، وهو كل ما يوجبه معنى.
و. كتم وأخفى وأسر واحد.
ز. الغفلة والسهو والنسيان نظائر: وهو ذهاب المعنى عن النفس، والصحيح أن السهو ليس بمعنى، وإنما هو فقد علوم مخصوصة، فإن استمر به السهو مع صحة سمي جنونا، فإذا قارنه ضرب من الضعف، سمي إغماء، وإذا قارنه ضرب من الاسترخاء سمي نوما، فإن قارنه نوع من الطرب سمي سكرا، وإذا حصل السهو بعد علم سمي نسيانا.
2. أمر الله سبحانه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية، أن يقول لهؤلاء اليهود وغيرهم: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله﴾ ومعناه في دين الله أي: أتخاصموننا وتجادلوننا فيه، وهو سبحانه خالقنا، والمنعم علينا، وخالقكم والمنعم عليكم، واختلف في محاجتهم كيف كانت:
أ. فقيل: كانت محاجتهم للنبي عليه السلام، أنهم يزعمون أنهم أولى بالحق لتقدم النبوة فيهم والكتاب.
ب. وقيل: بل كانت محاجتهم أنهم قالوا: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان.
ج. وقيل: كانت محاجتهم أنهم قالوا: يا محمد! إن الأنبياء كانوا منا، ولم يكن من العرب نبي، فلو كنت نبيا لكنت منا.
د. وقال الحسن كانت محاجتهم أن قالوا (نحن أولى بالله منكم)، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وكان غرضهم بذلك أن الدين يلتمس من جهتهم وأن النبوة أولى أن تكون فيهم.
3. بين سبحانه أنه أعلم بتدبير خلقه بقوله: ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ أي: خالقنا وخالقكم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، ومن الذي يقوم بأعبائها ويتحملها على وجه يكون أصلح للخلق، وأولى بتدبيرهم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾:
أ. قيل: أي: لنا ديننا ولكم دينكم.
ب. وقيل: معناه ما علينا مضرة من أعمالكم، وما لكم منفعة من أعمالنا، فضرر أعمالكم عليكم، ونفع أعمالنا لنا.
ج. وقيل: إنه إنكار لقولهم إن العرب تعبد الأوثان، وبيان لأن لا حجة فيه، إذ كل مأخوذ بما كسبت يداه، ولا يؤخذ أحد بجرم غيره.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾:
أ. قيل: أي: موحدون، والمراد بذلك أن المخلص أولى بالحق من المشرك.
ب. وقيل: معناه الرد عليهم ما احتجوا به من عبادة العرب للأوثان، فكأنه قال: لا عيب علينا في ذلك، إذا كنا موحدين، كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من أسلافكم، إذا اعتقدتم الانكار عليهم في ذلك.
6. الإخلاص: روي عن حذيفة بن اليمان قال: سألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإخلاص ما هو؟قال: (سألت جبريل عليه السلام عن ذلك، قال: سألت رب العزة عن ذلك فقال هو سر من سري، استودعته قلب من أحببته من عبادي)، وروي عن أبي إدريس الخولاني، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن لكل حق حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل الله)، وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه، ولا يرائي بعمله أحدا.. وقيل: الإخلاص أن تستوي أعمال العبد في الظاهر والباطن.. وقيل: هو ما استتر من الخلائق، واستصفى من العلائق.. وقيل: هو ان يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
7. ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ احتجاج عليهم في قولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ من وجوه:
أ. أحدها: ما أخبر به نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ظهور المعجز الدال على صدقه.
ب. الثاني: ما في التوراة والإنجيل من أن هؤلاء الأنبياء كانوا على الحنيفية.
ج. الثالث: إن عندهم إنما يقع اسم اليهودية على من تمسك بشريعة التوراة، واسم النصرانية على من تمسك بشريعة الإنجيل، والكتابان أنزلا بعدهم كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾.
د. الرابع: إنهم ادعوا ذلك من غير برهان، فوبخهم الله سبحانه بهذه الوجوه.
8. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله﴾ صورته صورة الاستفهام، والمراد به التوبيخ، ومثله قوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ ومعناه، قل يا محمد لهم: أأنتم أعلم أم الله، وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية، وزعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى، فيلزمكم أن تدعوا أنكم أعلم من الله، وهذا غاية الخزي.
9. سؤال وإشكال: لم قال أأنتم أعلم أم الله، وقد كانوا يعلمونه فكتموه، وإنما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم؟ والجواب:
أ. إن من قال إنهم كانوا على ظن وتوهم، فوجه الكلام على قوله واضح.
ب. ومن قال: إنهم كانوا يعلمون ذلك، وإنما كانوا يجحدونه، فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به، فما ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم منه، وأنه لا يخفى عليه شيء، لأن ما دل على أنه أعلم هو الدال على أنه لا يخفى عليه شيء، وهو أنه عالم لذاته، يعلم جميع المعلومات.
10. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن: ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ الله﴾ لابتداء الغاية، وهو متصل بالشهادة لا بالكتمان، ومعناه:
• وما أحد أظلم ممن يكون عنده شهادة من الله فيكتمها، والمراد بهذه الشهادة أن الله تعالى بين في كتابهم صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والبشارة به، عن الحسن وقتادة.
• وقيل: المراد بها أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كانوا حنفاء مسلمين، فكتموا هذه الشهادة، وادعوا أنهم كانوا على دينهم عن مجاهد، فهذه شهادة من الله عندهم كتموها.
ب. والثاني: إن من متصل بالكتمان أي: من أظلم ممن كتم ما في التوراة من الله أي: من عبادة الله، أو كتم شهادة أن يؤديها إلى الله والثالث: إن المراد من أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها، وذلك نحو قولهم: من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي، والمعنى أنه يلزمكم أنه لا أحد أظلم من الله إذا كتم شهادة عنده ليوقع عباده في الضلال، وهو الغني عن ذلك، المتعالي أي: لو كانوا هودا أو نصارى، لأخبر بذلك، وهذا المعنى قول البلخي، وأبي مسلم.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: أوعدهم سبحانه بما يجمع كل وعيد أي: ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله.
ب. وقيل: هو على عمومه أي: لا يخفى على الله شيء من المعلومات، فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقونه من العقاب.
12. اختلف في وجه تكرار قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: إنه عنى بالأول: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء عليهم السلام، وبالثاني: أسلاف اليهود.
ب. وقيل: إنه إذا اختلفت الأوقات والمواطن لم يكن التكرير معيبا.
13. ووجه اتصال الآية بما قبلها:
أ. أنه يقول: إذا سلم لكم ما ادعيتم من أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانية، فليس لكم فيه حجة، لأنه لا يمتنع اختلاف الشرائع بالمصالح، فلله سبحانه أن ينسخ من الشرائع ما شاء، ويقر منها ما شاء على حسب ما تقتضيه الحكمة.
ب. وقيل: إن ذلك ورد مورد الوعظ لهم والزجر، حتى لا يتكلموا على فضل الآباء والأجداد، فإن ذلك لا ينفعهم إذا خالفوا أمر الله.
14. قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر وابن عامر: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالتاء، والباقون بالياء:
أ. الأول: على الخطاب، فتكون: ﴿أَمِ﴾ متصلة بما قبلها من الاستفهام، كأنه قال: أتحاجوننا في الله، أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم؟ والتقدير بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد، فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء، فنحن لهم متبعون؟
ب. والثاني: وهو القراءة بالياء على العدول من الحجاج الأول إلى حجاج آخر، فكأنه قال: بل تقولون إن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، كانوا هودا أو نصارى، وتكون أم هذه هي المنقطعة، فيكون قد أعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم، كما يقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنيعة، فيقول: قد قامت عليه الحجة، أم يقول بإبطال النظر المؤدي إلى المعرفة.
15. مسائل نحوية:
أ. ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ المبتدأ، وخبره في موضع نصب على الحال، والعامل فيه: ﴿تُحَاجُّونَ﴾، وذو الحال الواو.
ب. ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ مبتدآن وخبران، والجملتان في موضع نصب على الحال بالعطف على {هو ربنا وربكم}، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾: كذلك.
ج. ﴿أَمِ الله﴾: الله مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره أم الله أعلم، و﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف مكان لكتم، أو يكون صفة لشهادة تقديره شهادة كائنة عنده، و﴿مِنَ الله﴾: صفة لشهادة أيضا، وهي صفة بعد صفة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/409.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: يريد: يهود المدينة، ونصارى نجران، والمحاجّة: المخاصمة في الدّين:
أ. فإنّ اليهود قالت: نحن أهل الكتاب الأوّل.
ب. وقيل: ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم: تزعمون أنّكم موحّدون، ونحن نوحّد، فلم ظاهرتم من لا يوحّد!؟
2. ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، قال أكثر المفسّرين: هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثمّ نسخ بآية السّيف.
3. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ الآية، سبب نزولها: أنّ يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين: إنّ أنبياء الله كانوا منّا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، ومعنى الآية: إنّ الله قد أعلمنا بدين الأنبياء، ولا أحد أعلم به منه.
4. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو (أم يقولون) بالياء على وجه الخبر عن اليهود، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم: ﴿تَقُولُونَ﴾ بالتاء لأنّ ما قبلها مخاطبة، وهي ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾، وبعدها ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ﴾
5. في الشهادة التي كتموها قولان:
أ. أحدهما: أنّ الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم.
ب. الثاني: أنهم كتموا الإسلام وأمر محمّد وهم يعلمون أنه نبيّ ودينه الإسلام، قاله أبو العالية، وقتادة.
__________
(1) زاد المسير: 1/118.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلفوا في المحاجة الواردة في قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَرَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}، وذكروا وجوهاً:
أ. أحدها: أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم، وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا.
ب. ثانيها: قولهم: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان.
ج. ثالثها: قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقولهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 111] وقولهم: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: 135] عن الحسن.
د. رابعها: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ أي: أتحاجوننا في دين الله.
2. اختلف في هذه المحاجة كانت مع من، وذكروا فيه وجوهاً:
أ. أحدها: أنه خطاب لليهود والنصارى، وهو أليق بنظم الآية.
ب. ثانيها: أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31] والعرب كانوا مقرين بالخالق.
ج. ثالثها: أنه خطاب مع الكل.
3. في قوله تعالى: {وَهُوَرَبُّنا وَرَبُّكُمْ} وجهان:
أ. الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له.
ب. الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية، ولستم كذلك، وهو المراد بقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾، وهذا التأويل أقرب.
4. ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ المراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر، وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح، وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق.
5. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بالتاء على المخاطبة كأنه قال: أتحاجوننا أم تقولون، والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى:
أ. فعلى الأول يحتمل:
• أن تكون (أم) متصلة وتقديره: بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا، أبالتوحيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟
• وأن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضاً.
ب. وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول، كأنه قيل: أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى.
6. إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه:
أ. أحدها: لأن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبتت نبوته بسائر المعجزات، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه.
ب. ثانيها: شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية.
ج. ثالثها: أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم.
د. رابعها: أنهم أدعو ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.
7. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ معناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية.
8. سؤال وإشكال: إنما يقال هذا ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام؟ والجواب: من قال أنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر، ومن قال علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم.
9. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير: ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك: ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى، لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب، علمنا أنه ليس الأمر كذلك.. فمن في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ تتعلق بالكاتم على هذا القول.
ب. ثانيها: ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله.. فمن في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ تتعلق بالمكتوم منه على هذا القول، كأنه قال ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها.
ج. ثالثها: أن يكون: من في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ صلة الشهادة والمعنى: ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك، أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك.
10. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول.
11. لما حاج الله تعالى اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لوجوه:
أ. أحدها: ليكون وعظاً لهم وزجراً حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله.
ب. ثانيها: أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من ملة إلى ملة أخرى.
ج. ثالثها: أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أم أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
12. في سبب تكرار قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه عنى بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود، قال الجبائي قال القاضي: هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هوداً فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ يجب أن يكون عائداً إليهم.
ب. الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثاً فكأنه تعالى قال ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/77.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ ولَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه، وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الأوثان، فمعنى الآية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم.
2. ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين، ومعنى ﴿فِي اللَّهِ﴾ أي في دينه والقرب منه والحظوة له، وقراءة الجماعة: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾، وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لان الثاني كالمنفصل، وقرا ابن محصين (أتحاجونا) بالإدغام لاجتماع المثلين، قال النحاس: وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد، ويجوز (أتحاجون) بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع (فبم تبشرون)
3. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم!، والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شي ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي)، وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين، وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله، وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال (سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي)
4. ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ بمعنى قالوا، وقرا حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ﴿تَقُولُونَ﴾ بالتاء وهي قراءة حسنة، لان الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون كلامين وتكون (أم) بمعنى بل.
5. ﴿هُودًا﴾ خبر كان، وخبر (إن) في الجملة، ويجوز في غير القرآن رفع ﴿هُودًا﴾ على خبر (إن)، وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس.
6. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى، فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى.
7. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم، ﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام، وقيل: ما كتموه من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق الآية.
8. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم، والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة، وناقة غفل: لا سمة بها، ورجل غفل: لم يجرب الأمور، وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر، غفلت عن الشيء غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.
9. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/146.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ أي: أتجادلوننا في الله، أي: في دينه والقرب منه والحظوة عنده، وذلك كقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ وقرأ ابن محيصن: أتحاجّونّا بالإدغام لاجتماع المثلين.
2. {وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ} أي: نشترك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له، فكيف تدّعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك.
3. ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي: لنا أعمال ولكم أعمال، فلستم بأولى بالله منا، وهو مثل قوله تعالى: ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
4. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أي: نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم، وهو المعيار الذي يكون به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره، فكيف تدّعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق؟ وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاؤوا به من المجادلة والمناظرة.
5. ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ﴿تَقُولُونَ﴾ بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون أم هاهنا معادلة للهمزة في قوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا﴾ أي: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم؛ وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم: منقطعة، أي: بل يقولون.
6. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ فيه تقريع وتوبيخ، أي: أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى، وأنتم تدّعون أنهم كانوا هودا ونصارى، فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه؟
7. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ استفهام، أي: لا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ يحتمل أن يريد بذلك الذّم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هودا ولا نصارى، بل كانوا على الملة الإسلامية، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة، بل بادّعائهم لما هو مخالف لها، وهو أشدّ في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه؛ ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب؛ وقيل: المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
8. في قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيد، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع.
9. كرّر قوله سبحانه: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/173.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ﴾ منكرا لمحاجتهم وموبّخا لهم عليها ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ أي أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى {وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ} المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له، ونحن وأنتم في العبودية له سواء.
2. ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 41]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20] الآية.
3. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ في العبادة والتوجه، لا نشرك به شيئا وأنتم تشركون به عزيرا والمسيح والأحبار والرهبان، ولمّا بقي من مباهتاتهم وادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم، أبطلها سبحانه بقوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
4. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ خليل الله ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ابنيه ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ ابن إسحاق ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾ أولاد يعقوب ﴿كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ أي على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية.
5. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أي الذي له الإحاطة كلها أعلم، فلا يمكنهم أن يقولوا: نحن، وإن قالوا: الله، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك، فبطل ما ادعوا، وثبت أنهم، عليهم السلام، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرّئين عن اليهودية والنصرانية، هذا مع أن ردّ قولهم هذا أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة للّاحق، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة، وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران، ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه، عليهم السلام، على دين الإسلام وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك، مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 42] الآية.
6. أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ موجودة ومودعة ﴿عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله، والاستفهام إنكار لأن يكون أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم، عليهم السلام، بالحنيفية والبراءة من الفريقين، قال ابن تيمية: سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ [البقرة: 159] الآية، كأنه قال خبرا عنده، دينا عنده من الله، وبيانا عنده من الله، فإن كان قوله ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلقا ب ﴿كَتَمَ﴾ فإنه يعم كل الشهادات، وإن كان متعلقا ب ﴿عِنْدَهُ﴾، وهو الأوجه، أو بشهادة، أو بهما، فإن الأمر في ذلك واحد، أي شهادة استقرت عنده من جهة الله، فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء، فسمى الإخبار به شهادة، ثم قال وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار.
7. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تهديد ووعيد شديد، أي أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه، قال الرازيّ: هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا يخفى عليه خافية، وأنه من وراء مجازاته، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ـ لا يمضى عليه طرفة عين إلا هو حذر خائف، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعدّ عليه الأنفاس، لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول؟
8. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لهم متمسكا من جهتهم، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان، وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدّونه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض، أحمرهم وأسودهم.. أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم، ولا تسألون إلا عن عملكم.
9. قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم لا سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22]، فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: 13]، وقوله ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، وقوله ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم: كل شاة تناط برجليها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/411.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قالت اليهود: نحن أهل الكتاب الأُوَل، وقبلتنا أقدم، ولم تكن الأنبياء من العرب، ولو كان محمَّد نبيئًا لكان منَّا، فنزل قوله: تعالى: ﴿قُل﴾ يا محمَّد أو يا من يصلح للقول، ﴿اَتُحَآجُّونَنَا﴾ تجادلوننا جدالاً يقطعنا، والحجُّ: القطع، لا قدرة لكم على ذلك لأنَّكم مبطلون، ﴿فِي اللهِ﴾ شأنه وقضائه إذ قضى وقدَّر أنْ يكون نبيء من العرب، ولا سيما أنَّه مذكور في التوراة والإنجيل، متداول ذكره من أوائلكم إلى الآن، وقد أتى (قيدار) ولد إسماعيل بالتابوت من الشام إلى مكَّة وردَّه منه إمَّا إسحاق أو يعقوب 6 ، وقال: إنَّ لكم نورًا واحدًا آخر الأنوار.
2. ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ فله أن يختار للنُّبوءة من شاء منَّا أو منكُم، ﴿وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمُ أعْمَالُكُمْ﴾ فإنْ توهَّمتم أنَّ النُّبوءة بالعمل فلنا من الأعمال ما نستحقُّ به النُّبوءة، كما تدَّعُون أنَّ لكم أعمالاً إلَّا أنَّها باطلة بخلاف أعمالنا فصحيحة بالإخلاص كما قال:
3. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ الدِّين والعمل، وأنتم جعَلتم له شركاء فنحن أولى بالنُّبُوءة، لكن النُّبوءة لا تُعطى صاحبها لعمل غيره، ولا لعمله بل اضطِراريَّة، لا كسبيَّة بالأعمَال أو بوصول نوع من الأعمَال، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قال بعد أنْ سُئِل عن الإخلاص: (سألتُ جبريلَ عنه فقال: سألتُ ربِّي عنه فقال: سرٌّ مِن أسراري أوْدَعْتُه قَلْبَ مَن أحْبَبْتُهُ مِن عِبَادِي)، وقال سعيد بن جبير: (أنْ لا تشرِك في دينه، ولا ترائي أحدًا في عمله)، وقال الفضيل: (ترك العمل من أجل الناس رياءٌ، والعملُ من أجل الناس شركٌ، والإخلاص أنْ يعافيك الله منهما)، وقيل: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، وقيل: كتم الحسنات كما تكتم السيِّئات، وقيل: احتقارك عملك، ومعنى كونه سرًّا من أسرار الله أنَّه لا طاقة لأحد عليه باختياره، ومعنى كون الترك رياء أنَّه راءَى الناسَ أنَّه غيرُ مراءٍ، ومعنى أنَّ العمل لهم شرك أنَّه رياء أيضًا، زاد باسم الشِّرك لأنَّه عمل لغير الله تعالى .
4. ﴿أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالَاسْبَاطَ كَانُوا هُودًا اَوْ نَصَارَى﴾ ﴿يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالاِنجِيلُ إِلَّا من بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 65]، و(أَمْ) متَّصلة متعلِّقة بقوله: ﴿أَتُحَآجُّونَنَا﴾؟ أو منقطعة للانتقال من التَّوبيخ على المحاجَّة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء، ووجه الاتِّصال ذمُّهم بجمعهم بين المحاجَّة في الله، والقول بأنَّ إبراهيم ومن معه كانوا هودًا أو نصارى مع كون واحد منهما كافيًا في القبحِ، وأبو حيَّان لَمَّا رأى أنَّ الغالب في [أمْ] المتَّصلة استدعاء وقوع إحدى الجملتين، والسؤال عن إحداهما وما هنا ليس كذلك اقتصر على المنقطعة، وهكذا عادته يرى غير الغالب كأنَّه غير موجود فيقتصر على الغالب.
5. ﴿قُلَ ـ آنتُمُ أعْلَمُ﴾ بحال إبراهيم في الدِّين ﴿أَمِ اللهُ﴾ عطف على (أَنتُم)، وأمر الله أعلم، والتفضيل استهزاء بهم، و(أَعْلَمُ) بمعنى عالم، أنتم الجهلاء والله هو العالم، قال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ [آل عمران: 67]، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط تبع له، ﴿وَمَنَ اَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ﴾ أخفى عن الناس، ﴿شَهَادَةً عِندَهُ﴾ جاءت ﴿مِنَ اللهِ﴾ في التوراة والإنجيل لإبراهيم بالحنيفيَّة لا باليهوديَّة أو النصرانيَّة، ولمحمَّد بالرِّسالة، والكاتمون هم اليهود والنصارى لا أحد أظلم منهم، أو لا أحد أظلم منَّا لو كتمناها كما كتمتُمُوها، وقدَّم ثبوتها عنده على كونها من الله مع أنَّه متأخِّر في الوجود مراعاة لطريق الترقِّي، ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهو يجازيكم على مثاقيل الذرِّ، ككتمان شهادته تعالى، والافتراء على الأنبياء.
6. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كرَّر تأكيدًا في الزَّجر عمَّا رسخ في الطباع من الافتخار بالآباء والقرابة والاتِّكال على أعمالهم؛ وقيل: الأولى: لليهود، والثانية: لنا، لئلَّا نقتدي بهم في الاتِّكال إلَّا أنَّ الكلام مسوق لأهل الكتاب أو الأمَّة، في الأولى: الأنبياء، وفي الثانية: أسلاف اليهود والنصارى، إلَّا أنَّ أسلاف اليهود لم يجر لهم ذكر، وما سبق ذكر الأنبياء.
7. وقد يقال: إنَّ القوم لَمَّا قالوا في إبراهيم وبنيه: إنَّهم كانوا هودا، صاروا كأنَّهم قالوا: إنَّهم كانوا على مثل طريقة سلفنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أنْ يقال: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ ويعنيهم، وفيه تعسُّف، وقد يقال: إنَّه لَمَّا اختلفت الأوقات في الأحوال والمواطن لم يكن التكرار ضعيفًا، كأنَّه قيل: ما هذا إلَّا بشر، وصف هؤلاء الأنبياء وما أنتم عليه من الدين لا يسوغ بالتقليد في الجنس، فاتركوا الكلام في تلك الأمَّة فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه محمَّد فإنَّه أنفع لكم، ولا تُسألون إلَّا عن عملكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/238.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب جار على نسق سابقه مؤتلف معه متصل به غير منقطع ولا نازل في واقعة خاصة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب اليه (الجلال) وغيره، إذ قالوا: إن اليهود قالوا يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، نعم لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فانهم كانوا يقولون مثله دائما وإنما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها متممة له مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان، لا خاصة برد قول لأحد يهود الحجاز.
2. الآيات السابقة بينت أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وهى لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء، فهي الجديرة بالاتباع، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها، وحلت تلك التقاليد محلها حتى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف، ولذلك جاء محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ببيانها، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها، فبين تعالى بتلك المحاجة الحق الذي يجب التعويل عليه، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق، فأمر نبيه بما ترى من الحجة في قوله: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ بدعواكم الاختصاص بالقرب منه وزعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، ومن أين جاءكم هذا القرب والاختصاص بالله دوننا.
3. {وَهُوَرَبُّنا وَرَبُّكُمْ} ورب العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة: هو الخالق وهم المخلوقون، وهو الرب وهم المربوبون، وإنما يتفاضلون بالأعمال البدنية والنفسية ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا﴾ التي تختص آثارها بنا إن خيرا فخير وإن شرا فشر ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ كذلك، وروح الأعمال كلها الإخلاص فهو وحده الذي يجعلها مقربة لصاحبها من الله تعالى ووسيلة لمرضاته.
4. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ من دونكم، فإنكم اتكلتم على أنسابكم وأحسابكم، واغتررتم بما كان من صلاح آبائكم وأجدادكم، واتخذتم لكم وسطاء وشفعاء منهم تعتمدون على جاههم، مع انحرافكم عن صراطهم، وما هو إلا التقرب إلى الله تعالى بإحسان الأعمال، مع الإخلاص المبنى على صدق الإيمان، وهو ما ندعوكم إليه الآن، فكيف تزعمون أن الإدلاء إلى ذلك السلف الصالح بالنسب، والتوسل إليهم بالقول هو الذي ينفع عند الله تعالى، وأن الاستقامة على صراطهم المستقيم والتوسل إلى الله تعالى بما كانوا يتوسلون إليه به من صالح الأعمال والإخلاص في القلب لا ينفع ولا يفيد، وما كان سلفكم مرضيا عند الله تعالى إلا به؟ هل كان ابراهيم مقربا من الله تعالى بأبيه آزر المشرك، أم كان قربه وفضله بإخلاصه واسلام قلبه إلى ربه؟ فكما جعل الله النبوة في ابراهيم وجعله إماما للناس في الإسلام والاخلاص جعلها كذلك في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاذا صح لكم إنكار نبوة محمد لأنه لم يكن في سلفه العرب أنبياء فأنكروا نبوة ابراهيم، فان العلة واحدة، فكيف لا يتحد المعلول؟
5. حاصل معنى الآية: ابطال معنى شبهة أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لا ينجو من كان على غير طريقتهم وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده، وأنهم هم الناجون الفائزون وإن أساؤوا عملا ونية، لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلصونهم بجاههم، فالفوز عندهم بعمل سلفهم، لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم وهذا الاعتقاد هدم لدين الله الذي بعث به جميع أنبيائه ودرج عليه من اتبع سبيهلهم، فان روح الدين الألهى وملاكه هو التوحيد والإخلاص المعبر عنه بالإسلام وكل عمل أمر به الدين فإنما الغرض منه اصلاح القلب والعقل بسلامة الاعتقاد وحسن القصد، فاذا زال هذا المعنى وحفظت جميع الأعمال الصورية فإنها لا تفيد شيئا، بل إنها تضر بدونه، لأنها تشغل الإنسان بما لا يفيد، وتصده عن المفيد.
6. لا شك أن أهل الكتاب كانوا قد أزهقوا هذا الروح الالهي من دينهم فسواء كان ما حفظوه من التقاليد والأعمال مأثورا عن أنبيائهم أم غير مأثور، إنهم ليسوا على دين الله، ومن كان على بصيرة منهم عرف أن ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو إحياء لروح الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، وتكميل لشرائعه وآدابه بما يصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان، ثم إن من تأمل هذا وتأمل حال المسلمين يظهر له أنهم قد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسيرجع من يريد الله بهم الخير إلى دين الله تعالى بالرجوع إلى كتابه الذي حرم عليهم تقليد آراء الناس فجازوه بأن حرموا العمل به، كما رجع الألوف وألوف الألوف من أهل الكتاب إلى ذلك في القرون الأولى من ظهور الإسلام وسيرجع غيرهم من سائر البشر إليه فيعم العالمين ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾
7. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ قال محمد عبده: ان (أم) هنا معادلة لما قبلها خلافا للجلال ومن على رأيه القائلين: إنها بمعنى بل ـ كأنه قال أتقولون إن هذا الامتياز لكم علينا والاختصاص بالقرب من الله دوننا هو من الله والحال أنه ربنا وربكم الخ؟ أم تقولون: إن امتياز اليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها بأن ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط كانوا عليها؟ إن كنتم تقولون هذا فان الله يكذبكم فيه؛ وأنتم تعلمون أيضا أن اسمى اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم، وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة، فان عيسى عليه السّلام كان عدو التقاليد، ولهذا كان النصارى على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام، لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن، ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم
8. زعم بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في الرد على اليهود، إذ كانوا يقولون: إن ابراهيم كان يهوديا؛ وعلى النصارى إذ كانوا يقولون: إنه كان نصرانيا، قال محمد عبده: وهذا غير صحيح، كلا إن الآية نزلت في إقامة الحجة عليهم بأنهم يعتقدون أن ابراهيم كان على الحق وأن ملته هي الملة الالهية المرضية عند الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك وكانت هذه التقاليد التي تقلدوها غير معروفة على عهد ابراهيم فما بالهم صاروا ينوطون النجاة بها ويزعمون أن ما عداها كفر وضلال؟ فهو لا يثبت لهم القول بأن ابراهيم كان يهوديا أو نصرانيا وإنما يقول انهم لا يقدرون على القول بذلك لان البداهة قاضية بكذبهم فيه، ولذلك قال لنبيه: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أي إذا كان الله قد ارتضى للناس ملة ابراهيم باعترافكم وتصديق كتبكم وذلك قبل وجود اليهودية والنصرانية فلماذا لا ترضون أنتم تلك الملة لأنفسكم؟ أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله أم الله أعلم بما يرضيه وما لا يرضيه؟ لا شك أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وقد صرح ابن جرير الطبري بان قراءة ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ بالتحتية شاذة، وعلى القول بانها سبعية يكون في الكلام التفات.. قراءة التاء هي لابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وهى للخطاب، وقراءة الياء للباقين فلا عبرة بعدّ ابن جرير اياها شاذة.
9. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ في هذا الاستفهام وجهان:
أ. أحدهما: أنه متمم لما قبله من إقامة الحجة بملة ابراهيم، يقول إن عندكم شهادة من الله بان ابراهيم كان على حق وكان مرضيا عند الله تعالى فاذا كتمتم ذلك لأجل الطعن بالإسلام فقد كتمتم شهادة الله وكنتم أظلم الظالمين، وإذا اعترفتم به فإما أن تقولوا إنكم أنتم أعلم من الله بما يرضيه، وإما أن تقوم عليكم الحجة وتحق عليكم الكلمة ان لم تؤمنوا بما تدعون اليه من ملة ابراهيم، وأحد الأمرين ثابت، لا يقبل مراوغة مباهت.
ب. الثاني ـ وهو أظهر ـ أن الشهادة المكتومة هي شهادة الكتاب المبشرة بأن الله يبعث فيهم نبيا من بنى اخوتهم وهم العرب أبناء اسماعيل، وكانوا ولا يزالون يكتمونها بالإنكار على غير المطلع على التوراة وبالتحريف على المطلع، فهو يبين هنا ـ بعد إقامة الحجة بإبراهيم على أن زعمهم حصر الوحى في بنى إسرائيل باطل ـ أن هناك شهادة صريحة بأن الله سيبعث فيهم نبيا من العرب، فكان هذا دليلا ثالثا وراء الدليل العقلي المشار اليه بقوله: {وَهُوَرَبُّنا وَرَبُّكُمْ} والدليل الإلزامي المشار اليه بقوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ الخ، فكأنه يقول: إن هؤلاء إلا مجادلون في الحق بعد ما تبين، مباهتون للنبي مع العلم بأنه نبيّ اذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له، فاذا كان ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم، وهو كتمان شهادة الله تعالى تعصبا لجنسيتهم الدينية التي ارتبط بها الرؤساء بالمرؤوسين بروابط المنافع الدنيوية من مال وجاه فكيف ينتظر منهم أن يصغوا الى بيان، أو يخضعوا لبرهان؟ والاستفهام هنا يتضعن التوبيخ والتقريع، المؤكدين بالوعيد في قوله ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وإنما الجزاء على الأعمال.
10. ثم ختم المحاجة بتأكيد أمر العمل وعدم فائدة النسب فقال: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وإنما تسألون عن أعمالكم وتجازون عليها، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها، وهذه قاعدة يثبتها كل دين قويم، وكل عقل سليم، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل، ومنبع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعا؛ اللهم إلا مكابرة الحس والعقل، وتأويل نصوص الشرع، تطبيقا لهما على ما يقول المقلّدون المتبعون (بفتح اللام والباء)، وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة، لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها ونفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح، ولذلك أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال، وفائدة الاعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع، والاشعار بمعنى يعطيه السياق هنا وهو أن أعمال هؤلاء، المجادلين المشاغبين من أهل الكتاب مخالفة لأعمال سلفهم من الأنبياء فهم في الحقيقة على غير دينهم.
11. سبق القول بأن الآية أفادت في وضعها الأول أن ابراهيم وبنيه وحفدته قد مضوا إلى ربهم بسلامة قلوبهم وإخلاصهم في أعمالهم، وانقطعت النسبة بينهم وبين من جاء بعدهم، فتنكب طريقهم وانحرف عن صراطهم، وإن أدلى اليهم بالنسب فكل واحد من السلف والخلف مجزى بعمله لا ينفع أحدا منهم عمل غيره من حيث هو عمل ذلك الغير ولا شخصه بالأولى، وذلك أنها جاءت عقب بيان ملة ابراهيم وإيصاء بعضهم بعضا بها وبيان دروجهم عليها، ثم جاء بعد ذلك الاحتجاج على القوم بمن يعتقدون فيهم الخير والكمال وكونهم لم يكونوا على هذه اليهودية ولا هذه النصرانية اللتين حدثتا بعدهم، فجاءت قاعدة الأعمال في هذا الموضع تبين أن المتخالفين في الأعمال والمقاصد لا يكونون متحدين في الدين ولا متساوين في الجزاء، فأفادت هنا ما لم تفده هناك، وللمسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، ويحكموا قاعدة العمل والجزاء بينهم وبين سلفهم، ولا يغتروا بالتسمية إن كانوا يعقلون.
12. أزيد على ما تقدم أن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا إنما يكون بمقتضى سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، ومن المعلوم شرعا وعقلا: أن الميت ينقطع عمله بخروجه من عالم الأسباب إلى البرزخ من عالم الغيب، وأما الآخرة فلا كسب فيها، وأمرها إلى الله وحده ظاهرا وباطنا، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/487.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وليست هي باليهودية ولا النصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهى بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقّن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
2. روى أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا: يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فردّ الله عليهم بما ستعلم بعد.
3. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ ولَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي أتدّعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية، وتقولون حينا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وحينا آخر تقولون: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربنا وربكم وربّ العالمين، فهو الخالق وجميعنا خلقه، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغى إلا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.
4. خلاصة ما سبق ـ إن روح الدين التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبّر عنه بالإسلام، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شيء من الدين، ولكنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، فهو الذي كمّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلّ زمان ومكان.
5. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ أي أتقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم، أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدّعون فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقضية العقل شاهدة بكذبكم؟
6. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أي أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شكّ أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدّقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلما ذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟
7. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ أي لا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيّا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل، وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطّلع على التوراة، ويحرّفون على المطلع عليها.
8. خلاصة ما سلف ـ أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادّعوا:
أ. قوله: {وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ}.
ب. قوله: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ إلخ.
ج. قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ إلخ.
9. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي إن الله لا يترك أمركم سدى، بل يعذبكم أشدّ العذاب، وهو محيط بما تأتون وما تذرون، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ.
10. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت، ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة.
11. علينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة ـ الجزاء على العمل ـ ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزىّ بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/228.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ ولَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}.. ولا مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته، فهو ربنا وربكم، ونحن محاسبون بأعمالنا، وعليكم وزر أعمالكم، ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك به شيئا، ولا نرجو معه أحدا.. وهذا الكلام تقرير لموقف المسلمين واعتقادهم؛ وهو غير قابل للجدل والمحاجة واللجاج.
2. من ثم يضرب السياق عنه، وينتقل إلى مجال آخر من مجالات الجدل، يظهر أنه هو الآخر غير قابل للجاجة والمحال: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وهم كانوا أسبق من موسى، وأسبق من اليهودية والنصرانية، والله يشهد بحقيقة دينهم ـ وهو الإسلام كما سبق البيان ـ: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾.. وهو سؤال لا جواب عليه! وفيه من الاستنكار ما يقطع الألسنة دون الجواب عليه! ثم إنكم لتعلمون أنهم كانوا قبل أن تكون اليهودية والنصرانية، وكانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئا، ولديكم كذلك شهادة في كتبكم أن سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية، دين إبراهيم، ولكنكم تكتمون هذه الشهادة: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾.. والله مطلع على ما تخفون من الشهادة التي ائتمنتم عليها، وما تقومون به من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
3. وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الإفحام، وإلى هذا الفصل في القضية، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه.. عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.. وفيها فصل الخطاب، ونهاية الجدل، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/119.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ ولَنا أَعْمالُنا ولَكُمْ أَعْمالُكُمْ ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} إنكار من المسلمين على أهل الكتاب أن يجادلوهم في الله، إذ الأمر لا يتسع لجدال في حقيقة واحدة، فإمّا إيمان، وإما كفر.
2. ثم يقول سبحانه: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وهذا إنكار أعلى هل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ أن يقول اليهود إن إبراهيم وإسماعيل: وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يهودا، وأن يقول عنهم النصارى إنهم كانوا نصارى، وقد أخبر الله أنهم لم يكونوا يهودا، أو نصارى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وأهل الكتاب يعلمون من التوراة والإنجيل هذه الحقيقة، ولكنهم يكتمونها، ويشهدون زورا وبهتانا على خلافها، وذلك ظلم مبين للحقيقة، ولأنفسهم، التي حجبوها عن الحق، وأوردها موارد الضلال والخسران.
3. ثم يختم الله هذا الموقف بقوله سبحانه: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، الأمة هي الجماعة، ويراد بها هنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وأتباعهم، وقد صار أمرهم إلى الله، والخلاف فيهم لا ثمرة له، وإنما يؤخذ كل إنسان بعمله، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
4. فانظر كيف كان دفاع القرآن عن هذا الأمر الذي جاء به، ودعا المسلمين إليه؟ إنه إلى الآن لم يجيء الأمر المرتقب، وهو دعوة المسلمين إلى أن يحوّلوا قبلتهم إلى البيت الحرام.. ومع هذا كانت تلك المواقف التي كشف فيها القرآن عن طوايا النفوس، وما يحمل أهل الكتاب في نفوسهم ـ وخاصة اليهود ـ من ضغينة وحقد على الإسلام! كانت إعجازا من إعجاز القرآن.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/147.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ استئناف عن قوله ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 136] كما تقدم هنالك، و{تُحَاجُّونَنا} خطاب لأهل الكتاب لأنه جواب كلامهم السابق ولدليل قوله الآتي: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 140].
2. الاستفهام للتعجب والتوبيخ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات، والمراد الشأن الذي حمل أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته، فلذلك كان لقوله: ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلما ذا لا يمن علينا بما منّ به عليكم؟
3. جملة ﴿وَهُوَ رَبُّنَا﴾ حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة، وكذلك جملة ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم، ارتقى فجعل مرج رضى الله تعالى على عباده أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم، قال البيضاوي: (كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوءة إما تفضل من الله على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها فلنا أيضا أعمال)
4. تقديم المجرور في ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا﴾ للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا، وعطف ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى: ﴿وَلِيَ دِينِ﴾ على قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ [الكافرون: 6]، وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24].
5. جملة {نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره، أي فلما ذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منكم إليه؟ والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]
6. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، أم منقطعة بمعنى بل وهي إضراب للانتقال من غرض إلى غرض وفيها تقدير استفهام وهو استفهام للتوبيخ والإنكار وذلك لمبلغهم من الجهل بتاريخ شرائعهم زعموا أن إبراهيم وأبناءه كانوا على اليهودية أو على النصرانية كما دل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ ولدلالة آيات أخرى عليه مثل: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾ [آل عمران: 67] ومثل قوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 65]، والأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غرورا ومن دون تدبر اعتقدت ما لا ينتظم مع الدليل واجتمعت في عقائدها المتناقضات، وقد وجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الفتح في الكعبة صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام في الكعبة فتلا قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67] وقال الله: وإن استقسم بها قط، وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: ﴿وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فرماهم بفقد التعقل.
7. قرأ الجمهور وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب بياء الغائب وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بتاء الخطاب على أن أم متصلة معادلة لقوله ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ [البقرة: 139] فيكون قوله: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أمرا ثانيا لا حقا لقوله: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا﴾ وليس هذا المحمل بمتعين لأن في اعتبار الالتفات مناصا من ذلك.
8. معنى ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ التقدير، وقد أعلمنا الله أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وهذا كقوله في سورة آل عمران: قل ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
9. استفيد من التقرير في قوله: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أنه أعلمهم بأمر جهلته عامتهم وكتمته خاصتهم، ولذلك قال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ يشير إلى خاصة الأحبار والرهبان الذين تركوا عامة أمتهم مسترسلين على عقائد الخطأ والغرور والضلالة وهم ساكتون لا يغيرون عليهم إرضاء لهم واستجلابا لمحبتهم وذلك أمر إذا طال على الأمة تعودته وظنت جهالتها علما فلم ينجع فيها إصلاح بعد ذلك لأنها ترى المصلحين قد أتوا بما لم يأت به الأولون فقالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]
10. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هذا من جملة المقول المحكي بقوله: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن يقول لهم ذلك تذكيرا لهم بالعهد الذي في كتبهم عسى أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر إن كانوا مترددين أو أن يفيئوا إلى الحق إن كانوا متعمدين المكابرة، و﴿مِنَ﴾ في قوله ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ ابتدائية أي شهادة عنده بلغت من جانب الله على لسان رسله، والواو عاطفة جملة ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً﴾ على جملة ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾
11. هذا الاستفهام التقريري كناية عن عدم اغترار المسلمين بقولهم: إن إبراهيم وأبناءه كانوا هودا أو نصارى وليس هذا احتجاجا عليهم، وقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بقية مقول القول وهو تهديد لأن القادر إذا لم يكن غافلا لم يكن له مانع من العمل بمقتضى علمه وقد تقدمت نظائر هذا في مواضع.
12. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تكرير لنظيره الذي تقدم آنفا لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماما بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة ومثل هذا التكرير وارد في كلام العرب، قال لبيد:
çفتنازعا سبطا يطير ظلاله...كدخان مشعلة يشبّ ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج...كدخان نار ساطع أسنامهاé
فإنه لما شبه الغبار المتطاير بالنار المشبوبة واستطرد بوصف النار بأنها هبت عليها ريح الشمال وزادتها دخانا وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه، أعاد التشبيه ثانيا لأنه غريب مبتكر.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/726.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان اليهود والنصارى يدّعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى، وأنهم أعلم الناس بالله، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا، والوثنيون ليسوا كذلك، وبذلك يحاجون النبيّ في أنهم أقرب إلى الله، وأنه أقرب إليهم، وأنهم أولى به، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم، وأن القربى إليه بالعمل، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ}
2. كان الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليتولى الحجاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة، والله أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر هذه المحاجة، والاستفهام هنا للتوبيخ؛ أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته، فالمحاجة في الله تعالى لا في أصل وجوده، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد]، ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى، من حيث وجوده، وأنه الفاعل المختار، أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه، والمنزلة عنده لا محاجة أصل وجوده، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله، وأنهم أحبابه، وأنهم أبناؤه، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى، وهم يثيرون قولهم على اعتقاد أن النبيّ يحاجّهم كما يحاجّونه؛ ولذلك كانت صيغة المفاعلة.
3. أمر الله تعالى نبيه، بأن يبين لهم أنه لا حاجة إلى المحاجة؛ ولذا أمره تعالى بأن يقول: {وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ} فصلتنا بالله واحدة، وهو أنه ربنا جميعا، وقد بين المماثلة في الصلة بالله تعالى لصلة الربوبية، وهى متحدة في معنى الربوبية، ولا تفاوت بيننا في هذا، فلستم أقرب إليه، ولا نحن أقرب من هذه الناحية، ونبههم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر ربه بأن التفاوت إنما هو بالأعمال؛ ولذلك أمره تعالى بأن يقول لهم: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ فأعمالنا بما فيها من خير ونفع تتحمل في ذاتها استحقاق جزائها، ولكم أعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن القرب إلى الله تعالى أو البعد إنما هو بحسب الأعمال، فهي التي تقرب، وهى التي تبعد، وهى التي يكون عليها الجزاء.
4. وصف الله آمرا نبيه بقوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أي نحن قد أخلصنا بقلوبنا في عبادة الله تعالى فلا نشرك في العبادة سواه، ولا نعكر إخلاصنا لله تعالى بسبب من أسباب الدنيا، فنحن صرنا لله نحب الشيء لا نحبه إلا لله، وهذا تحريض لليهود وغيرهم على أن يكونوا مثلهم، فإن كانوا مثلهم التقوا على الإيمان الجامع غير المفرق، والإخلاص تصفية النفس من أن يكون فيها غير الله تعالى، وتصفية الفعل من أن تكون لغير الله فيه شائبة، ولقد قال بعض الصوفية: الإخلاص سر بين العبد وبين الله لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، وفى الجملة الإخلاص حصن العبادة الحصين.
5. اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم: عزير ابن الله، وقولهم: المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لا حقا وآخره سابقا، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾.
6. هذا قلب للأوضاع، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام، وهم تابعون له، ولآبائه، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا.
7. لتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت] وقال الله تعالى لنبيه: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ كان جواب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم سؤالا لهم محرجا كاشفا لهم؛ لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا، وإن قالوا أن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم، فهو سؤال ينته برد كلامهم بأنفسهم، وهو سؤال من علّمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب.
8. إن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام، والإيمان الجامع لكل الرسل، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه، ويكتمونه حتى لا يعلم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، والمعنى أنه لا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفى الواقع والوقوع، فهو نفى أنه لا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها، وفى الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة] فيضلونهم بعلم، ويعلمون الكثير ويكتمونه.
9. الشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يدى القضاء أم لم يكن، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها، ولم تكن أخبارا تقرأ ولا تعلم، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة، وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهذا وعيد، وإخبار بأمر الله تعالى، وقد نفى الله تعالى نفيا مؤكدا أنه غافل عن عملهم، بل إنه سبحانه آخذهم بذنوبهم، فنفى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي والغفلة هي عدم التنبه إلى ما يقع، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهى التي لا معالم فيها ولا بناء، والآية تهديد ووعيد بلا ريب، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) الوعيد في هذا فقال: (هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا تخفى عليه خافية، وأنه من وراء ذلك مجازاته، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، لا تمضى عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد)
10. نبه سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وغيرهم إلى أنه لا يصح لهم أن يتمسحوا بالأسلاف، فقال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة في ماضي قولنا فلا نعيد ما قلنا في ذكر معانى ألفاظها، ولكن نتلمس المعنى في إعادة ذكرها ونرى أنها ختام لما يقوله بنو إسرائيل وغيرهم بالنسبة لأسلافهم، ودعوة لهم إلى أن الله تعالى سائلهم عما يعملون هم لا ما عمل أسلافهم.. وأيضا فإن الناس تعودوا اتباع الأسلاف، فالله تعالى يكرر سبحانه أن كل امرئ بما كسب رهين، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولهم ما كسبوا وعليكم ما اكتسبتم، وأن خير الماضين ليس خيرا لكم وأن شرهم ليس وزره عليكم، ولقد قال تعالى في ذلك: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء] وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وهُوَرَبُّ كُلِّ شيء ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام] قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم].
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/429.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾، اليهود عارضوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حرصا على مصالحهم، وعلى المال الذي كانوا يجمعونه من بذل العرض وإباحته، ومن الربا والغش، والخمر والميسر، وما اليه مما حرمه الإسلام، وقد برروا المعارضة بأسباب لا تمت الى الواقع بشبه، من تلك الأسباب ما قاله المفسرون في تفسير هذه الآية من ان اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: انك لست نبيا، لأن الله لا يرسل الأنبياء الا من اليهود، وبالمناسبة يزعم اليهود ان الله لهم وحدهم وانه إله قبيلة، وليس إله العالم.. وأيضا أنكر زعماء النصارى، وصناديد قريش نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خوفا على مكانتهم ومصالحهم، وتذرعوا بالأباطيل كما تذرع اليهود، حيث قال النصارى ـ كما جاء في التفاسير ـ: لو أرسل الله نبيا لكان منا لا من العرب، أما صناديد قريش فقالوا: لو أرسله من العرب لاختاره من الطبقة الثرية القوية، كما أشار قوله تعالى: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، وقوله: ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾
2. كل شيء يقبل الخصام والحجاج، حتى وجود الله الا شيئا واحدا فإنه لا يقبل النقاش أبدا عند المعترفين بوجود الله، ألا وهو تخصيص رحمة الله وانعامه على فرد دون فرد: {أهم يقسمون رحمة ربك}.. ولذا أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقول للذين استنكروا انعام الله عليه بالنبوة أن يقول لهم: أتحاجوننا في الله، وأنتم تعلمون انه تعالى أعلم بمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا تعترضوا على ربكم.. وان علينا وعليكم التسليم لحكمه، لا المجادلة في ارادته واختياره، وهذا معنى قوله تعالى: {هُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ}
3. ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، هذا تماما كقوله سبحانه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، أي ان خصامكم في اختيار الله وانعامه عليّ تعود آثاره عليكم وحدكم، تماما كما يعود ضرر الكفر على الكافر، ونفع الايمان على المؤمن، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ من دونكم، لأنكم تتحكمون على الله، وتريدونه أن ينزل على رغبتكم، أما نحن فنفوّض الأمر كلّه اليه، ونستسلم لحكمه.
4. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، هذا عطف على أتحاجوننا في الله، والمعنى بأي الأمرين تتشبثون؟ أفي قولكم بأن الله لا يرسل من العرب نبيا، أم بدين ابراهيم وبنيه وحفدته؟ فان تشبثتم بالأول فان الله أعلم حيث يجعل رسالته، وان تشبثتم بالثاني فان ابراهيم كان حنيفا مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا، لأن اليهودية والنصرانية حدثتا بعده وبعد بنيه والأسباط.. فعلى كلا التقديرين قولكم باطل لا مبرر له.
5. يرشدنا القرآن في هذه المحاورة الى الأسلوب الذي ينبغي أن نتبعه مع الخصم، وان نعتمد في حصاره وافحامه على منطق العقل الذي يقتنع به ويتسالم عليه جميع العقلاء.
6. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، كل من اليهود والنصارى قالوا: نحن أولى بالنبوة.. فأمر الله نبيه الكريم أن يرد عليهم بقوله: أأنتم أعلم حيث يجعل رسالته، أم هو؟.. ان الرسول لله ومن الله، ومع هذا تريدون أنتم أن تختاروه؟ وهل أنتم أوصياء عليه؟ تعالى الله علوا كبيرا.. وهل أجهل وأسخف ممن يقول لك: أنا أعلم منك بما يعجبك ويرضيك، وبما يغضبك ويؤذيك؟ وهل أكثر حمقا من جاهل لا يعرف شيئا يقول لمن اخترع سفينة الفضاء ـ مثلا ـ أنا أعرف بها منك؟.. ولست أعرف قولا أبلغ في التجهيل والتقريع من قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾.. نستغفره ونعوذ به مما يقول ويفعل المبطلون.
7. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، من الله متعلق بشهادة، أو بمحذوف صفة للشهادة، تقديره شهادة كائنة من الله.. ومعنى الكلام ان عندكم يا معشر اليهود والنصارى شهادة من الله قرأتموها في التوراة والإنجيل، وهي ان الله سبحانه سيبعث نبيا عربيا من أبناء إسماعيل عليه السلام، ومع ذلك كتمتم الشهادة، وتجرأتم على الله بتحريف كتابه تعصبا للباطل، وعنادا للحق، فاستوجبتم اللعنة والعذاب.
8. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾، هذه الآية تقدم ذكرها، وردت هناك لبيان ان اخلاص ابراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم وعظمته لا تجدي اليهود والنصارى شيئا، وجاءت هذه الآية هنا لبيان ان أعمال اليهود والنصارى تباين عقيدة ابراهيم وعمله.. اذن دعواهم بأنهم على ملة ابراهيم كذب وافتراء، وتكلمنا عند تفسير الآية 48 عن التكرار في القرآن.
9. يجب على كل بالغ عاقل أن يستجيب ويلبي إذا دعي الى تحمل الشهادة، ولا يسوغ له رفضها من غير عذر، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾، وقال الإمام جعفر الصادق: إذا دعاك الرجل لتشهد على دين أو حق فلا يسعك أن تتقاعس عنه، ووجوب تحملها يستدعي وجوب أدائها، وتحريم كتمانها، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، وقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ﴾، وقال الإمام الصادق: من كان في عنقه شهادة فلا يأبى إذا دعي لإقامتها، وليقمها، ولينصح فيها، ولا تأخذه فيها لومة لائم.
10. أجل، يجوز له أن يتخلف عن أداء الشهادة مع خوف الضرر على نفسه، أو على غيره من الابرياء، لأنه لا ضرر في الإسلام بالإضافة الى الإجماع، وأحاديث خاصة.
11. نعى الإسلام على المبطلين، وحاجّهم بالعقل والضمير، ونصحهم بالحسنى، وأمرهم بالمعروف، ولكنه لم يجعل لأحد سبيلا عليهم بغير الموعظة الحسنة إلا إذا تجاوزوا الحدود، واعتدوا وضللوا الأبرياء والبسطاء عن الحق بالافتراءات والدعايات الكاذبة، فان فعلوا شيئا من هذا وجب ردعهم وتأديبهم، وقد بيّن الله ذلك في العديد من آياته: منها: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ومنها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.. ومنها ما نحن فيه: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾.. أجل مخلصون لا أقل ولا أكثر ـ ان استقام التعبير بالأكثر ـ.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/215.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾، إنكار لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه وقد بين وجه الإنكار، وكون محاجتهم لغوا وباطلا، بقوله {وَهُوَرَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}، وبيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه إنما تكون لأحد أمور ثلاثة:
أ. إما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه وربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني ومسلم.
ب. وإما لكون كل واحد منهما أو أحدهما ويريد مزيد الاختصاص به، وإبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا.
ج. وإما لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال، وخصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك.
فهذه علل المحاجة والمخاصمة بين كل تابعين، والمسلمون وأهل الكتاب إنما يعبدون إلها واحدا، وأعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الأخرى شيئا، والمسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، ولذلك أنكر عليهم محاجتهم أولا، ثم نفى واحدا واحدا من أسبابها الثلاثة.
2. قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ إلى قوله ﴿كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ وهو قول كل من الفريقين، أن إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، ولازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا أنهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، وقوله تعالى ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد إبراهيم ومن ذكر معه.
3. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية، شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الأول.
4. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾، أي أن الغور في الأشخاص وأنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، ولا يضركم السكوت عن المحاجة والمجادلة فيهم، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه.
5. تكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التي لا تنفع لحالهم شيئا، وخصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية والنصرانية، وإلا فالبحث عن حال الأنبياء، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم ويأمر بالتدبر فيها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/314.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأهل الكتاب ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ إذ أسلمنا له وعبدناه وحده {وَهُوَرَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} فنحن وأنتم مجمعون على أن عبادته حق، وأنه المالك لنا ولكم، فكيف نجعل له شريكاً بعد علمنا بهذا.
2. ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ فلستم مسئولين عن أعمالنا، ولا نحن مسئولين عن أعمالكم، فلأي سبب تجادلوننا في أعمالنا!؟
3. ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أنفسَنا وعبادتَنا ولا شك في استحقاقه الإخلاص؛ لأنه ربنا وحده لا شريك له، فلماذا تحاجوننا في ديننا، فلا باعث للجدال إلاَّ الحسد.
4. ﴿أَم﴾ أي بل ﴿تَقُولُونَ﴾ وهذا انتقال من الرد عليهم في المحاجة إلى الرد عليهم في الزور والبهتان الذي يقولونه، فبعد أن حكى قولهم، قال تعالى: ﴿قُلْ﴾ أي يا محمد ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ فقد بين سبحانه أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى، وهو علام الغيوب.
5. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ في التوراة أو غيرها مما أنزل، وهي تبيّن الحق في هذا الشأن وتوضح أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى، وتشهد لنا أنهم كانوا مسلمين، فكيف كتمتم شهادة الله التي عندكم لنا وافتريتم خلافها، كأنكم تدّعون أنكم أعلم من الله، وكيف لم تخافوا الله ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهو يجازيكم جزاءً موفوراً.
6. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أي إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب والأسباط ﴿أُمَّةٍ﴾ أهل دين واحد قد مضوا ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ فليس لكم من دينهم شيء ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فلا تحتاجون لمعرفة ما كانوا يعملون؛ لأنكم لا تسألون عنه، ولذلك فلا حاجة للجدال فيما كانوا عليه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/198.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ لأنكم الأقرب إليه دوننا، باعتبار أنكم شعب الله المختار، أو أبناء الله وأحباؤه، أو لأن لكم إلها يختلف عن إلهنا، وكل ذلك باطل، {وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ} فهو ربّ العالمين جميعا لا فرق في موقع ربوبيته بين إنسان وآخر، ولا ميزة لأحد على أحد إلا بالأعمال، وهو الذي يحدد للناس وظائفهم ومهماتهم ومسئولياتهم في تدبير أمورهم وأمور من حولهم وما حولهم.. ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ فهي التي تحدد لكلّ منا موقعه منه وقربه إليه، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ في إيماننا به وتوحيدنا له وعبادتنا إياه، وهذا ما يجعلنا في الخطّ المستقيم الذي أرشدنا إليه وهدانا له.
2. ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ لتؤكدوا بذلك شرعية أوضاعكم بانتساب خطكم إلى خطّ إبراهيم، الذي كان الرمز العظيم للقاعدة الرسالية الممتدة في حركة الرسل والرسالات، لتحصلوا على غطاء رسالي لانحرافاتكم الفكرية والعملية.
3. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾، وقد أخبركم بأن التوراة والإنجيل اللتين تنتمي إليهما اليهودية والنصرانية قد أنزلنا من بعدها، فكيف يكون انتماؤه إليهما من خلال الصفتين اللتين تلصقونهما به، وذلك هو قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 65]، وهذا الاستفهام للتوبيخ لا للحقيقة، إذ لا معنى لها في الموضوع، فوزانه وزان قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات: 27]، ومعناه كما يقول صاحب مجمع البيان: قل يا محمد لهم: أأنتم أعلم أم الله، وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية وزعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى فيلزمكم أن تدّعوا أنكم أعلم من الله وهذا غاية الخزي.
4. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ مما يعلمه من شؤون الرسل والرسالات، لأن ذلك يؤدي إلى تشوية الحقيقة وتزييف الواقع وإيقاع الناس في الضلال، وهو من أبشع أنواع الظلم، لأنه يسلب الإنسان حقّه في وعي الحقيقة الرسالية التي تتوقف عليها استقامة الإنسان في حياته.
5. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من كل هذه الانحرافات الفكرية والعملية، فيحاسبكم عليها تبعا للنتائج السلبية التي تترتب عليها في حياتهم وحياة الناس من حولهم.
6. ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ من أعمالها التي تتحمل مسئولياتها، ﴿وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ من أعمالكم التي تواجهون حساباتها يوم القيامة، ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، إن القاعدة الإسلامية، تفرض المسؤولية الفردية في حركة الإنسان كما جاء في قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 38 ـ 39]
7. كرر الآية ليؤكد ـ بعد كل قصة من قصص التاريخ ـ هذه الحقيقة الحضارية القائمة على خطّ التوازن العملي في مضمون العدل الإلهي في حياة الإنسان، ليمنع الإنسان من الاستغراق في كهوف الماضي وفي خلافاته، لتكون حياته انفتاحا على مسئولية الحاضر والمستقبل اللذين يصنعهما بفكره وعمله في دوره في بناء الحياة على أساس متين.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/57.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتّى، كانوا يقولون: إنّ جميع الأنبياء مبعوثون منا، وإن ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية، وكانوا يقولون: إن عنصرنا أسمى من عنصر العرب، ونحن المؤهلون لحمل الرسالة لا غيرنا، لأن العرب أهل أوثان، وكانوا يدّعون أحيانا أنهم أبناء الله وأن الجنّة لهم لا لغيرهم، والقرآن يردّ على كلّ هذه الأقاويل ويقول: {أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وهُوَرَبُّنا ورَبُّكُمْ}، فالله سبحانه ليس ربّ شعب أو قبيلة معينة، إنه ربّ العالمين،اعلموا أيضا أن لا امتياز لأحد على غيره إلّا بالأعمال، وكل شخص رهن أعماله ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ مع فارق، هو إن كثيرا منكم يشركون في توحيدهم: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾
2. الآية الكريمة تجيب على واحد آخر من هذه الادعاءات الفارغة وتقول: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾!؟ ثم تجيب الآية عن هذا الادعاء بشكل رائع فتقول: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾!؟ فالله أعلم أنهم ما كانوا يهودا ولا نصارى، وقد تعلمون أنتم أيضا أن هؤلاء الأنبياء أدّوا رسالتهم قبل موسى وعيسى، وإن كنتم لا تعلمون فإطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب، وكتمان للحقيقة ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، واعلموا أنه ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
3. حين ينتهج الإنسان خط العناد واللجاج فإن إعراضه عن الحقيقة لا حدّ له، ينكر أبسط المسلّمات، ويرفض أوضح الواضحات، والآية تذكر نموذجا لذلك في هذه المجموعة التي بلغ بها العناد واللجاج أن تعتبر أنبياء الله ـ الذين سبقوا موسى وعيسى من أمثال إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبـ من اليهود أو النصارى، وبذلك يكتمون حقيقة واضحة لها ارتباط بإيمان النّاس ومعتقداتهم، ولذلك يصف القرآن هؤلاء الذين يكتمون الحقائق بأنهم أظلم النّاس، لأنه لا ظلم أكبر من كتمان الحقائق عن النّاس عمدا، وجرّ الآخرين إلى طريق الضلال.
4. ثم يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين: افترضوا أن ادعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنه ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فالامّة الحية ينبغي أن تعتمد على أعمالها لا على ذكريات تاريخها، والإنسان يجب أن يستند إلى فضائله، لا أن يجترّ مفاخر الآباء والأجداد.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/399.
60. اختبار القبلة والأمة الوسط
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈42⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 142-143]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
كعب:
روي عن كعب الأحبار (ت 32 هـ) أنّه قال: أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال، لم يعطها إلا الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ ولا حرج، وأنت شهيد على قومك، وادع أجبك، وقال لهذه الأمة: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ [غافر: ٦٠](1).
__________
(1) الدرّ المنثور: الفريابي: وسعيد بن منصور: وعبد بن حميد: وابن أبي حاتم.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رفاعة بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ونافع بن أبي نافع، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، والربيع بن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الحقيق، فقالوا له: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه!؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون فتنته عن دينه؛ فأنزل الله فيهم: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، يعني: أنهم شهداء على القرون بما سمى الله تعالى لهم(2).
3. روي أنه قال: لما وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾(3).
4. روي أنه قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، أي: ابتلاء واختبارا(1).
5. روي أنه قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة(4).
6. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾، يعني: تحويلها على أهل الشك والريب(5).
7. روي أنه قال: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، أي: الذين ثبت الله(1).
8. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ إلا على الخاشعين، يعني: المصدقين بما أنزل الله تبارك وتعالى(6).
9. روي أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ صلاتكم التي صليتم من قبل أن تكون القبلة، وكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم ألا تقبل صلاتهم(7).
10. روي أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ صلاتكم بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة، أي: ليعطينكم أجرهما جميعا(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٥٠.
(2) ابن جرير: ٢/٦٣٧.
(3) أحمد: ٤/٤٩٥.
(4) ابن جرير: ٢/٦٤٣.
(5) ابن جرير: ٢/٦٤٧.
(6) ابن جرير: ٢/٦٥٠.
(7) ابن جرير: ٢/٦٥٢.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنّه قال: قال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٥٢.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: إنما السبط في بني إسرائيل، والأمة الوسط أمة محمد جميعا(1).
__________
(1) ابن سعد: ٤/١٤٣.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يهديهم إلى المخرج من الشبهات، والضلالات، والفتن(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ يقول: لتكونوا شهداء على الأمم التي قد خلت قبلكم، بما جاءتهم به رسلهم، وبما كذبوهم، ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ يشهد أنهم آمنوا بالحق إذ جاءهم(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي: قبلة بيت المقدس، ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٩.
(3) ابن جرير: ٢/٦٤٨.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: ﴿لَرؤوفٌ﴾ يرأف بكم، ﴿رَحِيمٌ﴾ يعني: بالمؤمنين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾، يعني بذلك: الذين استقاموا على الهدى، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة لتكذيبهم رسل الله، وكفرهم بآيات الله(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٣٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ اليهود تقوله، حين ترك بيت المقدس(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تكونوا شهداء لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأمم؛ اليهود، والنصارى، والمجوس(1).
3. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ ما أمر به من التحول إلى الكعبة من بيت المقدس(2).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٥.
(2) ابن جرير: ٢/٦٤٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ هم مشركو العرب(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي: عدلا على الناس، ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ أي: عدلا(2).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٨٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٤٩.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. سئل عن قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وقيل له: أمره الله أن يصلي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، ألا ترى أن الله تعالى يقول: ﴿وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرؤوفٌ رَحِيمٌ﴾؟ قال: (إن بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة، وقد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم: إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وصلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين، فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين)(1).
2. روي أنّه قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاثة عشر سنة بمكّة، وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثمّ عيّرته اليهود فقالوا له: إنّك تابع لقبلتنا فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبريل عليه السلام، فقال له: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144](2).
3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾: نحن الامة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه، وحججه في أرضه(3)..
4. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، نحن الشهداء على الناس بما عندنا من الحلال والحرام(4)..
5. روي أنّه قال: نحن نمط الحجاز، قيل: وما نمط الحجاز؟ قال: أوسط الأنماط، إن الله يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ـ ثم قال ـ إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصر(5)..
__________
(1) التهذيب: 2/43.
(2) رسالة المحكم والمتشابه: 12.
(3) الكافي: 1/147.
(4) مختصر بصائر الدرجات: 65.
(5) تفسير العيّاشي: 1/63.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أمة محمد، شهداء على من ترك الحق حين جاءه الإيمان والهدى، ممن كان قبلنا، جاء ذلك أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتابهم ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصدقوا به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ الآية يعني: بيت المقدس(2).
3. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ يبتليهم ليعلم من يسلم لأمره(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٣٧.
(2) ابن جرير: ٢/٦٣٨.
(3) ابن جرير: ٢/٦٤١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص، صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصلى نبي الله بعد قدومه المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة؛ البيت الحرام، فقال في ذلك قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).
2. روي أنه قال: قال أناس من الناس لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾، وقد يبتلي الله عباده بما شاء من أمره الأمر بعد الأمر؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وكل ذلك مقبول في درجة الإيمان بالله، والإخلاص، والتسليم لقضاء الله(2).
3. روي أنه قال: ﴿لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ كبيرة حين حولت القبلة إلى المسجد الحرام، فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله(3).
4. روي أنه قال: عصم الله(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٢٤.
(2) ابن جرير: ٢/٦٥١.
(3) عبد الرزاق: ١/٦١.
(4) ابنُ أبي حاتم: ١/٢٥١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: (﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ معناه عدل.. والجمع الأوساط،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: لما وجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل المسجد الحرام اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافا؛ فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس، هل يقبل الله منا ومنهم أم لا؟ وقالت اليهود: إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر، وقال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه؛ فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم أهدى منه، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله في المنافقين: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، وأنزل الله في الآخرين الآيات بعدها(1).
2. روي أنه قال: لما وجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل المسجد الحرام اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانا، ثم تركوها، وتوجهوا إلى غيرها!؟ فأنزل الله في المنافقين: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾(1).
3. روي أنه قال: لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل المسجد الحرام؛ قال المسلمون: ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله فيهم: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾(2).
4. روي أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ صلاتكم قبل بيت المقدس، إن تلك كانت طاعة، وهذه طاعة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٢٥.
(2) ابن جرير: ٢/٦٥٢.
ابن أبي نجيح:
روي عن ابن أبي نجيح (ت 131 هـ) أنّه قال: يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة بإذنه ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قد بلغهم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٣٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنه قال: قال ناس لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٥٢.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنه قال: يعني: أهل دين، وسط بين الغلو والتقصير(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٥/٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، ثم وجهه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك غما شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمرا، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبريل وأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة، وأنزل عليه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، نحن الشهداء على الناس بما عندهم من الحلال والحرام، وبما ضيعوا منه(2)..
3. روي أنه قال: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾: بما عندنا من الحلال والحرام، وبما ضيعوا منه(3)..
4. روي أنه قال: (قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا، لم يعن الله مثل هذا من خلقه، يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وهم الأمة الوسطى، وهم خير أمة أخرجت للناس(3).
5. روي أنه قيل له: ألا تخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبين في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه، ولما أن صرف الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الكعبة عن بيت المقدس، قال المسلمون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها، وما حال من مضي من أمواتنا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فسمى الصلاة إيمانا، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه، لقي الله مستكملا لإيمانه من أهل الجنة، ومن خان في شيء منها، أو تعدى ما أمر فيها، لقي الله ناقص الإيمان(3)..
__________
(1) مجمع البيان: 1/413.
(2) بصائر الدرجات: 102/1.
(3) تفسير العيّاشي: 1/63.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، فلما عرج بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى السماء ليلا أمر بالصلوات الخمس، فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع ركعات، فلما هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأول أمر أن يصلي نحو بيت المقدس؛ لئلا يكذب به أهل الكتاب إذا صلى إلى غير قبلتهم، مع ما يجدون من نعته في التوراة، فصلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قبل بيت المقدس من أول مقدمه المدينة سبعة عشر شهرا، وصلت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال لجبريل عليه السلام: وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا، فاسأل ربك ذلك، وصعد جبريل إلى السماء، وجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل عليه السلام بما سأل؛ فأنزل الله تعالى في رجب، عند صلاة الأولى، قبل قتال بدر بشهرين: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة قال مشركو مكة: قد تردد على أمره، واشتاق إلى مولد آبائه، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم، فكان قولهم هذا سفها منهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، يعني: مشركي مكة(1).
2. روي أنه قال: ﴿مَا وَلَّاهُم﴾ يقول: ما صرفهم ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ الأولى ﴿الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾(2).
3. روي أنه قال: ﴿قُل﴾ يا محمد: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، يعني: دين الإسلام، يهدي الله نبيه والمؤمنين لدينه(2).
4. روي أنه قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، وذلك أن اليهود ـ منهم مرحب، ورافع، وربيعة ـ قالوا لمعاذ: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل، فأنزل الله تعالى في قول معاذ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾(2).
5. روي أنه قال: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ يعني: وهكذا ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ يعني: عدلا، نظيرها في (ن والقلم) قوله سبحانه: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُم﴾، يعني: أعدلهم، وقوله سبحانه: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم﴾ [المائدة: ٨٩] يعني: أعدل، فقول الله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ يعني: أمة محمد تشهد بالعدل في الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم(3).
6. روي أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾، وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدى أم ضلالة؟ فوالله، لئن كانت هدى لقد تحولتم عنه، ولئن كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها، وإن من مات منكم عليها مات على الضلالة، فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله تعالى به، والضلالة ما نهى الله عنه، قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ ـ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار، ومات البراء بن معرور من بني سلمة، وكانا من النقباء، ومات رجال ـ فانطلقت عشائرهم، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم عليه السلام؛ فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾(3).
7. روي أنه قال: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ إلا لنرى ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم على دينه في القبلة، ومن يخالفه من اليهود ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يقول: ومن يرجع إلى دينه الأول(3).
8. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾، يعني: القبلة، حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة، عظمت على اليهود(3).
9. روي أنه قال: ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾؛ فإنه لا يكبر عليهم ذلك(3).
10. روي أنه قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾، يعني: إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس، لقد تقبلت منهم(4).
11. روي أنه قال: ﴿إن الله بالناس لرؤوف﴾ يعني: [يرق لهم؟]، ﴿رَحِيمٌ﴾ حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة(4).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٣.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٤٤.
(3) تفسير مقاتل: ١/١٤٥.
(4) تفسير مقاتل: ١/١٤٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: بلغني: أن أناسا من الذين أسلموا رجعوا، فقالوا: مرة ههنا، ومرة ههنا(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٤١.
حبان:
روي عن حبان بن أبي جبلة أنّه قال: بلغني: أنه ترفع أمة محمد على كوم بين يدي الله، تشهد للرسل على أممها بالبلاغ، فإنما يشهد منهم يومئذ من لم يكن في قلبه إحنة على أخيه المسلم(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: الحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
مجالد:
روي عن مجالد بن سعيد، أنّه قال: قال الحجاج للحسن: أخبرني برأيك في أبي تراب، قال الحسن: سمعت الله يقول: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾؛ فعلي ممن هدى الله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ هم وسط بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين الأمم(1).
2. روي أنه قال: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شاهد على أمته، وهم شهداء على الأمم، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١]، والأشهاد أربعة: الملائكة الذين يحصون أعمالنا؛ لنا وعلينا، وقرأ قوله: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١]، وهذا يوم القيامة: والنبيون شهداء على أممهم: وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم شهداء على الأمم: والأطوار الأجساد والجلود(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ من إذا دخلته شبهة رجع عن الله، وانقلب كافرا على عقبيه(3).
4. روي أنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطان به ابن آدم، قال ما لهم صلوا إلى هاهنا ستة عشر شهرا، ثم انحرفوا!؟ فكبر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أي شيء هذا الدين!؟ وأما الذين آمنوا فثبت الله ذلك في قلوبهم، وقرأ قول الله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ قال صلاتكم حتى يهديكم إلى القبلة(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٢٩.
(2) ابن جرير: ٢/٦٣٧.
(3) ابن جرير: ٢/٦٤٦.
(4) ابن جرير: ٢/٦٥٠.
العسكري:
ذكر الإمام العسكري (ت 260 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان بمكة أمره أن يتوجه نحو بيت المقدس في صلاته، ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن، وإذا لم يكن استقبل بيت المقدس كيف كان، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة، فلما كان بالمدينة، وكان متعبدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا، وجعل قوم من مردة اليهود يقولون: والله، ما درى محمد كيف صلى حتى صار يتوجه إلى قبلتنا، ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا، فاشتد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما اتصل به عنهم، وكره قبلتهم وأحب الكعبة، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا جبريل، لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة، فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم، فقال جبريل: فاسأل ربك أن يحولك إليها، فإنه لا يردك عن طلبتك، ولا يخيبك من بغيتك، فلما استتم دعاءه صعد جبريل عليه السلام، ثم عاد من ساعته، فقال: اقرأ، يا محمد: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ الآيات، فقال اليهود عند ذلك: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، فأجابهم الله أحسن جواب، فقال: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وهو يملكهما، وتكليفه التحول إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هو مصلحهم ومؤديهم بطاعتهم إلى جنات النعيم(1).
2. روي أنه قال: جاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: يا محمد، هذه القبلة بيت المقدس قد صليت إليها أربع عشرة سنة ثم تركتها الآن، أ فحقا كان ما كنت عليه، فقد تركته إلى باطل؟ فإن ما يخالف الحق فهو باطل، أو كان باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدة؟ فما يأمنا أن تكون الآن على باطل؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بل ذلك كان حقا، وهذا حق، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إذا عرف صلاحكم ـ أيها العباد ـ في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله في عباده، وقصده إلى مصالحكم ـ ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لقد تركتم العمل يوم السبت، ثم عملتم بعده في سائر الأيام، وتركتموه في يوم السبت، ثم عملتم بعده، أ فتركتم الحق إلى الباطل، أو الباطل إلى الحق؟ أو الباطل إلى الباطل أو الحق إلى الحق؟ قالوا: بل ترك العمل في السبت حق، والعمل بعده حق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فكذلك قبلة بيت المقدس في وقتها حق، ثم قبلة الكعبة في وقتها حق، فقالوا: يا محمد أ فبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حتى نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما بدا له عن ذلك، لأنه العالم بالعواقب، والقادر على المصالح، لا يستدرك على نفسه غلطا، ولا يستحدث له رأيا بخلاف المتقدم، جل عن ذلك، ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه عن مراده، وليس يبدو إلا لمن كان هذا وصفه، وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا، ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيها اليهود، أخبروني عن الله، أليس يُمرض ثم يُصح، ويصح ثم يمرض، أ بدا له في ذلك؟ أليس يحيي ويميت، أليس يأتي بالليل في أثر النهار، ثم النهار في أثر الليل، أبدا له في كل واحد من ذلك؟ قالوا: لا، قال فكذلك الله تعبد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة بعد أن كان تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس، وما بدا له في الأول، ثم قال أليس الله يأتي بالشتاء في أثر الصيف، والصيف في أثر الشتاء، أبدا له في كل واحد منهما؟ قالوا: لا، قال فكذلك لم يبد له في القبلة، ثم قال أليس قد ألزمكم أن تحترزوا في الشتاء من البرد بالثياب الغليظة، وألزمكم في الصيف أن تحترزوا من الحر، أفبدا له في الصيف حين أمركم بخلاف ما أمركم به في الشتاء؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فكذلك تعبدكم في وقت لصلاح يعلمه بشيء، ثم بعده في وقت آخر لصلاح آخر بشيء آخر، فإن أطعتم في الحالين استحققتم ثوابه، فأنزل الله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أي إذا توجهتم بأمره فثم الوجه الذي تقصدون منه الله تعالى، وتؤملون ثوابه، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عباد الله، أنتم كالمرضى، والله رب العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبره به، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه، ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين)(1).
3. روي أنه قيل له: يا ابن رسول الله، لم أمر بالقبلة الأولى؟ فقال: لما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ وهي بيت المقدس ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ إلا لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد، وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة، فأراد الله يبين متبع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من مخالفه باتباع القبلة التي كرهها، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة، ليبين من يوافق محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم في ما يكرهه، فهو مصدقه وموافقه، ثم قال ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي كان التوجه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت كبيرة إلا على من يهدي الله، فعرف أن الله يتعبد بخلاف ما يريده المرء ليبتلي طاعته في مخالفة هواه)(1).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، 492/312.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ السفهاء الذين ذكرهم الله سبحانه هم: السفهاء في نفوسهم، الذين لا عقول لهم، ولا تمييز ولا دين، سفهاء الرأي والأحلام، من أهل الكتاب وغيرهم؛ وذلك أن النبي كان يصلي إلى بيت المقدس، وكان يجب الصلاة إلى قبلة إبراهيم، وهو قول الله عز وجل في كتابه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، فأمره الله عز وجل أن يولي وجهه ومن كان معه من المؤمنين إلى الكعبة، وهي قبلة إبراهيم، ثم قال ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، فأمره سبحانه أن يقول لهم عندما يكون من كلامهم وجهلهم، وطعنهم عليه في تحوله عن القبلة الأولى: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، يريد: أن لله سبحانه الشرق والغرب، وأن ما أنتم عليه من القبلة وغيرها من الأديان تعبد من الله سبحانه تعبدكم به، وهو يفعل ـ عز وجل ـ ما يشاء، ويتعبد بما أراد، وما تعبد به هو: طاعة له، وكان قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قطعا لحججهم، وفلا لكلامهم، ولا يجدون معه قالا ولا قيلا، والله سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
2. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، الوسط هو: العدل في الأمور، والقصد في التكليف؛ كذلك من تعلق بالحق، ولزم الصدق، وترك عنه الغلو والإفراط في ما لم يوجبه الله سبحانه من حكمه، ولم يتبع المتشابه، ولم يخرج بنفسه إلى الزلل والخطل، ويتبع الحق والهدى، والطريق المثلى ـ فهو وسط، مستوجب للاسم الذي سماه الله به، يتبعه ـ كما قال أمير المؤمنين علي: والتالي هو الذي يكون بعده يقتدي به في فعله، (ويرجع إليهم الغالي)، يقول: يقتدي بهم ويرجع إلى قولهم، ومن خالف القصد في أمره، واستفزته الأهواء، ومالت به الآراء ـ ضل في قصده، وتحير في دينه، وفي ذلك ما يروى عن محمد بن علي بن الحسين ـ رحمة الله عليه ـ: أن رجلا سأله، فقال: يا ابن رسول الله، دلني على أمر إذا عملت به نجوت به عند الله، وإذا سئلت غدا قلت: أنت هديتنيه، فقال له: (اعمل بما اجتمع عليه المختلفون)؛ فهذا دليل على أمره له بالقصد، وترك الغلو والتحيز، وقد بين ذلك أمير المؤمنين في أول حديثه، حيث يقول: (يهلك في رجلان: محب مفرط، أو مبغض مفتري، وخير أصحابي النمط الأوسط)
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/68.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ هذا وعد كان وعده عزّ وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئا، ألا ترى إلى قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 144]، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرا منه وتحكما عليه، وليس لأحد على الله التخيير والتحكم عليه في الأحكام والشرائع ولا في غيرها، فدل أنه على الوعد له ما فعل.. ثم فيه إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة.
2. اختلف في المراد بقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾:
أ. قيل: هو اليهود، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك أنهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها، وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور، كبان بنى بناء ثم نقضه لجهل منه به، لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره، ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام، وأما النسخ عندنا: فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى، بل تجديد حكم في وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذي وصفوا، وبالله التوفيق.
ب. وإن كانت الآية في غير اليهود من أهل مكة، على ما يقول بعض أهل التفسير، فقالوا: لما رجع محمد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا، فقال الله عزّ وجل: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾
3. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أي قل يا محمد: لله المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحي، يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقا وغربا، فالطاعة له في الائتمار لأمره، والقبول لدعائه، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لهوى هووا ولتمنّ تمنوا؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعا لهواهم، لا اتباعا لأمر أمروا به، وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم؛ فأخبر الله تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون بالله حيث ما أمروا توجهوا نحوه.
4. قوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذا على المعتزلة؛ لأنه أخبر عزّ وجل أنه ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، ولا جائز أن يهدى وهو لا يهتدي، وهم يقولون: شاء أن يهدى ولكن لم يهتدوا.
5. قوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ على جعل له صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعمل به، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة، فكذلك في غيره من الناس، ﴿وَكَذَلِكَ﴾، لا يتكلم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا على العطف على ما سبق من الخطاب، وهو معطوف على قوله: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الآية [136]، كأنه قال كما وفقكم على الإيمان بما ذكر، وهداكم للإسلام، كذلك جعلكم ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ يعنى عدلا، ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾
6. اختلف في قوله: ﴿عَلَى النَّاسِ﴾:
أ. قيل: (على) بمعنى (اللام) أي للناس، وهذا جائز في اللغة سائغ، كقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3]، أي للنصب.
ب. وقيل: ﴿عَلَى﴾ بمعنى (على)، أي أن يشهدوا على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة، ويشهد الرسول لهم بالعدالة، وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر، ورد شهادتهم علينا؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ، ثم شهد أولئك بأنهم لم يبلغوا، لكان فيه تناقض، فدل أن شهادتنا تقبل عليهم، ولا تقبل شهادتهم علينا.
ج. ويحتمل قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ الذين أبوا إجابة الرسل، ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ أن جحدتم الرسالة، وذلك قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ الآية [143]، أضاف الله إليه جعلهم ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾، ثبت أن لله في فعل ذلك فعل به ذكر مننه.
7. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، الوسط: العدل، أخبر ـ عزّ وجل ـ أنه جعل هذه الأمة:
أ. عدلا، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها، ففيه الدلالة على جعل إجماع هذه الأمة حجة؛ لأنه وصفها بالعدالة، وصيرها من أهل الشهادة، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به، لزم قبول ذلك، والحكم بما شهدوا، والشهادة فيه أنه من عند الله وقع لهم ذلك.
ب. الثاني: قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، أخبر الله عزّ وجل أن فيهم صدقة، يلزم اتباعهم.
ج. الثالث: ما قال عزّ وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115] ولا يجوز الوعيد في مثله إذا لم يكن ذلك هو الحق عند الله.
د. الرابع: قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، أمر عزّ وجل عند التنازع الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر.
8. في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: على الكفرة، وفى ذلك دليل قبول شهادة المسلمين عليهم، ورد شهادتهم عليهم، لما يتناقض فيزول منفعة الشهادة عليهم.
ب. الثاني: ليكون من شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، شهود على من يكون بعدهم، وفى ذلك دليل من تأخر الصحابة، عن الخلاف لهم، ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ إذا خالفتموه وعصيتموه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾:
أ. قيل: هذا لما كانوا في المتابعة على قسمين: منهم من تبعه لما وافق هواه، ومنهم من تبعه لما علم أنه الحق من عند الله عزّ وجل؛ ليبين لهم ويقع علم ذلك عندهم: من المتبع له بهواه، ومن المتبع له بالأمر والطاعة له.
ب. وقيل أيضا في قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾، قيل: ليعلم من يتبع الرسول ما قد علم أنه يكون كائنا، وليعلم ما قد علم أنه يوجد موجودا.
ج. وقيل: إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم، معناه إلا ليكون المتبع له، والمنقلب على عقبيه، والأصل في هذا ونحوه من قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: 31]، أنا لا نصف الله تعالى بالعلم في الخلق، غير الحال التي الخلق عليها؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على غير الحال التي عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل؛ لأنه لا يجوز أن يقال: يعلم من الساكن في حال السكون حركة، أو السكون في حال الحركة، أو يعلم من الجالس قياما، أو القائم جلوسا، وكذلك لا يجوز أن يقال: يعلم من العدم موجودا، أو من الوجود معدوما في حال وجوده؛ لأنه وصف بعلم ما ليس، وهو محال، وبالله العصمة.
د. وقيل: إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدث ـ بفتح الدال ـ أي يسند علمه إلى المحدث بذكر الوقت؛ لئلا يفهم بذكره قدم المعلوم فى الأزل، وإذا وصفنا الله بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق مع ذلك نصفه بالذي نصفه به في الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال، ولا قوة إلا بالله.
10. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ يعنى: تحويل القبلة، لكبيرة: ثقيلة، على من كان اتباعه لهواه، دون أمر أمر به، إلا على الذي يتبع أمر الله فيها ويعتقد طاعته فإنها ليست بثقيلة عليه ولا كبيرة.
11. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، قال بعض أهل التفسير: إن قوما صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا على ذلك، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا: ضاعت صلواتهم التي صلوا إليها، إشفاقا عليهم، لكن هذا بعيد لا يحتمل؛ لأن الذي اعتقد الإسلام من الصحابة، وعرف موقع أمر الله وأمر رسوله، لا يجوز أن يخطر ببالهم هذا، أو يعملون لو خطر ببالهم في أحوالهم، لكن إن كان ثم سؤال فهو:
أ. من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ في الأحكام والشرائع، فكانوا يحتجون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه ينهى عن التفرق والاختلاف، ثم يدعوهم إلى ذلك.
ب. أو قوم من الكفرة آذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفرطوا في التكذيب له والخلاف والمعاداة، فأرادوا الإسلام، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، لما كان منكم في حال الكفر، ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه، أخبر أنه ﴿رَحِيمٌ﴾ يتجاوز عمن تاب.
ج. أو قوم علموا ألا تناسخ في الدين ولا اختلاف فيه؛ فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها يوجب اختلافا في الدين وتفرقا فيه.
12. إن الإيمان في الأصل الذي لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة، بل يقع على الائتمار، فالإيمان من الصحابة، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة، فلا تفرق ولا اختلاف في الإيمان، إذ في الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار.
13. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ تأويله: أي لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس، ولو كان على الصلاة فهو لوجهين:
أ. أحدهما: أنها إنما قامت بالإيمان، فهو سبب لها، وقد يذكر الشيء باسم سببه.
ب. الثاني: أن اليهود عرفوه إيمانا، فورد الخطاب على ما عندهم معروف؛ كقوله: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ [الصافات: 91]، لا أن كان ثم آلهة، لكن لما عندهم، وكذلك قوله: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]، لا أن كان ثم خالق سواه، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقا، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/582.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ أي ما الذي صرفهم عن بيت المقدس وردهم إلى الكعبة، وذلك أن الله سبحانه نسخ الصلاة إلى بيت المقدس بالصلاة إلى الكعبة.
2. معنى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي خياراً.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ والسفهاء جمع سفيه والسفيه الخفيف الحلم من قولك: ثوب سفيه إذا كان رقيق النسج، ورمح سفيه إذا أسرع نفوذه والمراد بالسفهاء اليهود ويحتمل أن يكون كفار قريش ويحتمل أن يكون المنافقين.
2. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ كما قال الهذلي:
إن العشير بها داء يخامرها... فشطر بها العينين محسور
أي نحوها، والشطر من الأضداد شطر إلى كذا أي أقبل إليه وشطر عن كذا أي بعد منه أعرض عنه، وشطر الشيء نفسه وشطره نصفه، وقوله: ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ يعني به الكعبة لأنها فيه يعبر عنها به والبيت كله قبلة.
3. ثم قال: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ جرى الأمر الثاني مجرى التأكيد للأمر الأول لأن عمومه يقتضيه لكن أزال بالتأكيد أحكام التخصيص، ثم جعل الأمر الأول مواجهاً به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والثاني مواجهاً به جميع الناس فكلا الأمرين عام في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجميع أمته لكن غاير بين الأمرين ليمنع من تغيير الأمر والمأمور به وليكون كل واحد منهما جارياً على عمومه.
4. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ والوسط فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنهم الخيار كما يقال فلان واسط الحسب إذا كان رفيعه، ومنه قول زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظمé
ب. الثاني: أن الوسط من التوسط في الأمور لأن المسلمين توسطوا فيه فلا هم أهلُ غلوٍّ فيه كالنصارى الذين غلوا بالترهب وما قالوا في عيسى، ولا هم أهل تقصير فيه كاليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءه وكذبوا على ربهم.
ج. الثالث: أن المراد بالوسط العدل لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان وقد روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي لتشهدوا على أهل الكتاب بتبليغ الرسول رسالة ربه، ويحتمل وجه آخر وهو أن تكون الشهادة بمعنى الاحتجاج أي لتكونوا محتجين على الأمم كلها فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ بأنه قد بلغ رسالة ربه ويكون الرسول عليهم شهيداً أي محتجاً.
5. ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وهي بيت المقدس حين كان يستقبلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة وبعد هجرته إلى المدينة سبعة عشر شهراً، ثم نسخت قبلة جهة بيت المقدس باستقبال قبلة الكعبة وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاة الظهر بالمدينة وقد صلى منها ركعتين نحو بيت المقدس فانصرف بوجهه إلى الكعبة وقال البراء بن عازب: كنا في صلاة العصر بقبا فمر رجل على أهل المسجد بقبا وهم ركوع في الثانية فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مكة قد أزواهم قبل مكة قد أزواهم قبل البيت، وقبلة كل شيء ما قابل به وجهه، واستقبال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيت المقدس لم يكن إلا بأمر من الله سبحانه ووحيه لقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾
6. أما الحكمة في اختيار الله عز وجل بيت المقدس قبلة لنبيه لمعنى، وذلك أن العرب كانت غير آلفة لبيت المقدس وكانت تحج البيت الحرام فأراد الله سبحانه امتحانهم في النقل عما ألفوه والتحويل بما عهدوه وأتى رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع وكنانة ابني أبي الحقيق قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك؛ فأنزل الله سبحانه ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾
7. سؤال وإشكال: فكيف جعل تحويل القبلة طريقاً إلى علمه؟ والجواب: أن التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لمن يتبع الرسول فيعلم اتباعه فأوقع الفعل على العلم والمراد به المعلوم من يتبع الرسول يعني بما أمرته في استقبال الكعبة.
8. ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي ممن يرتد عن دينه لأن المرتد ينقلب عما كان عليه لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم، وقالت اليهود إن محمداً قد علم أنا على هدىً سيتابعنا، ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي وإن كانت التولية كبيرة إلا على الذين هدى الله والتحويل عَظُمَ على المنافقين والكافرين.
9. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس فسميت الصلاة إيماناً لاجتماعها على نية وإخلاص وفعل وقول.. وسبب ذلك أن المسلمين لما حولوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف بمن مات من إخواننا؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
10. سؤال وإشكال: إنما سألوا عن صلاة غيرهم فأجابهم لحال صلاتهم؟ والجواب: إن القوم أشفقوا أن تكون صلاتهم محبطة التي كانت إلى بيت المقدس لمن مات ولمن بقي فأجابهم بما دل على الأمرين على أنه قد روي أنهم قالوا: كيف نصنع بصلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله سبحانه ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فالرأفة أشد من الرحمة وقيل الرأفة أكثر من الرحمة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/88.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ السّفهاء: واحده سفيه، والسّفيه: الخفيف الحلم، من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، ورمح سفيه إذا أسرع نفوذه، وفي المراد بالسفهاء هاهنا ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: اليهود، وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: المنافقون، وهو قول السدي.
ج. الثالث: كفار قريش وحكاه الزجاج.
2. ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ يعني ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، حيث كان يستقبلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، بعد هجرته إلى المدينة بستة عشر أو سبعة عشر شهرا في رواية البراء بن عازب، وفي رواية معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية أنس بن مالك تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم نسخت قبلة بيت المقدس باستقبال الكعبة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة في صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين نحو بيت المقدس، فانصرف بوجهه إلى الكعبة، هذا قول أنس بن مالك، وقال البراء بن عازب: كنا في صلاة العصر بقباء، فمر رجل على أهل المسجد وهم ركوع في الثانية، فقال: أشهد لقد صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وقبل كل شيء: ما قابل وجهه.
3. اختلف أهل العلم في استقبال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيت المقدس:
أ. قيل: كان عن أمر الله تعالى لقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾، وهذا قول ابن عباس وابن جريج.
ب. وقيل: أنه كان يستقبلها برأيه واجتهاده، وهذا قول الحسن، وعكرمة، وأبي العالية، والربيع.
4. اختلفوا في سبب اختياره بيت المقدس على قولين:
أ. أحدهما: أنه اختار بيت المقدس ليتألّف أهل الكتاب، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
ب. الثاني: لأن العرب كانت تحج البيت غير آلفة لبيت المقدس، فأحب الله أن يمتحنهم بغير ما ألفوه، ليعلم من يتبع ممن ينقلب على عقبيه، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، فلما استقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الكعبة، قال ابن عباس: أتى رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع وكنانة بن أبي الحقيق، فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها، نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يعني حيثما أمر الله تعالى باستقباله من مشرق أو مغرب.
5. الصراط: الطريق، والمستقيم: المستوي.
6. في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني خيارا، من قولهم فلان وسط الحسب في قومه، إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه، ومنه قول زهير:
çهم وسط يرضى الإله بحكمهم...إذا نزلت إحدى اللّيالي بمعظّمé
ب. الثاني: أن الوسط من التوسط في الأمور، لأن المسلمين توسّطوا في الدين، فلا هم أهل غلوّ فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كاليهود الذين بدّلوا كتاب الله وقتّلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم وسط، لأن أحب الأمور إليه أوسطها.
ج. الثالث: يريد بالوسط: عدلا، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان، وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾: أي عدلا.
7. في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: لتشهدوا على أهل الكتاب، بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم.
ب. الثاني: لتشهدوا على الأمم السالفة، بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم، وهذا مروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن الأمم السالفة تقول لهم: كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا، فيقولون أعلمنا نبيّ الله بما أنزل عليه من كتاب الله.
ج. الثالث: أن معنى قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي لتكونوا محتجّين على الأمم كلها، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، وهذا قول حكاه الزجاج.
8. في قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يكون الرسول شهيدا على أمته أن قد بلّغ إليهم رسالة ربه.
ب. الثاني: أنّ معنى ذلك أن يكون شهيدا لهم بإيمانهم، وتكون (عليهم) بمعنى (لهم).
ج. الثالث: أن معنى قوله: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ أي محتجّا.
﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي بيت المقدس، ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾
9. سؤال وإشكال: الله أعلم بالأشياء قبل كونها، فكيف جعل تحويل القبلة طريقا إلى علمه؟ والجواب: في قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أربعة تأويلات:
أ. أحدها: يعني إلا ليعلم رسولي، وحزبي، وأوليائي؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس إليه، كما قالوا: فتح عمر سواد العراق وجبي خراجها.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ بمعنى: إلا لنرى، والعرب قد تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1] يعني: ألم تعلم.
ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها.
د. الرابع: أن قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباس.
10. ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ بمعنى: ممن يرتدّ عن دينه، لأن المرتد راجع منقلب عما كان عليه، فشبهه بالمنقلب على عقبيه، لأن القبلة لمّا حوّلت ارتدّ من المسلمين قوم، ونافق قوم، وقالت اليهود: إن محمدا قد اشتاق إلى بلد أبيه، وقالت قريش: إن محمدا قد علم أننا على هدى وسيتابعنا.
11. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرة، وهذا هو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
ب. الثاني: إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل، وهذا قول أبي العالية الرياحي.
ج. الثالث: أن الكبيرة هي الصلاة، التي كانوا صلّوها إلى القبلة الأولى، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
12. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل، وسبب ذلك أن المسلمين لما حوّلوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف من مات من إخواننا؟ فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾
13. سؤال وإشكال: هم سألوه عن صلاة غيرهم، فأجابهم بحال صلاتهم؟ والجواب: لأن القوم أشفقوا، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس محبطة لمن مات ومن بقي، فأجابهم بما دلّ على الأمرين، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا: كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك.
14. {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} الرأفة: أشد من الرحمة، وقال أبو عمر عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/197.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيقول لك فيما بعد السفهاء، وهو جمع سفيه، وهو والجاهل والغبي نظائر، والسفيه: الخفيف إلى ما لا يجوز له أن نحف إليه، وهي صفة ذم في الدين، وضد السفه الحكمة.
2. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ معناه، أي شيء ولّاهم، ومعنى ولَّاهم صرفهم عنه، ومثله: قلّبه عنه وفتله، واشتقاق ولاهم من الولي، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل، فالثاني يلي الأول، والثالث يلي الثاني، والرابع يلي الثالث ثم هكذا أبداً، ووّلى عنه خلاف وّلى إليه: مثل قولك، عدل عنه، وعدل إليه، وانصرف، عنه وانصرف إليه، فإذا كان الذي يليه متوجهاً إليه فهو متول إليه وإذا كان متوجهاً إلى خلاف جهته، فهو متول عنه.
3. ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، والقبلة: الجهة التي تستقبل في الصلاة، وقبلة المسلمين: الكعبة، والقبلة مثل الجلسة للحال التي يقابل لشيء غيره عليها كما أن الجلسة للتي يجلس عليها، فكان يقال: ـ فيما حكي ـ هو لي قبلة، وأنا له قبلة، ثم صار علماً على الجهة التي تستقبل في الصلاة.
4. اختلفوا في الذين عابوا المسلمين بالانصراف من قبلة بيت المقدس إلى الكعبة على ثلاثة أقوال:
أ. قال ابن عباس، والبراء بن عازب: هم اليهود.
ب. قال الحسن: هم مشركو العرب، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا حول الكعبة من بيت المقدس، قالوا: يا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رغبت عن قبلة آبائك، ثم رجعت إليها ايضاً، والله لترجعن إلى دينهم.
ج. قال السدي: انهم المنافقون، قالوا ذلك استهزاء بالإسلام.
5. اختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة:
أ. قال قوم: انهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ.
ب. قال ابن عباس: إن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها، ارجع اليها نتبعك ونؤمن، وأرادوا بذلك فتنته.
ج. انه قال ذلك مشركو العرب ليوهموا ان الحق ما هم عليه.
6. إنما صرفهم الله عن القبلة الأولى:
أ. قيل: لما علم الله تعالى من تغير المصلحة في ذلك.
ب. وقيل انما فعل ذلك لما قال تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، لأنهم كانوا بمكة، أمروا أن يتوجهوا الى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون الى الكعبة، فلما انتقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الى المدينة كان اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون الى بيت المقدس فنقلوا الى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما أريد في الاول ان يتميزوا من أولئك واختار ذلك البلخي والجبائي والرماني.
7. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أمر من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ان يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم عن بيت المقدس الى الكعبة: المشرق والمغرب ملك لله يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته، والمشرق والمطلع نظائر، وكذلك المغرب والمغيب نظائر.
8. في الآية دلالة على جواز النسخ لأنه تعالى نقلهم ـ عن عبادة كانوا عليها ـ الى إيقاعها على وجه آخر وهذا هو النسخ.
9. ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ فيه دلالة على أن من له المشرق والمغرب، فله التدبير فيهما، وفي ذلك إسقاط قول من زعم: أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه اليها، لأنها مواطن الأنبياء ـ وقد شرفها الله وعظمها ـ فلا وجه للتولية عنها ـ فرد الله عليهم بأن المواطن كلها لله يشرف منها ما يشاء في كل زمان على ما يعلمه من مصالح العباد.
10. اختلف في المدة التي توجه فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الى بيت المقدس:
أ. قال ابن عباس، والبراء بن عازب: انه كانت الصلاة الى بيت المقدس الى بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبعة عشر شهراً.
ب. وقال انس بن مالك: انما كان ذلك تسعة أشهر أو عشرة أشهر.
ج. وقال معاذ بن جبل كان ثلاثة عشر شهراً.
د. وقال قتادة صلّت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلّى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً ثم وجهه الله الى الكعبة.
11. لا خلاف ان التوجه الى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضاً واجباً، ثم اختلفوا:
أ. قال الربيع: كان ذلك على وجه التخيير، خير الله نبيه بين ان يتوجه الى بيت المقدس وبين غيرها.
ب. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين كان ذلك فرضاً معينا ـ وهو الأقوى ـ، لقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ فبين انه جعلها قبلة، وظاهر ذلك انه معين، لأنه لا دليل على التخيير، على انه لو ثبت انه كان مخيراً لما خرج من ان يكون فرضاً، كما ان الغرض ان يصلى الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله وأوسطه وآخره.
12. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ معنا: يهديهم الى الدين المستقيم الذي يؤديهم الى الجنة، فلذلك سماه صراطاً كما يؤدي الطريق الى المقصد.
13. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ اخبر الله تعالى أنه جعل أمة نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسطاً: أي سماها بذلك وحكم لها به، والوسط: العدل، وقيل الخيار، ومعناهما واحد: وقيل: انه مأخوذ من المكان الذي تعدل المسافة منه الى أطرافه، وقيل: بل أخذ الوسط من التوسط بين المقصر والمغالي، فالحق معه، وقال مؤرج: اي وسط بين الناس وبين أنبيائهم وقال زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم...إذا نزلت احدى الليالي بمعظمé
وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال أمة وسطاً: عدلا، وهو قول مجاهد، وقتادة، والربيع، وابن عباس، واكثر المفسرين، وقال صاحب العين: الوسط من الناس وغيرهم، ومن كل شيء أعدله، وأفضله وقيل الواسط والوسط بمعنى واحد، كما قيل يابس ويبس بمعنى واحد، قال تعالى ﴿فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ والوسط ـ بتسكين السين ـ الموضع، والوسط ـ بالتحريك ـ لما بين طرفي كل شيء، ويسمى واسط الرحل بين القادمة والاخرة، وكذلك واسطة القلادة، وأصل الباب الوسط: العدل، وقولهم فلان من أوسطهم نسباً: اي تكلله الشرف من نواحيه.
14. اللام الاولى في قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ لام كي، كأنه قال كي تكونوا، وأصلها لام الاضافة، واللام في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ لام تأكيد، وهي تلزم أن المخففة من الثقيلة، لئلا تلبس بأن التي بمعنى ما، كقوله تعالى: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ وهي لام الابتداء أخرت الى الخبر في باب (ان) خاصة، واما اللام الثالثة في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ فلام الجحد، وأصلها لام الاضافة، والفعل نصب بإضمار (أن (، ولا يظهر بعدها (ان)، لان التأويل: ما كان الله مضيعاً ايمانكم، فلما حمل معناه على التأويل، حمل، لفظه ايضاً على التأويل من غير تصريح بإظهار (ان).
15. اختلف بأي شيء يشهدون على الناس على ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ ليشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة كما قال ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ وقال {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} قال ابن زيد: الاشهاد أربعة الملائكة، والأنبياء، وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجوارح، كما قال ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ب. الثاني ـ يشهدون الأنبياء على أممهم المكذبين بأنهم بلّغوا، وجاز ذلك لاعلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم بذلك.
ج. الثالث ـ ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي حجة عليهم فيما يشهدون، كما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شهيد بمعنى حجة في كلما اخبر به، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده كذلك، فأما الامة فجماعتها حجة دون كل واحد منها.
16. استدلّ البلخي، والجبائي، والرماني، وابن الأخشاد، وكثير من الفقهاء، وغيرهم بهذه الآية على أن الإجماع حجة من حيث ان الله وصفهم بأنهم عدول، فإذا عدلهم الله تعالى، لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة ـ وقد بينا في اصول الفقه أنه لا دلالة فيها على ان الإجماع حجة ـ وجملته ان الله تعالى وصفهم بأنهم عدول، وبأنهم شهداء وذلك يقتضي ان يكون كل واحد عدلا، وشاهداً، لأن شهداء جمع شهيد، وقد علمنا أن كل واحد من هذه الامة ليس بهذه الصفة، فلم يجز أن يكون المراد ما قالوه، على أن الأمة إن أريد بها جميع الامة، فقد بينا ان فيها كثيراً ممن يحكم بفسقه بل بكفره، فلا يجوز حملها على الجميع، وان خصوها بالمؤمنين العدول، لنا أن نخصها بجماعة، كل واحد منهم موصوف بما وصفنا به جماعتهم: وهم الأئمة المعصومون من آل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على أنا لو سلمنا ما قالوه من كونهم عدولا، ينبغي أن نجنبهم ما يقدح في عدالتهم وهي الكبائر، فأما الصغائر التي تقع مكفرة، فلا تقدح في العدالة، فلا ينبغي أن نمنع منها، ومتى جوزنا عليهم الصغائر لم يمكنا أن نحتجّ بإجماعهم، لأنه لا شيء أجمعوا عليه إلا ويجوز أن يكون صغيراً فلا يقدح في عدالتهم، ولا يجب الاقتداء بهم فيه لكونه قبيحاً، وفي ذلك بطلان الاحتجاج بإجماعهم، وكيف يجنبون الصغائر، وحال شهادتهم ليس بأعظم من شهادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومع هذا يجوزون عليه الصغائر فهلا جاز مثل ذلك عليهم، ولا تقدح في عدالتهم ـ كما لم تقدح في عدالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
17. في قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ عليكم شهيداً بما يكون من أعمالكم، وقيل: يكون حجة عليكم.
ب. الثاني ـ يكون لكم شهيداً بأنكم قد صدقتم ـ يوم القيامة ـ فيما تشهدون به.
18. جعلوا (على) بمعنى اللام كما قال ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ اي للنصب، والتشبيه في قوله ﴿وَكَذَلِكَ﴾ وقع بما دل عليه الكلام في الآية التي قبلها، وهي قوله ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فتقديره أنعمنا عليكم بالعدالة كما أنعمنا عليكم بالهداية والعامل في الكاف جعلنا، كأنه قيل: (من يشأ الى صراط مستقيم) فقد أنعمنا عليكم بذلك وجعلناكم أمة وسطاً فأنعمنا كذلك الانعام، إلا أن (جعلنا) يدل على أنعمنا في هذا الكلام، فلم نحتج الى حذفه معه في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ اي ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، وحذف لدلالة الكلام عليه.
19. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ اقوال:
أ. أولها ـ ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ اي لنعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كما يقول الملك فعلنا وفتحنا بمعنى فعل أولياؤنا ومن ذلك قيل: فتح عمر السواد وجبا الخراج وإن لم يتولّ ذلك بنفسه.
ب. الثاني ـ إلا ليحصل المعلوم موجوداً، فقيل على هذا: إلا لنعلم، لأنه قبل وجود المعلوم لا يصح وصفه بانه عالم بوجوده.
ج. الثالث ـ إلا لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم أن العدل يوجب ذلك، من حيث لو عاملهم بما يعلم انه يكون منهم كان ظلماً لهم، ويظهر ذلك قول القائل لمن أنكر أن تكون النار تحرق الحطب: فليحضر النار والحطب لنعلم أتحرقه أم لا، على جهة الانصاف في الخطاب، لا على جهة الشك في الإحراق، وهذا الوجه اختاره ابن الأخشاد، والرماني.
د. الرابع ـ كان علي بن الحسين المرتضى الموسوي يقول في مثل ذلك وجهاً مليحاً: وهو ان قال قوله لنعلم يقتضي حقيقة ان يعلم هو وغيره ولا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الّاتباع، فأما قبل حصوله فإنما يكون هو تعالى العالم وحده، فصح حينئذ ظاهر الآية.
هـ. الخامس ـ وهو ان يعلموا أنا نعلم، لأنه كان منهم من يعتقد ان الله لا يعلم الشيء حتى يكون على ان قوله: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ لا يدل على حدوث العلم، لأنه كان قبل ذلك عالماً بان الاتباع سيوجد، أو لا يوجد، فان وجد كان عالماً بوجوده وان لم يتجدد له صفة، وإنما يتجدد المعلوم، لان العلم بان الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد، وانما يتغير عليه الاسم، ويجري ذلك مجرى تغير الاسم على زمان بعينه، بان يوصف بانّه غد قبل حصوله، فإذا حصل قيل انه اليوم، فإذا تقضى وصف بانه أمس، فتغير عليه الاسم والمعلوم لم يتغير.
20. في قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ ان قوماً ارتدوّا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها من وجه الحكمة.
ب. الآخر: ان المراد به كل مقيم على كفره، لان جهة الاستقامة إقبال، وخلافها ادبار، لذلك وصف الكافر بانه أدبر واستكبر، وقال: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ اي عن الحق.
21. العقب مؤخر القدم قال ثعلب: ونرد على أعقابنا: أي نعقب بالشر بعد الخير وكذلك رجع على عقبيه، وسميت العقوبة عقوبة لأنها تتلو الذنب، والعقبة كرة بعد كرة في الركوب والمشي، والمعقبات: ملائكة الليل تعاقب ملائكة النهار، وعقب الإنسان نسله، والعقاب معروف والعقب أصلب من العصاب وامتن، يعقب به الرماح، والتعقيب: الرجوع الى امر تريده، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ ومنه يقال عقب الليل النهار يعقبه، وأعقب الرأي خبراً، وأعقب عزه ذلا أي أبدل به، والعقبة طريق في الجبل، وعرو العقاب: الراية لشبهها بعقاب الطائر، واليعقوب ذكر القبج تشبه به الخيل في السرعة، لا معقب لحكمه أي لا رادّ لقضائه، والمعقب: الذي يتبع الإنسان في طلب حق، وأصل الباب التلو.
22. الضمير في قوله ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ يحتمل رجوعه الى ثلاثة أشياء:
أ. القبلة على قول ابن عامر.
ب. والتحويلة على قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو الأقوى، لان القوم ثقل عليهم التحويل لا نفس القبلة.
ج. وعلى قول ابن زيد الصلاة.
23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَكَبِيرَةً﴾:
أ. قال الحسن: معناه ثقيلة يعني التحويلة الى بيت المقدس، لان العرب لم تكن قبلة أحب اليهم من الكعبة.
وقيل: معناه عظيمة على من لم يعرف ما فيها من وجوه الحكمة، فأما الذين هدى الله، لان المعرفة بما فيها من المصلحة تسهل المشقة فيصير بمنزلة ما لا يعتد بها ولذلك حسن الاستثناء بما يخرجهم منها.
24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ على اقوال:
أ. أولها ـ قال ابن عباس وقتادة والربيع: لما حولت القبلة قال ناس: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الاولى، وقيل: كيف من مات من إخواننا قبل ذلك، فانزل الله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾.
ب. الثاني ـ معناه قال الحسن: وانه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة اتبعه بذكر ما لهم عنده من المثوبة وانه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه، لان التذكير به يبعث على ملازمة الحق والرضا به.
ج. الثالث ـ قال البلخي: انه لما ذكر انعامه عليهم بالتولية الى الكعبة ذكر سبب ذلك الذي استحقوه به وهو ايمانهم بما عملوه أولا فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه الى الكعبة.
25. الاضاعة مصدر أضاع يضيع، وضاع الشيء يضيع ضياعة، وضعه تضييعاً، قال صاحب العين: ضيعة الرجل حرفته، يقال: ما ضيعتك اي ما حرفتك، هذا في الضياع وضاع عمل فلان ضيعة، وضياعاً، وتركهم بضيعة ومضيعة، والضيعة والضياع معروف واصل الضياع الهلاك.
26. سؤال وإشكال: ما الذي اقتضى ذكر هذه الصفة {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}، والجواب: الرؤوف بعباده الرحيم بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم، فدل بالرأفة والرحمة على التوفير عليهم فيما استحقوه دون التضيع لشيء منه.
27. إنما قدمت الرأفة على الرحمة، لان الرأفة أشد مبالغة من الرحمة ليجري على طريقة التقديم ـ بما هو اعرف ـ مجرى اسماء الاعلام ثم إتباعه بما هو دون منه ليكون مجموع ذلك تعريفاً أبلغ منه، لو انفرد كل واحد عن الاخر كما هو في الرحمن الرحيم فرَؤُوف على وزن فعول، لغة اهل الحجاز، على وزن فعل، لغة غيرهم قال الانصاري:
çنطيع نبينا لنطيع ربّاً...هو الرحمن كان بنا رَؤُوفاé
وقال حريز: يعني منعمين حقا، كفعل الوالد الرؤوف الرحيم، والرأفة: الرحمة تقول رأف يرأف رأفة.
28. استدلّ من قال الصلاة: الايمان بهذه الآية، فقالوا: سمى الله الصلاة ايمانا ـ على تأويل ابن عباس، وقتادة، والسدي والربيع وداوود بن أبي عاصم وابن زيد وسعيد بن المنذر وعمرو بن عبيد وواصل وجميع المعتزلة، ومن خالفهم من المرجئة لا يسلم هذا التأويل ويقول: الايمان على ظاهره وهو التصديق ولا ينزل ذلك بقول من ليس قوله حجة، لأنهم ليسوا جميع المفسرين بل بعضهم ولا يكون ذلك حجة.
29. استدلّ الجبائي بهذه الآية على ان الشاهد هو الحاضر دون من مات، بان قال لو كان الرسول شاهداً على من مضى قبله أو من يأتي بعده ومن هو حاضر معه لم يكن لقوله: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ معنى، ويؤكد ذلك قوله ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ وقال غيره: قد يجوز ان يشهد العالم بما علم وان لم يحضره، وهو الأقوى.
30. هذه الآية فيها دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه، لأنه قال ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ فأخبر ان الجاعل لتلك القبلة كان هو تعالى، وانه هو الذي نقله عنها وذلك هو النسخ.
31. سؤال وإشكال: كيف أضاف الايمان الى الأحياء وهم كانوا قالوا: كيف بمن مضى من إخواننا، والجواب: يجوز ذلك على التغليب، لان من عادتهم ان يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث تنبيهاً على الأكمل، فيقولون: فعلنا بكما وبلغناكما، وان كان أحدهما حاضراً والاخر غائباً.
32. سؤال وإشكال: كيف جاز على اصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الشك فيمن مضى من إخوانهم فلم يدروا انهم كانوا على حق في صلاتهم الى بيت المقدس؟ والجواب: قيل في ذلك: كيف إخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه، وانهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم، ويكون قال ذلك منافق بما فيه الرد على المخالفين المنافقين.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/4.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السفيه: الجاهل، وجمعه السفهاء، وأصله الخفة، والسفيه الخفيف العقل، يقال: ثوب سفيه: رديء النسج، وتَسَفَهَّت الرياح الشيء: إذا استخفته فحركته.
ب. وَلَّى عنه وصَرَفَهُ والنهى عنه نظائر، وولَّى عنه خلاف وَلَّى إليه، كقولهم: عدل عنه، وعدل إليه.
ج. القبلة: الجهة التي تستقبل في الصلاة، والكعبة قبلة المسلمين، وأصله الحال التي يقابل الشيء غيره عليها، كالجلسة للحال التي يجلس عليها.
د. يهدي ويدل من النظائر، وأصل الهداية الدلالة.
هـ. الصراط: الطريق المستقيم المستوي المستمر على سنَنٍ واحد.
و. الوسط من الناس ومن كل شيء أفضله وأعدله، ليس بالغالي ولا المقَصِّر، والوسط بين طرفي كل شيء.
ز. العَقِب مؤخر القدم، وهو النسل أيضًا.
ح. الإضاعة: مصدر أضاع يُضِيعُ إضاعة، وضاع ضَيَاعًا، وضيَّعه تضييعًا.
ط. الرأفة الرحمة.
ي. الوسط: معناه خيار، أخذ من المكان الذي تَعْتَدِلُ المسافة إلى أطرافه، وقيل: من المتوسط بين الغالي والمقَصِّر، فالحق معه.
2. اختلفوا في العائب، وهم السفهاء على أربعة أقوال:
أ. قيل هم مشركو قريش وأهل مكة، قالوا: يا محمد رغبت عن قبلة آبائك، ثم رجعت إليها، فلترجعن إلى دينهم، فنزلت الآية، عن ابن عباس والبراء بن عازب، والحسن والأصم.
ب. وقيل: هم اليهود، عن ابن عباس ومجاهد.
ج. وقيل: المنافقون، عن السدي، وذلك أنهم قالوها استهزاء بالإسلام.
د. وقيل: هم أهل الكتاب، ويجوز أن يدخل فيه المشركون، عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: الكل، فالمنافقون قالوا: ما باله توجه قِبَلَهُ زمانًا، ثم توجه إلى غيرها، واليهود قالوا: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لرجوناه المنتظر، والمشركون قالوا: تحير محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
3. اختلف في صلة قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ﴾ بما قبله:
أ. قيل: لما تقدم ذكر اليهود ومعائبهم ذكر أمرهم في قصة القِبْلَةِ، وما عابوا به المسلمين.
ب. وقيل: إنه تعالى بين لرسوله حالاً بعد حال من أقوال المخالفين ما يحاجهم به نعمة عليه، فبدأ بالحجاج في التوحيد، وفي النبوات، ثم بين أمر القبلة، وأنهم سيقدمون على ما يؤذي قلبه من أمر القبلة ونسخها؟ تسلية له ومعجزة.
4. ﴿سَيَقُولُ﴾ أي سوف يقول ﴿السُّفَهَاءُ﴾ أي الجهال، وهم الكفار، وقد بَيَّنَّا مَن المَعْنِيُّ به، ومعنى السفيه أن يجهل ما له وعليه ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ أراد بهم بعض الناس: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ صرفهم وحولهم، يعني المسلمين ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ يعني بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم، عن جماعة من المفسرين وأبي مسلم بعد ذكره التأويل.
5. يحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله: ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ يعني السفهاء، وهي قبلة اليهود والنصارى، وإحداهما إلى المشرق، والأخرى إلى المغرب، ولم يكن غير ذلك قبلة، ولما توجه إلى الكعبة عابوه، وقالوا: كيف يتوجه لغير هاتين القبلتين، فرد الله تعالى ذلك بقوله: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾.
6. سؤال وإشكال: لم عابوا الصرف عن القبلة الأولى؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. قيل: إنكار النسخ، عن ابن عباس.
ب. وقيل: قاله قوم من اليهود، قالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك ارجع إليها نتبعك، وأرادوا فتنته، عن ابن عباس أيضًا.
ج. وقيل: قاله مشركو العرب إيهاما أن الحق ما هم عليه.
7. سؤال وإشكال: لم صرف عن القبلة الأولى؟ والجواب: فيه قولان:
أ. الأول: لتغير المصلحة عن القاضي، وهو أوجه.
ب. الثاني: لِمَا بينه تعالى في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ فأمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود، عن أبي علي وأبي القاسم.
8. ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ ملكًا وخلقًا، وفي وجه الاحتجاج به قولان:
أ. أحدهما: أن مَنْ له المشرق والمغرب فله التدبير فيهما.
ب. الثاني: إبطال قولهم: إن الأرض المقدسة أولى في التوجه، فقال تعالى: له المشرق والمغرب، يأمر بالتوجه إلى ما هو أصلح.
9. سؤال وإشكال: هل كان التوجه إلى بيت المقدس فرضا؟ والجواب: لا خلاف أنه تعالى جعل ذلك قبلة له، ولذلك قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ﴾ لكن اختلفوا:
أ. فقيل: إنه تعالى خيَّره، فاختار بيت المقدس، عن الربيع.
ب. وقيل: بل فرض ذلك عليه، عن ابن عباس وأكثر المفسرين.
10. سؤال وإشكال: منذ كم حولت القبلة؟ والجواب: فيه خلاف:
أ. قيل: بعد سبعة عشر شهرا من مَقْدِمِهِ المدينة، عن ابن عباس والبراء بن عازب.
ب. وقيل: بعد تسعة عشر شهرا، عن أنس بن مالك.
ج. وقيل: بعد ثلاثة عشر شهرًا، عن معاذ.
د. وقيل: بعد ثمانية عشر شهرًا عن قتادة.
11. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أي يدله ويرشده ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي طريق سويّ:
أ. قيل إلى الدين، عن أبي علي، وسمي صراطًا؛ لأنه طريق الجنة المؤدي إليها.
ب. وقيل: إلى طريق الجنة.
ثم بَيَّنَ تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾، ولا بد من تعلق له بما تقدم، وقد ذكرنا ما قيل فيه، والأقرب ما قاله أبو القاسم.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾:
أ. قيل: باللطف الذي هو علم الله تعالى أنه متى فعل بهم أجمعوا على الصواب، ولما كان سبب ذلك لطفًا جاز أن يضيفه إلى نفسه.
ب. وقيل: حكمنا لكم بذلك، ووصفناكم به.
13. ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة، يعني أمة محمد ﴿وَسَطًا﴾:
أ. قيل: عدلاً، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع، وروي مرفوعًا.
ب. وقيل: خيارًا.
ج. وقيل: وسطًا بين الغالي في الأديان وبين المقصر، فيجعل لهم القصد والثواب، وفيه مع إيجاز اللفظ دليل أنهم في جميع أمورهم على الصواب.
د. وقيل: لما غلت النصارى في المسيح، وقصر اليهود كان قول المسلمين أوسطهم وأعدلهم عند الله ورسوله.
14. سؤال وإشكال: إذا كان في الأمة من ليس هذه صفته، فكيف وصفوا بذلك؟ والجواب: المراد به من كان بتلك الصفة، ولأنه في كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم.
15. في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها، كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة: الملائكة، والأنبياء، وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجوارح.
ب. الثاني: يشهدون الأنبياء على أممهم المكذبين أنهم قد بلغوا، وجاز ذلك لإعلام الله إياهم.
ج. الثالث: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي حجة عليهم، فتبين للناس الحق، ويكون الرسول شهيدًا، مؤديًا ومبينًا للدِّين، قال الأصم: وسمي الشاهد شاهدا؛ لأنه يبين، ولذلك يقال للشهادة: بينة.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾:
أ. قيل: حجة عليكم.
ب. وقيل: شهيدا بما يكون من أعمالكم.
ج. وقيل: شهيدًا بأنكم قد صدقتم وقبلتم.
17. ﴿عَلَى﴾ بمعنى اللام كقوله تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ أي للنصب، ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾:
أ. قيل: بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليها.
ب. وقيل: مكة والكعبة، والمراد التي أنت عليها.
ج. وقيل: يحتمل: ﴿كُنْتُ﴾ بمعنى صرت عليها، وأنت عليها، يعني الكعبة، كقوله: ﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ والمراد أنه بهذه الصفات لم يزل، وتقدير الآية: وما جعلنا القبلة التي لم تزل عليها، يعني الكعبة، عن أبي مسلم.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾:
أ. قيل: ليَعْلَم حزبنا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، كما يقول الملك: جعلنا وفتحنا، بمعنى أوليائه، ومنه يقال: فتح عمر السواد.
ب. وقيل: معناه: ليحصل المعلوم موجودًا، وتقديره: لنعلم أنه موجود، ولا يصح الوصف قبل وجوده بأنه عالم بوجوده، وقيل: نرى ونميز، عن جماعة.
ج. وقيل: نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، والعدل يوجب ذلك، عن أبي بكر أحمد بن علي.
19. ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ أي يؤمن به، ويتبعه في شرائعه: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: أن قومًا ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلاً منهم بما فيه من وجه الحكمة، ومعنى: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أنه يكفر بِالله ورسوله، فجعل الانقلاب على العقبين قائمًا مقام ذكر كفرهم، فهو كناية عن الردة، عن أبي علي وأبي القاسم، وذكر ابن جريج أن ناسًا رجعوا ممن أسلم، وقالوا: ههنا مرة، وههنا مرة.
ب. الثاني: المراد به كل مقيم على كفر؛ لأن جهة الاستقامة إقبال، وخلافها إدبار؛ ولذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾:
أ. قيل: الضمير يعود إلى القبلة، يعني: وإن كانت القبلة كبيرة، عن أبي العالية.
ب. وقيل: إلى التحويل ومفارقة القبلة الأولى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي مسلم.
ج. وقيل: إلى الصلاة، عن ابن زيد.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَكَبِيرَةً﴾:
أ. قيل: ثقيلة، يعني التحويلة إلى بيت المقدس؛ لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة.
ب. وقيل: معناه: عظيمة على من يعرف ما فيها من وجوه الحكمة.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله﴾:
أ. قيل: المؤمنين، عن ابن عباس وأبي علي.
ب. وقيل: ثقيلة على أهل الكتاب إلا من آمن منهم، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: إلا على الَّذِينَ هداهم لذلك، فلا يعظم عليهم، يعني إلى المعرفة لما فيه من المصلحة.
د. وقيل: هداهم لمعرفة الناسخ من المنسوخ، عن الأصم.
23. سؤال وإشكال: لم خص المؤمنين بأنه هداهم، وقد هدى جميع الخلق؟ والجواب:
أ. قيل: لأنه ذكرهم على طريق المدح، فخصهم بذلك.
ب. وقيل: أراد به الاهتداء.
ج. وقيل: لأنهم الَّذِينَ انتفعوا بهدى الله، فغيرهم كأنه لم يعتد بهم.
24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾:
أ. قيل: صلاتكم إلى بيت المقدس.
ب. وقيل: إيمانكم عند الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، يعني تصديقكم بالقبلة الأولى؛ لأنكم كنتم مطيعين له، عن الأصم.
ج. وقيل: يحتمل أنه خطاب لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعاتهم قبل البعثة، ثم نسخ، عن أبي مسلم.
25. سؤال وإشكال: ما الذي اقتضى ذكر هذا، وكيف يتصل بما قبله؟ وهل هو جواب أم لا؟ والجواب: فيه أقوال:
قيل: إنه جواب لما سألوه عن صلاتهم إلى بيت المقدس عن ابن عباس وقتادة.
أ. وقيل: لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من المثوبة بذلك، ولأنه لا يضيع ما عملوه، عن الحسن.
ب. وقيل: لما ذكر إنعامه عليهم بالتوجه إلى بيت المقدس ذكر سببه، وهو إيمانهم بما أمروا به أولاً، وتقديره: وما كان الله ليضيع إيمانكم، يعني الذي استحققتم به تبليغ محبتكم بالتوجه إلى الكعبة، عن أبي القاسم.
26. ﴿إِنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ رؤوف بهم لا يضيع عملهم عنده: ﴿رَحِيمٌ﴾ بأن يوفر عليهم ما استحقوه من الجزاء.
27. تدل الآيات الكريمة على:
أ. جواز النسخ؛ لأن قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ كالصريح في أنهم كانوا على قبلة، فحولت إلى غيرها.
ب. يدل قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ على أن بعض الجهات ليس بأن تُتَّخَذَ قبلة أولى من بعضها إلا من حيث المصلحة، وإذا كانت المصالح تختلف بالأوقات فلا مَغْمَزَ فيه لعائب.
ج. أن اسم السفه، وإن كان في أصل اللغة الخفة، فقد صار في الشرع اسم ذمٍّ يجري على الكفار؛ لأنه تعالى وصفهم بذلك ذمًّا لهم.
د. أن الإجماع حجة لقوله: ﴿وَسَطًا﴾ أي عدلاً، فإذا عدلهم الله تعالى ليشهدوا لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة، عن أبي علي وأبي القاسم وجماعة، وقوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي حجة، فتدل على كون إجماعهم حجة أيضًا من هذا الوجه.
هـ. فساد قول المرجئة؛ لأنهم اتفقوا على أن المراد بالإيمان الصلاة، فدل على أن العمل من الإيمان.
و. أن الشاهد هو الحاضر دون من مات؛ لأنه لو كان الرسول يشهد على من مضى ومن يأتي بعد لم يكن لقوله: ﴿عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ معنى، ويؤكده قوله: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ عن أبي علي والقاضي، وقيل: يجوز أن يشهدوا وإن لم يحضروا إذا علم بخبر صادق.
ز. جواز النسخ في الشرع.
ح. أن هذه الأمة تشهد يوم القيامة، وإنما يشهد أهل كل عصر بما عاين.
ط. يدل قوله: ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ على أنه منعم بتحويل القبلة.
28. قرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {رَؤُف} مهموز غير مشبع، على وزن رَعُف، وقرأ أبو جعفر وحده {رَؤوف} مثقل غير مهموز كل القرآن، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم {رَؤُوفٌ} مثقل مهموز مشبع على وزن رَعُوف، وفيه أربع لغات: رَؤُف كفَعُل، ورؤوف كفعول، ورَئِف كحَذِر، ورَأف: فَعْل، قال الشاعر:
çنُطيعُ نَبِيَّنَا ونُطِيعُ رَبًّا... هُوَ الرَّحْمَنُ كَان بِنَا رَؤُوفَاé
وقال جرير:
çيَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا... كَفِعْلِ الوالِدِ الرَّؤُفِ الرَّحيمِé
29. مسائل نحوية:
أ. لام: ﴿لِيَكُونُوا﴾ و﴿لَكَبِيرَةً﴾ و﴿لِيُضِيعَ﴾: الأولى لام كي، تقديره: لكي يكونوا، والثانية: لام التوكيد، والثالثة: لام الجحود.
ب. الكاف في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ كاف التشبيه، قيل: مردودة على يهدي، تقديره: كما أنعمنا عليهم بالهداية كذلك أنعمنا عليهم بالعدالة، وقيل: كما اخترنا إبراهيم كذلك اخترناكم، فَيُصْرَف إلى اصطفينا، وقيل: تقديره: نهدي من نشاء، كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القِبَل، كذلك جعلناكم أمة وسطًا عن أبي القاسم وأبي مسلم.
ج. العامل في الكاف: ﴿جَعَلْنَا﴾ تقديره: نهدي من نشاء، وقد أنعمنا عليهم بذلك، وجعلناكم أمة وسطًا وأنعمنا كذلك الإنعام، إلا أن: ﴿جَعَلْنَا﴾ يدل على أَنْعَمْنَا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/618.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. السفيه والجاهل والغبي نظائر.
ب. ولاه عنه أي صرفه وفتله، واشتقاقه من الولي وهو القرب، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل، فالثاني يلي الأول، والثالث يلي الثاني، ثم هكذا أبدا، وولى عنه: خلاف ولى إليه، مثل قولك: عدل عنه، وعدل إليه، وانصرف عنه، وانصرف إليه، فإذا كان الذي يليه متوجها إليه، فهو متول إليه، وإذا كان متوجها إلى خلاف جهته، فهو متول عنه.
ج. القبلة: مثل الجلسة للحال التي يقابل الشيء غيره عليها، كما أن الجلسة للحال التي يجلس عليها، وكان يقال فيما حكي: هو لي قبلة، وأنا له قبلة، ثم صار علما على الجهة التي تستقبل في الصلاة.
د. الوسط: العدل، وقيل: الخيار، ومعناهما واحد، لأن العدل خير، والخير عدل، وقيل: أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه، وقيل: بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه، قال مؤرج: أي وسطا بين الناس وبين أنبيائهم، قال زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظمé
قال صاحب العين: الوسط من كل شيء أعدله وأفضله، وقيل: الواسط والوسط كما قيل اليابس واليبس، وقيل في صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان من أوسط قومه أي: من خيارهم.
هـ. العقب: مؤخر القدم، وعقب الانسان نسله، قال ثعلب: {نرد على أعقابنا} أي: نعقب بالشر بعد الخير، وكذلك رجع على عقبيه، والعقبة: الكرة بعد الركوب والمشي، والتعقيب: الرجوع إلى أمر تريده، ومنه ولم يعقب، وعقب الليل النهار يعقبه.
و. الإضاعة: مصدر أضاع يضيع، وضاع الشيء ضياعا، وضيع الشيء تضييعا، وقال صاحب العين: ضيعة الرجل: حرفته، ويقال: ما ضيعتك أي: حرفتك، ومنه كل رجل وضيعته، وترك عياله بضيعة، ومضيعة، والضيعة والضياع معروف، وأصل الضياع: الهلاك.
ز. قال أبو زيد: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورأفة، ورؤفت به أرؤف به بمعنى.
2. ثم ذكر سبحانه الذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، فقال: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ أي: سوف يقول الجهال، وهم الكفار الذين هم بعض الناس: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ أي: أي شيء حولهم وصرفهم، يعني المسلمين، عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليها في صلاتهم.
3. اختلف في الذين قالوا ذلك:
أ. قال ابن عباس وغيره: هم اليهود.
ب. وقال الحسن: هم مشركو العرب، وإن رسول الله لما حول إلى الكعبة من بيت المقدس، قالوا: يا محمد! رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها، فلترجعن إلى دينهم.
ج. وقال السدي: هم المنافقون، قالوا ذلك استهزاء بالإسلام.
4. اختلف في سبب مقالتهم ذلك:
أ. فقيل: إنهم قالوا ذلك على وجه الانكار للنسخ، عن ابن عباس.
ب. وقيل: إنهم قالوا يا محمد! ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ ارجع إلى قبلتنا نتبعك، ونؤمن بك، أرادوا بذلك فتنته، عن ابن عباس أيضا.
ج. وقيل: إنما قاله مشركو العرب ليوهموا أن الحق ما هم عليه.
5. الوجه في الصرف عن القبلة الأولى فيه قولان:
أ. أحدهما: إنه لما علم الله تعالى في ذلك من تغير المصلحة.
ب. والآخر: إنه لما بينه سبحانه بقوله: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ لأنهم كانوا بمكة، أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة، فلما انتقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس، فأمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا من أولئك.
6. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هو أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم من بيت المقدس إلى الكعبة: المشرق والمغرب ملك لله سبحانه، يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته، وفي هذا إبطال لقول من زعم أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها، لأنها مواطن الأنبياء، وقد شرفها الله وعظمها، فلا وجه للتولية عنها، فرد الله سبحانه عليهم بأن المواطن كلها لله، يشرف منها ما يشاء في كل زمان على ما يعلمه من مصالح العباد.
7. اختلف في مدة الصلاة إلى بيت المقدس:
أ. عن ابن عباس: كانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة سبعة عشر شهرا.
ب. وعن البراء بن عازب، قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة، أورده مسلم في الصحيح.
ج. وعن انس بن مالك: إنما كان ذلك تسعة أشهر، أو عشرة أشهر.
د. وعن معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهرا، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه السلام قال: تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة، صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال: ثم وجهه الله إلى الكعبة وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا! فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك غما شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضديه، وحوله إلى الكعبة، وأنزل عليه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وكان صلى ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟
8. قال الزجاج: إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، لأن مكة بيت الله الحرام، كانت العرب آلفة لحجه، فأحب الله أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه، ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾:
أ. قيل: أي: يدله ويرشده إلى الدين، وإنما سماه الصراط، لأنه طريق الجنة المؤدي إليها، كما يؤدي الطريق إلى المقصد.
ب. وقيل: طريق الجنة.
10. ثم بين سبحانه فضل هذه الأمة على سائر الأمم، فقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.. أخبر عز اسمه أنه جعل أمة نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عدلا وواسطة بين الرسول والناس.
11. سؤال وإشكال: إذا كان في الأمة من ليس هذه صفته، فكيف وصف جماعتهم بذلك؟ والجواب: إن المراد به من كان بتلك الصفة، ولأن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم، وروى بريد بن معاوية العجلي عن الباقر عليه السلام: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، وفي رواية أخرى قال: إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصر، وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي عليه السلام: إن الله تعالى إيانا عنى بقوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، ونحن الذين قال الله تعالى: {كذلك جعلناكم أمة وسطا}
12. في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إن المعنى لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة، كما قال: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾، وقال: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وقال ابن زيد: الاشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجوارح كما قال: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ الآية.
ب. الثاني: إن المعنى لتكونوا حجة على الناس، فتبينوا لهم الحق والدين، ويكون الرسول عليكم شهيدا، مؤديا للدين إليكم، وسمي الشاهد شاهدا لأنه يبين ولذلك يقال للشهادة بينة.
ج. الثالث: إنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم، بأنهم قد بلغوا، وجاز ذلك لإعلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم بذلك.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾:
أ. قيل: أي: شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم.
ب. وقيل: حجة عليكم.
ج. وقيل: شهيدا لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به، وتكون على بمعنى اللام، كقوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ أي: للنصب.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾:
أ. قيل: معنى ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾: صرت عليها، وأنت عليها يعني الكعبة، كقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ أي: أنتم خير أمة.
ب. وقيل: هو الأصح يعني بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليها أي: ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ وحذف لدلالة الكلام عليه.
15. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أقوال:
أ. أولها: إن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كما يقول الملك: فتحنا بلد كذا، أو فعلنا كذا أي: فتح أولياؤنا.
ب. الثاني: إن معناه ليحصل المعلوم موجودا، وتقديره ليعلم أنه موجود، فلا يصح وصفه بأنه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده.
ج. الثالث: إن معناه لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما.
د. الرابع: ما قاله علم الهدى المرتضى، قدس الله روحه، وهو: إن قوله: ﴿لَنَعْلَمُ﴾ تقتضي حقيقة أن يعلم هو وغيره، ولا يحصل علمه مع علم غيره، إلا بعد حصول الاتباع، فأما قبل حصوله، فيكون القديم سبحانه هو المنفرد بالعلم به، فصح ظاهر الآية.
16. ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ أي: يؤمن به، ويتبعه في أقواله وأفعاله.
17. في قوله تعالى: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن قوما ارتدوا عن الاسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيه من وجوه الحكمة.
ب. والآخر: إن المراد به كل مقيم على كفره، لأن جهة الاستقامة إقبال، وخلافها إدبار، ولذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر، وأنه كذب وتولى أي: عن الحق.
18. اختلف في الضمير في ﴿كَانَتْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله﴾:
أ. قيل: يعود إلى القبلة على قول أبي العالية، أي: وقد كانت القبلة كبيرة.
ب. وقيل: الضمير يرجع إلى التحويلة ومفارقة القبلة الأولى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وهو الأقوى، لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لا نفس القبلة.
ج. وقيل: الضمير يرجع إلى الصلاة، عن ابن زيد.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَكَبِيرَةً﴾:
أ. قال الحسن: معناه ثقيلة يعني التحويلة إلى بيت المقدس، لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة.
ب. وقيل: معناه عظيمة على من لا يعرف ما فيها من وجه الحكمة، فأما الذين هداهم الله لذلك، فلا تعظم عليهم، وهم الذين صدقوا الرسول في التحول إلى الكعبة.
20. إنما خص المؤمنين بأنه هداهم وإن كان قد هدى جميع الخلق، لأنه ذكرهم على طريق المدح، ولأنهم الذين انتفعوا بهدى الله، وغيرهم كأنه لم يتعد بهم.
21. في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إنه لما حولت القبلة قال ناس: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ عن ابن عباس وقتادة، وقيل: إنهم قالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وكانا من النقباء، فقال: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، ويمكن على هذا أن يحمل الإيمان على أصله في التصديق أي: لا يضيع تصديقكم بأمر تلك القبلة.
ب. ثانيها: إنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة، تبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة، وأنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه، لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق، والرضا به، عن الحسن.
ج. وثالثها: إنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة، ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الانعام، وهو إيمانهم بما حملوه أولا، فقال: وما كان الله ليضيع إيمانكم الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة، عن أبي القاسم البلخي.
22. {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} رؤوف بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم، والرأفة أشد الرحمة، دل سبحانه بالرأفة والرحمة على:
أ. أنه يوفر عليهم ما استحقوه من الثواب، من غير تضييع لشيء منه.
ب. وقيل: إنه سبحانه دل بقوله رؤوف رحيم، على أنه منعم على الناس بتحويل القبلة.
23. استدلّ كثير من العلماء بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة من حيث إنه وصفهم بأنهم عدول، فإذا عدلهم الله تعالى، لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة والصحيح أنها لا تدل على ذلك، لأن ظاهر الآية أن يكون كل واحد من الأمة بهذه الصفة، ومعلوم خلاف ذلك، ومتى حملوا الآية على بعض الأمة، لم يكونوا بأولى ممن يحملها على المعصومين والأئمة من آل الرسول عليهم السلام.
24. في هذه الآية دلالة على جواز النسخ في الشريعة، بل على وقوعه، لأنه قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ فأخبر أنه تعالى هو الجاعل لتلك القبلة، وأنه هو الذي نقله عنها، وذلك هو النسخ.
25. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: (لرؤوف) على وزن رعوف، وقرأ أبو جعفر: (لرؤوف) مثقل غير مهموز، والباقون: (لرءوف) على وزن رعف:
أ. وجه من قرأ (رؤوف) أن بناء فعول أكثر في كلامهم من فعل، ألا ترى أن باب ضروب وصبور أكثر من باب يقظ وحذر، وقد جاء على هذه الزنة من صفات الله تعالى نحو: غفور وشكور وودود، ولا نعلم فعلا فيها، وقال كعب بن مالك الأنصاري:
نطيع نبينا، ونطيع ربا... هو الرحمن كان بنا رؤوفا
ب. ومن قرأ (رؤوفا) قال: إن ذلك الغالب على أهل الحجاز، قال الوليد بن عقبة لمعاوية:
çوشر الطالبين فلا تكنه... لقاتل عمه الرؤف الرحيمé
وقال جرير:
çترى للمسلمين عليك حقا... كفعل الوالد الرؤف الرحيمé
26. مسائل نحوية:
أ. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: في محل النصب حال من ﴿السُّفَهَاءُ﴾، و﴿مَا﴾: استفهام، وهو مبتدأ، و﴿وَلَّاهُمْ﴾: خبره، و﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾: مفعول ولى.
ب. في الآية ثلاث لامات مختلفات:
• فاللام في قوله: ﴿لِتَكُونُوا﴾ لام كي، وتكونوا: في موضع نصب بإضمار أن وتقديره لأن تكونوا، وان تكونوا في موضع جر باللام، لأنها اللام الجارة في الأصل.
• وفي قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ لام توكيد، وهي لام الابتداء فصلت بينها وبين إن لئلا يجتمع حرفان متفقان في المعنى، وهي تلزم إن المخففة من الثقيلة، لئلا تلتبس بأن النافية التي هي بمعنى ما في مثل قوله: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾، وقال الكوفيون: إن في مثل هذا الموضع بمعنى: ﴿مَا﴾ واللام بمعنى: ﴿إِلَّا﴾ تقديره: وما كانت إلا كبيرة، وأنكر البصريون ذلك، لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا، بمعنى إلا زيدا.
• وأما في قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ فلام تأكيد نفي، وأصلها لام الإضافة أيضا، وينتصب الفعل بعدها بإضمار أن أيضا، إلا أنه لا يجوز إظهار أن بعدها، لأن التقدير: ما كان الله مضيعا إيمانكم، فلما حمل معناه على التأويل، حمل لفظه أيضا على التأويل، من غير تصريح بإظهار أن، ويجوز إظهار أن بعد لام كي، كما ذكرناه.
ج. الكاف في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾: كاف التشبيه، وهو في موضع النصب بالمصدر، وذلك إشارة إلى الهداية من قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والتقدير: أنعمنا عليكم بالعدالة.. كما أنعمنا عليكم بالهداية، والعامل في الكاف جعلنا كأنه قيل: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فقد أنعمنا عليكم بذلك، وجعلناكم أمة وسطا، فأنعمنا مثل ذلك الانعام،إلا أن جعلنا يدل على أنعمنا.
د. ﴿هُدَى الله﴾: صلة الذين، والضمير العائد إلى الموصول محذوف، فتقديره على الذين هداهم الله، والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء تقديره: وإن كانت لكبيرة على الكل، إلا على الذين هدى الله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/412.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في المقصود بقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وسعيد بن جبير.
ب. الثاني: أنهم أهل مكّة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنهم المنافقون، ذكره السّدّيّ عن ابن مسعود، وابن عباس.
وقد يمكن أن يكون الكلّ قالوا ذلك، والآية نزلت بعد تحويل القبلة.
2. السّفهاء: الجهلة، ما ولّاهم، أي: صرفهم عن قبلتهم، يريد: قبلة المقدس.
3. اختلف العلماء في مدّة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس، بعد قدومه المدينة على ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر، قاله البراء بن عازب.
ب. الثاني: سبعة عشر شهرا، قاله ابن عباس.
ج. الثالث: ثلاثة عشر شهرا، قاله معاذ بن جبل.
د. الرابع: تسعة أشهر، قاله أنس بن مالك.
هـ. الخامس: ستة عشر شهرا.
و. السادس: ثمانية عشر شهرا، روي القولان عن قتادة.
4. اختلف هل كان استقباله بيت المقدس برأيه، أو عن وحي:
أ. قيل: أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه، قاله ابن عباس، وابن جريج.
ب. وقيل: أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن وأبو العالية، وعكرمة، والرّبيع.
ج. وقال قتادة: كان الناس يتوجّهون إلى أيّ جهة شاءوا، بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس.
5. في سبب اختياره بيت المقدس قولان:
أ. أحدهما: ليتألّف أهل الكتاب، ذكره بعض المفسّرين.
ب. الثاني: لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزّجّاج.
6. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، سبب نزولها: أنّ اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدل بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
7. الأمّة: الجماعة، والوسط: العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾، أي: أعدلهم وخيرهم، قال الشّاعر:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم...إذا نزلت إحدى الليالي بمعظمé
8. أصل ذلك أنّ خير الأشياء أوساطها، والغلوّ والتّقصير مذمومان، وذكر ابن جرير الطّبريّ أنه من التّوسّط في الفعل، فإنّ المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود، فإنهم قتلوا الأنبياء، وبدّلوا كتاب الله، ولم يغلوا كالنّصارى، فإنهم زعموا أنّ عيسى ابن الله، وقال أبو سليمان الدّمشقيّ: في هذا الكلام محذوف، ومعناه: جعلت قبلتكم وسطا بين القبلتين، فإنّ اليهود يصلّون نحو المغرب، والنّصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما.
9. في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناه: لتشهدوا للأنبياء على أممهم، روى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (يجيء النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل، ويجيء النبيّ ومعه الرّجلان، ويجيء النبيّ ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبيّ: أبلّغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال محمّد وأمّته فيشهدون أنّ الرّسل قد بلّغوا فيقال: ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبيّنا أنّ الرّسل قد بلّغوا، فصدّقناه، فذلك قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾)، وهذا مذهب عكرمة، وقتادة.
ب. الثاني: أن معناه: لتكونوا شهداء لمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأمم: اليهود والنّصارى والمجوس، قاله مجاهد.
10. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، يعني: محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما ذا يشهد عليهم فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: بأعمالهم، قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدريّ، وابن زيد.
ب. الثاني: بتبليغهم الرّسالة، قاله قتادة، ومقاتل.
ج. الثالث: بإيمانهم، قاله أبو العالية، فيكون على هذا (عليكم) بمعنى: لكم، قال عكرمة: لا يسأل عن هذه الأمّة إلا نبيّها.
11. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾، يريد: قبلة بيت المقدس.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: لنرى.
ب. الثاني: لنميز، رويا عن ابن عباس.
ج. الثالث: لنعلمه واقعا، إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التّفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس: (لنرى)
د. الرابع: أنّ العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى: لتعلموا أنتم، قاله الفرّاء.
13. ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، أي: يرجع إلى الكفر، قاله ابن زيد، ومقاتل.
14. في المشار إليها بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه التّولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل.
ب. الثاني: أنها قبلة بيت المقدس قبل التّحوّل عنها، قاله أبو العالية، والزجّاج.
15. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، نزل على سبب: وهو أنّ المسلمين قالوا: يا رسول الله، أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾
16. الإيمان المذكور هاهنا أريد به: الصّلاة في قول الجماعة، وقيل: إنّما سمى الصّلاة إيمانا، لاشتمالها على قول ونيّة وعمل، قال الفرّاء: وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى: فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة لأنهم داخلون معهم في الملّة.
17. {لرَؤُوف} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: (لرؤوف) على وزن: لرعوف، في جميع القرآن، ووجهها: أن فعولا أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ، وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائيّ، وأبو بكر، عن عاصم: (لرءوف) على وزن: رعف، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز، قال جرير:
çترى للمسلمين عليك حقا...كفعل الوالد الرّؤف الرّحيمé
18. الرؤوف بمعنى: الرّحيم، هذا قول الزّجّاج، وذكر الخطّابيّ عن بعض أهل العلم أن الرّأفة أبلغ الرّحمة وأرقّها، قال ويقال: الرّأفة أخصّ، والرّحمة أعمّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/119.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذه الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا: النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام، وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام:
أ. فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً.
ب. وإن كان مقيداً بقيد اللادوام، فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له.
ج. وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فههنا كان جاهلًا ثم بدا له ذلك، وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلًا.
فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل، وهما محالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالًا، فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن يكون مبطلًا، فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام(2)..
2. ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهاهنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى، ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة، فيكون عبثاً، والعبث لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام.
3. ذكر الأجوبة المفصلة عن هذه الشبهة أثناء تفسيره للآيات الكريمة، باعتبارها تجيب عنها.
4. في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً، كالرجل يعمل عملًا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون على فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد، فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى، فصح على هذا التأويل أن يقال: سيقول السفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية.
ب. الثاني: إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد:
• أحدها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.
• ثانيها: أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولًا ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولًا.
• ثالثها: أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولًا ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم يكون الجواب حاضراً، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً.
5. السفهاء: من لا يميز بين ما له وعليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، يوصف بالخفة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا، فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم، فلا كافر إلا وهو سفيه، فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين وعلى المنافقين، وعلى جملتهم، ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين:
أ. فأولها: قال ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقة لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتنموا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه، واشتاق إلى دينهم، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فقالوا: ما حكى الله عنهم في هذه الآية.
ب. ثانيها: قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم: إنهم مشركو العرب، وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان متوجهاً إلى بيت المقدس حين كان بمكة، والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا: أبي إلا الرجوع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به.
ج. ثالثها: أنهم المنافقون وهو قول السدي، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13]
د. رابعها: أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام، وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضاً يدل عليه وهو قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130] فوجب أن يتناول الكل، قال القاضي: المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً.. وهذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالًا لم يتركوا مقالًا ألبتة.
6. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾: ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه، ومنه قوله: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: 16] وقوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب.
7. في هذا التولي وجهان:
أ. الأول: وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فالضمير في قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، واختلفت الروايات في أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة:
• فعن أنس بن مالك بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر.
• وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهراً.
• وعن قتادة بعد ستة عشر شهراً.
• وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً، وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال، قال الواقدي: صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً.
• وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً من مقدمه.
• وقال آخرون: بل سنتان.
ب. الثاني: قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها، أي السفهاء كانوا عليها، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى، فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق، وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم متوجهاً نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكراً، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين، فقال الله تعالى راداً عليهم: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملًا والله أعلم.
8. اختلف في معنى القبلة:
أ. قال القفال: القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، وقال قطرب: يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة، أي ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال.
ب. وقال غيره: إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر، وقال بعض المحدثين:
جعلت مأواك لي قراراً...وقبلة حيثما لجأت
9. قوله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هو الجواب الأول عن تلك الشبهة، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى.
10. سؤال وإشكال: ما الحكمة أولًا في تعيين القبلة؟ والجواب: هناك خلاف شديد بين أهل السنة والمعتزلة ومن وافقهم في الجواب على هذا:
أ. أما أهل السنة فإنهم يقولون: لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة، واحتجوا عليه بوجوه:
• أحدها: أن كل من فعل فعلًا لغرض، فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده، وإما أن لا يكون كذلك، بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان، فإن كان الأول، كان ناقصاً لذاته مستكملًا بغيره، وذلك على الله محال، وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل: إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه، فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا: عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه، هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء، أو ليس الأمر كذلك، وحينئذ يعود التقسيم.
• ثانيها: أن كل من فعل فعلًا لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة، أو لا يكون قادراً عليه، فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً، وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال.
• ثالثها: أنه تعالى إن فعل فعلًا لغرض فذلك الغرض إن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر، ولزم الدور أو التسلسل وهو محال.
• رابعها: أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات، فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر، وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توقيف فاعلية الله على الحكمة والغرض.
• خامسها: ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر، والكفر، والإيمان، والطاعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته، وذلك يبطل القول بالغرض، لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد.
• سادسها: أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل، إما أن يكون جائزاً أو واجباً، فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل، ولأنه يلزم صحة العدم على القديم، وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل.
فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعال الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال، وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء، وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب، والملك يرجع حاصله إلى القدرة، ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة، فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا
ب. أما المعتزلة، ومن وافقهم، فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم، والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض، علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً، ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا، وتارة مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا، وإذا كان الأمر كذلك: استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام.
11. الحكمة في تحويل القبلة إلى البيت الحرام: أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية، بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً:
أ. أحدها: أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير، وضع له صورة معينة وشكلًا معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه، وأن لا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلًا للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة.
ب. ثانيها: أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلًا لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام، كان استقبال تلك الجهة أولى.
ج. ثالثها: أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم، حيث قال ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103] ولو توجه واحد في صلاته إلى ناحية أخرى، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعين الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يجب الموافقة بين عباده في أعمال الخير.
د. رابعها: أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله: ﴿بَيْتِيَ﴾ وخص المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال يا مؤمن أنت عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إلي.
هـ. خامسها: قال بعض المشايخ: إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه، وذلك قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: 44] الآية، والنصارى استقبلوا المغرب، لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق، لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16] والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله، ومولد حبيب الله، وهي موضع حرم الله، وكان بعضهم يقول: استقبلت النصارى مطلع الأنوار، وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار، وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً.
و. سادسها: قالوا: الكعبة سرة الأرض ووسطها، فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم، وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء، ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق.
ز. سابعها: أنه تعالى أظهر حبه لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بواسطة أمره باستقبال الكعبة، وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود، فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 144] الآية، وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا: فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل، فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على جهة التحقيق، وقال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: 144] ولم يقل قبلة أرضاها، والإشارة فيه كأنه تعالى قال يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين، أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5] وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52] وقال في الإعراض عن القبلة: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145] فكأنه تعالى قال الكعبة قبلة وجهك، والفقراء قبلة رحمتي، فإعراضك عن قبلة وجهك، يوجب كونك ظالماً، فالإعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون.
ح. ثامنها: العرش قبلة الحملة، والكرسي قبلة البررة، والبيت المعمور قبلة السفرة، والكعبة قبلة المؤمنين، والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115] وثبت أن العرش مخلوق من النور، والكرسي من الدر، والبيت المعمور من الياقوت، والكعبة من جبال خمسة: من طور سينا، وطور زيتا، والجودي، ولبنان، وحراء، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول: إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك(3)..
فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب، والتحقيق هو الأول.
12. سؤال وإشكال: ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة؟ ذلك أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم، والجواب: على قول أهل السنة، ومن وافقهم: لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر، أما على قول المعتزلة، ومن وافقهم، فقد ذكروا أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه:
أ. أحدها: أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة.
ب. ثانيها: أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد.
ج. ثالثها: أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة، فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر، وذلك مخل بالخضوع والخشوع، فهذا يناسب الصرف عن تلك القبلة.
د. رابعها: أن الكعبة منشأ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه، كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل، والمفضي إلى المطلوب مطلوب، فكان تحويل القبلة مناسباً.
هـ. خامسها: أن الله تعالى بين ذلك في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143] فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود، أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
13. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فالهداية:
أ. على مذهب المعتزلة، ومن وافقهم: إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة.
ب. على مذهب أهل السنة، ومن وافقهم: هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان، لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
14. الكاف في ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ كاف التشبيه، واختلف في المشبه به أي شيء هو على وجوه:
أ. أحدها: أنه راجع إلى معنى يهدي، أي كما أنعمنا عليكم بالهداية، كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً.
ب. ثانيها: قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطاً.
ج. ثالثها: أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾ [البقرة: 130] أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً.
د. رابعها: يحتمل عندي أن يكون التقدير: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 115] فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له، خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلًا منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلًا منه وإحساناً لا وجوباً.
هـ. خامسها: أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1] ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً.
15. إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله: ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ والظرف مخفف تقول: جلست وسط القوم.
16. اختلفوا في تفسير الوسط، وذكروا أموراً، وهي متقاربة غير متنافية:
أ. أحدها: أن الوسط هو العدل.
ب. الثاني: أن الوسط من كل شيء خياره.
ج. الثالث: أن الرجل إذا قال فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلًا وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يتحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى.
د. الرابع: يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولأقصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه.
17. الذين ذكروا أن الوسط هو العدل، استدلوا عليه بالآية والخبر والشعر والنقل والمعنى:
أ. أما الآية فقوله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: 28] أي أعدلهم.
ب. وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أمة وسطاً قال عدلًا)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الأمور أوسطها) أي أعدلها، وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوسط قريش نسباً، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عليكم بالنمط الأوسط)
ج. وأما الشعر فقول زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم...إذا نزلت إحدى الليالي العظائمé
د. أما النقل فقال الجوهري في (الصحاح): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي عدلًا وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب.
هـ. أما المعنى فمن وجوه:
• أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلًا فاضلًا.
• ثانيها: إنما سمى العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين.
• ثالثها: لا شك أن المراد بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله: (وسطاً) ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولًا، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة.
• رابعها: أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
18. الذين ذكروا أن الوسط من كل شيء خياره ذكروا أن هذا التفسير أولى من الأول لوجوه:
أ. الأول: أن لفظ الوسط يستعمل في الجامدات قال الزمخشري: اكتريت جملًا من أعرابي بمكة للحج فقال: أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى.
ب. الثاني: أنه مطابق لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]
19. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب، وقالت المعتزلة، ومن وافقهم: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل.
20. أجاب أهل السنة، ومن وافقهم عنه من وجوه:
أ. الأول: أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب، وقد بينا مراراً كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي، والكلام المنقوض لا التفات إليه ألبتة.
ب. الثاني: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142] وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى.
ج. الثالث: أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة.
د. الرابع: وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان.
21. احتج أهل السنة، ومن وافقهم وجمهور المعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا: أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة.
22. سؤال وإشكال: الآية متروكة الظاهر، لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين، والجواب: سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهينك
أ. الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله تعالى، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولًا وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
ب. الثاني: أن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل، سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولًا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة، سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأنّ عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل، وذلك لا نزاع فيه، لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك؟ سلمنا وجوب كونهم عدولًا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم، فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع.
ج. الجواب عن كون الآية متروكة الظاهر: لا نسلم فإن قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة، وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلًا في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله: ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾ خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده، على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلًا لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولًا به في حق الباقي وهذا المعنى ما قال العلماء: ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل، لكي يدخل المعتبرون في جملتهم، مثاله: أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قال إن واحداً من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق، فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف، ولهذا قال كثير من العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطئ.
د. الجواب عن أنه لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم، لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى هو: أن هذا مذهب أهل السنة، ومن وافقهم.
هـ. الجواب عن (أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر)؟: خبر الله تعالى صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخير، فالجمع بينهما متناقض، ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال: الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض، يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلًا عن الصغائر.
23. قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة.
24. سؤال وإشكال: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم؟ والجواب: لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
25. اختلف في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تحصل في الآخرة أو في الدنيا:
أ. الأول: إنها تقع في الآخرة.
ب. الثاني: أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا.
26. الذين ذكروا أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تحصل في الآخرة، لهم وجهان:
أ. الأول: وهو الذي عليه الأكثرون: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41] وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه:
• أولها: أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم، وهذا بناء على أن القيامة قد يكذبون، وهذا باطل عند القاضي، وسنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: 23، 24]
• ثانيها: أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء؟ وجوابه: الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعاً، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق، فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهاراً لعدالتهم وكشفاً عن فضيلتهم ومنقبتهم.
• ثالثها: أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا علمت مثل الشمس فاشهد)، والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه.
ب. الثاني: قالوا معنى الآية: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد: الأشهاد أربعة:
• أولها: الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: 21] وقال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10 ـ 12]
• ثانيها: شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117] وقال في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته في هذه الآية: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]
• ثالثها: شهادة أمة محمد خاصة، قال تعالى: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [الزمر: 69] وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]
• رابعها: شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار، بل أعجب منه قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24] الآية، وقال: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ [يس: 65] الآية.
27. الذين ذكروا أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تحصل في الدنيا، ذكروا أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء: شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة، إذا عرفت هذا فنقول: أن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة، لأن الله تعالى جعلهم عدولًا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا:
أ. إنما قلنا: إنه تعالى جعلهم عدولًا في الدنيا لأنه تعالى قال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً﴾ وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال.
ب. وإنما قلنا: إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا لأنه تعالى قال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا.
28. سؤال وإشكال: تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة، والجواب: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضاً.
29. الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا، وهذا لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به.
30. الحاصل أن قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم: عند الإجماع يبين للناس الحق، ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ يعنى مؤدياً ومبيناً، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم.
31. إنما قال ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ ولم يقل: شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال، وأخرت صلة الشهادة أولًا وقدمت آخراً، لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم.
32. ﴿وَمَا جَعَلْنَا﴾ معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: 103] أي ما شرعها ولا جعلها ديناً، وقوله: ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي كنت معتقداً لاستقبالها، كقول القائل: كان لفلان على فلان دين، وقوله: ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ ليس بصفة للقبلة، إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ﴾ الجهة التي كنت عليها، ثم هاهنا وجهان:
أ. الأول: أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل القبلة، وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة فنقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ﴾ الجهة ﴿الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾، أولًا يعنى وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء.
ب. الثاني: يجوز أن يكون قوله: ﴿الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعنى إن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه.
ج. وهاهنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال: لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عليها، لأنه قد يقال: كنت بمعنى صرت كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110] وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 158] فلا يمتنع أن يراد بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا.
33. اللام في قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام تقدم.
34. وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلًا فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم، وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها، ونظيره في الإشكال قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: 31]، وقوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: 66]، وقوله: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، وقوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [العنكبوت: 3]، وقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ﴾ [سبأ: 21] والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى﴾ والمفسرون أجابوا عنه من وجوه:
أ. أحدها: أن قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك: فتحنا البلدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا، ومنه يقال: فتح عمر السواد، ومنه قول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يحكيه عن ربه: (استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وا دهراه وأنا الدهر)، وفي الحديث: (من أهان لي ولياً فقد أهانني)
ب. ثانيها: معناه ليحصل المعدوم فيصير موجوداً، فقوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ معناه: إلا لنعلمه موجوداً، فإن قيل: فهذا يقتضي حدوث العلم، قلنا: اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور.
ج. ثالثها: إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون، فسمى التمييز علماً، لأنه أحد فوائد العلم وثمراته.
د. رابعها: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ معناه: إلا لنرى، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ﴾ [الفجر: 6] [الفيل: 1] [إبراهيم: 19] ورأيت، وعلمت، وشهدت، ألفاظ متعاقبة.
هـ. خامسها: ما ذهب إليه الفراء: وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، ومثاله أن جاهلًا وعاقلًا اجتمعا، فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار، ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه: لنعلم أينا الجاهل، فكذلك قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام: الاستمالة والرفق في الخطاب، كقوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى﴾ [سبأ: 24] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترفيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب، فكذا قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾.
و. سادسها: نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك.
ز. سابعها: أن العلم صلة زائدة، فقوله؛ ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ معناه: إلا ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله.
35. اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها:
أ. فمن الناس من قال إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم.
ب. أما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا: هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا: إن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه، روى القفال عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم، وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا، وقال السدي: لما توجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها، وقال المسلمون: لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، وقال المشركون: تحير في دينه.
وهذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فكان حمله عليه أولى.
36. ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ استعارة ومعناه: من يكفر بالله ورسوله، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ [المدثر: 23]، وكما قال ﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [طه: 48] وكل ذلك تشبيه.
37. ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ (إن) المكسورة الخفيفة، معناها على أربعة أوجه: جزاء، ومخففة من الثقيلة، وجحد، وزائدة:
أ. أما الأولى: وهي الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى، فالمستلزم هو الشرط، واللازم هو الجزاء كقولك: إن جئتني أكرمتك.
ب. أما الثانية: وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة (إن) المشددة كقولك: إن زيداً لقائم، قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4]، وقال: ﴿إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ [الإسراء: 108] ومثله في القرآن كثير، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى: ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ [الملك: 20]، وقوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الأحقاف: 9] إذ كانت كل واحدة منهما يليها الاسم والفعل جميعاً كما وصفنا.
ج. أما الثالثة: وهي التي للجحد، كقوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله﴾ [الأنعام: 57]، وقال: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: 148]، وقال: ﴿وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ [فاطر: 41] أي ما يمسكهما.
د. أما الرابعة: وهي الزائدة فكقولك: ما إن رأيت زيداً.
38. ﴿إِنَّ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ [البقرة: 143] هي المخففة التي تلزمها اللام، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة.
39. في عود الضمير في ﴿كَانَتْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق، وما ذاك إلا القبلة في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 143]
ب. الثاني: أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية لأنه قال: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، ثم قال عطفاً على هذا: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي وإن كانت التولية لأن قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121]
ج. ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة، نظيره قوله فبها ونعمت.
40. هذا متفرع على كون الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة، أو بتحويل القبلة، وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾
41. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: 5] أي: عظمت الفرية بذلك، وقال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16] وقال: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 53]
أ. إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة، قلنا: إن تركها ثقيل عليهم، لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف.
ب. وإن قلنا: الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا: إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة.
42. احتج أهل السنة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ في مسألة خلق الأعمال فقالوا: المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة، والوجهان الأولان هاهنا باطلان، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله، فوجب أن يقال: إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه، والهداية بمعنى الدعوة، ووضع الدلائل عامة في حق الكل، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية هاهنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب.
43. أجاب المعتزلة، ومن وافقهم عن هذا من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك.
ب. ثانيها: أراد به الاهتداء.
ج. ثالثها: أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم.
وجواب أهل السنة، ومن وافقهم عن الكل: أنه ترك للظاهر، فيكون على خلاف الأصل.
44. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ على أقوال:
أ. الأول: روي أن رجالًا من المسلمين كأبي أمامة، وسعد بن زرارة، والبراء بن عازب، والبراء بن معرور، وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم: يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.. ولا بد من هذا السبب، وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون: إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلًا فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة، ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين، وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره: ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ﴾ [المائدة: 93] فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى.
ب. الثاني: وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك.
ج. الثالث: أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن.
د. الرابع: كأنه تعالى قال وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه.
45. سؤال وإشكال: إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى، فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق.
ب. ثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك، فذكر الله تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك.
ج. ثالثها: لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
46. اختلفوا في الذي وجه إليه الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ على قولين:
أ. الأول: أنه مع المؤمنين، وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة:
• الأول: أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ، وذلك جواب عما سألوه من قبل.
• الثاني: أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ.
• الثالث: يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف، فقيل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ [البقرة: 72]، ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة: 50]
• الرابع: يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً، فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
ب. الثاني: قول أبي مسلم، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
47. استدلّ المعتزلة، ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات، فإنه تعالى أراد بالإيمان هاهنا الصلاة، وخالفهم أهل السنة، ومن وافقهم، وقالوا: لا نسلم أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال: أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاستعارة من هذه الجهة.
48. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 195]
49. {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} قال القفال: الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الانفصال والإنعام، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: 57] لأنه إفضال من الله وإنعام، فذكر الله تعالى الرأفة أولًا بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً.
50. ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً:
أ. أحدها: أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} [الحج: 65] والرَؤُوف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة.
ب. ثانيها: أنه لرءوف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا.
ج. ثالثها: قال ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فكأنه تعالى قال وإنما هداهم الله ولأنه رءوف رحيم.
51. قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {لرَؤُوف رَحِيمٌ} مهموزاً غير مشبع على وزن رعف والباقون {لرَؤُوف} مثقلًا مهموزاً مشبعاً على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضاً كحزر، ورأف على وزن فعل.
52. استدلّ المعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد، قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤوف رحيم، والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤوفاً رحيماً بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي، ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفاً رحيماً فعلى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤوفاً رحيماً.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/79.
(2) هذا نص الشبهة، وسيذكر ردوده عليها.
(3) هذا من الإرجاء المعارض للقرآن الكريم.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾، و﴿سَيَقُولُ﴾ بمعنى قال جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول، وخص بقوله: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ لان السفه يكون في جمادات وحيوانات، والمراد من ﴿السُّفَهَاءُ﴾ جميع من قال ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾
2. السفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم، والنساء سفائه، وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم، قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد، السدي: المنافقون، الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير، وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزؤوا بالمسلمين.
3. ﴿وَلَّاهُمْ﴾ يعني عدلهم وصرفهم، الثانية ـ روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء وصلي معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح، وقيل: نزل ذلك على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الصلاة، وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلى بالناس الظهر يومئذ، قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: (كنت أصلى) في فضل الفاتحة، خرجه البخاري.
4. اختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة:
أ. فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري، وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ الآية، ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك.
ب. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين، قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين.
ج. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان.
5. اختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال:
أ. قال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية.
ب. الثاني ـ أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري، وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة.
ج. الثالث ـ وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ الآية.
6. اختلفوا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين:
أ. قالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
ب. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة، قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي، قال غيره: وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس، وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد، وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
7. في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.
8. دلت الآيات الكريمة على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ بمعنى أنت عليها.
9. في الآيات الكريمة دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون، وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا، ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف، احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون، وأما قصة أهل قباء ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلّى الله عليه وآله وسلّم من الأوامر والنواهي.
10. في الآيات الكريمة دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئا بعد شي وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
11. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء.
12. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى قبلة إبراهيم، والصراط، الطريق، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه .
13. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ المعنى: كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط: العدل، واصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال (عدلا)، قال هذا حديث حسن صحيح، وفي التنزيل: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ أي أعدلهم وخيرهم، وقال زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم...إذا نزلت إحدى الليالي بمعظمé
وقال آخر:
çأنتم أوسط حي علموا...بصغير الامر أو إحدى الكبرé
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء، ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها)، وفية عن علي: (عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل)، وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم، وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شي، والوسط (بسكون السين) الظرف، تقول: صليت وسط القوم، وجلست وسط الدار (بالتحريك) لأنه اسم، قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه (بين) فهو وسط، وإن لم يصلح فيه (بين) فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.
14. ﴿لِتَكُونُوا﴾ نصب بلام كي، أي لأن تكونوا، ﴿شُهَدَاءَ﴾ خبر كان، ﴿عَلَى النَّاسِ﴾:
أ. قيل: أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ ـ والوسط العدل ـ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا من كان في قلبه جنة على أخيه.
ب. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت)، ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت)، فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض)، أخرجه البخاري بمعناه، وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس)، خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في (نوادر الأصول)
15. أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نحن الآخرون الأولون)، وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا.
16. في ذلك دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم، وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب قبول قولهم، ولا معنى لقول من قال أريد به جميع الامة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾:
أ. قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة.
ب. وقيل: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالإيمان.
ج. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾:
أ. قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الاولى، لقوله ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾
ب. وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت الآن عليها، كما قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أي أنتم، في قول بعضهم.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾:
أ. قال علي بن أبي طالب: معنى ﴿لَنَعْلَمُ﴾ لنرى، والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ بمعنى ألم تعلم.. وهو أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا، وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾) وما أشبه، والآية جواب لقريش في قولهم: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه.
ب. وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها.
ج. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس.
د. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد.
هـ. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) الحديث.
20. ﴿يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة، ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يعني ممن يرتد عن دينه، لان القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم، ولهذا قال ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.
21. ﴿وَإِنْ﴾ ذهب الفراء إلى أن ﴿وَإِنْ﴾ واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت، وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة.
22. ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾
23. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم، وخرج الترمذي عن ابن عباس قال لما وجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ الآية، قال هذا حديث حسن صحيح، فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل، وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الايمان، وقال محمد بن إسحاق: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين، وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ قال صلاتكم.
24. {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} الرأفة أشد من الرحمة، وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/148.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ﴾ هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين؛ بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقيل: إن ﴿سَيَقُولُ﴾ بمعنى قال وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمراره عليه، وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوينا لصدمته، وتخفيفا لروعته، وكسرا لسورته.
2. السفهاء: جمع سفيه، وهو الكذّاب البهّات المعتمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة، وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس.
3. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾: ما صرفهم ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وهي بيت المقدس، فردّ الله عليهم بقوله: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وفي قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأهل ملته إلى الصراط المستقيم.
4. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ أي: مثل ذلك الجعل جعلناكم؛ قيل معناه: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، والوسط: الخيار أو العدل، والآية محتملة للأمرين.. وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تفسير الوسط هنا بالعدل، فوجب الرجوع إلى ذلك، ومنه قول الراجز:
çلا تذهبنّ في الأمور فرطا...لا تسألنّ إن سألت شططاé
وكن من النّاس جميعا وسطا.. ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا؛ أي: هذه الأمة لم تغل غلوّ النصارى في عيسى، ولا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال: فلان أوسط قومه وواسطتهم، أي: خيارهم.
5. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي: يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيدا على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمره بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾؛ قيل: إن قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يعني: لكم، أي: يشهد لهم بالإيمان؛ وقيل: معناه: يشهد عليكم بالتبليغ لكم، قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، وقالت طائفة: معنى الآية: يشهد بعضكم على بعض بعد الموت؛ وقيل: المراد: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول.
6. إنما أخر لفظ ﴿عَلَى﴾ في شهادة الأمة على الناس، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر: اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
7. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ قيل: المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس؛ أي: ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيده هذا قوله: ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة؛ وقيل: المراد: الكعبة، أي: ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون ﴿كُنْتُ﴾ بمعنى الحال؛ وقيل: المراد بذلك: القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفا لليهود ثم صرف إلى الكعبة.
8. ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ قيل: المراد بالعلم هنا: الرؤية؛ وقيل: المراد: إلّا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك؛ وقيل: ليعلم النبيّ، وقيل: المراد: لنعلم ذلك موجودا حاصلا، وهكذا ما ورد معللا بعلم الله سبحانه لا بدّ أن يؤول بمثل هذا، كقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾
9. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي: ما كانت إلا كبيرة، كما قال الفراء في أن وإن: أنهما بمعنى ما وإلا، وقال البصريون: هي الثقيلة خففت، والضمير في كانت: راجع إلى ما يدل عليه قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ من التحويلة، أو التولية، أو الجعلة، أو الردّة، ذكر معنى ذلك الأخفش، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة، أي: وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم، وهذا الاستثناء مفرغ؛ لأن ما قبله في قوّة النفي، أي: أنها لا تخفّ ولا تسهل إلا على الذين هدى الله.
10. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال فسمّى الصلاة إيمانا لاجتماعها على نية وقول وعمل؛ وقيل: المراد: المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم، والأول يتعين القول به، والمصير إليه.
11. الرؤوف: كثير الرأفة، وهي أشدّ من الرحمة، قال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/175.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أعلم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين أن فريقا من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء، جمع سفيه، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل، قال ابو السعود: أي الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر.
2. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ أي أيّ شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، ومدار الإنكار، إن كان القائلون هم اليهود، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم، وإن كان غيرهم، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه، وقد روي عن ابن عباس: أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن أنهم مشركو العرب، وعن السدّيّ أنهم المنافقون.. قال الراغب: ولا تنافي بين أقوالهم فكلّ قد عابوا، وكلّ سفهاء.
3. ظاهر قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ إلخ أنه إخبار بقولهم المذكور، ثم إن الإخبار قبل وقوعه، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أردّ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخبارا عن غيب، فيكون معجزا.
4. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ جواب عن شبهتهم، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى، وما أمر به فهو الحق ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة، كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: 26]
5. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي عدولا، خيارا.
6. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ تعليل للجعل المنوه به الذي تمّت المنة به عليهم، واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو بالبصيرة، قال الرازي: الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهودا، والعارف بالشيء شاهدا ومشاهدا، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك، سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا، وبالجملة، فكل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه.
7. الشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، وهو، بالمعنى الثالث، من النعوت الجليلة، ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة، كما ترى في هذه الآية وفي آية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41] وآية، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ [البقرة: 23]، ﴿وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69]
8. في اللام في قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ على وجهين:
أ. لام الصيرورة والعاقبة، أي فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطا أن كنتم شهداء على الناس، وهم أهل الأديان الأخر، أي بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا، مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبرا، فعرفتم حق دينهم من باطله، ووحيه من مخترعه.. يعني: وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم، وعافاكم مما ابتلى به سواكم، حيث وفقكم للمنهج السويّ وهداكم للمهيع الرضيّ، وذلك صار الرسول عليكم شهيدا بأنكم عرفتم الحق من الباطل والهدى من الضلال والنور من الظلمات، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته، فعظمت المنة لله عليكم إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة، علماء بعد الجهالة، ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم، فتقوم عليهم الحجة كما قامت على أولئك.
ب. أن تكون اللام للتعليل، على أصلها، والمعنى: جعلناكم أمة خيارا لتكونوا شهداء على الناس، أي رقباء قوّاما عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال، كما كان الرسول شهيدا عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم، فتكون الآية نظير آية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]، وربما آثر هذا المعنى من قال خير ما فسّر القرآن بالقرآن، لتماثل الآيتين بادئ بدء، فإن الوسط بمعنى الخيار، وقد صرح به في قوله ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية: لتكونوا شهداء لمحمد عليه السّلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي شهداء على حقية رسالته، وذلك بالدعوة إليها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها.
9. بعد كتابة هذا رأيت السمرقنديّ في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه، وعبارته: وللآية تأويل آخر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي عدولا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ إلخ يقول: إنكم حجة على جميع من خالفكم، ورسول الله عليه السلام حجة عليكم، والشهادة في اللغة هو البيان، ولهذا سمي الشاهد بينة لأنه يبيّن حق المدعي، يعني إنكم تبينون لمن بعدكم، والنبيّ، عليه السلام، يبين لكم.
10. أوضح ذلك الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر فقال: إن قيل: على أي وجه شهادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتا حكمه، وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر، وكمله ببعثة الأنبياء، وخصّ هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، فأفادناه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبينه لنا ـ صار حجة وشاهدا أن يقولوا ﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ [المائدة: 19]، وجعل أمته، المتخصصة بمعرفته، شهودا على سائر الناس.
11. سؤال وإشكال: هل أمته شهود كلهم أم بعضهم؟ والجواب(2).: كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء، وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهدا ومقبولا، ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9] وعلى هذا قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: 135]، فالقيام بالقسط مراعاة العدالة، وهي، بالقول المجمل، ثلاث: عدالة بين الإنسان ونفسه ـ وعدالة بينه وبين الناس ـ وعدالة بينه وبين الله عز وجل، فمن رعى ذلك فقد صار عدلا شاهدا لله عز وجل.
12. سؤال وإشكال: فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة؟ والجواب(2).: بل كلّ شاهد نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده وعدله ورأفته، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم، انتهى كلام الراغب، والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا)، فذلك قوله جل ذكره ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ وقد روي مرفوعا عن جابر، أخرجه الطبري، وعن ثلة من التابعين من قولهم.
13. بيّنا مرارا، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعا أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية، فكله يفيد أن للآية عموما يشمل ما ذكر، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره.. وعليه، فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة، من حيث عمومها، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم، وبين ما يروى في تفسيرها، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها، كله من باب تفسير العامّ ببعض ما يتناوله لفظه، ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات: ثم تلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله تعالى، أو ثم قرأ، أو أقرأوا إن شئتم، مما يدل على أنه ذكرت الآية حجة لما أخبر به، لأنه مما يندرج فيها، فاحرص على ذلك.
14. استدلّ بالآية على أن الإجماع حجة، لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله، فإجماع الأمة حق، لا تجتمع الأمة، والحمد لله، على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك في قوله ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف: 157]، وبذلك وصف المؤمنين في قوله ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71]، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول، وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال: مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (وجبت) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال (وجبت)، فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض.. وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ إلى آخرها، فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء، لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء، فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض، بل زكاهم الله في شهادتهم، كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق(3)..
15. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي ما شرعنا القبلة، كقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: 103] أي ما شرعها، و﴿الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ (جعل) أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أي في مكة تستقبلها قبل الهجرة وهي الكعبة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء، أو ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ بمعنى صرت عليها الآن، كقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110]، أو بمعنى كنت على تطلّبها، أي حريصا عليه، وراغبا فيه، كما يفصح عنه قوله تعالى بعد ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ [البقرة: 144] الآية، وعلى هذه الأوجه، تكون الآية بيانا للحكمة في جعل الكعبة قبلة، أو معنى التي ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾: قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس، أي إنما شرعنا لك التوجه أولا إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك، حيثما توجهت، من غيره، فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أوّلا.
16. ثم أعلم أن الحكمة هي التمييز بين الناس بقوله ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيّان ما وجهه ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع، وأصل المنقلب على عقبيه: الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير، قال ابن جرير: قد ارتد، في محنة الله أصحاب رسوله في القبلة، رجال ممن كان قد أسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا؟ وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت، وقال المشركون: تحيّر محمد في دينه، فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصا للمؤمنين.
17. العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم، والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ [المدثر: 23]، وكقوله ﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [طه: 48].
18. سؤال وإشكال: ما وجه قوله ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ وذلك يقتضي استفادة علم، ولم يزل، تعالى، عالما بما كان وبما يكون؟ والجواب(4).: إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه:
أ. الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه وحدوث العلم به، ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال، صار اللام فيه مقتضيا حدوث الفعل لا حدوث العلم.
ب. الثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به، والله تعالى علمهم، قبل أن يتبعوه، غير تابعين، وبعد أن تبعوه علمهم تابعين، وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول، لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم.
ج. الثالث: معناه ليعلم غيرنا بنا، فنسب ذلك إلى نفسه، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]، وفي موضع آخر ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113]، وإنما علّمه بملائكته.
د. الرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف، نحو قولك: سأعلم حسن بلائك، أي سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل، فعبّر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه.
هـ. الخامس: أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علما أن يقول: تعال حتى نعلم كذا، وإنما يريد إعلام المخاطب، لكن يحله نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف.
19. الوجه الثالث هو الذي اختاره ابن جرير، قال: أما معناه عندنا: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي: من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (قال) وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس، إلى الرئيس، وما فعل بهم، إليه، نحو قولهم: فتح عمر سواد العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سبب كان منه في ذلك، وكالذي روي في نظيره عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال (يقول الله جل ثناؤه: مرضت فلم يعدني عبدي واستقرضته فلم يقرضني)، فأضاف تعالى ذكره، الاستقراض والعيادة إلى نفسه وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه، قد حكي عن العرب سماعا: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري.. بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم، فكذلك قوله ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
20. ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ أي التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة ﴿لَكَبِيرَةً﴾ أي ثقيلة شاقة، لأن مفارقة الإلف، بعد طمأنينة النفس إليه، أمر شاق جدا، ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ قلوبهم، فأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر، أحدث لهم شكا، كما يحصل، للذين آمنوا، إيقان وتصديق، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124 ـ 125]، وقال تعالى ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]
21. {وما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبيان أنهم يثابون على ذلك، وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء: وكان الذي مات على القبلة، قبل أن تحوّل قبل البيت، رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143]، أي صلاتكم، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان، الذي هو عام في الصلاة وغيرها، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه، ثم يصح عنهم، فيندرج المسؤول عنه اندراجا أوليا، ويكون الحكم كليا، وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب، ليتناول الماضيين والباقين، تغليبا لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/413.
(2) الكلام هنا للراغب الأصفهاني .
(3) ذكر هنا نبذة من كلام ابن تيمية، من رسالته إلى جماعة عديّ بن مسافر، وقد حذفناه لطائفيته الشديدة، لأن الله تعالى ذكر وسطية الأمة ولم يذكر وسطية أي طائفة.
(4) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿سَيَقُولُ﴾ نزلت قبل قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ وبعد ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ الآية، فتكون معجزةً بالإخبار بالغيب، وتوطينا لنفوس المؤمنين على الصبر، وليستعدُّوا للجواب، ومفاجأة المكروه أشدُّ على النفس، وأدعى لاضطراب الجواب أو خطئه، فقدَّم الله الأخبار لهم ولقَّنهم الجواب.
2. وعلى صحَّة نزولها بعد قولهم: (مَا وَلَّاهُمْ) فالسين للتأكيد دون الاستقبال، وفائدة التأكيد ذمُّهم بأنَّهم قد تحقَّق منهم كلام سوء وطعن، فيكون الفعل للحال المحكيَّة تنزيلاً للماضي منزلة الحاضر، أو للاستمرار، أو هي للاستقبال بمعنى أنَّهم سيعيدون القول ويكرِّرونه مجاهرة وجدالاً بعد إخفاء ويكرِّرونه، ﴿السُّفَهَآءُ﴾ من يضعون الشيء في غير موضعه لخفَّة عقولهم، ويعملون بغير دليل، ويرون غير الدليل دليلاً، ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ أي: من جملة الناس، لئلَّا يتوهَّم أنَّ السفهاء هم خصوص المذكورين أوائل السورة، والسفيه ولو كان قد يكون في الحيوانات لكن لا قول لها إلَّا شاذًّا أو تأويلاً، فلا يحترز عنها.
3. والسفهاء: اليهود المجاهرون، والمنافقون بإضمار الشرك من العرب، والمنافقون من اليهود ومشركو العرب، أمَّا اليهود فإنَّهم لا يرون النسخ، وكانوا يأنسون باستقبال النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم بيت المقدس، ويرجون أن يرجع إلى دينهم، وَلَمَّا استقبل القبلةَ اغتمُّوا وقالوا: اشتاق إلى دين آبائه، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنَّه المبشَّر به في التوراة، فبعض علموا أنَّه النبيء وأنَّه سيرجع إلى الكعبة وكتم، ولو لم يرجع إليها لعلموا أنَّه غير النبيء، وقال: ذلك سفهًا، وبعضٌ مَا علم وقال ذلك، وَأَمَّا المنافقون فقالوا: تحوُّله للكعبة لعبٌ بالدين وعملٌ بالرأي لا بدين، وَأَمَّا مشركو العرب فقالوا: قد رجع إلى وفاقنا ولو بقي عليه من أوَّل الأمر لكان أولى له، وَكَذِبُوا، لم يكن قطُّ إلَّا على الإسلام، إلَّا إنْ أرادوا موافقة الكعبة.
4. يُروَى أنَّه كان يصلِّي إلى بيت المقدس فتأذَّوا بذلك، وقيل: بجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وَلَمَّا حُوِّلت القبلة قالوا: لو كان من أوَّلٍّ كذلك كان أليق به، وقالوا: رغب عن قبلة آبائه، ثمَّ رجع إليها وسيرجع إلى دينهم، قال البراء: لَمَّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلَّى نحو بيت المقدس ستَّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحبُّ أنْ يتوجَّه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ الآية، فكان يصلِّي إليها، وفي رواية: صلَّى إلى بيت المقدس تسعة أشهرٍ أو عشرة أشهرٍ؛ وعن معاذ: ثلاثة عشر شهرًا، وقيل: سبعة أشهر.
5. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ صرفهم إلى الكعبة ﴿عَن قِبْلَتِهِم﴾ صخرة بيت المقدس، وأصل القبلة نوع من الاستقبال في ذات المستقبل وأحواله في مكانه، ثمَّ صار حقيقة عرفيَّة عامَّة للجهة المستقبَل إليها، ﴿الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ في صلاتهم ودعائهم وأمورهم، وذلك ظاهر في اليهود والمنافقين من العرب المعتقدين لحقِّـيَّة قبلة اليهود تقليدًا لليهود، وممَّا ورد في صخرة بيت المقدس أنَّ المياه تقسم عليها لأهل الأرض، وَأَمَّا مشركو العرب فقولهم: (مَا وَلَّاهُم..) إلخ، مجرَّد طعن بأنَّ الانصراف بلا داع والتوجُّه أوَّلاً بلا داعٍ، وَأَمَّا استقبال الكعبة فحقٌّ عندهم.
6. ﴿قُل لِّلـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وسائر الأرض داخل فيهما تعميمًا للجوانب، أو كناية عن جميع الأرض، وذلك أبلغ من أنْ يقول: للهِ الأرض كلُّها، وأيضًا في ذكرهما تلويح بذكر قبلة النصارى وهي المشرق وقبلة اليهود وهي المغرب، وأخَّره لأنَّ الطلوع قبل الغروب، ومطابقة لمزيد ظهورهما لكونهما مطالع النور والظلمة، وكثرة توجُّه الناس إليهما للأوقات والمقاصد، ولا بدَّ أنَّهما سُمِّيا لشروق الشمس وغروبها، لكن إمَّا أنْ يعتبرا على طول الأرض وعرضها، وإمَّا أن يعتبرا بمشارق الشمس ومغاربها، فأينما تولُّوا وجوهكم إليه أو فيه فثمَّ وجه اللهِ، ذات الله بالخلق والعلم والقدرة والحفظ.
7. ﴿يَهْدِي مَنْ يَّشَآءُ﴾ هدايته ﴿اِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ هداية توفيق إلى قبول دين الله، سواء أَعَمِلَ به، أو آمن وقَبِل وعمل الكبائر فهو للنار إنْ أصرَّ؛ فهؤلاء أمَّة الإجابة، ومقابلهم من لم يهده إلى التوحيد وقبول الدين وهم اليهود والنصارى وكلُّ مشركٍ، وهم أمَّة كفرٍ، من جملة أمَّة النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كقوم نوح وقوم هود، أو هداية توفيق للسعادة، ويدلُّ للأوَّل العموم في قوله: تحويل القبلة
8. ﴿وَكَذَالِكَ﴾ أي: كما هديناكم إلى الصراط المستقيم، وجعلنا قبلتكم الكعبة، لا تُنسخ هي ولا دينكم، وهما أفضل دين وقبلة، ولو لم تصرِّح الآية بالأفضليَّة وعدم النسخ، لكن ناسبه التفضيل في قوله: ﴿جَعَلْنَاكُمُ إُمَّةً﴾، ولا شكَّ أنَّ الكعبة أشرف؛ لأنَّها قبلة إبراهيم وقبلة آدم ومن بعده، إذا صير إلى السبق فهي أسبق؛ لأنَّها قبل آدم بألفي عام لحجِّه الملائكة، ووضع الله بيت المقدس أيضًا لكن بعد الكعبة بأربعين عامًا.
9. ﴿جَعَلْنَاكُم﴾ يا أمَّة محمَّد ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ أفضل من غيركم بالعلم والعمل من الواسطة التي هي المختار من الجواهر، أو من الوساطة بمعنى الاعتدال في الشأن؛ لأنَّ وسط الشيء مصون والأطراف يتسارع إليها الخلل، ولأنَّها وسط معنويٌّ بين إفراط وتفريط، والوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كالمركز، ثمَّ استعير للخصال المحمودة لكونها أوساطًا للخصال المذمومة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهوُّر.
10. ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أنَّ أنبياءهم بلَّغوهم، والمراد بالكاف وَوَاوِ (تَكُونُوا) المجموع لا الجميع؛ لأنَّ الأشقياء من هذه الأمَّة لا يكونون شهداء على الناس الذين قبل هذه الأمَّة.
11. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ﴾ لكم ﴿شَهِيدًا﴾ بأنَّكم عدول تُقبل شهادتكم على الأمم، وأنَّه بلَّغكم وقبلتم، كما دلَّ عليه ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ وأنَّكم شهداء، فله مدخل في التعليل بخلاف ما لو فسَّرنا بمجرَّد شهادته صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه بلغكم، فيخصُّ على الأنبياء بشهادته لنفسه بالتبليغ، فتكون (عَلَى) بظاهرها، فتكون اللام للعاقبة في هذا، ولو صحَّ التعليل في (تَكُونُوا) فيُجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، أو تجعل لعموم المجاز، أو تجعل في الأوَّل للتعليل وتقدَّر في الثاني للعاقبة، أي: وليكون الرَّسول عليكم شهيدًا، تنكر كفَّار الأمم تبليغ الرسل فيقول الرسل: تشهد لنا أمَّة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيشهدون لهم بالتبليغ، فيقول الكفَّار: كيف يشهدون علينا وهم بَعدَنا؟ فيقولون: يا ربَّنا أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت عليه كتابًا فيه تبليغهم، وأنت صادق، فيُسأل صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أمَّته فيزكِّيهم، يشهد كلُّ نبيء على أمَّته بالكفر بما بلَّغها، ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِم بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: 41] فتكذِّبه فتشهد له هذه الأمَّة، وشهادته صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدالة أمَّته الشاهدين للأنبياء شهادة على كفَّار الأمم، ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَؤُلَآءِ﴾ أي: كفَّار الأمم ﴿شَهِيدًا﴾، وعن أبي سعيد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يجيء النبيء يوم القيامة ومعه الرجل والنبيء ومعه الرجلان وأكثر، فيُدعى قومُه فيقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلَّغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمَّد وأمَّته، فيدعى محمَّد وأمَّته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما أعلمكم؟ فيقولون: جاءنا نبيئنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأخبرنا أنَّ الرُّسل قد بلَّغوا، فذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمُ إمَّةً وَسَطًا﴾ الآية)، وفي رواية: (فيؤتى بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيُسأل عن حال أمَّته فيزكِّيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾).
12. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ﴾ وهي الكعبة في نفس الأمر، ﴿الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ قبلُ، كانت قبلتُه حين كان بمكَّة الكعبةَ، ولو كان يجعلها بينه وبين بيت المقدس، واستقبل المقدس في المدينة ستَّة أو سبعة عشر شهرًا بأمر الله تأليفًا لليهود، ثم حوَّله للكعبة، فـ (الَّتِي) مفعول ثانٍ لا نعت على المختار، أو ما جعلنا القبلة في المدينة قبل التحويل للكعبة هي بيت المقدس الذي كنت عليه قبل التحويل، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبل الهجرة قبلةً، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها بعد الهجرة قبلة، فالمفعول الثاني محذوف و(الَّتِي) نعت.
13. ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَّتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ محمَّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عِلْمَ ظهورٍ، أو ليَظهَرَ عِلْمُنا، أو نعاملهم معاملة المختبِر، وعِلْم الله أزليٌّ، لكن لا يخفى عنه وقوع الشيء، ووقته وتفاصيله؛ لأنَّه الخالق له؛ أو ليعلم رسولنا أو عبادنا الصَّالحون، فحذف المضاف أو أسند لنفسه لأنَّهم خواصُّه، وفي ذلك تعظيم لهم، أو لنميِّز من يتَّبع الرسول للناس، والعلم سبب للتمييز وملزوم له، فإنَّ العلم صفة توجبُ تمييزًا لا يحتمل النَّقيض، أو لنجازيَ الطائع والعاصي؛ وإنَّما يكون الجزاء ممَّن علم طاعة الطائع وعصيان العاصي، والمراد بالاتِّباع: البقاء على اتِّباعه فيما مضى، وفيما يحدث من القبلة وغيرها.
14. ﴿مِمَّنْ يَّنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ يكفر بعد الإيمان بسبب تبدُّل القبلة، كفرًا شبيهًا برجوع الماشي إلى ورائه، يظنُّ أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حيرة من أمره، وقد ارتدَّ لذلك الظَّنِّ جماعة، ﴿وَإِن﴾ إنَّه، إنَّ الشَّأن؛ ﴿كَانَتْ﴾ أي: التولية المعلومة من قوله: ﴿مَا وَلَّاهُم﴾، أو القبلة والتحويلة، أو الردَّة إلى الكعبة، أو الجعلة، أو المتابعة، ﴿لَكَبِيرَةً﴾ شاقَّة على قلوب الناس، وقاعدة الكوفيِّين في جميع القرآن وغيره أنْ يجعلوا (إنْ) المخفَّفة نافيه لا مخفَّفة، واللَّام بعدها بمعنى (إِلَّا)، ويردُّه أنَّه لم يجئ في كلام العرب: (ما جاء لَزيدٌ)، أي: إلَّا زيد، و(جاء القوم لزيدًا)، أي: إلَّا زيدًا.
15. ﴿اِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ﴾ منهم، أجاز بعضهم التفريغ في الإثبات، والمانع يَعتبِر ما في (كَبِيرَةً) من معنى النفي، أي: لا تخفُّ إلَّا على الذين هدى الله.
16. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلِّي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منَّا قبل أنْ نُصرف إلى القبلة، وكيف صلواتنا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى :
17. ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ أي: طاعتكم، أي: ثوابها، وكلُّ عبادة إيمان، وفي الحديث: (الإيمان بضع وستُّون جزءًا) وهي في الآية الصلاة، قال حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود: إنْ كانت صلاتكم إلى بيت المقدس هدى فقد تحوَّلتم عنه، أو ضلالة فقد دنتم بها مدَّة، ومن مات قبل التحول مات عليها، كأسعد بن زرارة، وأبي أُمامة من بني النجَّار، والبراء بن معرور، من بني سلمة، وكانا من النقباء وآخرين، فقال عشائرهم: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فما حال من مات منَّا قبل الصَّرف؟ فنزل ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾ أي: صلاتكم، أو طاعتكم مطلقًا، لا يضيِّع صلاتكم ولا غيرها، أو إيمانكم باستقبال بيت المقدس، سواء قلنا استقبالها بوحي على ما رجَّحوا، أم اجتهاد منه، إذ وجد أهل التوراة يستقبلونها، كما صام عاشوراء متابعة لهم، فوطَّن أنْ يستقبلها حتَّى يوحى إليه في الاستقبال، ومن قال: الإيمان التصديق فقط وفسَّره بالصَّلاة، فقد تجوَّز لأنَّه سببها وملزومها.
18. ﴿إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ﴾ متعلِّق بما بعد اللَّام بحسب الظَّاهر، فيحمل عليه، فيقال: لا صدر للَّام في خبر (إِنَّ) إذا كان المتعلِّق ظرفًا أو مجرورًا؛ لأنَّ تأويل الكثير لا يحسن إلَّا لما لا بدَّ منه ولا محيد عنه.
19. ﴿لَرَؤُوفٌ﴾ شديد الرَّحمة، ﴿رَّحِيمٌ﴾ الرَّحمة أعمُّ من الرأفة، ومع ذلك أخَّرها للفاصلة، وهي مبنيَّة على الميم نظير الميم في (مستقيم)، وأولى من ذلك أن نقول: لا محذور في تقديم خاصٍّ لا يشمل كلَّ ما في العامِّ فلذكر العامِّ بعده دلالة على ما لم يدلَّ عليه الخاصُّ، فذكر الرَّحمة ليدُلَّ على رحمة أخرى دون الشديدةِ، بخلاف: (فلان متكلِّم فصيح)، فإنَّه لو أُخِّر (متكلِّمٌ) لم تكن له فائدة، فإنَّ فلانًا لا يكون فصيحًا إلَّا وهو متكلِّم؛ لذلك قدِّمت بلا فاصلة في قوله تعالى: ﴿رأفةً ورحمةً﴾، وقيل: الرحمة تعمُّ دفع المكروه وإزالة الضرر وسائر الأفضال، والرأفة دفع المكروه والضرِّ، ودفعُهما أهمُّ من جلب الرِّزق مثلاً، فقدِّمت لذلك على الرحمة، فهي تخلية متقدِّمة على التحلية، أو الرأفة: دفع المضارِّ، والرَّحمة: جلب المسارِّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/240.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان أنبياء بني إسرائيل يصلون إلى بيت المقدس وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم، وقد صلى النبي والمسلمون اليها زمنا، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتشوف لاستقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة اليها، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكة فيصلى في جهة الجنوب مستقبلا للشمال فلما هاجو منها الى المدينة تعذر هذا الجمع فتوجه الى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية.
2. ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل، وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه، والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الايمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الاعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ الى أسراره وحكمه التي لم تشرع الاحكام إلا لأجلها، قال عز وجل: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾
3. السفه والسفاهة الاضطراب في الرأي والفكر أو الاخلاق يقال: سفه حلمه ورأيه ونفسه، ومنه: زمام سفيه، أي مضطرب لمرح الناقة ومنازعتها إياه، واضطراب الحلم ـ العقل ـ والرأي جهل وطيش، واضطراب الاخلاق فساد فيها لعدم رسوخ ملكة الفضيلة، قال البيضاوي في تفسير السفهاء وأحسن ما شاء: (هم الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والاعراض عن النظر، يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين، وفائدة تقديم الاخبار توطين النفس وإعداد الجواب)
4. ولاه عن الشيء صرفه عنه والاستفهام للإنكار والتعجب، والمعنى: سيقول سفهاء الاحلام السخفاء: أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين فحولهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وهي قبلة النبيين من قبلهم؟ وهاك تفصيل الجواب: ليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها، وليس لها منافع وخواص لا توجد في غيرها، ولا هيكل سليمان في نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الابنية، وكذلك يقال في الكعبة والبيت الحرام كما تقدم في تفسير ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ وإنما يجعل الله للناس قبلة لتكون جامعة لهم في عبادتهم الى آخر ما تقدم شرحه في تفسير ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وفي الكلام على الكعبة والحج ولكن سفهاء الاحلام من أهل الجمود والمقلدين لهم يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعينة أو البناء المعين، ولذلك كانت الحجة التي لقنها الله لنبيه في الرد على السفهاء الجاهلين لهذه الحكمة ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أي إن الجهات كلها لله تعالى لا فضل لجهة منها بذاتها على جهة، وإن لله أن يخصص منهما ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء، وهو الذي ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهو صراط الاعتدال في الافكار والاخلاق والأعمال كما يبين في الآية الآتية، فعلم أن نسبة الجهات كلها الى الله تعالى واحدة وان العبرة في التوجه اليه سبحانه بالقلوب، واتباع وحيه في توجه الوجوه.
5. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ وهو تصريح بما فهم من قوله ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ الخ أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا.. قالوا ان الوسط هو العدل والخيار وذلك أن الزيادة على المطلوب في الامر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الافراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الامر أي المتوسط بينهما.
6. سؤال وإشكال: لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع ان هذا هو المقصود والاول انما يدل عليه بالالتزام؟ والجواب(2).: من وجهين:
أ. أحدهما: ان وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي فان الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا به، ومن كان متوسطا بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان في احد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضا.
ب. ثانيهما: أن في لفظ الوسط إشعارا بالسببية فكأنه دليل على نفسه، أي أن المسلمين خيار وعدول لانهم وسط، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين، فهم كذلك في العقائد والاخلاق والاعمال، ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الاسلام على قسمين ـ قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة فلا هم له الا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة، وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات، وأما الامة الاسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين حق الروح وحق الجسد، فهي روحانية جثمانية، وان شئت قلت انه أعطاها جميع حقوق الانسانية، فان الانسان جسم وروح، حيوان وملك، فكأنه قال جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين، وتبلغون الكمالين.
7. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ﴾ بالحق ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين، والروحانيين اذ أفرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}، بأنهم أخلدوا الى البهيمية، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين: ان هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها، فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد وهضم حقوق النفس، وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة ـ تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء، وتسبقون الامم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الامور كلها، ذلك بأن ما هديتم اليه هو الكمال الانساني الذي ليس بعده كمال، لان صاحبه يعطي كل ذي حق حقهـ يؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى، وحقوق سائر الناس.
8. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ أي إن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو المثال الاكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه الامة وسطا باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين، فكما تشهد هذه الامة على الناس بسيرتها وارتقائها الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الاسوة الحسنة فيه، بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم، فكأنه قال إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل يهدي الرسول واستقمتم على سنته، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية وبقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الخ بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين كما قال الشاعر وقد استشهد به الزمخشري في تفسير الآية:
çكانت هي الوسط المحمي فاكتنفت...بها الحوادث حتى أصبحت طرفاé
9. سؤال وإشكال: ان هذا خبر عظيم بمنحة جليلة، ومنة بنعمة كبيرة، فلم جيء به معترضا في أطواء الكلام عن القبلة، ولم يجيء ابتداء أو في سياق تعداد الآلاء والنعم؟ والجواب(2).: ان الله تعالى علم أن الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة، وأن سيقول أهل الكتاب ان محمدا ليس على بينة من ربه لأنه غير قبلته، ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى بيت المقدس لما نهاه عنه ثانيا وصرفه عن قبلة الانبياء، ويقول المنافقون انه صلى أولا الى بيت المقدس استمالة لأهل الكتاب ودهانا لهم، ثم غلب عليه حب وطنه وتعظيمه فعاد الى استقبال الكعبة، فهو مضطرب في دينه، وأمثال هذه الشبهات على كونها تدل على عدم الاعتدال في أفكار قائليها تؤثر في نفوس المسلمين، فالمطمئن الراسخ في الايمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين، والضعيف غير المتمكن ربما يضطرب ويتزلزل، لذلك بدأ الله باخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك، ولقنهم الحجة، وبين لهم ما فيها من الحكمة، وبين لهم منزلتهم من سائر الامم وهي أنهم أمة وسط لا تغلو في شيء، ولا تقف عند الظواهر، وأنهم شهداء على الناس وحجة عليهم باعتدالهم في الامور كلها، وفهمهم لحقائق الدين وأسراره، ومن أهمها ان القبلة التي يتوجه اليها لا شأن لها في ذاتها، وإنما العبرة فيها باجتماع أهل الملة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجه إلى الله تعالى ولما كانت نسبة الجهات اليه سبحانه وتعالى واحدة إذ لا تحصره ولا تحدده جهة كان التزام الجهة المعينة منها لغير مجرد الاتباع لأمر الرسول عن الله تعالى ميلا مع الهوى أو تخصيصا بغير مخصص، وكلاهما مما لا يرضاه لنفسه العاقل المعتدل في أمره، نعم ان له أن يسأل عن حكمة التحول والانتقال لا سيما بعد ما ثبت بالواقع ان الرسول الذي أمر به لم يأمر إلا بما ظهرت فائدته ومنفعته للممتثلين له من إصلاح النفوس وحملها على الخير وتوجيهها إلى البر مما دل عليه انه مؤيد من الله تعالى.
10. جملة القول أن إعلام الله رسوله والمؤمنين بما سيكون من الكافرين والمنافقين، وتلقينه إياهم الحجة، وإنزالهم منزلة الشهداء والمحكمين، ثم تبيينه لهم حكمة التأويل، ـ كان مؤيدا ومسددا لهم ونورا يسعى بين أيديهم في ظلمة تلك الفتنة المدلهمة، ولعمري ان هذه هي البلاغة التي لا غاية وراءها ـ إعلام بما سيكون من اضطراب السفهاء في أقوالهم أشير اليه بالاستفهام مجملا، ولم يذكر معه وجه الشبهة حتى لا تسبق إلى النفوس، والغرض إقامة الموانع من تأثيرها عند ورودها من اربابها ـ واختصار للبرهان ببيان ان المشرق والمغرب كسائر الجهات لله تعالى، أي يخصص منها ما يشاء فيجعله قبلة لمن يشاء ـ وبيان لمكانة الامة المحمدية التي أعطيت كل أصل ديني بدليله وحكمته، وكلفت العدل والاعتدال في الامر كله، أي فلا يليق بها أن تبالي بانتقاد السفهاء المذبذبين بين الافراط والتفريط.
11. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ اي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها الى اليوم ثم أمرناك بالتحول عنها الى الكعبة الا ليتبين لك وللمؤمنين الثابت على ايمانه ممن لا ثبات له، فتعلموا المتبع للرسول من المنقلب على عقبيه، برجوعه إلى الكفر الذي كان عليه، أو الا ليكون علمنا الغيبي بحقيقة أمرهما ومآلهما علم شهادة بوقوع متعلقه وهو الذي يترتب عليه الجزاء، أي ان الله تعالى يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، وعاقبة المنافقين، ليرتب عليه الجزاء، وإنما يثبت من فقه في الشيء فعرف سره وحكمته، وأما المقلد الآخذ بالظواهر من غير فقه ولا عرفان والمنافق غير المطمئن بالإيمان، فلا يثبتان في مهاب عواصف الشكوك والشبهات، وقال مفسرنا الجلال: وما صيرنا القبلة لك الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة الخ ـ وهو مبني على قول الأقلين ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي أولا الى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فيكون النسخ قد حصل مرتين، والأكثرون على أن المراد بالقبلة التي كان عليها بيت المقدس.
12. ان هذه الجملة(2). من قبيل ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ فالرؤيا لم تكن بنفسها فتنة وإنما افتتن الناس اذ أخبروا بها ولم يفقهوا المراد منها، كذلك القبلة ليس في جعل جهة كذا قبلة فتنة واختبار للناس، وإنما الفتنة فيما ترتب على ذلك من حيث كونه صرفا عن قبلة الى غيرها، فالسفهاء والجهال الذين لا يفقهون ينكرون هذا التحويل ويرونه امرا إدّا، والذين هداهم الله الى فقه ذلك يرونه أمرا حكيما جدّا، ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ فمنحهم الاعتدال في الفكر والادراك وفي الميل والرغبة.
13. قوله تعالى: ﴿لَنَعْلَمُ﴾ معهود في القرآن كثيرا(2).، ومثله ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾، وقوله: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ﴾ والعقل والنقل متفقان على أن علمه تعالى قديم لا يتجدد، وللمفسرين في هذه الالفاظ أقوال أظهرها ما مثاله: جرت عادة العرب في لغتها أن تنسب الى الرئيس والكبير ما يحدث بأمره وتدبيره، يقولون فتح الامير البلد وقاتل الجيش، وكثيرا ما يقولون هذا والامير ليس واحدا من العاملين، فهو أسلوب معهود إذا أريد إسناد الفعل الى الجمهور أسندوه الى المقدم فيهم، ولما كان الله تعالى ولي الذين آمنوا وخاطبهم خطاب السيد صح بحسب هذا الاسلوب العربي أن يذكر الفعل بصيغة الجمع التي تشمل المتكلم وغيره وان كان غيره هو المقصود بالفعل، فمعنى ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ الا ليعلم عبادي المؤمنون بإعلامي اياهم، وقد علم المؤمنون في هذه الفتنة من هو الثابت على اتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن هو المنافق الذي قلبته ريح الشبهة على عقبيه، وكان المنافقون مع المؤمنين بحيث لا يماز أحدهم من الآخر لقيامهم جميعا بأداء الاعمال الظاهرة المطلوبة، وهكذا كان سبحانه وتعالى يمحص ما في القلوب بما يبتلي به الناس من الفتن ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ وعلى هذا الاسلوب جاء ما روي في الحديث القدسي: (يا عبدي مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني)، خرجوه على أن المراد مرض عبادي الفقراء الذين هم عيال الله فلم تعدهم الخ، نعم ان الرواية غير صحيحة، ولكن لم يفهم أحد منها أنها على ظاهرها لقطع العقل بأن هذا محال ولقوله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ وقالت العرب: اني جائع في بطن غيري وعريان في ظهر غيري: ويدخل في هذا الاسلوب أيضا مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ أي يعطي عباده المحتاجين، والله يكافئه عنهم اذ كانوا عاجزين.
14. ثم وجه آخر في تفسير ﴿لَنَعْلَمُ﴾ وهو ان المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذلك أن الله تعالى يعلم الاشياء قبل وقوعها أنها ستقع لا أنها واقعة، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، والجزاء يترتب على ما وقع بالفعل، فقوله هنا ﴿لَنَعْلَمُ﴾ يراد به الثاني أي لنعلم علم وقوع ووجود يترتب عليه الثواب والعقاب، وليس معناه أنه تجدد له علم لم يكن، وإنما التجدد في المعلوم لا في نفس العلم، أي أن المعلوم لم يكن موجودا ثم وجد وظهر كله قال وما جعلنا القبلة جهة بيت المقدس الا لنحولها ونمتحن المؤمنين بالتحويل ليظهر ما ثبت في العلم القديم من اتباع بعض الناس للرسول واستقامتهم على هدايته، وانقلاب بعضهم على عقبيه واظهاره ما أكنه في نفسه من الريب، وبذلك يمتاز المهتدون من الضالين، وتقوم الحجة للمؤمنين على الكافرين.
15. معنى الانقلاب على العقبين هو الانصراف عن الشيء بالرجوع الى الوراء وهو طريق العقبين، فالمنقلبون قد خرجوا من عداد المؤمنين وعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، ويقال رجع على عقبيه ونكص على عقبيه وأبلغها انقلب على عقبيه لما فيها من الاشعار بأنه رجع عن خير الى شر أو من سوء الى أسوأ.
16. من قبيل استعمال العلم في متعلقه(2).، وما يصدق عليه قوله تعالى ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ الآية وقوله ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ فالمراد من الكلمات هنا الموجودات كلها عبر عنها بذلك لان كل موجود منها وجد بكلمة الله (كن).. والمختار عندي التعبير عن علمه تعالى بالشيء قبل وجوده بعلم الغيب وبعد وجوده بعلم الشهادة، وان كلمات الله في الآيتين الاخيرتين كلمات التكوين أنفسها لا متعلقاتها التي هي الموجودات، فعلم الله قسمان: غيب وشهادة، وكلماته قسمان: تشريع وتكوين.
17. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي وان القبلة أو قصتها في نسخها والتحول عنها لكبيرة الشأن شديدة الوقع فيما كان من أمر الناس ـ أو ما كانت إلا كبيرة يشق التحول عنها ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي هداهم الى المعرفة به والعلم بحكم شرعه، فعقلوا ان التعبد بها إنما يكون بطاعة الله بها لا بسر في ذاتها أو مكانها، وان حكمتها اجتماع الامة عليها الذي هو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
18. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي وما كان من شأن الله في حكمته ورحمته ان يضيع إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة والقبلة، فلو كان نسخ القبلة مما يضيع الايمان بنقضه أو نقصه أو فوت ثواب ما كان قبله لما نسخها.
19. أكثر المفسرين على أن المراد بالإيمان هنا الصلاة إذ ورد ان بعض المؤمنين أحبوا أن يعرفوا حال صلاتهم قبل التحويل أو صلاة من مات ولم يصل الى الكعبة، فاراد الله ان يبين لهم انه يتقبل من الصلاة ما كان أثر الايمان الخالص، أي متى كنتم تصلون إيمانا واحتسابا لا رياء ولا سمعة، فصلاتكم مقبولة لأنها أثر الايمان الراسخ في القلب، المصلح للنفس، فتسمية الصلاة على هذا إيمانا ليس لأنها أعظم أركان الدين بل للإشارة الى ان مزيتها في منشئها الباعث عليها من الايمان والاخلاص، ولذلك يقرن الايمان دائما بذكر الصلاة والزكاة: فالصلاة آية الايمان القلبية الخفية لأنها لا تكون آية الا باخلاص القلب، والزكاة هي الدليل الحسي الظاهر عليه، وقد يغش الجاهل نفسه بالصلاة فيتوهم انه اقامها كما أمر الله إذا أدى هذه الاعمال الظاهرة التي هي صورتها، وان كانت هذه الصورة خالية من روح الاخلاص والتوجه القلبي الى الله تعالى، ولكن الزكاة آية حسية على الايمان، لا يقدر ان يغش نفسه بها إنسان، فليحاسب مؤمن بالله وكتابه نفسه.
20. سياق الآية، بل الآيات(2). يدل على أن الايمان هنا مستعمل في معناه، فإنه لما بين أمر الفتنة في تحويل القبلة، وبين ان من الناس من ينقلب الى الكفر ويترك الايمان، ومنهم من يثبت على ايمانه عالما ان الاعتماد في مثل مسألة القبلة على اتباع الرسول، لان الجهات في نفسها متساوية لا فضل لجهة منها على جهة بشر هؤلاء المؤمنين المتبعين بأنهم يجزون على ايمانهم الجزاء الاوفى فلا يضيع الله أجرهم، ولا يليتهم من ثباتهم على اتباع الرسول شيئا.
21. من عجيب شأن رواة أسباب النزول انهم يمزقون الطائفة الملتئمة من الكلام الالهي ويجعلون القرآن عضين متفرقة، بما يفككون الآيات ويفصلون بعضها من بعض، وبما يفصلون بين الجمل الموثقة في الآية الواحدة فيجعلون لكل جملة سببا مستقلا كما يجعلون لكل آية من الآيات الواردة في مسألة واحدة سببا مستقلا، انظر هذه الآيات تجد إعجازها في بلاغة الاسلوب أن مهدت للأمر بتحويل القبلة ما يشعر به في ضمن حكاية شبهة المعترضين التي ستقع منهم، وبتوهين هذه الشبهة بإسنادها الى السفهاء من الناس وإيرادها مجملة، وبوصلها بالدليل على فسادها، وبذكر هداية الصراط المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، ولا تفريط عند سالكيه ولا إفراط، وبذكر مكانة هذه الامة بدينها، واعتدالها في جميع أمرها، وببيان الحكمة في جعل القبلة الاولى قبلة ثم التحويل عنها، وبالتلطف في الاخبار عما سيكون من ارتداد بعض من يدعون الايمان عن دينهم افتتانا بالتحويل، وجهلا بالأمر، إذ أورد الخبر في سياق بيان الحكمة حتى لا يعظم وقعه على النبي والمؤمنين، وببيان أن المسألة كبيرة على غير المنعم عليهم بالهداية الالهية التي سبق ذكرها، وهي الايمان الكامل بمعرفة دلائل المسائل وحكم الاحكام، ثم بتبشير المؤمنين المهتدين الثابتين على اتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإثابة الله إياهم برأفته ورحمته، وفضله وإحسانه ـ وبعد هذا كله أمره بالتحول أمرا صريحا كما سيأتي في تفسير بقية الآيات، أفيصح في مثل هذا السياق الموثق بعض جمله وآياته ببعض ان تفك وثقه ويجعل نتفا نتفا، ويقال ان كل جملة منه نزلت لحادثة حدثت، أو كلمة قيلت، وان أدى ذلك الى قلب الوضع، وجعل الاول آخرا والآخر أولا، وجعل آيات التمهيد متأخرة في النزول عن آيات المقصد؟ أتسمح لنا اللغة والدين، بأن نجعل القرآن عضين، لأجل روايات رويت وان قيل ان اسناد بعضها قوي بحسب ما عرف من تاريخ الراوين.
22. {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} هذه الجملة استئناف لبيان علة النفي في التي قبلها، وان توفية المؤمن المخلص أجره هي من آثار رأفته ورحمته سبحانه فلا يخشى ان تتخلف وان يضيع أجر المؤمنين الصادقين، قال الجلال: والرأفة شدة الرحمة وقدم الأبلغ للفاصلة، وأنكر محمد عبده هذا القول أشد الانكار وينكر مثله في كل موضع، فيقول ان كل كلمة في القرآن موضوعة في موضعها اللائق بها فليس فيه كلمة تقدمت ولا كلمة تأخرت لأجل الفاصلة، لان القول برعاية الفواصل اثبات للضرورة كما قالوا في كثير من السجع والشعر انه قدم كذا وأخر كذا لأجل السجع ولاجل القافية، والقرآن ليس بشعر، ولا التزام فيه للسجع، وهو من الله الذي لا تعرض له الضرورة بل هو على كل شيء قدير، وهو العليم الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، وما قال بعض المفسرين مثل هذا القول الا لتأثرهم بقوانين فنون البلاغة وغلبتها عليهم في توجيه الكلام، مع الغفلة في هذه النقطة عن مكانة القرآن في ذاته، وعدم الالتفات الى ما لكل كلمة في مكانها من التأثير الخاص عند أهل الذوق العربي.. وأقول: ان المسألة خلافية، والتحقيق ان الفواصل ملتزمة في القرآن لكن بغير أدنى ضرورة ولا ما يمكن أن يوصف بأنه تكلف بترجيح اللفظ على بلاغة المعنى، وإنما هو كقوله ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وقوله ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾
23. ان الرأفة أثر من آثار الرحمة والرحمة أعم(2).، فان الرأفة لا تستعمل إلا في حق من وقع في بلاء والرحمة تشمل دفع الألم والضر وتشمل الاحسان وزيادة الاحسان، فذكر الرحمة هنا فيه معنى التعليل والسببية وهو من قبيل الدليل بعد الدعوى، فهو واقع في موقعه كما تحب البلاغة وترضى، كأنه قال ان الله رءوف بالناس لأنه ذو الرحمة الواسعة فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يبتليهم بما يظهر صدق ايمانهم وإخلاصهم في اتباع رسوله ليضيع عليهم هذا الايمان والاخلاص، بل ليجزيهم عليه أحسن الجزاء.
24. اذا كان أثر الرأفة دفع البلاء كما قال محمد عبده فيجوز أن يكون ذكر الرحمة بعدها إيماء الى أنه لا يكتفي تعالى بدفع البلاء عن المؤمنين برأفته، بل {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوف رَحِيمٌ} يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والاحسان الشامل ويزيدهم من فضله.
25. بين المفسّرون أن كلا من الرأفة والرحمة في الانسان انفعال في النفس أثره ما ذكر آنفا من الاحسان ودفع الضر، والانفعال محال على الله تعالى فتفسر هذه الالفاظ اذا وصف بها سبحانه وتعالى بآثارها وغاياتها التي هي أفعال، وهذا من تأويل المتكلمين المخالف لمذهب السلف.
__________
(1) تفسير المنار: 2/3.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بنى إسرائيل قبله يفعلون ذلك، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حوّل الله القبلة إليها، ومن ثمّ كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلى جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال، فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، فأمره الله بذلك ونزل قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون: ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
2. بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلاما، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس، وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم (قبل الرمي يراش السهم) وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. يتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهى أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أيّ جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾
4. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ أي سيقول الذين خفّت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب: أيّ شيء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟
5. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أي أجبهم بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعيّنة أو البناء المعين، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلّى الله عليه وآله وسلّم والطعن في الدين، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها، حدث بلا داع يدعو إليه، حتى قالوا: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا.
6. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين، ويلهمهم ما فيه الخير لهم، وهو تارة يكون في التوجه إلى بيت المقدس، وأخرى في التوجه إلى الكعبة.
7. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين، وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين: مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات، فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسم وروح، وإن شئت فقل: الإنسان حيوان وملك، فكماله بإعطائه الحقين معا.
8. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات: وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.. تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم في جميع شئونكم، وذلك هو منتهى الكمال الإنساني الذي يعطى كل ذي حق حقه، فيؤدى حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوى القربى وحقوق الناس جميعا.
9. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى، وانحرف عن الجادّة؛ وحينئذ يكون الرسول بدينه وسيرته حجة عليه، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
10. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فهو عرضة لرياح الشبهات، تطير به وتغدو وتروح.
11. الخلاصة ـ إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾
12. جاء في الكتاب الكريم (لنعلم ـ وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء: المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
13. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما، هو اجتماع الأمة عليها، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
14. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضى بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا.
15. ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} أي إن الله رَؤُوف بعباده، لأنه ذو الرحمة الواسعة، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص، بل ليجزيهم أحسن الجزاء.
16. الخلاصة ـ إنه لا يكتفى بدفع البلاء عنهم برأفته، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل، ويزيدهم من فضله.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/4.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة، والملابسات التي أحاطت به، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته، والأقاويل التي أطلقوها من حوله؛ ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين، وفي الصف المسلم على العموم.
2. ولا توجد رواية قطعية في هذا الحادث، كما أنه لا يوجد قرآن يتعلق بتاريخه بالتفصيل، والآيات الخاصة به هنا تتعلق بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكان هذا في المدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا من الهجرة.
3. مجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها ـ بالإجمال ـ أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة ـ وليس في هذا نص قرآني ـ وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يرجح أنه أمر غير قرآني، ثم جاء الأمر القرآني الأخير: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.. فنسخه.
4. على أية حال فقد كان التوجه إلى بيت المقدس ـ وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ـ سببا في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة؛ وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام!
5. في الوقت ذاته كان الأمر شاقا على المسلمين من العرب، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام؛ وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم، وزاد الأمر مشقة ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر، واتخاذه حجة عليهم! وكان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقلب وجهه في السماء متجها إلى ربه، دون أن ينطق لسانه بشيء، تأدبا مع الله، وانتظار لتوجيهه بما يرضاه.
6. ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.. وتقول الروايات: إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر أو السابع عشر من الهجرة، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة، كان بعضهم في منتصف صلاة، فحولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.
7. عندئذ انطلقت أبواق يهود ـ وقد عز عليهم أن يتحول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجماعة المسلمة عن قبلتهم، وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تعاظمهم وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم ـ انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم.. قالوا لهم: إن كان التوجه ـ فيما مضى ـ إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة؛ وإن كانت حقا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل، وضائعة صلاتكم إليه كلها.. وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر ـ أو للآيات ـ لا يصدر من الله، فهو دليل على أن محمدا لا يتلقى الوحي من الله! وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع، منذ قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ ـ وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول ـ ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضا، ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلا عند استعراض النص القرآني.
8. أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها، فقد كان هذا حادثا عظيما في تاريخ الجماعة المسلمة، وكانت له آثار ضخمة في حياتها.. لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه ـ فترة ـ إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ؛ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد.. حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام.
9. لكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه، هي حقيقة الإسلام، حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.. كما مر في درس: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ في الجزء الماضي.. لقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته، وما أحاط بهما من ملابسات؛ والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته، وعهده ووصيته.. كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة، فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل.
10. يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه، فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري، الذي ينشئه ذلك التاريخ.. لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين؛ وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده، كما عهد به يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين.. ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام.. فهو تراث لهما، يرثه من يرثون عهد الله إليهما.. والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما؛ فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.. فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق، وبيناها فيما سبق، فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم ـ وهو الإسلام ـ فيشاركوا في هذه الوراثة.
11. الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه، تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم، لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة، حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعا.
12. إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد؛ والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة، وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص، وقد يكون الأمر واضحا فيما يختص بالتصور والاعتقاد؛ ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة.. هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة.
13. إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها.. ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئا من التعصب الضيق، أو شيئا من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكا أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.. إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا ـ ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب ـ إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة، فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أو لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس؛ وبذلك يتم التعبير عنها، يتم في الحس كما تم في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح؛ وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا؛ وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن؛ وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.
14. وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا: قياما واتجاها إلى القبلة وتكبيرا وقراءة وركوعا وسجودا في الصلاة، وإحراما من مكان معين ولباسا معينا وحركة وسعيا ودعاء وتلبية ونحرا وحلقا في الحج.. ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص.
15. لقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادث بالمنحرفين عن الطريق السليم، فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر، ومن نجوم وشمس وقمر، ومن حيوان وطير وشيء.. حين أعوزهم أن يجدوا متصرفا منسقا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية.. فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة، فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته.. بقلبه وحواسه وجوارحه.. فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان؛ وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان! ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه.. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد؛ كما أنه بدوره ينشئ شعورا بالامتياز والتفرد.
16. ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء، ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه، عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم)، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد خرج على جماعة فقاموا له: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).. نهى عن تشبه في مظهر أو لباس، ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك، ونهى عن تشبه في قول أو أدب، لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة.
17. ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض، نهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض، فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين، والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية؛ فينبغي لها أن تستمد تقاليدها ـ كما تستمد عقيدتها ـ من المصدر الذي اختارها للقيادة.. والمسلمون هم الأعلون، وهم الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس، فمن أين إذن يستمدون تصور هم ومنهجهم؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم؟ إلا يستمدوها من الله فهم سيستمدونها من الأدنى الذي جاؤوا ليرفعوه!
18. لقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور، وأقوم منهج في الحياة، فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه، وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر؛ وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر؛ وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى، فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله، والوحدة في الأرفع من التصور، والوحدة في الأفضل من النظام، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله، والتردي في مهاوي الجاهلية.. ليس متعصبا، أو هو متعصب، ولكن للخير والحق والصلاح! والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه، إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة، فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز، رمز للتميز والاختصاص، تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف، وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان.
19. الأمة المسلمة ـ اليوم ـ بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعا، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعا، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا.. الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة؛ والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة؛ والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور؛ والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها.
20. إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله.. وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة، وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام!
21. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ من السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود، فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا، وهم الذين أثاروا هذا التساؤل: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وهي المسجد الأقصى.
22. نلاحظ أن علاج القرآن لهذا التساؤل ولتلك الفتنة يشي بضخامة آثار تلك الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم في ذلك الحين.. والذي يظهر من صيغة التعبير هنا: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ أن هذا كان تمهيدا لإعلان تحويل القبلة في المقطع التالي في هذا الدرس، وأخذا للطريق على الأقاويل والتساؤلات التي علم الله أن السفهاء سيطلقونها.. أو كان ردا عليها بعد إطلاقها، اتخذ هذه الصيغة للإيحاء بأن ما قالوه كان مقدرا أمره، ومعروفة خطته، ومعدة إجابته، وهي طريقة من طرق الرد أعمق تأثيرا.
23. يبدأ القرآن الكريم في علاج آثار هذا التساؤل، والرد عليه بتلقين الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يواجههم به، ويقرّ به الحقيقة في نصابها؛ وفي الوقت نفسه يصحح التصور العام للأمور.
24. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.. إن المشرق لله والمغرب لله، فكل متجه فهو إليه في أي اتجاه، فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها، إنما يفضلها ويخصصها اختيار الله وتوجيهه.. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فإذا اختار لعباده وجهة، واختار لهم قبلة، فهي إذن المختارة، وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم.. بذلك يقرر حقيقة التصور للأماكن والجهات، وحقيقة المصدر الذي يتلقى منه البشر التوجهات، وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حال.
25. ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية، وعن دورها الأساسي في حياة الناس؛ مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة، وشخصيتها الخاصة؛ وأ لا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
26. إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتقيم بينهم العدل والقسط؛ وتضع لهم الموازين والقيم؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا.
27. إنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي:
أ. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
ب. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة.. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
ج. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزاج من هذا وذاك.
د. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
هـ. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا، وتشهد على الناس جميعا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
و. ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾.. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى؛ وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
28. ما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
29. أمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.
30. إذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها، بمناسبة تحويلهم الآن عنها: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.. ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة، إنه يريد لها أن تخلص له؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية، ومن كل شعار اتخذته، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر.
31. لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصبية الجنس، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس.. والله يريده أن يكون بيت الله المقدس، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته.. لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ثانيا، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة.
32. إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة.. إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور، جل أم صغر.. وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.
33. الله ـ سبحانه ـ يعلم كل ما يكون قبل أن يكون، ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس، حتى يحاسبهم عليه، ويأخذهم به، فهو ـ لرحمته بهم ـ لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم.. ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة.. أمر شاق، ومحاولة عسيرة.. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾.. فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيثما وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تقاد.
34. ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم، إنهم ليسوا على ضلال، وإن صلاتهم لم تضع، فالله سبحانه لا يعنت العباد، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}.. إنه يعرف طاقتهم المحدودة، فلا يكلفهم فوق طاقتهم؛ وإنه يهدي المؤمنين، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان، حين تصدق منهم النية، وتصح العزيمة، وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته، فاجتياز البلاء فضل رحمته: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}.. بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/121.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان تحوّل النبيّ والمسلمين بقبلتهم في الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، حدثا اتخذه اليهود ذريعة للتشويش على المسلمين، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم، فكانوا يرصدون كل حدث يقع في محيط المسلمين، ليقعوا منه على سلاح مسموم، يعملونه في المعركة التي يخوضونها ضد الإسلام والمسلمين.
2. حين أمر الله نبيه أن يتحول بالمسلمين إلى المسجد الحرام في الصلاة وجدها اليهود فرصة سانحة للعمل، فأذاعوا أن محمدا إنما فعل ذلك على حساب عقيدته، للخلاف الذي بينه وبينهم، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا، فكيف استباح محمد لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند الله، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين، ومعالنة صريحة بالخروج على أحكامه، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عمله، فإن له أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء،! بمثل هذه التخرصات كان يلقى اليهود المسلمين، على ألسنة المنافقين ومن في قلوبهم مرض، وقد أثاروا بهذه المقولات بلبلة واضطرابا، حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح، ولهذا أمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام!
3. هذا، وفى قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ إخبار بما سيكون من هؤلاء السفهاء من سفاهة، قبل أن يقع منهم هذا السّفه عن تلك الواقعة، وفى هذا ما يكشف عن لؤم القوم وخبث طويتهم، وأنهم ـ بحكم ما هم عليه من خبث ولؤم ـ لن يتركوا هذا الحدث من غير أن يثيروا الغبار حوله، وأن يشعلوها فتنة عمياء، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
4. وفى قوله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ردّ مفحم على تلك السفاهة المضلة، فإذا كانت العبادة لله وحده، وإذا كانت وجوه العابدين إنما قبلتها لله وحده، فإن أي متجه يتجه إليه المؤمن هو وجه قاصد إلى الله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾.. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.. وقد وجّه الله المسلمين وجهتهم الأولى، وهو الذي وجههم وجهتهم الثانية، وهم في وجهتيهم على صراط مستقيم، إذ كانوا ملتزمين أمر الله، آخذين بهديه، عابدين له وحده!
5. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ عطف على قوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي قد هديناكم إلى صراط مستقيم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي أمة قائمة على صراط مستقيم، هو الوسط بين التقصير والغلوّ، وهذا هو أعدل المناهج وأقومها، حيث أن التقصير يقعد بصاحبه عن اللحاق بالركب، كما أن الغلوّ يقطع صاحبه عن مواصلة الرحلة، بعد أن يكلّ حدّه، ويفتر عزمه.
6. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ تعليل شارح للأمة الوسط ومكانها المحمود بين الأمم، فأهل هذه الأمة، هم بموقفهم الوسط، شهادة قائمة على الناس جميعا، إذ كان سيرهم على خط الحياة سيرا يحتمله جهد الأقوياء والضعفاء جميعا.. إنه سير يحفز همّة الضعيف ويشحذ عزمه، على حين أنه يمسك زمام الشارد، ويردّ أنفاسه المبهورة.
7. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ هو الميزان الذي يضبط الأمة الوسط، ويحكم قيامها على هذا الطريق السّوىّ، حيث كان الرسول الكريم هو المثل الأمثل لأمته، فهو في الأمة الوسط شهادة قائمة عليها، يأخذ بقوله وعمله خطّ الوسط فيها، فيمسك بالضعاف أن ينزلوا عن المستوي الجامع للأمة الوسط، ويهتف بالمغالين ألّا يتفلتوا من خط هذه الأمة وينقطعوا عنه.
8. الوسط من كل شيء هو مركز الاعتدال منه، ونقطة التوازن فيه.. وطبيعي أن فوق الوسط منزلة أعلى منه، وأنه ليس غاية الكمال، ومع هذا، فإنه ـ في مجموعه ـ خير مما فوقه، لأنه أثبت وأدوم، ولأنه أقرب إلى متناول الناس، إن لم يكن الناس جميعا، فالأغلب الأعم منهم.
9. الاعتدال في أي شيء وفى كل شيء، هو مما يحتمله الناس ويقدرون على الوفاء به، ويصبرون على ما يكرهون منه، أما ما فوق الوسط فهو أمر لا تحتمله أكثر النفوس، ولا تصبر عليه.. وقد يرتفع الإنسان إلى أكثر مما يحتمل، فيختل توازنه ويسقط.. ولا تكون السلامة والعافية إلا حيث الاعتدال، الذي يجد الإنسان في مجاله القدرة على التحرك إلى فوق، وإلى تحت، وهو في تلك الحركة ـ بحكم الوسط ـ لا يخرج عن المقام الكريم اللائق به، حيث يظل ـ بالوضع الذي هو فيه ـ مشرفا على الأرض، مستشرفا للسماء! وقد يقول بعض القائلين: إن الوسط لا طعم له، ولا ذاتية لوجوده.. إنه أشبه بالخط الوهمي بين شيئين.. إنه ليس شيئا، ولا ضد شيء.. إن القسمة في الأمور، هي الشيء وما يقابله.. الخير والشر.. الأبيض والأسود.. الحلو والمر.. الجميل والقبيح.. اليمين والشمال.. أما الوسط الذي يفصل بين هذه المتقابلات فليس إلا خطا وهميا.
10. لا ننكر أن الوسط ليس هو الكمال كله، وأن فوق الوسط منازل كثيرة للفضل، وأنه غير محجور على الناس أن يرتفعوا إليها، وأن يتنافسوا فيها.. بل إن ذلك مندوب محمود.. ولكن هذا شيء، والتشريع العام شيء آخر.. التشريع إلزام لا انفكاك منه.. التشريع عقد بين صاحب الشريعة وأتباع هذه الشريعة.. فهم مطالبون بالوفاء بما شرع لهم، وهم ملومون مؤاخذون بالعقاب إذا قصروا.. وليس الأمر كذلك فيما كان عن تطوع واختيار.. إذ للإنسان أن يمضيه أو يعفى نفسه منه.. ولا لوم عليه! والتشريع حين يكون عاما.. لأمة، أو للإنسانية كلها ـ تقتضى الحكمة فيه أن يكون قائما على معيار يسع الناس جميعا.. الأقوياء والضعفاء.. في جميع الأزمان والأوطان.
11. لذلك اقتضت رحمة الخالق بعباده، في دعوتهم إلى الإسلام، الذي أريد له أن يكون دين الإنسانية، ومختتم رسالات السماء ـ اقتضت هذه الرحمة الراحمة أن تكون شريعة هذا الدين مقدرة على قدر ما يحتمل الضعفاء لا الأقوياء، وأن يكون ما في الأقوياء من قدرة على احتمال ما فوق هذا التشريع هو فضل من فضل الله عليهم، يزدادون به كمالا فوق الكمال الذي بلغوه بأداء ما كلّفوا.. فإنه ما على المحسنين من سبيل.
12. قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ بيان للحكمة التي أرادها الله من وراء هذا الامتحان الذي امتحن المسلمين به، حين وجههم إلى بيت المقدس، ثم عدل وجههم عنه إلى البيت الحرام، ففي هذا الامتحان يختبر إيمان المؤمنين، وتظهر حقيقة ما عندهم من طاعة وامتثال لله ولرسوله، من غير أن تدور في رؤوسهم أسئلة التوقف، فيقول قائلهم: ما هذا؟ ولم؟ وكيف؟ إذ أن من شأن المؤمن أن يتلقى أمر الرسول بالقبول والتسليم، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
13. في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ إشارة إلى أن هذه المحنة التي امتحن بها المؤمنون كبيرة، لا يجوزها بقلب سليم، ونفس مطمئنة إلّا الذين هداهم الله وثبت أقدامهم على طريق الحق واليقين: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
14. قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ تطمين لقلوب المؤمنين الذين وقع في نفوسهم شيء من صلاتهم التي كانوا يصلّونها إلى بيت المقدس.. فهي صلاة كاملة، مقبولة عند الله.. ذلك أن المسلمين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما هاجر النبيّ وتحولت القبلة إلى البيت الحرام اهتزت مشاعرهم، وساورهم القلق في شأن تلك الصلاة التي صلّوها إلى بيت المقدس، فكان أن تداركهم الله برحمته، وأنزل عليهم قوله: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/149.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل، وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة، وهي استقبال بيت المقدس، وأنّ التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة، فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلّا ما ثبت أنه نزل متأخرا ويتلى متقدما.
2. الظاهر أن المراد بالقبلة المحولة القبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود، ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب (أسباب النزول) الغليل في هذا، على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة، فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها، والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته، والكعبة، وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه، فكانت مثارا لأن يقول المشركون، ما ولّى محمدا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول إنه على ملة إبراهيم، ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 115]، وقوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120] كما ذكرناه هنالك، وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله بعد الآيات المثيرة له وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلا بعد مقالة المشركين، فيشمخوا بأنوفهم يقولون غيّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه، فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 144] الآيات، لأن مقالة المشركين أو توقّعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
3. المراد بالسفهاء المشركون، ويدل لذلك تبيينه بقوله: ﴿مِنَ النَّاسِ﴾، فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريبا من الآي السابقة إلى قوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ﴾ [البقرة: 134، 141] الآية، ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون، وذكر القرطبي أنه قول الزجاج، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين، وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه، وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.
4. أما الذين فسروا ﴿السُّفَهَاءُ﴾ باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشئ عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس، وذلك قد وقع الإخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داع إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه: (فقال السفهاء ـ وهم اليهود ـ ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وأخرجه عن البراء بغير هذه الزيادة، ولكن قال عوضها: (وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك)، وأخرجه في كتاب التفسير من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شيء من هاتين الزيادتين، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ بمعنى التحقيق لا غير أي قد قال السفهاء ما ولاهم، ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف، اختلاف الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جوابا عن سؤال مقدر.
5. الأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه إلى معنى المضي، وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم، وقال في (الكشاف) (فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه) وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه، وقال الفخر إنه مختار القفال، وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس، وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا﴾.. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رؤوسهم} [الإسراء: 51] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 115] ـ وقوله ـ: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى﴾ [البقرة: 120]
6. السفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130] وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوما هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافا كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة.
7. ضمير الجمع في قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين.
8. فعل ﴿وَلَّاهُمْ﴾ أصله مضاعف ولي إذا دنا وقرب، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيرا على التوسع، فقالوا ولى فلانا وجهه مثلا دون أن يقولوا ولّى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبئوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر، قال تعالى: ﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [الأنفال: 15] أصله فلا تولوا الأدبار منهم، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رفع لقيل ولي دبره الكافرين، ومنه قوله تعالى: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ [النساء: 115] أي نجعله واليا مما تولى أي قريبا له أي ملازما له فهذا تحقيق تصرفات هذا الفعل.
9. جملة ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ إلخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال.
10. الاستفهام في قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل.
11. المراد بالقبلة في قوله: ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ الجهة التي يولّون إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات، والقبلة في أصل الصيغة اسم على زنة فعلة بكسر الفاء وسكون العين، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازا وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة.. والأظهر عندي أن تكون القبلة اسم مفعول على وزن فعل كالذّبح والطّحن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا: ما له في هذا الأمر قبلة ولا دبرة أي وجهة.
12. إضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم، وهذا مما يعضد حمل (السفهاء) على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين، ومن فسر (السفهاء) باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حمل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنة وأشهر فصارت قبلة لهم.
13. ضمير الجمع في قوله: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور اللفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عوده على المسلمين.
14. ﴿الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ أي كانوا ملازمين لها فعلى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5]، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لاوموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
15. اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه السلام بناه سليمان عليه السلام، فلا تجد في أسفار (التوراة) الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء، ولكن سليمان عليه السلام هو الذي سنّ استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه: (إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلّوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لاسمك فاسمع صلاتهم وتضرعهم) إلخ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلّى لسليمان وقال له: (قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي)، وهذا لا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله، وقد قال ابن عباس ومجاهد: كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية، وجرى كلام ابن العربي على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناء على كلام ابن عباس ومجاهد، ولم يثبت هذا من دين اليهود، كما علمت، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب وأن النصارى يستقبلون المشرق، وقد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموه من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك.
16. أما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل وتقع على الصّنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب، وبذلك يكون المذبح إلى الغرب، والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة، فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.
17. أما استقبال الكعبة في الحنيفية، فالظاهر أن إبراهيم عليه السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة وأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
çعذت بما عاذ به إبراهم...مستقبل المعبة وهو قائمé
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه، فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها.
18. دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة، ثم تحولوا عنها إلى جهة أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلّا جهة الكعبة، فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس، وبذلك جاءت الآثار، والأحاديث الصحيحة.
19. اختلفوا في أن استقباله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها؟
أ. فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألّفا لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف.
ب. وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة وبيت المقدس معا، ولم يصح هذا القول.
20. اختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله؟
أ. فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخه باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 143] الآية.
ب. وقال الطبري كان مخيرا بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافا لليهود.
ج. وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية: كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى هذا القول يكون قوله تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: 144] دالا على أنه اجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين اللذين قبله، ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة، وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج، ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن، وروى القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلى وفي الحديث ضعف.
21. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة، فالجهات ملك لله تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له، وليست مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقا ذاتيا.
22. ذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 115]، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى، فقوله تعالى: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة، وقوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود إلّا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة هو الفريق الذي أمره من بيده الهدى بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو بها، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24].
23. سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكار هم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة، ولم تبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال، وذلك ما يعلمه المؤمنون.. فأما إذا جرينا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن تقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا، أو يكون قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إيماء إلى قبلة الإسلام، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة، فجملة: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ لعدم وضوح اشتمال جملة: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ على معنى جملة: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله.
24. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ هذه الجملة معترضة بين جملة: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 142] إلخ، وجملة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ إلخ، والواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.
25. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعيّن تعرّف المشار إليه وما هو المشبه به قال الزمخشري: (أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا) فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبين مراده، فقال البيضاوي: (الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا)، أي إن قوله: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ [البقرة: 142] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرّج على وصف (الكشاف) الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السّابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات(2)..>..
26. الوسط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلّا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلّا بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعا كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير:
çهم وسط يرضى الأنام بحكمهم...إذا نزلت إحدى الليالي بمعضلé
وقال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: 28]، ويقال أوسط القبيلة لصميمها.
27. إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث: (خير الأمور أوساطها)، وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
28. الوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في (سننه) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال حسن صحيح.
29. وصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصفة في الذات.
30. ضمير المخاطبين هنا مراد به جميع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة، فيعم كل من صلى لها، ولأن قوله ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ﴾ قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.
31. الآية ثناء على المسلمين بأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم، قال فخر الدين: يجوز أن يكونوا وسطا بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.
32. استدلّ أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه، وفي بيان هذا الاستدلال طرق:
أ. الأول: قال الفخر: (إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية، وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة).. أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا ردّ متمكن، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات.
ب. الثاني: قال البيضاوي: (لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم)ه، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية، وهذا يرجع إلى الطريق الأول.
ج. الثالث: قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره.
33. الحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للأمة كلها لا لخصوص علمائها، فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة لا من أحوال جميعها، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها.
34. أما كون الآية دليلا على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلّا بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك، فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيّمة وهو معنى كونها وسطا، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلّ فرد، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبت لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمدا ولا خطأ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساؤوا تأويلها، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال.
35. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ﴾ علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم منها خيرا فإنهم أرادوا أن ذلك واجب لذاته تعالى لكمال حكمته.
36. ﴿النَّاسِ﴾ عام والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون وهذه الشهادة دنيوية وأخروية، فأما الدنيوية فهي حكم هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم برسلهم والمكابرين في العكوف على مللهم بعد مجيء ناسخها وظهور الحق، وهذا حكم تاريخي ديني عليه إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعود عرض الحوادث كلها على معيار النقد المصيب.
37. الشهادة الأخروية هي ما رواه البخاري والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فتسأل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول الله من شهودك فيقول محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال عدلا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، فقوله (ثم قرأ) يدل على أن هذه الشهادة من جملة معنى الآية لا أنها عين معنى الآية، والظاهر من التعليل هو الشهادة الأولى لأنها المتفرعة عن جعلنا أمة وسطا، وأما مجيء شهادة الآخرة على طبقها فذلك لما عرفناه من أن أحوال الآخرة تكون على وفق أحوال الدنيا قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ﴾ [طه: 124 ـ 126].
38. من مكملات معنى الشهادة على الناس في الدنيا وجوب دعوتنا الأمم للإسلام، ليقوم ذلك مقام دعوة الرسول إياهم حتى تتم الشهادة للمؤمنين منهم على المعرضين.
39. الشهادة على الأمم تكون لهم وعليهم، ولكنه اكتفى في الآية بتعديتها بعلى إشارة إلى أن معظم شهادة هذه الأمة وأهمها شهادتهم على المعرضين لأن المؤمنين قد شهد لهم إيمانهم فالاكتفاء بعلى تحذير للأمم من أن يكونوا بحيث يشهد عليهم وتنويه بالمسلمين بحالة سلامتهم من وصمة أن يكونوا ممن يشهد عليهم وبحالة تشريفهم بهاته المنقبة وهي إثقاف المخالفين لهم بموجب شهادتهم.
40. ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ معطوف على العلة، وليس علة ثانية لأنه ليس مقصودا بالذات بل هو تكميل للشهادة الأولى لأن جعلنا وسطا يناسبه عدم الاحتياج إلى الشهادة لنا وانتفاء الشهادة علينا، فأما الدنيوية فشهادة الرسول علينا فيها هي شهادته بذاته على معاصريه وشهادة شرعه على الذين أتوا بعده إنما بوفائهم ما أوجبه عليهم شرعه وإما بعكس ذلك، وأما الأخروية فهي ما روي في الحديث المتقدم من شهادة الرسول بصدق الأمة فيما شهدت به، وما روي في الحديث الآخر في (الموطأ) و(الصحاح): (فليذادنّ أقوام عن حوضي فأقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم بدلوا وغيروا فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي)، بل لتضمين ﴿شَهِيدًا﴾ معنى رقيبا ومهيمنا في الموضعين كما في (الكشاف)
41. دلت هذه الآية على التنويه بالشهادة وتشريفها حتى أظهر العليم بكل شيء أنه لا يقضي إلّا بعد حصولها، ويؤخذ من الآية أن الشاهد شهيد بما حصل له من العلم وإن لم يشهده المشهود عليه وأنه يشهد على العلم بالسماع والأدلة القاطعة وإن لم ير بعينه أو يسمع بأذنيه، وأن التزكية أصل عظيم في الشهادة، وأن المزكي يجب أن يكون أفضل وأعدل من المزكّى، وأن المزكي لا يحتاج للتزكية، وأن الأمّة لا تشهد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولهذا كان يقول في حجة الوداع: (ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول اللهم اشهد)، فجعل الله هو الشاهد على تبليغه وهذا من أدق النكت.
42. تقديم الجار والمجرور على عامله لا أراه إلّا لمجرد الاهتمام بتشريف أمر هذه الأمة حتى أنها تشهد على الأمم والرسل وهي لا يشهد عليها إلّا رسولها، وقد يكون تقديمه لتكون الكلمة التي تختم بها الآية في محل الوقف كلمة ذات حرف مد قبل الحرف الأخير لأن المد أمكن للوقف وهذا من بدائع فصاحة القرآن، وقيل تقديم المجرور مفيد لقصر الفاعل على المفعول وهو تكلف ومثله غير معهود في كلامهم.
43. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ الواو عاطفة على جملة: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ [البقرة: 142] وما اتصل بها من الجواب بقوله: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ قصد به بيان الحكمة من شرع استقبال بيت المقدس ثم تحويل ذلك إلى شرع استقبال الكعبة، وما بين الجملتين من قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ إلى آخرها اعتراض.
44. الجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شئون التعبد لا من شئون الخلق وهو لفظ القبلة، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلّا لنعلم إلخ.
45. الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلّا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة، وذكر عبد الحكيم أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة: 14] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبق لهم سمة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.
46. جعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عدّه في تعلقات العلم، ولك أن تجعل قوله: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ كناية عن أن يعلم بذلك كل من لم يعلم على طريق الكناية الرمزية فيذكر علمه وهو يريد علم الناس كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
çوأقدمت والخطّيّ يخطر بيننا...لأعلم من جبّانها من شجاعهاé
أراد ليظهر من جبانها من شجاعها فأعلمه أنا ويعلمه الناس فجاء القرآن في هذه الآية ونظائرها على هذا الأسلوب، ولك أن تجعله كناية عن الجزاء للمتبع والمنقلب كل بما يناسبه ولك أن تجعل ﴿نَعْلَمَ﴾ مجازا عن التحيز لنظهر للناس بقرينة كلمة (من) المسماة بمن الفصلية كما سماها ابن مالك وابن هشام وهي في الحقيقة من فروع معاني من الابتدائية كما استظهره صاحب (المغني)، وهذا لا يريبك إشكال يذكرونه، كيف يكون الجعل الحادث علة لحصول العلم القديم إذ تبين لك أنه راجع لمعنى كنائي.
47. الانقلاب الرجوع إلى المكان الذي جاء منه، يقال انقلب إلى الدار، وقوله: ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه لأن العقبين هما خلف الساقين أي انقلب على طريق عقيبه وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعا إلى الكفر السابق، و﴿مِنَ﴾ موصولة وهي مفعول (نعلم) والعلم بمعنى المعرفة وفعله يتعدى إلى مفعول واحد.
48. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ عطف على جملة ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ والمناسبة ظاهرة لأن جملة ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ بمنزلة العلة لجملة ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ فإنها كانت دالة على الاتباع والانقلاب إلّا لأنها أمر عظيم لا تساهل فيه فيظهر به المؤمن الخالص من المشوب والضمير المؤنث عائد للحادثة أو القبلة باعتبار تغيرها.. وإن مخففة من الثقيلة.
49. الكبيرة هنا بمعنى الشديدة المحرجة للنفوس، تقول العرب كبر عليه كذا إذا كان شديدا على نفسه كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ [الأنعام: 35].
50. {وما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} الجملة في موضع الحال من ضمير ﴿لَنَعْلَمُ﴾ أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقيبه ونحن غير مضيعين إيمانكم، وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم.
51. الإضاعة إتلاف الشيء وإبطال آثاره وفسّر الإيمان على ظاهره، وفسر أيضا بالصلاة نقله القرطبي عن مالك، وتعلق (يضيع) بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تؤدونها، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان، وعن مالك: (إنّي لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان).
52. معنى حديث البخاري والترمذي أن المسلمين كانوا يظنون أنّ نسخ حكم، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم اللذين ماتوا قبل نسخ استقبال بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وأبي أمامة، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلّوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل فقال ﴿أَيْمَانِكُمْ﴾، ولم يقل إيمانكم على حسب السؤال.
53. التذييل بقوله: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغى العمل به في المستقبل لا في ما مضى، والرَؤُوف الرحيم صفتان مشبّهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة، والرأفة مفسرة بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج الزجاج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة، فقال أبو عمرو بن العلاء الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية، وهو معنى قول الجوهري الرأفة أشد الرحمة، وقال في (المجمل) الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة، فاستخلص القفال من ذلك أن قال الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام ا ه، وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموما وخصوصا مطلقا وأيا ما كان معنى الرأفة فالجمع بين رَؤُوف ورحيم في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة، وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك.
54. تقديم (رَؤُوف) ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رَؤُوف معتمد ساكنه على الهمز والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف.
55. تقديم ﴿بِالنَّاسِ﴾ على متعلّقه وهو {لرَؤُوف رَحِيمٌ} للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/6.
(2) ذكر هنا بحثا لغويا مطولا حول هذا لم نر الحاجة إليه هنا، ويمكن لمن شاء الرجوع إليه، التحرير والتنوير: 2/19.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكما حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب، وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وإنس وأنه كامل التكوين، ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بنى إسرائيل، وتوالى كفرهم مفصلا آثامهم، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاؤوا.
2. ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة]، وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية أن يذكر أمرا يتعلق بالكعبة المشرفة، وهو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم ـ خليل الله ـ المسلمين ولذا قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾.
3. النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يستدبر الكعبة في صلاته، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس، ولما هاجر كان لا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين، فاتجه إلى بيت المقدس؛ لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة، بل كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلى إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يشرع عبادة أو فرعا من عبادة من تلقاء نفسه.. بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا.
4. بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة، ثم إلى بيت الله الحرام، ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة، وهى عمل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بوحى من الله تعالى، وتحويل القبلة ـ وهو الناسخ ـ ثبت بالسنة أيضا.. ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة، وثبت التحويل أيضا بالسنة، والقرآن ذكر آثار التحويل، وما يقوله الناس، وأكد التحويل، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه بالفعل، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة].
5. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، قال بعض المفسرين أن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي لأنهم قالوا: وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي وسيقولونه في المستقبل، فسفه القول لا ينته، بل هو يمتد ويكرر ما دام السفه قائما.
6. ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا، وإن ذلك إخبار من الله تعالى، وخبر الله تعالى لا يقبل التخلف، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحى من الله للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يصلى، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلى، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة]، وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلى، والله على كل شيء قدير.
7. السفيه هو: الخفيف العقل، وذلك مأخوذ من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد يكون السفه نوعيا، فقد يكون متزن العقل حكيما، ويكون في أمور أخرى سفيها، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل، ولكن الإدراك الديني فيه سفه، وكبعض أهل الكتاب، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم.
8. السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها: قال بعضهم: المشركون، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم، وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقال اليهود: لقد التبس عليه أمره، وتحير، واستهزأ المنافقون بالمسلمين، وهم جميعا تساءلوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، والاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ ـ لعنهم الله تعالى ـ وهم جديرون بهذا بوصف السفه، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا ممن سفه نفسه، وكان جهولا.
9. معنى ﴿وَلَّاهُمْ﴾ أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها، وهى بيت المقدس، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد؛ لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى، ولقد رد الله تعالى آمرا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وقد أمر الله تعالى: بأن يتولى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الرد عليهم؛ لأن الاعتراض المتهكم كان على النبيّ وأصحابه، وهم يرمونه بالتحير، وكان الرد ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها، وذكر الشرق والغرب؛ لأن من ملكهما ملك الأرض كلها، لا فرق بين قريب وبعيد، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد، وهو يختار من أرضه ما يراه أصلح وأقرب وأنسب، وقد اختار البيت الحرام، كما اختار من قبل بيت المقدس، والبيت الحرام بناء إبراهيم وأول بيت وضع للناس، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية، كما كان الناس فيها آمنين من القتل، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا، ويتخطف الناس من حولهم.
10. بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لا يرضى به إلا من هداه الله تعالى، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى، وكان في عباده من ضل وغوى؛ فمن سلك الجدد، وحارب هواه، ووسوسة الشيطان، فإن الله تعالى يأخذ بيده، ويوجهه إلى صراط ـ أي طريق ـ مستقيم، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء.
11. اختار الله تعالى خير أماكن الأرض لتكون قبلة الناس، وهى وسط الأرض وخير بقعة فيها؛ لما ذكرنا من مناقب لهذا البيت، ولأن منشئها أول نبيّ عرف بأنه حطم الأوثان، وجعلها جذاذا، ولقد كانت أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ آخر محطم للأوثان ـ والذى جعلها جذاذا مطروحا ـ خير أمة، وإنه كما اختار الله خير بقعة في الأرض لتكون قبلة إذ أنشأها محطم الأوثان فكذلك جعل أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خير أمة أخرجت للناس؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
12. الوسط يطلق بإطلاقين: أحدهما ـ الشيء المتوسط أو الأمر المتوسط بين أمرين أو نحو ذلك مما يكون متوسطا، الثاني ـ الوسط بمعنى الخير، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم] أي قال أعدلهم، ويقال وسط الوادي أي خير موضع فيه.
13. قال القائلون بالتفسير الثاني: إن الوسط كان خيرا؛ لأنه متوسط بين طرفين كلاهما إثم أو باطل، إذ الوسط مجانبة للغلو والتقصير، فاليهودية قصرت في حق الأنبياء، فقتلتهم، والنصرانية غلت في حق نبيّ فعبدته، فكان الوسط ألا يكون غلو ولا تقصير، بل تلق للرسالة، وإيمان بها، ولقد أثر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (خير الأمور أوسطها)؛ لأن الأوسط بعيد عن الغلو والتقصير ولقد أثر عن على بن أبى طالب أنه قال (عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل)، ولأن التوسط خير دائما، صار يطلق الوسط على الخير فيقال عن أفاضل الناس أوساطهم، وعن خيار الأمور أوسطها، وكل موضع فيه إصلاح أو صلح بين الناس يقال فيه وسط.
14. النسبية في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ من المشابهة بين خيرية الكعبة وخيرية الأمة، والمعنى كما جعلنا لكم الكعبة قبلة، وهى خير بقعة في الأرض جعلناكم أمة وسطا.
15. فسر بعض العلماء الوسط هنا بالإطلاق الأول، وهو التوسط بين أمرين، ومعنى التوسط أن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فوق الأمم ودون الأنبياء، وهم على ذلك خير الأمم وأعدلهم، وأقومهم سبيلا، وإن أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم تعلم الناس، وإن محمدا يعلّمها.. وفسرها بعض العلماء بأن معنى ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي أمة عادلة قويمة ارتضاها الله تعالى دون غيرها من الأمم كما قال ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران].
16. سؤال وإشكال: لما ذا كانت أمة محمد الذين يتبعونه ويهتدون بهديه خير أمة أخرجت للناس؟ والجواب: خيرية هذه الأمة أو كونها فوق الأمم كانت لأنها بعيدة عن غلو النصارى في عيسى، وسقوطها في الأوهام الباطلة، وبعيدة عن حسد اليهود ومقتهم لكل حق، وفوق ذلك أنها تؤمن بجميع الأنبياء كما تلونا قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة] فهي أمة الكمال الديني الجامع، وفوق ذلك هي التالية لملة إبراهيم حقا وصدقا، من أجل هذا الإيمان الكامل بالأنبياء جميعا والشرائع السماوية كلها، كان لهم حق الشهادة على غيرهم بأنهم آمنوا بالله الإيمان الكامل، هل آمنوا برسالاته الإلهية، أم لم يؤمنوا؛ ولذا قال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، أي تشهدون للناس بأنهم آمنوا بمثل إيمانكم، والرسول يشهد لكم بأنكم آمنتم بالله الإيمان الكامل وآمنتم بوحدة الرسالة الإلهية، فالرسول يشهد بإيمانكم الذي يسمح لكم بأن تشهدوا على غيركم، فمقياس الإيمان وميزانه عندكم.
17. اللام في قوله تعالى ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ هي للتعليل، أي لكونكم وسطا وعدولا في إيمانكم تكونون شهداء على الناس، مع شهادة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عليكم، فالخيرية التي اتسمتم بها هي علة الشهادة، وهى باعثها، والسبب في أنكم فوق الناس تحكمون لهم أو عليهم.. ويصح أن تكون (اللام) ليست للتعليل، وتكون للعاقبة أو الغاية، والمعنى أن خيريتكم أو كونكم فوق الناس ودون الأنبياء غايتها وثمرتها أن تكونوا شهداء على الناس، وأن يكون الرسول شاهدا عليكم، بأنكم استحققتم هذه الخيرية.
18. الشهداء يصح أن تكون جمعا لشاهد، أو جمعا لشهيد، وقد ذكرنا أن من جمع الشاهد، قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾ [البقرة]، وهنا أنسب أن تكون جمعا لشهيد؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر المفرد في قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ والشاهد هو الحاضر الذي يعاين الأمر الذي يشهد عليه، وهذا الأمر الذي يعاينه، وينظر إليه إما أن يكون بعينه المبصرة، وإما أن يكون ببصيرته المدركة المؤمنة الفاهمة، ولا شك أن الشهادة في هذا المقام تكون بالأفئدة التي في الصدور، لا بالأبصار التي ترى الحسيات، ويصح أن تكون رؤية القلوب واضحة بينة كرؤية الأبصار.
19. هنا إشارة بيانية يجب أن نذكرها، وهى أنه تعالى عدّى الشهادة بـ (على) دون اللام، فقال تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ مع أن الشهادة قد تكون لهم، وقد تكون عليهم، والجواب عن ذلك أن الشهادة هنا حكم، أو هي متضمنة معنى الحكم؛ ولذا تعدت بعلى، لتكون بمعنى الحكم، وقد تكون الشهادة بمعنى تعليم الناس، وشهادة الرسول بمعنى تعليم أمته.
20. سؤال وإشكال: لماذا كانت القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم حولت إلى الكعبة، بعد أن كانت في مكة ملتزمة إلى أمد يسير؛ إذ كان مع الاتجاه إلى بيت المقدس كان الاتجاه أيضا إلى الكعبة بعدم استدبارها كما نقلنا فيما سلف من قول؟ والجواب: إن هناك بيانا لحكمة ذلك ذكره القرآن الكريم، وحكما أعظم وأعلى، وهناك سبب قد نتلمسه والسبب الذي نتلمسه هو:
أ. أولا: بيان وحدة الأديان السماوية.
ب. ثانيا: الإشارة إلى أن بيت المقدس مسجده مقدس كالكعبة، وإن كان دونها تقديسا.
ج. ثالثا: إن الكعبة كانت الأصنام تحوطها في ذلك الوقت، وأن التحويل إلى الكعبة كان إيذانا بتحطيم الأوثان وزوال دولتها.
21. كان التحويل في النصف من شعبان، وكان يوم الفرقان بغزوة بدر حول منتصف رمضان كما هو ثابت في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهى سيرة الإسلام.. هذا ما نتلمسه وقد يكون غير ذلك.
22. ما ذكره الله سبحانه وتعالى، وهو المحكم الذي لا يأتيه الباطل أبدا، فقد ذكره سبحانه في قوله تعالت كلماته: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها متبعا في صلاتك لها إلا لنعلم من يستمر على تبعيته للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ممن ينقلب على عقبيه.
23. سؤال وإشكال: ما القبلة التي كان عليها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أهي بيت المقدس؟ فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتجه إليه قبل هذا التحويل، وذلك ظاهر، لا يحتاج إلى تأويل.. أم هي الكعبة؟، وهى التي كان عليها بمكة، وإن اشترك معها الاتجاه إلى بيت المقدس بأمر ربه كما ذكرنا من قبل، وكان يتجه إليهما، ولم يتغير ذلك الاتجاه إلا بعد أن هاجر، والجواب: للمفسرين في ذلك اتجاهان:
أ. أولهما ـ أن القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، وقد كان الاختبار للمهاجرين، وللذين دخلوا في الإسلام، وفى قلوبهم مرض أو ضعف في الإيمان.
• أما المهاجرون فقد ألفوا البيت الحرام، والاتجاه إليه، وقد كان مطافهم وشرفهم في الجاهلية، وقبلتهم في الإسلام، وإن كان الله تعالى قد أمر بالاتجاه إلى بيت المقدس، فقد كانوا يتجهون للاثنين على ما أشرنا وروينا، فكانت القبلة على ما ألفوا من غير منافرة ولا استدبار لها، فلما كانت الهجرة، وكانت القبلة إلى بيت المقدس فقط، واستدبروها كان الاختيار، وقد أحسنوا الاختبار، وما كان لمهاجر في سبيل الله أن يرتد على عقبيه.
• أما الذين في قلوبهم مرض، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين، ومن ضعف إيمان من الضعفاء في إيمانهم ولذا ارتد منهم من ارتد، وأظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنوا، هذا على تفسير القبلة التي كانوا عليها ببيت المقدس.
ب. ثانيهما ـ تفسيرها بالكعبة، فالمعنى على هذا: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وهى الكعبة قبل الهجرة، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار، وقد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون، وارتد بعض ضعفاء الإيمان، وبذلك كان التمحيص، وقد فسر بعضهم ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾، وهى الكعبة بمعنى صرت عليها، مثل قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران]، أي صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس.
24. أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب والأظهر، والتفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى وإنه لا يحتاج إلى تأويل، ومن المقررات اللغوية أن ما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل، ولقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أي وإن كانت القبلة في تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لا تزعزعها الرياح، ولا مكان فيها للشبهات التي يثيرها من لا يؤمنون.
25. (إن) هنا مخففة من (إنّ) الثقيلة، والدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة، وهى لا تدخل على (إن) إذا كانت نافية، وكانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل، وبعدها عمن اهتدى.
26. الله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما يبين أن الاختبار كبير لا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات وتطيحه الشكوك؛ ولذلك أكد عظم الاختبار ب (إن) المخففة من الثقيلة وبالفعل الماضي (كانت) وباللام.
27. سؤال وإشكال: هل كان الله تعالى لا يعلم من يتبع الرسول من غيره، وهو يحيط بكل شيء علما؟ والجواب: يجاب عن ذلك بجوابين:
أ. أولهما ـ أن علم الله تعالى محيط بكل شيء، وهو يعلمه من قبل أن يقع، ومن بعد وقوعه ويعلمه واقعا، فذلك العلم لا غيره هو الذي يظهر به الفعل ويستبين، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لا يتبع، وليتبين الآثم من المطيع ومن يستمر على اتباعه ومن ينقلب على عقبيه.
ب. الثاني ـ أن الضمير فى ﴿لَنَعْلَمُ﴾ ليس لله وحده، ولكنه للجماعة المؤمنة والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع الله تعالى، وكون الله معهم لا يستلزم أنه لا يعلم، إنما الذي لا يعلم هم المؤمنون، فالاختبار وظهور الطائع المتبع، والعاصي المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين وهم داخلون في قوله تعالى: ﴿لَنَعْلَمُ﴾، والتعبير عن الأعلى، ويقصد من دونه كثير في اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا، فإن الاستيلاء الفعلي يكون من الجند لا منه، وكأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة، وأحكمنا العمل، والذى عمل ونظم غيره.
28. عبر سبحانه وتعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء وكشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم، وما كانوا مؤمنين بقوله تعالى: ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ والعقب هو مؤخر القدم، والمرتد على عقبيه، هو الخارج عن الإسلام، وهذا التعبير ﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ استعارة تمثيلية، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذي دخل فيه أو أوشك أن يدخل الإيمان قلبه بحال المرتد إلى الوراء سائرا على عقبيه، سيرا مضطربا غير متماسك، فقد سجل عليه أنه رجع إلى الوراء بعد أن تقدم إلى الأمام، وأن رجوعه مضطرب بغير خطوات تسير بل على الأعقاب ينقلب، وهذا التشبيه على أساس أن الانقلاب بمعنى الرجوع إلى الوراء، بعد أن سار بضع خطوات إلى الأمام.
29. يصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه في أسفل، وعقباه في موضع رأسه، وفى هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته وكل مقومات الإنسانية في نفسه.
30. بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية، وخصوصا أن بعضهم قد مات، وصلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس، فشكا الأحياء منهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لا تضيع صلواتهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ والمراد من الإيمان هنا الصلاة، وعبر عن الصلاة بالإيمان؛ لأن الصلاة ركنه، وقوامه، فلا يعد الاعتقاد والإذعان إيمانا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى، وإذا كان الاعتقاد به سلامة النفس والعقل، فالصلاة بها تأليف القلوب، وتطهيرها من الآثام، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت] ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا دين من غير صلاة) فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها.
31. عبر سبحانه عن أن الله تعالى لا يضيع الإيمان بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، أي ما كان من شأن الله تعالى، وسنته في الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين، ونفى الضياع يقتضى غيره والجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب، وإن الله تعالى لا يضيع عمل عامل، فقد قال تعالت كلماته في استجابة دعاء الضارعين إليه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف] فذلك شأن الله وما سنّه، وهو العادل الحكيم، وإنه لا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر والنهى، فالذين صلوا على القبلة التي كانوا عليها كانوا طائعين، ولم يكونوا مخالفين عاصين، ولا عقوبة في طاعة.
32. إن الله مع ما ذكر رَؤُوف رحيم؛ ولذا قال تعالى: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ} الرأفة في معناها اللغوي أشد من الرحمة، أو أعلى منها، وإن هذين الوصفين من صفات الذات العلية أو من أسماء الله تعالى، وهما متغايران وإن لم يكونا متعارضين، بل هما في حقيقتهما متلازمان، فحيث كانت الرأفة كانت الرحمة لا محالة، فالله رحيم بعباده في غفران ذنوبهم، وفى نعمه عليهم ظاهرة وباطنة، وفى كشف الضر عنهم، وفى قبول توبتهم، وفى أنه منع اليأس من رحمته، وهكذا وسعت رحمة الله تعالى كل شيء، ولو كان في بعض الرحمة آلام، كقطع العضو المئوف ليسلم الباقي.
33. الرأفة في أن الله يريد توبة العاصي، ولا يريد به خسارا، وفى الهداية إلى الصراط المستقيم، فيعين من كتب عليه الخروج من الشقاء، وهكذا نجد الرحمة والرأفة متقاربتين، وإن كانتا متغايرتين كتغاير الأخ عن أخيه، وإن الرأفة رحمة صافية لا ألم فيها، أما الرحمة فقد يكون فيها ألم كالرحمة بالمريض في أخذ الدواء المر، وقد أكد سبحانه وتعالى وصفه بالرأفة والرحمة بالوصف برَؤُوف ورحيم، وبالجملة الاسمية وبالتأكيد بإن، وباللام.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/434.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، كان الأنبياء السابقون يصلون الى بيت المقدس، وقد صلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اليه بأمر الله أمدا غير قصير، ولكنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتمنى لو يحول الله القبلة الى الكعبة، وحقق الله تعالى أمنيته.
2. المراد بالسفهاء اليهود، لأنهم هم الذين عابوا على المسلمين رجوعهم في الصلاة عن بيت المقدس الى الكعبة، ولفظة ﴿سَيَقُولُ﴾ تدل بظاهرها على اعلام الله سبحانه نبيه الأكرم بقول السفهاء قبل وقوعه منهم، وصدوره عنهم، أما قول من قال بأن لفظة ﴿سَيَقُولُ﴾ وان كان ظاهرها الاستقبال، ولكن المراد منها الماضي، وان الله خاطب بها رسوله بعد ان قال السفهاء، لا قبل أن يقولوا، وجاءت بصيغة المستقبل ايحاء بأن ما قالوه كان مقدرا ومترقبا، أما هذا القول فإنه تأويل للظاهر من غير دليل يدل عليه، أو ضرورة تدعو اليه.
3. على كل، فلقد أمر الله سبحانه رسوله الأعظم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجيب هؤلاء السفهاء بأن ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، أي ان الجهات كلها لله، والكعبة وبيت المقدس اليه سواء، ولكن الحكمة والمصلحة تارة تستدعي أن يهدي من يشاء من عباده الى بيت المقدس، وتارة الى الكعبة.
4. سؤال وإشكال: لماذا تجب الصلاة الى جهة معينة، ولا تصح الا اليها، مع العلم بأن الله سبحانه منزه عن المكان، وانه قال صراحة: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾؟ والجواب:
أ. أولا ان الله سبحانه قال أيضا: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، وهذه الآية 144 من سورة البقرة تفسير وبيان للآية 115 وان المراد بها التوجه الى أية جهة تكون في الصلاة المستحبة حال المشي والركوب، وفي صلاة المتحير الذي يجهل القبلة، والمراد بآية 144 الاتجاه في الصلاة الواجبة، وتقدم بيان ذلك مفصلا في الآية 115.
ب. ثانيا: ان صحة الصلاة تتوقف على وجود الأمر بها من الله سبحانه، وعلى هذا الأصل لا بد أن ننظر: هل تعلق الأمر بالصلاة الى أية جهة أردنا، أو الى جهة خاصة، فان كان الأول صحت الصلاة الى أية جهة تكون، وان كان الثاني فلا تصح الا إلى الجهة المأمور بها، سواء أكانت الكعبة أو بيت المقدس، أو غيرهما.. والعبادة من الأمور (التوقيفية) على تعبير الفقهاء، أي تتوقف على بيان الله لها بلسان نبيّه، ولا مجال فيها للظنون والاحتمالات، ولا لأي شيء الا النص الصريح الصحيح.. وقد أمر الله المسلمين أولا أن يصلوا الى بيت المقدس، فلو صلوا الى الكعبة لم يقبل منهم، ثم أمرهم أن يتحولوا الى الكعبة، ولو صلوا الى بيت المقدس بعد هذا لم يقبل منهم مع انهما له ومنه.. ذلك ان معيار صحة الصلاة موافقتها للأمر بجميع أجزائها وشروطها، كما ان معيار فسادها مخالفة الأمر.
5. الوسط بسكون السين ظرف، تقول جلست وسط القوم، والوسط بفتح السين الخير، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: خير الأمور أوسطها، وقال: عليكم بالنمط الأوسط، ويأتي الوسط بمعنى العدل، تقول: فلان وسط أو متوسط في أخلاقه، أي معتدل فيها، والعدل والخير متقاربان، والمراد بالوسط هنا ان الله سبحانه جعل دين المسلمين معتدلا في العقيدة والأخلاق، أما العقيدة فلا شرك فيها ولا الحاد، بل توحيد، وأما الأخلاق فلا مادية فقط، ولا روحية فقط، بل من هذه وتلك بشرط التعادل والتكامل.
6. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، هذه الجملة بيان لقوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ووجه البيان ان الله سبحانه قد أنعم على أتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهداية، وأبرز مظهر لهذه الهداية انه جعلهم في الدين معتدلين متوسطين بين الافراط الذي هو الزيادة، كتعدد الآلهة، وبين التفريط الذي هو النقص، كالإلحاد.. هذا من جهة العقيدة، واما الاعتدال في الأخلاق فقد جمع لهم في تعاليمه وتوجيهاته بين حق الروح، وحق الجسد، فلا روحانية مقترة، ولا مادية مسرفة، بل تعادل وتوازن بينهما.
7. استدلّ البعض بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ على حجة الإجماع، وهو استدلال في غير محله، لأن الآية لم ترد لبيان الإجماع، وانه حجة، أو ليس بحجة.
8. قال آخرون: ان قوله سبحانه هذا يدل على ان كل مسلم عادل بطبيعته.. وهذا القول باطل من الأساس، لأن العدالة من الموضوعات التي لا تثبت إلا بالحس أو البينة.
9. لما كان الإنسان مكوّنا من جسم ترابي فان، ومن سر إلهي خالد، وهو الروح، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾، ولما كان لكل منهما مطالب وحاجات، لذلك جاءت تشريعات الإسلام وتوجيهاته على أساس الأمرين وتنظيمهما معا دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وبكلمة: للإنسان جزءان، فإهمال أحدهما إهمال له بالذات.
10. حرم الإسلام الرهبانية، وإرهاق النفس بالقضاء على الطبيعة، كما حرم الخبائث والإسراف في الشهوات، والترف على حساب الغير.. وأحل زينة الحياة ومتعها من الأكل الطيب، واللبس الطيب، وما اليهما.. ومن يستعرض آيات القرآن يجد ان الدنيا كلها خلقت من أجل حياة راضية مرضية عند الجميع، وان الانكماش عنها انكماش عن الدين، كما ان التكالب على احتكارها وحرمان الغير فساد في الأرض، وخطر على المجتمع كله.. وأفضل الأرزاق كلها عند الإسلام ما كان بكدّ اليمين، وعرق الجبين، قال انس: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، ومنا الصائم، ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار، فسقط الصائمون، وقام المفطرون بخدمتهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.. هذا هو الوسط والعدل الذي يرتكز عليه الإسلام، ويدعو اليه، لا عبادة تقعد بك عن السعي والعمل، ولا شراسة في التكالب تصرفك عن الله وعبادته.
11. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، ان معاني الكلمات المفردة واضحة، وكذا المعنى العام للمركب منها.. ولكن الاشكال والغموض في تعيين ما نشهد به نحن المسلمين على غيرنا.. أي شيء هو؟ ان الرسول يشهد غدا على من خالف منا بأنه لم يعمل بالإسلام وأحكامه، فهل نشهد نحن يوم القيامة على غير المسلمين بأنهم خالفوا الكتاب والسنة؟.. وقد تعددت أقوال المفسرين في ذلك، وتضاربت، ولم تركن نفسي الى شيء منها.
12. الذي أميل اليه ان علماء المسلمين خاصة مكلفون دينا بأن يبلغوا رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على وجهها للناس، سواء منهم المسلم الجاهل، وغير المسلم.. فمن قام بهذا الواجب المقدس من العلماء يصبح شاهدا على من بلغه الرسالة ولم يعمل بها، ومن أهمل من العلماء ولم يبلغ فان محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يشهد عليه غدا أمام الله أنه قد خان الرسالة بعد ان عرفها وحملها.
13. للتوضيح نضرب هذا المثل: رجل عنده مال، وله ولد لم يبلغ الرشد بعد، وحين شعر صاحب المال بدنو أجله أوصى جارا له يثق بدينه أن ينفق من المال على تربية ولده وتعليمه، فان فعل، ونجح الولد كما أراد الوالد فذاك، وان اهتم الوصي بشأن الولد، ولكنه تمرد ورفض التعليم كان الوصي شاهدا على الولد، وان أهمل الوصي وقصر في الوصية كان الوالد شاهدا على الوصي، والوصي مسؤولا أمام الله والوالد.. وهكذا العلماء مسؤولون أمام الله ورسوله عن بث الدعوة الاسلامية بين أهل الأديان بالحكمة والموعظة الحسنة، وعن تعليم الأحكام لمن يجهلها من المسلمين.. ومن قصّر في هذا الواجب شهد عليه غدا سيد الكونين شهادة صريحة واضحة بين يدي العزيز الجبار.. والويل كل الويل لمن يشهد عليه رسول الله، ويحكم عليه الله.. هذا إذا أهمل ولم يبشر، فكيف إذا أساء وكان هو السبب الباعث على التشكيك في الدين وأهله.
14. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، بعد ان أمر الله نبيه الأكرم بالتحول من بيت المقدس الى الكعبة ارتاب بعض أتباع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا، واستغل اليهود موقف هؤلاء الجهلة، وأخذوا يشككونهم بالنبي، وقد كان اليهود، وما زالوا، ولن يزالوا أبدا ودائما أرباب فتن وفساد، وأداة مكر وخداع بطبيعتهم وفطرتهم، يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في طريق كل مخلص، ويحولون المجتمعات ان استطاعوا الى جحيم.. وهكذا يلتقي أعداء الحق دائما وفي كل عصر مع ضعاف العقول، ويتخذون منهم أداة للكيد والتخريب والفوضى.. وقد وصف الإمام علي هؤلاء أبلغ وصف بقوله: (همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا الى ركن وثيق).
15. أخبر الله نبيه العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الذين شككوا وارتابوا ليسوا بمؤمنين في واقعهم، بل كان ايمانهم زائفا لا أصيلا، ولقد محصناهم بالبلاء، ليظهروا على حقيقتهم لك ولغيرك، (وان كانت ـ القبلة الجديدة ـ لكبيرة الا على الذين هدى الله)، وهم أهل الإيمان المستقر الأصيل، لا أهل الايمان المستعار المموه.
16. سؤال وإشكال: ان الله سبحانه يعلم الشيء قبل وقوعه، فما هو الوجه في قوله لنعلم من يتبع الرسول؟ والجواب: ان المراد ليظهر الطائع والعاصي، ويتميز لدى الناس كل بما هو فيه وعليه.. وقال أكثر المفسرين ان علم الله بالنسبة الى الحادث على قسمين: علم به قبل إيجاده، وهو في عالم الغيب، وعلم به بعد إيجاده، وهو في عالم الشهادة، والمراد بالعلم هنا الثاني دون الأول، أي ان الله يريد أن يعلم به حال وجوده، كما علم به حال عدمه.. وهذا تحذلق ولعب بالألفاظ.. فان علم الله واحد، وعالم الغيب بالنسبة اليه، تماما كعالم الشهادة.
17. {وما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}، هذه بشارة من الله لمن ثبت على إيمانه مع الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم في السراء والضراء، ولم يرتب في أمر من أوامره، ولا نهي من نواهيه.. وقال أكثر المفسرين، أو الكثير منهم: ان السبب لنزول هذه الآية ان جماعة من الأصحاب صلوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الى القبلة الأولى، ثم ماتوا قبل التحول الى الثانية، فاسأل الرسول عن صحة صلاتهم؟ فقال الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، ونحن لا نعتمد روايات أسباب النزول إلا القليل البالغ حد اليقين أو الاطمئنان، لأن العلماء لم يهتموا بغربلتها وتمحيصها، كما فعلوا بأحاديث الأحكام، فبقيت على سقمها وعللها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/222.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ هذا تمهيد ثان لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركو العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهد لذلك أولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم وأنواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والأمة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة.
2. من المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الإسلام في تحقيق أصوله ونشر معارفه وبث حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لأنهم كانوا يرون أنه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة أشد تأثيرا وأقوى من أمثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا، إذا جاءهم حكم من أحكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالإنكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.. وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.
3. اعتراضهم هو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شيء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدم في آية النسخ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك، وأما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.
4. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.
5. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾، تولية الشيء أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال، قال تعالى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، الآية والتولية عن الشيء صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.
6. ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الأصلية والفرعية كالشمال والجنوب وما بين كل جهتين من الجهات الأربعة الأصلية، والمشرق والمغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما، يعمان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيتان، ولعل هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات.
7. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، تنكير الصراط لأن الصراط يختلف باختلاف الأمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة.
8. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا، وقيل إن المعنى ومثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا (وهو كما ترى)
9. المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف، وهذه الأمة بالنسبة إلى الناس ـ وهم أهل الكتاب والمشركون ـ على هذا الوصف فإن بعضهم ـ وهم المشركون والوثنيون ـ إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحياة الدنيا والاستكمال بملاذها وزخارفها وزينتها، لا يرجون بعثا ولا نشورا، ولا يعبئون بشيء من الفضائل المعنوية والروحية، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية ورفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها وأولئك أصحاب الجسم أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الأمة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين ـ جانب الجسم وجانب الروح ـ على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإن الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضا ولا جسم محضا، ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية، فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الإفراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو المثال الأكمل من هذه الأمة ـ هو شهيد على نفس الأمة فهو صلّى الله عليه وآله وسلّم ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة، والأمة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط.
10. هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية، وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، وميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيا والغرض على ذيه.
11. على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾، وقال تعالى ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، وقال تعالى ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾، والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، وعلى تبليغ الرسل أيضا، كما يومئ إليه قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾
12. هذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى ـ حكاية عن عيسى عليه السلام ـ ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، وقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال والأعمال فقط، وذلك التحمل أيضا إنما يكون في شيء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الأعمال والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان ـ وهي التي تكسب القلوب، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا ـ وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء ـ كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة.
13. الحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الأمة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة، بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ورد وقبول، وانقياد وتمرد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شيء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾
14. من المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة، والعدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، والفراعنة الطاغية من الأمة، وستعرف في قوله تعالى ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، إن أقل ما يتصف به الشهداء ـ وهم شهداء الأعمال ـ أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مر إجمالا في قوله تعالى ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾
15. فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.
16. سؤال وإشكال: قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء، والجواب: قوله ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، على أن الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الأمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الأمة فلا ينفع المستدل شيئا.
17. سؤال وإشكال: جعل هذه الأمة أمة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال ولا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق، والجواب: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الأمة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لأبيكم إبراهيم الذي هو سماكم المسلمين من قبل، وذلك حين دعا لكم ربه وقال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم والأمر من غير عصيان واستنكاف، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شيء منه ولا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم والأمر، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول وبين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، وعند ذلك يتحقق مصداق دعائه عليه السلام فيكم وفي الرسول حيث قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة، ومزكين بتزكيته، والتزكية التطهير من قذرات القلوب، وتخليصها للعبودية، وهو معنى الإسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، وللرسول في ذلك القدم الأول والهداية والتربية، فله التقدم على الجميع، ولكم التوسط باللحوق به، والناس في جانب، وفي أول الآية وآخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها سنبينها في محله إن شاء الله.
18. تبين بما قدمناه:
أ. أولا، أن كون الأمة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، وأن قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ الآية جميعا لازم كونهم وسطا.
ب. ثانيا: أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول وبين الناس، لا بتخللها بين طرفي الإفراط والتفريط، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس.
ج. ثالثا: أن الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم عليه السلام وأن الشهادة من شئون الأمة المسلمة.
19. الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواس والقلب فله فيه شهادة.
20. يستفاد من الآية الكريمة أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية وأن لها نحوا من الحياة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الأعمال، وترتسم هي فيها، وليس من اللازم أن تكون الحياة التي في كل شيء، سنخا واحدا كحياة جنس الحيوان، ذات خواص وآثار كخواصها وآثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام وأما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.
21. المراد بقوله ﴿لَنَعْلَمُ﴾: إما علم الرسل والأنبياء مثلا، لأن العظماء يتكلمون عنهم وعن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلانا وسجنا فلانا، وإنما قتله وسجنه أتباعه لا نفسه، وإما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة والإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.
22. الانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإن الإنسان ـ وهو منتصب على عقبيه ـ إذا انقلب من جهة، إلى جهة انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾، وظاهر الآية أنه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها؟ ويظهر من ذلك أن المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، وجعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.
23. بالجملة كان من المترقب أن يختلج في صدور المؤمنين أنه لما كان من المقدر أن يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة:
أ. أولا: ما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة؟ فبين سبحانه أن هذه الأحكام والتشريعات ليست إلا لأجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾، إلا لنميز من يتبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، وإن كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفات، غير أنه بعيد من الكلام بعض البعد.
ب. ثانيا: أن الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، وقد صليت إلى غير القبلة؟ والجواب: أن القبلة قبلة ما لم تنسخ، وأن الله سبحانه إذا نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: {وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}، والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أن الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعم.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/317.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. ﴿السُّفَهَاءُ﴾ الذين عقولهم خفيفة، وهم: أناس من أهل الكتاب كفروا بالله ورسوله انقياداً للحسد بعد ما تبين لهم الحق، وضر ذلك عليهم لأنهم تعرضوا لغضب الله وصاروا من أهل النار، فأي سفاهة فيمن ينقاد للحسد حتى يصير من أهل النار لا يتدبر عاقبة ولا يبالي بضر نفسه.
2. ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ يشير إلى أن القائلين ليسوا من أهل الكتاب وحدهم؛ لأن السياق قبل هذه الآية كان فيهم ولم يقل: سيقولون، ونسب القائلين إلى الناس جملة، فلا بد أن غير أهل الكتاب شاركوهم ولعلهم منافقون تلقنوا ذلك من أهل الكتاب.
3. ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ ما حولهم عن القبلة الأولى ووجههم إلى الكعبة تجاهل بالحق الذي هو أمر الله، وإيهام أن ذلك لغرض نفسي كالتعصب للكعبة، ولو كان ذلك كذلك لكان مخالفة لحكم الله وجهالة وسفاهة حاشا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، ولكنهم تبعوا أمر الله:
أ. أولاً: في استقبالهم القبلة التي كانوا عليها.
ب. وثانياً: في استقبالهم شطر المسجد الحرام، والسفهاء، هم: المتّهمون لهم بما هو سفاهة.
4. ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ تشنيع لعدولهم إلى الكعبة؛ فلم يقولوا: ما عدل بهم إلى الكعبة؛ لأن غرضهم أن يجعلوهم متولين عن القبلة ﴿الَّتِي﴾ قد آمنوا بها سابقاً و﴿كَانُوا عَلَيْهَا﴾ فعابوا عليهم تركها بعد إقرارهم بها غير ملتفتين إلى أنهم عدلوا إلى الكعبة البيت الحرام.
5. ﴿قُلْ﴾ يا محمد رَدّاً عليهم: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ فالأمر له في أن يجعل قبلة أي جهة شاء إما على المعنى الذي مرّ ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، وإما على معنى: أنه هو الذي جعل مشرق الشمس ومغربها واختار له جهاته من الأرض، فانقادت له الأرض والشمس، فكذلك يختار القبلة فتكون كما اختار؛ لأن بيده ملكوت كل شيء.
6. ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يفيد: أن القبلة الكعبة نستقبلها بهداية الله لنا إليها في ضمن هدايته لنا إلى صراط مستقيم، فكان المهم بيان أن الله هدانا إلى صراط مستقيم، حيث هدانا إلى اتباع ما أوحى إلى رسوله من الهدى، كما أن السفهاء كانت مهمتهم في اعتراضهم على ترك القبلة التي كانوا عليها، هو القدح في الدين، قال المرتضى عليه السلام: السفهاء الذين ذكرهم الله سبحانه، هم السفهاء في نفوسهم الذين لا عقول لهم ولا تمييز ولا دين، سفهاء الرأي والأحلام من أهل الكتاب وغيرهم، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس وكان يحب الصلاة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، وهو قول الله ـ عزَّ وجل ـ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فأمر الله ـ عزَّ وجل ـ أن يولي وجهه ومن كان معه من المؤمنين إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام، ثم قال ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، فأمره سبحانه أن يقول لهم عندما يكون من كلامهم وجهلهم وطعنهم عليه في تحوله عن القبلة وغيرها من الأديان تعبّدٌ من الله تعبدك وهو يفعل عز وجل ما شاء ويتعبد بما أراد، وما تعبّد به فهو طاعة له، فكان قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهم: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قطعاً لحججهم وفلاًّ لكلامهم، فلا يجدون معه قالاً ولا قيلاً.. و ﴿اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج:18] و﴿يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد:41] وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى إلى بيت المقدس سبعة عشر)
7. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ كما جعلنا قبلتكم الكعبة ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً﴾ أهل دين الإسلام لله ﴿وَسَطًا﴾ خياراً ملتزمين بطاعة ربكم ومكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله على أكمل الوجوه، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخاصته الدعاة إلى دينه المجاهدين معه في سبيل الله، فالاعتراض كان موَجَّهاً إليهم؛ لأن الغرض به القدح في دينهم لصرف الناس عنهم، ولذلك قال في الجواب: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهذه خاصة بالمتقين لا يدخل فيها المخلطون، وليس المراد بالأمة كل من ينتمي إلى الإسلام، فهو اصطلاح حادث، وإنما المراد به المخاطبون المذكورون، وكذلك ليس منهم المنافقون.
8. ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ﴿لِتَكُونُوا﴾ بسبب كونكم خياراً ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ فالشهيد على الأمة لا يكون إلاَّ أوسطهم، وذلك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه في عهده شهيد على الموجودين الذين هو بينهم مطلع على إسلامهم أو كفرهم كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء:41]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل:89] فقوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إشارة إلى الموجودين، يؤكد هذا ما حكاه الله تعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة:117] ودل ذلك كله أن شهداء الله هم خيار الأمم، وأن من كل أمة شهيداً هو خيرهم يشهد عليهم يوم القيامة بما شاهد من قومه، وأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شهيد على من كان في عصره الذين عرفهم بإيمان أو كفر.
9. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ أي بيت المقدس ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ أي من يتبع الرسول فيتحول معه إلى قبلته الأخيرة وينفصل ويظهر ويمتاز عمن ينقلب على عقبيه، وهو الذي يعبد الله على حرف، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج:11].
10. وقوله سبحانه: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ ليس معناه: أنه لا يعلم ما سيكون، فهو علام الغيوب، وإنما المراد: أن هذا التكليف يشبه الاختبار من حيث أنه سبب لظهور المؤمن الثابت على دينه بوقوع ذلك منه عند هذا التكليف بخلاف من لم يكن ثابتاً في دينه كما علم الله ذلك من قبل بوقوع الانقلاب منه عند هذا التكليف، والسياق يفيد: أن المقصود في هذه الحالة امتياز المؤمن الصادق في إيمانه امتيازه من غيره، فأما انكشاف من لم يكن كذلك فهو واقع تبعاً للمقصود.
11. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ شاقة ثقيلة على النفوس، كقوله تعالى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى:13] فهو في التعبير عن ثقلها أشد مما لو قيل ثقيلة؛ لأن كبيرة عليهم يدل على ثقل زائد يصعب احتماله جداً.
12. لا إشكال أن المراد بهذا: هو تحويل القبلة، وعلى هذا: فالضمير راجع إلى المفهوم من السياق المؤنث، إما الكعبة أي التحويل إليها، وإما الفتنة بهذا التكليف.
13. ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ المراد به: الخاشعون لله الذين يريدون ما يرضي الله ولا يبالون بما خالفه؛ لأن رغبتهم في طاعة الله غالبة على كل رغبة نفسية، بل ربما غلبت حتى لا يبقى رغبة تخالفها، ولذلك لا يثقل عليهم شيء من طاعة الله، وذلك؛ لأن الله هداهم هدى زائداً على الهدى العام للمكلفين، وهو تنوير قلوبهم بحيث يحبون طاعة الله ويكرهون معصيته، ولا يبقى لهم هوى يعارض ذلك؛ لأن هواهم الطبيعي يضعف عن المعارَضة.
14. ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ بل لا بد أن يثيبكم عليه ثواباً عظيماً، والخطاب للثابتين المتبعين للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم المؤمنون الخلص، ويؤخذ منه أنه لا يضيع صلاتهم إلى بيت المقدس؛ لأنهم صلوها إيماناً بالله ورسوله ويخرج من ذلك من صلى من المنافقين لموافقة اليهود لا إيماناً بالله ورسوله.
15. ﴿لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ لعله على معنى التوزيع، فرحمته سبحانه وسعت كل شيء، وقال: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ [الكهف:58] ورأفته لمن شاء على الحكمة أو تعم الناس لكن من كفر وتمرد تكون الرأفة به في صغره مثلاً، وهذا لأن الرأفة أبلغ من الرحمة بدليل العطف في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد:27] والعطف دليل التغاير، ويكون المعنى رحمة في بعض الأحوال، ورأفة في بعض آخر، وفي (لسان العرب) ما لفظه: (ومن صفات الله ـ عزَّ وجل ـ الرؤوف، وهو الرحيم لعباده العطوف عليهم بألطافه، والرأفة أخص من الرحمة وأرق)
16. لعل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور:2] أتى بذكر الرأفة لكونها مظنة أن تغلب صاحبها فيقصّر فيما أمر الله به من الحد بسبب شدة الرحمة له، فيناسب هذا كون الرأفة أخص وأرقّ ـ والله أعلم، والله سبحانه منزّه عن الرقة، والمراد: أنه يعامل معاملة الرَؤُوف، وكذلك الرحيم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/199.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذا الفصل الذي يبدأ به الجزء الثاني من القرآن الكريم، يريد الله سبحانه أن يربي المسلمين في المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه في المدينة، على مواجهة التحديات الآتية من الآخرين حول بعض التشريعات الإسلامية الصادرة من رسول الله أو بعض الأوضاع العامّة التي كانت تواجه المسلمين آنذاك، وتثير بعض التساؤل والحيرة واللغط، ممّا قد يؤثر على تماسك الجماعة المسلمة ويفسح في المجال لمزيد من الارتباك والاهتزاز.
2. قد تبرز أهمية هذا الاتجاه في الملاحظة التالية، وهي أن التحديات الكافرة قد تحدث في المراحل التي يعيش فيها المسلمون البساطة في الوعي والثقافة، والسذاجة الروحية والفكرية في مواجهة المشاكل المستجدّة، ولا سيما إذا كانت نظرتهم إلى تلك الفئات المتحدية، نظرة تتّسم بالاحترام الداخلي لمعلوماتهم العامّة، من خلال الاعتقاد بأنهم يملكون المعرفة الشاملة بالكتاب المتضمن لأحكام الله وآياته، باعتبارهم أهل الكتاب، فقد يترك ذلك تأثيرا كبيرا على نظرتهم إلى القضايا المثارة أو المشاكل المطروحة، عندما يواجهون ذلك كله من خلال العجز الفكري عن المناقشة والتحليل.
3. القضية التي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها، شغلت المجتمع الإسلامي والمجتمع الكافر المضاد، لأنها كانت صدمة لهم جميعا، وذلك لأن المسلمين كانوا يتجهون في عباداتهم منذ بداية الدعوة، إلى بيت المقدس الذي يتجه إليه اليهود والنصارى من أهل الكتاب، فجاء التشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوّل القبلة إلى الكعبة، فأدّى ذلك إلى:
أ. إثارة أهل الكتاب لأنهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعا من أنواع التبعية العملية لهم، وسبيلا من سبل إضلال البسطاء من المسلمين بالإيحاء إليهم بأن ذلك يدل على أن الحق معهم، كما أنهم اعتبروه خسارة لأحد مواقعهم العملية التي تؤكد أصالتهم ومواقعهم المتقدمة من الكتاب والنبوّات.
ب. أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمة ذاتية، لاشتمال ذلك على أسلوب جديد غير مألوف لديهم في التعامل مع التشريع الذي ساروا عليه مدة طويلة، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرفض العملي الذي يستبدل موقفا بموقف، فيعتبر السير على التشريع ـ على أساس ذلك ـ انحرافا عن الخط الصحيح، مما لم يكن لهم سابق معرفة به، ولم يكونوا في إعداد نفسي له، بل جاء مفاجأة كبيرة لهم، وصدمة نفسية إيحائية من خلال أساليب اليهود الذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكرية في النسخ، فإذا كان حكم الله هو التوجه إلى بيت المقدس، فمعنى ذلك أنّه الحق وأنّ غيره هو الباطل، فكيف يتغير حكم الله إلى شيء آخر لتنقلب النظرة إليه في النظرة إلى الحق والباطل في القضية نفسها، وكيف يمكن أن ينسب ذلك إلى الله الحكيم في كل ما يفعله من أفعال وما يشرّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمة للأشياء وما دام الحكم تابعا للمصلحة التي تمليه!؟ ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأسس التشريع وطبيعة مساره ما يمكّنهم من الدخول في جدل أو مناقشة حول ذلك مع هؤلاء.. وهكذا عاش المسلمون جوا من الريب والحيرة، وبدأوا يواجهون حالة متوترة من الضوضاء والقيل والقال، بالمستوى الذي تحوّل الموقف فيه إلى عقدة كبيرة تهدد المسيرة الإسلامية في ذلك المجتمع.
4. كان القرآن بالمرصاد لذلك، فقد خاض المعركة بكل الأساليب الضرورية التي يحتاجها الموقف، سواء في ذلك الأساليب الفكرية التي تواجه طبيعة التشريع، أو الأساليب العاطفية التي تخاطب مشاعر المسلمين وعواطفهم، أو الأساليب العملية التي تواجه المسلمين بالواقع الداخلي لأهل الكتاب في ما يمارسونه من أساليب اللف والدوران والتضليل ضد المسلمين، وتعرّفهم الموقع الذي يريد الله للأمّة أن تقفه في الكون في قيادة العالم إلى الشاطئ الأمين، مما يجعل من القضية مدخلا قرآنيا لتربية المجتمع المسلم على مواجهة التحديات بالفكر والعاطفة والواقعية، ولتأكيد الخط القرآني الذي لا يترك المسلمين في حيرة أمام علامات الاستفهام التي تثور في وجدانهم حول قضايا العقيدة والتشريع، بل يعمل على أن يجد لهم الأجوبة التي ترضي قناعاتهم الفكرية، وتمنحهم الشعور بالرضى والاطمئنان والثقة بما يعتقدون ويعملون، من أجل تركيز هذا التشريع في وعي الناس، وتربية المجتمع المسلم على الانطلاق إلى الحياة من خلال القواعد الثابتة المنطلقة من أمر الله ونهيه في كل ما يريد الله أن يغيره أو يبدله من تشريع أو غيره، ليعي المجتمع من خلال ذلك طبيعة علاقته بالله وحدودها، ويعرف أن المسلم لا يملك أمام كلمة الله أيّة إرادة تقوده إلى الرفض أو التشكيك، بل هو التسليم المطلق في كل شيء كما توحي به الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]
5. حدثنا الله في هذا الفصل عن الكلمات التي يمكن أن تقال، وعن التصورات التي ينبغي للمسلم أن يعيشها أمام تلك الكلمات، وعن طبيعة هذا التبدل في التشريع، في حكمة الله، وفي نتائجه العملية على سير الدعوة، وعن التصورات والاهتمامات النفسية التي كانت تشغل بال النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل ذلك، وعن الدور الكبير الذي أعدّه الله لهذه الأمّة في حملها للرسالة وشهادتها على الناس وشهادة الرسول عليها أمام الله.
6. في هذا الجو المتنوّع، ينطلق القرآن ليربط المسلمين بالخط الأصيل الذي يسيرون عليه، فلا يتزحزحون ولا ينحرفون عن الخط الإسلامي الحق إلى خطوط الآخرين، بحجة أن يجلبوا الآخرين إلى صفوفهم، مهما كانت نسبة الانحراف ضئيلة، وذلك بالعمل على الانطلاق بعيدا في تحليل واقع المجتمع المضادّ بالمقارنة مع الواقع الذي يعيشه النبي والمسلمون إزاء عقيدتهم، وتحليل طبيعة العلاقة التي تشدهم إلى الله وتربطهم به، فهو الذي يجب أن يخشوه ويلجأوا إليه ويطلبوا رضاه.
7. ثم يتابع التأكيد في تكرار ملحوظ على المسلمين بالالتزام بهذا التشريع، ليكون ذلك رمزا لوحدتهم في الموقف والشعور، لأنه يمثل القاعدة الروحية التي يرتبطون بها ويتجهون إليها، وهي هذا البيت الذي انطلق بالتاريخ الديني الرسالي الأول من أجل أن تبدأ الرسالة منه من جديد في عهدها المحمدي الجديد.
8. هذه هي بعض الأفكار التي نقدمها أمام الآيات الكريمة في هذا الفصل، كمقدمة للمزيد من الشرح والتفصيل.
9. تصوّر الآية الأولى الحالة النفسية والذهنية التي كان يعيشها فريق من الناس من أهل الكتاب إزاء هذا التشريع الجديد، مما يدفعهم إلى أن يطرحوا مثل هذا التساؤل في مرارة وإنكار.. وفي ذلك إيحاء بانخفاض المستوى الثقافي الذي يمكنهم من خلاله مواجهة الأمور التشريعية من جانبها الفكري على أساس الركائز الثابتة التي تقدم عليها قضايا التشريع.
10. صاغت الآية الفكرة المضادة بصيغة التساؤل الذي يشوبه الاعتراض والإنكار، كأسلوب من أساليب إثارة الجو ضد التشريع بشكل بريء فهي لا تطرح الفكرة بصورة الرفض المطلق لتوحي للآخرين بالموقف المضاد الذي تستثيره حالة المعارضة، بل تطرحها بصورة السؤال لتستطيع إثارة الشك والبلبلة في أذهان المسلمين، تماما كأية قضية من القضايا التي يدور فيها الجدل من أجل الوصول إلى نتيجة حاسمة، في أسلوب إيحائي بإخراج الموضوع من جوّ القداسة التي تفرض الالتزام والتسليم المطلق.
11. هذا ما نواجهه في كثير من الأساليب التي يستعملها الأعداء ضد الأحكام الشرعية من أجل وضعها في مواقع الشك والريب، وذلك بإثارة الجوانب السطحية التي تبتعد بالإنسان عن التعمق في خلفيات التشريع البعيدة المدى، ليكون ذلك بداية للانفتاح على حالات الشك التي تبعد المسلم تدريجيا عن روحية التسليم المطلق لله.
12. قد لا يظهر الجانب السلبي في هذا العرض الاستفهامي، باعتبار أن الإسلام لم يتنكر للشك كأساس للوصول إلى الحقيقة، ولم يواجه التساؤلات التي كان المسلمون يثيرونها أمام بعض الأحكام الشرعية بالردّ والرفض العنيف، بل عمل على أن يواجه الإنسان، كافرا أو مؤمنا، الفكرة العقيدية والفرعية، من موقع التساؤل البريء، لتتكون القناعة الفكرية في العقيدة والتشريع على أساس متين.
13. ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ الذين لا يفكرون في الأمور بطريقة متوازنة، ولا يميّزون بين الوحي الإلهي في تشريعه المنطلق من المصلحة التي تتغير حسب تغير الأزمان والأحوال، مما يجعل الشيء ذا مصلحة اليوم بلحاظ عنوان أو ظرف معين، ولا يكون ذا مصلحة في يوم آخر بلحاظ عنوان جديد أو ظرف طارئ، وبين الرغبة الذاتية التي تتحرك من موقع الأهواء التي لا تخضع لقاعدة ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ في صلاتهم، فكيف تتغير القبلة بين وقت وآخر، وكيف يتبدل التشريع الإلهي إذا كانوا ينسبون القبلة إلى وحي الله، وهل يمكن أن يبدّل الله شريعته وهو العالم بحقائق الأشياء بعيدا عن كل الحالات الطارئة؟ فإذا كان التوجه إلى الكعبة مصلحة، فكيف كان بيت المقدس قبلة في التشريع الأول؟
14. لو دقّقنا في هذا الموقف، لاكتشفنا الاتجاه السلبي الذي يتحرك من خلاله السؤال، ولرأينا أن السلبية تكمن في إعطاء الموقف جوّا من الإثارة التي تدفع للاعتراض، بالإضافة إلى أنه يسيء إلى الجانب التربوي الذي ترتكز عليه الشخصية الإسلامية التي تعتبر تكوين الأساس العقيدي منطلقا للالتزام الفكري والعملي بالتشريع، باعتباره صادرا من خالق الإنسان الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده أكثر من الإنسان نفسه، وبذلك كانت الفكرة المطروحة إسلاميا لمن يحاول فهم الأحكام الشرعية: التزم واعمل ثم ناقش واسأل.
15. إنهم يتساءلون عن الأساس الذي صرف المسلمين عن قبلتهم، ويثيرون أمام هذا التساؤل نقطتين:
أ. الأولى: إنهم يوجهون الحديث إلى المسلمين كما لو كانت القضية تعني سلوكا شخصيا لهم.
ب. الثانية: إنهم لا يحاولون التدبّر في طبيعة التشريع الأول والثاني، ليجدوا أنهما ينطلقان من الله في تعيين أيّة جهة من الجهات ليتوجه الناس إليها في عبادتهم، وليستا منطلقتين من خصوصية ذاتية لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهة إلى جهة على أساس ذلك.
16. على ضوء ذلك، فلا مجال لأيّ اعتراض، فإن الله يملك المشرق والمغرب معا وليس له اختصاص بجهة دون جهة، فله أن يعيّن المشرق لنتوجه إليه، وله أن يعيّن المغرب لنتوجه إليه، وذلك ضمن الخطة التي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته، مما يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة، فقد يكون في الاتجاه إلى جهة ما مصلحة في داخل خطة معينة، وقد لا يكون فيه مصلحة بلحاظ خطة أخرى.
17. ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ فهو الذي يوجه عباده إلى هذه الجهة أو تلك، ليمنحها القداسة من خلال ذلك، فلا قداسة لجهة دون جهة بعيدا عنه، وهو الذي يعلم صلاح عباده في كل مرحلة من المراحل، فيوجب عليهم شيئا في وقت ليبدّله بشيء آخر في وقت آخر، تبعا للمصالح التي تتبدل مع التغيرات الظرفية المتنوعة، وإذا كان بيت المقدس متميزا بأنه موطن الأنبياء، فإن الكعبة هي أول بيت وضع للناس بأمر الله نبيّه إبراهيم عليه السّلام ببنائه وبدعوة الناس إليه للحج، فقد تتعلق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان قبلة لغيرهم في الماضي، للتدليل على اعتراف الدين الجديد بأهمية هذا المكان المقدس في وعي المسلمين، ليؤكد هذا التعبير في خطهم الفكري، ثم يأتي التشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلة جديدة من أجل تأكيد الخصائص العبادية التي تختزنها في وجودها القدسي، بالأمر الإلهي المباشر الصادر إلى خليله إبراهيم مما لا تملكه القبلة القديمة.
18. خلاصة القضية أن على الإنسان أن يعرف أن الله لا يريد له إلا الخير ولا يأمره إلا بالسير على الخط المستقيم، في ما يهديه إليه من تشريعات وأحكام، مما يقتضيه التسليم والإذعان المطلق لله، فإن الله الذي يملك المشرق والمغرب هو الذي يختار لعباده ما يصلحهم يَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وهو الدين الحق الذي يؤدي بالناس إلى مواقع رضاه وإلى الجنة الموعودة لديه.
19. قدم القرآن أمام عرض الفكرة سؤالا وجوابا، صورة عن طبيعة تكوينهم الداخلي، مما يوحي بأن الفكرة لم تنطلق من أساس مشكلة فكرية لتبعث على الاحترام، بل انطلقت من واقع ذاتي منحرف يواجه فيه هؤلاء كل القضايا من موقع السفه الذي يعني فقدان الميزان الصحيح، الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يزن الأمور ويحاكمها في جانب الفكرة والممارسة معا، مما يبعث على النظر إلى الفكرة بعيدا عن الاحترام.
20. سؤال وإشكال: إن استباق المناقشة بإعطاء مثل هذه الصفة يبعد الموقف عن الحياد الفكري الذي يفرضه الأسلوب العلمي في الحوار والمناقشة، لأنه يخلق جوّا نفسيا مثيرا ضد أصحاب الفكرة في ما يشبه أسلوب القهر على طريقة حرب الأعصاب، والجواب: إن الموقف ليس موقف مواجهة المشكلة من موقع فكري فحسب، بل الموقف هو موقف إبعاد هؤلاء عن التدخل في حياة المجتمع المسلم من خلال الخطة المرسومة لديهم في زلزلة المسلمين وإبعادهم عن الخط المستقيم، مما يستدعي العمل على إبعاد المسلمين عنهم نفسيا قبل إبعادهم عنهم فكريا، ليواجهوا الموقف في المستقبل من موقع النظرة غير المحترمة عندهم، ليبتعد الجو بذلك عن الاهتزاز والارتباك، وقد لاحظنا في هذا النطاق الأسلوب الأمثل الذي يركز على تصوير طبيعة هؤلاء الذين يثيرون السؤال بصورة غير محترمة، ليبعد الفكرة عن جانب التأثير الشخصي بالجماعة، إلى مواجهة الفكرة في نطاقها الفكري.
21. وصفهم القرآن بالسفهاء، لأن شخصية السفيه تتمثل في عدم استقامة العقل وعدم توازن الرأي، مما يجعل التصرفات العملية في الفكر والعلاقة والمعاملة بعيدة عن الاستقامة والاتّزان، ولا شك في أن الانحراف عن خط الله الذي يؤدي إلى سلامة المصير في الدنيا والآخرة، لا يمثل الاستقامة في أيّ خط من خطوطها، بل هو ـ على العكس من ذلك ـ يمثل اختيار الخط الملتوي الذي يضر بالإنسان في كل مجالاته.
22. قد نشعر بالحاجة إلى اعتماد هذا الأسلوب في الواقع العملي، الذي يخوض فيه الإسلام صراع التحديات الفكرية والعملية مع التيارات الكافرة والمنحرفة، عندما تلجأ إلى مواجهة الإسلام بأساليب الإثارة، التي تعمل على خداع المسلمين وإضلالهم وإبعادهم عن الخط المستقيم، فنحاول أن نواجه الموقف كما واجهه القرآن، بالتركيز على الصفات الواقعية التي تكشف حقيقتهم، وتبعد المسلمين عن التأثر بهم والخضوع لأساليبهم، ثم مواجهة القضية من جانبها الفكري بعيدا عن التأثيرات الذاتية الضاغطة، ولا بد لنا ـ ونحن نثير هذا اللون من الأسلوبـ من التدقيق جيدا في طبيعة الواقع الموضوعي الذي تنطلق فيه المشكلة وتتحرك فيه عمليات الإثارة، لئلا نخطئ في استعماله في ما لا ينسجم مع المصلحة الإسلامية العليا في الدعوة والعمل.
23. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ تقف في الموقع المميّز بين سائر الأمم من خلال الموقع القيادي للرسالة القائدة والدور القائد في الدعوة والحركة، كما كان الرسول كذلك بالنسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بفعل المهمة الموكولة إليكم في حركتكم القيادية في اتجاه الناس مما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الذي يؤهلكم للشهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخط الفكري والعملي، ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً لأنه هو الذي صنع الأمّة في وجودكم عندما أطلق الرسالة لتكون عنوانا لكم، وحمّلكم مسئوليتها لتحدد لكم الدور القيادي، ليشهد عليكم أمام الله كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه.
24. في هذه الآية حديث عن الأمة المسلمة بأنها (وسط) في ما جعله الله للمسلمين من موقع قيادي في الحياة، وأنها شاهدة على الناس، وحديث عن الرسول بأنه شاهد على الأمّة.. جرى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية مجرى التفسير اللغوي البحت، فأخذوا منه معنى العدل والتوازن على أساس ما تمثله الشريعة الإسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثله النصارى، وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثله المشركون واليهود، لأن الإسلام يأخذ من الروح جانبا ومن المادة جانبا، لتكون الحياة ـ كما خلقها الله ـ نتيجة التزاوج بين الروح والمادة، وتتمثل في التوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد، والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع في الحياة، فأعطى للفرد دوره في ما يحقق ذاته من دون أن يغمط حق الجماعة في نطاق قضاياها العامة، وأعطى للجماعة دورها في ما لا يلغي للفرد نوازعه الذاتية الطبيعية، ويمتد الخط الوسطي إلى التوازن بين الدنيا والآخرة، فللمسلم أن يقبل على الدنيا ويستمتع بطيباتها من دون أن يسيء إلى خط الآخرة في السير مع شريعة الله في ما يفعل وفي ما يترك، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأسس التي يريدها الله.. ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن في مختلف جوانب الحياة من حيث العاطفة والعقل، ومن حيث التفكير العقلي والطرق التجريبية، ومن حيث الزمان والمكان.. وهكذا.. وفي ضوء ذلك، يمكن للأمّة أن تؤدي دور الشهادة على الناس باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف، كما يكون النبي شهيدا على الأمة لأنه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الآحاد من الأمة.
25. يعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية بأن هذا المعنى (هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو من دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية، فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، وميزانا يوزن به الجانبان، لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذلك المعنى والشهادة، وهو ظاهر على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة، إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا كما يترتب الغاية على المغيّا والغرض على ذيه).
26. نتفق مع صاحب الميزان في هذه الملاحظة، لأن قضية التفسير هي أن يدرس المفسّر الكلمة من خلال الجوّ الذي تعيش فيه، ليتحقق الترابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها، ونحن نرى أن هذه الآيات تتحرك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة من خلال الدور الذي أعدّه الله لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثل بالإسلام، الأمر الذي يجعلهم يتحركون في الحياة من هذا الموقع، ليكونوا شهداء على الناس في أفكارهم وأعمالهم باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسئوليتهم، كما كان الرسول شهيدا على المسلمين من خلال مسئوليته الرسالية عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه.. وفي هذا الجوّ لا نجد للوسطية معنى في ما حاوله هؤلاء المفسرون من الحديث عن التوازن الفكري والتشريعي في المواجهة الإسلامية للحياة، لأن القضية ليست قضية المضمون الإسلامي في صياغة الشخصية للإنسان المسلم، بل هي قضية الإيحاء للمسلمين بأن عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثقة بالتشريع وبالمسار العملي، لأنه لا يمثلون التبعية للآخرين في مواقعهم، بل القضية هي أن الآخرين يدخلون في نطاق مسئوليتهم باعتبار أنهم يحملون الرسالة القائدة، والدور القائد في التبليغ والتنفيذ، كما كان الرسول بالنسبة إليهم في ما يبلّغه وفي ما يهدي إليه.
27. نتصور الآية في هذا الموقع من خلال الأجواء العامة التي وردت فيها، مما يجعل من ذكر كلمة الوسط مقدّمة لتقرير فكرة الشهادة، ويوحي بأن معناها يدخل في معنى العدل والفضل انطلاقا مما ذكره صاحب كتاب العين: (إن الوسط من كل شيء أعدله وأفضله) فكأن هذه الكلمة استعيرت للأمة المسلمة من أجل تأكيد الثقة في نفوسهم، على أساس ما حباهم الله من هداية إلى سبيله، لئلا ينهاروا أمام تضليل المضللين وتشكيك المشككين.. وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصفة بعد الحديث عن هداية الله لمن يشاء إلى صراط مستقيم، للتدليل على أن الله أراد لهم هذه الهداية التي جعلتهم في هذا الموقع.. ولعلّ طبيعة الشهادة على الآخرين أمام الله تقتضي أن يكون الشاهد في الموقع الأفضل من حيث الدور الذي أوكل إليه، ومن حيث السلوك الذي سار فيه كما هي حال الأنبياء بالنسبة إلى أممهم، وهذا ما يؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه، وربما يؤكد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].
28. نلاحظ تفريع شهادة الرسول عليهم وشهادتهم على الناس إنما هي على أساس اجتباء الله لهم وانضباطهم على الخط وقيامهم بالدور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين، أمّا الحديث عن التوازن في الإسلام، فهو حقّ، ولكن ذلك لا يعني أن الآية تسير في هذا الاتجاه في مضمونها الفكري.
29. ذكر صاحب تفسير الميزان في معنى (الوسط): (أن كون الأمة وسطا إنما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس)، ولكننا قدمنا أن الوسطية هنا لا يراد بها ذلك بل يراد بها ـ في ما نفهمه ـ الموقع الأفضل الذي وضع الله فيه الأمة بالنسبة إلى الناس، والله العالم بحقائق آياته.
30. الشهادة: ذكر لها عدة معان:
أ. منها: أن المعنى: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة، كما قال ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾، [الزمر: 69] وقال: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة، الملائكة والأنبياء وأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والجوارح، كما قال ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ﴾ [النور: 24] الآية.
ب. ومنها: أن المعنى: لتكونوا حجة على الناس، فتبيّنوا لهم الحق والدين، ويكون الرسول عليكم شهيدا مؤديا للدين إليكم، وسمّي الشاهد شاهدا لأنه يبين، ولذلك يقال للشاهدة بيّنة.
ج. ومنها: أنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا وجاز ذلك لإعلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياهم بذلك.
31. نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل، لأن الاتجاه العام في آيات الشهادة هو الإيحاء للناس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشهادة على ما فعلوه في الدنيا من جميع الجهات، وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلغون، أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة الله والملائكة والجوارح، ليشعروا في الدنيا بالحاجة إلى الانضباط في كل ما يعملونه أو يتركونه، وليتعمق إحساسهم الداخلي بالرقابة الموجهة إليهم من جميع الجهات، وقد جاءت آيات الشهادة في سياق واحد حتى لا يشعر الإنسان بوجود فارق بين واحدة وأخرى مع اختلاف شخصية الشهود، كما نلاحظه في الآيات التالية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]، ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [النحل: 84]، ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الزمر: 69]، ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117]
32. هكذا نلاحظ أن القضية تتجه إلى يوم القيامة بين يدي الله، للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات التي يتصور حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان، وذلك على أساس أن الشهادة في تجربة الشهداء تتحرك في الدنيا في الموقع القيادي الذي يتمثل فيه الشاهد الواقع كله في حركة الناس في الحياة ومدى التزامهم بالوحي الإلهي في خط الرسالات في دائرة السلب والإيجاب، ليقدموها بين يدي الله في موقف الحساب، فلا تنافي بين مفهوم الشهادة في واقع الدنيا التي يتحرك فيها الشهداء بين الناس وبين حركتها الفعلية الأدائية في موقف القيامة أمام الله.
33. في ضوء ذلك نفهم أن المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامة للآيات، ولا سيما المعنى الثالث الذي يركّز على حاجة النبي للشهادة على الأمم بأنّه بلّغهم، إذا أنكرت الأمم ذلك، إذ لا معنى لحاجة النبي لذلك مع اعتباره شاهدا أساسيا تطلب شهادته بشكل أصيل، مما يعني اعتبار شهادته قاعدة للحكم على الأمم من خلال دخولهم ضمن مسئوليته التي منحه الله الثقة في القيام بها بكل أمانة وصدق.
34. سؤال وإشكال: أثار المفسرون اعتراضا في هذا المجال، وخلاصته أن الشهادة تفرض الموقع المتميز للشاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أن الأمة تضم في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم، فكيف يمكن أن يكون الجميع شهودا في موقع الشهادة؟ والجواب: أن الأسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكل، باعتبار اشتمال الكل عليه، تماما كما قد حدثنا عن بني إسرائيل، مع أن الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض.. وعلى هذا، فإن كون الأمة شاهدة يتحرك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير، وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقيّة المنضبطة التي تفهم الإسلام حق الفهم، وتعيه حق الوعي، وتمارسه حق الممارسة، وتحمله بروح رسولية رائدة، إنها النخبة الواعية الموجودة في كل زمان ومكان، التي يقف في طليعتها الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذين يحملون هذه الشهادة إلى الله لأنهم يعيشون روح الرسالة، ويعيشون من خلالها الوعي لكل حياة الناس، كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمّته.
35. يستمر الحديث عن هذا التشريع الجديد من خلال التركيز على الطبيعة التربوية التي تحكم هذا التنوع في التشريع من موقع للقبلة في بداية الدعوة إلى موقع جديد في امتدادها الطويل.. ويتجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باعتبار أنه رسول الله إلى الأمة، المكلف بتوضيح الصورة لهم: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ وهي بيت المقدس، ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾، فقد أراد الله أن يختبر المسلمين ليربيهم على الطاعة المطلقة له، التي تتمثل في التسليم لأحكامه من دون أي ريب واعتراض، فأمرهم في البداية بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوّلهم عنها ليبرز الأشخاص الذين يعيشون الإسلام فكرا وشعورا وممارسة وطاعة مطلقة.. وليتميزوا عن الأشخاص الذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم، ويواجهون الرسالة كأيّة فكرة بشرية قابلة للأخذ والرد، ويفهمون الإيمان ارتباطا شكليا بالله وبالرسول، حتى إذا وقفوا في مواقع البلاء، تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانية إلى مواقع الكفر والنفاق، ولا نريد أن نخوض طويلا في ما خاض فيه المفسرون من إثارة التساؤل حول كلمة ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ في الآية، حيث إن الله لا يحتاج إلى أية وسيلة عملية لمعرفة طبيعة الأشخاص، لأن هذا التعبير جار على الأسلوب القرآني الذي يتحدث عن الوسائل التي توضح الأشياء الخفية وتظهرها باعتبارها أساسا للعلم الذي يريد الله أن يحصل عليه من خلال ذلك، وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك، للتدليل على أن الله لا يعاقب الناس ولا يحاسبهم إلا على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1 ـ 3].
36. هكذا كانت القبلة الجديدة اختبارا للإيمان المستقر في قلوب المؤمنين الذين يسلمون أمرهم لله فلا يعترضون على ما يأتيهم الرسول به من تشريعات، لأنهم يؤمنون بأنه ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 ـ 4]، ليتميز هؤلاء عن غيرهم.
37. ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ هذا كناية عن الذين يتراجعون عن خط الإيمان ويسقطون أمام التجربة وتثيرهم الشكوك وتنحرف بهم عن الخط، لأنهم لا يعيشون الإسلام تسليما فكريا وروحيا وعمليا، ولا ينفتحون على الرسول التزاما وطاعة.
38. ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، الظاهر أنها إشارة إلى هذه الحادثة التي تتمثل في تحويل القبلة إلى الكعبة، باعتبار أنها هزّت المجتمع المسلم من ناحية فكرية وعملية، فأثارت في داخله الشعور باهتزاز التشريع وعدم ارتكازه على أساس متين من المصلحة والحكمة الثابتة التي لا تغيّرها الظروف والأحوال في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريتهم حول النسخ، كما كانوا يوسوسون لهم بأن صلاتهم التي كانوا يتوجهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم، لأنها كانت إلى غير القبلة الحقيقة، فأشبهت حالهم حال الذين لا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن، ولكن الذين هداهم الله وعرّفهم حقيقة شريعته وطبيعة ارتباط التشريع، وهو الذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرّم وفي ما يحلّل، انطلاقا من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظروف والأحوال، انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليم وانقياد وطاعة مطلقة، ووعي منفتح على خلفيات التشريع الحكيمة.
39. قضية ضياع إيمان المؤمنين، في ما تمثله الصلاة من روح الإيمان ليس واردا في حساب الله، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، لأنهم قاموا بالصلاة على أكمل وجه، فإن العبرة بحصول الشروط في حال القيام بالصلاة، فلا يتبدل الحال من هذه الجهة إذا تبدلت الشروط، لأن الشرط الجديد لا يترك أثرا رجعيا على الأعمال السابقة، بل يقتصر تأثيره على الصلوات المقبلة، وهذا ما ينسجم مع رأفة الله ورحمته بعباده، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدة لشروطها الكاملة {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}.
40. قيل: إن المراد (بالقبلة التي كنت عليها) هي الكعبة، (لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلا بمكة، يعني وما رددناك إليها إلّا امتحانا للناس وابتلاء، لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه، ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد)، وفي ضوء هذا، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مأمورا بالتوجه إلى الكعبة، ثم حوّل إلى بيت المقدس، ثم أعيد إلى الكعبة، فكان الابتلاء موجها إلى العرب أو إلى قريش الذين كانوا متعلقين بالكعبة، مما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختبارا لهم، باعتبار أن ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة، ولازم ذلك أن الله جعل الكعبة قبلة مرتين، ونلاحظ على ذلك:
أ. أولا: إنه لا دليل على تشريع الصلاة إلى الكعبة في البداية، ولا ظهور في الآية على ذلك.
ب. ثانيا: إن الظاهر من قوله تعالى في الآية التالية: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أن الكعبة كانت تمثل رغبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أن يوجهه الله إليها لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم مما يوحي بأنه لم يسبق لها أن كانت قبلة سابقا.
ج. ثالثا: إن عملية التشريع أولا، ثم النسخ، ثم التشريع ثانيا لا يتناسب مع طبيعة استقامة التشريع.
د. رابعا: إن تشريع الكعبة كقبلة كان مقدّرا له أن يستقر في نهاية التشريع، ولكن الله أخّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية، وهي أن تكون المسألة مادة اختبار وامتحان للمسلمين، من دون أن تكون هناك أيّة سلبية في طبيعة الصلوات التي صلوها إلى بيت المقدس، لأنها كانت القبلة الشرعية قبل النسخ مما يجعل الحكم مطابقا للواقع، لأن النسخ لا يرفع الحكم من أصله، بل يرفعه من وقته.
هـ. خامسا: إن الظاهر من الآية أن التجربة كانت تتحرك نحو المنافقين الخاضعين لليهود، في إثارتهم للمشاكل الفكرية ضد الإسلام وأهله، وليست متحركة في الواقع العربي أو القرشي الذي كان لا يمثل مشكلة كبري في الواقع الإسلامي، ولذلك لم نجد هناك أي حديث تاريخي عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة التي كانت تمثل الخط الفاصل بين الثبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة.
و. سادسا: روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال ثم وجّهه الله إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك غمّا شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل عليه السّلام، فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟.
41. قد نستوحي من هذه الآية أن اختبار القاعدة الإسلامية في حركتها في الواقع مع القيادة، من حيث صدق انتمائها وجدّية إيمانها وصلابة التزامها، قد يكون حاجة مهمة لسلامة المسيرة الإسلامية ونجاح الخطط المرسومة، باعتبار أن ذلك يتكفل بمعرفة القوى المنحرفة التي قد تدخل في الحركة الإسلامية أو في جهاز المرجعية، أو في المواقع الاجتماعية الحساسة، ليرصد كل خطواتها ويعرّيها ويفضحها حتى لا تكيد للمسيرة، ولا تربك الواقع، ولا تعبث بالطيبين الساذجين من الناس المؤمنين لتوظفهم بطريقة سلبية ضد الأهداف الإسلامية، ولا تعيث في الأرض فسادا، وذلك بالطريقة التي جرى عليها التشريع في القبلة بأن تتحرك التعليمات الحركية بالأسلوب الذي يثير الارتباك والتعقيدات، ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة، بالمستوى الذي لا يؤدي إلى النتائج السلبية على الحركة في الوقت الذي تتحرك فيه للحصول على إيجابيات الواقع، وهذا ما عبّرت عنه الآية.
(2).
__________
(1) من وحي القرآن: 3/60.
(2) الميزان في تفسير القرآن: 1/339.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك.. رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدّة ثلاثة عشر عاما بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة، ثم تغيّرت القبلة، وأمر الله المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة)، واختلف المفسرون في المدّة التي صلّى خلالها المسلمون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، فذكروا مددا مختلفة تتراوح بين سبعة أشهر وسبعة عشر شهرا.
2. كانت الجماعة المسلمة تتعرض خلال كل هذه المدّة (مدة صلاة المسلمين تجاه بيت المقدس) إلى لوم اليهود وتقريعهم، وكان اليهود يقولون عن المسلمين: إن هؤلاء غير مستقلين لأنّهم يصلون تجاه قبلتنا، وهذا دليل أننا على حقّ.. كانت هذه الأقوال تؤلم الرّسول وصحبه، فالأمر الإلهي يوجب أن يصلوا تجاه بيت المقدس، واليهود لا ينفكّون يرشقون المسلمين بوابل تهمهم وتقريعهم، وبلغ الأمر أن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بدأ يقلب وجهه في السماء انتظارا للوحي، واستمر الانتظار مدّة، حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة، كان الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجد (بني سالم) يصلي الظهر، فما إن أتمّ ركعتين حتى أمر جبرائيل أن يأخذ بعضد الرّسول ويدير وجهه تجاه الكعبة.
3. لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الاعتراضات: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾، بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلم هذا التغيير؟ وإن كانت الثانية صحيحة فلما ذا صلى المسلمون أكثر من ثلاثة عشر عاما تجاه بيت المقدس!؟ والله سبحانه يجيب على هذا الاعتراض، فأمر رسوله أن ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، فليس لمكان قداسة ذاتية، إنما يكتسب قداسته بإذن الله، وكل مكان ملك لله، والمهم هو الطاعة والاستسلام لربّ العالمين.
4. تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهية.
5. (السفهاء) جمع (سفيه) أطلقت في الأصل على من خفّت حركة جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الاضطراب خفيف الوزن، ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية.
6. مسألة (النسخ) في الأحكام وتغيير المنهج التربوي بتغير المراحل الزمانية ليست مسألة غريبة جديدة في تاريخ الرسالات، لكن هؤلاء القوم العنودين الجدليين من اليهود اتخذوا من هذا التغيير ذريعة لإعلامهم المضاد، والقرآن يجيبهم بشكل يفحمهم.
7. جملة ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ لا تعني أن هداية الله ليس لها حساب، لأن المشيئة الإلهية تنطلق من (حكمة) الله، ومن محاسبات المصالح والمفاسد.
8. هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّلا: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم أمّة في حالة اعتدال، لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها، أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطا، فلأن النصارى ـ الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية ـ يولون وجوههم صوب الشرق تقريبا حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح، واليهود ـ الذين يتواجدون غالبا في الشامات وبابل ـ يتجهون نحو الغرب تقريبا حين يقفون تجاه بيت المقدس، أما (الكعبة) فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط، وهذا ما يفهم من عبارة (وكذلك)، وإن كان للمفسرين آراء أخرى في هذه العبارة لا تخلو من مناقشة.
9. القرآن يؤكد أن المنهج الإسلامي في كل أبعاده ـ لا في بعد القبلة فقط ـ يقوم على أساس التوازن والاعتدال، والهدف من ذلك ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
10. (شهادة) الأمّة المسلمة على النّاس، و(شهادة) النّبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الأسوة والقدوة، لأن الشاهد ينتخب من بين أزكى النّاس وأمثلهم، فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الأمّة المسلمة نموذجيّة بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرد نموذجيّ بين أبناء الامّة.
11. الامّة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره أن يكون رجل دين ورجل دنيا.. أن يكون إنسانا يعيش في خضم الأحداث الاجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية، الامّة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها تشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم، بل إن كلا منهما يخدم الآخر.
12. ثم تشير الآية إلى واحد آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾، الآية لم تقل: يتبعك، بل قالت: ﴿يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ إشارة إلى أن هذا الاتباع إنما هو تسليم لأمر الله، وكل اعتراض إنما هو عصيان وتمرد على الله، ولا يصدر ذلك إلّا عن مشرك جاهلي.
13. عبارة ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ تعني في الأصل الرجوع على مؤخر الرجل، وتعني هنا الانتكاس والتراجع، ثم تضيف الآية: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾.
14. لولا الهداية الإلهية، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر الله، المهم أن يكون الإنسان المسلم مستسلما إلى درجة لا يحسّ معها بثقل مثل هذه الأوامر، بل يشعر بلذتها وحلاوتها.
15. أمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: {وما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرَؤُوف رَحِيمٌ}، فأوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة، وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته، والعمل بأجمعها صحيح لا غبار عليه.
16. تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة، أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا التغيير، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة، فلما ذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة نحوها منذ البدء، وإن كانت بيت المقدس فلم هذا التغيير!؟ وأعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم ولإعلامهم المضّاد، قالوا إن تغيير القبلة تمّ بدافع عنصري، وزعموا أن النّبي اتجه أوّلا إلى قبلة الأنبياء السابقين، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته! وقالوا: إن محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له، ولمّا يئس منهم استبدل الكعبة بها.
17. واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماما من رواسب الشرك والعصبية، لذلك تصرّح الآية الكريمة أن تغيير القبلة اختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين.
18. لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة أنه لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتا لأصنام المشركين، فقد أمر المسلمون مؤقتا بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقّق الانفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين، وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، حدث الانفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.
19. من الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضا العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).
20. المسلمون بهذا التحوّل وضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.
21. إن الله سبحان ليس له مكان ومحل، والقبلة رمز لوحدة صفوف المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد، وتغييرها لا يغيّر شيئا، المهم هو الاستسلام الكامل أمام الله، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.
22. (الوسط) ما توسط بين شيئين، وبمعنى الجميل والشريف، والمعنيان يعودان ظاهرا إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط والتفريط.
23. ما أجمل التعبير القرآني عن الامّة المسلمة.. الامّة الوسط، الوسط:
أ. المعتدلة في (العقيدة) لا تسلك طريق (الغلو) ولا طريق (التقصير والشرك)، لا تنحو منحى (الجبر) ولا (التفويض)، ولا تؤمن (بالتشبيه) في صفات الله ولا (بالتعطيل).
ب. معتدلة في (القيم المادية والمعنوية) لا تغطّ في عالم المادة وتنسى المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات، ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماما.
ج. معتدلة في (الجانب العلمي).. لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم.
د. معتدلة في (الرّوابط الاجتماعية) لا تضرب حولها حصارا يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم! معتدلة في (الجانب الأخلاقي).. في عباداتها.. في تفكيرها.. وفي جميع أبعاد حياتها.
هـ. المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقا أن يكون إنسانا ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة.. مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعّال، ذو سماح.
24. عبارة الامّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الامّة الإسلامية، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الانحرافية المتجهة نحو اليمين واليسار، ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: {إنّما كنتم شهداء على النّاس لأنّكم معتدلون وأنكم أمة وسط}
25. لو اجتمعت الصفات التي ذكرناها للأمّة الوسط في أمّة، فهذه الامّة دون شك رائدة للحق، وشاهدة على الحقيقة، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل.
26. ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام قولهم: (نحن الامّة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه.. نحن الشّهداء على النّاس.. إلينا يرجع الغالي وبنا يرجع المقصّر)، مثل هذه الروايات ـ كما ذكرنا ـ لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين المصداق الأمثل للأمّة الوسط، وتعطي نموذجا متكاملا لها.
27. عبارة ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ وأمثالها من التعبيرات القرآنية، لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئا، ثم علم به بعد ذلك، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.. بعبارة أوضح، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود، فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علما، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله، وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم، ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي، والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عمليا ما كان في علمي نظريا، (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافا كبيرا كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).
28. عبارة ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ توضّح حقيقة الصعوبة في مخالفة العادة الجارية، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة، إلّا على الذين آمنوا بالله حقّا، واستسلموا لأوامره.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/404.
61. التشريع الإلهي للقبلة والأهواء
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈61⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: 144 ـ 147]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
سلمان:
روي عن سلمان الفارسي (ت 34 هـ) أنّه قال: خرجت أبتغي الدين، فوقعت في الرهبان؛ بقايا أهل الكتاب، قال الله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، فكانوا يقولون: هذا زمان نبي قد أظل، يخرج من أرض العرب، له علامات، من ذلك شأمة مدورة بين كتفيه؛ خاتم النبوة(1).
__________
(1) الطبراني: ٦١٨٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ شطره فينا قبله(1).
2. روي أنّه قال: أما أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [الأنعام: 20] يعرفون محمدا والولاية في التوراة والإنجيل، كما يعرفون أبناءهم في منازلهم ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [البقرة: 146 ـ 147] أنك أنت الرسول إليهم ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94]، فلما جحدوا ما عرفوا ابتلاهم الله بذلك سلبهم روح الإيمان، وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح: روح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن، ثم أضافهم إلى الأنعام، فقال: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ [الفرقان: 44] لأن الدابة إنما تحمل بروح القوة، وتعتلف بروح الشهوة، وتسير بروح البدن)(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٦٤.
(2) الكافي: 2/215.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة؛ قال عمر لعبد الله بن سلام: لقد أنزل الله على نبيه: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، فكيف ـ يا عبد الله ـ هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته، كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: أشهد أنه رسول حق من الله، وقد نعته الله في كتابنا، وما أدري ما تصنع النساء! فقال له عمر: وفقك الله، يا ابن سلام، فقد صدقت وأصبت(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِم﴾ يعني بذلك: القبلة(2).
3. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، يعني بذلك: الكعبة البيت الحرام(3).
__________
(1) الثعلبي في تفسيره: ٢/١٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٥.
(3) ابن جرير: ٢/٦٧٠.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يحب أن يوجه إلى الكعبة؛ فأنزل الله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٤٤]، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس ـ وهم اليهود ـ: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢] فصلى مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل، ثم خرج بعد ما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم، حتى توجهوا نحو الكعبة(1).
2. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، ينتظر أمر الله؛ فأنزل الله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم﴾، وقال السفهاء من الناس ـ وهم من أهل الكتابـ: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ إلى آخر الآية(2).
3. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم ركوع، فقال: أشهد لقد صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان يعجبه أن يحول قبل البيت، وكان اليهود قد أعجبهم هذا؛ أن كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك(3).
__________
(1) البخاري: ١/٨٨.
(2) ابن إسحاق عن تفسير ابن كثير: ١/٤٥٣.
(3) البخاري: ١/١٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾: قد نرى نظرك إلى السماء ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، وذلك أن الكعبة كانت أحب القبلتين إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان يقلب وجهه في السماء، وكان يهوى الكعبة، فولاه الله قبلة كان يهواها ويرضاها(1).
2. روي أنه قال: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ إنك تديم النظر إلى السماء للذي سألت، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فحول وجهك في الصلاة نحو المسجد الحرام(2).
3. روي أنّه قال: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ تلقاءه(3).
4. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِم﴾ ليعلمون أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم والأنبياء، ولكنهم تركوها عمدا(2).
5. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ يكتمون صفة محمد، وأمر القبلة(2).
6. روي أنه قال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لا تكونن في شك ـ يا محمد ـ أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة لأنبياء قبلك(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٣.
(2) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.
(3) ابن أبي شيبة: ١/٣٣٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿شَطْرَهُ﴾، يعني: نحوه(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُم﴾ أهل الكتاب ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يكتمون محمدا، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل(2).
__________
(1) آدم ـ كما في تفسير مجاهد: ص٢١٦.
(2) تفسير مجاهد: ص٢١٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ هو يومئذ يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلة نحو البيت الحرام، فولاه الله قبلة كان يهواها ويرضاها(1).
2. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفون رسول الله في كتابهم كما يعرفون أبناءهم(2).
3. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة(3).
4. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فكتموا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(4).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٥٦.
(2) عبد الرزاق: ١/٢٠٦.
(3) ابن جرير: ٢/٦٧٠.
(4) ابن جرير: ٢/٦٧٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ نحوه وتلقاؤه، هو بلغة أهل يثرب والشطر أيضا: النصف والجمع أشطار، وشطور وهي لغة بني تغلب.(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 92.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ إنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حول إلى الكعبة؛ قالت اليهود: إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِم﴾ إلى قوله: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أنزل ذلك في اليهود(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود(1).
4. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ يعرفون الكعبة أنها هي من قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم(3).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٦٨.
(2) ابن جرير: ٢/٦٦٥.
(3) ابن جرير: ٢/٦٧٠.
خصيف:
روي عن خصيف بن عبد الرحمن (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ هم اليهود والنصارى، يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصفته في كتابهم، كما يعرفون أبناءهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ عرفوا أن قبلة البيت الحرام هي قبلتهم التي أمروا بها، كما عرفوا أبناءهم(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾، يعني: القبلة(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٧٠.
(2) ابن جرير: ٢/٦٧٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ [القصص: 52] يعني التوراة والإنجيل ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ [الأنعام: 20] يعني يعرفون رسول الله ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [الأنعام: 20] لأن الله عز وجل قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفة أصحابه ومهاجرته، وهو قول الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ [الفتح: 29] وهذه صفة محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة والإنجيل وصفة أصحابه، فلما بعثه الله عز وجل عرفه أهل الكتاب، كما قال جل جلاله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89](1).
__________
(1) تفسير القمّي: 1/32.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُم﴾ من الأرض ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ يعني: فحولوا وجوهكم في الصلاة تلقاءه(1).
2. روي أنه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني: أهل التوراة ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِم﴾ بأن القبلة هي الكعبة، فأوعدهم الله، فقال: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾، يعني: عما يعملون من كفرهم بالقبلة(2).
4. روي أنه قال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ﴾ ولئن جئت ـ يا محمد ـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ يعني: الكعبة، ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُم﴾ يعني: بيت المقدس، ثم قال ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس، والنصارى قبل المشرق(2).
5. روي أنه قال: أنزل الله تعالى يحذر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ويخوفه: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم﴾ فصليت إلى قبلتهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يعني: البيان ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(2).
6. روي أنه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يقول: أعطيناهم التوراة ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفون البيت الحرام أنه القبلة ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾(3).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٦.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٤٧.
(3) تفسير مقاتل: ١/١٤٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف، ولم تؤمروا بدخوله، قال لم يكن ينهى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين، وقال: (هذه القبلة)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ زعموا أن بعض أهل المدينة من أهل الكتاب ممن أسلم قال والله، لنحن أعرف به منا بأبنائنا؛ من أجل الصفة والنعت الذي نجده في كتابنا، وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء!(2).
__________
(1) البخاري: ١/٨٨.
(2) ابن جرير: ٩/١٨٧.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فيما اقتصصت عليك من الخبر(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿شَطْرَهُ﴾ ناحيته، جانبه: وجوانبه: شطوره(1).
2. روي أنه قال: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ من الشاكين، لا تشكن في ذلك(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٦١.
(2) ابن جرير: ٢/٦٧٣.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، يريد: جانبا منه؛ حيث وليتم من الجوانب، وكان تجاهكم من نواحي الكعبة أي ناحية كانت أجزت(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/70.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾، خرج على الوعد له.
2. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ قال بعضهم : إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود، ولكن هذا بعيد؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين، فكيف برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ إلا أن يقال: كره كراهة الطبع والنفس، وأما كراهة الاختيار، فلا يحتمل:
أ. ويقال: إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها.
ب. أو أن يقال: ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل، فلا شك أنه كان يرضاها، وهذا جائز في الكلام. يقول الرجل لآخر: أعطيك شيئا ترضاه، وإن لم يظهر منه الكراهية في ذلك، ولا التردد.
3. يحمل قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ على وجهين:
أ. أحدهما: أي علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم.
ب. الثاني: أي علموا بما بيّن له في كتبهم أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه حق.
4. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ هو على الوعيد والتهديد.
5. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم في قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه؛ لأنها لو كانت في أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودعوى الكذب عليه؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن، فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصا، وكان ظاهرا في أهل الإسلام وأهل الكفر جميعا المعنى الذي وصفنا لك، فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد.. وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنه في موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له، ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحى عن الله عزّ وجل، وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه.
6. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ فيه الوعد له بالعصمة في حادث الوقت وما يتلوه.
7. يحتمل قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾، أي وما لك أن تتابعهم في القبلة، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة.
8. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ قد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهى، ويحتمل: أن يكون المراد من الخطاب غيره.
9. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم، فعلى ذلك معرفة الرسل، عليهم السلام، إنما تكون بالدلائل والأعلام، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب في رسول الله ظاهرة، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق، دليله قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، والكتمان أبدا إنما يكون بعد العلم بالشيء؛ لأن الجاهل بالشيء لا يوصف بالكتمان، وروى عن عبد الله بن سلام، أنه قال: أعرفه أكثر مما أعرف ولدى؛ لأنى لا أدرى ما أحدث النساء بعدى.. وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك.
10. ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: لا يؤمنون؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته في كتبهم، كما قال الله عزّ وجل: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
11. قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أن يكون الخطاب له والمراد غيره.
ب. ويحتمل: هو، وإن كان يعلم أنه لا يمترى؛ لما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا تمنع النهى عن الشيء.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/589.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، روي في تفسير هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تحدث مع جبريل فقال: وددت أن الله يختار لنا قبلة، فقال جبريل: فادع إلى الله فأنت كريم عنده، فدعا، وكان يقلب وجهه في السماء ينتظر هبوط جبريل متى ينزل عليه بالوحي، فنزل عليه بهذه الآية.
2. معنى قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: أي أقبل وجهك نحو المسجد الحرام، ونحو الشيء هو نحو شطره عند العرب، قال الشاعر:
çألا من بلغ عمراً رسولاً... وما تغني الرسالة شطر عمروé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ هذه الآية مقدمة في النزول على قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ [البقرة:142]، وفي قوله: تقلب وجهك نحو السماء أي تقلب عينيك في النظر إلى السماء، ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ يعني الكعبة كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرضاها ويختارها ويسأل الله أن يحول إليها وفي سبب اختياره لها قولان:
أ. أحدهما: مخالفة اليهود حيث قالوا: تتبع قبلتنا وتخالفنا في ديننا.
ب. الثاني: أنه اختارها لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم.
2. ثم قال ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
3. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ يعني استقبال الكعبة ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي بيت المقدس بعد أن حولت قبلته إلى الكعبة، ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ يعني اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود فهم فيها يختلفون وإن كانوا على عداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متفقين، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يعني في تحويلها عن بيت المقدس إلى الكعبة ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وليس يجوز أن يفعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يصير به ظالماً وفي هذا الخطاب وجهان:
أ. أحدهما: أن المراد به الأمة وإن كان الخطاب له لجواز الظلم عليهم.
ب. الثاني: إنما أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة بيان حكمه لو كانت.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود والنصارى أوتوا التوراة والإنجيل، ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما يعرفون أن تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة حق.
ب. الثاني: يعرفون الرسول وصفته كما يعرفون أبناءهم.
4. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾ عنى بالفريق علماءهم وخواصهم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/88.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾
في قوله تعالى: ﴿تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه: تحول وجهك نحو السماء، وهذا قول الطبري.
ب. الثاني: معناه: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، وهذا قول الزجاج.
2. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ يعني الكعبة كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرضاها ويختارها ويسأل ربه أن يحوّل إليها، واختلف في سبب اختياره لذلك على قولين:
أ. أحدهما: مخالفة اليهود وكراهة لموافقتهم، لأنهم قالوا: تتبع قبلتنا وتخالفنا في ديننا؟ وبه قال مجاهد، وابن زيد.
ب. و الثاني: أنه اختارها، لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم، وبه قال ابن عباس.
3. سؤال وإشكال: أكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غير راض ببيت المقدس أن يكون له قبلة، حتى قال تعالى له في الكعبة ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؟ والجواب: لا يجوز أن يكون رسول الله غير راض ببيت المقدس، لمّا أمره الله تعالى به، لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى، لكن معنى ترضاها: أي تحبها وتهواها، وإنما أحبها مع ما ذكرنا من القولين الأولين، لما فيها من تآلف قومه وإسراعهم إلى إجابته، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿تَرْضَاهَا﴾ محمولا على الحقيقة بمعنى: ترضى ما يحدث عنها من التأليف، وسرعة الإجابة.
4. ثم قال تعالى مجيبا لرغبته وآمرا بطلبته: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي حوّل وجهك في الصلاة، شطر المسجد الحرام أي: نحو المسجد الحرام، كما قال الهذلي، أي نحوها، والشطر من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا بعد منه وأعرض عنه، وشطر الشيء: نصفه، فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحو غير الاستواء.
5. ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ يعني به الكعبة، لأنها فيه فعبر به عنها، واختلف في المكان، الذي أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يولي وجهه إليه:
أ. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ قال حيال ميزاب الكعبة.
ب. قال عبد الله بن عباس: البيت كله، وقبلة البيت الباب.
6. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ يعني نحو المسجد الحرام أيضا تأكيدا للأمر الأول لأن عمومه يقتضيه، لكن أراد بالتأكيد احتمال التخصيص، ثم جعل الأمر الأول مواجها به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والثاني مواجها به جميع الناس، فكلا الأمرين عام في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجميع أمته، لكن غاير بين الأمرين ليمنع من تغيير الأمر في المأمور به، وليكون كل واحد منهما جاريا على عمومه.
7. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود والنصارى، ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ من الخوض في إفتان المسلمين عن دينهم بذلك.
8. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ يعني استقبال الكعبة، ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ يعني استقبال بيت المقدس، بعد أن حوّلت قبلتك إلى الكعبة، ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ يعني أن اليهود لا تتبع النصارى في القبلة، فهم فيها مختلفون، وإن كانوا على معاندة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متفقين، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ يعني في القبلة، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يعني في تحويلها عن بيت المقدس إلى الكعبة.
9. ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وليس يجوز أن يفعل النبي ما يصير به ظالما، وفي هذا الخطاب وجهان:
أ. أحدهما: أن هذه صفة تنتفي عن النبي، وإنما أراد بذلك بيان حكمها لو كانت.
ب. الثاني: أن هذا خطاب للنبي والمراد به أمته.
10. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني اليهود والنصارى، أوتوا التوراة، والإنجيل، ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: يعرفون أن تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة حق كما يعرفون أبناءهم.
ب. الثاني: يعرفون الرسول وصدق رسالته كما يعرفون أبناءهم.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾ يعني علماءهم وخواصّهم، ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: أن الحق هو استقبال الكعبة.
ب. الثاني: أن الحق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا قول مجاهد وقتادة.
11. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: يعلمون أنه حق متبوع.
ب. الثاني: يعلمون ما عليه من العقاب المستحق.
12. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرتك به شهود من قبلتهم، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي من الشاكّين، يقال: امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مرّة، والشك أخرى، فدافع أحدهما بالآخر.
13. سؤال وإشكال: أفكان شاكّا حين نهى عنه؟ والجواب: هذا وإن كان خطابا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فالمراد به غيره من أمته.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/202.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. سؤال وإشكال: لم قلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجهه في السماء، والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما ـ انه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس، وكان يفعل ذلك انتظاراً وتوقعاً لما وعد به.
ب. الثاني ـ انه كان يحبه محبة الطباع، ولم يكن يدعو به حتى أدركه فيه، لان الأنبياء لا يدعون إلا بما أذن لهم فيه لئلا تكون المصلحة في خلاف ما سألوه فيكون في ردهم تنفرّ عن قبول قولهم، وهذا الجواب يروى عن ابن عباس، وقتادة.
2. في سبب محبة التوجه الى الكعبة اقوال:
أ. قيل: انه أحب ذلك، لأنها كانت قبلة ابراهيم ـ حكاه الزجاج ـ انها أحب ذلك استدعاء العرب الى الايمان.
ب. وقيل: لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا عن مجاهد.
ج. قيل: إن اليهود قالوا ما دري محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم، عن ابن زيد.
د. قيل: كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم حريصا على استدعائهم إلى الدين.
3. ﴿قَدْ نَرَى﴾ فالرؤية هي ادراك الشيء من الوجه الذي يتبين بالبصر، ﴿تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ التقلب والتحول والتصرف نظائر: وهو التحرك في الجهات ﴿تَرْضَاهَا﴾ تحبها، والرضاء ضد السخط: وهو ارادة الثواب، والسخط ارادة الانتقام.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ﴾:
أ. قيل: اي نحوه، وتلقاه بلا خلاف بين اهل اللغة، وعليه المفسرون كابن عباس، ومجاهد، وأبي العالية، وقتادة، والربيع، وابن زيد، وغيرهم. قال الشاعر:
çوقد أظلكم من شطر ثغركم...هول له ظلم يغشاكم قطعاé
اي من نحو ثغركم وانشد ابن عبيدة الهذلي:
çان العسير بها داء مخامرها...فشطرها نظر العينين محسورé
وقال ابن احمر:
çتعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة...قد كارب العقد من ايفادها الحقباé
ب. وقال الجبائي: أراد بالشطر النصف، كأنه قال وجهك نصف المسجد، لأن شطر الشيء: نصفه، فأمره ان يولي وجهه نحو نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة، وهذا فاسد، لأنه خلاف أقوال المفسرين، ولان اللفظ إذا كان مشتركاً بين النصف، وبين النحو ينبغي ألّا يحمل على أحدهما إلا بدليل، وعلى ما قلناه اجماع المفسرين.
5. قال الزجاج: يقال: هؤلاء القوم شاطرونا دورهم، تتصل بدورنا كما يقال هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم وهم نحونا، وقال صاحب العين شطر كل شيء نصفه وشطره: قصده ونحوه، ومنه المثل احلب حلباً لك شطره اي نصفه، وشطرت الشيء جعلته نصفين، وقد شطرت الشاة شطاراً: وهو ان يكون احد طستها اكثر من الآخر وان حلبا جميعاً، ومنزل شطر: اي بعيد، وشطر فلان على اهله: اي تركهم مراغماً أو مخالفاً، ورجل شاطر، وقد شطر شطورة، وشطوراً وشطارة: وهو أعيا اهله خبثاً، وأصل الشطر النصف.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قال السدي المعني بقوله ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ هم اليهود.
ب. قال غيره: هم أحبار اليهود، وعلماء النصارى غير انهم جماعة قليلة يجوز على مثلهم اظهار خلاف ما يبطنون، لان الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع الى العادة، وانه لم يجز بذلك مع اختلاف الدواعي، وإنما يجوز العناد على النفر القليل، وقد مضى فيما تقدم نظير ذلك، وان على ما نذهب اليه في الموافاة لا يمكن أن يكونوا عارفين بذلك إلا أن يكون نظيرهم لا يوجه وجوب المعرفة، فإذا حصلت المعرفة عند ذلك فلا يستحقون عليه الثواب لان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يمنع منه ان يكونوا مستحقين للثواب الدائم ويكفرون فيستحقون العقاب الدائم والإحباط باطل، فيؤدي ذلك الى اجتماع الاستحقاقين الدائمين وذلك خلاف الإجماع.
7. هذه الآية ناسخة لفرض التوجه الى بيت المقدس قبل ذلك، وروي عن ابن عباس انه قال أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة، وقال قتادة: نسخت هذه الآية ما قبلها، وقال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن ـ وهذا هو الأقوى ـ، لأنه ليس في القرآن مما يدل على تعبده بالتوجه الى بيت المقدس، ومن قال انها نسخت قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ قلنا له هذه ليست منسوخة بل هي مختصة بالنوافل ـ في حال السفر ـ فأما من قال يجب على الناس ان يتوجهوا الى الميزاب الذي على الكعبة ويقصدوه، فقوله باطل، لأنه خلاف ظاهر القرآن. قال ابن عباس: البيت كله قبلة ـ وهو قول جميع المفسرين، وروى بعض اصحاب الحديث: ان البيت هو القبلة وان قبلته بابه، وهذا يجوز. قال فأما ان يجب على جميع الخلق التوجه اليه، فهو خلاف الإجماع.
8. {حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله ان ذلك في الفرض، وقوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ في النافلة، وروى عن ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي: انه لما حول الى الكعبة اتى رجل من عبد الأشهل من الأنصار وهم قيام يصلون الظهر وقد صلوا ركعتين نحو بيت المقدس، فقال: ان الله قد صرف رسوله نحو البيت الحرام، فصرفوا وجوههم نحو البيت الحرام في بقية صلاتهم.
9. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ موضع كنتم جزم بالشرط، وتقديره وحيث ما تكونوا، والفاء جواب ولولا (ما) لم يجز الجزاء (بحيث) لخروجها عن نظائرها، بانه لا يستفهم بها، ولان الاضافة لها كالصلة لغيرها، وليست بصلة كصلة أخواتها، والهاء في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ﴾ على قول الجبائي يعود الى التحويل، وقال الحسن: هي عائدة الى التوجه الى الكعبة، لأنها قبلة ابراهيم، والأنبياء قبله.
10. ﴿الْحَقُّ﴾ وضع الشيء في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح.
11. الغفلة: هي السهو عن بعض الأشياء خاصة وإذا كان السهو عاماً فهو فوق الغفلة وهو السهو العام، لأن النائم لا يقال: انه غفل عن الشيء الا مجاز.
12. قال عطاء في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قال الحرم كله مسجد، وهذا مثل قول أصحابنا أن الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من أهل الآفاق.
13. اختلف الناس في صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الى بيت المقدس:
أ. قال قوم: كان يصلي بمكة الى الكعبة، فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه الى بيت المقدس سبعة عشر شهراً ثم أعيد الى الكعبة.
ب. وقال قوم: كان يصلي بمكة الى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه.
ج. وقال قوم: بل كان يصلي بمكة، وبعد قدومه المدينة سبعة عشر شهراً الى بيت المقدس، ولم يكن عليه ان يجعل الكعبة بينه وبينها، ثم أمره الله بالتوجه الى الكعبة.
14. اختلف النحويون في أن جواب ـ لئن ـ لم كان جواب (لو) فقال الأخفش، ومن تبعه أجيبت بجوابـ لو، لان الماضي وليها كما يلي لو فاجيبت بجواب (لو) ودخلت كل واحدة منهما على صاحبتها قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ فجرى مجرى ولو أرسلنا وقال ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ على جواب لئن، وقال سيبويه وجميع أصحابه: ان معنى ﴿لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ ليظلن ومعنى (لئن) غير معنى (لو) في قول الجماعة، وإن قالوا إن الجواب متفق لأنهم لا يدفعون أن معنى (لئن) ما يستقبل ومعنى (لو): ما مضى وحقيقة معنى (لو) أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره. كقولك لو أتيتني لأكرمتك أي لم تأتني فلم أكرمك، فامتنع الإكرام، لامتناع الإتيان، ومعنى (إن) (ولئن) انما يقع بهما الشيء لوقوع غيره تقول: إن تأتني أكرمك، فالإكرام يقع بوقوع الإتيان وقال بعضهم: إن كل واحدة منهما على موضعها، وإنما لحق في الجواب هذا التداخل، لدلالة اللام على معني القسم، فجاء الجواب بجواب القسم، فاغني عن جواب الجزاء لدلالته عليه، لان معني لظلوا ليظلن وهذا هو معنى قول سيبويه، ويجوز أن تقول: إن أتيتني لم أجفك، ولا يجوز أن تقول: إن اتيتني ما حفوتك، لان (ما) منفصلة (ولم) كجزء من الفعل. ألا ترى أنه يجوز ان تقول: زيداً لم أضرب، ولا يجوز زيداً ما ضربت، وانما يجاب الجزاء بالفعل أو الفاء، فإذا تقدم لام القسم جاز، فقلت لئن أتيتني ما جفوتك.
15. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ وقد آمن منهم خلق؟ والجواب: عن ذلك جوابان:
أ. أحدهما ـ قال الحسن: إن المعنى أن جميعهم لا يؤمن، وهو اختيار الجبائي.
ب. الثاني ـ أن ذلك مخصوص لمن كان معانداً من أهل الكتاب دون جميعهم الذين وصفهم الله، فقال ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ اختاره البلخي والزجاج.
16. هذه الآية دالة:
أ. على فساد قول من قال لا يكون الوعيد بشرط.
ب. وعلى فساد قول من قال بالموافاة، وإن من علم الله أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا، لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أن يكون متى تحصل الشرط تحصل استحقاق العقاب.
ج. وفيها دليل على فساد قول من قال إن الوعيد لا يقع لمن علم أنه لا يعصي، لأن الله تعالى علم من حال الرسول أنه لا يتبع أهواءهم ومع هذا يوعده إن اتبع أهواءهم.
17. في الآية دلالة على بطلان قول من قال إن في المقدور لطفاً، لو فعل الله بالكافر لآمن لا محالة، من قبل أنه قيل في قوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ أن المعاند لا ينفعه الدلالة لأنه عارف.
ب. والآخر أنه لا لطف لهم فتلتمسه ليؤمنوا.
وعلى القولين فيه دلالة على فساد قول أصحاب اللطف، لان مخرجه مخرج التنصل من التخليف عنهم ما يؤمنون عنده طوعاً، فلو قال قائل: وما في أن الآية لا ينفعهم في الايمان لطف ينفعهم فيه لكان لا يسقط سؤاله إلا بأن يقال: لا لطف لهم كما لا آية تنفعهم.
18. في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدهما ـ {لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} في المداراة لهم حرصاً على أن يؤمنوا ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لنفسك مع اعلامنا إياك: ﴿أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. هذا قول أبي علي الجبائي.
ب. الثاني ـ الدلالة على أن الوعيد يجب باتباع أهوائهم فيما دعوا اليه من قبلتهم، وأنه لا ينفع مع ذلك عمل سلف، لأنه ارتداد، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به كل من كان بتلك الصفة. كما قال ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ وهذا قول الحسن، والزجاج.
ج. الثالث ـ ان معناه الدلالة على فساد مذاهبهم، وتبكيتهم بها. كما تقول: لئن قيل عنك أنه لخاسر تريد به التبكيت على فساد رأيه، والتبعيد من قبوله.
19. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أربعة اقوال:
أ. أولها ـ أنه لما قال ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ على وجه المقابلة كما تقول: ما هم بتاركي انكار الحق وما أنت بتارك الاعتراف به، فيكون الذي جرّ الكلام التقابل للكلام الاول، وذلك حسن من كلام البلغاء.
ب. الثاني ـ أن يكون المراد أنه ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلنهم لاختلاف وجهتهم، لان النصارى يتوجهون الى المشرق، واليهود الى بيت المقدس، فبين الله تعالى: أن رضا الفريقين محال.
ج. الثالث ـ أن يكون المراد حسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا انه يرجع الى الصلاة الى بيت المقدس، وماجوا في ذكره.
د. الرابع ـ انه لما كان النسخ مجوزاً قبل نزول هذه الآية، فأنزل الله تعالى الآية، ليرتفع ذلك التجوز.
20. في قوله تعالى: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ قال الحسن، والسدي، وابن زيد، والجبائي: أنه لا يصير النصارى كلهم يهوداً، ولا اليهود كلهم يصيرون نصارى أبداً، كما لا يتبع جميعهم الإسلام، وهذا من الاخبار بالغيب.
ب. وقال غيرهم: معناه إسقاط الاعتلال بأنه مخالفة لأهل الكتاب الذين ورثوا ذلك عن أنبياء الله بأمره إياهم به، فكلما جاز أن يخالف بين وجهتهم للاستصلاح جاز ان يخالف بوجهة ثالثة للاستصلاح في بعض الازمان.
21. بينا حد الظلم فيما تقدم، واعترضنا قول من قال هو الضرر والقبيح الذي يستحق به الذّم من حيث أن ذلك ينقض بفعل الساهي، والنائم، والطفل، والمجنون ـ إذا كان بصفة الظلم ـ فإنه يكون قبيحاً وان لم يستحقوا به ذمّاً، ومن خالف في ذلك كان الكلام عليه في موضع آخر. على ان المخالف في ذلك ناقض، فإنه قال ان الكذب يقع من الصبي ويكون قبيحاً، وهذا إذا جاز. هلا جاز ان يقع منه الظلم؟ فان قال لان العقل للإنسان البالغ، يزجر الصبي عن ذلك بالتأديب. قلنا مثل ذلك في الظلم سواء.
22. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يعرفون أبناءهم، وأن جماعة منهم يكتمون الحق مع علمهم بأنه حق، وقيل في الحق الذي كتموه قولان:
أ. أحدهما ـ قال مجاهد: كتموا محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
ب. الثاني ـ قال الربيع: انهم كتموا أمر القبلة.
23. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ يعلمون صحة ما كتموه.
ب. الثاني ـ يعلمون ما لمن دفع الحق من العقاب والذم.
24. اختلف في (الهاء) في قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾:
أ. قيل: عائدة ـ في قول ابن عباس، وقتادة، والربيع ـ على أن أمر القبلة حق.
ب. وقال الزجاج هي عائدة على أنهم يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحة أمره، وثبوت نبوته.
25. إنما قال: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ وفي أوّل الآية قال: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ على العموم، لان أهل الكتاب منهم من أسلم وأقر بما يعرف فلم يدخل في جملة الكاتمين. كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما ممن دخل في الإسلام.
26. العلم والمعرفة واحد، وحدّه ما اقتضى سكون النفس، وإن فصّلت، قلت: هو الاعتقاد للشيء على ما هو به مع سكون النفس، وفصل الرماني بين العلم والمعرفة، بأن قال المعرفة هي التي يتبين بها الشيء من غيره على جهة التفصيل، والعلم قد يتميز به الشيء على طريق الجملة دون التفصيل كعلمك بان زيداً في جملة العشرة، وإن لم تعرفه بعينه وإن فصلت بين الجملة التي هو فيها، والجملة التي ليس هو فيها، وهذا غير صحيح لان المعرفة أيضاً قد يتميز بها الشيء على طريق الجملة، فلا فرق بينهما.
27. سؤال وإشكال: لم قال ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ إنهم أبناءهم في الحقيقة، ويعرفون أن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم هو النبي المبشر به في الحقيقة؟ والجواب: التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم: وهي معرفة تميزه بها من غيره، وبين المعرفة بالنبي المبشر به في الحقيقة، فوقع التشبيه بين معرفتين. إحداهما أظهر من الأخرى.
28. ﴿الْحَقُّ﴾ مرتفع بأنه خبر ابتداء محذوف وتقدير ذاك الحق من ربّك أو هو الحق من ربك، ومثله مررت برجل كريم زيد: اي هو زيد، ولو نصب كان جائزاً في العربية على تقدير اعلم الحق من ربك.
29. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ قيل: معناه من الشاكين ذهب اليه ابن زيد، والربيع، وغيرهما من المفسرين، والامتراء الاستخراج، وقيل: الاستدرار، فكأنه قال فلا تكن من الشاكين فيما يلزمك استخراج الحق فيه. قال الأعشى:
çتدرّ على اسؤق الممتري...ن ركضاً إذا ما السراب ارجحنé
يعني الشاكين في درورها، لطول سيرها، وقيل: المستخرجين ما عندها. قال صاحب العين: المري مسحك ضرع الناقة. تمر بها بيدك لكي تسكن، للحلب، والريح تمري السحاب مرياً، والمرية من ذلك، والمرية الشك، ومنه الامتراء، والتماري، والمماراة، والمراء، وأصل الباب الاستدرار، ويقال: بالشكر تمترى النعم اي تستدر.
30. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾:
أ. قال الحسن، والربيع، والجبائي: معنى الآية ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ في الحق الذي تقدم اخبار الله به من أمر القبلة، وعناد من كتم النبوة وامتناعهم من الاجتماع على ما قامت به الحجة.
ب. وقال بعضهم: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ في شيء يلزمك العلم به، وهو الاولى، لأنه أعم، والخطاب وان كان متوجهاً الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فالمراد به الامة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾
ج. وقال قوم: إن الخطاب له، لأنه إنما لا يجوز عليه ذلك لملازمته أمر الله، ولو لم يكن هناك أمر لم يصح أن يلازم.
31. النون الثقيلة يؤكد بها الامر والنهي، ولا يؤكد بها الخبر، لما كان المخبر يدل على كون المخبر به، وليس كذلك الأمر والنهي، والاستخبار، لأنه لا يدل على كون المدلول عليه، فألزم الخبر التأكيد بالقسم وما يتبعه من جوابه، واختصت هذه الأشياء بنون التأكيد ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد، ولما كان الخبر أصل الجمل أكد بأبلغ التأكيد وهو القسم.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/14.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرؤية: إدراك الشيء بالبصر، ونظيره أبصره، يقال: رأى يرى رؤية، ثم يستعمل بمعنى العلم، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ و﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ والتقلب: التحريك في الجهات، والتقلب والتصرف والتحول نظائر.
ب. الرضا يرجع إلى الإرادة، فإذا قيل: رضي عمله، فكأنه أراده، وإذا قيل: رضي عنه، فكأنه أراد ثوابه وتعظيمه، ونقيضه السخط، وهو يرجع إلى أنه يريد عقابه، ورضي وأحب وأراد من النظائر.
ج. الشطر: النصف، ويقال: شطر كذا أي نحوه.
د. الحرام: المحرم، حرَّمه تحريمًا إذا منعه عنه، ثم يختلف باختلاف المواضع، فَحَرَّم الأُمَّ أي نكاحَها، وحرم الطعام أي أَكْلَه، وحرم مال الغير ليتصرف فيه، وسمي البيت الحرام قيل: لأنه ممنوع عن الاصطلام، كما مُنِع من أصحاب الفيل، وقيل: لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره.
هـ. الغفلة: سهو يعتري الإنسان، وهو ذهاب العلم بما جرت العادة بعلمه.
و. الآية: الحجة والعلامة.
ز. الهوى: هوى النفس، وهو مما يميل إليه الطبع، والهواء ممدُود: الجو.
ح. الظالم: على ضربين: يقال: ظالم لنفسه إذا أضر بنفسه، وإن لم يستحق الذم، وظالم مطلقًا، وهو اسم ذم.
ط. المعرفة والعلم والدراية نظائر.
ي. الفريق: الطائفة.
ك. الكتمان نقيض الإظهار، والمرية والشك من النظائر.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وُعِد التحويل عن بيت المقدس، ولم يبين إلى أي موضع يحوله، فكان يقلب طرفه في السماء توقعًا وانتظارًا لما وُعِدَ به، وكان يُحَسِّنُ أن يكون قبلته الكعبة، فأتاه جبريل بهذه الآية، عن الحسن والسدي وأبي علي.
ب. وقيل: كان يحب ذلك محبة طباع، ولم يكن يدعو به حتى أذن له فيه، وكان يستأذن جبريل، فقال: سل ربك فجعل يديم النظر إلى السماء، فنزلت الآية، عن ابن عباس وقتادة.
ج. وقال أبو مسلم: لولا الأخبار لاحتمل أن يكون ذلك أول مقدمه المدينة، فقد روي أنه كان بمكة يصلي، ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه، فانتظر أمر الله، فنزلت الآية.
3. اختلفوا في صلاته بمكة:
أ. فقيل: كان يصلي إلى الكعبة، فلما هاجر أمر بالتوجه إلى بيت المقدس.
ب. وقيل: بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس، ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس.
ج. وقيل: بل كان يصلي إلى بيت المقدس، حكاه أبو القاسم، قال جعفر بن مبشر: أمر بالتوجه إلى بيت المقدس لا باختياره.
4. الصحيح أنه كان وعد التحويل، وكان لا يحب من تلقاء نفسه؛ لأنه يعلم أن المصلحة ما يأمره به ربه، وأن ما تميل إليه الطباع لا يكون مصلحة، فحاشاه أن يتبع ذلك، وإذا سأل فلا بد أن يسأل بإذن؛ لأنه إذا سأل بغير إذن فربما تكون المصلحة في خلافه، فإذا رد كان فيه تنفير، وقد سأل ما فيه مفسدة، فما يحبه يحبه بأمر الله تعالى، وما يسأله يسأله بإذنه، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ وهذا ينفي أن يسأله بغير الوحي.
5. ثم بَيَّنَ تعالى أمر القبلة: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ يا محمد: ﴿فِي السَّمَاءِ﴾:
أ. قيل: لانتظار الموعود.
ب. وقيل: لانتظار الوحي في أمر القبلة.
6. إنما قلب طرفه نحو السماء لأن جبريل يأتيه بالوحي من السماء، وقد قال بعضهم: أنه منع عن استقبال بيت المقدس، ولم تُعَيّن له القبلة، فضاق صدره أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة، فكان يقلب وجهه نحو السماء، وليس بالوجيه؛ لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه.
7. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ لنحولنك: ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾:
أ. قيل: تريدها وتحبها.
ب. وقيل: قبلة وأنت راض بكل وجهة تؤمر بها، عن الأصم.
8. سؤال وإشكال: لماذا أحب التحويل، وكره ما كان عليه؟ والجواب:
أ. قيل: فيه مخالفة لليهود، وتميز منهم، عن مجاهد وابن زيد.
ب. وقيل: لأنه قبلة إبراهيم، عن ابن عباس.
ج. وقيل: لاستدعاء العرب للإيمان؛ إذ هو موافق لقومه، حكاه الزجاج.
د. وقيل: لأنه وُعِد ذلك فعلم أنه المصلحة فأحبه لذلك، وهو الصحيح، ويحتمل أنه أحب جميع ذلك؛ إذ لا تنافي فيه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾:
أ. قيل: يعني فول نفسك، ووجه الشيء: نَفْسُهُ.
ب. وقيل: ذكر الوجه لأنه به يظهر التوجه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾:
أ. قيل: نحو المسجد الحرام، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وأكثر أهل العلم.
ب. وقيل: وسط المسجد الحرام؛ لأنه من سائر جنباته هو النصف والشطر النصف، والكعبة واقعة بين المسجد في النصف من كل جهة، فكأنه عبارة عن الكعبة، في معنى قول أبي علي، قال القاضي: هو الأصح.
11. ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ يعني مسجد مكة، وإنما أمر به لأن القبلة هي الكعبة، والكعبة هي المسجد، واختلفوا:
أ. فقيل: البيت كله قبلة، وعليه الإجماع.
ب. وروي عن بعضهم أن على الناس أن يقصدوا الميزاب، وهو خلاف الإجماع.
12. قيل: حولت القبلة في رجب بعد زوال الشمس، وهو يصلي، فتحول، عن قتادة وغيره: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ يعني أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر، سهل أو جبل ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، وإنما كرر ذلك؛ لأن الأول كان خطابا لمن كان في المدينة، فجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم، فَبَيَّنَ تعالى أنه قبلة لجميع المصلين أينما كانوا من مشارق الأرض ومغاربها.
13. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أُعطوا:
أ. قيل: أراد اليهود خاصة، والكتاب: التوراة، عن السدي.
ب. وقيل: أحبار اليهود وعلماء النصارى، وهو الصحيح، لعموم اللفظ، والكتاب: التوراة والإنجيل، ولا بد أن يكونوا عددًا قليلاً؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾:
أ. قيل: التحويل حق مأمور به، عن أبي علي.
ب. وقيل: التوجه إلى الكعبة حق؛ لأنها قبلة إبراهيم والأنبياء قبله، عن الحسن.
ج. وقيل: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حق، ودينه حق، وقبلته حق؛ لأنه مذكور فيما تقدم، عن القاضي.
15. روي أنهم قالوا عند التحويل: ما أمرت بها يا محمد، هذا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك، مرة إلى ههنا، ومرة إلى ههنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾:
أ. قيل: من كتمان ذلك، ومخالفة حقك، وإبطال أمرك.
ب. وقيل: يعني يعلم أعمالكم ويحفظها لكم، ليجازيكم بها، وفيه وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.
17. لما بَيَّنَ تعالى فيما تقدم أن الَّذِينَ أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق بيَّن أن حالهم لا يتغير في العناد والمخالفة، فقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ﴾ وفي الكلام معنى القسم، كأنه قيل: والله لئن أتيت ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: أهل العناد من علماء اليهود والنصارى، عن الزجاج والأصم وأبي القاسم.
ب. وقيل: المراد جميع اليهود والنصارى، عن الحسن وأبي علي.
ج. وقيل: هم العلماء وأهل العناد عن الأصم.
18. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أقوال:
أ. الأول: أنه رَفعٌ لتجويز النسخ، وبيان أنه لا ينسخ هذه القبلة.
ب. الثاني: حسمًا لأطماع أهل الكتاب حين رَجَوْا الرجوع إلى بيت المقدس.
ج. الثالث: للمقابلة، يعني ما هم بتاركين باطلهم، وما أنت بتارك حقك.
د. الرابع: أراد لا عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم؛ لأن ذلك معصية.
هـ. الخامس: ما أنت بتابع قبلتهم عَرَّفَهُ نَسْخَهُ، وأنه لا ينتقل.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: يعني اليهود كلهم لا يتبعون النصارى، والنصارى كلهم لا يتبعون اليهود، عن الحسن والسدي وابن زيد وأبي علي.
ب. وقيل: أراد به العلماء أي علماء اليهود لا تتَنَصَّر، وعلماء النصارى لا تتهود.
ج. ويحتمل أنه على العموم؛ لأنه لم يثبت أن يهوديًا تنصّر، ولا نصرانيًّا تهوّد، فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل، عن القاضي.
د. وقيل: هذا إبطال لاعتلالهم أنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتهما للمصلحة جاز أن يكون لمصلحة في ثالث.
هـ. وقيل: أراد به اليهود والنصارى ومشركي العرب، عن الأصم.
و. وقيل: قبلة اليهود في جهة المغرب لبيت المقدس قبلة، وقبلة النصارى من جهة المشرق الموضع الذي ولد فيه عيسى.
20. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾ يا محمد ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ فيه أربعة أقوال:
أ. الأول: ولئن اتبعت أهواءهم في المداراة حرصًا على أن يؤمنوا: ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لنفسك؛ إذ قد أعلمتك أنهم لا يؤمنون، عن أبي علي.
ب. الثاني: الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم فيما دعوا إليه من ملتهم، وأنّ اتباعهم ردة، والخطاب للنبي، والمراد كل من كان بتلك الصفة، عن الحسن والزجاج، قال الحسن: يعني ظلم الشرك؛ لأنهم دعوا المؤمنين إلى دينهم.
ج. الثالث: الدلالة على فساد مذهبهم، وأن من تبعه كان ظالمًا.
د. الرابع: زجر له عن مقاربتهم والركون إليهم ليستمروا علي عداوتهم تقوية لنفسه ولمتبعي شريعته، عن القاضي.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾:
أ. قيل: من الآيات والوحي الذي هو طريق العلم.
ب. وقيل: من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من الدين والقبلة.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾
أ. قيل: لمن الظالمين لنفسك بارتكاب صغيرة، عن أبي علي.
ب. وقيل: إنك إذًا بمنزلتهم في كفرهم وظلمهم، قال القاضي: وهذا أولى لأن ما وقع منهم يجب أن يُتناول على ظلم النفس، لا ما المعلوم أنه لا يقع، ونظيره: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾.
23. لما ذكر الله تعالى عناد اليهود والنصارى، وإنكارهم لنبوته حقق ذلك فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني أعطيناهم الكتاب، وهم العلماء فيهم ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾:
أ. قيل: يعرفون النبي وصحة أمره، عن الأصم وأبي مسلم والزجاج، قال أبو مسلم: والضمير يعود إلى قوله: ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ يعني النبوة فلذلك ذكره.
ب. وقيل: يعرفون أن أمر القبلة حق، عن ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
24. ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ قيل: إنه ضرب مثلاً في توكيد العلم كما تعرفون من نسبتموه إلى أنفسكم ولدًا ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا﴾ يعني طائفة من أهل الكتاب؛ لأن منهم من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ هذا ذم لهم على كتمانه ووعيد، واختلفوا في المكتوم:
أ. قيل: أَمْرُ محمد وكان مكتومًا عندهم، عن مجاهد وجماعة، هو أولى؛ لأنه يشتمل على القبلة وغيره، ولأنه لم يثبت أن أمر القبلة كان معلومًا عندهم بخلاف أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: أمر القبلة عن الربيع.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: صحة الأمر الذي كتموه.
ب. وقيل: يعلمون ما على مَنْ كَتَمَ حقًّا من العقاب.
26. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني هو الحق من ربك، وهو ما آتاه من الكتاب والوحي والشرائع ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾:
أ. قيل: يعني من الشاكين.
ب. قيل: لا تكن من الشاكين أن من تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك وأمر القبلة، وأنهم عاندوا وكتموا، عن الحسن وابن زيد وأبي علي.
ج. وقيل: من الشاكين في أمر القبلة.
د. وقيل: في صحة نبوتك وهو الأقرب.
هـ. وقيل: فيما لزمك العلم به.
27. اختلف في الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾:
أ. فقيل: هو خطاب لغير الرسول؛ لأنه لا يشك.
ب. وقيل: خطاب له وإن علم أنه لا يقع منه كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾
ج. وقيل: خطاب له ولغَيْرِه جميعًا وهو الأولى؛ لأنه إنما لا يجوز عليه الشك لأنه مُنْتَفٍ عنه، عن علي بن عيسى.
د. وقيل: يجوز أن ينهى عن القبائح، كما يجوز أن يؤمر بالواجبات وإن علم أنه يفعل، عن القاضي.
28. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن الله تعالى راءٍ للأشياء، وحقيقته إدراك المرئي، وحمله على العلم خلاف الظاهر على ما تزعمه البغدادية.
ب. أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ينتظر الوحي بتحويل القبلة، وأن ذلك سائغ للأنبياء.
ج. أنه انتظر ذلك لمحبة منه لما وُعِد، ولما علم أنه المصلحة، ولا يحمل على محبة الطباع لما بينا، وتدل أنه انتظر ذلك بعد مسألته، ومعرفته أنه يجاب إليه، وتدل على أنه كان لا يعرف وقت التحويل.
د. نسخ الأولى ولزوم الثانية، قال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة، وقال قتادة: نسخت هذه الآية ما قبلها، قال جعفر بن مبشر: هذا مما نسخ السنة بالقرآن.
هـ. يدل قوله: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ﴾ أي نحوه؛ لأن الكعبة فيه، والمعتبر بالبقعة؛ لأنه لو زال البناء فإن الصلاة تجب نحوه، ولأن البقعة هي الموصوفة بأنها وسط المسجد خلاف ما يقوله بعضهم.
و. جواز الصلاة في البيت؛ لأن المصلي فيه يصلى إلى ناحية منه كالمصلي خارج البيت.
ز. أن المراد به الأمة وإن كان الخطاب له للإجماع، ولقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾.
ح. وجوب الاجتهاد في التوجه؛ لأن مَنْ في بقاع الأرض لا يمكنه التوجه إلا من طريق الاجتهاد.
ط. على بطلان قول أصحاب الموافاة لقوله: ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ دل أن الوعيد يلحقهم في الحال.
ي. على بطلان قول أصحاب اللطف؛ لأنه قال: ﴿بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ وعندهم أن في المقدور أنه لو أتاهم لاتبعوا قبلته، وهذا خلاف الظاهر، وقيل معناه: المعاند لا تَنْفَعُهُ الآية، وقيل: معناه لا لطف لهم، وعلى هذين الوجهين يبطل قولهم.
ك. أن جميع الكفار لا يؤمنون.
ل. أن العبد مختار قادر على الاتباع، وترك الاتباع، وأن الّاِتباع فِعْلُهُم؛ لذلك أضافه إليهم، وذمهم عليه.
م. على قبح العناد وما يلزم كاتم الحق من الوعيد.
ن. على النهي عن الشك في المواضع التي يجب فيها العلم.
س. على صحة أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر القبلة.
ع. على جواز وقوع الشك من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقدرته عليه، وإن علم أنه لا يقع لِوَليِّه لما نهى عنه، فتدل على أن القدرة على خلاف المعلوم جائز، وعلى ما لا يقع، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ.
29. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿تَعْلَمُونَ﴾ بالتاء على الخطاب للمسلمين، والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود.
30. مسائل نحوية:
أ. ﴿كُنْتُمْ﴾ جزم بالشرط، فإنه قيل: حيث تكونوا، والفاء جواب، ولولاها لم يجز الجواب بـ ﴿حَيْثُ﴾؛ لخروجها عن نظائرها، بأنه لا يستفهم بها، ولأن الإضافة لها كالصلة لغيرها، وليست كصلة أخواتها.
ب. ﴿شَطْرَهُ﴾ نصب على الظرف، والعامل فيه: ﴿فَوَلِّ﴾.
ج. لئن: بمعنى: ﴿لَوْ﴾، وأجيب بجوابـ ﴿لَوْ﴾، وللعلماء فيه خلاف:
• فقيل: إنهما لما تقاربا تداخلا، واستعمل كل واحد منهما مكان الآخر، وأجيب بجوابه، ونظيره: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾ ثم قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ على جواب لو، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ ثم قال: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ على جوابـ ﴿لَئِنْ﴾، وذلك أن أصل: ﴿لَوْ﴾ للماضي، و﴿لَئِنْ﴾ للمستقبل، عن الأخفش.
• وقيل: إن كل واحد منهما على مواضعها، وإنما لحق في الجواب هذا التداخل، لدلالة اللام على معنى القسم في الجواب، كجواب القسم، يعني عن جواب الجزاء لدلالته عليه، فمعنى: ﴿لَظَلُّوا﴾ ليظلن، عن سيبويه.
د. الحق: رفع لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: ذلك الحق، أو هو الحق، ونظيره: مررت برجل كريمِ زيد؛ أي: هو زيد، وقيل: تقديره: جاءك الحق، ولو نصب جاز في العربية على: اعْلَم الحقَّ من ربك أو اقرأ الحق من ربك، والنون في قوله: لتكونن للتأكيد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/628.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرؤية: هي إدراك الشيء بالبصر، ونظيره الإبصار، ثم تستعمل بمعنى العلم.
ب. التقلب والتحول والتصرف نظائر: وهو التحرك في الجهات.
ج. التولي: يقال: وليتك القبلة أي: صيرتك تستقبلها بوجهك، وليس هذا المعنى في فعلت منه، لأنك تقول: وليت الدار، فلا يكون فيه دلالة على أنك واجهتها، ففعلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت، وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة في نحو قوله: ﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وقوله: (ويولوكم الأدبار) فهذا منقول من قولهم داري تلي داره، تقول: وليت ميامنه، وولاني ميامنه، مثل فرح وفرحته.
د. الرضا والمحبة نظيران، وإنما يظهر الفرق بضديهما، فالمحبة: ضدها البغض، والرضا: ضده السخط، وهو يرجع إلى الإرادة، فإذا قيل: رضي عنه، فكأنه أراد تعظيمه وثوابه، وإذا قيل: رضي عمله، فكأنه أراد ذلك، والسخط: إرادة الانتقام.
هـ. شطر المسجد الحرام: أي: نحوه وتلقاءه، قال الشاعر:
çوقد أظلكم من شطر ثغركم... هول له ظلم يغشاكم قطعاé
أي: من نحو ثغركم، وقال:
çإن العسير بها داء يخامرها... فشطرها نظر العينين محسورé
أي: نحوها، قال الزجاج: يقال هؤلاء القوم مشاطرونا أي: دورهم تتصل بدورنا، كما يقال هؤلاء يناحوننا أي: نحن نحوهم، وهم نحونا، وقال صاحب العين: شطر كل شيء نصفه، وشطره نحوه وقصده، ومنه المثل: (أحلب حلبا لك شطره) أي: نصفه، وشطرت الشيء أي: جعلته.
و. الحرام: المحرم، كما أن الكتاب بمعنى المكتوب.
ز. الحساب بمعنى المحسوب.
ح. الحق: وضع الشيء في موضعه، إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح.
ط. الغفلة: هي السهو عن بعض الأشياء خاصة، وإذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة، لأن النائم لا يقال له غفل إلا مجازا.
ي. الامتراء: الاستخراج، وقيل: الاستدرار، قال الأعشى:
çتدر على أسوق الممترين... وكفا، إذا ما السحاب ارجحنé
يعني الشاكين في درورها لطول سيرها، وقيل: المستخرجين ما عندها، قال صاحب العين: المري مسحك ضرع الناقة تمريها لتسكن للحلب، والريح تمري السحاب مريا، والمرية من ذلك، والمرية: الشك، ومنه الامتراء والتماري والمماراة، والمراء: الجدال، وأصل الباب الاستدرار، يقال: (بالشكر تمترى النعم) أي: تستدر.
2. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ يا محمد ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ لانتظار الوحي في أمر القبلة.
3. قيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان:
أ. أحدهما: إنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس، فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا للموعود، كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها.
ب. الثاني: إنه كان يكره قبلة بيت المقدس، ويهوى قبلة الكعبة، وكان لا يسأل الله تعالى ذلك، لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه، لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة، فلا يجابون إلى ذلك، فيكون فتنة لقومهم.
4. اختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة:
أ. قيل: لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وقبلة آبائه، عن ابن عباس.
ب. وقيل: لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا، ويتبع قبلتنا، عن مجاهد.
ج. وقيل: إن اليهود قالوا: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم، عن ابن زيد.
د. وقيل: كانت العرب يحبون الكعبة، ويعظمونها غاية التعظيم، فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم، ليكونوا أحرص على الصلاة إليها، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم حريصا على استدعائهم إلى الدين.
هـ. ويحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه، إذ لا تنافي بينها.
5. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي: فلنصرفنك إلى قبلة تريدها وتحبها، وإنما أراد به محبة الطباع، لا أنه كان يسخط القبلة الأولى.
6. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: حول نفسك نحو المسجد الحرام، لأن وجه الشيء نفسه، وقيل: إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه، وقال أبو علي الجبائي: أراد بالشطر النصف، فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام، حتى يكون مقابل الكعبة، وهذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين.
7. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي: أينما كنتم من الأرض، في بر أو بحر، أو سهل أو جبل، فولوا وجوهكم نحوه، فالأول: خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل المدينة والثاني: خطاب لجميع أهل الآفاق، ولو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب، فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض ومغاربها.
8. ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب، والبيت قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض كلها، وهذا موافق لما قاله أصحابنا إن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: أراد به علماء اليهود.
ب. وقيل: علماء اليهود والنصارى.
10. ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم، أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين، وروي أنهم قالوا عند التحويل: ما أمرت بهذا يا محمد، وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك، مرة إلى هنا، ومرة إلى هنا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون.
11. ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي: ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والمعاندة، ودل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون، يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب، وعلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون، فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، ولا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون.
12. هذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس، وقال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة، وقال قتادة: نسخت هذه الآية ما قبلها، وقال جعفر بن مبشر: هذا مما نسخ من السنة بالقرآن وهذا هو الأقوى، لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس، ومن قال إنها نسخت قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر، روي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وليست بمنسوخة.
13. اختلف الناس في صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس:
أ. فقال قوم: كان عليه السلام يصلي بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة، أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس، ثم أعيد إلى الكعبة.
ب. وقال قوم: كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها، ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه.
ج. وقال قوم: بل كان يصلي بمكة، وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس، ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة.
14. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ في الكلام معنى القسم أي: والله لئن أتيت الذين أعطوا الكتاب:
أ. يعني أهل العناد من علماء اليهود والنصاري، عن الزجاج والبلخي.
ب. وقيل: المعني به جميع أهل الكتاب، عن الحسن وأبي علي.
15. ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أي: بكل حجة ودلالة ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي: لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني، وعلى القول الأول لا يؤمن منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة، وإنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم.
16. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: إنه رفع لتجويز النسخ، وبيان أن هذه القبلة لا تنسخ.
ب. ثانيها: إنه على وجه المقابلة لقوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق، وما أنت بتارك الاعتراف به، فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول.
ج. ثالثها: إن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم، لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق، الموضع الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، واليهود إلى بيت المقدس، فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال.
د. رابعها: إن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود، إذ كانوا طمعوا في ذلك، وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس.
17. في قوله تعالى: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أقوال:
أ. أحدهما: إنه لا تصير النصارى كلهم يهودا، أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا، كما لا يتبع جميعهم الاسلام، وهذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن والسدي.
ب. الآخر: إن معناه اسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب، فيما ورثوه عن أنبياء الله، وأن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء، فهو أولى بأن يكون قبلة أي: فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح، جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح.
ج. ويحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر، لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر، ولا أن نصرانيا تهود، فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل، وهذا قول القاضي.
18. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه أربعة أقوال:
أ. أولها: إن المراد به غيره من أمته، وإن كان الخطاب له، والمراد الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم، وأن اتباعهم ردة، عن الحسن والزجاج.
ب. ثانيها: إن المراد إن اتبعت أهواءهم في المداراة لهم، حرصا أن يؤمنوا، إنك إذا لمن الظالمين لنفسك، مع أعلامنا إياك أنهم لا يؤمنون، عن الجبائي.
ج. ثالثها: إن معناه الدلالة على فساد مذاهبهم، وتبكيتهم بها، وأن من تبعهم كان ظالما.
د. رابعها: إنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم ومقاربتهم، تقوية لنفسه، ومتبعي شريعته، ليستمروا على عداوتهم، عن القاضي.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾:
أ. قيل: أي: من الآيات والوحي الذي هو طريق العلم.
ب. وقيل: من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من القبلة والدين.
20. ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ هو مثل قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إنه لا يصح الوعيد بشرط، وإن من علم الله تعالى أنه يؤمن، لا يستحق العقاب أصلا، لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أنه متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب.
21. وفيها دلالة على فساد قول من زعم أن في المقدور لطفا، لو فعله الله تعالى بالكافر لآمن لا محالة، لقوله {إن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك}، فعلى قول من قال المراد به المعاند، لا ينفعه شيء من الآيات، وعلى قول من قال المراد به جميع الكفار، فلا لطف لهم أيضا يؤمنون عنده، فعلى الوجهين معا يبطل قولهم.
22. وفيها دلالة أيضا على أن جميع الكفار لا يؤمنون.
23. أخبر الله سبحانه بأنهم يعرفون النبي عليه السلام وصحة نبوته، فقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ﴾ أي: أعطيناهم ﴿الْكِتَابِ﴾ وهم العلماء منهم ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفون محمدا، وأنه حق ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾:
أ. قيل: والضمير في يعرفونه يعود إلى العلم من قوله: ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ يعني النبوة.
ب. وقيل: الضمير يعود إلى أمر القبلة أي: يعرفون ان أمر القبلة حق، عن ابن عباس.
24. سؤال وإشكال: كيف قال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم كانوا يعرفون أبناءهم من جهة الحكم، ويعرفون أمر النبي عليه السلام من جهة الحقيقة؟ والجواب: إنه شبه المعرفة بالمعرفة، ولم يشبه طريق المعرفة بطريق المعرفة، وكل واحدة من المعرفتين كالأخرى، وإن اختلف الطريقان.
25. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ إنما خص الفريق منهم، لأن من أهل الكتاب من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما.
26. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وهو ما آتاه الله من الوحي والكتاب والشرائع، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾:
أ. قيل: من الشاكين في الحق الذي تقدم إخبار الله تعالى به، وفي عناد من كتم النبوة وامتناعهم من الاجتماع على ما قامت به الحجة.
ب. وقيل: من الممترين في شيء يلزمك العلم به، وهذا أولى لأنه أعم.
27. الخطاب وإن كان متوجها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالمراد به الأمة، كقوله عز اسمه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ وأمثاله.. وقيل: الخطاب له لأنه يجوز عليه ذلك لملازمته أمر الله سبحانه، ولو لم يكن هناك أمر، لم تصح الملازمة، وفي هذا دلالة على جواز ثبوت القدرة على خلاف المعلوم، خلافا لقول المجبرة.
28. مسائل نحوية:
أ. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾: موضع: ﴿كُنْتُمْ﴾ جزم بالشرط، وتقديره وحيثما تكونوا.
ب. الفاء وما بعده في موضع الجزاء، ولا يجازى بحيث وإذ، حتى يكف كل واحد منهما بما، وذلك لأنهما لا يكونان إلا مضافين إلى ما بعدهما من الجملة، قبل المجازاة بهما فألزما في المجازاة: ﴿مَا﴾ لتكفهما عن الإضافة، لأن الإضافة تمنع الجزاء بهما، وذلك لأن الفعل إذا وقع في موضع اسم، ارتفع المضاف إليه في موضع اسم مجرور، وموضعه جر بالإضافة، فيمتنع جزمه بالجزاء، مع وجود شرط الرفع فيه، فلما كان كذلك، كفا بما لتهيئهما لجزم فعل الشرط بالجزاء.
ج. ﴿شَطْرَ﴾: منصوب على الظرف.
د. اختلف النحويون في أن: ﴿لَئِنْ﴾ لم أجيبت بجواب لو:
• فقال الأخفش: أجيبت بجواب لو لأن الماضي وليها كما يلي لو، فدخلت كل واحدة منهما على صاحبتها، قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾، فجرى: ﴿لَئِنْ﴾ مجرى: ﴿لَوْ﴾، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾، ثم قال: ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾، فجرى مجرى لئن.
• وقال سيبويه وأصحابه: إن معنى لظلوا ليظلن، فمعنى لئن غير معنى لو، وكل واحدة منهما على حقيقتها، وحقيقة معنى لو أنها يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، كقولك لو أتيتني لأكرمتك، فامتنع الإكرام لامتناع الإتيان، ومعنى إن أن يقع بها الشيء لوقوع غيره، تقول: إن تأتني أكرمك، فالإكرام يقع بوقوع الإتيان ولو لما مضى، وإن لما يستقبل، وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم، فمجيء جواب القسم أغنى عن جواب الشرط، لدلالته عليه، وكذلك قوله: ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ليس بجواب للشرط على الحقيقة، ولكنه جواب القسم، وقد أغنى عن الجزاء بدلالته عليه، وإنما يجاب الشرط بالفعل أو بالفاء أو بإذا على ما هو مشروح في مواضعه.
هـ. ﴿الْحَقُّ﴾: مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره ذلك الحق، أو هو الحق، ومثله مررت برجل كريم زيد أي: هو زيد، ولو نصب لجاز في العربية على تقدير اعلم الحق من ربك، أو اقرأ الحق.
و. النون في (لا تكونن): نون التأكيد، يؤكد بها الأمر والنهي، ولا يؤكد بها الخبر، لما كان يدل على كون المخبر به، وليس كذلك الأمر والنهي والاستخبار فألزم الخبر التأكيد بالقسم، وجوابه، واختصت هذه الأشياء بنون التأكيد، ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد، ولما كان الخبر أصل الجمل، أكد بأبلغ التأكيد، وهو القسم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/419.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، واختلفوا في سبب اختيار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الكعبة على بيت المقدس على قولين:
أ. أحدهما: لأنّها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس.
ب. الثاني: لمخالفة اليهود، قاله مجاهد.
2. معنى تقلّب وجهه: نظره إليها يمينا وشمالا، و(في) بمعنى إلى، و﴿تَرْضَاهَا﴾ بمعنى: تحبّها، و(الشّطر): النّحو من غير خلاف.
3. اختلف العلماء أيّ وقت حوّلت القبلة؟ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها حوّلت في صلاة الظّهر يوم الاثنين للنّصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار.
ب. الثاني: أنها حوّلت يوم الثّلاثاء للنّصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة، قاله قتادة.
ج. الثالث: جمادى الآخرة، حكاه ابن سلامة المفسّر عن إبراهيم الحربيّ.
4. في ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: اليهود، قاله مقاتل.
ب. الثاني: اليهود والنّصارى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
5. قوله تعالى: ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ يشير إلى ما أمر به من التّوجّه إلى الكعبة، ثم توعّدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا، ومن أين علموا أنه الحقّ؟ فيه أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ في كتابهم الأمر بالتّوجّه إليها، قاله أبو العالية.
ب. الثاني: يعلمون أنّ المسجد الحرام قبلة إبراهيم.
ج. الثالث: أنّ في كتابهم أنّ محمّدا رسول صادق، فلا يأمر إلا بحقّ.
د. الرابع: أنهم يعلمون جواز النّسخ.
6. ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، يريد: الكعبة ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ لأنّ اليهود يصلّون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنّصارى قبل المشرق ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ فصلّيت إلى قبلتهم ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، قال مقاتل: يريد بالعلم: البيان.
7. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾. في هاء (يعرفونه) قولان:
أ. أحدهما: أنّها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل، وروي عن ابن عباس أيضا.
8. في الحقّ الذي كتموه قولان:
أ. أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد.
ب. الثاني: أنه التّوجّه إلى الكعبة، قاله السّدّيّ، ومقاتل في آخرين.
9. في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: وهم يعلمون أنه حقّ.
ب. الثاني: وهم يعلمون ما على مخالفته من العقاب.
10. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ قال الزّجّاج: أي: هذا الحقّ من ربّك، والممترون: الشّاكّون، والخطاب عامّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/121.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة،
ب. الثاني: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، وهو أنه لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمه المدينة، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
2. القائلون بأن الانتظار كان لتحويله من بيت المقدس إلى الكعبة، ذكروا وجوهاً:
أ. أحدها: أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس، ويجب التوجه إلى الكعبة، إلا أنه ما كان يتكلم بذلك، فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى، روي عن ابن عباس أنه قال: (يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها) فقال له جبريل: (أنا عبد مثلك فأسال ربك ذلك) فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أمورا:
• الأول: أن اليهود كانوا يقولون: إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل، فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم.
• الثاني: أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم.
• الثالث: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقدر أن يصير ذلك سبباً لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام.
• الرابع: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر، واعترض القاضي على هذا الوجه وقال: أنه لا يليق به صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها، وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه، ويميل إليها بحسب شهوته لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل.. وهذا التأويل قليل التحصيل، لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه، فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه.
ب. الثاني: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أستأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك، فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة.
ج. الثالث: قال الحسن: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى، ولم يبين له إلى أي موضع يحولها، ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة، فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة، والقائلون بهذا الوجه اختلفوا:
• فمنهم من قال إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة، فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة، ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم.
• وقال آخرون: بل وعد بذلك، وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية، نحو: رغبة العرب في الإسلام، والمباينة عن اليهود، وتمييز الموافق من المنافق، فلهذا كان يقلب وجهه، وهذا الوجه أولى، وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى، بل كانت مبتدأة، والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه.
د. الرابع: أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء.
3. اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس:
أ. قال قوم: كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً.
ب. وقال قوم: بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.
ج. وقال قوم: بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط، وبالمدينة أولًا سبعة عشر شهراً، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
4. اختلفوا في توجه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره، أو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره:
أ. قد كان مخيراً في ذلك، قاله الربيع بن أنس، واحتج هؤلاء بالقرآن والخبر:
• أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115] وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء.
• وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب (أحكام القرآن): أن نفراً قصدوا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة، وكان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبي الآخرون وقالوا: إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له: قد كنت على قبلة ـ يعنى بيت المقدس ـ لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين.
ب. كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير، قاله ابن عباس، واحتج هؤلاء بأنه تعالى قال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، فدل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة.
وعلى أي الوجهين كان قد صار منسوخاً.
5. المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة، ومن الناس من قال التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، واحتجوا عليه بالقرآن والأثر:
أ. أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولًا قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ثم ذكر بعد: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142]، ثم ذكر بعده: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فلزم أن يكون قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه.
ب. أما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، فوجب أن يكون قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس.
6. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا، إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمة بيت المقدس.
7. في قوله تعالى: ﴿تَرْضَاهَا﴾ وجوه:
أ. أحدها: ترضاها، تحبها وتميل إليها، لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع، قال القاضي: هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى: فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها، لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف، ويقدح في حال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يريده في حال التكليف، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى: أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك.
ب. ثانيها: ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.
ج. ثالثها: قال الأصم: أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
د. رابعها: ﴿تَرْضَاهَا﴾ أي ترضي عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.
8. المراد من الوجه في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه.
9. الشطر: اسم مشترك يقع على معنيين:
أ. أحدهما: النصف يقال: شطرت الشيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه.
ب. الثاني: نحوه وتلقاءه وجهته، واستشهد الشافعي في كتاب (الرسالة) على هذا بأبيات أربعة: قال خقاف بن ندبة:
çألا من مبلغ عمراً رسولا...وما تغني الرسالة شطر عمروé
وقال ساعدة بن جؤبة:
çأقول لأم زنباع: أقيمي...صدور العيس شطر بني تميمé
وقال لقيط الأيادي:
çوقد أظلكم من شطر شعركم...هول له ظلم يغشاكم قطعاé
وقال آخر:
çإن العسير بها داء مخامرها...فشطرها بصر العينين مسحورé
قال الشافعي: يريد تلقاءها بصر العينين مسحور.
10. في الشطر في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختيار الشافعي: أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه، قرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام.
ب. الثاني: وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر هاهنا: وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف، والكعبة واقعة في نصف المسجد من جميع الجوانب، فلما كان الجواب هو التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة واقعة في المسجد حسن منه تعالى أن يقول: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة، قال القاضي: ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان:
• أ. الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد، ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته.
• الثاني: أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة، أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة، فإنه لو قيل: فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة، فلما قيل: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ حصلت هذه الفائدة الزائدة، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى.
11. سؤال وإشكال: لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة، وهي أنه لو قال فول وجهك المسجد الحرام، لزم تكليف ما لا يطاق، لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد، أما إذا قال فول وجهك شطر المسجد الحرام، أي جانب المسجد، دخل فيه الحاضرون والغائبون، والجواب: هذه الفائدة مستفادة من قوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فلا يبقى لقوله: شطر المسجد الحرام زيادة فائدة، هذا تقرير هذا الوجه، وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف، وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني، إلا أن اللفظ لا يدل عليه.
12. اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو؟
أ. عن ابن عباس أنه قال البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك.
ب. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة، والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال أخبرني أسامة بن زيد، قال لما دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة، قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة، وفي خبر البراء بن عازب: ثم صرف إلى الكعبة وكان يجب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء: فأتاهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس: جاء منادى رسول الله فنادى: أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات.
ج. وقال آخرون: بل المراد المسجد الحرام كله، قالوا: لأن الكلام يجب إجزاؤه على ظاهر لفظ إلا إذا منع منه مانع.
د. وقال آخرون: المراد من المسجد الحرام الحرم كله، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الأسراء: 1] وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما أسرى به خارج المسجد، فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
13. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
14. قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ عام في الأشخاص والأحوال، إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب، بل أنه طاعة لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير المجالس ما استقبل به القبلة)، فبقي أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة.
15. قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ ليس بتكرار، لوجهين:
أ. أحدهما: أن قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ خطاب مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا مع الأمة، وقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ خطاب مع الكل.
ب. ثانيها: أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة، فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
16. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ يعنى: وأينما كنتم وموضع (كنتم) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل: حيثما تكونوا، والفاء جواب.
17. اختلف في المراد بقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: اليهود خاصة، والكتاب هو التوراة عن السدي.
ب. وقيل: بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل، ولا بد أن يكونوا عدداً قليلًا لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان.
18. الضمير في قوله: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ راجع إلى مذكور سابق، وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة:
أ. فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها.
ب. ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وأنهم يعلمون أنه الحق، وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره، ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك؟ وذكروا فيه وجوهاً:
• أحدها: أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين.
• ثانيها: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
• ثالثها: أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقاً.
19. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي: تعملون بالتاء على الخطاب للمسلمين، والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود:
أ. إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفي على جدكم واجتهادهم في قبول الدين، فلا أخل بثوابكم.
ب. وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يجعلها لهم كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]
20. لما بين الله تعالى في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق، بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، فقال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾
21. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾:
أ. قال الأصم: المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 144] واحتج عليه بوجوه:
• أحدها: قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى، ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس، بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم، ثم ينكرون بألسنتهم، فهم المتبعون للهوى.
• ثانيها: أن ما قبل هذه الآية وهو قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء، وما بعدها وهو قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [الأنعام: 20] مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان، وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة.
• ثالثها: أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم، ومستمرون على باطلهم، وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات، وهذا شأن المعاند اللجوج، لا شأن المعاند المتحير.
• رابعها: أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبع قبلته.
ب. قال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واحتجوا عليه بأن قوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ صيغة عموم فيتناول الكل، ثم أجابوا المخالفين:
• عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة، لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق، فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى.
• عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم، وفي الآية الثانية كلهم.
• عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات، والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلًا في الكل.
• عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون، وقولنا: كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن.
22. احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم، قال لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف، لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون، فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع.
23. احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه.
24. احتج أهل السنة، ومن وافقهم به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلًا وهو محال، ومستلزم المحال محال، فكان ذلك محالًا وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6].
25. إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان، وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة، بل هو محض المكابرة والعناد والحسد، وذلك لا يزول بإيراد الدلائل.
26. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾:
أ. قال الحسن والجبائي: أراد جميعهم، كأنه قال لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [الأنعام: 35]
ب. وقال الأصم وغيره: بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن.
ج. وقال القاضي: إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن، وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضاً ذلك التأويل، وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم، لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ وبين قوله: ما تبع أحد منهم قبلتك.
27. ﴿لَئِنْ﴾ بمعنى (لو) وأجيب بجواب لو، وللعلماء فيه خلاف:
أ. قيل: إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر، وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾ [الروم: 51] ثم قال: ﴿لَظَلُّوا﴾ على جواب: (لو) وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ [البقرة: 103] ثم قال ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ على جواب: ﴿لَئِنْ﴾ وذلك أن أصل (لو) للماضي (ولئن) للمستقبل هذا قول الأخفش.
ب. وقال سيبويه: إن كل واحدة منهما على موضعها، وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم، فجاء الجواب كجواب القسم.
28. الآية: وزنها فعلة أصلها: أية، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها، والآية الحجة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القوم بآيتهم جماعتهم، وسميت آية القرآن بذلك:
أ. لأنها جماعة حروف.
ب. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها.
ج. وقيل: لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
29. روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.. والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة.
30. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أقوال:
أ. الأول: أنه دفع لتجويز النسخ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة.
ب. الثاني: حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.
ج. الثالث: المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك.
د. الرابع: أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم، لأن ذلك معصية.
هـ. الخامس: وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق، فالزم قبلتك ودع أقوالهم.
31. ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال(2).:
أ. أما على الحال فمن وجوه:
• الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها.
• الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون.
• الثالث: أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث.
ب. أما حمل الآية على الاستقبال، ففيه إشكال وهو أن قوله: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم يتبع قبلة الآخر، فالخلف غير لازم، وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص.
32. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف، واختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب:
أ. قال بعضهم: الرسول.
ب. وقال بعضهم: الرسول وغيره.
ج. وقال آخرون: بل غيره، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب، وهذا القول خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح، والإلجاء عنه مرتفع، فهو منهي عنه، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله، ويدل عليه وجوه:
• أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل.
• ثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير.
• ثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا.
• رابعها: قوله تعالى في حق الملائكة: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: 29] مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50] وقال في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وقد أجمعوا على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أشرك وما مال إليه، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1] وقال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9] وقال: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67] وقوله: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14] فثبت بما ذكرنا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم منهي عن ذلك، وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
33. تخصيص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنهي دون غيره لوجوه:
أ. أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر، فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص.
ب. ثانيها: أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير.
ج. ثالثها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة وفي الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
34. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾:
أ. قيل: أن قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام، طمعاً منه صلّى الله عليه وآله وسلّم في استمالتهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية على ما قال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74]
ب. وقيل: إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة.
35. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات، لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر، والغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفًا ومرتبة.
36. دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يدل على ذلك.
37. ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ المراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم، والغرض منه التهديد والزجر.
38. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم، والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة، ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل.
39. الضمير في قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ فيه وجوه:
أ. أحدها: أنه عائد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أي يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم.. وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام، وهو أولى من وجوه:
• أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [البقرة: 145] والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره ألبتة.
• ثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
• ثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
ب. الثاني: الضمير في قوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ راجع إلى أمر القبلة: أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
40. سؤال وإشكال: لا تعلق لهذا الكلام ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ بما في حال اعتبار الضمير فيه عائدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأمر القبلة، والجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن اتباع اليهود والنصارى بقوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145] أخبر المؤمنين بحاله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية فقال: اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
41. سؤال وإشكال: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157] وقال: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6] إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملًا على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.. وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنا نقول: هب أن التوراة اشتملت على أن رجلًا من العرب سيكون نبياً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حد اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والجواب: هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه، ونحن لا نقول به، بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأنبياء وأبوة الآباء.
42. سؤال وإشكال: على هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم علماً برهانياً غير محتمل للغلط، أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علماً يقيناً بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟ والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يشبه العلم بنبوة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره، فكذا هاهنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
43. سؤال وإشكال: لم خص الأبناء الذكور؟ والجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول منهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فوصف البعض بذلك.
44. دل بقوله: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ على سبيل الذم، على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المكتوم فقيل: أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقيل: أمر القبلة.
45. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أن يكون ﴿الْحَقُّ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق، وقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ يجوز أن يكون خبراً بغير خبر، وأن يكون حالًا.
ب. ويجوز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وقرأ على: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ على الإبدال من الأول، أي يكتمون الحق من ربك.
46. في الألف واللام في قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن يكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو إلى الحق الذي في قوله: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك.
ب. الثاني: وأن يكون للجنس على معنى: الحق من الله تعالى لا من غيره يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل.
47. في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أقوال:
أ. أحدها: فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وأن بعضهم عاند وكتم، قاله الحسن.
ب. ثانيها: بل يرجع إلى أمر القبلة، وثالثها: إلى صحة نبوته وشرعه، وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة، فقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ وجب أن يكون راجعاً إليه.
48. أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكاً فيه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/95.
(2) الكلام هنا للقفال.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، ومعنى ﴿تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾: تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب، وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي.
2. معنى ﴿تَرْضَاهَا﴾ تحبها، قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾
3. ﴿فَوَلِّ﴾ أمر ﴿وَجْهَكَ شَطْرَ﴾ أي ناحية ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس، وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية، والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس، وقد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي)
4. ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته، وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به:
çأقول لأمّ زنباع أقيمي...صدور العيس شطر بني تميمé
وقال آخر:
çوقد أظلكم من شطر ثغركم...هول له ظلم يغشاكم قطعاé
وقال آخر:
çألا من مبلغ عمرا رسولا...وما تغني الرسالة شطر عمروé
وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: (الطهور شطر الايمان)، ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر (بالضم) شطارة فيهما، وسيل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه.
5. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
6. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ يريد اليهود والنصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني تحويل القبلة من بيت المقدس، وعلموا ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم:
أ. لأنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به.
ب. لأنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.
7. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ قراء ابن عامر وحمزة والكسائي (تعملون) بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد، وقرأ الباقون بالياء من تحت.
8. (لو) تطلب في جوابها المضي والوقوع، و(لئن) تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب (لو) لان المعنى: ولو أتيت، وكذلك تجاب (لو) بجواب (لئن)، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾) أي ولو أرسلنا ريحا، وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى (لئن) مخالف لمعنى (لو) فلا يدخل واحد منهما على الأخر، فالمعنى: ولين أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ ليظلن.
9. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ لفظ خبر ويتضمن الامر، أي فلا تركن إلى شي من ذلك، ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم، وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم، والأول أظهر.
10. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه، والاهواء: جمع هوى.
11. ﴿الَّذِينَ﴾ في موضع رفع بالابتداء والخبر ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾، ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة لـ (الظالمين)، و(يعرفون) في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وقيل: (يعرفون) تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق، قاله ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا.
12. خص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، وإن كانت ألصق لان الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه، وروي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه.
13. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله مجاهد وقتادة وخصيف، وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا.
14. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾.
15. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم، وروي عن علي أنه قرأ (الحق) منصوبا بـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أي يعلمون الحق، ويصح نصبه على تقدير الزم الحق، والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك الحق. قال النحاس: فأما الذي في الأنبياء ﴿الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾) فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة البقرة مبتدأ آية، والذي في الأنبياء ليس كذلك.
16. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي من الشاكين، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته، يقال: امتري فلان في] كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى، ومنه المراء لان كل واحد منهما يشك في قول صاحبه، والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذا التماري، وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى:
çتدر على أسوق الممترين...من ركضا إذا ما السراب ارجحنé
قال ابن عطية: ووهم في هذا، لان أبا عبيدة وغيره قال الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري.. ومعنى الشك فيه موجود، لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شي، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جريه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره، والاسم المرية (بالكسر) وقد تضم، ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها لتدر، وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية (بالكسر)، والضم غلط، والمرية: الشك، وقد تضم، وقرئ بهما.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/159.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾: تحوّل وجهك إلى السماء، قاله قطرب، وقال الزجّاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب.
2. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ هو إما من الولاية: أي فلنعطينك ذلك، أو من التولّي: أي فلنجعلنك متوليا إلى جهتها، وهذا أولى لقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
3. المراد بالشطر هنا: الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية، ومنه قول الشاعر:
çأقول لأمّ زنباع أقيمي...صدور العيس شطر بني تميمé
ومنه أيضا قول الآخر:
çألا من مبلغ عمرا رسولا...وما تغني الرّسالة شطر عمروé
وقد يراد بالشطر النصف، ومنه (الطّهور شطر الإيمان)، ومنه قول عنترة:
çإنّي امرؤ من خير عبس منصبا...شطري وأحمي سائري بالمنصلé
قال ذلك؛ لأن أباه من سادات عبس وأمّه أمة، ويرد بمعنى البعض مطلقا، ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا: الكعبة، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدلّ على ذلك بما يمكنه الاستدلال به.
4. الضمير في قوله: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحوّل إلى جهة الكعبة، أو لكونهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون ذلك موجبا عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ﴾ هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن أتيت؛ وقوله: ﴿مَا تَبِعُوا﴾ جواب القسم المقدّر، قال الأخفش والفرّاء: أجيب لئن: بجواب لو، لأن المعنى: ولو أتيت، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ أي: ولو أرسلنا، وإنما قالا هكذا؛ لأن لئن هي ضد لو، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضيّ والوقوع، ولئن تطلب في جوابها الاستقبال، وقال سيبويه: إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا﴾: ليظللن.
6. في هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وترويح خاطره، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحقّ وإن جاءهم بكل برهان فضلا عن برهان واحد، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحقّ، بل كان تركهم للحقّ تمرّدا وعنادا، مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبدا.
7. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي: لا تتبع يا محمد قبلتهم، ويمكن أن يكون على ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب، وقطعا لما يرجونه من رجوعه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى القبلة التي كان عليها.
8. ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على متابعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصّه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته، قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس.
9. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغرّاء والملة الشريفة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك الضدّ لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين ويخرجونه منه، وهو يظنّ أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين؛ وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية.
10. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ قيل: الضمير لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي: يعرفون نبوّته، روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم؛ وقيل: يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي قدّمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأوّل، وعندي أن الراجح الآخر، يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات.
11. ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ هو عند أهل القول الأوّل: نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعند أهل القول الثاني: استقبال الكعبة.
12. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول، ويحتمل أن يراد به جنس الحق؛ على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: الحقّ: هو الذي من ربك لا من غيره، وقرأ عليّ بن أبي طالب: الحقّ، بالنصب على أنه بدل من الأول، أو منصوب على الإغراء، أي: الزم الحق.
13. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والامتراء: الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة، أي: لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/178.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما انطوى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على إرادة التوجه إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود ـ أجابه الحق إلى ذلك بقوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ أي تردد وجهك وتصرّف نظرك في جهة السماء تشوفا لنزول الوحي بالتحويل، وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل، وهذا ألطف مما قيل: إن تقلب وجهه كناية عن دعائه، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتحويل، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة، فهي متقدمة في المعنى، فإنها رأس القصة.
2. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها، ودل على أن مرضيّه الكعبة، بفاء السبب في قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي نحوه وجهته.
3. التعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد، وأما سرّ الأمر بالتولية خاصا وعاما، فقال الراغب: أما خطابه الخاص فتشريفا له وإيجابا لرغبته، وأما خطابه العام بعده، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص، عليه السلام، به، كما خص في قوله ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: 2]، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطر، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف، ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة.
4. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ قال الفخر: الضمير في قوله ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ راجع إلى مذكور سابق، وقد تقدم ذكر الرسول، كما تقدم ذكر القبلة، فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وأنهم يعلمون أنه الحق، وهذا الاحتمال الأخير أقرب، لأنه أليق بالمساق، ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق. فكان هذا التحويل حقا.
5. ثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقيّة ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيانه أن أمره تعالى للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكافة من اتبعه، باستقبال الكعبة، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به، فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية (ويقال الاستثناء) هكذا: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران)، وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء والإنجيل على عيسى في جبل سعير، لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة، وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في جبل فاران، وفاران هي مكة. لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب، ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرّية وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برّية فاران.. ولا شك أن إسماعيل، عليه السلام، كان سكناه في مكة وفيها مات وبها دفن.. وقال ابن الأثير: وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبرانيّ، له ذكر في أعلام النبوة.
6. لما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي من اليهود والنصارى ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ أي برهان قاطع أنّ التوجه إلى الكعبة هو الحق ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي هذه التي حوّلت إليها، لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
7. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ هذا حسم لأطماعهم في العود إليها، أو للمقابلة، يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك، ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ فلا اتفاق بين فريقيهم، مع كون الكل من بني إسرائيل، قال الزمخشريّ: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده، وفيه إراحة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من التطلع إلى هدى بعضهم.
8. سؤال وإشكال: إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ والجواب(2).: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، وهذا صحيح، بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا، ولكن آمن بعضهم، لم يكن منافيا، وقيل: عني به أقوام مخصوصون.
9. في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته، فمن المحال أن يرتد(2).، ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق: أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول، وإن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ، أجيب: إن الذي يقدّر أنه معرفة، هو ظن متصور بصورة العلم، فأما أن يحصل له العلم الحقيقيّ ثم يعقبه الارتداد ـ فبعيد، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة، فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد.
10. قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله(3).، بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق، وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة، فهم مع اليهود، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة، البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلّون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلّوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.
11. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم، مثلا، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي المرتكبين الظلم الفاحش، وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته، ويتبع الهوى، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق، أفاده الزمخشريّ.
12. حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم(2).، ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقيق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع، وقول من قال الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنيّ به الأمة، فلا معنى لتخصصه، فإن الله تعالى يحذر نبيه من إتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره، فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج، حفظا لمنزلته وصيانة لمكانته.
13. في الآية تنويه بشأن العلم، حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم، فذلك ينبّه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
14. دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم، لأن قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ يدل على ذلك، ذكره الرازيّ.
15. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ أي يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معرفة لا امتراء فيها، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولادهم الناس، وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب، كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157]، يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبيّ الموعود بحيث لا يلتبس عليهم، كما يعرفون أبناءهم، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم، فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية، بالمعرفة الحسيّة في أن كل منهما يقينيّ، لا اشتباه فيه.
16. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾ أي أهل الكتاب، مع ذلك التحقق والإيقان العلميّ ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي يخفونه ولا يعلنونه ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي الحق، أو عقاب الكتمان، أو أنهم يكتمون، قال الراغب: لم يقل يكتمونه، لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة، وزاد في ذمهم بقوله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فإنه ليس المرتكب ذنبا عن جهل، كمن يرتكبه عن علم.
17. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي الحق من الله، لا من غيره، يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله، كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من الله، كالذي عليه أهل الكتاب، فهو الباطل، أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وقرأ عليّ ﴿الْحَقُّ﴾ بالنصب على الإبدال من الأول، كما في الكشاف، أو المفعولية ل ﴿يَعْلَمُونَ﴾، كما قاله أبو البقاء.
18. ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكّين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في الحق الذي جاءك من ربك، وهو ما أنت عليه، ومعلوم أن الشك غير متوقع منه، ففيه تعريض للأمّة، وقال الراغب: ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاكّ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك قوله ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: 46]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/426.
(2) الكلام هنا للراغب.
(3) الكلام هنا لابن القيم.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿قَدْ نَرَى﴾ تَحَقَّق أَنَّا لَنعلَمُ، وقال سيبويه: كثر تقلُّب وجهك، ﴿تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ حال الدعاء، ﴿فِي السَّمَآءِ﴾ تعليل جمليٌّ ثان لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا﴾، والأوَّل ﴿لِنَعْلَمَ مَن يَّتَّبِعُ﴾.
2. روي أنَّه أمره الله بعد الهجرة باستقبال المقدس تأليفًا لليهود فرضِيَ وأحبَّ، وكان بطبعه يحبُّ استقبال الكعبة لأنَّها أشرف وأقدم للملائكة قبل آدم، ولأنَّها قبلة آدم إلى إبراهيم وإسماعيل ومن بعدهما حتَّى نزلت التوراة، ولأنَّ الأنبياء تحجُّه، ولأنَّه أدعى للعرب إلى الإسلام وهم أفضل، ولهم قرابة وأنفع في الإسلام وأقوى، ولو كان استقبال القدس أدعى لليهود، ولأنَّه أغيظ لهم وأشدُّ مغايرة، ولأنَّه لو لم يتحوَّل لوجدوا مقالاً إذ علِموا أنَّه يؤمر بالتَّحوُّل، ولأنَّهم قالوا: يخالفنا ويتَّبع قبلتنا، وقال لجبريل: (وددت لو حوَّلني الله إلى الكعبة)، فقال جبريل: إنَّما أنا عبد مثلك، ثمَّ عرج جبريل وجعل النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم يديم النظر في جِهَةِ السماء رجاء نزوله باستقبال الكعبة، فنزلت ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ﴾.
3. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ فوالله لنصيِّرنَّك تاليًا قبلة محبوبة لك بالطبع، وما معه من دواعي الدين كما رأيت، وَأَمَّا بيت المقدس فهو أيضًا يحبُّ استقباله امتثالاً لأمر الله تعالى ؛ أو لَنوجِّهنَّك إلى قبلة ترضاها، قيل: لا تدعو الأنبياء بشيء حتَّى يأذن الله لهم فيه خوف أنْ يكون فتنة لقومهم، وقد روي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم استأذن جبريل أنْ يدعو الله في شأنٍ فأخبره أنَّ الله تعالى قد أذن له أنْ يدعو فيه، والواضح أنَّه لا يلزمهم أنْ يستأذنوا، وقد جاءت أخبار بأنَّهم دعوا بدون استئذان، وليس ذلك خروجًا عن الأدب، وما ورد فيه معاتبة له صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنَّما هو لأسرار خفيَّةٍ.
4. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ﴾ جهة، ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ جهته، لا لذاته بل للكعبة فيه، وهي التي تقصد، ولكن ذَكَرَ شطرَ المسجد وهو الحَرَم لأنَّه يتعذَّر الجزم بإصابة عينها مع عدم معاينتها والبعد عنها.
5. نزلت في رجب بعد الزوال قبل بدر بشهرين، وقد صلَّى بأصحابه في مسجد بني سلِمة ـ بكسر اللَّام ـ في زيارة أمِّ بشر بن البراء بن معرور، وقد صنعت لهم طعامًا ركعتين من الظهر، وقيل: كان في ركوع الركعة الثَّانية فتحوَّل واستقبل الميزاب، وتبادل الرِّجال والنِّساء صفوفًا، وزاد الرَّكعتين الباقيتين، ولا يضرُّ ذلك صلاتهم ولو كثرت الخطى والأعمال، ورفع الأقدام، والقيام من الرُّكوع بمشي؛ لأنَّهم في إصلاح الصلاة بذلك، وفي امتثال أمرِ اللهِ.
6. وقيل: قدم المدينة في ربيع الأوَّل، وصلَّى إلى بيت المقدس تمام السنة، وصلَّى من سنة اثنتين سبعة أشهرٍ أو ستَّة أشهرٍ ثمَّ حوِّلت الكعبة في جمادى، وقيل: يوم الثلاثاء نصف شعبان، وقيل: نصف رجب يوم الاِثنين، وقيل: في صلاة العصر، وقيل: في صلاة الفجر، وذلك قبل بدر بشهرين، وقيل: مرَّ رجلٌ ببني سلِمة فناداهم وهم ركوعٌ في صلاة الفجر نحو بيت المقدس: (ألا إنَّ القبلة قد حوِّلت للكعبة)، فمالوا كلُّهم ركوعًا إليها، وروي ذلك في قباء في صلاة الفجر، وأنَّه قال المارُّ: ألا إنَّ القبلة قد حوِّلت الليلة.
7. وقال السيوطي: حديث بني سلِمة تحريف، فإنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن إماما في تلك الصَّلاة ولا هو الذي تحوَّل في الصَّلاة، فإنَّ أبا سعيد بن المعلَّى روى أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قرأ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ﴾ الآية، فنزل فصلَّى الظهر أربعًا، قلت: لعلَّه نزل في صلاة الفجر وتحوَّل، وأعاد قراءتها عند الظهر، فإنَّ أبا سعيد لم يقل: نزلت في الظهر بل قال: قرأ على المنبر، قال: فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أنْ ينزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنكون أوَّل من صلَّى إليها، فصلَّيناهما فنزل صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلَّى الظهر إليها.
8. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ وهو الحرم، ومن كان فيه فشطره المسجد، ومن عاينه كُلِّف الجزم بمقابلتِه، ويكلَّف بمقابلة الكعبة جزمًا مَن عاينها، وعن مالك: الكعبة قبلة لأهل المسجد، وهو لأهل مكَّة، وهي لأهل الحرم، وهو لأهل الدُّنيا، قلت: ذلك مقاربة، وعمَّم الأمكنة لتعمَّ بيت المقدس وغير المدينة وما حضر فيه اليهود وما لم يحضروا فيه، فلا يتوهَّم خصوص المدينة إذ نزلت فيها، ولا غير محضر اليهود إذ كان يصلِّي لبيت المقدس حين هاجر استجلابًا لهم، أمره الله سبحانه بالتَّولية خصوصًا تعظيمًا له، ولأنَّه الدَّاعي لله بالتَّحويل، فخاطبه بأنَّا قد استجبنا لك، وذكر دعاءه في قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ﴾ الآية، فكأنَّه قيل: دعوتنا للتَّحويل فاستجبنا لك، ثمَّ عمَّم أمَّته بالخطاب تأكيدا وحضًّا على المتابعة، وإلَّا فخطابه كافٍ إلَّا إذا تبيَّنت الخصوصيَّة.
9. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ اليهود والنَّصارى والصَّابين، ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي: ما ذكر من التولية، أو أنَّ التولِّي المطاوع للتَّولية، أو أنَّ التوجيه أو التَّحويل، أو أنَّ التحوُّل أو التوجُّه؛ ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ وقد صحَّ لهم في التوراة والإنجيل أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلِّي إلى القبلتين بيت المقدس والكعبة، ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وعيدٌ لليهود والنصارى والصَّابين على التكذيب وسائر المعاصي، ووعدٌ للمؤمنين على التصديق وسائر الطَّاعات.
10. ﴿وَلَئِنَ اَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ التوراة والإنجيل، ﴿بِكُلِّ ءَايَةٍ﴾ دليلٍ منقول عن الله، أو حجَّة عقليَّة تنبني على دين الله، أو مجرَّد حجَّة عقليَّة على صدقك في أنَّ الله هو الذي أمرك بالتحوُّل إلى استقبال القبلة؛ ﴿مَا تَبِعُوا﴾ كلُّهم، ولو يتَّبع بعضهم، ﴿قِبْلَتَكَ﴾ الكعبة؛ لأنَّ عنادهم لك في أمر القبلة وغيره ليس لشبهة فيتركوه لآية تزيلها، بل عناد وحسد.
11. ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ إخبار منه تعالى بأنَّه لا يصدر منه متابعة قبلتهم، وهو مدح وتبشير؛ وقيل: إخبار بمعنى النهي، أي: لا تتَّبع قبلتهم، أي: دُم على عدم اتِّباعها، صخرة بيت المقدس لليهود، ومطلع الشمس للنَّصارى؛ لأنَّ الله هو الذي أمرك بالتحوُّل عن قبلة بيت المقدس، وَأَمَّا مطلع الشَّمس فلا وجه لاستقباله إذ ليس في التوراة، وإنَّما الواجب على النصارى قبل التحويل إلى الكعبة استقبال بيت المقدس لوجوب اتِّباع التوراة عليهم إلَّا ما نسخ الإنجيل منها، وإنَّما أخذوه من اتِّخاذ مريم مكانًا شرقيًّا، أو من (بوليس) اليهودي إذ غرَّهم وقال: إنَّ الشمس كلَّ يوم تبلِّغ سلام عيسى إلى الله، وقد أمر عيسى بأنْ تستقبلوه في الصَّلاة.
12. وقد صحَّ أنَّ عيسى يستقبل بيت المقدس؛ ولذلك أفرد قبلتهم؛ لأنَّ القبلة بيت المقدس لا المشرق، وبه خوطبوا كاليهود وهذا أنسب بما في نفس الأمر، وزعم أشياخ النَّصارى أنَّ المسيح فوَّض إليهم الدين، فما أوجبوه أو حرَّموه أو أباحوه فهو كذلك، فجعلوا الصلاة للمشرق؛ لأنَّ فيه أسرارًا ليست في غيره عندهم؛ ولذا كان مولده شرقًا، أو أفردها مع أنَّها اثنتان: بيت المقدس ومطلع الشمس، لاتِّحادهما في البطلان بعد التحويل للكعبة، فكأنَّهما إذ بطلتا قبلة واحدة، فقبلة حقٍّ وهي الكعبة، وقبلة باطل وهي ما عداها، وهو أنسب لقوله: ﴿وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ وهذا إنْ قلنا: أفردها لمشاكلة الإفراد في قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، أو معنى ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أنَّ قبلتك لا تنسخ إلى قبلتهم، كما لا تنسخ إلى غيرها، وفيه قطع طمعهم عن أنْ يستقبل قبلتهم، كما أنَّه قطع طمعه في أنْ يؤمنوا ويستقبلوا الكعبة بقوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، وهذا أولى من أنْ يقال: المراد النَّهي، أي: لا تتَّبِعْ قبلتهم؛ لأنَّ استعمال الجملة الاسميَّة في الطلب ضعيف، وما تقدَّم أولى من أنْ يقال: المعنى: ما ينبغي لك اتِّباع قبلتهم وما يحقُّ.
13. وقيل: إنَّ الله لم يأمر اليهود باستقبال بيت المقدس في التوراة بل كانوا ينصبون التابوت ويصلُّون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصَّخرة وصلَّوْا إليه من خلفه، ولَمَّا رُفع صلَّوْا إلى موضعه وأبقاهم الله على ذلك؛ وصحَّح بعضهم أنَّها في التوراة التي غيَّروها، ونسخت على كلِّ حال.
14. والصَّابئون يصلُّون إلى الكعبة، ولعلَّهم اختاروها بعد نزول القرآن بها، وقبلة السامريَّة طورهم في الشام، يعظِّمونه ويحجُّون إليه، وهي في بلدة (نابلس) قبلة باطلة مبتدعة، والبعض الأوَّل لليهود أو للنَّصارى، والثَّاني للآخرين، وفي ذلك بعض تسلية إذ لم يختصَّ عنادهم به بل هو شأنهم حتَّى [فيما] كان بينهم.
15. ﴿وَلَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ﴾ ما يحبُّونه ممَّا خالف الحقَّ، كالرُّجوع إلى قبلتهم، وهذا زيادة في قطع طمعهم في أن يتَّبعهم، وإلَّا فقد تحقَّق أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وتحقَّق من الله أنَّ الرَّسل لا تفعل ذلك، أو الخطاب للمؤمنين على البدليَّة لا له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولا سيما مع قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ إلَّا على معنى: لا ينبغي لك اتِّباعُها، أو لا تتَّبعْها، أو الخطاب له صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل الفرض تعريضًا بغيره، إذ كان يعاقَبُ لو اتَّبع فكيف غيره، وتهييجًا على الثبات.
16. ﴿من بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الوحي أنَّ القبلة الكعبة أبدًا، أو العلم المعلوم، ﴿إِنَّكَ إِذَن لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم ولدين الله ولغيرهم بالبدعة، أكَّد الله تعالى باللَّام، والقسمِ المقدَّر قبلها، و(إنْ) الفَرَضيَّة، و(إِنَّ) واللَّام في خبرها، والجملة الاسميَّة، وتعريف (الظَّالِمِينَ)، و(إِذَنْ) الجزائيَّة، فإنَّها لكونها جوابًا وجزاءً تفيد المبالغة، وإيثار قوله: ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على (إنَّك ظالمٌ) أو (الظَّالم)، لإفادة أنَّك معدود فيهم؛ و(زيدٌ من العلماء) أبلغُ من (زيدٌ عالم)، وتسمية الاِتِّباع هوًى بمعنى أنَّه لا يعضده دليل، والإجمال والتفصيل في قوله: ﴿مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، إذ لو قال: (ما جاءك العلم)، لكفى، وجعل الجائي نفس العلم، ووضع الظَّاهر موضع المضمر إذ لم يقل: (لَمِنهم)، أي: اليهود والنَّصارى إن أريد العهد.
17. ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنَّصارى آتيناهم التوراة والإنجيل، مبتدأ خبره قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: محمَّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لدلالة الكلام عليه وعدم اللَّبس، وَأَمَّا ذكر الرَّسول قبلُ مرَّتين فبعيد مع الفصل بأجنبيٍّ، أو التفات عن الخطاب في (اتَّبعتَ)، والكافَيْن إلى الغيبةِ والأصل: يعرفونك، أي: يعرفون القرآن أو التحويل، لاستحضار القلب لهما في المقام للنباهة لهما، أو يعرفون العلم المذكور، أي: المعلوم الحقَّ، ومنه كون الكعبة قبلة، ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾ هذا أنسب بكون الهاء في (يَعْرِفُونَهُ) لمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والمراد: يعرفونه بصفاته في التوراة وغيرها، ومن صفاته فيها أنَّهُ يصلِّي للقبلتين، واستمراره على الكعبة بعد نسخ الصلاة إلى صخرة بيت المقدس معرفة كما لا يلتبس عليهم أبناؤهم، قال عمر لعبد الله بن سلام: قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾ ما هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما عرفت ابني، ومعرفتي به أشدُّ من معرِفتي بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ قال أشهد أنَّه رسول الله حقًّا وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما تصنع النساء، وفي رواية: ولعلَّ والدة ابني خانت، وفي رواية: لعلَّ اليهودية خانت، وقبَّل عمر رأسه، وقال: وفَّقك اللهُ يا عبد الله بن سلام، فقد صدقت.
18. ولا يلزم من قول الله تعالى: ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾ أنَّهم لا يعرفونه أشدَّ من معرِفتهم بأبنائهم؛ لأنَّ المراد في الآية مجرَّد التنظير، ولم يقل: (كما يعرفون أنفسهم) مع أنَّ معرفة الإنسان نفسه أشدُّ من معرِفته لولده؛ لأنَّ الإنسان لا يعرف نفسه إلَّا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجودهِ، وخصَّ البنين بالذِّكر لأنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ابن، والابن ألصق بالقلب من البنت، وأشهر وألزم لصحبة الأب.
19. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ﴾ من أهل الكتاب ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ نعته صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة والإنجيل والقرآن، ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّك المنعوت، وأنَّك على الهدى فيما تقول وما تفعل، وأنَّ كتمان الحقِّ معصية، وأنَّ عليه العقاب، وفريق آخر معترفون بالحقِّ كعبد الله بن سلام ومن معه، وذكر فريق الكتمان تنصيصًا على فجِّ الكتمان مع الكفران.
20. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ﴾ الحقُّ المعهود الذي أنت عليه، أو الذي كتموه، أو الحقُّ كلُّه، أو حقيقة الحقِّ، بحيث لا يشذُّ عنه شيء من ربِّك، وَأَمَّا ما جاء من غير الله فليس بحقٍّ، كالذي يفتريه اليهود والنَّصارى في أمر القبلة وغيرها، كما زعمت النصارى أنَّ عيسى فوَّضهم في القبلة والتحليل والتحريم.
21. و(مِن رَّبِّكَ) خبر، أو يقدر: هو الحقُّ، أي: ما أنت عليه، أو ما كتموه الحقُّ، و(مِن رَّبِّكَ) حال أو خبر ثان، أو نعت عند مجيزه بالظروف في المعارف، أي: هو الحقُّ الثابت من ربِّك، وعلى كلِّ وجهٍ الجملة مستأنفة.
22. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشَّاكِّين في أنَّ ما أنت عليه من النبوءة والقبلة وسائر الدين حقٌّ من ربِّك، أو في أنَّ أهل الكتاب عرفوه من الكتاب وكتموه، والنَّهي إلهاب على الإيقان، وتلويح بأنَّه بحيث لا يشكُّ فيه ناظر، أو له وللأمَّة جميعًا على البدليَّة لا العموم الشُّموليِّ، وإلَّا ضمَّت النون الأولى، وَأَمَّا أنْ يكون للأمَّة وحدها ففيه تلوين الخطاب، اللهمَّ إلَّا أنْ يجعل كاف (رَبِّكَ) لها أيضًا؛ وذُكِّرت لأنَّها بمعنى العموم أو الجمع وفيه بعدٌ، ثمَّ إنَّ الشكَّ ليس كسبيًّا فكيف يُنهى عنه؟ وإنَّما ساغ النَّهيُ عنه لأنَّ المراد به تحقيق أنَّ ما كان من الله لا يُشكُّ فيه، أو اكتساب النبيء ـ أو هو والأمَّة ـ المعارفَ.
23. وليس المراد ظاهر النَّهي، وقد يكون الشكُّ كسبيًّا باعتبار مبادئه، أي: لا تباشر شيئًا يؤدِّي إلى الشَّكِّ، فيجوز حمل الآية على هذا كما أنَّ الإيمان مأمورٌ به باعتبار مبادئه، وأيضًا الشكُّ مقدورٌ للإزالة، فمن كان فيه أو فُرض فيه نُهِيَ عن البقاء عليه.
24. والمراد بـ ﴿الْمُمْتَرِينَ﴾ الجنس، فيشمل من شكَّ من جهلاء أهل الكتاب والعرب، لا من عرف، فإنَّه لا يشكُّ لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقوله: ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ﴾؛ وقد مرَّ أنَّ النهي عن الكون من أهل كذا أبلغُ عن أنْ يكون كذا، أو لا تفعل، فذلك أبلغ مِن (لا تكون ممتريًا)، ومِن (لا تمتر)، وهكذا في سائر القرآن ولو لم أكرِّرهُ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/248.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قالوا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتشوف لتحويل القبلة من بيت المقدس ويرجوه، بل قال الجلال إنه كان ينتظره، لأن الكعبة قبلة أبيه ابراهيم والتوجه اليها أدعى الى ايمان العرب، أي وعلى العرب المعول في ظهور هذا الدين العام، لانهم كانوا أكمل استعدادا له من جميع الانام، قال محمد عبده: ولا بعد في تشوفه الى قبلة إبراهيم، وقد جاء باحياء ملته، وتجديد دعوته، ولا يعد هذا من الرغبة عن أمر الله تعالى الى هوى نفسه، كلا ان هوى الانبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه، ولو كان لأحد منهم هوى ورغبة في أمر مباح مثلا وأمره الله تعالى بخلافه لا نقلبت رغبته فيه الى الرغبة عنه الى ما أمر الله تعالى به ورضيه، بل المقام أدق، والسر أخفى، إن روح النبي منطوية على الدين في جملته من قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله، فهي تشعر بصفائها وإشراقها بحاجة الامة التي بعث فيها شعورا إجماليا كليا لا يكاد يتجلى في جزئيات المسائل وآحاد الاحكام الا عند شدة الحاجة اليها، والاستعداد لتشريعها، عند ذلك يتوجه قلب النبي الى ربه طالبا بلسان استعداده بيان ما يشعر به مجملا، وإيضاح ما يلوح له مبهما، فينزل الروح الأمين على قلبه، ويخاطبه بلسان قومه عن ربه، وهكذا الوحي إمداد، في موطن استعداد، لا كسب فيه للعباد، واذا كان حكم شرع لسبب مؤقت، وزمن في علم الله معين، فان روح النبي تشعر بذلك في الجملة، فاذا تم الميقات، وأزف وقت الرقي الى ما هو آت، وجدت من الشعور بالحاجة الى النسخ ما يوجهها الى الشارع العليم، والديان الحكيم، كما كان يتقلب وجه نبينا في السماء تشوفا الى تحويل القبلة فذلك قوله تعالى ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ أي اننا نرى تقلب وجهك أيها الرسول وتردده المرة بعد المرة في السماء، مصدر الوحي وقبلة الدعاء، انتظارا لما ترجوه من نزول الامر بتحويل القبلة.
2. فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة الى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجه اليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فان الله ينظر الى القلوب وما أسرت فان وافقتها الالسنة فهي تبع لها، والا كان الدعاء لغوا يبغضه الله تعالى، فالدعاء الديني لا يتحقق الا بإحساس الداعي بالحاجة الى عناية الله تعالى، وعن هذا الاحساس يعبر اللسان بالضراعة والابتهال، فهذا التفسير ليس بأجنبي من سابقه، فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه الى الله تعالى انتظارا لما كانت تشعر به روح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وترجوه من نزول الوحي بتحويل القبلة، ولا تدل الآية على انه كان يدعو بلسانه طالبا هذا التحويل ولا تنفي ذلك، وقال بعض المحققين: من كمال أدبه صلّى الله عليه وآله وسلّم انه انتظر ولم يسأل.
3. هذا التوجه هو الذي يحبه الله تعالى ويهدي قلب صاحبه الى ما يرجوه ويطلبه لذلك قال عز وجل ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي فلنجعلنك متوليا قبلة تحبها وترضاها، وقرن الوعد بالأمر فقال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ تولية الوجه المكان أو الشيء هي جعله قبالته وأمامه، والتولي عنه جعله وراءه.
4. الشطر في الاصل القسم المنفصل من الشيء تقول جعله شطرين، ومنه شطر البيت من الشعر وهو المصراع منه، وكذا المتصل كشطري الناقة وأشطرها وهي أخلافها: شطران أماميان وشطران خلفيان، ويطلق على النحو والجهة وهو المراد هنا، فالواجب استقبال جهة الكعبة في حال البعد عنها وعدم رؤيتها، ولا يجب استقبال عينها إلا على من يراها بعينه، أو يلمسها بيده أو بدنه، فان صح اطلاق الشطر على عين الشيء في اللغة فلا يصح ان يراد هنا لما فيه من الحرج الشديد لا سيما على الأمة الامية.
5. ثم أمر بذلك المؤمنين عامة، فقال: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في صلاتكم، وهذا يقتضي أن يصلي المسلمون في بقاع الارض الى جميع الجهات لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ويقتضي أن يعرفوا موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ولذلك وضعوا علم سمت القبلة وتقويم البلدان (الجغرافية الفلكية والارضية)
6. عهد من أسلوب القرآن ان يكون الامر يؤمر به النبي ولا يذكر انه خاص به أمرا له وللمؤمنين به فاذا أريد التخصيص جيء بما يدل عليه كقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ وقوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنما أمر الله المؤمنين في هذه الآية بما أمر به النبي فيها نصا صريحا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها كانت حادثة كبيرة استتبعت فتنة عظيمة، فاراد الله أن يعلم المؤمنين بعنايته بها ويقررها في أنفسهم، فاكد الامر بها وشرفهم بالخطاب مع خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لتشتد قلوبهم وتطمئن نفوسهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون والكافرون بالحزم والثبات على الاتباع ولئلا يتوهم من سابق الكلام انه خاص به صلّى الله عليه وآله وسلّم.
7. بعد هذا عاد الى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في مسألة تحويل القبلة، فقال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي أن تولي المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على نبيه، وجمهور المفسرين على أن أكثر أولئك الفاتنين كانوا من أهل الكتاب المقيمين في الحجاز، ولولا ذلك لم تكن الفتنة عظيمة لان كلام المشركين في مسائل الوحي والتشريع قلما يلتفت اليه وأما أهل الكتاب فقد كانوا معروفين بين العرب بالعلم، ومن كان كذلك فان عامة الناس تتقبل كلامه ولو نطق بالمحال، لان الثقة بمظهره، تصد عن تمحيص خبره، فهو في حاله الظاهرة شبهة اذا أنكر، وحجة اذا اعترف، ولان الجماهير من الناس قد اعتادوا تقليد مثله من غير بحث ولا دليل.
8. جرى أصحاب المظاهر العلمية والدينية على الانتفاع بغرور الناس بهم، فصار الغرض لهم من أقوالهم التأثير في نفوس الناس، فهم يقولون ما لا يعتقدون لأجل ذلك، ويسندون ما يقولون الى كتبهم كذبا صريحا أو تأويلا بعيدا، كما كان أحبار اليهود يطعنون في النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به ويذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم وما هي من كتبهم، ان يريدون الا خداعا، وقد كذب الله هؤلاء الخادعين، وبين أنهم يقولون غير ما يعتقدون، كأنه يقول إن هؤلاء قد قام عندهم الدليل على ما سبقت به بشارة أنبيائهم من صحة نبوة الرسول ويعلمون أن أمر القبلة كغيرها من أمور الدين ما جاء به الوحي عن الله تعالى وأنه الحق لا محيص عنه، لا مكان معين بذاته لذاته، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهو المطلع على الظواهر والضمائر، الحسيب على ما في السرائر، الرقيب على الاعمال، فيخبر نبيه بما شاء ان يخبره وإليه المرجع والمصير وعليه الحساب والجزاء.
9. سبق القول بان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حريصا على هداية أهل الكتاب راجيا بإيمانهم ما لا يرجوه من ايمان المشركين، فبمقدار حرصه ورجائه كان يحزنه عروض الشبه لهم في الدين، ويتمنى لو أعطي من الآيات والدلائل ما يمحو كل شبهة لهم، فلما كانت فتنة تحويل القبلة بمخادعتهم الناس أخبره الله تعالى بانهم غير مشتبهين في الحق فتزال شبهتهم، وإنما هم قوم معاندون جاحدون على علم، ثم أعلمه بان الآيات لا تؤثر في المعاند ولا ترجع الجاحد عن غيه.
10. أجمع المسلمون على فرضية استقبال القبلة في الصلاة ولكن اختلفوا هل هي شرط لصحتها ام لا، وفي بعض الاحاديث ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بأصحابه إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم ظهر لهم خطؤهم ولم يعيدوا، وإنما يدل هذا إن صح على أن خطأ الاجتهاد فيها مغفور، والصحيح ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهرا وان النسخ بنزول هذه الآيات كان في رجب من السنة الثانية، وحديث البراء في صحيح البخاري وغيره انه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا بالشك، ورواية 16 عند مسلم وغيره بدون شك فهي الصواب.
11. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي وتالله لئن جئتهم بكل آية على نبوتك وكل حجة على صدقك، ما تبعوا قبلتك فضلا عن ملتك فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم، ولا تحسبن الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم، فهم قوم مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال، وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ فانك الآن على قبلة ابراهيم الذي يجلونه جميعا، ولا يختلف في حقية ملته أحد منهم، فهي الاجدر بالاجتماع عليها، وترك الخلاف اليها، فاذا كان اتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا، وعنادهم فيما اختلفوا، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة، وكون الجهات كلها لله تعالى، وان الفائدة فيها الاجتماع دون الافتراق، فأي دليل أم أية آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ لان كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره، فهو أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، أغلف القلب لا يعقل.
12. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي ولئن فرض ان تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد، والعلم الذي لا مجال معه للظن ـ انك إذ تفعل هذا فرضا (وما أنت بفاعله) تكون من جماعة الظالمين (وحاشاك) والكلام من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) وبيانه اننا قد أقمنا لك مسألة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به ان نسبة الجهات الى الله تعالى واحدة، وان جمود اهل الكتاب على ما هم فيه انما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر، وان طعنهم فيك وفيما جئت به من امر القبلة وغيره ليس الا جحودا ومعاندة لك مع علمهم بانك النبي الموعود به في كتبهم يأتي من ولد اسماعيل ـ فبعد هذا العلم كله لا ينبغي لاحد من أتباعك المؤمنين ان يفكر في اهواء القوم استمالة لهم، اذ لا محل لهذه الاستمالة، والحق قوي بذاته، وغني بمن ثبت عليه، ومن عدل عنه مجاراة لاهل الاهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم فهو ظالم لنفسه، وظالم لمن يسلك بهم هذه السبيل الجائر.
13. هذا الخطاب(2). بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل، فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته، إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون ان اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق، ويردي الناس في مهاوي الباطل، كأنه يقول ان هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتى لو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما لهم ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل؟ نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم، حتى انك ترى الذين يشكون من هذه البدع والاهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، العامة عمى، آخر زمان وأمثال هذه الكلمات هي جيوش الباطل تؤيده وتمكنه في الارض، حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين
14. أعجب من هذا الذي ذكره محمد عبده انك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والاهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه ويعدونه عابثا أو مجنونا، إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك انهم على شيء من العلم والدين، وأعجب من هذا الاعجب ان منهم من يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع، ومقاومة هذه الاهواء والفتن، جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة يحسبها من الدين، فاذا انكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة! وبانها لا تخلو من خير يقارنها كالذكر الذي يكون في المواسم والاحتفالات التي تسمى بالموالد وكلها بدع ومنكرات، حتى ان الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع! والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعا ومنكرات عليها، انهم انما سكتوا بالثمن ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودا، ولا أقوى جمودا.
15. هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والامراء والوجهاء والاغنياء، وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم، ويخترعون الاحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الامة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهم ـ لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها الى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بانهم من الظالمين، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين.
16. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ ذكر في الآية السابقة ان الذين أوتوا الكتاب يعلمون ان ما جاء به النبي في أمر القبلة هو الحق من ربهم، ولكنهم ينكرون ويمكرون، وذكر في هذه ما هو الاصل والعلة في ذلك العلم وذلك الانكار وهو انهم يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولون تربيتهم وحياطتهم حتى لا يفوتهم من أمرهم شيء، قال عبد الله بن سلام، وكان من علماء اليهود وأحبارهم: أنا أعلم به مني بابني: فقال له عمر: لم؟ قال لأني لست اشك في محمد انه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت ـ فقد اعترف من هداه الله من أحبارهم كهذا العالم الجليل وتميم الداري من علماء النصارى أنهم عرفوه صلّى الله عليه وآله وسلّم معرفة لا يتطرق اليها الشك.
17. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ انه الحق الذي لا مرية فيه، فماذا يرجى منهم بعد هذا؟ وذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (يعرفونه) لما ذكر من أمر القبلة، واستبعدوا عوده إلى الرسول مع تقدم ذكره في الآيات، ومع ما يعهد من الاكتفاء بالقرائن في مثل هذا التعبير، وقد أسند هذا الكتمان إلى فريق منهم إذ لم يكونوا كلهم كذلك، فان منهم من اعترف بالحق وآمن واهتدى به، ومنهم من كان يجحده عن جهل ولو علم به لجاز أن يقبله، وهذا من دقة حكم القرآن على الامم بالعدل.
18. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الامتراء الشك والتردد وإنما يعرض لمن لا يعرفون الحق والمعنى ان هذا الذي انت عليه ايها الرسول هو الحق ـ أو ان جنس الحق في الدين هو الوحي ـ من عند ربك المعتني بشأنك، فلا تلتفت إلى اوهام هؤلاء الجاحدين فإنها لا تصلح شبهة على الحق الصريح الذي علمك الله فتمتري به والنهي في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة وجه الخطاب به الى ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته من كان منهم غير راسخ في الايمان، وخشي عليه الاغترار بمظاهر اولئك المخادعين الذين يغتر بأمثالهم الأغرار في كل زمان ومكان، ولذلك ارتد بفتنة القبلة بعض ضعفاء الايمان.
__________
(1) تفسير المنار: 2/14.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبلتهم حتى روى أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
2. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة، ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس.
3. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام، وفي ذكر ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
4. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي وفي أيّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب، وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية)
5. الأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، هي له ولأمته، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وقوله ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾، وإنما أكد الأمر باستقباله، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في تحويل القبلة فقال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هي من كتبهم، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك في نفوسهم، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون، إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين ـ حقّ لا محيص عنه، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه.
6. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فهو العليم بالظاهر والباطن؛ والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
7. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام ـ ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة، وقصارى ذلك ـ إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، بل خالفوك عنادا وصلفا، فلا يجدي معهم برهان؛ ولا تقنعهم حجة، وكما أيأسه من اتباعهم قبلته، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي إن ذلك لا يكون منك، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا، فهي الأجدر بالاتباع، وإذا كان اتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة، وسرّ اجتماع الناس عليها، وكون الجهات كلها لله ـ فأي آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟
8. ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث في فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.
9. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه ـ لتكونن من جملة الظالمين ـ وحاشاك أن تفعل ذلك، وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم، فإن الحقّ قوىّ بذاته، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر، وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شيء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك، فكأنه قيل: إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لحل عليه الظلم (وما للظّالمين من أنصار) فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟
10. لا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا، وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
11. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ هذا كالدليل لما ذكر في قوله: ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فكأنه قال إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم.
12. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّ وأن الكعبة قبلة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
13. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحى، لا ما يقول لك اليهود والنصارى، فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فتمترى في الحق بعد ما تبين، والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد من كانوا غير راسخي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/9.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر القبلة؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم.. في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة، ووقايتها من البلبلة والفتنة.
2. وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾.. وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها، بعد ما كثر لجاج اليهود وحجاجهم؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس.. فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقلب وجهه في السماء، ولا يصرح بدعاء، تأدبا مع ربه، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا، أو أن يقدم بين يديه شيئا، ولقد أجابه ربه إلى ما يرضيه، والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾.
3. ثم يعين له هذه القبلة التي علم ـ سبحانه ـ أنه يرضاها: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.. قبلة له ولأمته، من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.. من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعا.. قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها.. قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها، فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد، منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
4. وهكذا وحد الله هذه الأمة، وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها، وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات، ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلا والسياج والحظيرة!
5. ثم.. ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟ ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾.. إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم، جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين، وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه.. ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه، فلا على المسلمين منهم؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
6. إنهم لن يقتنعوا بدليل، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾.. فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم.. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم؛ ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل، عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة، يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار، ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائما عند قول الله تعالى لنبيه الكريم: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾
7. في مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الإعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له، يقرر حقيقة شأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وموقفه الطبيعي: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾.. ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلا، واستخدام الجملة الاسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تجاه هذا الأمر، وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه، فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه؛ ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها؛ ولن تتبع منهجا إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة.. هذا شأنها ما دامت مسلمة؛ فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى.
8. ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض؛ فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾.. والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
9. وما كان للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود.. إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه؛ ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه، ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير.
10. ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. إن الطريق واضح، والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند الله، وإما الهوى في كل ما عداه، وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله، وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب، وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد، وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة، تستدعي هذه الشدة في التحذير، وهذا الجزم في التعبير.
11. بعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق؛ فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن، وما أمر به الرسول، ولكنهم يكتمون الحق الذي يعلمونه، للهوى الذي يضمرونه: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.. ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه.. فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين.. فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب، وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئا في أمر دينهم، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين.
12. هنا يوجه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.. ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما امترى يوما ولا شك، وحينما قال له ربه في آية أخرى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فاسأل الَّذِينَ يقرؤون الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ}.. قال: (لا أشك ولا أسأل).. ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه صلّى الله عليه وآله وسلّم يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين، سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم.
13. ما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير؛ ونحن ـ في بلاهة منقطعة النظير ـ نروح نستفتي المستشرقين ـ من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار ـ في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير.. إن هذا القرآن قرآننا، قرآن الأمة المسلمة، وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/134.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يخبر الله سبحانه في هذه الآية عن الحال التي كان يعانيها النبيّ الكريم، حين هاجر إلى المدينة وقلبه معلّق بمكة والبيت الحرام، ووجهه يتردد في السماء بين مطالع المسجدين: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهما على سمت واحد، فقطع الله عليه طريق التردد، وأمسك وجهه على القبلة التي تهفو إليها نفسه: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
2. يلاحظ أن هنا تقديما وتأخيرا في عرض الأحداث، إذ جاء ذكر الآثار التي ترتبت على هذه الواقعة، قبل وقوعها، فكشفت الآيات عن موقف اليهود من تحول القبلة إلى المسجد الحرام أولا، ثم عرضت الأمر بهذا التحول بعد ذلك، وفى هذا ما يشعر بأن هذا التحول في ذاته ما كان ليكون موضع تساؤل وجدل، فهو أمر من أمر الله، ووجه من الوجوه إليه: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ﴾.. ولكن النفوس المريضة لا تجد طعما لحلو، ولا مساغا لطيب، وهذا هو الذي ينظر فيه، ويهتم له، خاصة إذا كان المراء فيه عن علم: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾
3. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ المراد بالقبلة هنا الدين والملّة، وموقف أهل الكتاب من النبيّ وما جاء به موقف عناديّ، فهم منه على خلاف، لا يردّهم عنه أي برهان، ولا تنفعهم معه أية حجة، ولو جاءهم النبيّ بكل آية قاهرة ما آمنوا له، ولا اجتمعوا إليه.. وإذن فهم أبدا على ما هم عليه من هذا الخلاف.. هم مع باطلهم في جانب، والنبي مع الحق الذي معه في جانب، ثم هم فيما بينهم مختلفون، لا يلتقى بعضهم ببعض، ولا يستقيم بعضهم على طريق بعض!.
4. في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استبعاد من أن يميل النبيّ إلى جانبهم، لأنهم إنما يتبعون أهواء، ويميلون مع مفتريات!
5. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ هؤلاء الذين يجادلون النبيّ ويكذّبون به وبرسالته، من أهل الكتاب ـ وخاصة علماءهم ـ يعرفون صدق هذا النبيّ إذ يجدون صفته في التوراة والإنجيل، بحيث لا يلتبس عليهم من أمره شيء، ولكنهم ينكرون هذا الحق الذي يعلمونه علم اليقين، حسدا وبغيا، وذلك ضلال ما بعده من ضلال، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾
6. قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تطمين للنبيّ الكريم، وتثبيت له على ما عنده من آيات الله، فهي الحق من عند الله، فلا جدال فيها ولا امتراء، كما يجادل ويمارى الذين بأيديهم مثل هذا الحق من أهل الكتاب.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/170.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] بعد أن مهّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، ثم قوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ﴾ [البقرة: 120]، ثم قوله: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ﴾ [البقرة: 125] ثم قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾.
2. ﴿قَدْ﴾ في كلام العرب للتحقيق ألا ترى أهل المعاني نظّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إنّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا.. ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان.
3. جيء بالمضارع مع (قد) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل، قال عبيد بن الأبرص:
çقد أترك القرن مصفرّا أنامله...كأنّ أثوابه مجّت بفرصادé
4. التقلب مطاوع قلّبه إذا حوّله وهو مثل قلبه بالتخفيف، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية، قالوا كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلّا لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب.
5. الفاء في ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكناية في قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142]، فمعنى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ لنوجهنك إلى قبلة ترضاها، فانتصب ﴿قِبْلَةً﴾ على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك من قبلة وكذلك قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد، وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداة تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان.
6. عبر بـ ﴿تَرْضَاهَا﴾ للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر بيوت الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب، ولما كان الرضى مشعرا بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ الآية.
7. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى فول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
8. الشّطر: الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء، وكذلك قرأه أبي بن كعب، وفسر الجبّائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسط الشيء، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد والمسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه، وجعلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب (أي تقريبا) قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجها إلى المسجد ولا يكون متوجها إلى الكعبة لا تصح صلاته، الثاني لو لم نفسر الشطر بما ذكرنا لم يبق لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة.
9. سؤال وإشكال: ما فائدة قوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ قبل قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ وهلا قال في السماء فول وجهك؟ والجواب: فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنها بحيث يعتنى بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة ﴿تَرْضَاهَا﴾
10. معنى (نولينك) نوجهنك، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولي المتعدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به، ومنه الولاء والولي، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولّى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفا عن كذا أي الذي كان يليه من قبل، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم.
11. القبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم.
12. المسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين، والحرام: المجعول وصفا للمسجد هو الممنوع، أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه، وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37]، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: 57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب، فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علما على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف، ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.
13. الجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي: (وذكر المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه) وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.
14. انتصب ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ﴾ على المفعول الثاني لولّ وليس منصوبا على الظرفية، وقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري ﴿كُنْتُمْ﴾ و﴿وُجُوهَكُمْ﴾ لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ خطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ ليكون تبشيرا له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلّا إذا دل دليل على تخصيص أحدهما، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصا به أو أن تجزئ فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحا وتأكيدا لدلالة العموم المستفاد من إضافة ﴿شَطْرَ﴾ إلى ضمير ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ لأن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع، وتأكيدا لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويها بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية.
15. هذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال والاجتناب، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكرا به من شيء له انتساب خاص إليه، قال فخر الدين: (إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لا بد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقرآن والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة)، فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقديما ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)، وأقوالهم في البرق والريح، وقال مالك بن الرّيب:
çدعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي...بذي الطّبسين فالتفتّ ورائياé
16. الله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس، فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى، لا جرم أن أولى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة، وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئا يوهم أنه المقصود بالعبادة، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجدا في مكان المسجد الأقصى، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح، فقد بنت الصابئة وأهل الشرك بعد نوح هياكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع، أو إلى أسماء الكواكب، وذكر المسعودي في (مروج الذهب) عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناه الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من سدنته، وقيل إن عادا بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام.
17. إذا استقبل المؤمن بالله شيئا من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشدّ إضافة إليه، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلّا بإخلاص النية من إقامتها، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض، وإن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثة في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللّاحق بكونه هو الذي دل مؤسس ذلك اللّاحق على تأسيسه قال تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، وقال في ذكر مسجد الضرار: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين، وقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانوها بالبيت الأول.
18. لا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذا، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأوثان، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى، ففيه مزية الأولية، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معا وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره، ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلّا بعده بقرون طويلة، فكان هو قبلة المسلمين.
19. قدمنا آنفا أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بني بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطا، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبي لا تكون إلّا عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم.
20. يجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبها صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته إن كان الاحتمال الأول، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا، ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فعلّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقا ومن اتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطينه من الكفر كما أشار له قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: 142] الآية.
21. لعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه، كما قد يكون قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 114] وقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: 115] إيماء إليه كما قدمناه، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.
22. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ اعتراض بين جملة: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وجملة ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ [البقرة: 149] الآية، والأظهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السّدّي كما يشعر به التعبير عنهم بصلة: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ دون أن يقال وإنّ أهل الكتاب، ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن علمهم بصدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق، والأظهر أيضا أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موقع قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكّدين، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقع قوله ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ الذي هو تهديد بالوعيد.
23. دل التعريف في قوله: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعا للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال الشيء المعدوم.
24. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾:
أ. قرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير للذين أوتوا الكتاب أي عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العمل ونحوه من المكابرة والعناد والسفه، وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلّا عدم العلم فلذلك كان وعيدا لهم ووعيدهم يستلزم في المقام الخطابي وعدا للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلا بما يستحق.
ب. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة، ويستلزم وعيدا للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة.
وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي ليأخذ كلّ حظه منه وهو اعتراض بين جملة: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ وجملة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 145] الآية.
25. في قوله تعالى: ﴿لَيَعْلَمُونَ﴾ وقوله: ﴿عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 96] الجناس التام المحرّف على قراءة الجمهور والجناس الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه.
26. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ﴾ عطف على قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 144]، والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعملون فلما أفيد أنهم يعلمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطّمع في اتّباعهم القبلة لدفع توهم أن يطمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتّباعهم بالقسم واللام الموطئة، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادة.
27. المراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ﴾ على ما تقدم فإن ما يفعله أحبارهم يكون قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجدر بعامتهم أن لا يتبعوها.
28. وجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن.
29. المراد ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ آيات متكاثرة والمراد بالآية الحجة، والدليل على أن استقبال الكعبة هو قبلة الحنيفية، وإطلاق لفظ (كل) على الكثرة شائع في كلام العرب قال امرؤ القيس:
çفيا لك من ليل كأنّ نجومه...بكل مغار الفتل شدّت بيذبلé
وأصله مجاز لجعل الكثير من أفراد شيء مشابها لمجموع عموم أفراده، ثم كثر ذلك حتى ساوى الحقيقة فصار معنى من معاني كل لا يحتاج استعماله إلى قرينة ولا إلى اعتبار تشبيه العدد الكثير من أفراد الجنس بعموم جميع أفراده حتى إنه يرد فيما لا يتصور فيه عموم أفراد، مثل قوله هنا ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ فإن الآيات لا يتصور لها عدد يحاط به، ومثله قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [النحل: 69] وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 96] وقال النابغة:
çبها كلّ ذيّال وخنساء ترعوى...إلى كلّ رجاف من الرمل فاردé
وتكرر هذا ثلاث مرات في قول عنترة:
çجادت عليه كل بكر حرّة...فتركن كلّ قرارة كالدّرهم
سحّا وتسكابا فكلّ عشيّة...يجري إليها الماء لم يتصرّمé
وصاحب (القاموس) قال في مادة كل (وقد جاء استعمال كل بمعنى بعض ضدّ) فأثبت الخروج عن معنى الإحاطة ولكنه جازف في قوله (بمعنى بعض) وكان الأصوب أن يقول بمعنى كثير، والمعنى أن إنكارهم أحقّيّة الكعبة بالاستقبال ليس عن شبهة حتى تزيله الحجة ولكنه مكابرة وعناد فلا جدوى في إطناب الاحتجاج عليهم.
30. إضافة قبلة إلى ضمير الرسول لأنها أخص به لكونها قبلة شرعه، ولأنه سألها بلسان الحال، وإفراد القبلة في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ مع كونهما قبلتين، إن كان لكل من أهل الكتاب قبلة معينة، وأكثر من قبلة إن لم تكن لهم قبلة معينة وكانوا مخيّرين في استقبال الجهات، فإفراد لفظ (قبلتهم) على معنى التوزيع لأنه إذا اتّبع قبلة إحدى الطائفتين كان غير متبع قبلة الطائفة الأخرى.
31. المقصود من قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ إظهار مكابرتهم تأييسا من إيمانهم، ومن قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ تنزيه النبي وتعريض لهم باليأس من رجوع المؤمنين إلى استقبال بيت المقدس، وفي قوله: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ تأنيس للنبي بأنّ هذا دأبهم وشنشنتهم من الخلاف فقديما خالف بعضهم بعضا في قبلتهم حتى خالفت النصارى قبلة اليهود مع أن شريعة اليهود هي أصل النصرانية.
32. جملة: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ معطوفة على جملة: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ وما بينهما اعتراض، وفائدة هذا العطف بعد الإخبار بأنه لا يتبع قبلتهم زيادة تأكيد الأمر باستقبال الكعبة، والتحذير من التهاون في ذلك بحيث يفرض على وجه الاحتمال أنه لو اتبع أهواء أهل الكتاب في ذلك لكان كذا وكذا، ولذلك كان الموقع لأن لأنّ لها مواقع الشك والفرض في وقوع الشرط.
33. ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ بيان لما جاءك أي من بعد الذي جاءك والذي هو العلم فجعل ما أنزل إليه هو العلم كلّه على وجه المبالغة.
34. الأهواء جمع هوى وهو الحب البليغ بحيث يقتضي طلب حصول الشيء المحبوب ولو بحصول ضر لمحصّله، فلذلك غلب إطلاق الهوى على حبّ لا يقتضيه الرشد ولا العقل ومن ثمّ أطلق على العشق، وشاع إطلاق الهوى في القرآن على عقيدة الضلال ومن ثم سمّى علماء الإسلام أهل العقائد المنحرفة بأهل الأهواء.
35. بولغ في هذا التحذير باشتمال مجموع الشرط والجزاء على عدة مؤكدات أومأ إليها صاحب (الكشّاف) وفصّلها صاحب (الكشف) إلى عشرة وهي: القسم المدلول عليه باللام، واللام الموطئة للقسم لأنها تزيد القسم تأكيدا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء، ولام الابتداء في خبرها، واسمية الجملة، وجعل حرف الشرط الحرف الدال على الشك وهو (إن) المقتضي أن أقل جزء من اتّباع أهوائهم كاف في الظّلم، والإتيان بإذن الدالة على الجزائية فإنها أكّدت ربط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: ﴿مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فإنه يدل على الاهتمام والاهتمام بالوازع يؤول إلى تحقيق العقاب على الارتكاب لانقطاع العذر، وجعل ما نزل عليه هو نفس العلم.
36. التعريف في ﴿الظَّالِمِينَ﴾ الدالّ على أنه يكون من المعهودين بهذا الوصف الذين هو لهم سجية، ولا يخفى أن كل ما يؤول إلى تحقيق الربط بين الجزاء والشرط أو تحقيق سببه أو تحقيق حصول الجزاء أو تهويل بعض متعلقاته، كل ذلك يؤكد المقصود من الغرض المسوق لأجله الشرط.
37. التعبير بالعلم هنا عن الوحي واليقين الإلهي إعلان بتنويه شأن العلم ولفت لعقول هذه الأمة إليه لما يتكرر من لفظه على أسماعهم.
38. قوله تعالى: ﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أقوى دلالة على الانصاف بالظلم من إنك لظالم كما تقدم عند قوله: ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67]، والمراد بالظالمين الظالمون أنفسهم وللظلم مراتب دخلت كلها تحت هذا الوصف والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقي في خالد العذاب.
39. سؤال وإشكال: إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120] فعبر هنالك باسم الموصول (الذي) وعبر هنا باسم الموصول (ما)، وقال هنالك (بعد) وقال هنا (من بعد)، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء وليّ ونصير، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين، والجواب: أورد هذا السؤال صاحب (درّة التنزيل وغرّة التأويل) وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفي، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن (الذي) و(ما) وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلّا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة:
أ. ولما كان العلم الذي جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام وببطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك ابتداء من قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ [البقرة: 116] ـ إلى قوله ـ ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة: 120]، فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.
ب. وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو (ما) لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية، وإنما أدخلت (من) في هذه الآية الثانية على (بعد) بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأول في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فصل فكان العلم الذي جاءه فيها من قوله: ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ هو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم، فكان جديرا بأن يشار إلى كونه جزئيا له بإيراد (من) الابتدائية.
40. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة معترضة بين جملة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [البقرة: 145] إلخ، وبين جملة: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ [البقرة: 148] اعتراض استطراد بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دلّ عليه قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 144]، فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلّا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والدليل على الاستطراد قوله بعده: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148]، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة.
41. الضمير المنصوب في ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريرا لمضمون قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعاد مناسب لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 143]، وقوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ [البقرة: 144]، وقوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ [البقرة: 144]، وقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ [البقرة: 144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صدقه، وإما أن يعود إلى ﴿الْحَقُّ﴾ في قوله السابق: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ فيشمل رسالة الرسول وجميع ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [البقرة: 145].
42. التشبيه في قوله: ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائقه معرفة لا تقبل اللبس، كما قال زهير: (فهن ووادي الرس كاليد للفم) تشبيها لشدة القرب البيّن.. وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيرا فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم.
43. عدل عن أن يقال يعلمونه إلى ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ لأن المعرفة تتعلق غالبا بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24] وقال زهير: (فلأيا عرفت الدّار بعد توهم)، وتقول عرفت فلانا ولا تقول عرفت علم فلان، إلّا إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون الصفات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد.
44. المراد بقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أحبار اليهود والنصارى ولذلك عرّفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل.
45. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذم لهم بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه وهؤلاء معظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صوريا وكعب بن الأشرف فبقي فريق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اليهود قبل عبد الله بن سلام، ومن النصارى مثل تميم الدّاري وصهيب، أما الذين لا يعلمون الحق فضلا عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ ولا يشملهم قوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾.
46. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تذييل لجملة: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ [البقرة: 146]، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق، وحذف المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يدل عليه مثل قولهم بعد ذكر الديار (ربع قواء) وبعد ذكر الممدوح (فتى) ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب (المفتاح)
47. ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ نهي عن أن يكون من الشاكّين في ذلك والمقصود من هذا، والتعريف في ﴿الْحَقُّ﴾ تعريف الجنس كما في قوله: ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 2] وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدّر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق.
48. الامتراء افتعال من المراء وهو الشك، والافتعال فيه ليس للمطاوعة ومصدر المرية لا يعرف له فعل مجرّد بل هو دائما بصيغة الافتعال.
49. المقصود من خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾ [البقرة: 120]، وقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾ خطابا لغير معيّن من كل من يصلح ها الخطاب.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/27.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم، وأن منهم أهل الكتاب، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام، فكانت إجابة هذه الرغبة، وكان التحويل، والسفهاء قالوا ما قالوا، ولجّ بنو إسرائيل في سفههم، وهم يعلمون أنه الحق، وهو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، وقد قال الله تعالى في ذلك: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
2. كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام؛ لأن الكعبة بناء إبراهيم، ولأن ملته هي ملة إبراهيم، ولأنه مثابة الناس وأمنهم، ولأنه مجتمع العرب، ومؤتلفهم، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا، ويرفعه رجاء، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها، وترضى العرب، ولا يكون فيها تابعا لبنى إسرائيل، بل يولى وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنبياء، فتقلب الوجه، هو الضراعة إلى الله تعالى لكى تكون القبلة هي البيت الحرام، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا، وراجيا أن ينزل قرآن بتحويل القبلة.
3. قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا، وخفضه خاضعا على رجاء نزول قرآن بالتحويل، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدّم بالطلب على الله تعالى، والحق أن التقلب لرجاء الوحى وللضراعة إليه والدعاء، وليس فى ذلك تقدم على الله في طلب شرعه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام، فهو إذا دعا بذلك وتضرع إنما يستنجز وعد الله تعالى، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك.
4. أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أي أن الله تعالى استجاب لرجاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودعائه، وقوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا، فالمعنى لنعطينك القبلة التي ترضاها، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها.
5. أكد الله تعالى إجابة مطلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم، وتقدير القول: فو الذي يحلف به لنولينك قبلة ترضاها، وهى الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، فلا بد أن يتجهوا إلى بنيته.
6. هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾؛ لأن تقدير قول السفهاء لا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، كما نص القرآن الكريم، وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ والفاء للتفريع عما قبلها، والوجه المراد به حقيقة الوجه؛ لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام، وقد يراد به الشخص كله، ويكون الوجه المراد به الذات، والتعبير بالوجه عن الذات؛ لأنه الذي تكون به المواجهة، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان.
7. الشطر الناحية والاتجاه، والنحو، ولقد جاء في تفسير أبى السعود العمادي: وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء، ودار شطر، إذا كانت منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل.. ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارق الأرض ومغاربها، روى عن ابن عباس أنه قال إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي)
8. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الخطاب فيه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو إجابة لما رجاه، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا، وتشريفا، ولتبيين منزلته عند الله تعالى، وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام، وليس بخاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
9. كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص، وإن كان لا يدل عليه، فقد يفيد خصوص النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب، وعموم الناس، وعموم الأمكنة، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جانب من جوانبها، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها، غير مستدبر لها.
10. أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة] وكان اليهود مبعث هذا التشكيك، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا، وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾
11. الضمير في قوله تعالى: ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ قد يعود إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو حاضر في الأنفس وفى العقول فكأنه حضور عقلي لا يقل عن العود على مذكور، لأنه مبشر به في كتبهم، معلوم عند أحبارهم، ومعنى ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ أي أن ما جاء به هو الحق، فليس فيما أتى به الباطل، ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية، لا من ناحية الحقائق المنزلة؛ ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحى الله تعالى، ورجحنا ذلك؛ لأنه في الموضوع، ولأن السياق البياني يتلاقى معه، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق، أو نحو هذا من البيان، وإن ذلك هو الحق عندهم، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبيّ وجدوده كانوا في (فاران)، وأن (فاران) هي بيت عبادة أولاد إسماعيل، و(فاران) هي مكة وما حولها.
12. أكد الله تعالى علمهم بالحق فقال: ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة، وبالقصر بتعريف الطرفين، فهو الحق، ولا حق سواه، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم، وخلق الأرض كلها، وله مشارق الأرض ومغاربها، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي يختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته.
13. ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب، فقال تعالت كلماته: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لا يغفل عن أفعالهم من بث للشك، وغمز من القول، ومنهم ساخر بأعمال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم التي هي من عند ربه، فهم مراقبون في أعمالهم، وذنوبهم وآثامهم لا تخفى عليه، وهو آخذهم بها يوم القيامة.
14. إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت المقدس، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، فليس ذلك لجهل منهم بالحق كما بينا، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغنى الآيات والنذر، ولا تزيدهم البينات إلا خسارا؛ لذا قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾.
15. اللام في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ﴾ هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط، وهو ﴿مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ أي والذى يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكى يتبعوا قبلتك ما اتبعوها؛ لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل، بل هم معاندون مكابرون، لا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارا، ولقد قال تعالى: ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾، أي لو جمعت الحجج كلها، ورميت بها، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا.
16. الكلام السامي فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وكان موضع الإضمار؛ لأنهم ذكروا بهذا الاسم في الآية السابقة، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم، وإنغاض رؤوسهم عن الحق وقد قامت أماراته وأدلته مما بين أيديهم، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك.
17. ذكر الله تعالى بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه لا يتبع قبلتهم؛ لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر؛ ولذا قال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي أنت على الحق، ولست بتابع باطلهم، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم، وبضمير الخطاب وهو أنت، أي أنت بصفتك التي في علمهم، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون، وأكده أيضا بالباء فى ﴿بِتَابِعٍ﴾ الدالة على استغراق النفى وتأكيده، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقومه في اتباع القبلة تبعا له وهم من ورائه وهو إمامهم.
18. كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنهم كانوا يحاجون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية، ولقد روى أن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس، وقد كانوا يقولون: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرا وخداعا، ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة]
19. في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد، لا كما جاءت به نصوص عندهم، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها؛ لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها، لانتهاء دياناتهم، وبطلان ما هم عليه، بما فيها قبلتهم، ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم: ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهم، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته، ويعاند الآخر، ويستكبر عن اتباع قبلته، فهم في عناد مستمر، وكلاهما يتبع هواه، ولا يتبع نصا جاء به دينه، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه اتباعا لنص، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد.
20. ولذا قال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي لئن اتبعت ما يدعون إليه، وليس له مصدر ديني عندهم، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى، والأهواء جمع هوى، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم، إذ اتخذوا إلههم هواهم، ومن اتبع هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة، لا من دين اتبعوه، ولا من نصوص، بل هواهم، وليس كمن قال فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم، وتبعا لانحراف في نفوسهم.
21. ﴿لَئِنْ﴾ اللام فيها دالة على القسم، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط، وهو قوله تعالى منبها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أنه لا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ففي هذا تحذير للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإتيان الهوى، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين.
22. ﴿إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم، إذ معنى إذن، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع، فبسببه تكون من الظالمين، فوقوع (إذن) بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية.
23. هذا وإن الكلام فرضى لا واقعى، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه، فالمعنى: إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى، وهو عالم غير غافل أولا بإن، وثانيا باللام، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى، وموافقة الآثمين في إثمهم، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال.
24. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ إن أهل الكتاب جادلوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر رسالته، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد جادلوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر القبلة، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقبلتهم، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له صلّى الله عليه وآله وسلّم معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة، فإن الإنسان لا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم؛ فكذلك لا يجهلون الرسول الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم، روى أن عمر رضى الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام، وهو ممن آمن من أهل الكتاب: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تعرف ابنك؟ فقال عبد الله بن سلام: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابنى لا أدرى ما كان من أمه.
25. الضمير في قوله ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ يعود على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين اليهود، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما.
26. معرفة أهل الكتاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معرفة لرسالته، وما جاء به من حلال وحرام، وللأرض التي يبعث منها، ولقومه الأميين، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف].
27. أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قسمين: قسم آمن واهتدى، وقسم كابر وعاند فغوى؛ ولذلك قال ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه، وكانوا يستفتحون به على المشركين، وعبر سبحانه وتعالى عن النبيّ وشريعته، وأظهر في موضع الإضمار، فقال: ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة، فهم يكتمون الحق، ومن يكتم الحق يكتم النور، ولا بد من أن يظهر، ثم أكد فساد نفوسهم، فقال: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ويعلمون نتائج ذلك الإثم، ولكنهم في غيّ دائم وضلال مستمر.
28. هذا شأن الذين يعلمون الحق ويكتمونه، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به، ويؤمن به، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قد يشير إلى أن هناك من لا يعلم، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة] وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم؛ إذ إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاهم إلى الحق.
29. النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يجاور اليهود، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم؛ ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين، حتى لا تجرهم المودة إلى أهوائهم، أو الشك فيما عندهم؛ ولذا قال تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾
30. بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه، بعد هذا بين أن ما عند النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي الحق الجدير بالاتباع الذي لا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لا يتبع، فإن خالفت ما جاء من ربك، فقد خالفته إلى الظلم؛ لأن ما عداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك، وقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال.
31. إذا كان الحق لا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس، ووسوسة الشياطين ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لا ريب فيه فلا تكونن من الممترين، والامتراء التردد بين الشك واليقين، بحيث يعتريه دور يحس فيه باليقين ودور يحس بالشك الذي يناقض اليقين، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته، فمعنى الشك موجود، واحتمال الشك ولو من وجه ينافى العلم الجازم.
32. النهى عن الامتراء نهى عن أن تدخل أسبابه النفس، وأمر باليقين الدائم ويقول بعض المفسرين: إنه أمر بالاحتياط والتوقي، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم، يبتدئ باستحسان ما عندهم، وأول الشر استحسانه؛ ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده، وقال الله تعالى: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، أي لا تدخل في صفوف أهل الشك، وفى ذلك إيذان بأنه لو شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه.
33. أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو أمر لأمته، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه، وغير متصور أن تكون من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين فى أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، إنما هو أمر لأمته، بأن يحتاطوا لدينهم الحق، فيزودوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا، وبالقيام بالفرائض، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا، ولا يبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد].
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/447.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وصف المسجد بالحرام، حيث يجب تقديسه، ويحرم هتكه، والكعبة جزء من المسجد الحرام، وهو جزء من الحرم الذي يشمل مكة وضواحيها المحددة في كتب الفقه، باب الحج، مسألة محرمات الإحرام، والصيد في الحرم.
2. المعروف من طريقة القرآن الكريم ان كل تكليف شرعي موجه بظاهره لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدخل فيه عموم المكلفين، مثل: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، ولا يختص التكليف به وحده إلا مع القرينة، كقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾، فان لفظة لك تدل على ان هذا التكليف لا يشمل سواه.. وأيضا من طريقة القرآن ان التكليف الموجه الى المكلفين يدخل فيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أدنى فرق من هذه الجهة بينه وبين غيره، وعليه فان الأمة داخلة في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
3. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، أي أينما كنتم في بحر أو بر أو سهل أو جبل في الشرق أو في الغرب فعليكم أن تستقبلوا المسجد الحرام بمقدم البدن، ولا يجوز أن تستدبروه في الصلاة، أو تضعوه على اليمين أو الشمال.. وعلى هذا تختلف قبلة المسلمين باختلاف الأقطار، فقد تكون بالنسبة إلى أهل قطر في الغرب، والى غيرهم في الشرق، ومن أجل هذا اهتم المسلمون بأمر القبلة، ووضعوا علما خاصا يسمى بعلم (سمت القبلة) بخلاف النصارى الذين يلتزمون دائما جهة الشرق، واليهود جهة الغرب أينما كانوا، حتى ولو استلزم ذلك ادبارهم لبيت المقدس.
4. سؤال وإشكال: إذا كانت الأمة تدخل في خطاب التكليف الموجه للرسول، وخطاب التكليف للأمة يشمل الرسول، فلما ذا الجمع بين الخطابين في آية واحدة، وموضوع واحد، وبدون فاصل أيضا، حيث قال جل من قائل: فولّ ـ يا محمد ـ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم ـ أيها المسلمون ـ فولّوا وجوهكم شطره؟ والجواب: ان التحول كان من الحوادث العظيمة في الإسلام، كما انه جاء وفقا لرغبة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد الله سبحانه أن ينبه الى ذلك ويؤكده بالتكرار.. هذا، الى ان التكليف هو بالأصالة لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه جاء مراعاة لرغبته، وبالتبع لأمته.
5. الكعبة قبلة لمن هو داخل المسجد الحرام الذي تقع الكعبة فيه، والمسجد قبلة لأهل الحرم، أي لأهل مكة وضواحيها، والحرم أو الجهة التي هو فيها قبلة لأهل المشرق والمغرب، ويجب استقبال القبلة في الصلاة اليومية، وركعات الاحتياط، والأجزاء المنسية من الصلاة، وسجدتي السهو، ولكل صلاة واجبة بما في ذلك ركعتا الطواف، والصلاة على الميت، ويجب الاستقبال أيضا بالميت عند احتضاره ودفنه، وأيضا عند الذبح والنحر.. أما الصلاة المستحبة فيجب الاستقبال بها حال الاستقرار، ولا يجب حال المشي والركوب.
6. أهل القبلة، وأهل القرآن، وأهل الشهادتين، والمسلمون ألفاظ تترادف على معنى واحد، أما اسم المحمديين فقد اخترعه لنا، وأطلقه علينا أعداء الإسلام، يقصدون بذلك اننا أتباع شخص، لا أهل دين سماوي، تماما كالبوذيين أتباع بوذا، والزرادشتيين أتباع زرادشت.
7. مهما يكن، فان الغرض من هذه الفقرة التنبيه على ان الأمة الاسلامية على اختلاف بلادها، وألوانها، وألسنتها تجمعها وتوحد بينها أصول واحدة هي أعز وأغلى من حياتها، لأن المسلمين جميعا يستهينون بالحياة من أجل تلك الأصول، ولا يستهينون بها من أجل الحياة، ومن تلك الأصول الايمان بالله وكتابه، وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسنته، والصلاة الى القبلة.. فمن كفّر من يصلي الى القبلة، وأخرجه من عداد المسلمين فقد أضعف قوة الإسلام، وشتت كلمة المسلمين، وأعان أعداء الدين على الدين، من حيث يريد، أو لا يريد.
8. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، لا خصوص اليهود ـ كما قيل ـ لأن اللفظ عام، ولا دليل على التخصيص.. واختلف المفسرون في ضمير (انه) هل يعود الى الرسول، أو الى المسجد الحرام، وسبب الاختلاف انه قد تقدم ذكر الرسول في قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾، وأيضا تقدم ذكر المسجد الحرام، ونميل الى إعادته الى المسجد، لأنه أقرب لفظا الى الضمير، والضمير يعود الى الأقرب، وعليه يكون المعنى ان أهل الكتاب يعلمون حق العلم بأن ابراهيم عليه السلام أبا الأنبياء وكبيرهم هو الذي رفع قواعد البيت، ولكنهم رفضوه لا لشيء الا لأنه في يد العرب، وهم سدنته وحماته، ولو لم يكن في يد العرب لكان اليهود والنصارى أسبق الناس اليه، وأكثرهم تقديسا له.
9. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، فضلا عن اتباع ملتك، فأعرض عنهم، حيث لا تجدي معهم حجة ولا منطق بعد ان أعماهم الجهل والتعصب.
10. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾، ربما طمع بعض أهل الكتاب ان يعود النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الى القبلة التي كان عليها.. فحسم الله طمعهم بقوله: وما أنت بتابع قبلتهم، كما حسم أمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باتباع قبلته بقوله: ما تبعوا قبلتك.
11. ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾، اليهود يصلون الى المغرب، والنصارى الى المشرق، ولا تترك طائفة ما هي عليه، وتتبع الأخرى، فكيف يتبعون قبلتك يا محمد؟.. بل ان بين فرق اليهود بعضها مع بعض، وبين فرق النصارى كذلك أكثر مما بينهم وبين المسلمين.. والمذابح التي حصلت بين الكاثوليك وبين البروتستانت لا مثيل لفظاعتها في جميع العصور.
12. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ومحال أن يتبع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أهواءهم، لأنه معصوم.. ولكن الغرض من هذا النهي أن يتشدد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في معاملته مع اليهود، ويتصلب في موقفه منهم، إذ لا خير في مهادنتهم، ولا أمل في سلمهم، ولا تجدي أية محاولة لردعهم عن الكيد والفساد، لأنهم جبلوا على الشر، ومعاندة الحق، والاساءة لمن أحسن اليهم.
13. من المعقول جدا أن يختلف العلماء من كل نوع وصنف في مسألة غير دينية، وبعد التذاكر والتدارس يتفقون على ما كانوا فيه مختلفين ـ ولقد وقع هذا بالفعل ـ أما إذا اختلف العلماء من أديان شتى في مسألة دينية فاتفاقهم بحكم المحال، حتى ولو قام ألف دليل ودليل، وقد ثبت عند علماء النفس ان تحول الناس عن كيانهم أيسر بكثير من تحولهم عن دينهم.. ذلك ان أكثر الناس يعتمد دينهم على التعصب لدين الآباء والأجداد.. وما عرف عن دين من الأديان انه نعى على تقليد الآباء غير الإسلام.. فلقد استند في تثبيت أصوله الى العقل وحده، ومن استعرض آيات القرآن، والأحاديث النبوية يرى انها تهتم بمتابعة العقل بقدر ما تهتم بالإيمان بالله، لأن هذا الايمان لا ينفك أبدا عن الهداية بنور العقل السليم.
14. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، أي ان الكثير من علماء اليهود والنصارى على معرفة صحيحة وجلية بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، تماما كمعرفتهم بأبنائهم التي لا شك فيها، ولا ريب، لأن التوراة والإنجيل بشّرا به، وذكراه بنعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره.. قال تعالى: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾، وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.. كان عبد الله بن سلام من أحبار اليهود، ثم أسلم، وقال فيما قال أنا أعلم بنبوة محمد مني بابني.. فقيل له: ولمه؟ قال اني لا أشك في محمد أنه نبيّ، أما ولدي فلعل والدته قد خانت.
15. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أجل، يكتمونه حتى ولو قرأوا اسم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في اللوح المحفوظ حرصا على الرئاسة الدنيوية، والمصالح الشخصية.. ولا يختص العناد للحق باليهود والنصارى، لأن السبب عام، والباعث واحد، وقد رأينا بعض الشيوخ ينكر فضل زميله بغيا وحسدا.
16. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يشك أبدا فيما جاءه من ربه، ومحال ان يشك، والله سبحانه يعلم ان نبيه الأكرم لا يشك.. وانما الغرض بيان ان ما أنزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم غير قابل للشك والريب إطلاقا، فإذا ما أنكره منكر، وجحده جاحد فما ذاك إلا تعصبا وعنادا.
17. في 15/ 7/ 1963 زارني في بيتي مستشرق ايطالي يتقن الحديث بالعربية، ويبشر بالمسيحية، وجرى بيني وبينه محاورات شفاها وكتابة، وقال لي فيما قال ان القرآن يعترف صراحة بالإنجيل، فلما ذا ينكره المسلمون؟ فأجبته بأن القرآن يعترف بالإنجيل الذي بشّر بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما نطقت الآية 6 من الصف: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، والآية 157 من الاعراف: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾، ثم ان القرآن يقول: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وانجيلكم يقول: ان عيسى إله، فكيف تريدون منا أن نؤمن به، وفي نفس الوقت نؤمن بالقرآن؟.. وإذا كان النصارى يمنعون التناقض والتهافت بحكم العقل فقط، ويجيزونه في الدين والعقيدة فان المسلمين يرونه محالا وممتنعا في العقل وفي الدين وفي كل شيء، لأن أصول الدين الأساسية ترتكز عندهم على العقل وحده.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/229.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، الآية تدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل نزول آية القبلة ـ وهي هذه الآية ـ كان يقلب وجهه في آفاق السماء، وأن ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا أنه كان لا يرتضي بيت المقدس قبلة، وحاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، فإن الرضا بشيء لا يوجب السخط بخلافه، بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له صلّى الله عليه وآله وسلّم على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عار في استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الإطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة ورضى.
2. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ دون أن يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة، فإنها كانت شطر المسجد الأقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام ـ وهي الكعبة ـ على أن إضافة الشطر إلى المسجد، وتوصيف المسجد بالحرام يعطي مزايا للحكم، تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.
3. تخصيص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحكم أولا بقوله ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ يؤيد أن القبلة حولت، ورسول الله قائم يصلي في المسجد ـ والمسلمون معه ـ فاختص الأمر به، أولا في شخص صلاته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره، ولجميع الأوقات والأمكنة قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، وأيا ما كان فقوله: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، إما مطابقة أو تضمنا ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ من كتمان الحق، واحتكار ما عندهم من العلم.
4. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ﴾، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وأن إباءهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، وعدم تبينه لهم، فإنهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، ولا يقطع إنكارهم آية، فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾، لأنك على بينة من ربك، ويمكن أن يكون قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ نهيا في صورة خبر ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.
5. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾، تهديد للنبي، والمعنى متوجه إلى أمته، وإشارة إلى أنهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهواءهم وأنهم بذلك ظالمون.
6. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإن ذلك إنما يحسن في الإنسان، ولا يقال في الكتاب، أن فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أن سياق الكلام ـ وهو في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وما أوحي إليه من أمر القبلة، أجنبي عن موضوع الكتاب الذي أوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أن أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
7. على هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان صلّى الله عليه وآله وسلّم حاضرا، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: أن أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.
8. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهي عن الامتراء، وهو الشك والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعناه للأمة.
9. قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، وهذا رجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبلة، والإكثار من الكلام فيه، والمعنى أن كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة، فيه فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فإن الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، و﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والآية كما أنها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها إشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الأحكام والآداب لتحقيقها.
10. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾؛ مكة، التي خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منها كما قال تعالى ﴿مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾، ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع، وفي قوله ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تأكيد وتشديد.
11. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، تكرار الجملة الأولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل: اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت، واتق الله إذا نطقت، واتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوي عند كل واحدة من هذه الأحوال ولتكن معك، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها، وحيث ما كنتم من الأرض فولوا وجوهكم شطره.
12. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف:
أ. إحداها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنهم ظالمون باتباع الأهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين واخشوني.
ب. ثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
ج. ثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
13. ذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية وهي آية ـ تحويل القبلة ـ على قوله: {وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون}، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة، بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثم لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهير البيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، وتعينها لأن تكون قبلة يعبد الله إليها، ويكون المسلمون هم المختصون بها، وهي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ الآية.
14. هذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، الآية إنما هو لام الغاية، وآية سورة الفتح التي أخذها إنجازا لهذا الوعد ومصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾، مشتملة على هذه اللام بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، وآية الفتح على ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خاصة فالسياق في الآيتين مختلف، ولو كان هناك آية تحكي عن إنجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
15. نظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وقوله تعالى ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾، وسيجيء إن شاء الله شيء من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.
16. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾، ظاهر الآية أن الكاف للتشبيه وما مصدرية، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو وابنه إسماعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفيهم امتنان عليهم بالإرسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة، ومن هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم، هو الأمة المسلمة، وهو أولياء الدين من الأمة خاصة بحسب الحقيقة، والمسلمون جميعا من آل إسماعيل ـ وهم عرب مضر ـ بحسب الظاهر، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.
17. ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾، ظاهره آيات القرآن لمكان قوله ﴿يَتْلُو﴾، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى، والتزكية هي التطهير، وهو إزالة الأدناس والقذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر، وإزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق كالكبر والشح، وإزالة الأعمال والأفعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة، وتعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الأصلية والفرعية.
18. الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة والتكلم وحده ومع الغير، وفي غيره تعالى أيضا بالغيبة والخطاب والتكلم، والنكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.
19. تشريع القبلة في الإسلام، واعتبار الاستقبال في الصلاة ـ وهي عبادة عامة بين المسلمين ـ وكذا في الذبائح، وغير ذلك مما يبتلي به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في أول الأمر بالظن والحسبان ونوع من التخمين، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلثات، ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الإسلام، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف وخط القبلة، ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الإله المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة.
20. هذا السعي منهم ـ شكر الله تعالى سعيهم ـ لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعا:
أ. أما من جهة الأولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على أن المتقدمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، وذلك أن طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد ـ وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي ـ كان أقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا وعلى غير دقة لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الأمر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير؛ بالسردار الكابلي؛ ـ رحمة الله عليه ـ في هذه الأواخر بهذا الشأن، فاستخرج الانحراف القبلي بالأصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة؛ بتحفة الأجلة في معرفة القبلة؛ وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي؛ ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد، ومن ألطف ما وفق له في سعيه ـ شكر الله سعيه ـ ما أظهر به كرامة باهرة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25 ـ 75 ـ 20 وذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجده، ولذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبلة المحراب وربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الأمر لكنهـ رحمه اللهـ أوضح أن المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة وطول 39 درجة 59 دقيقة وانحراف، درجة 45 دقيقة تقريبا، وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلاة، وذكر أن جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله، ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمائة بقعة من بقاع الأرض، وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.
ب. أما الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الأرضية، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزمآرا في هذه الأيام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة، وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، واختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول شكر الله سعيه.
21. المتأمل في شئون الاجتماع الإنساني، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الأمر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونته ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الإنسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته، ثم استشعرت وألهمت بعلوم (صور ذهنية) وإدراكات توقعها، على المادة، وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة والمرؤوسية والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصة، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الأقوام والمناطق والأعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الإنسان، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال.
22. التوجه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزه عن شئون المادة، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا أريد أن يتجاوز حد القلب والضمير، وتنزل على موطن الأفعال ـ وهي لا تدور إلا بين الماديات ـ لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال وأشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، والركوع يراد به التعظيم، والطواف يراد به تفدية النفس، والقيام يراد به التكبير، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك، ولا شك أن التوجه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها.
23. كان الوثنيون، وعبدة الكواكب وسائر الأجسام من الإنسان وغيره يستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة، لكن دين الأنبياء ونخص بالذكر من بينها دين الإسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصلاة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الأرض وآفاقها، ونهى عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الإنسان بالتوجه إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته، وقيامه وقعوده، ومنامه ويقظته، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرداها فهذا بالنظر إلى الفرد.
24. بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب والأثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم، والتيام قلوبهم، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الأفراد في حيويتها المادية والمعنوية، تعطي من الاجتماع أرقاه، ومن الوحدة أوفاها وأقواها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، وحفظ به وحدة دينهم، وشوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/326.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ تقلب الوجه في السماء نَظَره إلى جهة فوق، وهذا شأن من ينتظر آتياً يأتي من جهة أن ينظر إلى تلك الجهة، فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمل على دفع الطبيعة البشرية في انتظاره نزول الوحي في شأن القبلة، ولعل سبب ذلك وعد من الله سابق أنه سيجعل قبلته الكعبة أو دعاء يتوقع إجابته أو نحو ذلك، و﴿قَدْ﴾ للتقليل، وذلك لقلة الفعل أو للتحقيق، ولا موجب لحمله على التكثير لإٍمكان أن تقلب وجهه في السماء قليل.
2. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ هو صلّى الله عليه وآله وسلّم يرضاها؛ لحكم الله بتوليتها، وبالطبع لكونها قبلة أبيه إبراهيم ـ صلى الله عليه ـ وليس المعنى: أنه لم يكن يرضى القبلة بيت المقدس؛ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يرضى ما رضي الله له.
3. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ اجعل ﴿وَجْهَكَ﴾ والياً ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي موجهاً إليه، وقوله تعالى: ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي بعضه؛ لأنه يكفي استقبال بعضه، ولذلك صحت الصلاة جوف الكعبة، والمسجد الحرام الكعبة وتحريمها لأن من دخلها كان آمناً، وهي مسجدٌ بني للصلاة فيه والطواف حوله وغير ذلك، بدليل قوله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ وظاهر طهارته للركع السجود طهارته للمصلين فيه لا للمصلين خارجه.
4. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ المراد مع التمكن من ذلك، فيصلي إلى الكعبة من أمكنه التوجه إليها، ولو كانت فوقه أو تحته، أما من تعذر عليه ذلك لمرض أو التباس أو غير ذلك، فهو يكفيه الاستقبال حيث أمكن، بدليل الآية السابقة ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.
5. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي استقبال شطر المسجد الحرام لعلمهم أن الحكم لله وأن هذا حكمه ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ بالياء والضمير لأهل الكتاب من آمن منهم ومن كفر، والمراد أنه سبحانه سيجازي كلاً بعمله، قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: (تدل الآيات على أن القبلة كانت إلى غير الكعبة، وهو بيت المقدس بالإجماع المعلوم، وذلك معنى قوله سبحانه: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وعلى نسخ استقبال بيت المقدس وتحويله إلى الكعبة المشرّفة، وعلى ان امتحان العباد بالنسخ حسن، وأن فيه حكمةً، وكذلك سائر الامتحانات كما يأتي في قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ الآية [الحج:11] وكابتلاء (أصحاب السبت) بحشر الحيتان إليهم يوم سبتهم، فكانت تأتيهم شرّعاً وعلى أن طائفة من الأمة جعلهم الله شهداء على الناس؛ لأن الآية لفظها عام، ومعناها خاص؛ لأنه لو كان المراد بها جميع الأمة لكان المعنى: وجعلنا جميع الأمة شهداء على جميع الأمة، وذلك فاسد، فما بقي إلاَّ أن يكون المعنى خاصّاً بطائفة من الأمة)، وبينت فيما مضى أنه ليس عاماً للأمة، وليس هناك صيغة عموم، وإنما هو ضمير غيبه، في قوله حاكياً: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾ يحتمل الاختصاص بقادة الإسلام، وحيث أن المقصود به القدح في الإسلام، فالمقصود به أصالة هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما ضَمّوا إليه خاصته كُفْراً به وتسوية بينه وبينهم، أما الأتباع الذين ليسوا قادة في الدين فليس السؤال موجهاً إليهم؛ لأنهم أتباعٌ معلومٌ جوابُهم لو سُئلوا: أنه الإتِّباع لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
6. (كم) ضمير خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأناس معه غير معينين؛ لا بعموم في الضمير ولا خصوص في قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾ مع أن قوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قد دل من حيث هو جواب السؤال على أن المراد في الجواب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخاصته الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم، الهدى المطلوب في قولهم: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الهدى المذكور في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء:175] وهذا لا يدخل فيه المخلطون، فأكد ذلك أن الكلام في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخاصته قادة الإسلام المطهرين، فقوله تعالى ـ عطفاً على ذلك ـ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ خاص بهم؛ لأن السياق واحد، يؤكد ذلك أن الوسط هم الخيار، وقد مر هذا وأعدته لزيادة بعض الكلام، فظهر: أن قول الإمام (لفظها عام) سهو، وأن الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ خاص برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأناس معه غير معروفين في الخطاب لا بعموم ولا خصوص، فهو مجمل بينته القرائن المذكورة.
7. لفظ ﴿أُمَّةٍ﴾ لا يدل على العموم؛ لأن استعماله في أمة الإسلام كلهم عرف خاص طارئ ليس في القرآن، وفي القرآن: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران:104] ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف:159] فثبت أنه يستعمل في بعض المنتمين إلى الملة لسبب خاص يجمعهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ لا يدل على أن المخاطبين هم كافة أهل الملة؛ لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم شهيد على الخاصة والعامة الموجودين في عصره الذين علم إيمانهم أو كفرهم، فخطاب الخاصة بأنه شهيد عليهم لا مانع منه.
8. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ لأنهم متعصبون لقبلتهم قد كفروا بالحق بعد الآيات البينات فخذلوا، فلا يفيدهم زيادة الآيات، ولو جاءتهم كل آية، فلا يتبعون ﴿قِبْلَتَكَ﴾ التي هي الكعبة.
9. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ لأن الله قد هداك للحق ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ [الزمر:37] ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ لتعصب كل ملة لقبلتهم وكون القائد لكل منهم إلى دينه هو الهوى ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ لأن من الحيف والجور أن يعدل العبد عن أمر مالكه المنعم عليه إلى أهواء أعداء ربه.
10. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي الذين علمهم الكتاب، فهم يقرؤونه ويفهمون معانيه ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ يعرفون ما جاءك من العلم، أي يعلمون أنه من الله ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ معرفة تامة ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ﴾ أي من هؤلاء الذين يعرفونه ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فيعلمون الحق ويعلمون إثم الكتمان، فيعلمون أن ذلك الكتمان قبيح، ومع ذلك يكتمون؛ جرأة على الله وانقياداً للحسد والكبر والهوى.
11. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ لأن ما أمر به حق، وما شرعه الحق فالحق منه؛ لأن التشريع منه، له الحكم وله الملك، ومن ذلك جعل الكعبة قبلة فهو حق من الله ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكّين؛ لأن الله يحكم لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته، ولا يشرك في حكمه أحداً، فما شرعه فهو الحق وما بعد الحق إلاَّ الضلال، فلا مجال للمرية.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/205.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1، كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدث به الروايات، يعاني حالة نفسية في موضوع القبلة، فقد كان يواجه التحدي اليهودي للمسلمين، الذي يتمثل في تعييرهم لهم بتبعية قبلتهم وفي تفاخرهم بذلك عليهم، مما كان يترك تأثيرا سلبيا على نفسية المسلمين، ولم تكن القضية قضية انفعال مضاد ضد التشريع بالتوجه إلى بيت المقدس، بل كان تطلعا روحيا إلى قبلة جديدة تنسجم مع أجواء الرسالة الإسلامية التي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام، واعتبرت امتدادا للخط الإسلامي الذي بدأه إبراهيم في منطلقة الروحي من الكعبة.. وكانت مشاعره تتصاعد في ابتهال داخلي كمثل الدعاء الصامت الذي يعبر عن نفسه بالنظرات الخاشعة التي توحي وكأنها تنتظر شيئا كمثل الهاجس الداخلي الذي يشبه الوحي.
2. ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ في تطلع ابتهالي ينفتح في روحية دعائية على ربه، في تعبير عن الرغبة العقلية التي تنطلق من حسابات دقيقة في مصلحة الرسالة ومن إيحاءات شعورية في وعي التحدي اليهودي ضد الإسلام، وذلك في دعاء هادئ يرتفع إلى الله، من دون اعتراض على تشريعه للقبلة الأولى، وتوسل إليه أن يبدلها إلى القبلة الجديدة ـ وهي الكعبة ـ التي تنسجم مع موقع الرسالة الذي يتجذر في حركة الأمة، من خلال الإحساس بأن الدين الجديد بحاجة إلى قبلة جديدة تمثل رمز الوحدة الحركية للأمة، فإن الله الذي أراد لإبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحج إلى الكعبة، أعطاها معنى الطهارة والقداسة والخصوصية المميزة في اعتبارها بيته المحرّم الذي طهّره ـ من خلال إبراهيم ـ للطائفين والعاكفين والركّع السجود، كما جعله مثابة للناس وأمنا، وغير ذلك من الخصوصيات الداخلية والخارجية التي تميزه عن بيت المقدس، فقد صنعت الكعبة على عين الله ولم يكن ذلك لبيت المقدس.
3. هكذا تقبّل الله ابتهالاته ودعواته، وجاء الوحي ليقرّر التشريع للقبلة الجديدة التي يرضاها الله كما رضيها رسوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ يا محمد ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، أي حوّل نفسك في توجهاتك العبادية نحو المسجد الحرام الذي يحتوي الكعبة ـ القبلة باعتبارها جزءا منه، ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ أيها المسلمون، ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ وتوجهوا إليه، ليكون رمز وحدتكم في اتجاهكم نحو بيت الله الذي هو المسجد العالمي، سواء كنتم في البحر أو في البر، أو في السهل أو في الجبل، أو في الجوّ أو في الشرق أو في الغرب، ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يمينا أو شمالا ولا تستدبروه، وقد انطلق التدقيق بالقبلة من خلال التحديد الصريح في ضرورة التوجه إلى المسجد الحرام حتى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة.
4. هكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التشريع استجابة للتطلعات الروحية النبوية بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهية التي يريد الله للناس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك.. وهكذا وجه الله نبيه إلى جهة المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة، وهو قائم يصلي في مسجد بني سالم في ما تنقله روايات أسباب النزول، ودعا المسلمين إلى التوجه إليه في أي مكان كانوا.. وأثار أمامه قضية أهل الكتاب الذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديث وإثارة، بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب.
5. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ولا سيما اليهود الذي بادروا بالاعتراض وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصوت عاليا بذلك، بعد أن كانوا يتحدون النبي ويستعلون عليه لتوجهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس، ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، قال في مجمع البيان: (أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنه يصلّي إلى القبلتين، وروي أنهم قالوا ـ عند التحويل ـ: ما أمرت بهذا يا محمد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا، ومرّة إلى هنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبيّن أنهم يعلمون خلاف ما يقولون)
6. ربما كان وصفهم بأهل الكتاب في الآية إيحاء بأن تحويل القبلة موجود في الكتاب، لأنهم يعلمون أن الخط الذي تسير عليه في العقيدة وفي التشريع هو الحق من ربهم، وذلك في ما تحدثت به التوراة التي يعرفونها جيّدا ويخفونها عن الناس، وهم يظنون أن الله يغفل عنهم في ما يدبّرون من مكائد، ولكن الله لا يغفل عنهم وعن أعمالهم في أيّ حال، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ من الخطط التخريبية العدوانية التي يخططونها في حركتهم المضادة للنبي، من أجل أن يصدوا عن سبيل الله ويفتنوا الناس عن دينهم الحق، فهو المطّلع على كل شيء من أمور عباده.
7. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ لأنهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك، فقد أغلقوا كل النوافذ الروحية والفكرية التي تطل على الحق، ولذلك فإن الجهد الذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحق الذي معك، هو جهد ضائع لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، فالقضية ليست قضية الدلائل والبينات التي تقدمها إليهم كثرة أو قلّة، بل هي الباب المغلق الذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه، فلو أنك قدمت لهم كل الآيات ما اتبعوا قبلتك.
8. كما أنك ـ من خلال الحق الذي تؤمن به ـ لا تتبع قبلتهم، ثم إن القضية ليست قضية العناد الذي لا يلين للحق معك، بل إن الموقف الذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتخذ الأسلوب نفسه، فإن اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، أمّا النصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا دون أن يتنازل أحدهم للآخر، ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾.
9. تنطلق الآية أخيرا في مواجهة الموقف بأسلوب التهديد لأية حالة من حالات الاستسلام للضغوط المتنوعة التي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات.. وتزداد المواجهة حدّة وتأكيدا بتوجيه الخطاب إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كأسلوب من أساليب القرآن في الإيحاء للأمة بخطورة القضية، فإن القوم لا ينطلقون من موقف فكري للحق بل يتحركون من خلال أهوائهم.
10. ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة التي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة، ويظلمون العقل الذي يمثل القاعدة لوجودهم الإنساني، الذي يركز لهم كل خطواتهم في الحياة ويضعها على الدرب المستقيم، ويظلمون مصيرهم الذي يتحركون به إلى النار بدلا من الجنة، فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين!؟ إن النتيجة ستكون استسلاما لنوازع الظلم للذات وللقضية وللأمة، مما يجعل المصير في اتجاه مصير الظالمين.
11. يؤكد القرآن من جديد أن أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهل للنبي ولرسالته، فقد عرّفتهم التوراة صفاته جيدا، فعرفوه في وضوح من الرؤية كما عرفوا أبناءهم، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمونه نتيجة عنادهم وتمردهم وضلالهم، ويختم الموقف من مواقف التحدي الذي يمارسه الباطل ضد الحق، ثم يحدد القضية بشكل حاسم، فلكل إنسان وجهة في حياته يصرف وجهه إليها ويتجه نحوها، فأهل الباطل يتجهون إلى رموز الباطل وعلاماته، وأهل الحق يتجهون إلى رموز الحق وعلاماته، ولكل واحد منهم عمل، فأهل الخير يتحركون في اتجاه الخير ويتسابقون نحوه، وأهل الشر يتحركون في اتجاه الشر ويستبقون إليه.
12. ثم يطرح النداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كل موقف وفي كل منعطف، ليعرفوها ويعيشوها فكرا وشعورا وعملا، وستكون نهاية الجميع عند الله، فإن الله لا يفوته أحد ولا يعجزه مطلوب، مهما ابتعد ومهما نأى، فسيأتي به الله لأنه على كل شيء قدير.
13. ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ وهم العلماء منهم، ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي رسول الله في صدقه في نبوّته، ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ في وضوح الرؤية وإشراقة اليقين من خلال بشارة التوراة والإنجيل به، وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله التي تشيز إليه، وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]، وقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6].
14. احتمل بعضهم أن يكون الضمير في ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ عائدا إلى الكتاب، ولكنه غير ظاهر لأنه لا مناسبة له في السياق العام في موضوع الجدال الذي يدور حول النبي والنبوّة أمام مفردات التشكيك التي توجّه إليه، كما أن تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك، فإنه يقال في الإنسان إن فلانا يعرفه كما يعرف ولده ولا يقال ذلك في الكتاب.
15. ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ الذي قامت الحجة عليهم به بمعرفته اليقينية ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ لأنهم لا يملكون أساسا لأية شبهة في ذلك.
16. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ الذي أنزله إليك وبيّنه لك في وضوح الوحي وإشراقته، ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكّين في أيّ شأن من شؤونه، والظاهر أن الخطاب ـ كما ذكرنا ـ موجه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهو جار على أسلوب خطاب الأمّة من خلال خطاب الرسول، مما يوحي بأن على الأمّة أن لا تقع تحت تأثير عناصر الشك التي يحاول الكافرون من أعداء الإسلام إثارتها في وجدانهم الفكري.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/86.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بيت المقدس كان القبلة الاولى المؤقتة للمسلمين، والرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.
2. الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، ذكرت الرواية أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر، فأخذ جبرائيل بذراع الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأدار وجهه نحو الكعبة، وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس، كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريبا، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب.
3. من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث (يصلّي إلى القبلتين)، لذلك تضيف الآية: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته الاجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.
4. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلا على صدق دعوى النّبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.
5. محتوى هذه الآية يبيّن بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب القرآني، ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله، بل كان ترتيب الآيات يتم استنادا إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبأمر من الباري سبحانه، ومن تلك المناسبات مثلا رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات.
6. يستفاد من هذه الآية أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مرتبطا بالكعبة ارتباطا خاصا، ومنتظرا لأمر تغيير القبلة، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في ارتباط النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإبراهيم عليه السّلام، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعلم بوقوع هذا التغيير، وكان يترقب حدوثه، وهنا تبرز ظاهرة الاستسلام المطلق للرسول، حيث لم يتردد على لسانه طلب بهذا الشأن، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظرا بتلهّف نزول الوحي.
7. تعبير (السماء) في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط (جبرائيل) من الأعلى، وإلّا فالله لا مكان له، وهكذا وحيه المرسل.
8. يثير الالتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة، بل (شطر المسجد الحرام)، لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذّر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة، لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع، ثم كلمة (شطر) تعني السمت والجانب، وبذلك كان الاتجاه شطر المسجد الحرام عملا ميسورا للجميع، وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالبا على طول الكعبة، وبديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة ـ وحتى للمسجد الحرام ـ عمل صعب على المصلين البعيدين، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة.
9. كل خطابات القرآن هي دون شك ـ شاملة لكل المسلمين ـ وإن اتجهت إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (اللهم إلّا في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة أخرى إلى عامة المسلمين، هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ موجّه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة، لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة أخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضا.
10. عبارة ﴿قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاء للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين ارتباطا خاصا بالكعبة نحو الإسلام من جهة أخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة اولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط اعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.
11. لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة، وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام، وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.
12. جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثا على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.
13. ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرؤوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق، والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعدا للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أو عن طريق إراءة المعجزة، أمّا حينما يكون قد كوّن له رأيا مسبقا قاطعا، وخاصّة حين يكون مثل هذا الفرد جاهلا متعصبا، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن، لذلك تقول الآية: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الاستسلام للحق، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.. وكل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إمّا أثرياء متنفذون، أو علماء منحرفون، أو جاهلون متعصبون.
14. ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرّة أخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية، وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية، مؤكدا أنه لا ينثني أمام هذه الانفعالات، ﴿وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
15. لمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء:
أ. الأوّل: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين، ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ انحراف، فسيشمله العقاب الإلهي، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة أخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).
ب. الثّاني: أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النّبي، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضا واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقا لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة.
ج. الثّالث: أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكما من الأحكام، فهو عبد أيضا خاضع لأمر الله تعالى.
16. استمرارا لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾، إنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
17. هناك طبعا فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبي الإسلام، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله (أنا أعلم به مني بابني).
18. هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة، هي إن صفات نبي الإسلام الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب.
19. هل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النّبي وعلاماته في كتب أهل الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم!؟ ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النّبي الخاتم وصفاته كانت معروفة لديهم!؟ هذه الآيات ـ إذن ـ دليل على صدق دعوة الرّسول وصحّة نبوته.
20. ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي المترددين، وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النّبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.
21. المخاطب في الآية وإن كان شخص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أن النّبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأن الوحي بالنسبة له ذو جانب حسّي وعين اليقين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/414.
62. الشرائع الإلهية واستباق الخيرات
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈62⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 148 ـ 150]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
ذكر الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: تمام النعمة الموت على الإسلام(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/١٦٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنه قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، يعني بذلك: أهل الأديان، لكل قبلة يرضونها، ووجه الله حيث توجه المؤمنون، وذلك أن الله قال ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١١٥](1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٧٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ):
1. روي أنه قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لليهود وجهة هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، فهداكم الله ـ أنتم أيتها الأمة ـ القبلة التي هي القبلة(1).
2. روي أنه قال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فسارعوا في الخيرات(2).
3. روي أنه قال: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يوم القيامة(3).
4. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، يعني به: أهل الكتاب حين قالوا: صرف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الكعبة، وقالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، وكان حجتهم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عند انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا: سيرجع إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا(3).
5. روي أنه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم﴾، يعني: مشركي قريش، يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك(4).
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٨.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: لا يتم نعمة على مسلم إلا أن يدخله الله الجنة(1).
__________
(1) تفسير البغوي: ١/١٦٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لكل أهل دين قبلة يصلون إليها(1).
2. روي أنه قال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، يقول لهذه الأمة: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ البر والفاجر(1).
__________
(1) سعيد بن منصور في سننه: ٢/٦٢٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لكل صاحب ملة قبلة، وهو مستقبلها(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ حجتهم قولهم: قد راجعت قبلتنا(2).
3. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، يعني: على أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحجتهم قولهم: تركت قبلتنا(1).
4. روي أنه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم﴾، قالا: هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم؛ فيوشك أن يرجع إلى دينكم، قال الله: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾(3).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢١٦.
(2) ابن جرير: ٢/٦٨٥.
(3) عبد الرزاق: ١/٦٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فاستبقوا إلى الخيرات، واثبتوا على قبلتكم، فإنها وجه الله التي وجه إليها من صدق نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وآمن به(1).
2. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أخبره الله تعالى أنه لا يحوله عن الكعبة إلى غيرها أبدا؛ فيحتج عليه بذلك محتجون، كما احتج عليه مشركو العرب في قولهم: رغبت عن قبلة آبائك، ثم رجعت إليها(2).
3. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم﴾ لن يحتج عليكم بذلك إلا ظالم، فولوا وجوهكم شطره؛ لئلا يحتج عليكم الظلمة(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٧.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٨٧.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يعني بذلك: أهل الكتاب، قالوا حين صرف نبي الله إلى الكعبة البيت الحرام: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه، ودين قومه(1).
2. روي أنه قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم﴾ الذين ظلموا منهم مشركو قريش، إنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بانصرافه إلى البيت الحرام، وقالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا(2).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٨٢.
(2) ابن جرير: ٢/٦٨٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنه قال: (﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ معناه قبلة.. ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ معناه هو موجهها.. صلواتهم إلى بيت المقدس، وصلواتهم إلى الكعبة،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلّم 92.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا﴾ قال من الأرض ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يعني: يوم القيامة(1).
2. روي أنه قال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ لا تخشوا أن أردكم في دينهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٥٨.
(2) ابن جرير: ٢/٦٨٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم﴾ قالت قريش لما رجع إلى الكعبة وأمر بها: ما كان يستغني عنا، قد استقبل قبلتنا، فهي حجتهم، وهم الذين ظلموا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٦٨٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ ومن أين توجهت من الأرض ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فحول وجهك في الصلاة تلقاء المسجد الحرام، ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(1).
2. روي أنه قال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُم﴾ أن يكون لهم عليكم حجة في شيء غيرها، ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ في ترك أمري في أمر القبلة(2).
3. روي أنه قال: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُم﴾ في انصرافكم إلى الكعبة، وهي القبلة، ﴿وَلَعَلَّكُم﴾ ولكي ﴿تَهْتَدُونَ﴾ من الضلالة؛ فإن الصلاة قبل بيت المقدس بعد ما نسخت الصلاة إليه ضلالة(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٤٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٤٩.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الوجهة فهي: الملة والشريعة، ثم قال عز وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فيما يتعبدون به، واستباقهم هو: العمل به، والمواظبة عليه، ومن الخيرات أيضا: ما أعد الله في الجنة من العطاء الجزيل، والثواب الكريم، الذي أعده سبحانه للمؤمنين، وخص به أولياءه المتقين.
2. ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ هو: في حشره لهم عز وجل، وجمعه إياهم من حيث كانوا إلى موقفهم، وموضع مجازاتهم، وقد قيل: إن الوجهة هي: القبلة، والقول الذي قلنا به فيها هو الصواب ـ عنده وعند أصحابه ـ.
3. معنى ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، ليس لأحد في حكم الله ولا أمره حجة، ولا فيما تعبد به قول ولا معارضة.
4. معنى قوله عز وجل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ هو: ولا الذين ظلموا منهم، ولم يرد بقوله هاهنا: استثناء، وإنما أراد به: النسق، فليس لهم أيضا حجة؛ لأن الله يتعبد خلقه، ويأمرهم بما كان له فيه طاعة، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، فخرج ظاهر اللفظ: يثبت لهم حجة، والعرب تطلق هذا في كلامها، وهو في كتاب الله عز وجل فموجود، كما قال سبحانه: ﴿لَا أُقْسِمُ﴾، وإنما أراد: ألا أقسم، فطرح الألف وهو يريدها، والعرب تثبتها في الشيء، وهي لا تريدها، كما قال تبارك وتعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين}، وإنما أراد: وعلى الذين لا يطيقونه، فطرح (لا)، وهو يريدها، وإنما أراد سبحانه: لئلا يكون للناس عليكم حجة، ولا الذين ظلموا، فأثبت الألف، وهو لا يريدها.
5. وقوله عز وجل: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ فالخشية: قد تكون من الأذية والكلام، والبطش والقتال؛ فأمرهم الله ألا يخشوا الخلق، ولا يهابوهم، ولا يدارون الظلمة، ولا في الله سبحانه يتاقونهم، وأن تكون خشيتهم لله سبحانه، وقصدهم إياه، والطلب منهم لرضاه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/70.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ وجوه:
أ. قيل: يعنى الله موليها ومحولها.
ب. وقيل: هو يعنى المصلى، هو موليها.
ج. وقيل: ولى ـ أقبل وأدبر ـ ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ هو مستقبلها.
2. ويقال في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة.
3. في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ وجوه:
أ. قيل: بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات.
ب. وقيل: ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ هو اسم الازدحام، يقول: يبادر بعضكم بعضا بالخيرات.
ج. ويحتمل: أي استبقوا في أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾:
أ. قيل: أينما كنتم يقبض الله أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة.
ب. وقيل: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ أي في أي حال كنتم ـ عظاما ناخرة أو بالية أو رفاتا ـ يجمعكم الله ويحييكم، ولا يتعذر عليه ذلك، وهو كقوله: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: 49 ـ 51]، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه، ولا يشتد من الإحياء والإماتة.
5. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية.
6. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ حيثما كنت من المدائن والبلدان ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته، وهذا يبطل قول من يقول: إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان.
7. ذكر المسجد، ومعناه موضعا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾:
أ. قيل: ﴿وَإِنَّهُ﴾ تحويل القبلة، هو الحق ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾.
ب. وقيل: ﴿وَإِنَّهُ﴾ يعنى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو الحق ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾
ج. ويحتمل يعنى: القرآن هو الحق من ربك.
9. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ خاطب الكل، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.
﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ تأويل هذا الكلام أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة، والنصارى ناحية المشرق بهواهم، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142]، وقال: فأينما تولوا وجوهكم شطره، فثم وجه الله، فيقطع عذرهم وحجاجهم بما بين في كتب لهم أنه يحولهم، وذلك معنى قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: أراد ب (الناس) أهل الكتاب، وأراد بـ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ غيرهم من الكفرة، وتأويله: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، ولا الذين ظلموا.
ب. وقيل: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ يعنى أهل الكتاب ﴿عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ فيقولوا: ليس هذا الوصف في كتبهم أنه يصلى إلى بيت المقدس وقتا ثم يتحول إلى الكعبة، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ يقول: إلا من ظلم منهم عليكم في الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا: ليس هذا الوصف، ومثل هذا جائز في الكلام، يقول لآخر: ليس لك على حجة إلا أن تظلمني بلا حجة، وقال الفراء: هذا كما يقول الرجل لآخر: الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدى عليك، صواب في المعنى، خطأ في العربية، وذكر بيتا يدل على الجواز:
çما بالمدينة دار غير واحدة...دار الخليفة إلا دار مروانé
بمعنى: ولا دار مروان.
ج. وقيل أيضا: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ على القطع من الأول والابتداء بهذا، أي لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، وأن يقال: لا تخشوهم بالقتال والغلبة، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء، وعلى هذا يخرج قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ يعنى الأمن من الأعداء، ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3] قيل: هو الأمن من الأعداء] أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام، والنصر، وغيره.
11. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ القبلة، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ الإرشاد والصواب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/592.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾: أي لكل ملة هو مستقبلها، والوجه: هو الملة، قال الشاعر:
çأضحت وجوههم شتى فكلهم... يرى لوِجهَتِه فضلاً عن المللé
2. معنى قوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾: أي استبقوا وبادروا واشرعوا وعجلوا إلى الخيرات.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 279.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي لكل أهل دين وجهة أي قبلة والضمير في قوله ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ يعود على الكل، وقيل يعود على اسم الله تعالى يعني أنه أمر بالتوجه إليها، موليها: أي مستقبلها ومولي وجهه إليها، ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ بادروا وسارعوا والخيرات الطاعات، ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ خطاب للجميع كأنه وعد للمؤمنين ووعد للكافرين أنهم إينما كانوا يأت بهم الله يوم القيامة للجزاء، ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يعني قادر على جمعكم وعلى كل شيء.
2. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ قال ابن عباس وغيره وغيره: الناس أهل الكتاب، وقيل على العموم ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ يعني ظلموكم بالمقاتلة وقلة الاستماع وهم مشركو مكة لأن الظالم ليس له حجة وإنما يورد ما يظنه حجة وهي داحضة.
3. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ في التمسك والانصراف إلى الكعبة، ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ بتركها فإني أكفيكم أمرهم، ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عطف على قوله ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ فبين تعالى أنه حول القبلة لهذين الغرضين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/92.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ يعني ولكل أهل ملة من سائر الملل وجهة هو مولّيها، وفيه قولان:
أ. أحدهما: قبلة يستقبلونها، وهو قول ابن عباس وعطاء والسدي.
ب. الثاني: يعني صلاة يصلونها، وهو قول قتادة.
2. في قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن أهل كل وجهة هم الذين يتولّونها ويستقبلونها.
ب. الثاني: أن أهل كل وجهة الله تعالى هو الذي يوليهم إليها ويأمرهم باستقبالها، وقد قرئ هو مولاها وهذا حسن يدل على الثاني من القولين.
3. في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه فسارعوا إلى الأعمال الصالحة، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
ب. الثاني: معناه: لا تغلبوا على قبلتكم بما تقول اليهود من أنكم إذا اتبعتم قبلتهم اتبعوكم، وهذا قول قتادة.
4. ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ إلى الله مرجعكم جميعا، يعني يوم القيامة.
5. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يعني على إعادتكم إليه أحياء بعد الموت والبلى.
6. ثم أكد الله أمره في استقبال الكعبة، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين، بإعادته فقال: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تبيينا لنبيّه وصرفا له عن الاغترار بقول اليهود: أنهم يتبعونه إن عاد.
7. قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: أن يقول ذلك ترغيبا لهم في الخير.
ب. الثاني: تحذيرا من المخالفة.
8. ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره، ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما ألفوه، فقال: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجدة:
أ. أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره.
ب. وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أنه لا يتعقبه نسخ.
ج. وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه، لقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
9. ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ ليس يريد أن لهم عليكم حجة، وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن المعنى، ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج، وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها، لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم، مع خفائها على من جهل، كما قال تعالى: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فسمّاها حجة، وجعلها عند الله داحضة.
ب. الثاني: أن المعنى لئلّا يكون للناس عليكم حجّة بعد الذين ظلموا، فتكون (إلّا) بمعنى (بعد)، كما قيل في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 22] أي بعد ما قد سلف، وكما قيل في قوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى، وأراد بالذين ظلموا قريشا واليهود، لقول قريش حين استقبل الكعبة: قد علم أننا على هدى، ولقول اليهود: إن رجع عنها تابعناه.
10. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ في المخالفة ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: فيما هديناكم إليه من القبلة.
ب. الثاني: ما أعددته لكم من ثواب الطاعة.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/206.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قرأ ابن عامر وابو بكر عن عاصم (مولّاها)، وروي ذلك عن ابن عباس ومحمد بن علي، فجعلا الفعل واقعاً عليه، والمعنى واحد، كذا قال الفراء.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أقوال:
أ. أحدهما ـ قال مجاهد، والربيع، وابن زيد، وابن عباس، والسدي: أن لكل أهل ملة من اليهود والنصارى.
ب. الثاني ـ قال الحسن: إن لكل نبي وجهة واحدة، وهي الإسلام، وان اختلف الأحكام، كما قال ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ اي في شرائع الأنبياء.
ج. الثالث ـ قال قتادة: هو صلاتهم الى بيت المقدس، وصلاتهم الى الكعبة.
د. الرابع ـ ان لكل قوم من المسلمين وجهة، من كان منهم وراء الكعبة وقدامها أو عن يمينها أو عن شمالها، وهو الذي اختاره الجبائي.
3. اختلف في معنى الوجهة:
أ. قيل: انه قبلة، ذهب اليه مجاهد، وابن زيد.
ب. وقال الحسن: هو ما شرعه الله لهم من اسلام.
4. في (جهة) ثلاث لغات: وجهة، وجهة، ووجه، وإنما أتم لأنه اسم لم يجيء على الفعل، ومن قال جهة، قال المبرد: جاء به على قولهم وجهني، ووجهته.
5. معنى ﴿مُوَلِّيهَا﴾ مستقبلها ـ في قول مجاهد وغيره، كأنه قال مول إليها، لان ولى اليه نقيض ولى عنه، كقولك: انصرف اليه، وانصرف عنه، وقوله (هو) عائد ـ على قول اكثر المفسرين ـ الى كل، وقال قوم يعود على اسم الله حكاهما الزجاج.
6. ﴿الْخَيْرَاتِ﴾ هي الطاعات لله على قول ابن زيد وغيره، وقوله: ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يعني يوم القيامة ـ من حيث ما متم من بلاد الله ـ وهو قول السدي، والربيع وقد روي ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ مضاف غير منون ـ وذلك لا يجوز، لأنه يكون الكلام ناقصاً، لا معنى له ولا فائدة فيه.
7. قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ يحتمل معنيين:
أ. أحدهما ـ بادروا الى ما أمرتم به مبادرة من يطلب السبق اليه.
ب. الثاني ـ قال الربيع: سارعوا الى الخيرات، وهو الاولى، لأنه أعم.
8. الاستباق، والابتدار، والإسراع نظائر، قال صاحب العين: السبق: القدمة في الجري وفي كل أمر، تقول: له في هذا الامر سبقة، وسابقة وسبق: أي سبق الناس اليه، والسبق الخطر الذي يوضع بين اهل السباق، وجمعه اسباق، والسباقان في رجل الطائر الجارح قيداه من خيط أو سير، وأصل الباب السبق: التقدم في الامر.
9. في تكرار قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ أنه لما كان فرضاً، نسخ ما قبله، كان من مواضع التأكيد لينصرف الى الحال الثانية بعد الحال الاولى على يقين.
ب. الثاني ـ أنه مقدم لما يأتي بعده ويتصل به، فأشبه الاسم الذي تكرره لتخبر عنه باخبار كثيرة كقولك: زيد كريم، وزيد عالم، وزيد حليم، وما أشبه ذلك مما تذكره لتعلق الفائدة به وإن كانت في نفسها معلومة عند السامع.
10. معنى قوله ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ﴾ الدلالة على وجوب المحافظة ـ من حيث كان حقاً لله فيه طاعة ـ
11. معنى قوله ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ هاهنا التهديد كما يقول الملك لعبيده ليس يخفى علي ما أنتم فيه، ومثله قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، والوجه الجارحة المخصوصة وقد حده الرماني بانه صفيحة فيها محاسن تعرف بها الجملة، وحيث مبنية على الضمّ، لأنها كالغاية تمامها الاضافة الى المفرد، دون الجملة، لها بمنزلة الصلة، فجرت لذلك مجرى قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾
12. في تكرار قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ ثلاثة اقوال:
أ. أحدها ـ لاختلاف المعنى وإن اتفق اللفظ، لأن المراد بالأول: من حيث خرجت منصرفاً عن التوجه الى بيت المقدس، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وأريد بالثاني أين كنت في البلاد، فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر الكعبة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.
ب. الثاني ـ لاختلاف المواطن التي تحتاج الى هذا المعنى فيها.
ج. الثالث ـ لأنه مواضع التأكيد بالنسخ الذي نفلوا فيه من جهة الى جهة للتقرير والتثبيت.
13. سؤال وإشكال: هل في قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ حذف منه (في الصلاة) أم هو مدلول عليه من غير حذف؟ والجواب: هو محذوف، لأنه اجتزأ بدلالة الحال عن دلالة الكلام، ولو لم يكن هناك حال دالة لم يكن بدّ من ذكر هذا المحذوف إذا أريد به الافهام لهذا المعنى فأما قوله: عليم وحكيم، فإنه يدل على المعلوم من غير حذف.
14. في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما ـ لا تعدلوا عما أمركم الله في التوجه الى الكعبة، فيكون لهم عليكم حجة، بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله ما عدلتم عنه.
ب. الثاني ـ لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون الى الكعبة.
15. موضع اللام من (لئلا) نصب والعامل فيه احد شيئين: فولوا، والآخر ما دخل الكلام من معنى عرّفتكم ذلك، وهو قول الزجاج.
16. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ اربعة اقوال:
أ. أحدها ـ أنه استثناء منقطع، و(إلا) بمنزلة (لكن) كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ وقوله: ما له عليَّ إلا التعدي، والظلم، كأنك قلت: لكن يتعدى ويظلم، وتضع ذلك موضع الحق اللازم، فكذلك لكن الذين ظلموا منهم، فإنهم يتعلقون بالشبهة، ويضعونها موضع الحجة، فلذلك حسن الاستثناء المنقطع قال النابغة:
çلا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم... بهنّ فلول من قراع الكتائبé
جعل ذلك عيبهم على طريق البلاغة، وان كان ليس بعيب، كأنه يقول: ان كان فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فإذاً ليس فيهم عيب، فكذا إن كان على المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، ولا حجة له، فليس اذاً عليهم حجة.
ب. الثاني ـ ان تكون الحجة بمعنى المحاجّة، والمجادلة، كأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم يحاجوكم بالباطل.
ج. الثالث ـ ما قاله ابو عبيدة ان (إلا) هاهنا بمعنى الواو كأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم، وان ذكر ذلك الفراء، والمبرد قال الفراء: لا يجيء إلا بمعنى الواو إلّا إذا تقدم استثناء كما قال الشاعر:
çما بالمدينة دار غير واحدة... دار الخليفة إلا دار مروانé
وانشد الأخفش:
çوأرى لها داراً بأغدرة السي... دان لم يدرس لها رسم
إلّا رماداً هامداً دفعت... عنه الرياح خوالد سُحمé
يعني أرى لها داراً ورماداً، وكأنه قال في البيت الاول: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان، وخالفه ابو العباس فلم يجز ان تكون (إلا) بمعنى الواو أصلا.
د. الرابع ـ قال قطرب: يجوز الإضمار على معنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، وموضع الذين عنده خفض على هذا الوجه يجعله بدلا من الكاف كأنه قيل في التقدير: لئلا يكون للناس على أحد حجة إلا الظالم، قال الرماني: وهذا وجه بعيد لا ينبغي أن يتأول عليه، ولا على الوجه الذي قاله ابو عبيدة والاختيار القول الاول.
17. أثبتت (الياء) في قوله ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ هاهنا، وحذفت فيما عداه، لأنه الأصل، وعليه اجماع هاهنا، واما الحذف فللاجتزاء بالكسرة من الياء.
18. ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ معناه واخشوا عقابي بدلالة الكلام عليه في الحال، وإنما ذكرهم فقال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ لأنه لما ذكرهم بالظلم، والاستطالة بالخصومة والمنازعة طيب بنفوس المؤمنين أي فلا تلتفتوا الى ما يكون منهم فان عاقبة السّوء عليهم:
أ. قال قتادة، والربيع: المعني بالناس هاهنا أهل الكتاب.
ب. وقال غيرهما: هو على العموم ـ وهو الأقوى ـ
19. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾:
أ. قال ابن عباس، والربيع، وقتادة: مشركو العرب.
ب. وقال قوم: هو على العموم ـ وهو الاولى ـ.
﴿لئلًا﴾ ترك الهمزة نافع، الباقون يهمزون، ويلين كل همزة مفتوحة قبلها كسرة، والحجة هي الدلالة، وهي البرهان.
20. التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ ان النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة، لان الله لطف بعباده بها على ما يعلم من المصلحة، ومحمود العاقبة.
ب. الثاني ـ الذكر الذي أمر الله به كالنعمة بالرسالة فيما ينبغي ان يكون عليه من المنزلة في العظم والإخلاص لله، كعظم النعمة، وهو على نحو قوله: ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، والعرب تقول: الجزاء بالجزاء، فسمي الاول باسم الثاني للمقابلة، وهو قول السدي، والربيع.
21. روي ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ مضاف غير منون ـ وذلك لا يجوز، لأنه يكون الكلام ناقصاً، لا معنى له ولا فائدة فيه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/24.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿وِجْهَةٌ﴾: فيها ثلاث لغات: وِجْهَة وجِهَة ووَجْهٌ بمعنى واحد.
ب. الاستباق والابتدار والإسراع نظائر، والسبق التقدم في الأمر.
ج. الجميع والكل بمعنىً.
د. الشَّطْر: النحو، وقد مضى ذكره.
هـ. الغفلة: ذهاب العلم.
و. الحجة: البينة الصادقة، ثم تستعمل في الشبهة توسعًا، يقال: هذه، حجة المخالف، وتستعمل في نفس المنازعة، يقال: ليس بيننا حجاج إلى حراك.
ز. الخشية: الخوف.
ح. النعمة: الإفضال على الغير، وهو النفع الحسن يوصله إليه، وأصل الهداية الدلالة.
2. اتصال الآية بما قبلها على ما يذهب إليه أبو علي لكل قوم من المسلمين جهة: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ يا معشر المسلمين، ولو أراد غير المسلمين لكان يميز بين الحق والباطل، فلما قال: { استبقوا } دل أنه المراد، عن القاضي، وعلى مذهب الحسن لِكُلٍّ طريقة، وقد ظهر الحق في طريقتك: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، وعلى ما يقوله الأصم: لكل قوم من الكفار قبلة، وفي زعمه أنه مأمور به، فإن كان الله يوجههم إليها فيما ينكرون أو يوجهك أي قبلة أخرى فلماذا قالوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ﴾؟ فإذا ظهر بهذا الحجاج الحق: ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ﴾:
أ. قيل: لأهل ـ كل قبلة من اليهود والنصارى، عن ابن عباس ومجاهد والربيع والسدي وابن زيد.
ب. وقيل: لكل قوم من المسلمين جهة ممن وراء الكعبة إما عن يمينها أو عن شالها قَرُبُوا أم بعدوا، عن أبي علي والقاضي.
ج. وقيل: لكل من اليهود والنصارى والمشركين، عن الأصم.
د. وقيل: لكل من المسلمين وأهل الكتاب، عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: لكل نبي وصاحب قبلة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وِجْهَةٌ﴾:
أ. قيل: طريقة وشرعه وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكامِ عن الحسن.
ب. وقيل: قبلة، عن مجاهد والأصم وأبي علي وأكثر المفسرين.
5. اختلف في الضمير في ﴿هُوَ﴾ في قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾:
أ. قيل: يعود على: ﴿كُلِّ﴾
ب. وقيل: يعود على اسم الله تعالى يعني أنه أمر بالتوجه إليها.
ج. ﴿مُوَلِّيهَا﴾ قيل: مستقبلها ومولي وجهه إليها.
6. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ قيل: بادروا وسارعوا، عن الربيع وغيره، و﴿الْخَيْرَاتِ﴾ قيل: الطاعات، عن ابن زيد وأبي علي ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ خطاب للجميع، كأنه وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين أنهم أينما كانوا.
7. ﴿يَأْتِ بِكُمُ الله﴾ يوم القيامة، وقيل: ما سكنتم من بلاد الله عن الربيع والسدي: ﴿يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا﴾ إلى المحشر يوم القيامة للجزاء: ﴿أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يعني قادر على جمعكم وعلى كل شيء.
8. لما بَيَّنَ تعالى أمر قبلة الحاضرين بين أحوال السفر، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ قيل: إزالة لإيهام أنّه أحوال يختلف فيه السفر والحضر، كما في صلاة النافلة على الراحلة: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ قيل: القبلة المأمور بها، ويحتمل أَنه الثابت الذي لا يزول بنسخ، ولهذا يوصف الله تعالى بأنه حق، أي ثابت لا يزول ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ يعني عليم بأحوالهم يجازيهم، وهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين أنه لا يخفى عليه شيء منهم.
9. في سبب تكرير هذه الآية أربعة أقوال:
أ. قيل: لأنه لنسخ فرضٍ قبله فكان موضع التأكيد، فأكده لينصرف الناس إليه.
ب. وقيلِ: إنه مقدم لما يأتي بعده ويتصل به كقولك: زيد عالم كريم.
ج. وقيل: بالأول نَسَخ بيت المقدس، وبالثاني بَيَّنَ أن القبلة هي الكعبة أينما كانوا.
د. وقيل: بَيَّنَ في الثاني حال السفر، وفي الأول حال الحضَر، ثم بَيَّنَ تعالى ما قطع حجاج المخالفين في أمر القبلة، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾، وفيه خلاف، كأنه قيل: فول وجهك في الصلاة، وإنما حذفت لدلالة الكلام عليه.
10. ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني نحوه، وفي سبب تكرير هذه الكلمة أقوال:
أ. قيل: المراد بالأولى حيث خرجت إلى النواحي التي كنت تصلي فيها إلى بيت المقدس: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وأراد بالثاني سائر البلاد والأقطار من أي جهات الكعبة، عن أبي علي.
ب. وقيل: إنه صدر الآية به ليتعلق به قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وأراد بيان حكم آخر يعلقه به، وأعاد ذكره كقوله: زيد عالم، زيد كريم، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: أراد بإحدى الآيتين السفر، وبالأخرى الإقامة في المواضع، عن الأصم.
د. وقيل: لاختلاف المواطن والأوقات التي يُحتاج إلى هذا المعنى فيها.
هـ. وقيل: لأنه من مواضع التوكيد لما جرى من النسخ لتثبيت القلوب، وكل حسن.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾:
أ. قيل: لأهل الكتاب، عن قتادة والربيع.
ب. وقيل: هو على العموم: ﴿عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يعني: لا تعدلوا عما أمركم الله به من التوجه إلى الكعبة فتكون عليكم حجة، يعني: لا تعدلوا عما أمركم الله به بأن تقولوا: لو كنتم تعلمون أنه من عند الله ما عدلتم عنه، عن أبي علي.
ج. وقيل: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب من أن المسلمين يتوجهون إلى الكعبة.
د. وقيل: هم قريش واليهود، أما اليهود فيقولون: ما درى محمد أين قبلته حتى هديناهم، وأما قريش فقالوا: ترك قبلة إبراهيم.
12. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ اختلفوا في هذا الاستثناء على خمسة أقوال، وإنما اختلفوا في ذلك؛ لأن الظالم ليس له حجة، وإنما يورد ما يظنه حجة، وهي داحضة:
أ. الأول: أنه استثناء منقطع غير متصل، و﴿إِلَّا﴾ فيه بمنزلة: ﴿لَكِنِ﴾ كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ ويُقال: ما له عليَّ حق إلا التعدي، يعني لكنه يتعدى ويظلم، وقال النابغة: (وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا أوَارِيَّ)، وتقدير الآية: ليس الَّذِينَ ظلموا منهم يتعلقون بشبهة، ويضعونها موضع الحجة، عن الفراء وجماعة من النحويين.
ب. الثاني: أن الحجة بمعنى المحاجة، وتقديره: لئلا يكون للناس معكم حجاج إلا الَّذِينَ ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل، والاستثناء على هذا متصل بما قبله.
ج. الثالث: زعم أبو عبيدة أن: ﴿إِلَّا﴾ بمعنى الواو، كأنه قيل: لئلا يكون للناس عليكم حجة، ولا الَّذِينَ ظلموا، وأنشدوا:
çوَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْه... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرقَدانé
يعني: والفرقدان، وأنكر ذلك الفراء وأبو العباس، قال الفراء: ولا يجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء، كما قال الشاعر:
çمَا بِالْمدِينةِ دارٌ غَيْرُ واحِدَةٍ... دارِ الخليفةِ إلا دارَ مَرْوَانَé
كأنه قال: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان، وقال أبو العباس: لا يجوز: ﴿إِلَّا﴾ بمعنى الواو أصلاً.
د. الرابع: زعم قطرب أن فيه إضمارًا، وتقديره: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الَّذِينَ ظلموا، وموضع: ﴿الَّذِينَ﴾ خفض عنده؛ لأنه جعله بدلاً من الكاف والميم في ﴿عَلَيْكُمْ﴾، كأنه قيل: لئلا يكون عليكم حجة إلا على الَّذِينَ ظلموا فإنه يكون حجة عليهم، وهم الكفار، وقال علي بن عيسى: وهذان الوجهان يبعدان، والأول هو الصحيح.
هـ. الخامس: أنه استثناء صحيح، والمراد بالناس أهل الكتاب، وأنهم وجدوا في كتابهم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحول القبلة، فلما حولت القبلة بطلت حجتهم إلا الَّذِينَ ظلموا، فإنهم كتموا ما عرفوا، عن أبي روق.
13. اختلفوا مَنِ الَّذِينَ ظلموا:
أ. قيل: الناس على العموم، والَّذِينَ ظلموا: اليهود وقريش، أما قريش فقالوا: إنه علم أنه قبلة آبائه فرجع إليه، وسيرجع إلى ديننا، ويعلم أنه الحق، وأما اليهود فقالوا: لم ينصرف محمد عن قبلتنا عن علم، وإنما يفعله برأيه، ويزعم أنه أُمِرَ به.
ب. وقيل: الناس هم أهل الكتاب، والَّذِينَ ظلموا مشركو مكة، وحجتهم أنهم قالوا: إن محمدًا تحير في دينه فتوجه إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا، عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والربيع والسدي.
ج. وقيل: هو على العموم، والَّذِينَ ظلموا يعني ظلموكم بالمقابلة وقلة الاستماع.
وهذه الأقوال على قول من يقول: إنه استثناء صحيح أو منقطع، وعلى قول أبي عبيدة وقطرب، والكلام ظاهر.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾:
أ. قيل: خطاب للمسلمين لئلا يخافوا مَنْ تقدم ذكره من المتعنتين؛ إذ لا حجة لأحد عليهم ولا يد، ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ في التمسك بالإسلام والانصراف إلى الكعبة، واخشوا عقابي بأن تعدلوا عما أمرتكم به.
ب. وقيل: لأجل خشيتكم من الغير، لا تركبوا المعاصي ﴿وَاخْشَوْنِ﴾ بتركها فإني أكفيكم أمرهم.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾:
أ. قيل: عطف على قوله: ﴿لئلًا﴾، وتقديره: لئلا يكون لأحد عليكم حجة ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ بخشية الله دون خشية الناس ليتم نعمة الدين والدنيا.
ب. وقيل: لأتم نعمتي بهدايتكم إلى الكعبة التي هي قبلة الأنبياء، وأنه أصلح، فبين أنه حول القبلة لهذين الغرضين: زوال المقالة وتمام النعمة.
ج. وقيل: تمام النعمة في التحويل أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم، فلما حول القبلة إلى بيت المقدس لحقهم ضعف، فكان يحب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم التحويل حتى حولت، فهذا تمام النعمة، عن أبي مسلم.
د. وقيل: أتم النعمة بهدايتكم إلى الصلح لكم ولتتميزوا من اليهود بالقبلة كما تميزتم من سائر الأديان، عن أبي مسلم.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾:
أ. قيل: لكي تهتدوا، و﴿لَعَلَّ﴾ من الله واجب، عن الحسن وأبي علي وجماعة.
ب. وقيل: لتهتدوا إلى ثوابها.
ج. وقيل: إلى التمسك بها.
17. ذكر أبو مسلم في هذه الآيات الواردة في نسخ القبلة تشككًا في صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين بمكة والمدينة فقال في قوله تعالى: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾: لولا الأخبار لاحتمل أن يكون المراد ما ولى المسلمين عن قبلتهم ﴿الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ يعني: قبلة السفهاء أي ما صرفهم عن ذلك؛ لأنهم لما رأوا المسلمين متوجهين نحو الكعبة كان ذلك عندهم بدعًا مستنكرًا، وذكر في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ لولا اتفاق العلماء ورواة الأخبار أنه صلى إلى بيت المقدس لاحتمل قوله: ﴿كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ صرت عليها كقوله: ﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وقال في قوله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾: لولا الأخبار واتفاق العلماء في توجهه إلى بيت المقدس لاحتمل أن يكون هذا في مقدمه المدينة، فقد روي أنه كان صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة لا إلى بيت المقدس، ودليل على أنه الحق عنده، فلما هاجر لم يدر أين يتوجه، ويحب أن يؤمر بالتوجه إلى الكعبة، فانتظر الوحي، فأتاه ما طَلَبَ وأحب.
18. ما ذكره أبو مسلم كله تخليط، وإنما دعاه إلى ذلك مذهب له أن النسخ في شرع نبينا لا يجوز ولا يثبت، وتأول الآيات المنسوخة على تأويل، وهذا لا وجه له؛ لأنه خلاف الكتاب والأخبار والنظر والإجماع:
أ. أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ يدل على بطلان قوله، وقوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ وقال: ﴿الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ وظاهرها أنه كان على قبلة فَصُرِفَ إلى أخرى.
ب. أما الأخبار فتظاهرت بأن القبلة نسخت حتى قال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن التوجه إلى بيت المقدس.
ج. فأما الإجماع فلا يُعْلمُ أحدٌ من العلماء في الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم أنكر النسخ، وهذه كتب الجميع ناطقة بجواز النسخ.
د. فأما النظر إذا جاز النسخ للمصلحة لم لا يجوز في شريعتنا كذلك؟ وقوله: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم صلى بمكة كذا، لا يجوز؛ لأن من المشهور أنه كان يصلي إلى بيت المقدس بمكة وبالمدينة بضعة عشر شهرًا، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: ستة عشر، ولا يجوز أن يؤمر بالتوجه إلى موضع، فيوهم أنه صلى إلى غيره.. ومتى قيل: إنه صلى إلى بيت المقدس اتباعًا لغيره لا شرعًا، قلنا: جميع ما تعبده به فهو شرع له، ولأنه لو اتبع غيره لاتبع ملة إبراهيم فلا وجه إذًا لما قاله.
19. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن لكل قوم قبلة، ثم اختلفوا:
• قيل: هي الكعبة كانت قبلة الأنبياء، عن أبي العالية والربيع.
• وقيل: الكعبة وبيت المقدس، عن أبي علي وغيره.
• وقيل: قبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى المشرق، وقبلة المشركين إلى أصنامهم، عن الأصم.
ب. وجوب المسارعة إلى الطاعات وترك التواني.
ج. أنه يجمع الناس للحشر يوم القيامة للجزاء على الأعمال وكل ذلك ظاهر.
د. في الآية إياس للمؤمنين من قبول الكفار قولهم، فكأنه قيل: إذا كانوا لا يقبلون قولكم فبادروا أنتم.
هـ. وجوب الصلاة في أول الوقت.
و. وجوب التمسك بالقبلة حيث كان وأنه الحق المأمور به.
ز. أن الغفلة والنسيان لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه عالم لذاته لم يزل ولا يزال.
ح. أنه لا حجة لمخالفي الحق إلا من ظلم نفسه بإيراد الشبهة؛ ليدفع بها الحق فتكون داحضة، وهذا سبيل كل مبطل مخالف للحق.
ط. أنه ينبغي أن يخشى، ويجعل أوامره نصب عينيه، ويعلم أنه يراه في جميع أحواله؛ ليتقي معاصيه، ولا يعصيه لأجل خشية الناس.
ي. أن تمام النعم نِعَمُ الدين، وأن نعم الدنيا كالتَّبَعِ لها.
ك. أنه تعالى أراد اهتداء الخلق؛ لأن قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ معناه: أراد بذلك هدايتكم.
ل. وجوب التوجه إلى الكعبة سفرًا وحضرًا، ونسخ ما عدا ذلك من الجهات.
20. قراءات:
أ. قرأ ابن عامر { مُوَلَّاها } بالألف أي مصروف إليها، وروي ذلك عن ابن عباس وذلك يشهد أن المراد به المسلمون على ما تأوله عليه أبو علي، وقرأ الباقون: ﴿مُوَلِّيهَا﴾ بالياء، ومعناه: مُوَلٍّ إليها أي: مستقبلها.
ب. وروي أن في حرف أُبَيٍّ: { لِكُلٍّ قِبْلَة }، وفي حرف ابن مسعود { لكلٍّ جَعَلنا قبلة }، وهذا يُحْمَلُ على أنهما فسرا به، لا أنهما قرآه.
ج. قرأ أبو عمرو ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بالياء وعيدًا لمن سبق ذكرهم من المخالفين، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب للمسلمين وعد لهم في تمسكهم بها بما أمروا.
د. قرأ نافع: ﴿لئلًا﴾ بترك الهمزة، وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء على ما قبلها، وقرأ الباقون بالهمز، وهو الأصل.
21. مسائل نحوية:
أ. ﴿حَيْثُ﴾: بالياء والرفع لغة قريش، وقراءة العامة، وقيل: هو مبني على الضم كمنذ، وقيل: رفع على الغاية، وفيه لغات أخرى: حَيْثَ بفتح الثاء، وحَوْثُ بالواو.
ب. ﴿لئلًا﴾ موضعه نصب العامل فيه، قيل: وَلُّوا لئلا، وقيل: ما دخل الكلام في معنى عرفتكم ذلك لئلا، عن الزجاج.
ج. أثبتت الياء في ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ لأنه الأصل، وهو إجماع ههنا، وأما الحذف فللخفة، والأخير بالكسرة من الياء.
د. ﴿الَّذِينَ﴾ موضعه نصب بالاستثناء، عن الفراء، وقيل: موضعه خفض، كأنه قيل: للذين ظلموا، فلما سقطت اللام حلت: ﴿الَّذِينَ﴾ محلها، عن الكسائي.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/637.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ﴿وِجْهَةٌ﴾ اختلف أهل العربية فيها، فبعضهم يذهب إلى أنه مصدر شذ عن القياس فجاء مصححا، ومنهم من يقول: هو اسم ليس بمصدر جاء على أصله، وإنه لو كان مصدرا جاء مصححا للزم أن يجئ فعله أيضا مصححا، ألا ترى أن هذا المصدر إنما اعتل على الفعل، حيث كان عاملا عمله، وكان على حركاته وسكونه؟ فلو صح لصح الفعل لأن هذه الأفعال المعتلة، إذا صحت في موضع، تبعها باقي ذلك، فوجهة اسم للتوجه والجهة المصدر، قالوا: وجه الحجر جهة ماله يريدون هنا المصدر، وما زائدة، وله في موضع الصفة للنكرة.
ب. الاستباق والابتدار والإسراع نظائر، وله في هذا الأمر سبقة وسابقة وسبق أي: سبق الناس إليه.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ على أقوال:
أ. أحدها: إن معناه لكل أهل ملة من اليهود والنصارى قبلة، عن مجاهد وأكثر المفسرين.
ب. ثانيها: إن لكل نبي، وصاحب ملة، وجهة أي طريقة، وهي الاسلام، وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ يعني شرائع الأنبياء عن الحسن.
ج. ثالثها: إن لكل من المسلمين وأهل الكتاب قبلة يعني صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة، عن قتادة.
د. رابعها: إن لكل قوم من المسلمين وجهة من كان منهم وراء الكعبة، أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها وهو اختيار الجبائي.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾:
أ. قيل: أي: الله موليها إياهم، ومعنى توليته لهم إياها أنه أمرهم بالتوجه نحوها في صلاتهم إليها، ويدل على ذلك قوله: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾.
ب. وقيل: معناه لكل مولي الوجهة وجهه أو نفسه إلا أنه استغني عن ذكر النفس والوجه وكل وإن كان مجموع المعنى، فهو موحد اللفظ، فجاء البناء على لفظه، فلذلك قال: ﴿هُوَ﴾ في الكناية عنه، وإن كان المراد به الجمع، والمعنى كل جماعة منهم يولونها وجوههم ويستقبلونها.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾:
أ. قيل: معناه: سارعوا إلى الخيرات، عن الربيع، والخيرات: هي الطاعات لله تعالى.
ب. وقيل: معناه بادروا إلى القبول من الله عز وجل فيما يأمركم به، مبادرة من يطلب السبق إليه، عن الزجاج.
ج. وقيل: معناه تنافسوا فيما رغبتم فيه من الخير، فلكل عندي ثوابه، عن ابن عباس.
5. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا﴾ أي: حيثما متم من بلاد الله سبحانه، يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة، وروي في أخبار أهل البيت عليهم السلام أن المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان، قال الرضا عليه السلام: وذلك والله لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان.
6. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: هو قادر على جمعكم وحشركم، وعلى كل شيء.
7. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ من البلاد ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: فاستقبل بوجهك تلقاء المسجد الحرام.
8. قيل في تكرار قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ وجوه:
أ. أحدها إنه لما كان فرضا، نسخ ما قبله، كان من مواضع التأكيد والتبيين، لينصرف الخلق إلى الحال الثانية من الحال الأولى على يقين.
ب. ثانيها: إنه مقدم لما يأتي بعده، ويتصل به، فأشبه الاسم الذي تكرر، ليخبر عنه بأخبار كثيرة، كما يقال: زيد كريم، زيد عالم، زيد فاضل، وما أشبه ذلك مما يذكر، لتعلق الفائدة به.
ج. ثالثها: إنه في الأول بيان لحال إلى الحضر، وفي الثاني بيان لحال السفر.
9. ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. معناه: وإن التوجه إلى الكعبة الحق المأمور به من ربك.
ب. أن يراد بالحق الثابت الذي لا يزول بنسخ، كما يوصف القديم سبحانه بأنه الحق الثابت الذي لا يزول.
10. ﴿وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ معناه هنا التهديد، كما يقول الملك لعبيده: ليس يخفى علي ما أنتم عليه فيه، ومثله قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.
11. قيل في تكرار قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إنه لاختلاف المعنى، وإن اتفق اللفظ، لأن المراد بالأول: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، والمراد بالثاني: أين ما كنت من البلاد، فتوجه نحوه من كل جهات الكعبة وسائر الأقطار.
ب. ثانيها: إنه من مواضع التأكيد لما جرى من النسخ ليثبت في القلوب.
ج. ثالثها: إنه لاختلاف المواطن والأوقات التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها.
12. في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ وجوه:
أ. أولها: إن معناه لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، إذا لم تصلوا نحو المسجد الحرام، بأن يقولوا: ليس هذا هو النبي المبشر به إذ ذاك نبي يصلي بالقبلتين.
ب. ثانيها: إن معناه لا تعدلوا عما أمركم الله به من التوجه إلى الكعبة، فتكون لهم عليكم حجة، بأن يقولوا: لو كنتم تعلمون أنه من عند الله، لما عدلتم عنه، عن الجبائي.
ج. ثالثها: ما قاله أبو روق: إن حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة، فلما رأوا محمدا يصلي إلى الصخرة، احتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة، لئلا يكون لهم عليه حجة.
13. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فيه أقوال:
أ. أحدها إنه استثناء منقطع كقوله: {ما لهم من علم إلا اتباع الظن}، ويقال: ماله علي حق إلا التعدي والظلم، يعني لكنه يتعدى ويظلم، وقال النابغة:
çولا عيب فيهم، غير أن سيوفهم... بهن فلول من قراع الكتائبé
وكأنه يقول: إن كان فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فإذا ليس فيهم عيب، وهكذا في الآية إن كان على المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، وليس للظالم حجة، فإذا ليس عليهم حجة.
ب. الثاني: أن تكون الحجة بمعنى المحاجة، فكأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجاج، إلا الذين ظلموا، فإنهم يحاجونكم بالباطل، فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا.
ج. الثالث: ما قاله أبو عبيدة: إن: ﴿لَا﴾ ها هنا بمعنى الواو أي: ولا الذين ظلموا، وأنكر عليه الفراء والمبرد، قال الفراء: الا لا يأتي بمعنى الواو من غير أن يتقدمه استثناء، كما قال الشاعر:
çما بالمدينة دار غير واحدة... دار الخليفة، إلا دار مرواناé
أي دار الخليفة، ودار مروان، وأنشد الأخفش:
çوأرى لها دارا بأغدرة... السيدان، لم يدرس لها رسم
إلا رمادا هامدا، دفعت... عنه الرياح، خوالد سحمé
أي: أرى لها دارا ورمادا، وقال المبرد: لا يجوز أن يكون إلا بمعنى الواو أصلا.
د. الرابع: إن فيه إضمار على وتقديره إلا على الذين ظلموا منهم، فكأنه قال: لئلا يكون عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فإنه يكون الحجة عليهم وهم الكفار، عن قطرب، وهو اختيار الأزهري، قال علي بن عيسى: وهذان الوجهان بعيدان، والاختيار القول الأول.
14. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ يريد الا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يحول إلى الكعبة، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا، وإنما اختلف العلماء في وجه الاستثناء لأن الظالم لا يكون له حجة، لكنه يورد ما هو في اعتقاده حجة، وإن كانت باطلة، كما قال سبحانه حجتهم داحضة.
15. اختلف في المراد بالذين ظلموا في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾:
أ. قيل: قريش واليهود، فأما قريش فقالوا: قد علم أننا على هدى، فرجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا، وأما اليهود فقالوا: لم ينصرف عن قبلتنا عن علم، وإنما فعله برأيه وزعم أنه قد أمر به.
ب. وقيل: المراد بالذين ظلموا العموم، يعني ظلموكم بالمقاتلة، وقلة الاستماع.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾:
أ. قيل: لما ذكرهم بالظلم والخصومة والمحاجة، طيب نفوس المؤمنين، فقال: لا تخافوهم، ولا تلتفتوا إلى ما يكون منهم، فإن عاقبة السوء عليهم، ولا حجة لأحد منهم عليكم ولا يد.
ب. وقيل: لا تخشوهم في استقبال الكعبة، واخشوا عقابي في ترك استقبالها، فإني أحفظكم من كيدهم.
17. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عطف على قوله لئلا، وتقديره لئلا يكون لأحد عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، بين سبحانه أنه حول القبلة لهذين الغرضين زوال القالة وتمام النعمة، وروي عن ابن عباس أنه قال: ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فأنصركم على أعدائكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأما في الآخرة فجنتي ورحمتي، وروي عن علي عليه السلام قال: النعم ستة: الاسلام والقرآن ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والستر والعافية والغنى عما في أيدي الناس.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾:
أ. قيل: أي: لكي تهتدوا، ولعل من الله واجب، عن الحسن وجماعة.
ب. وقيل: لتهتدوا إلى ثوابها.
ج. وقيل: إلى التمسك بها.
19. قرأ ابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم: (هو مولاها) وروي ذلك عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر، والباقون: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، ومن قرأ: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾: فالضمير الذي هو هو لله تعالى، والتقدير الله موليها إياه، حذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر، وهو كل في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ وهو مبتدأ، وموليها خبره، والجملة التي هي: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ في موضع رفع لكونها وصفا لوجهة من قرأ (هو مولاها) فالضمير الذي هو هو لكل، وقد جرى ذكره، وقد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما أحدهما: الضمير المرفوع من مولى، والآخر: ضمير المؤنث، ويجوز أن يكون الضمير الذي هو هو في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ عائدا إلى كل، والتقدير لكل وجهة هو موليها وجهه أي: كل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إلى تلك الجهة.
20. مسائل نحوية:
أ. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾: هو لأن لا كتبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها، وترك نافع همزها تخفيفا، وأدغمت النون في اللام.
ب. موضع اللام من ﴿لئلًا﴾ نصب، والعامل فيه: ﴿فَوَلُّوا﴾، وقال الزجاج: العامل فيه ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك لئلا يكون، وكذلك قوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ اللام تتعلق بقوله فولوا، وتقديره لأن أتم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/425.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾، أي: لكلّ أهل دين وجهة، المراد بالوجهة: القبلة، قاله ابن عباس في آخرين، قال الزّجّاج: يقال: جهة، ووجهة.
2. في قوله تعالى: ﴿هُوَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها ترجع إلى الله تعالى، فالمعنى: الله مولّيها إيّاهم، أي: أمرهم بالتّوجّه إليها.
ب. الثاني: ترجع إلى المتولّي، فالمعنى: هو مولّيها نفسه، فيكون ﴿هُوَ﴾ ضمير كلّ.
ج. الثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد: أمر كلّ قوم أن يصلّوا إلى الكعبة.
3. الجمهور يقرؤون: ﴿مُوَلِّيهَا﴾، وقرأ ابن عامر، والوليد عن يعقوب: (هو مولّاها) بألف بعد اللام، فضمير (هو) لكلّ، ومعنى القراءتين متقارب.
4. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، أي: بادروها، وقال قتادة: لا تغلبوا على قبلتكم، ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾، قال ابن عباس وغيره: هذا في يوم القيامة.
5. إعادة قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، فإنه تكرير تأكيد، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبدا إلى قبلتهم.
6. في (الناس) في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل.. لأن احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما لك تركت قبلة بيت المقدس!؟ إن كانت ضلالة؛ فقد دنت الله بها، وإن كانت هدى، فقد نقلت عنها، وقال قتادة: قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه.
ب. الثاني: مشركو العرب، رواه السّدّيّ عن أشياخه.. لأن احتجاج المشركين أنهم قالوا: قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم.
7. تسمية باطلهم حجّة على وجه الحكاية عن المحتجّ به، كقوله تعالى: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وقوله: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، قال الزّجّاج: معناه: إلّا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك عليّ حجّة إلّا الظّلم، أي: إلّا أن تظلمني، أي: ما لك عليّ البتة ولكنك تظلمين.
9. قال ابن عباس: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ في انصرافكم إلى الكعبة ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ في تركها.
__________
(1) زاد المسير: 1/123.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إنما قال ﴿وَلِكُلٍّ﴾ ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
2. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ﴾، وذكروا فيه أربعة أوجه:
أ. أحدها: أنه يتناول جميع الفرق، أعنى المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، وهو قول الأصم، قال: لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18]
ب. ثانيها: وهو قول أكثر علماء التابعين، أن المراد أهل الكتاب وهم: المسلمون واليهود والنصارى، والمشركون غير داخلين فيه.
ج. ثالثها: قال بعضهم: المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلى إليها: جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، واحتجوا على هذا القول بوجهين:
• الأول: قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة، لأن ما عداها تولية الشيطان.
• الثاني: أن الله تعالى عقبه بقوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة.
د. رابعها: قال آخرون: ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة، فقبلة المقربين: العرش، وقبلة الروحانيين: الكرسي، وقبلة الكروبيين: البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة.
3. قرئ: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ على الإضافة والمعنى: وكل وجهة هو موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضارب.
4. وجهة، وجهة، ووجه بمعنى واحد، واختلفوا في المراد:
أ. قال الحسن: المراد المنهاج والشرع، وهو كقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾ [الحج: 67]، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 48]، ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48] والمراد منه أن للشرائع مصالح، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير.
ب. وقال الباقون: المراد منه أمر القبلة، لأنه تقدم قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144] فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك.
5. في قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ وجهان:
أ. الأول: أنه عائد إلى الكل، أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه إليها.. وتقدير الكلام على هذا الوجه أن نقول: أن لكل منكم وجهة من القبلة هو موليها، أي هو مستقبلها، ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه، فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة، مع لزوم الأديان المختلفة: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم، وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعاً في صعيد القيامة، فيفصل بين المحق منكم والمبطل، حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي، ومن المصيب منكم ومن المخطئ، إنه على ذلك قادر، ومن قال بهذا التأويل قال المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها، إما بشريعة وإما بهوى، فلستم تؤخذون بفعل غيركم، فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم،
ب. الثاني: أنه عائد إلى اسم الله تعالى، أي الله تعالى يوليها إياه، وتقرير الكلام على هذا الوجه، أعني أن يكون الضمير في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ عائداً إلى الله تعالى فههنا وجهان:
• الأول: أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحاً فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: 142] فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعاً في عرصة القيامة، فيفصل بينكم.
• الثاني: أنا إذا فسرنا قوله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ بجهات الكعبة ونواحيها، كان المعنى: ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة، أي ناحية من الكعبة: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ بالتوجه إليها من جميع النواحي، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم.
6. ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه، قال الفراء: أي مستقبلها، وقال أبو معاذ: موليها على معنى متوليها، يقال: قد تولاها ورضيها وأتبعها، وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي: هو مولاها، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن على الباقر، وفي قراءة الباقين: ﴿مُوَلِّيهَا﴾ ولقراءة ابن عامر معنيان:
أ. أحدهما: أن ما وليته فقد ولاك، لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه، وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك، فذاك أيضاً، يلي هذا، فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر، وهو كقوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: 37]، و﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124] والظالمون، وهذا قول الفراء.
ب. الثاني: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي قد زينت له تلك الجهة وحببت إليه، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها.
7. قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية، كأنه تعالى قال: استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى، ثم إنه سبحانه حقق بقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة، وهو قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة.
8. سؤال وإشكال: الله تعالى قال قبل هذه الآيات: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 144]، وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، ثم ذكر ثالثاً قوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ فهل في هذا التكرار فائدة أم لا؟ والجواب: للعلماء فيه أقوال:
أ. أحدها: أن الأحوال ثلاثة:
• أولها: أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
• ثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
• ثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
ب. الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة:
• أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل.
• وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً.
• وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة.
فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79].
ج. الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه قال: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم إنه تعالى قال ثالثاً: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.
د. الرابع: أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148] أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة فكانت هذه عللًا ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال: ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: ألزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ ثم يقال: الزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 12] وكذلك ما كرر في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 174].
هـ. الخامس: أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.
9. ذكر هنا بعض المباحث المربتطة ببعض مظاهر الاستباق للخيرات، وهو ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فضل أداء الصلاة في أول الوقت، وقد نقلناه إلى محله من السلسلة.
10. ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 74] يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142]، وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه.
11. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة، وفي كيفية تلك الحجة روايات:
أ. أحدها: أن اليهود قالوا: تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا.
ب. ثانيها: قالوا: ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه.
ج. ثالثها: أن العرب قالوا: إنه كان يقول: أنا على دين إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام.
12. صارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين، لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة، وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه، فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس، ولما انتقل صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة تغيرت المصلحة، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يعنى تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب: إن محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم عاد إلى ديننا في الكعبة، وسيعود إلى ديننا بالكلية، وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] فلا جرم قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
13. سؤال وإشكال: شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة، والجواب: اختلف الناس فيه على أقوال:
أ. الأول: أنه استثناء متصل، ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه:
• الأول: أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة، قد تكون أيضاً باطلة، قال الله تعالى ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 16]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 61]، والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة، وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة، ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة، وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجة الطريق، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلًا.
• الثاني: في تقرير أنه استثناء متصل: أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يحول القبلة فلما حولت، بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق.
• الثالث: أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله، (حجة) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها (حجة) تهكماً بهم.
• الرابع: أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ فإنهم يحاجونكم بالباطل.
ب. الثاني: أنه استثناء منقطع، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة، وهو كقوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157]، وقال النابغة:
çولا عيب فيهم غير أن سيوفهم...بهن فلول من قراع الكتائبé
ومعناه: لكن بسيوفهم فلول، وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم، ونظيره أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ [النمل: 10، 11]، وقال: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود: 43]، وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب.
ج. الثالث: زعم أبو عبيدة أن (إلا) بمعنى الواو كأنه تعالى قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد:
çوكل أخ مفارقة أخوه...لعمر أبيك إلا الفرقدانé
يعني: والفرقدان.
د. الرابع: قال قطرب: موضع ﴿الَّذِينَ﴾ خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل: لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار، قال على بن عيسى: هذان الوجهان بعيدان.
14. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرنكم واخشوني، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية تدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب الله، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم.
15. اختلفوا في متعلق اللام في قوله تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ على وجوه:
أ. أحدها: وهو أقرب إلى الصواب، أنه راجع إلى قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، و{لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين:
• إحداهما: لانقطاع حجتهم عنه.
• والثانية: لتمام النعمة، وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة.
ب. ثانيها: أن متعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك.
ج. ثالثها: أن يعطف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم.
16. سؤال وإشكال: الله تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ والجواب: تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به، وفي الحديث: (تمام النعمة دخول الجنة)، وعن علي: تمام النعمة الموت على الإسلام.
17. الذي حكيناه عن أبي مسلم من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس، فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب، لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك ألبتة على ما بيناه، وإن أراد به إنكاره أصلًا، فبعيد، لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر، ولأبي مسلم أن يمنع التواتر، وعند ذلك يقول: لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 4/114.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ الوجهة وزنها فعلة من المواجهة، والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما بهوى.
2. اختلف في (هو) في قوله تعالى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾:
أ. قيل: هو عائد على لفظ كل لا على معناه، لأنه لو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو موليها وجهه ونفسه، والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على لفظ كل، وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس.
ب. وقال علي بن سليمان: ﴿مُوَلِّيهَا﴾ أي متوليها، وقرا ابن عباس وابن عامر (مولاها) على ما لم يسم فاعله، والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها أي مصروف إليها.
ج. قاله الزجاج، ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة (هو) ضمير اسم الله عز وجل وإن لم يجر له ذكر، إذ معلوم أن الله عز وجل فاعل ذلك، والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه.
د. وحكى الطبري: أن قوما قرؤوا (ولكل وجهة) بإضافة كل إلى وجهة، قال ابن عطية: وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع.
3. قدم قوله ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ على الامر في قوله: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس.
4. سلمت الواو في ﴿وِجْهَةٌ﴾ للفرق بين عدة وزنة، لان جهة ظرف، وتلك مصادر، وقال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم، وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر، وقال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف.
5. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي، والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها.
6. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
7. ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا﴾ شرط، وجوابه: ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ يعني يوم القيامة، ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شي لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى.
8. اختلف في سبب تكرير قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾:
أ. قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لان موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الامر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.
ب. وقيل: أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها، ثم قال ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ﴾ معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، ثم قال ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ يعني وجوب الاستقبال في الاسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض، وهذا القول أحسن من الأول، لان فيه حمل كل آية على فائدة، وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به، أخرجه أبو داوود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور، وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته، قال وفية نزل ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾.. ولا تعارض بين الحديثين، لان هذا من باب المطلق والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح.
ج. ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون عند من حفظ البعض.
9. اختلف في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾:
أ. قال مجاهد: هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله: ﴿قُلْ لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾
ب. وقيل: معنى ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، فلما قال عز وجل: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ زال هذا.
ج. وقال أبو عبيدة: إن (إلا) ها هنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
çما بالمدينة دار غير واحدة...دار الخليفة إلا دار مرواناé
كأنه قال إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾) أي الذين آمنوا، وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفية بطلان المعاني، وتكون (إلا) وما بعدها مستغني عن ذكرهما، والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون.
د. قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾) و﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك على حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لان المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة.
هـ. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في ﴿عَلَيْكُمْ﴾
و. وقالت فرقة: ﴿إِلَّا الَّذِينَ﴾ استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره الطبري وقال: نفى الله أن يكون لاحد حجة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لاحد عليكم إلا الحجة الداحضة، حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه.. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق، والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة، وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة.
ز. وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال لكن الذين ظلموا يحاجونكم، وقوله ﴿مِنْهُمْ﴾ يرد هذا التأويل، والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله، ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود.
10. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ يريد الناس ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي، والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا، ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والامر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
11. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾ أي ولان أتم، قاله الأخفش، وقيل: مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج، وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة، قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة، و﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/165.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ﴾ بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه، أي: لكل أهل دين وجهة، والوجهة فعلة من المواجهة وفي معناها: الجهة والوجه، والمراد: القبلة، أي: أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ إما بحق وإما بباطل.
2. الضمير في قوله: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ راجع إلى لفظ كل، والهاء في قوله: ﴿مُوَلِّيهَا﴾ هي المفعول الأوّل، والمفعول الثاني: محذوف، أي: موليها وجهه، والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، أو لكل منكم يا أمة محمد! قبلة يصلّي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه، وحكى الطبري أن قوما قرؤوا: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ بالإضافة، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس، قال في الكشاف: والمعنى: وكلّ وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه، انتهى، وقرأ ابن عباس وابن عامر: مولّاها على ما لم يسمّ فاعله، قال الزجاج: والضمير على هذه القراءة لواحد، أي: ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها، أي: مصروف إليها.
3. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي: إلى الخيرات؛ على الحذف والإيصال، أي: بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق، وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير، كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات؛ والمراد من الاستباق إلى الاستقبال: الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها.
4. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ﴾ أي: في أيّ جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة، أو يجعلكم جميعا، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة.
5. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ كرّر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة، وللاهتمام به، لأن موضع التحويل كان معتنى به في نفوسهم؛ وقيل: وجه التكرير: أن النسخ من مظانّ الفتنة ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرّة بعد أخرى ثبتوا واندفع ما يختلج في صدورهم؛ وقيل: إنه كرّر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأولى: ابتغاء مرضاته، والثانية: جري العادة الإلهية أن يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة يستقلّ بها، والثالثة: دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها؛ وقيل: أراد بالأول: ولّ وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها؛ فولوا وجوهكم شطره؛ ثم قال ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.
6. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ قيل: معناه: لئلا يكون لليهود عليكم حجة؛ إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه، فعلى هذا: المراد بالذين ظلموا: المعاندون من أهل الكتاب؛ وقيل: هم مشركو العرب، وحجتهم: قولهم: راجعت قبلتنا؛ وقيل معناه: لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، وقال أبو عبيدة: إنّ إلا هاهنا بمعنى الواو: أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
çما بالمدينة دار غير واحدة...دار الخليفة إلّا دار مرواناé
كأنه قال إلا دار الخليفة ودار مروان؛ وأبطل الزجاج هذا القول وقال: إنه استثناء منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون، ومعناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول: مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني، أي: مالك عليّ حجة البتة ولكنك تظلمني؛ وسمّى ظلمه: حجة لأن المحتجّ بها سماه حجة وإن كانت داحضة، وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين: بدل من الكاف والميم في عليكم، ورجّح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه في استقبالهم الكعبة؛ والمعنى: لا حجة لأحد عليكم؛ إلا الحجة الداحضة حيث قالوا: ما ولاهم، وقالوا: إن محمدا تحيّر في دينه، وما توجّه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق، قال والحجة: بمعنى: المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة، وسمّاها تعالى: حجة، وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم، ورجّح ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجّاج، قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس: اليهود، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال لكن الذين ظلموا في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله.
7. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ يريد الناس، أي: لا تخافوا مطاعنهم؛ فإنها داحضة باطلة لا تضركم، وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ معطوف على ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾ أي: ولأن أتمّ، قاله الأخفش؛ وقيل: هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير: ولأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي، قاله الزجّاج؛ وقيل: معطوف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم، ولأتمّ نعمتي عليكم، وإتمام النعمة: الهداية إلى القبلة؛ وقيل: دخول الجنة.
8. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفرّاء، ورجّحه ابن عطية.. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال؛ والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي: فاذكروني كما أرسلنا، قاله الزجّاج.
9. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة، قال سعيد بن جبير: ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ قال الفرّاء: شكر لك وشكرت لك، والشكر: معرفة الإحسان والتحدّث به، وأصله في اللغة: الطهور، وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ نهي؛ ولذلك حذفت نون الجماعة، وهذه الموجودة في الفعل هي نون المتكلم، وحذفت الياء لأنها رأس آية، وإثباتها حسن في غير القرآن، والكفر هنا: ستر النعمة لا التكذيب.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/182.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ أي لكل أمة أو لكل نبيّ قبلة أو شرعة ومنهاج ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ وجهه، أي مائل إليها بوجهه، تابع لها، لأنها حبّبت إليه، وزيّنت له، وقال أبو معاذ: موليها بمعنى متوليها، أي تولاها ورضيها واتبعها ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي ابتدروها بالمسابقة إليها، وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين.
2. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ قال الراغب: أي أيّ شغل تحريتم، وحيثما تصرفتم، وأي معبود اتخذتم، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تعليل لما قبله، أي هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
3. تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة، وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها، وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشريّ، ووفي بشئون الاجتماع، وأسباب العمران وذرائع الرقيّ وطرق السعادتين، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: 67] وقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].
4. ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبيّن عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
5. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ أي ومن أيّ بلد خرجت للسفر ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إذا صليت ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي هذا الأمر ﴿لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين.
6. ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم، كان الحال مقتضيا لمزيد تأكيد لأمرها، تعظيما لشأنها وتوهية لشبههم، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾
7. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره، ولتنتفي مجادلتهم لكم، كقول اليهود مثلا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا! وقول غيرهم: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة.
8. أشار بقوله ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ إلى تحقيق ما قدمه(2).، فبيّن أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها، وأنت صاحب شرع، فتغيير القبلة لك حق من ربك، وكرّر قوله ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ لأنه حثّ بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل للإنسان، نائيا كان عنها أو دانيا منها، وذلك مآل الاختيار والتمكن، وحثّ بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر.
9. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ فإنهم يظهرون فجورا ولددا في ذلك، بالعناد، وهم: إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبل، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبل في ﴿السُّفَهَاءُ﴾، وكان من قول اليهود، فيما حكاه قتادة: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، ومن قول المشركين، فيما حكاه مجاهد،: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم، وتقدم قول المنافقين، وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا.
10. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ تخافوا جدالهم ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ فلا تخالفوا أمري ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ للصراط المستقيم بالتوجه إليها، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة، قال الحراليّ: وفي طيه بشرى بفتح مكة، واستيلائه على جزيرة العرب كلها، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها، التي انتهى إليها ملك أمته.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/430.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من الأمم، ﴿وِجْهَةٌ﴾ جهة، أو لكلِّ أهل ملَّة، أو لكلِّ جماعة من المسلمين واليهود والنَّصارى، أو لكلِّ قومٍ من المسلمين جهة من الكعبة، جنوبيَّة أو شماليَّة أو شرقيَّة أو غربيَّة يتوجَّه إليها بالاستقبال في الصَّلاة ونحوها؛ أو لكلٍّ من الأمم توجُّهٌ، مصدر شاذٌّ إذ هو (فِعْلَةٌ) بكسر الفاء، ثبتت فاؤه واوًا، أو (وِجْهَةٌ): ملَّةٌ تُقصَد، ﴿هُوَ﴾ أي: الكلُّ أو الله ﴿مُوَلِّيهَا﴾ وجهَهُ، فالمفعول الثَّاني محذوف، أي: بجعل وجهه تالِيا لها، أو يولِّيها ملَّتها.
2. والمعنى أنَّهم لا يتركون قبلتهم ولا ملَّتهم، فذلك كالفذلكة لقوله: ﴿مَا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾، وليس المراد أنَّ اللهَ أباحَ لهم ذلك، بل الله يعاقب كلَّ أمَّةٍ خالفت نبيئها، فيعاقب الله اليهود والنَّصارى وغيرهم الذين أدركتهم بعثة رسول اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم وخالفوه في القبلة وغيرها، إلَّا من لم يبلغه الخبر فيُعذر إن كان على دين غير منسوخ، أو لم يبلغه نسخه.
3. ﴿فَاسْتَبِقُواْ﴾ أيُّها المؤمنون، أو أيُّها المكلَّفون، وهو من الافتعال بمعنى التفاعل، أي: ليعالج كلٌّ منكم أنْ يسبق الآخر لرِضا الله وثوابه، كالصَّلاة أوَّل الوقت، واستقبال عين القبلة لا عنادًا للآخر، أو حسدًا أو كبرًا، وهو متعدٍّ أو لازِمٌ فتقدَّر (إلى).
4. ﴿الْخَيْرَاتِ﴾ الأمور الحسنة اعتقادًا وقولاً وفعلاً، من أمر القبلة وغيرِها، أو الخيرات: الكعبة، جمعها لجمعها كلَّ خير، أو للتَّعظيم، أو الجهات الفاضلة لكونها على سمت الكعبة، فيكون الخطاب للمؤمنين أو للمكلَّفين من أهل الآفاق لتعذُّر مقابلة الكعبة جزمًا، و(الْخَيْرَات): جمع خيِّر، أو خيِّرة بشدِّ الياء أو بالتخفيف، تقول: أمر خيِّر وخصلة خيِّرة، أو جمع (خَيْر)، اسم تفضيل خارجًا عن بابهِ، أو باقيًا؛ لأنَّ الأفقي يجيز في استقبال القبلة وجهين أو أكثر، فيختار أقواها عنده، ولأنَّ المخطئ يدَّعي أنَّ ما هو عليه حسن، وعلى دعواه هذا الذي عليه محمَّد أحسن.
5. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ﴾ في موضعٍ خفيٍّ أو ظاهرٍ، في برٍّ أو بحرٍ، ﴿يَاتِ بِكُمُ اللهُ﴾ يصيِّركم الله آتين ﴿جَمِيعًا﴾ يوم القيامة للجزاء بأعمالكم، وذلك حثٌّ على الاِستباق، كقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيِّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ اَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الَارْضِ يَاتِ بِهَا اللهُ﴾ [لقمان: 16]، أو يُمِتْكُم، كقوله تعالى: ﴿اَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 78]، أو يأت بكم إماتة وحشرًا، أو يجمع صلواتكم في الآفاق من جهات الكعبة كصلاة واحدة إلى جهة واحدة في القبول، كأنَّها إلى عين القبلة، أو في المسجد الحرام، فـ (يَاتِ بِكُم) مجاز عن جعل الصلاة متَّحدة الجهة، ﴿اِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الإماتة والإحياء والحشر وغير ذلك ﴿قَدِيرٌ﴾.
6. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ متعلِّق بـ (وَلِّ) بعده، و(مِن) للابتداء، أو بمعنى (في)، كأنَّه قيل: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ من حيث خرجت للسَّفر إلى أنْ ترجِع، وفي موضع خروجك للسَّفر، فيفهم منه أنَّ حكم ما بعد الموضع من مواضع السفر كذلك، أو (خَرَجْتَ) بمعنى سافرت، أي: ولِّ وجهك في مواضع سفرك، ولا يعترض على ذلك بأنَّه يلزم اتِّصال الواو بالفاء إذا علَّقناه بـ (وَلِّ)؛ لأنَّ الفاء صلة للتأكيد، أساغها شبه (حَيْثُ) بالشرطيَّة المتَّصلة بـ (مَا) في العموم، كما أجاز الفرَّاء كونها شَرطيَّة ولو بدون (مَا)، ولأنَّه لا يكون الثِّقل في التقدير مثل الثقل اللفظيِّ كما في أنواع كثيرة، بل يسوغ في التَّقدير، وكرَّره لبيان أنَّك تستقبل القبلة في السفر كالحضر.
7. ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: التولي المطاوع للتَّولية المذكورة، أو شطر المسجد الحرام، أي: استقباله، أو إنَّ التَّولية، فذُكِّر لتذكير الخبر، أو إنَّ الصَّرف أو الاستقبال، ﴿لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.
8. الشطر في الأصل: ما انفصل عن الشيء، إمَّا حسًّا كدارٍ شَطُور، أي: منفصلة عن الدُّور، وإمَّا معنًى كقولنا: الإقرار شطر التوحيد، واستعماله في الجزء شائع، واستعمل لجانب الشيء ولو لم ينفصل، بمعنى الجهة كما في الآية.
9. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ والعطفان على (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ)، أو على ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ﴾، ذكر ذلك ثلاث مرات، كلٌّ لعلَّة غير علَّة الأخرى:
أ. ذكره المرَّة الأولى: ليريه أنَّه قد أجاب له فيما يشتاق إليه، ورحم تضرُّعه، وأنَّه أهل لأن يجاب لعظم شأنه عند الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾.
ب. وذكره المرَّة الثانية: ليبيِّن أنَّه جعل لكلِّ أمَّة قبلة يمتاز بها، إذ قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ أي: لكلِّ أمَّة.
ج. وذكره المرَّة الثَّالثة ليدفع حجَّة اليهود، إذ يحتجُّون بأنَّه لو كان النبيءَ الموعود به لتحوَّل إلى الكعبة كما في التوراة، وأنَّه لو كَانَه لم يتَّبِع قبلتنا مع أنَّه يُنكِر ديننا، ولدفع حجَّة مشركي العرب، إذ يحتجُّون بأنَّه لو كان نبيئًا لم يخالف قبلة إبراهيم مع أنَّه يدعيها، كما قال ـ بعد قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ اليهود ومشركي العرب ﴿عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ ـ : ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ إنْ عُطِف على (لِئَلَّا..) إلخ.
10. وَأَمَّا قولُه تعالى : ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهَا﴾ أي: الكعبة التي كنت عليها، فبان أنَّ الجعل معلَّل بالعلم لا بقيد كونه تعظيمًا للرَّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا بغيره، وناسب التكرار أنَّ الكعبة لها شأنٌ، والنسخ من مظانِّ الطعن، والمخالفة في النسخ بدعوى إلزام البَداء، وهو غير جائز، وهي مخالفة باطلة؛ لأنَّ النسخ إزالة حكم قُضِي في الأزل أنَّه يزال، لا ظهورٌ لِمَا خفي، تعالى الله، وقيل: الأُولى على أنَّ الإنسان في المسجد الحرام، والثانية: على أنْ يخرُج من المسجد الحرام، ويكون في البلد، والثالثة على أنْ يخرُج عن البلد إلى أقطار الأرض، وفيه أنَّ الخطاب أوَّلاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في المدينة، فكيف تكون الأولى: لمن في المسجد الحرام!.
11. ﴿اِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ بالعناد ﴿مِنهُمْ﴾ من الناس المعهودين، أي: إلَّا المعاندين من اليهود، إذ قالوا: تحوَّل للكعبة ميلاً لدين قومه، وحبًّا لبلده، ومن مشركي العرب، إذ قالوا: رجع لقبلة آبائه ويوشك أنْ يرجِع إلى دينِهم، وإنَّه في حيرة من أمر القبلة، ومن لم يعاند قال: يدَّعي ملَّة إبراهيم ويوافق قبلته.
12. والحجَّة: ما يُستدلُّ به صحيحًا في نفسه أو في زعم المستدِلِّ، ولا حجَّة صحيحة لمن خالف كلام الله، لكن تُسمَّى حجَّة كأنَّها صحيحة لشِبْهِها بها في إحضارها لإثبات المقصود، أو المراد: التَّحاجُّ، أي: الخصامُ، أو الاِستثناء منقطع، أي: لكن الذين ظلموا، من تأكيد الشيء بضدِّه، أي: إنْ كانت لهم حجَّة فهي الظُّلمُ، والظُّلمُ لا يكون حجَّةً، فحجَّتهم غير ممكنة كقوله:
çولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم...بهنَّ فلول من قراع الكتائبé
فأخذ منه بعض قوله:
çولا عيب فيهم غير أنَّ نزيلهم...يُلام بِنِسْيَانِ الأَحِبَّةِ والوَطنé
فالمعنى المبالغة بأنَّه: إنْ كانت الحجَّة في نفي الحقِّ فهي كلام المعاندين، وكلامهم غير حجَّةٍ فلا حجَّة في نفي الحقِّ، وهو هنا استقبال الكعبة.
13. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ أي: الظالمين، وقيل: الناس عمومًا، والأوَّل أولى، لا تخافوهم في الجدال في التَّولِّي إلى الكعبة فإنَّه يضمحلُّ، وضرره عائد عليهم، وسَمَّى خوفَهم خشيةً مع أنَّه إن خوفهم المؤمنون لا إجلالَ فيها، مشاكلةً لقوله تعالى: ﴿وَاخْشَونِي﴾ أي: خافوني مع إجلال.
14. ﴿وَلأُِتِمَّ﴾ لئلَّا يكون ولأتمَّ ﴿نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ وفي ذلك عدم المناسبة إلَّا بتكلُّفٍ، وأيضًا إرادة الاِهتداء علَّة تصلح للأمر بالتَّولية لا الفعل المأمور به، والأولى: أنْ يقدَّر: (وأمرتكم بالتولية للكعبة لأتمَّ نعمتي)؛ لأنَّها نعمة عظيمة تورث فوزًا عظيمًا، ونعيمًا مقيمًا، أو اخشوني لأحفظكم من شرِّهم في الدُّنيا، ولأتِمَّ نعمتي عليكم في الدُّنيا والآخرة بكونكم على الحقِّ، وبإدخال الجنَّةِ.
15. روى البخاريُّ والترمذيُّ (أنَّ تمام النِّعمة دخول الجنَّة)، وعن عليٍّ: (الموت على الإسلام)، قلت: أو الهدى إلى معالم الدين والإقامة عليها إلى الموت، والنِّعمة في كلِّ وقت، وتمامها بما يليق به، فلا يعارض بما جاء بعدُ من قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ قد مرَّ، ومن معانيه: ولتهتدوا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/256.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. احتج تعالى على اهل الكتاب بقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ وقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ أي وإذا كان الامر كذلك فكل ما يأتي به عن الله فهو حق فما بالهم يشاغبون في مسألة القبلة من الاحكام الفرعية خاصة؟ فالكلام من قبيل إقامة الدليل بعد إيراد الدعوى، وليس اعتراضيا كما توهم بعضهم، ثم جاء بحجة أخرى على أهل الكتاب وغيرهم ترغم أنوف المعارضين، وختم بعدها الامر بتولية الوجوه نحو المسجد الحرام وتأكيده فقال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾
2. قرأ ابن عامر (مولاها) أي لكل أمة من الامم وجهة توليها في صلاتها فلم تكن جهة من الجهات قبلة في كل ملة بحيث تعد ركنا ثابتا في الدين المطلق كتوحيد الله تعالى والايمان بالبعث والجزاء، فإبراهيم واسماعيل كان يوليان الكعبة، وكان بنو اسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، وترك النصارى ذلك الى استقبال المشرق، وكان الأنبياء المتقدمون يستقبلون جهات أخرى، فاذا كان الامر كذلك ولم تكن جهة معينة ركنا ثابتا في الاديان، فأي شبهة من العقل أو من تقاليد الملل على فتنة المشاغبين في أمر القبلة؟ وأي وجه لما أظهروه من الشبهة والحيرة، وزجوا أنفسهم فيه من الغمة، حتى جعلوه مسوغا للطعن في النبوة والتشريع؟ وسيأتي إيضاح لهذه الحجة في تفسير قوله تعالى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾
3. إذا لم تكن مسألة القبلة المعينة من أصول الدين ولا من مخه وجوهره الذي لا يتغير، بل كانت ولا تزال من الفروع التي تختلف باختلاف حال الامم فالواجب فيها الاتباع المحض، والتسليم لأمر الوحي، وان لم تظهر حكمة التخصيص للناس كما هو الشأن في أمثالها من الفروع المأخوذة بالتسليم كعدد الركعات وكون الركوع مرة والسجود مرتين في كل ركعة فكيف وقد ظهرت؟
4. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي ابتدروا كل نوع من أنواع الخير بالعمل وليحرص كل منكم على سبق غيره اليه باتباع الإمام المرشد لا باتباع الهوى، وهذا الامر عام موجه الى أمة الدعوة لا خاص بالمؤمنين المستجيبين لله والرسول ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ ذكر الجزاء يوم البعث بعد الامر باستباق الخيرات ليفيد ان الجزاء انما يكون على فعل الخيرات أو تركها، لا على الكون في بلد كذا أو جهة كذا، أي ففي أي جهة وأي مكان تقيمون فالله تعالى يأتي بكم ويجمعكم ليوم الحساب، اذ البلاد والجهات لا شان لها في أمر الدين لذاتها وإنما الشأن لعمل البر واستباق الخيرات ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فلا يعجزه الاتيان بالناس مهما بعدت بينهم المسافات، وتناءت بهم الديار والجهات، فالتصريح بالقدرة تذكير بالدليل على الدعوى.
5. الامر بالخيرات هنا بعد بيان اختلاف الملل في القبلة إجمال يفصله ذكر أنواع البر في آية ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ المشار اليها آنفا وستأتي، كأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة ان مخ الدين وجوهره هو في المسارعة الى الخيرات فهل رأيتم محمدا واتباعه قصروا عن غيرهم في ذلك أم هم السابقون الى كل مكرمة، المسارعون الى كل مبرة، المتصفون بكل فضيلة؟ ففي الكلام مع بيان روح الدين ومقصده تعريض بأهل الكتاب الذين تركوا فضائل الدين وقصروا في عمل الخير والبر، واكتفوا من علم الدين بالجدل والمراء، واستنباط الشبه للطعن في العاملين، إذ لم يكونوا من المجادلين المشاغبين، ثم ترك المسلمون فضائل سلفهم، واتبعوا سننهم في بدعهم وجدلهم، حتى صاروا حجة على دينهم.
6. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي ومن أي مكان خرجت وفي أي بقعة حللت فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، فهو حكم عام، قال محمد عبده: أعاد الامر في صورة أخرى ليبين أنه شريعة عامة في كل زمان ومكان لا يختص ببلاد دون أخرى ولا بحضر دون سفر، وقد كان الامر بالتحويل نزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في الصلاة فأعلمه بصيغة الامر أنه ليس خاصا بتلك الصلاة ولا بذلك المكان بل عليه أن يفعل ذلك من حيث خرج وأين توجه، ومن مزايا هذه القبلة ان أصحابها يصلون الى جميع الجهات بتوليهم إياها من أقطار الارض المختلفة.
7. وثق الامر وأكده بقوله ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ اي وان توليك إياه لهو الحق المحكم بوحي ربك فلا ينسخ ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي إنكم أيها المخاطبون باتباع النبي في كل ما يجيء به من أمر الدين تحت نظر الحق دائما فهو لا يغفل عن أعمالكم ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وفي الكلام التفات عن خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الى خطاب جميع المكلفين، بما فيه من التعريض والتهديد للمنافقين، وقرأ ابو عمرو (يعملون) بالياء وهو يعود الى أولئك المجادلين في القبلة، يقول لنبيه لا يحزنك أمرهم، فان الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم، وما هو بغافل عن فسادهم وفتنتهم.
8. ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ ابتدأ هذه الآية بصيغة الامر الواردة في الآية قبلها وقرن بها صيغة الامر السابقة وجمع فيها بين خطاب النبي وخطاب الامة ليرتب على ذلك التعليل وبيان الحكم له وهي ثلاث، الاولى قوله ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ ليس هذا الجمع والاعادة لمجرد التأكيد كما قال مفسرنا (الجلال) وغيره وإنما هو تمهيد للعلة وتوطئة لبيان الحكم الموصولة به، وهو أسلوب معهود عند البلغاء ـ والمتأخرون الذين لا يذوقون طعم الاساليب البليغة يكتفون في مثل هذا المقام بقولهم: كل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، وهو نظم غير معهود في الكلام البليغ ولا سيما مقام الاطناب والتأكيد والاحتجاج وإزالة الشبه.
9. المراد بالناس المحاجون في القبلة المعروفون وهم أهل الكتاب والمشركون، وتبعهما المنافقون، ووجه انتفاء حجتهم على الطعن في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس الى الكعبة هو ان اهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم ان النبي الذي يبعث من ولد اسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة، فجعل بيت المقدس قبلة دائمة له حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما كان التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم، وأن المشركين كانوا يرون ان نبيا من ولد ابراهيم جاء لا حياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه وكان يصلي هو واسماعيل اليه، فدحضت حجة الفريقين وكبت المنافقون من ورائهم.
10. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم يظلون يلغطون بالاحتجاج جهلا أو عنادا للإضلال كقول اليهود رجع إلى قبلة قومه لإرضائهم وسيرجع إلى دينهم، وقول المشركين رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا وقول المنافقين انه مضطرب متردد لا يثبت على قبلة، وأمثال هذه الآراء، التي يزينها الهوى للأعداء، فهم لا يهتدون بكتاب ولا يعتبرون ببرهان، ولا ينظرون الى حكم الامور وأسرارها، بل يجادلون في الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، وهم الذين أثاروا الفتنة وحركوا رياح الشبه في مسألة القبلة، ولا قيمة لما يقول هؤلاء الظالمون فانهم هم السفهاء كما وصفوا في الآية الأولى.
11. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ اذ لا مرجع لكلامهم من الحق، ولا تمكن له في النفس، لأنه لا يستند الى برهان عقلي ولا الى هدي سماوي ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ أنا فلا تعصوني بمخالفة ما جاءكم به رسولي عني فإنني القدير على جزائكم بما وعدتكم وأوعدتكم وقد وعدت الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات بأن أمكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وإنني لا أخلف الميعاد
12. الآية ترشدنا الى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى، فان الحق يعلو ولا يعلى، وما آفة الحق الا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل فيه، وذكر الاستاذ الامام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشتبه عليه الامر فيترك الحق لأنه عمي عليه، ولو ظهر له لأخذ به، وهو أيضا لا يخشى جانبه خلافا لما فهم بعض الطلاب من كلام الاستاذ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به، فأولئك لا يخشون ولا يبالى بهم، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالى به، ويعتني بأمره، بتوضيح السبيل، وتفصيل الدليل، لما يرجى من قرب رجوعه اليه إذا عرفه، وقوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ يعم اليهود ومشركي العرب والمنافقين خلافا لمن قالوا إنهم المشركون خاصة، مع انهم فسروا السفهاء بما يعم الفريقين أو الثلاثة، وما هؤلاء الذين ظلموا الا أولئك السفهاء الذين اعترضوا
13. ثم ذكر العلة أو الحكمة الثانية فقال: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ باستقلال قبلتكم في بيت ربكم الذي بناه جدكم، وجعل الامم فيها تبعا لكم، وبيانه ان هذا النبي عربي من ولد إبراهيم وبلسان العرب نزل عليه الكتاب وهم قومه الذين بعث فيهم أولا وظهرت دعوته فيهم وامتدت منهم وبهم الى سائر الامم، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام، وان يحيوا سنة ابراهيم بتطهيره من عبادة الاصنام، لأنه معبدهم، وأشرف أثر عندهم، ينسب الى أبيهم ابراهيم الذي بناه ورفع قواعده لعبادة الله تعالى، وهو شرفهم ومجدهم، وموطن عزهم وفخرهم، فأتم الله عليهم النعمة بإعطائهم ما يحبون، وتوجيه جميع شعوب الاسلام إلى بلادهم الى أن يرث الله الارض ومن عليها، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما لا يحصى من النعم، نعم إن كل أمر من الله تعالى فامتثاله نعمة ولكنه اذا كان فيه حكمة ظاهرة وشرف للامة يتعلق بتاريخها الماضي، وبمجدها الآتي، وكان أثره حميد أنافعا فيها، تكون النعمة به أتم والمنة أكمل، ولذلك عبر بالاتمام
14. وذكر محمد عبده من الحكمة في جعل القبلة في أول الامر بيت المقدس أن الكعبة كانت في أول الاسلام مشغولة بالأصنام والاوثان، وكان سلطان أهل الشرك متمكنا فيها والامل في انكشافه عنها بعيدا فصرفه الله أولا عن استقبال بيت مدنس بعبادة الشرك ـ وقد كان الله أمر ابراهيم بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود ـ الى بيت المقدس قبلة اليهود الذين هم أقرب من المشركين الى ما جاء به من التوحيد والتنزيه، ولما قرب زمن تطهير البيت الحرام من الأصنام والاوثان وعبادتها وإزالة سلطة الوثنيين عنه، جعله الله تعالى قبلة للموحدين ليوجه النفوس اليه فيكون ذلك مقدمة لتطهيره واتمام النعمة بالاستيلاء عليه، والسير فيه على ملة ابراهيم من التوحيد والعبادة الصحيحة لله تعالى وحده
15. يؤيد ما قرره محمد عبده في تفسير الاتمام وكون تحويل القبلة مقدمة له قوله تعالى بعد ذكر فتح مكة في سورة الفتح: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ فكان في الآية بشارة بفتح مكة ونصر الله التوحيد على الشرك وما يتلو ذلك من نشر الاسلام، وانتشار نوره في الأنام، ولذلك قال في سورة الفتح بعد ما ذكر ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾
16. ثم ذكر سبحانه وتعالى الحكمة الثالثة لتحويل القبلة فقال: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي وليعدكم بذلك الى الاهتداء بالثبات على الحق والرسوخ فيه، فان المعارضات والمحاجات تظهر ضعف الباطل وزهوقه، وتبين قوة الحق وثبوته، فالحجة تتبختر اتضاحا والشبهة تتضاءل افتضاحا، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لاهل الحق، وترخي سدول ظلمته على أهل الباطل، وتمحص المؤمنين، وتمحق الكافرين كل انسان يرى نفسه على الحق في الجملة ولكن التمكن في المعرفة والثبات على الحق لا يعرف في الغالب الا اذا وجد للمحق خصم ينازعه ويعارضه في الحق، هنالك تتوجه قواه الى تأييد حقه وتمكينه، ويحس بحاجته الى المناضلة دونه والثبات عليه، وكثيرا ما يظهر الباطل الحق بعد خفائه، فان المعارضة في الحق تحمل صاحبه على تنقيحه وتحريره وتنقيته مما عساه يلتصق به أو يجاوره من غواشي الباطل، وتجعل علمه به مفصلا بعد أن كان مجملا، ومبرهنا عليه بعد أن كان مسلما، فهي مدرجة الكمال لاهل اليقين، ومزلة الريب للمقلدين، قال بعض الصوفية: جزى الله أعداءنا عنا خيرا اذ لولاهم ما وصلنا الى شيء من مقامات القرب: وقال الشاعر:
çعداتي لهم فضل علي ومنة...فلا اذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها...وهم نافسوني فاكتسبت المعالياé
ذلك بأن العدو ينقب عن الزلات، ويبحث في الهفوات، وطالب الحق يتوجه دائما إلى الاستفادة من كل شيء، والنظر من كل أمر إلى موضع العبرة، وطريق الحقيقة، فاذا وجد في كلام العدو مغمزا صحيحا توقاه، أو عثرا في طريقه نحاه، وان ظهر له انه باطل ثبت على حقه، وعرف منافذ الطعن فيه فسدّها، فكان بذلك من الكملة الراسخين ـ لهذا كله كانت الفتنة التي أثارها السفهاء على المؤمنين في مسألة القبلة معدة للاهتداء ووسيلة إلى الثبات على الحق بعد نزول هذه الآيات البينات والحجج الناهضات في بيانه وحكمة الله تعالى فيه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/22.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب، فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيّ حقّا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوّته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه ـ ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحى، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازى كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلى، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا.
2. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأيّ شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحى كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
3. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى، ويلقى الحق وراءه ظهريا، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال {وما ذا بعد الحقّ إلّا الضّلال}
4. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ أي ففي أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
5. ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات، وتناءت بهم الديار والجهات.
6. الأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ وستأتي، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة: إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين إلى كل مكرمة، المتصفين بكل فضيلة، فدعوا الجدل والمراء واتبعوا فضائل الدين، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجّى من كل سوء.
7. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي ومن أيّ مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان، ولا يختص ببلاد دون أخرى، ولا بحضر دون سفر، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان، وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.
8. ثم وثّق ذلك ووكده بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل ما يجيء به من أمر الدين، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء، ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون.
9. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام، وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره.
10. وأعاد الأمر ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية، وأولها ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون ـ حجة وسلطان عليكم، ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهى الكعبة؛ فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم، وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه، ينبغي ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه، وكان يصلى هو وإسماعيل إليه، وبذلك دحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون.
11. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، إذ يقول اليهود: ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبّا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله، ويقول المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، ويقول المنافقون: إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان، بل هي جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن.
12. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلي ولا هدى سماوي، ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولى عنى، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم، وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له، فإن الحق دائما يعلو، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل.
13. والحكمة الثانية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة، وتكون النعمة أتمّ، والمنة أكمل، إذا كان فيه حكمة ظاهرة، وشرف للأمة، وأثر حميد نافع لها.
14. والحكمة الثالثة: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته، وضعف الباطل وخنوعه، ومحّصت المؤمنين، ومحقت الكافرين {ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوىّ عزيز}
__________
(1) تفسير المراغي: 2/14.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. نعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة، فلكل فريق وجهته، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل، ومصيرهم جميعا إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.. وبهذا يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل.. يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات، مع تذكر أن مرجعهم إلى الله، وأن الله قدير على كل شيء، لا يعجزه أمر، ولا يفوته شيء.. إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل.
2. ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.. والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيثما كان، مع توكيد أنه الحق من ربه، ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق، التحذير الذي يتضمنه قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.. وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد.
3. ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد، وهو إبطال حجة أهل الكتاب، وحجة غيرهم ممن كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم، أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذين يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل!
4. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.. هو أمر للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا، وبيان لعلة هذا التوجيه: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.. وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والمنطق، إنما ينساقون مع العناد واللجاج، فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم، فسيظلون إذن في لجاجهم، فلا على المسلمين منهم.
5. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾.. فلا سلطان لهم عليكم، ولا يملكون شيئا من أمركم، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي، فأنا الذي أستحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة.
6. ومع التهوين من شأن الذين ظلموا، والتحذير من بأس الله، يجيء التذكير بنعمة الله، والإطماع في إتمامها على الأمة المسلمة، حين تستجيب وتستقيم: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.. وهو تذكير موح، وإطماع دافع، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم.. ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم، يدركونها في أنفسهم، ويدركونها في حياتهم، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود.. كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته، فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدا واضحا عميقا، وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة،ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة، وإلى القوة والمنعة، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم،وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم.. ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع، الواضح التصور والاعتقاد، المستقيم القيم والموازين.. فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم، فإذا قال الله لهم: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾.. كان في هذا القول تذكير موح، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم.
7. نجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة.. في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه.. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة.. وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة.. ولكننا ـ مع هذا ـ نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان، وهذا التعليل، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل، وأثرها في بعض القلوب والنفوس، هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/137.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي دع مراء هؤلاء القوم، فلهم وجهتهم، ولك وجهتك، واستبق الخيرات أنت ومن معك من المؤمنين، فذلك هو الذي ينفع يوم الجزاء، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
2. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ لا مراء مع أهل الكتاب، ولا التفات إلى ما يرجف به المنافقون في شأن القبلة وتحول المسلمين إلى البيت الحرام، وإذن فالمسجد الحرام هو قبلتك أيها النبيّ تتجه إليه أينما كنت، في الحضر أو في السفر، فذلك الأمر هو الحق المنزل إليك من ربّك، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
3. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أعيد الأمر مرة ثانية بأن يوجّه النبيّ وجهه شطر المسجد الحرام، ولكن في هذه المرة دخل المسلمون معه في هذا الأمر، وإن كان دخول المسلمين مع النبي لازما في الأمر الأول، وذلك ليتقرر في نفوس المسلمين أنه أمر لازم لا رجوع فيه، ولا تحول بعده.
4. فى قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ ما يقطع بأنه لا تحول عن البيت الحرام بحال أبدا، فذلك مما يعطى اليهود حجة على المسلمين إذا هم رجعوا فتحولوا بقبلتهم إلى بيت المقدس، استجابة لما يوسوس لهم به اليهود، إذ أن الحق طريق واحد، والتردد فيه يعمّى السبل إليه.
5. عبّر القرآن عن اليهود هنا بكلمة (الناس) ليدخل معهم غيرهم، ممن تأثر بوسوستهم واستمع لضلالتهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/172.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ عطف على جملة: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة: 146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل، ذلك أنه بعد أن لقّن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ما يجيب به عن قولهم ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طيّا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات (دع هذا) أو (عدّ عن هذا)، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق، وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق، وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: ﴿فَاسْتَبَقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، فقوله: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات، فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدّمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل.
2. (كل) اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه، {لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ} [النساء: 33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: 116]
3. والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر، وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ ﴿وِجْهَةٌ﴾ في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
4. ضمير ﴿هُوَ﴾ عائد للمضاف إليه (كل) المحذوف، والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ [البقرة: 142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها، وقراءة الجمهور (موليها) بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر (هو مولّاها) بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره.
5. ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها، ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها.
6. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد، فالمنافسة تكون في مصادفة الحق، والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلّا أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ [يوسف: 25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا، فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات، والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133]، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الواقعة: 10 ـ 12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد: 10] وقال موسى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84].
7. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم و(كان) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء، والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة، قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان:
çأتاك بي الله الذي نوّر الهدى...ونور وإسلام عليك دليلé
أراد سخرني إليك، وفي الحديث: (اللهم اهد دوسا وأت بها) أي اهدها وقربها للإسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ [لقمان: 16].
8. تجيء أقوال في تفسير ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا﴾ على حسب الأقوال في تفسير ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يذكّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أيّة جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت، إلى غير ذلك من الوجوه.. وقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.
9. عطف قوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ على قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144] عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من ﴿حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ من كل مكان خرجت مسافرا لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ زيادة اهتمام بأمر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [البقرة: 147]، وقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.
10. قوله بعده: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ عطف على الجملة التي قبله، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبني عليه التعليل بقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
11. قوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ عطف على قوله: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ الآية، والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
12. تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين، وتكرر أنّه الحقّ ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾، ومن جمل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ﴾ الآيات، وجملة: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وجملة: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ الآيات، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلّا تصميما، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقّق في معنى الكلام، وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حفّ به، ما يدفع قليل السآمة العارضة لسماع التكرار، فذكر قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ﴾ إلخ، وذكر قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ إلخ.
13. الضمير في ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام، فالضمير هنا كالضمير في قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [البقرة: 146].
14. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ علة لقوله: ﴿فَوَلُّوا﴾ الدال على طلب الفعل وامتثاله، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب، فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلّا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا.
15. التعريف في (الناس) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى، وأهل الكتاب، والحجة أن يقولوا إنّ محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه، ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.
16. لا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلّا الذين أوتوا العلم، وعلى هذا يكون قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ ناظرا إلى قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 144]، وقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [البقرة: 146]، وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.
17. الحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف، بحيث لا يجد منه تفصيا، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجّه، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاجّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: 258]، فالحجة لا تطلق حقيقة إلّا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 16]، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه (الكشاف)، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء، إلّا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لهم عليكم حجة، فأجاب الزمخشري بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة، فحرف ﴿إِلَّا﴾ يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.
18. جملة ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي﴾ تعليل ثان لقوله: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة، وقد روى الترمذي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (إتمام النعمة دخول الجنة)، أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا، فهو قريب من قوله تعالى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124] أي أمتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال.
19. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ عطف على ﴿وَلِأُتِمَّ﴾ أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق، وحرف لعل في قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه، ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143] كما قدمناه وقال حبيب:
çإنّ الهلال إذا رأيت نماءه...أيقنت أن يصير بدرا كاملاé
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/42.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ينبهنا الله تعالى إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم، ولنا أعمالنا؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾.
2. الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة، والتنكير في (لكل) دال على محذوف، والمعنى: لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها، وتبين الحق في هذه الجهات، ببينة الله وقبلته المختارة من بينها، وإن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات، أي تسارعوا متسابقين إليها، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح، وصلاة وصوم وزكاة، وتعاون على البر والتقوى، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة].
3. هذا على تفسير الوجهة بالقبلة، ويصح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة] وكقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج]، والمعنى على هذا: إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها؛ وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومنهاجهم، ولا نجادلهم، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات، أي كل ما هو فيه خير في ذاته، وفيه نفع للناس والأنفس، وما فيه تطهير القلوب، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود.
4. بعد الاستباق إلى الخير، والاختلاف في الملة سيكون الحساب، والثواب والعقاب، وبيان الحق والباطل؛ ولذا قال ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ وأينما اسم شرط دال على المكان، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا، والمعنى أنه في أي مكان كنتم لا بد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال، ويحاسب كل على ما قدّم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
5. هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار؛ فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير، وكان دينهم الحق، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل، ولجّوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا.
6. قوله تعالى: ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ فيه إشارة إلى أنها حياة لا يجيئون إليها مختارين، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بأنّ والجملة الاسمية، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود، كل شيء في قدرته وفى سلطانه، وهو العزيز العليم.
7. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تبين في الآيات السابقة اتباع القبلة في حال المقيمين، فبينت حيث يقيم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبينت حيث يقيم المسلمون في الأماكن الإسلامية، كل في مكان إقامته، فقال فيما تلونا من قبل: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، وفى النص السامي يبين أن القبلة لا بد من الاتجاه إليها في السفر كما يجب الاتجاه إليها في حال الإقامة، فإذا خرج من مكان إقامته اتجه إليها، فلا تسقط فرضيتها في السفر؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (من) هنا أي من أي مكان خرجت، وفى أي مكان حللت، فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، أي ناحيته؛ إذ لا فرق بين مكان ومكان ولا سفر ولا إقامة، فالاتجاه ضروري، أي أن السفر لا يسوّغ ترك الاتجاه شطر البيت أي ناحيته ووجهته.
8. ذكر ذلك النص لتأكيد الاتجاه، وأنه شرط لصحة الصلاة دائم مستمر لا فرق بين سفر وحضر، ولا فرق بين راكب وراجل، ولقد روى الدارقطني عن أنس ابن مالك قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان في سفر فأراد أن يصلى على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به)، أي أنه كان يلاحظ دائما أن يكون ناحية القبلة.
9. ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ الفاء هنا في معنى جواب الشرط، وقد أكد الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام، فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ والضمير يعود على تولية الوجه، وقد أثبت الله تعالى بهذا أنه الحق، وأكده بأنّ واللام، والجملة الاسمية، وإسناد هذا الحق لله تعالى، والتعبير عن الله جل جلاله للدلالة بربك للإشارة إلى أنه اقتضته تربيته لك، وقيامه على شئونك، وأنه سار على حكمته، ولأنه رأى تقلب وجهك في السماء، وإن ذلك الحق ثابت في كتبهم، فإنه ثابت في التوراة أن القبلة تتحول إلى فاران أي إلى مكة.
10. بعد أن أكد سبحانه وتعالى وجوب الاتجاه إلى القبلة في السفر والإقامة ـ بيّن سبحانه، أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه تحت سلطان علمه وحكمته، وأنه رقيب على المؤمنين ليس بغافل عنهم ليتحروا القبلة ويتعرفوها، ولا يصلوا إلا بعد هذا التحري فقال تعالت كلماته: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، نفى الله تعالى وجل جلاله عن نفسه الغفلة، أي أثبت العلم الكامل، بتأكيد نفى أن يقع فعل في الوجود على غير علم منه، باستغراق النفي وبذكر لفظ الجلالة الذي يتصف بكل كمال، ويستحيل عليه أي نقص، وبالباء الدالة على استغراق النفي وإن هذا الكلام السامي قد يكون إنذارا، ولكنه موجه إلى المؤمنين، وليس موجها إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل أن الخطاب كان باللفظ الدال على الجمع، ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
11. أكد سبحانه وتعالى الأمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتكراره، وذكر الأمر للمؤمنين أجمعين تعميما للأماكن، حيثما كانوا في سفر أو إقامة كما أشرنا، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وكان التكرار في شأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لتعدد أسفاره، وغزواته، وأن القبلة الاتجاه إليها شرط لصحة الصلاة في كل الأحوال إلا أن يكون ذلك في حال الخوف، وتكون صلاة الخوف، ولا يمكن الاتجاه إلى القبلة، إذ يستدبر العدو، فيأتيهم من حيث لا يشعرون، وقد بين الله تعالى صلاة الخوف فقال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ الآية، وقد تشير هذه النصوص الكريمة إلى أن استقبال القبلة إذا تعذر في حال الحرب جاز الاتجاه إلى غيرها من غير استدبار للضرورة والله تعالى هو الواقي.
12. كرر الله تعالى طلب الاتجاه إلى البيت الحرام حيثما كانوا، ومن حيث خرجوا في سفرهم وفى مغازيهم، وكرر ذلك تأكيدا للطلب لكيلا يرتاب مرتاب، ولكى يكون حجة على الناس، ولا يكون لهم حجة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه؛ ولذا قال تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، أي أكدنا الاتجاه إلى البيت من أجل ألا يكون للناس حجة في عدم العلم، ودليل عليكم في عدم تحويل القبلة إلى الكعبة، وأن يسيروا على القبلة التي كنتم عليها، وهى إلى بيت المقدس، والحجة هي التي يستدل بها المخالف، وذلك لأن اليهود والمنافقين لجّوا في التساؤل والمناقشة وتوهين ذلك التحويل، فأكد الله تعالى التوجه إلى البيت الحرام، والحجة التي نفاها الله تعالى هي حجة عدم العلم فأكده.
13. استثنى الله تعالى من الذين لا تقوم لهم قائمة الذين ظلموا فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وهذا الاستثناء أهو الاستثناء متصل أم استثناء منقطع بمعنى لكن؟ لقد قال الطبري إنه استثناء متصل بمعنى أن الذين ظلموا لا تنتفى حجتهم، وإن كانت واهية داحضة عند ربهم، وقال: المعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا: (ما ولاهم)، وقالوا: تحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لا تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق، أي أنه لا حجة عليكم إلا المماراة وما يحسبونه حججا، وهو أقوال واهية تدل على ضعف الإيمان عند قائلها وأنهم يقولون ما لا يؤمنون به، ويكون الذين ظلموا هم اليهود والمنافقون، وقال بعضهم: إن الاستثناء منقطع، ويكون المعنى: لئلا يكون للناس حجة عليكم، لكن الذين ظلموا، لا يقنعهم دليل ولا تعظهم حجة، بل إنهم يلجون في الباطل بأوهام باطلة، فلا تنتظر منهم أن يلزموا أنفسهم بدليل مهما كانت قوته؛ لأنهم معاندون جاحدون مكابرون.
14. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ الخشية نوعان: خشية الله تعالى وهى طمأنينة في القلوب تبعث على التوقي مما يغضب الله تعالى، وهذه هي الخشية من الله تعالى وقد أمرنا بها، وأن تمتلئ قلوبنا بالاطمئنان مع التوقي مما يغضب الله، والخشية الأخرى الخوف والفزع، وهى ما نهانا الله تعالى عنه، فنهى أن نخاف أو أن نفزع أو أن نتوقع الأذى من هؤلاء الظالمين، وأن نخشى الله تعالى فتمتلئ نفوسنا بالاطمئنان والتقوى.
15. كان التأكيد للاتجاه إلى البيت الحرام لذلك، ولأمر جليل آخر، أشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أي كانت القبلة لكيلا يكون للناس حجة عليكم، ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾، إن نعم الله تعالى تتوالى على النبيّ ومن معه من المؤمنين ومن تمامها نعمة الاتجاه إلى الكعبة، إذ إنها تضمنت إجابة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ كان يقلب وجهه في السماء ليوليه قبلة يرضاها، ولما فيه من تشريف البيت الحرام، ولما فيه من إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، ولما فيه من تأليف للعرب، ولأن ذلك ايذان بفتح مكة وإزالة دولة الأوثان، وإقامة دعائم الإسلام، وتلك كبرى النعم.
16. ذكر الله تعالى أمرا آخر، وهو جماع الأمور كلها، وسبيل الحق والإيمان وهو رجاء الهداية الكاملة، فهذا من طرقها ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ الرجاء من الناس لا من الله، ف تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/457.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، لما ذكر الله القبلة التي أمر المسلمين بالتوجه اليها، وهي الكعبة، وذكر تصميم كل من اليهود والنصارى على اتباع قبلتهم، وتمسكهم بها بيّن ان السر لهذا التصميم والإصرار هو ان كل فريق قد اختار لنفسه جهة يتجه اليها، لا يفارقها أبدا، وان كان فسادها بينا كالشمس، فقوله: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها} أشبه بقوله: كل حزب بما لديهم فرحون، هذا ما فهمته من ظاهر اللفظ، وقد تعددت في تفسيره الأقوال أنهاها صاحب مجمع البيان الى أربعة.
2. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، أي دعوا أهل الكتاب والمشركين المعاندين، واتجاهاتهم، وإصرارهم على ضلالهم، وانصرفوا الى عمل الخير، والمبادرة اليه، فان مرجعكم غدا اليه سبحانه، فيثيب المحق المحسن، ويعاقب المبطل المسيء.. وعلى حد تعبير المفسرين ان قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ﴾، هو وعد بالثواب لأهل الطاعة، ووعيد بالعقاب لأهل المعصية، أما قوله: ان الله على كل شيء قدير بعد هذا الوعد والوعيد فهو دليل وتعليل لإمكان الإتيان بالخلق وبعثهم بعد الموت.
3. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ كرر الله الأمر هنا باستقبال المسجد الحرام ثلاث مرات، وفي الآية 145 مرتين، فالمجموع خمس مرات دون فاصل طويل.. ذكر صاحب المجمع في ذلك ثلاثة أقوال، والرازي خمسة، ومنها الجواب التقليدي الموروث، وهو ان التكرار للتأكيد والاهتمام.. ولم تركن النفس الى شيء من تلك الأقوال.. وليس لدي شيء سوى ان التكرار هنا قد يكون لمناسبة خاصة استدعاها المقام آنذاك، وقد خفيت علينا، وما أكثر المناسبات والملابسات التي لا تدخل تحت ضابط وحساب.. ومعلوم ان موارد الآيات وبواعثها منها خاص ومنها عام.. وليس لأحد أن يستنبط ويتأول من غير أصل ويعتمد على الحدس والظن.
4. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، قال كثير من المفسرين: ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان يصلي الى بيت المقدس قال المشركون العرب: كيف يدعي محمد انه على دين ابراهيم، ولا يصلي الى الكعبة التي كان يصلي اليها ابراهيم وإسماعيل؟، وان أهل الكتاب قالوا: ان الموجود في كتبنا ان النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يصلي الى الكعبة، لا الى بيت المقدس، فكيف نعترف بنبوته؟، فكان لكل من المشركين وأهل الكتاب حجة يتذرع بها في زعمه.. فحول الله نبيه الى الكعبة، وجعلها قبلة دائمة للنبي ولجميع المسلمين الى يوم الدين، كي لا يبقى لهؤلاء، ولا لأولئك ما يحتجون به.
5. ظاهر الجملة يدل على ان الصلاة الى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، أما من هم المعترضون من الناس فلم تتعرض الآية لبيانهم.. ومن الجائز أن يكون الوجه في قطع حجة المعترضين ان الكعبة بناها وصلى اليها ابراهيم عليه السلام، وهو محل وفاق بين الجميع، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على سنته.
6. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، أي لا حجة عليك لواحد من الناس إذا صليت الا للمبطل المعاند الذي لا يستند في اعتراضه وطعنه الى برهان عقلي، ولا هدى سماوي، بل لمجرد التعصب والتعنت.
7. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾، أي لا تخافوا في الحق لومة لائم، فأنا وحدي أملك لكم النفع والضر، وقال ابن عربي في تفسيره: (معنى اخشوني اعرفوا عظمتي لئلا يعظم الكافر عندكم، قال علي أمير المؤمنين عليه السلام: عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم).
8. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، أي أنعمت عليكم بالإسلام، وأتممت النعمة بإعطائي إياكم قبلة مستقلة توحد كلمتكم، وتجمع شملكم، وتتجه اليها شعوب العالم من أقطار الأرض على اختلاف ألوانها وألسنتها.. قال عالم مدقق: تربط الأمة الاسلامية ثلاث أواصر: إله واحد، وكتاب واحد، وقبلة واحدة، يفد اليها المسلمون من أقطار الأرض كل عام، ليعبدوا هذا الإله الواحد بتلك الشريعة الواحدة على أرض واحدة، هي أرض الوطن الروحي.. وهكذا تجسدت وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، ووحدة الوطن الأعلى، ليذكر المسلمون انهم وان تفرقت أقطارهم، واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم تجمعهم جامعة الدين والله والوطن.. وانه إذا جد الجد وجب ان يضحي كل فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل هذه المصلحة المشتركة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/235.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ﴾ منك ومنهم ومن كل فريق منهم ﴿وِجْهَةٌ﴾ قبلة يوليها وجهه ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي الله سبحانه هو الذي شرع تلك الوجهة وجعلهم بحكمه يولونها وجوههم؛ لأنه المشرّع، فهم كلهم في الأصل تبعوا تشريعه لعلمهم أنه الحق وإنما يتعصبون لوجهتهم من بعد ما ولاهم الله إياها، واتبعوا تشريعه، فكان عليهم أن يتبعوا تشريعه إذا نسخها كما اتبعوا تشريعه حين شرعها، وهذا يمكن أنه عبارة عن القبلة فقط.. ويمكن أنه كناية عن الشرعة، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48].
2. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي الخيِّرات بالتشديد وهو يصلح للأعمال الصالحات وللدرجات التي تنال بالأعمال الصالحات، فإن كان المراد بها الأعمال فالمراد أمر الفرق المختلفة أن تستبق الحق الذي يقبله الله وهو خير الطرق وأفضلها، وأعماله هي الخيرات أي الفاضلات، وإن كان المراد به الدرجات، فهو كقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26] والاستباق إليها: أن يعمل كل ليسبقها، وذلك بأن يعمل العمل الموصل إليها وهو الدين الحق الذي يتقبله الله ويثيب عليه، فالحاصل: أمر الفرق أن تستبق وتطلب السبق باتباع الحق الذي يؤدي إلى السعادة، فهو الذي ينبغي التنافس فيه لا الطرائق التي لا يقبلها الله، فلا تؤدي إلى الدرجات العلى، وليس لها من صفة الخير والفضل شيء؛ لأنها صارت بالنسخ غير مرضية، وهذه الآية مثل آية المائدة، وحاصل ذلك أمر أهل الملل أن يكونوا على الحق، ومعنى ذلك: أن يصيروا ملة واحدة هي الحق، وهو دين الله الذي شرعه في القرآن وفيما أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ من أقطار الأرض أو غيرها من الأمكنة ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ مجتمعين، وذلك يوم يجمعكم ليوم الجمع، وهذا كقوله تعالى في (سورة المائدة): ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [آية:48] ولعل ذكر الأمكنة ليعم كل من يستقبل قبلة فيتناول من يكون قريباً من قبلة فيختارها ويتعصب لها لقربها فبيّن لهم أن مرجعهم إلى الله في أي مكان كانوا، وعلى هذا فعليهم أن يطيعوه في أي مكان كانوا؛ لأن مكانهم لا ينفعهم أو ينجيهم من الرجوع إلى الله لتجزى كل نفس بما تسعى، ويتناول من يكون بعيداً من الكعبة فيظن أن بُعده عذر له في ترك استقبال الكعبة أو يتهاون بالقبلة لبعدها ـ والله أعلم، ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو على جمعهم إذا شاء قدير.
4. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ من أي مكان ﴿خَرَجْتَ﴾ إليه وصرت فيه ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ﴾ منه ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فالحكم واحد فيمن كان في بلده، ومن كان خارجاً عنها فعليه أن يستقبل الكعبة في صلاته.
5. ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وهذا تأكيد لما سبق، وتأكيد بخصوص الخارج من بلده الذي تختلف عليه الجهات، وتلتبس عليه القبلة ويحتاج إلى النظر في العلامات أو سؤال أهل البلد المسلمين، فالحكم واحد ولا يسقط إلاَّ عند تعذر معرفة جهة الكعبة بأي وسيلة ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فهو غير غافل عن المصلي في أي مكان كان.
6. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ وهذا تأكيد لما سبق، وليترتب عليه ما يأتي كما ترتب على الأول قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إلى آخر ما قال سبحانه فيهم.
7. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي أمرناكم أن تولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام لئلا يكون للناس عليكم حجة، لو بقيتم على استقبال بيت المقدس وترك الكعبة، والحجة ما يحاجون به، أي يجادلون، ولو لم يكن دليلاً صحيحاً، فلولا ذلك لكان لهم ما يجادلونكم به فيقول أهل الكتاب: لولا أن ديننا هو الحق ما كان على قبلتنا، ويقول كفار العرب: لو كان على حق لكان يستقبل الكعبة قبلة إبراهيم.
8. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هنا هم المكابرون الذين لا يقبلون حجة، ولا ينصفون في جدال، فهم لا يزالون في حيف وجور، ولا ينفعهم بيان الحق ولا دفع الشبهة، فهم لا يزالون يتمسكون بحجة داحضة ويجادلون بشبهة باطلة، فالاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا يحاجونكم بحجة داحضة وهي حجة المكابر التي لا يُبَالَى بها ولا يُشْتَغَل بالجدال فيها، وإنما جداله بالسيف متى لجّ به الخصام إلى السيف.
9. وعند ذلك ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ ولا تحيدوا عن قتالهم خوفاً منهم ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ لا تخالفوا أمري فيهم بالقتال كقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ [التوبة:13] وقد أمر سبحانه بقتالهم في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة:29] وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة:123] وغير ذلك، وأشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت:46]، قال المرتضى عليه السلام: فالخشية قد تكون من الأذية والكلام والبسط والقتال، فأمر الله أن لا يخشوا الخلق ولا يهابوهم ولا يدارون الظلمة ولا في الله سبحانه يتاقونهم، وأن تكون خشيتهم لله سبحانه وقصدهم إياه والطلب منهم لرضاه)، فالأولى تفسير ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ بالمعنيين ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ جعلت قبلتكم قبلة أبيكم إبراهيم التي ترضونها ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ باتباع أمر الله في القبلة التي صار استقبالها هو الهدى وفي غيرها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/209.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي أن لكل قوم وجهة يتجهون إليها من خلال القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكزون عليها في ما يأخذون به أو يتركونه، أو ينطلقون به من مواقع ومواقف وعلاقات بالحياة وبالإنسان، سواء في ذلك الأنبياء الذين ينطلق كل واحد منهم بملّته ووجهته التي تختلف في خصوصياتها فتتعدد جهاتها، ولكنها تلتقي في الإسلام الذي يجمع الرسالات كلها عند الانقياد لله في كل شيء، وهذا هو ما ينبغي للمسلمين أن يتحركوا فيه في انفتاحهم على الكعبة التي أراد الله لهم أن يتوجهوا إليها، بعيدا عن كل عناصر الشك التي يثيرها اليهود والمنافقون في عملية تحويل القبلة التي شرّعها الأنبياء من قبلهم، لأنه من الممكن أن يختلف اتجاه القبلة بين رسالة وأخرى، وبين نبي وآخر.
2. ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فهذا هو الوجه الذي أراد الله لكم أن تستقبلوه في كل مواقع حياتكم في رسالتكم التي حمّلكم الله إياها من خلال رسوله بالمسارعة إلى الخيرات التي تمثل حركة الحياة في إيجابياتها الروحية والأخلاقية في الإنسان بعلاقته بالإنسان الآخر، وبالكون من حوله، عندما يقدم من عقله وقلبه وروحه وجهده الكثير من الأفكار والمشاعر والعواطف والأعمال التي تفتح آفاته على عوالم جديدة كما توجّه خطواته إلى دروب جديدة، وترتفع بحياته إلى الدرجات العليا على مستوى تطوير طاقاته وتنميتها وتحويلها إلى عناصر حيّة في كل اتجاه من اتجاهات الحركة في الحياة.. إنها الخيرات، العنوان الكبير لاستقامة الحياة على الخط الصالح الذي يربط بين الله والإنسان والحياة في دائرة المسؤوليات العامة التي يريدها الله للحياة من خلال الإنسان، لتكون على الصورة التي أراد لها أن تتمثل فيها على أساس الحق الذي أقام عليه الكون كله، وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يتنافسوا فيه ويلتقوا عليه ليواجهوا مسئوليتهم أمام الله غدا، فيحاسبهم على ما قدموه من الخيرات التي أمرهم الله بالسعي إليها والعمل بها، عندما يقوم الناس لرب العالمين.
3. ﴿أَيْنَ مَا﴾ في أيّ مكان وموقع ﴿تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ﴾ حيث يبعثكم كما خلقكم، وأماتكم ﴿جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فلا شيء، خارج قدرة الله تعالى، وليس البعث بأصعب من الخلق، وليس الجمع بأصعب من التفريق، لا مجال للتراجع.
4. تعود الآيات مع التشريع الجديد في خطاب حاسم للنبي، لتؤكد له أنه الحق من ربه، فلا مجال للتراجع عنه مهما حشد اليهود من ضغوط ومهما اتبعوا من أساليب التضليل، فإن الله لا يغفل عما يعمله عباده إزاء تكاليفه من طاعة أو معصية.. ويعود الخطاب من جديد، للنبي أولا وللمسلمين ثانيا بالقوّة الآمرة نفسها، وبتعليل جديد، فإن بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية تتحدث عن تعاليم واردة في الكتب الدينية السابقة التي تذكر أن النبي سيصلي إلى الكعبة، مما يجعل من الانحراف عن ذلك حجة للآخرين على المسلمين لأنه يكشف أنهم ليسوا الأمّة الموعودة في الكتب السماوية.
5. ثم استثنى من هؤلاء الناس الظالمين الذين لا يريدون أن يستسلموا للحق الذي يعرفونه في كتبهم بل يسيرون في طريق العناد والظلم للحقيقة وللمؤمنين، فلا تخشوهم أيها المؤمنون، لأنهم لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة ولا يملكون أن يضرّوكم شيئا، بل اجعلوا خشيتكم من الله الذي يملك لكم كل شيء.
6. وتلتقي الآية بالنعمة التي يريد الله أن يتمّها على المسلمين من جهة إكمال التشريع الذي يبني لهم حياتهم على أساس من الاستقرار والطمأنينة والسعادة الروحية والمادية، وفي هذا دلالة على أنّ تدرّج التشريع وتطوّره يعتبر تدرّجا بالنعمة، فكأن الله لا يريد أن يعطي النعمة دفعة واحدة، بل يريد أن يجعل من كل نعمة ينزلها على الإنسان في تشريعه إعدادا لنعمة جديدة في الطريق الأرحب نحو التكامل.
7. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ من أيّ موقع من البلدان التي تبتعد بك عن المسجد الحرام أو عن مكة، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ في صلاتك وفي كل عمل مشروط باستقبال القبلة، ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ فهو القبلة التي شرّعها الله وجعلها القاعدة التي تتوحدون فيها وتتوجهون إليها في موقع من مواقع الإلزام الشرعي الذي لا مجال للانحراف عنه تحت تأثير أية حالة ذاتية أو أي ضغط خارجي، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فلا تغفلوا عن الحقيقة الإيمانية في مراقبة الله لكم في كل الأمور.
8. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فهذا هو التشريع المؤكّد الذي يزداد تأكيدا على مستوى الفريضة اليومية التي يجب عليكم أن تنفتحوا عليها في وعي الفكرة، وتلتزموا بها في وعي العمل، لتتحول لديكم إلى عادة جديدة تنسخ العادة السابقة، لتشعروا بأن التشريع الجديد قد تحوّل إلى واقع جديد، وتلك هي مهمة التشريع في حياة المسلمين، بأن يتحوّل إلى حالة تغييرية في حياة الأمّة لتكون في حجم العادة التاريخية المتجذرة في وجودها العملي، لا مجرد حالة طارئة في الواقع، ليلتقي الخط في فريضة النبي الذي لا بد من أن يكون أوّل مسلم في وعي التشريع وحركته، وفي فريضة الأمّة .
9. ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ في صلاتكم وعباداتكم الأخرى المشروطة بالتوجه إلى القبلة، وعليكم أن تتابعوا ذلك وتلتزموه دائما.
10. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ من خلال التاريخ الذي كان يتحدث به اليهود ـ كما روي ـ أن النبي الموعود يصلّي إلى قبلتين، أو ما كان يتحدث به المشركون ـ كما قيل ـ ويتساءلون كيف ترك محمّد الكعبة وهو المؤهل ـ كما يقول ـ لإحياء ملة إبراهيم التي سار عليها، فإذا التزمتم بالكعبة قبلة أبطلتم حجة هؤلاء المضادة ممن ينفتح على الحوار ويقف أمام الحجة.
11. ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ ممن يعيش في مواقفه المضادة على أساس العناد الذي لا ينطلق من حجة أو برهان، بل من ذهنية العدوان الذاتي من خلال العقدة المستحكمة في نفسه ضد الحق وأهله، فليست المشكلة عندهم نوعية الاتجاه إلى بيت المقدس أو الكعبة، بل المشكلة هي التزامكم بالدعوة الجديدة والدين الجديد الذي يلغي امتيازاتهم الناشئة من الفكر الباطل والخط المنحرف، فهم الظالمون في مواقفهم وفي كل اتجاهاتهم الفكرية والعملية.
12. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ لأنهم لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا، ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ لأني ربكم الذي يملك وجودكم ومصيركم كله، مما يفرض عليكم الالتزام بالدين الذي أنزلته والرسول الذي أرسلته.
13. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ في استقامة التشريع على الخط الذي تتكامل فيه قضاياكم ومواقفكم وخطواتكم في الحياة، باعتبار أن الله يريد للناس أن يتابعوا نعمه في تشريعاته، كما يتابعونها في أوضاعهم العامة والخاصة.
14. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ بما يوفره الله لكم من وسائل الهداية في امتحانه لكم واختباره لثباتكم على الإيمان، وذلك إذا أخذتم بأسباب الهدى في ما يشرعه الله لكم من أحكامه ويوضحه لكم من مفاهيمه.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/92.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول الدين لا تقبل التغيير، ولا أمرا تكوينيا لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، لأن معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير، ومثل هذا المعنى تضمنته الآية 177 من هذه السّورة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾، إن كنتم تريدون اختبار الإسلام أو المسلمين، فاختبروهم بهذه الأمور لا بمسألة تغيير القبلة.
2. ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لأولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.. لا يتساوى المفترون والمشاغبون المخربون مع المحسنين المؤمنين، ولا بدّ من يوم ينال كل فريق جزاءه.
3. قد يخال بعض أن جمع النّاس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة!؟ لذلك تجيب الآية بالقول: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهذه العبارة الأخيرة في الآية بمثابة الدليل على العبارة السابقة: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾
4. ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ أن المقصود بهم أصحاب المهدي عليه السّلام، من ذلك ما ورد في (روضة الكافي) عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه تلا الفقرة المذكورة من الآية ثم قال: (يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، وهم والله الأمّة المعدودة، قال يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف)، وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام أيضا: (وذلك والله أن لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان)، وهذا التّفسير للآية دون شك يتحدث عن (بطن) الآية، والأحاديث ذكرت أن لكلام الله ظاهرا لعامة النّاس، وباطنا لخاصّتهم.. بعبارة أخرى: هذه الروايات تشير إلى حقيقة، هي إن الله القادر على أن يجمع النّاس من ذرات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع أصحاب المهدي في ساعة بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الاولى للثورة العالمية الرّامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الأرض، وإزالة الظلم والعدوان عن وجهها.
5. عبارة ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ فسرناها سابقا بأنها إشارة للقبلات المتعددة للأمم، ومن المفسرين من توسع في المعنى وقال إنها تعبّر عن القضاء والقدر التكوينيين أيضا، ولو خلت الآية ممّا يحيطها من قرائن قبلها وبعدها لأمكن مثل هذا التّفسير، لكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى الأوّل، ولو افترضنا أن الآية تشير إلى المعنى الثّاني، فلا تعني إطلاقا القضاء والقدر الجبريين، بل القضاء والقدر المنسجمين مع الإرادة والاختيار.
6. ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها، الآية الاولى تأمر النّبي عليه السّلام وتقول: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾.. من أية مدينة، وأية ديار ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، ولمزيد من التأكيد تقول الآية: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
7. هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبيّن أن مسألة تغيير القبلة كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبثّ سمومهم، ومثل هذه الحالة تتطلب دائما موقفا قاطعا حاسما ينهي كل شك وريبة، من هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع، وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء، وهذا أسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.
8. إضافة إلى ما سبق، فالتكرار في هذه الآيات يتضمن أيضا أحكاما جديدة، على سبيل المثال، الآيات السابقة وضحت حكم القبلة في المدينة التي يسكنها المسلمون، وهذه الآية والآية التالية أوضحت الحكم لدى السفر والخروج من المدن والديار، والآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكنها تقصد دون شك مخاطبة عامّة المسلمين.
9. ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامّة:
أ. إلجام المعارضين ـ تقول الآية: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمشركون يعترضون على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم، وهذا التغيير أنهى كل هذه الاعتراضات، لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، فهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات! هؤلاء المفترون ظالمون حقا.. ظالمون لأنفسهم، وظالمون لمن يقطعون عليه طريق الهداية.
ب. حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفا في نفوس البعض لذلك قالت الآية: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾، وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاما أساسيا من أصول التربية التوحيدية الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله (أو بعبارة أصح الخوف فقط من معصية الله)، وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة، فلن تفشل ولن تنهزم قط.. أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من (الشرق) تارة، ومن (الغرب) تارة أخرى، ومن (المنافقين الداخليين) ومن (الأعداء الخارجيين) ومن كل شيء سوى الله، وهؤلاء دائما أذلاء ضعفاء مهزومون.
ج. وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، تغيير القبلة كان في الواقع نوعا من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الانضباط الإسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين ـ كما قلنا ـ عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة، وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة.. نحو أقدم بيت توحيدي، وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/423.