...
103. الطلاق الرجعي والخلع
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈103⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
عمر:
روي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب في الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال هي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان إذا أتي به أوجعه(1).
2. روي عن عبد الله بن شهاب الخولاني: أن امرأة طلقها زوجها على ألف درهم، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال: باعك زوجك طلاقا بيعا، وأجازه عمر(2).
3. روي عن كثير مولى سمرة: أن امرأة نشزت من زوجها في إمارة عمر، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، فمكثت ثلاثة أيام، ثم أخرجها، فقال: كيف رأيت؟ قالت: ما وجدت الراحة إلا في هذه الأيام، فقال عمر: اخلعها، ولو من قرطها(3).
__________
(1) البيهقي في سننه: ٧/٣٣٤.
(2) البيهقي: ٧/٣١٥.
(3) عبد الرزاق: ١١٨٥١.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، قال يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم يدعها تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض، وتبين منه به(1).
2. روي عن علقمة بن يزيد النخعي قال أتى رجل إلى ابن مسعود، فقال: إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة قال قلتها مرة واحدة؟ قال نعم قال تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال نعم قال هو كما قلت قال وأتاه رجل، فقال: رجل طلق امرأته البارحة عدد النجوم قال قلتها مرة واحدة؟ قال نعم قال تريد أن تبين منك امرأتك؟ قال نعم قال هو كما قلت، ثم قال قد بين الله أمر الطلاق، فمن طلق كما أمره الله فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، والله، لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم، هو كما تقولون(2).
__________
(1) النسائي: ٣٣٩٤.
(2) عبد الرزاق: ١١٣٤٢.
عثمان:
روي عن عثمان بن عفان (ت 35 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، فكانت مني زلة يوما، فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه؟ قال نعم، ففعلت، فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه(1).
2. روي عن عروة بن الزبير: أن رجلا خلع امرأة في ولاية عثمان بن عفان عند غير سلطان، فأجازه عثمان(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١١٨٥٠.
(2) البيهقي: ٧/٣١٦.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن محمّد بن مسلم قال: قدم رجل إلى الإمام علي بالكوفة، فقال: إنّي طلّقت امرأتي بعدما طهرت من محيضها قبل أن أجامعها، فقال الإمام علي: أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟ فقال: لا، فقال: اذهب، فإنّ طلاقك ليس بشيء(1).
2. روي أنّه سئل عن الطلاق، فقال: على طهر ولا يكون طلاق إلا بالشهود، فقيل له: إن طلّقها، ولم يشهد، ثمّ أشهد بعد ذلك بأيّام، فمتى تعتد؟ فقال: من اليوم الذي أشهد فيه على الطلاق(2).
3. روي عن الإمام الباقر أنّه قال: جاء رجل إلى الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين إني طلقت امرأتي، قال ألك بينة؟ قال لا، قال اُغرب(3).
__________
(1) الكافي: 6/60/14.
(2) التهذيب: 8: 51/163.
(3) الكافي: 6/58/7.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها: إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن آثم في جنبك، ولا أؤدي حقك، وتطيب نفسا بالخلع(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٤٥.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ هو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة، فإذا طلق واحدة أو ثنتين فإما يمسك ويراجع بمعروف، وإما يسكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحق بنفسها(1).
2. روي أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة؛ فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هو الميثاق الغليظ(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١] قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(4).
5. روي أنّه قال: كان الرجل يأكل من مال امرأته نحلته الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه جناحا؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، فلم يصلح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهن إلا بحقها، ثم قال ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤](5).
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به(6).
7. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق زوجها، وسوء خلقها، فتقول له: والله، لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية(7).
8. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه: يتزوجها إن شاء؛ لأن الله يقول: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ قرأ إلى: ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾(8).
9. روي أنّه قال: أتت جميلة بنت سلول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تريد الخلع، فقال لها: (ما أصدقك؟)، قالت: حديقة، قال: فردي عليه حديقته(9).
10. روي أنّه قال في المختلعة يطلقها زوجها: لا يلزمها طلاق؛ لأنه طلق ما لا يملك(10).
11. روي أنّه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: (لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عسيلتها(11).
12. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك، فقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(12).
13. روي أنّه قال: ليأخذ منها حتى قرطها، يعني: في الخلع(13).
14. روي أنّه قال: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم جعل الخلع تطليقة بائنة(14).
15. روي عن عكرمة (ت 105 هـ) ـ أحسبه عن ابن عباس ـ قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، يعني: الخلع(8).
16. روي عن طاووس بن كيسان قال: لولا أنه علم لا يحل لي كتمانه ما حدثته أحدا، كان ابن عباس لا يرى الفداء طلاقا حتى يطلق، ثم يقول: ألا ترى أنه ذكر الطلاق من قبله، ثم ذكر الفداء، فلم يجعله طلاقا، ثم قال في الثانية: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا﴾، ولم يجعل الفداء بينهما طلاقا(15).
17. روي عن طاووس بن كيسان، أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأل ابن عباس عن امرأة طلقها زوجها تطليقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال ابن عباس أنّه قال: نعم؛ ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك، فليس الخلع بطلاق، ينكحها(16).
__________
(1) البيهقي: ٧/٣٦٧.
(2) ابن جرير: ٤/١٢٨.
(3) ابن جرير: ٤/١٣٣.
(4) ابن جرير: ٤/١٣٤.
(5) الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة: ١٢/٣١١.
(6) ابن جرير: ٤/١٤٠.
(7) ابن جرير: ٤/١٤٧.
(8) الشافعي: ٥/١١٤.
(9) البيهقي في الكبرى: ٧/٥١٢.
(10) الشافعي: ٢/٨١.
(11) الطبراني في الكبير: ١١/٢٢٦.
(12) أبو داوود: ٢١٩٥.
(13) ابن جرير: ٤/١٦٠.
(14) ابن عدي في الكامل في الضعفاء: ٥/٥٤١.
(15) عبد الرزاق: ١١٧٦٧.
(16) عبد الرزاق: ١١٧٧١.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله؛ على إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان(1).
2. روي عن نافع: أن مولاة صفية بنت أبي عبيد امرأة ابن عمر اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك ابن عمر(2).
__________
(1) الشافعي: ٥/٣٩.
(2) مالك: ١/٦٢٠.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما(1).
2. روي أنّه قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها، حتى يدع لها منه ما يعيشها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٤٦.
(2) عبد الرزاق: ١١٨٤٦.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته، فطلقها، حتى إذا ما شارفت انقضاء عدتها ارتجعها، ثم طلقها، ثم قال والله، لا آويك إلي، ولا تحلين أبدا، فأنزل الله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ؛ من كان منهم طلق، ومن لم يطلق(1).
2. روي أنّه قال: لا يصلح الخلع إلا أن يكون الفساد من قبل المرأة(2).
__________
(1) مالك: ٢/٥٨٨.
(2) ابن جرير: ٤/١٤١.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الناشز: إن المرأة ربما عصت زوجها ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر له قسما فعند ذلك تحل الفدية(1).
2. روي أنّه قال: إذا جاء الظلم من قبل المرأة حل له الفدية، وإذا جاء من قبل الرجل لم يحل له منها شيء(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٤٣.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يعني: تطليقتين بينهما مراجعة؛ فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان، فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ قال المعروف: أن يحسن صحبتها، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والتسريح: أن يدعها حتى تمضي عدتها(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ الصداق، ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ وحدود الله: أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها ـ والهجران: أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره، ولا يكلمها ـ، فإن أبت غلظ عليها القول لترجع إلى طاعته، فإن أبت فالضرب؛ ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٣٢.
(2) ابن جرير: ٤/١٤٢.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أن لا يطيعا الله(1).
2. روي أنّه قال: قلت لفاطمة بنت قيس: حدثيني عن طلاقك، قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن، فأجاز ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم(2).
3. روي عن محمد بن سالم، قال سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال إذا أظهرت بغضه، وقالت: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا(3).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٤٨.
(2) ابن ماجه: ٣/١٨٥.
(3) ابن جرير: ٤/١٤٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما طلق الأولى إن أحب أن يفعل، فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهاتان تطليقتان وقرآن، ثم قال الله للثالثة: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ في الثالثة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ الآيةلع، ولا يحل له إلا أن تقول المرأة: لا أبرّ قسمه، ولا أطيع أمره، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إلا أن يخافا ألا يطيعا الله(4).
5. روي أنّه قال: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة(5).
6. روي أنّه قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها(6).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن جرير: ٤/١٣١.
(3) ابن جرير: ٤/١٤٤.
(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٠.
(5) ابن جرير: ٤/١٧٦.
(6) ابن جرير: ٤/١٦٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فليطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، وإن شاء طلقها أخرى فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره(1).
2. روي أنّه قال: كان الرجل يأكل من مال امرأته نحلته الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه فيه جناحا، حتى أنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، فلا يصلح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهن إلا بحقها(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/١٩٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٠.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه(1).
2. روي أنّه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها(2).
__________
(1) النحاس في معاني القرآن: ١/٢٠٧.
(2) ابن جرير: ٤/١٥٤.
القاسم:
روي عن القاسم بن محمد (ت 106 هـ): ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٠/٣٦.
بكر:
روي عن عقبة بن أبي الصهباء قال سألت بكر بن عبد الله (ت 106 هـ) عن رجل تريد امرأته منه الخلع قال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت: يقول الله ـ تعالى ذكره ـ في كتابه: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾؟ قال هذه نسخت، قلت: فأنى حفظت؟ قال حفظت في سورة النساء، قول الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٦١.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ذلك في الخلع، إذا قالت: والله، لا أغتسل لك من جنابة(1).
2. روي عن حميد الطويل، عن رجاء بن حيوة، أنه سأله: كيف كان الحسن يقول في المختلعة؟ فقال: إنه كان يكره أن يأخذ منها فوق ما أعطاها، فقال رجاء: قال قبيصة بن ذؤيب: اقرأ الآية التي بعدها: ﴿فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢١.
(2) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٠/٥٥.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم برجل فقال: ما فعلت امرأتك؟ قال طلقتها يا رسول الله، قال من غير سوء؟ قال من غير سوء، قال ثمّ إن الرجل تزوج فمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: تزوجت؟ فقال: نعم، ثمّ مر به، فقال: ما فعلت امرأتك؟ قال طلقتها، قال من غير سوء؟ قال من غير سوء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزّ وجلّ يبغض ـ أو يلعن ـ كل ذواق من الرجال وكل ذواقة من النساء(1).
2. روي أنّه قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة ـ يعني على طهر، من غير جماع، بشهادة شاهدين ـ ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها، فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه، وهو خاطب من الخطاب، إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، وإن أراد أن يراجعها، أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقراؤها، فتكون عنده على التطليقة الماضية(2).
3. روي أنّه قال في الرجل إذا تزوج المرأة: أقرت بالميثاق الذي أخذ الله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(3).
4. روي أنّه قال: إن الله يقول: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والتسريح بالإحسان: التطليقة الثالثة(4).
5. روي أنّه قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمرا، مفسرة أو غير مفسرة، حل له أن يأخذ منها، وليس له عليها رجعة(5).
6. روي أنّه قال: لا ينبغي لمن أعطى الله شيئا أن يرجع فيه، وما لم يعط لله وفي الله فله أن يرجع فيه، نحلة كانت أو هبة، حيزت أولم تحز، ولا يرجع الرجل فيما يهب لا مرأته، ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيزت أولم تحز، أليس الله يقول: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(6).
7. يروى ـ كذبا وزورا ـ عن الإمام الباقر أنه سئل عن طلاق التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؟قال لي: (أخبرك بما صنعت أنا بامرأة كانت عندي، فأردت أن أطلقها، فتركتها حتى إذا طمثت ثم طهرت، طلقتها من غير جماع بشاهدين، ثم تركتها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها، راجعتها ودخلت بها ومسستها، وتركتها حتى طمثت وطهرت، ثم طلقتها من غير جماع بشاهدين، ثم تركتها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها، راجعتها ودخلت بها ومسستها، ثم تركتها حتى طمثت وطهرت، ثم طلقتها بشهود من غير جماع، وإنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي فيها حاجة(7).
__________
(1) الكافي: 6/54/1.
(2) التهذيب: 8/25.
(3) تفسير العيّاشي: 1/115.
(4) تفسير العيّاشي: 1/116.
(5) من لا يحضره الفقيه: 3/339.
(6) تفسير العيّاشي: 1/117.
(7) تفسير العيّاشي: 1/118.
ميمون:
روي عن ميمون بن مهران (ت 117 هـ) أنّه قال: من خالع امرأته، فأخذ منها شيئا أعطاها؛ فلا أراه سرحها بإحسان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ قال هذا لهما، ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ قال هذا لولاة الأمر: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ قال إذا كان النشوز والظلم من قبل المرأة فقد أحل الله له منها الفدية، ولا يجوز خلع إلا عند سلطان، فأما إذا كانت راضية مغتبطة بجناحه، مطيعة لأمره؛ فلا يحل له أن يأخذ مما آتاها شيئا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُم﴾، يعني: الولاة(1).
3. روي أنّه قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها فقد بانت منه، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(2).
4. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ قال لكل مرة قرء، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، فجعل الله حد الطلاق ثلاثة، وجعله أحق برجعتها ما دامت في عدتها، ما لم يطلق ثلاثا(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢١.
(2) ابن جرير: ٤/١٦٦.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ معناه استقينا.. ومثله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ معناه أيقنتم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلم 100.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن يؤتى ذلك منها، فأما أن يكون ذلك منه، يضارها حتى تختلع؛ فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت، فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته؛ فقد حل له خلعها(1).
2. روي أنّه قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما(2).
3. روي عن عقيل: سألت الزهري: هل يصلح للرجل أن يقبل من امرأته من الفدية في الخلع أكثر مما أعطاها؟ أو ترجع إليه إن رضيا من غير أن يرد إليها شيئا مما كانت اختلعت به منه؟ قال الزهري: لم أسمع في هذا سنة، ولكن نرى ألا يأخذ إلا ما أعطاها؛ فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾(3).
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٩٣.
(2) ابن جرير: ٤/١٤٨.
(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢١.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الإحسان: أن يوفيها حقها؛ فلا يؤذيها، ولا يشتمها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٣٣.
يزيد:
روي عن يزيد بن أبي حبيب (ت 128 هـ) أنّه قال: التسريح في كتاب الله: الطلاق(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٤.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إذا خافت المرأة ألا تؤدي حق زوجها، وخاف الرجل ألا يؤدي حقها؛ فلا جناح في الفدية(1).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن: ١/١٢٥ ـ: ١٢٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة فلا يحل له أن يضربها حتى تفتدي منه، فإن أخذ منها شيئا على ذلك فما أخذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُم﴾ لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٤٢.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤١٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن أبا أيوب يريد أن يطلق امرأته فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن طلاق أم أيوب لحوب، أي: إثم(1).
2. روي أنّه قال: (هو قول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ التطليقة الثالثة تسريح بإحسان(2).
3. روي أنّه قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز أو لم يحز، أليس الله تعالى يقول: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وقال: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾؟ وهذا يدخل في الصداق والهبة(3).
4. روي أنّه سئل عن المختلعة، كيف يكون خلعها؟ فقال: لا يحل خلعها حتى تقول: والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولأوطئن فراشك، ولأدخلن عليك بغير إذنك فإذا هي قالت ذلك حل خلعها، وأحل له ما أخذ منها من مهرها، وهو قول الله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ وإذا فعل ذلك فقد بانت منه بتطليقة، وهي أملك بنفسها، إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، فإن نكحته فهي عنده على ثنتين(4).
__________
(1) الكافي: 6/55/5.
(2) التهذيب: 8/25.
(3) التهذيب: 9/152.
(4) تفسير العيّاشي: 1/117.
الأعمش:
روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) أنّه قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت الإمام علي يقول: إذا طلق الرجل امرأته في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة، والناس عنقا واحدا إذ ذاك يأتونه ويسمعون منه قال فأتيته، فقرعت عليه الباب، فخرج إلي شيخ، فقلت له: كيف سمعت الإمام علي يقول فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال سمعت الإمام علي يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة قال فقلت له: أنى سمعت هذا من علي؟ قال أخرج إليك كتابا، فأخرج، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم قال هذا ما سمعت من الإمام علي يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قلت: ويحك، هذا غير الذي تقول قال الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك(1).
__________
(1) البيهقي: ٧/٣٣٩ ـ: ٣٤٠.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾: تلك طاعته يبينها لقوم يعلمون(1).
2. روي أنّه قال: كان الرجل أول الإسلام إذا طلق امرأته ثلاثا، وهي حبلى؛ فهو أحق برجعتها، ما لم تضع ولدها، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ الآية، وطلق إسماعيل بن عبد الله الغفاري امرأته قتيلة وهي حبلى ـ وقال مقاتل: هو مالك بن الأشدق، رجل من أهل الطائف ـ قالوا جميعا: ولم يشعر الرجل بذلك، ولم تخبره بذلك، فلما علم بحبلها راجعها، وردها إلى بيته، فولدت وماتت، ومات ولدها، وفيها أنزل الله تعالى هذه الآية(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٣.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/١٦٩.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني: بإحسان، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يعني: التطليقة الثالثة في غير ضرار، كما أمر الله سبحانه في وفاء المهر: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُم﴾ إذا أردتم طلاقها: ﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته أخرجها من بيته، فلا يعطيها شيئا من المهر، ثم استثنى ورخص، فقال سبحانه: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، يعني: أمر الله تعالى فيما أمرهما، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها فتعصي الله فيما أمرها زوجها، أو يخاف الزوج إن لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُم﴾ يعني: علمتم: ﴿أَلَّا يُقِيمَا﴾ يعني: الحاكم: ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني: أمر الله في أنفسهما إن نشزت عليه(1).
4. روي أنّه قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني: أمر الله فيهما، ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾(1).
5. روي أنّه قال: ﴿إِنْ ظَنَّا﴾ يعني: إن حسبا: ﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أمر الله فيما أمرهما(2).
6. روي أنّه قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني: أمر الله في الطلاق، يعني: ما ذكر من أحكام الزوج والمرأة في الطلاق، وفي المراجعة، ﴿يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(2).
7. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، نزلت في ثابت بن ياسر الأنصاري في الطعام والكسوة وغير ذلك، وذلك أنه طلق امرأته، فلما أرادت أن تبين منه راجعها، فما زال يضارها بالطلاق ويراجعها، يريد بذلك أن يمنعها من الزواج؛ لتفتدي منه، فذلك قوله سبحانه: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾، وكان ذلك عدوانا(2).
8. روي أنّه قال: ثم رجع إلى الآية الأولى في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ بعد التطليقتين تطليقة أخرى، سواء أكان بها حبل أم لا: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فيجامعها، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها، في قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾، ونزلت: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٥.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس، وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تردين عليه حديقته؟)، قالت: (نعم)، فدعاه، فذكر له ذلك، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: نعم)، قال ثابت: قد فعلت، فنزلت: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٣٩ ـ: ١٤٠.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) عن بعض الفقهاء قال كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ما شاء، لا يكون عليها عدة، فتزوج من مكانها إن شاءت، فجاء رجل من أشجع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه طلق امرأته، وأنا أخشى أن تزوج، فيكون الولد لغيري، فأنزل الله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، فنسخت هذه كل طلاق في القرآن(1).
__________
(1) عبد الرزاق: ١١٠٩٢.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يعني: أمر الله في أنفسهما؛ وذلك أنه يخاف من المرأة في نفسها إذا كانت مبغضة لزوجها فتعصي الله فيه، ويخاف من الزوج إن لم يطلقها أن يتعدى عليها(1).
2. روي أنّه قال: بلغنا: أن أهل الجاهلية لم يكن لهم حد في الطلاق، كان يطلق أحدهم العشر وأقل من ذلك وأكثر، فجعل الله حد الطلاق ثلاثا، ثم قال ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وبلغنا: أن رجلا قال يا رسول الله، قول الله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، فأين الثالثة؟ قال: قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(2).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٣١.
(2) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٣٠.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فإن سرح فهو للثلاث التطليقات تمام، وإن أمسك فالثالثة الباقية من الطلاق كان الإمساك والمقام.. والطلاق ثلاث تطليقات كما قال الله تبارك وتعالى، والثلاث التطليقات لا تكون إلا واحدة بعد واحدة، وثالثة بعد ثانية؛ وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، يريد عز وجل بقوله ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾: الثالثة، يقول: إذا طلقها تطليقين، ثم ارتجعها فليس إلا الامساك بمعروف أبدا، أو التسريح بإحسان، لا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجا غيره(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/107.
الهادي إلى الحق:
سئل الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عن قول الله سبحانه: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: 228] فقيل: ما ذلك الذي بعولتهن أحق بردهن فيه؟، فقال: (هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار طلق زوجته، ثم أراد مراجعتها فأبى عليه أولياؤها، فأنزل الله هذه الآية يخبر أنه أحق بها من غيره.. وأما قوله تعالى: ﴿فِي ذَلِكَ﴾ فقد يحتمل أن يكون يريد العدة وأيامها، وما دامت في أقرائها، ويحتمل أن يكون معنى قوله: في ﴿ذَلِكَ﴾ أي: بذلك، يريد الأمر الذي يَمَتُّ به زوجها إليها من النكاح والحرمة والمصاحبة، والخلة والولد والرغبة، فيقول: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ لذلك الأمر الذي كان أولا والسبب الذي كان بينهما من المداناة والإفضاء، فليس لكم أن تمنوعهما من التراجع إن أرادا الإصلاح والإتفاق والائتلاف والاهتداء(1).
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/154.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين.
2. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أن له الرجعة بعد طلاقين، بذكره مرتين، وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة، وهو على مالك؛ لأنه يقول: ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع، والتسريح بإحسان: هو التطليقة الثالثة، كذلك روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عن (التسريح بإحسان)، فقال: (هو التطليقة الثالثة).
3. سؤال وإشكال: أيش الحكمة في ذكر (المعروف) في الإمساك، و(الإحسان) في التسريح، والجواب: في (التسريح) قطع الحقوق التي أوجبها النكاح، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا، والإحسان أبدا إنما يكون عند ابتداء الفعل، لا عند المكافأة، وأما (المعروف) في الإمساك فالنكاح أوجب ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قيل: (الميثاق الغليظ): الحقوق التي أوجب النكاح، وهذا وجه الحكمة، و(المعروف) ما عرفا في النكاح، و(الإحسان) هو ما يبتدئ مما لم يعرفا.
4. قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. ظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعا، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج يحفظ عليهما حدود الصحبة، فيشبه أن يكون في الآية الإضمار (فهما الحكمين)، فيكون كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ فيكونان هما اللذان يحفظان عليها الحد والمحدود.
ب. ويحتمل: أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ للحكام؛ لأنهم هم الذين يتولون النظر في أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود الله.
5. القول عندنا في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ إذا كان النشوز واقعا من قبل الزوج فإنه لا يحل له أخذ شيء على الخلع استدلالا بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20]، وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر، ويكره الزيادة، وتجوز، أما قدر المهر فإنه لا بأس إذا كان من قبلها استدلالا بقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ذكر رفع الحرج عن الذي فدى فيما عنه نهى في غير هذا وهو المؤتمن؛ لذلك قلنا: إنه يجوز إذا كان النشوز من قبلها قدر المهر، وأما الزيادة فإنها تكره استدلالا بما روى في الخبر: أن امرأة أتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فذكرت بغض زوجها، فقال: (أتردين عليه حديقته؟) فقالت: نعم، وزيادة، فقال: (أما الزيادة فلا)، ففيه الدلالة أن النشوز إذا كان من قبلها فإنه يجوز قدر المهر، وقال ابن داوود: خالف الشافعي ظاهر الكتاب فيما جعل له أخذ ما فدى والزيادة، والكتاب رفع الحرج عن أخذ ما فدى، لم يجعل له غيره بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، وقال ابن شريح: ما ذلك الأخذ في الطلاق، إنما ذلك في الطلاق كرها؛ لأنه ليس في الآية ذكر الطلاق، واستدل بقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذي ذكره، ثم كان له أخذ ما تبذل في غير الطلاق، فعلى ذلك في الطلاق وفى الطلاق] أحق.
6. الأصل عندنا(2): جواز ما بذلت أخذه مما احتيج به الرجل إن كان له ذلك في غير الطلاق، وهو في الطلاق أجوزه؛ لأنها تنتفع، غير أنه يكره له الفضل لما ذكرنا من الآية والخبر، ثم يجوز هو لأنه تبادل، فكان كالعقود التي تكره لربح ما لم يضمن على الجواز فكذا هذا، والأصل: بأن الطلاق بالبذل بينها، وهو لو لم يملك البينونة مطلقا لم يملكه بما شرط؛ فثبت أنه يملك، وأصله: أنه بالطلاق، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد فانتفعت بإزاء ما بذلت؛ لذلك سلم للزوج ما أخذ، ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح، فيصير أخذ ما يأخذ بالذي أعطى، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل، وذلك وصف الربا.
7. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾:
أ. قيل: ﴿يَخَافَا﴾ علما، يعنى الرجل والمرأة.
ب. وقيل: علم الحكمان ألا يقيما حدود الله، وعلى ذلك قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ خِفْتُمْ﴾ يعنى علمتم.
ج. وقيل: الخوف هو الخوف، فكأنه أقرب؛ لأن العلم يكون فيما مضى من الحال أنهما أقاما حدودا أو لم يقيما، وأما الخوف في حادث الوقت أمكن؛ لأنه لا يعلم باليقين؛ لذلك كان ما ذكرنا، وهو كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأنعام: 15].
8. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾:
أ. قال بعضهم: أراد بقوله: (عليهما)، (عليه) خاصة، وهذا جائز في اللغة إضافة الشيء إلى الاثنين، والمراد واحد منهما، كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من أحدهما، ومثله كثير.
ب. وقال آخرون: أريدا جميعا: المرأة بالفداء، والزوج بالأخذ؛ لأن الزوج نهى عن أخذ شيء مما آتاها بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ ثم أباح ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط.
ج. وقيل: أراد بذلك الزوج خاصة، وهو ما ذكرنا.
9. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ قيل: إذا لم يفهم بحد من حدود الله تعالى ما يفهم من حد الخلق، كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله تعالى: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ و﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ما فهم من استواء الخلق ومجيئهم؟ والاستواء والمجيء إلى احتمال معان أن ينفى عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود التي في الشاهد، فإذا لم يفهم من هذا ذلك لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا، وقد قال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11].
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾:
أ. قيل: أحكام الله وسننه.
ب. وقيل: أوامره ونواهيه.
ج. وقيل: آدابه وهو واحد.
11. قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ مستحلّا بها، فيكفر بتعديه ذلك، فهو ظالم ـ ظلم كفر.
ب. ويحتمل: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾ تجاوز أمر الله وما نهاه عنه غير مستحل لها، فهو ظالم نفسه، غير كافر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/165.
(2) يقصد الحنفية.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فيه بيان لعدة الطلاق وتفسيره بالثلاث وأنه يتملك الرجعة بالاثنتين ولا يملكها ب الثالثة وذلك بيان لسنة الطلاق وأن يوقع في كل قرء طلقة، وروينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه جاءه رجل فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة قال ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والإحسان هو تأدية حقها وكف الأذى عنها.
2. ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ أي برجعهن، وهذا في الطلاق الرجعي دون البائن إن أرادا إصلاح ما بينهما من الطلاق ثم قال ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي من جنس المحبة والعشرة بالجميل والمعروف على أزواجهن ﴿مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لأزواجهن وترك الأزواج المضارة لهن؛ ثم قال ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أي منزلة فيما خصهم الله عز وجل به من الجهاد والميراث.
3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ والخوف هنا بمعنى الظن كما قال الشاعر: (وما خفت يا سلاّم أنك عاتبي) يعني ما ظننت.. والذي يخافا أن لا يقيما حدود الله هو أن يظهر من المرأة النشوز وسوء الخلق وأن لا تطيع له أمراً ولا تبر له يميناً وتبدي الكراهة له من نفسها ويضارها الزوج على فعلها فلا يقيم كل واحد ما أوجب الله عز وجل له على صاحبه.
4. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ نفسها من الصداق وحده من غير زيادة.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/112.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث، وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة، وهو قول عروة وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ناسيا، إن راجع امرأته قبيل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلّين مني، قالت له كيف؟ أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فشكت زوجها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ الآية.
ب. الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة، وهو قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومجاهد.
2. في قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ تأويلان:
أ. الأول: هذا في الطلقة الثالثة، روى سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهذا قول عطاء، ومجاهد.
ب. الثاني: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ الرجعة بعد الثانية ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والإمساك عن رجعتها حتى تنقضي العدة، وهو قول السدي، والضحاك.
3. الإحسان هو تأدية حقها، والكف عن أذاها، ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ يعني من الصداق ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ قرأ حمزة بضم الياء من يخافا، وقرأ الباقون بفتحها، والخوف هاهنا بمعنى الظن، ومنه قول الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله...وما خفت بالإسلام أنك عائبي
يعني وما ظننت.
4. في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أن يظهر من المرأة النّشوز وسوء الخلق، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن لا تطيع له أمرا، ولا تبرّ له قسما، وهو قول الحسن، والشعبي.
ج. الثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة، وهو قول عطاء.
د. الرابع: أن يكره كل واحد منهما صاحبه، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه، وهو قول طاووس، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، روى ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات)، يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره.
5. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة، وهو قول عليّ، وعطاء، والزهري، وابن المسيب، والشعبي، والحكم، والحسن.
ب. الثاني: يجوز أن تخالع زوجها بالصداق وبأكثر منه، وهذا قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والشافعي، روى عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقلّ عليّ الخبز إذا حضر، ويحرمني إذا غاب، قالت: وكانت مني زلّة يوما فقلت: أنخلع منك بكل شيء أملكه، قال نعم، قالت ففعلت، قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس.
6. اختلف في نسخ الآية الكريمة:
أ. حكي عن بكر بن عبد الله أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20]
ب. ذهب الجمهور إلى أن حكمها ثابت في جواز الخلع، وقد روى أيوب، عن كثير مولى سمرة أن عمر بن الخطاب أتي بامرأة ناشزة، فأمر بها إلى بيت كثير، فحبسها ثلاثا، ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/294.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة، وأبو جعفر (إلا أن يخافا) بضم الياء، والباقون بفتحها.
2. في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ما قال ابن عباس، ومجاهد: إن معناه البيان عن تفصيل الطلاق في السنة، وهو أنه إذا أراد طلاقها فينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع، تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تخرج من العدة، أو حتى تحيض وتطهر، ثم يطلقها ثانية.
ب. الثاني:ما قاله عروة، وقتادة: إن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة، مما لا يوجبها.
3. في الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة البائنة، وقال الزجاج: في الآية حذف، لأن التقدير: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان، بدلالة قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
4. المرتان معناه: دفعتان، تقول مرَّ يمر مراً واستمر استمراراً، وأمرّه إمراراً وتمرّر تمرراً، ومرّره تمريراً، والمر: خلاف الحلو، ومنه المرارة، لأن فيها المرة، والمرة مزاج من أمزجة البدن، والمرة شدة الفتل، لاستمراره على إحكام، والمرير: الحبل المفتول، وفي التنزيل ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ أي ذو قوة وشدة، والمرّ الذي يعمل به في الطين وأصل الباب المرور: خلاف الوقوف.
5. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ رفع، ومعناه: فالواجب إمساك عليه، وكان يجوز النصب على فليمسك إمساكا، والإمساك خلاف الإطلاق، تقول أمسك إمساكاً، وتمسك تمسكاً، وتماسك تماسكاً، وامتسك امتساكاً، ومسك تمسيكاً، واستمسك استمساكاً، وفلان ممِسك: أي بخيل، وما بفلان مُسكة، ولا تمساك: إذا لم يكن فيه خير، لأنه منحل عن ضبط شيء من أموره، والمسك: الإهاب، لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه، والمسك السواء في الشرع لا على وجه الإضرار بهن.
6. في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها الطلقة الثالثة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن رجلا سأله، فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه: أو تسريح بإحسان.
ب. وقال السدي، والضحاك: هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.
7. التسريح مأخوذ من السرح، وهو الانطلاق، تقول: سرح تسريحاً، وسرّح الماشية في الرعي سرحاً: إذا أطلقها ترعى: والسرحان: الذئب، لاتباعه السرح، والسرحة: الشجرة المرتفعة، لانطلاقها في جهة الطول، والمسرّح: المشط، لإطلاق الشعر به، وسرحت الماشية: إذا انطلقت في المرعى، وسرحت العبد إذا أعتقته، والسرح: الجراد، لانطلاقه في البلاد، والسريحة: القطعة من القد يشد بها نقال الإبل، وكل شيء قددته مستطيلا، فهو سريح.
8. روي أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس، وزوجته، وردت عليه حديقته، وطلقها بإذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رواه ابن جريج.
9. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ معناه: إلا أن يظنا وقال الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب بقوله...وما خفت يا سلّام أنك عائبي
يعني ما ظننت وأنشد الفراء:
إذا مت فادفني الى جنب كرمة...تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فانني...أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
ومن ضم الياء، فتقديره: إلا أن يخافا على أن لا يقيما حدود الله، وقال أبو عبيدة ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ معناه: يوقنا، ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ معناه فان أيقنتم وقال أبو علي الفارسي: خاف فعل يتعدى الى مفعول واحد، وذلك المفعول تارة يكون (أن)وصلتها، وأخرى غيرها، فأما تعديه الى غير (أن) فنحو قوله تعالى: ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾، وتعديته الى (أن) كقوله تعالى: ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ فان عديته الى مفعول بأن ضعفت العين، أو اجتلبت حرف الجر كقولك: خوّفت ضعف الناس قولهم، وحرف الجر كقوله: (لو خافك الله عليه حرّمه)، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ فيخوف قد حذف معه مفعول يقتضيه تقديره يخوف المؤمنين بأوليائه، فحذف المفعول، والجار، فوصل الفعل الى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا يخوف أولياءه على حدّ قولك خوّفت اللصّ، وإنما يخوف غيرهم مما لا استنصار لديهم، ومثله فإذا خفت عليه بمنزلة المحذوف من قوله: (أولياءه) فإذا كان تعدي هذا الفعل على ما وصفنا، فقول حمزة (إلا أن يخافا)، مستقيم لأنه لما بني الفعل للمفعول به أسند الفعل إليه، فلم يبق شيء يتعدى إليه.
10. (أن) من قوله تعالى: ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، فان الفعل يتعدى إليه بالجارّ، كما تعدى بالجارّ في قوله: (لو خافك الله عليه حرمه)، وموضع أن في الآية جر بالجارّ المقدر، على قول الخليل، والكسائي، ونصب، في قول سيبويه، وأصحابه، لأنه لما حذف الجارّ، وصل الفعل الى المفعول الثاني، مثل استغفر الله ذنباً، وامرأتك الخير، فقوله مستقيم على ما رأيت.
11. سؤال وإشكال: لو كان يخافا كما قد أخبره، لكان ينبغي أن يكون فان خيفا! والجواب: لا يلزمه هذا السؤال لأمرين:
أ. أحدهما: أن يكون انصرف من الغيبة الى الخطاب، كما قال ﴿الْحَمْدُ لله﴾ ثم قال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وقال: ﴿ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ ونظائر ذلك كثيرة.
ب. والآخر: أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ مصروفاً الى الولاة، والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة في من جعله انصرافاً من الغيبة الى الخطاب، لأن ضمير الاثنين في (يخافا) ليس يراد به اثنان مخصوصان، وإنما يراد كل من كان هذا شأنه، فهذا حكمه.
12. من قرأ بالفتح، المعنى أنه إذا خاف: من كل واحد من الزوج والمرأة ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ حل الافتداء، ولا يحتاج في قولهم الى تقدير الجار، لأن الفعل يقتضي مفعولا يتعدى إليه، كما اقتضى في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ ولا بدّ من تقدير الجار في قراءة من ضم الياء، لأن الفعل قد استند الى المفعول، فلا يتعدى الى المفعول الآخر إلا بالجار، قال أبو علي: فأما ما قاله الفراء في قول حمزة ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ من أنه اعتبر قراءة عبد الله (إلا أن يخافوا) فلم ينصبه، لأن الخوف في قول عبد الله واقع على (أن)، وفي قراءة حمزة على الرجل، والمرأة، وحال الخوف التي معه.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾:
أ. قال ابن عباس وعروة والضحاك: هو نشوز المرأة بغضا للزوج.
ب. وقال الشعبي: هو نشوزها ونشوزه.
ج. والذي روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه إذا خاف أن تعصي الله فيه بارتكاب محضور، وإخلال بواجب، وألا تطيعه فيما يجب عليها، فحينئذ يحل له أن يخلعها، ومثله روي عن الحسن.
د. وقيل: إن الخوف من الإخلال بالحقوق التي تجب لكل واحد منهما على صاحبه، وحسن العشرة وجميل الصحبة.
14. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، وإنما الإباحة لأخذ الفدية؟ والجواب: لأنه لو خص بالذكر لأوهم أنها عاصية، وإن كانت الفدية له جائزة، فبين الاذن لهما لئلا يوهم أنه كالزنا المحرم على الآخذ، والمعطي، وذكر الفراء وجهين:
أ. أحدهما: أنّه قال هو كقوله ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ وإنما هو من الملح دون العذب، فجاز الاتساع، وهذا هو الذي يليق بمذهبنا(2)، لأن الذي يبيح الخلع ـ عندنا ـ هو ما لولاه، لكانت المرأة به عاصية.
ب. الثاني:على قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن أظهرت الصدقة، فحسن وإن أسررت فحسن، وإنما على مزاوجة الكلام كقوله ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾
15. اختلف في مقدار الفدية:
أ. قيل: إن الفدية الجائزة في الخلع ـ عندنا ـ إن كان البغض منها، وحدها وخاف منها العصيان، جاز أن يأخذ المهر فما زاد عليه، وإن كان منهما، فيكون دون المهر، ورووا عن علي عليه السلام فقط، ولم يفصلوا، وبه قال الربيع، وعطا، والزهري، والشعبي.
ب. وقال ابن عباس، وابن عمر، ورحا بن حوة، وابراهيم، ومجاهد: إنه يجوز الزيادة على المهر، والنقصان، ولم يفصلوا.
16. الآية غير منسوخة عند أكثر المفسرين، ابن عباس والحسن، وجميع أهل العلم إلا بكر بن عبد الله، فإنه زعم أنها منسوخة بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ الآية.
17. الخلع بالفدية على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن تكون المرأة عجوزاً وذميمة، فيضار بها ليفتدي بها، فهذا لا يحل له الفدى، لقوله ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ الآية.
ب. الثاني:أن يرى الرجل امرأته على فاحشة، فيضاربها لتفتدي بخلعها، فهذا يجوز، وهو معنى قوله ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والوجه.
ج. الثالث: ﴿أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لسوء خلق أو لقلة نفقة من غير ظلم، أو نحو ذلك فيجوز الفدية لهما جميعاً على ما فصلناه.
18. استدل أصحابنا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لا يقع، لأنه قال: ﴿مَرَّتَانِ﴾ ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنها قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ ومن طلق بلفظ واحد لا يكون أتى بالمرتين، ولا بالثالثة كما أنه لو أوجب في اللعان أربع شهادات: ولو أنى بلفظ واحد لما وقع موقعه، وكما لو رمى تسع حصيات في الجمار دفعة واحدة، لم يكن مجزياً له، فكذلك الطلاق، ومتى ادعوا، في ذلك خبراً، فعليهم أن يذكروه ليتكلم عليه، فأما مسائل الخلع، وفروعه، وشروطه فقد ذكرناها في النهاية، والمبسوط، فلا معنى للتطويل بذكرها هاهنا لأن المطلوب هاهنا معاني القرآن، وتأويله دون مسائل الفقه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/243.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المرة والمرتان: كالكرة والكرتين، وأصل المرة: المرور كالنفور خلاف الوقوف.
ب. الإمساك: الحفظ وهو خلاف الإطلاق.
ج. التسريح: الإطلاق، وهو من السَّرْحِ الذي هو الانطلاق.
د. الحد أصله: المنع، ومنه يسمى البواب حدادًا، وحدود الله: أوامره ونواهيه التي يمنع بها من يجاوزها، ومنه الحد؛ لأنه يمنع المعاصي.
هـ. الفدية: جعل الشيء بدلاً عنه، يقال: فديت هذا بهذا أي أعطيته بدلاً عنه.
و. الاعتداء: تجاوز الحد، وأصله من العدو، ويقال: عدوت عدوًا، واعتديت اعتداءً.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها، فشكت زوجها أنه يطلقها، ويسترجعها ويضارها، وكان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجع قبل انقضاء العدة، وإن طلقها ألف مرة، ولم يكن للطلاق حد، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فنزلت: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فجعل حد الطلاق ثلاثًا، فأما الثالث فقيل: هو في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، وقيل: في قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾،
ب. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ فنزلت في ثابت بن قيس بن شماس وزوجته جميلة ابنة سهل، وكان يحبها وتبغضه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿أتردين عليه حديقته﴾؟ فقالت: نعم وأزيده، فقال: ﴿لا، حديقته فقط﴾، فردت عليه حديقته، وطلقها بإذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان أول خلع في الإسلام.
3. ثم بَيَّنَ تعالى عدد الطلاق، فقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾:
أ. قيل: معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجب، عن قتادة، قال الزجاج: وفيه محذوف، كأنه قال: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان.
ب. وقيل: معناه عن تفصيل طلاق السنة، عن ابن عباس ومجاهد، ولفظه الخبر، ومعناه الأمر أي طلقوا مرتين يعني دفعتين.
4. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي فعليه إمساك بمعروف إذا راجعها بعد الثانية، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
أ. قيل: بالتطليقة الثالثة، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سئل لما نزل قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فأين الثالثة؟، فقال: ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
ب. وقيل: هو ترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، عن الضحاك والسدي.
5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ خطاب للأزواج أن يأخذوا في حال الطلاق والاستبدال ﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ أي مما أعطيتموهن من المهر وغيره ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ أي يظنان، وعلى قراءة حمزة يعلم من حالها.
6. ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ أوامره ونواهيه، واختلفوا:
أ. قيل: هي نشوز المرأة بغضًا للزوج، عن ابن عباس وعروة والضحاك.
ب. وقيل: نشوزها ونشوزه، عن الشعبي.
ج. وقيل: الحدود التي بالخوف من تضييعها تحل الفدية التي تجب لكل واحد من الزوجين على صاحبه من جميل الصحبة وحسن العشرة.
د. وقيل: ما أمر به كل واحد من طاعة المرأة لزوجها، وقيام الزوج عليها.
7. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا حرج ولا إثم، وهذا يفيد الإباحة، وفي الإضافة إليهما قولان:
أ. قيل: أراد به الزوج أنه يحل أخذ الفدية، فذكر المرأة أيضًا لاقترانهما، كقوله تعالى: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾، وكقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ﴾ عن الفراء.
ب. وقيل: لو خص الزوج لأوهم أنها عاصية وإن كان له الفدية جائزة، ففي الإذن لهما في ذلك لزوال الإيهام، عن علي بن عيسى.
8. ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أي بذلت من المال:
أ. قيل: المهر فقط، عن علي والحسن وعطاء والربيع والزهري وأبي حذيفة والشعبي.
ب. وقيل: المهر وما زاد، عن ابن عباس وابن عمر وإبراهيم ومجاهد.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾:
أ. قيل: أوامره ونواهيه، وما نصب من الآيات في النكاح والطلاق والرجعة والعدة.
ب. وقيل: في الخلع والطلاق والعدة: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ فلا تجاوزوها بالمخالفة.
10. ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله﴾ أي يتجاوز بأن يخالف ما حد له، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وهو اسم يشتمل على الوعيد فذكر ذلك ليعلم أن التعبد دخل في هذه الأشياء.
11. أجمع الفقهاء ألا نسخ في هذه الآية، عن ابن عباس والحسن وغيرهما، وعن بكر بن عبد الله أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ وليس بصحيح.
12. سؤال وإشكال: الخوف شرط في ماذا؟ والجواب: في إباحة الخلع لا في إثبات إحكامه.
13. اختلفوا فقيل: الخلع لا يجوز من غير قاضٍ، والفقهاء على جوازه بمنزلة سائر المعاوضات، واختلفوا فقيل: الخلع طلاق، وقال الشافعي في القديم: إنه فسخ، وقال في الجديد: طلاق، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأكثر الفقهاء، ورواه إسماعيل بن إسحاق عن عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وجماعة، ولا خلاف أن لا رجعة في الخلع، وهل يلحقها الطلاق الصريح؟ قال أبو حنيفة: نعم، وقال الشافعي: لا، وإذا خالعها على عوض بشرط أن له الرجعة صح الخلع وبطل الشرط عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: تثبت الرجعة ويبطل المال.
14. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن تفريق الطلاق سنة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه خلاف ما يقوله الشافعي: لا سنة ولا بدعة في الجمع والتفريق؛ لأنه إما أن يكون أمرًا أو خبرًا، وأيهما كان ففيه بيان أن الطلاق ينبغي أن يكون في دفعتين.
ب. أن الرجعة مقصورة على العدة من التطليقتين دون الثلاث.
ج. إباحة الخلع عند الخوف، ولأن الفدية لا تكون إلا في الخوف، فصارت الآية أصلاً في الخلع، وصفته وجوازه وشرطه، واختلفوا فقيل: يحل الخلع عند نشوز المرأة، وقيل: عند نشوزهما، وهو أليق بالظاهر.
د. كراهية الخلع مع سلامة الحال، وقيل: الخلع ثلاثة:
• الأول: أن يضارها كارها لدمامتها، أو لسنها لتفتدي، فهذا لا يحل له، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾.
• الثاني: أن يراها على فاحشة فيضارها لتفتدي، فهذا يحل؛ لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾.
• الثالث: أن يخافا ألا يقيما حدود الله لسوء خلق، أو قلة نفقة، فيجوز الفدية لهما جميعا لهذه الآية.
15. قرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب: ﴿يَخَافَا﴾ بضم الياء، والباقون بفتحها، فوجه الأول أي يعلم ذلك منهما اعتبارًا بقراءة ابن مسعود ﴿وإن لا تخافوا﴾، وبقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، ولم يقل: خافا، فجعل الخوف لغيرهما، ووجه القراءة الثانية: أنه أضاف الخوف إليهما فالمرأة تخاف الفتنة على نفسها من عصيان الله في أمر زوجها، وتخاف الزوج أنها إن لم تطعه يعتدي عليها.
16. ﴿إمساك﴾ رفع لأنه خبر ابتداء محذوف، تقديره فعليه إمساك، ويجوز في العربية النصب على تقدير فليمسك إمساكًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/914.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المرة والمرتان: كالكرة والكرتين، وأصل المرة: المرور خلاف الوقوف، والمرة: شدة الفتل لاستمراره على الإحكام.
ب. الإمساك خلاف الإطلاق، وما بفلان مسكة وتماسك: إذا لم يكن فيه خير، والممسك: البخيل، والمسك: الإهاب، لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه، والمسك: السوار لاستمساكه في اليد.
ج. التسريح: مأخوذ من السرح وهو الإطلاق، وسرح الماشية في المرعى سرحا: إذا أطلقها ترعى، وسرحت الماشية: انطلقت في المرعى، والسرحان: الذئب لاتباعه السرح، والسرحة: الشجرة المرتفعة لانطلاقها في جهة الطول، والمسرح: المشط لإطلاق الشعر به، والسرياح: الجراد لانطلاقه في البلاد.
د. أن يخافا معناه: أن يظنا. قال الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله... وما خفت يا سلام أنك عائبي
يعني ما ظننت. وأنشد الفراء:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة. فإنني... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أن امرأة أتتها، فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها، يضارها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته، ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، لم يكن للطلاق عندهم حد، فذكرت ذلك لرسول الله، فنزلت الطلاق مرتان، فجعل حد الطلاق ثلاثا، والطلاق الثالث قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وروي أيضا أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان).
ب. قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ أنزل في ثابت بن قيس بن شماس، وزوجته جميلة بنت عبد الله بن أبي، وكان يحبها وتبغضه، فقال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وأزيده، قال: لا حديقته فقط، فردت عليه حديقته، فقال: يا ثابت خذ منها ما أعطيتها، وخل سبيلها، ففعل، فكان أول خلع في الاسلام.
3. ثم بين سبحانه عدد الطلاق، فقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أي: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان، وفي معناه قولان:
أ. أحدهما: إنه بيان تفصيل طلاق السنة، وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر، لم يقربها فيه بجماع تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تخرج من العدة، أو حتى تحيض وتطهر، ثم يطلقها ثانية، عن ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: إن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب البينونة مما لا يوجبها.
4. في الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة البائنة، ولفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر أي: طلقوا دفعتين.
5. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ تقديره: فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك بمعروف أي: على وجه جميل سائغ في الشريعة، لا على وجه الإضرار بهن.
6. في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إنه الطلقة الثالثة.
ب. الثاني: إنه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، عن السدي والضحاك، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله.
7. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ خطاب الأزواج ﴿أَنْ تَأْخُذُوا﴾ في حال الطلاق، واستبدال ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي: أعطيتموهن من المهر ﴿شَيْئًا﴾، ثم استثنى الخلع فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ معناه: إلا أن يغلب على ظنهما أن لا يقيما حدود الله، لما بينهما من أسباب التباعد والتباغض، واختلفوا:
أ. قال ابن عباس: هو أن يظهر من المرأة النشوز وسوء الخلق، بغضا للزوج.
ب. قال أبو عبد الله: إذ! قالت المرأة له: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولأوطئن فراشك، ولأدخلن عليك بغير إذنك، إذا قالت له هذا، حل له أن يخلعها، وحل له ما أخذ منها.
ج. على الجملة: إذا خاف أن تعصي الله فيه بارتكاب محظور، أو إخلال بواجب، وأن لا تطيعه فيما يجب عليها، فحينئذ يحل له أن يخلعها، وروي مثل ذلك عن الحسن.
د. وقال الشعبي: هو نشوزها ونشوزه.
8. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ أي: فإن ظننتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: فلا حرج ولا إثم عليهما، وهذا يفيد الإباحة، وفي قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمَا﴾ وإن كانت الإباحة للزوج وجهان أحدهما:
أ. إن الزوج لو خص بالذكر، لأوهم أنها عاصية، وإن كانت الفدية له جائزة، فبين الإذن لهما في ذلك ليزول الإيهام عن علي بن عيسى.
ب. والآخر: إن المراد به الزوج، وإنما ذكر معه المرأة لاقترانهما كقوله تعالى: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾، وقوله: (ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما هو من الملح دون العذب، فجاز للاتساع، قال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن: وهذا أليق بمذهبنا(2)، لأن الذي يبيح الخلع عندنا، هو ما لولاه لكانت المرأة عاصية.
9. الذي عندي في ذلك، أن جواز وقوع العصيان منها، هو السبب في إباحة الخلع، ورفع الجناج إنما تعلق بالخلع، لا بأسبابه، والوجه الأول أولى بالاختيار، وأشد ملاءمة لظاهر الآية، والوجه الأخير مرغوب عنه، لعدوله عن سنن الاستقامة، إذ لا يكون الاثنان واحدا في الحقيقة.
10. ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أي: بذلت من المال، واختلف في ذلك:
أ. فعندنا(2) إن كان البغض منها وحدها، وخاف منها العصيان، جاز أن يأخذ المهر وزيادة عليه، وإن كان منهما، فدون المهر.
ب. وقيل: إنه يجوز الزيادة على المهر والنقصان من غير تفصيل، عن ابن عباس وابن عمر ورجاء بن حياة وإبراهيم ومجاهد.
ج. وقيل: المهر فقط، عن ربيع وعطا والزهري والشعبي، ورووه عن علي.
11. الخلع بالفدية على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن تكون المرأة عجوزا أو دميمة، فيضار بها الزوج لتفتدي نفسها، فهذا لا يجل له الفدا لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ الآية.
ب. الثاني: أن يرى الرجل امرأته على فاحشة، فيضار بها لتفتدي نفسها، فهذا جائز وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾.
ج. الثالث: أن يخافا ألا يقيما حدود الله لسوء خلق، أو قلة نفقة من غير ظلم، أو نحو ذلك، فيجوز لهما جميعا الفدية على ما مر تفصيله.
12. ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ أي: أوامره ونواهيه، وما نصب من الآيات في الخلع والطلاق والرجعة والعدة،: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ أي: فلا تجاوزوها بالمخالفة، ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله﴾ أي: يتجاوزها بأن يخالف ما حد له، ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
13. استدل أصحابنا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع، لأنه قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، ثم ذكر الثالث على الخلاف في أنها قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، ومن طلق ثلاثا بلفظ واحد، فإنه لم يأت بالمرتين، ولا بالثالثة، كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات، فلو أتى بالأربع بلفظ واحد، لما أتى بالشروع، ولم يحصل حكم اللعان، وكذلك لو رمى في الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة، لم تجزئ عنه، بلا خلاف، وكذلك الطلاق.
14. قرأ أبو جعفر وحمزة: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ بضم الياء، والباقون بفتحها، وخاف: فعل يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك المفعول يكون أن وصلتها نحو قوله تعالى: ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ ويكون غيرها نحو قوله تعالى: ﴿تَخَافُونَهُمْ﴾، فوجه قراءة حمزة: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ أنه لما بنى الفعل للمفعول به، أسند الفعل إليه، فلم يبق شيء يتعدى إليه، فأما أن من قوله (أن لا يقيما): فإن الفعل يتعدى إليه بالجار كما تعدى بالجار في قوله:) ولو خافك الله عليه حرمه) وموضع أن في الآية: جر بالجار المقدر على قول الخليل والكسائي، ونصب في قول سيبويه وأصحابه، إلا أنه لما حذف الجار، وصل الفعل إلى المفعول الثاني مثل: أستغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير، فقراءته مستقيمة على ما رأيت، والآخر: أن يكون الخطاب في قوله فإن خفتم مصروفا إلى الولاة والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة فيمن جعله انصرافا من الغيبة إلى الخطاب، لأن ضمير الاثنين في: ﴿يَخَافَا﴾ ليس يراد به اثنان مخصوصان، إنما يراد به أن كل من كان هذا شأنه فهذا حكمه، فأما من قرأ: ﴿يَخَافَا﴾ بفتح الياء: فالمعنى أنه إذا خاف كل واحد من الزوج والمرأة أن لا يقيما حدود الله، حل الافتداء.
15. سؤال وإشكال: لو كان: ﴿يَخَافَا﴾ كما قرأ، لكان ينبغي أن يكون: فإن خيفا؟ والجواب: لا يلزمه هذا السؤال لمن خالفه في القراءة، لأنهم قد قرأوا: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾، ولم يقولوا فإن خافا، وليس يلزم هذا السؤال جميعهم لأمرين أحدهما: إنه انصرف من الغيبة إلى الخطاب، كما قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، ثم قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾، وهذا النحو كثير في التنزيل وغيره.
16. مسائل نحوية:
أ. ﴿الطَّلَاقُ﴾: رفع بالابتداء، و﴿مَرَّتَانِ﴾: الخبر.
ب. ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف تقديره فالواجب عليكن إمساك، ولو كان في الكلام فامساكا بالنصب، لكان جائزا على فامسكوهن إمساكا بمعروف، كما قال: فامسكوهن بمعروف.
ج. ﴿أَنْ يَخَافَا﴾: موصول وصلة موضعهما نصب بأنه مفعول له تقديره لمخافتهما و(أن لا يقيما): في موضع نصب بأنه مفعول: ﴿يَخَافَا﴾ تقديره: يخافا ترك إقامة حدود الله.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/577.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾: أن الرجل كان يطلّق امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من الأنصار لامرأته: والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلّين مني، فقالت: كيف ذلك؟ قال أطلّقك، فإذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، تشكو إليه ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فاستقبلها الناس جديدا من كان طلّق، ومن لم يكن يطلّق، رواه هشام بن عروة عن أبيه.
2. في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه بيان لسنّة الطلاق، وأن يوقع في كل قرء طلقة، قاله ابن عباس، ومجاهد.
ب. الثاني: أنه بيان للطلاق الذي تملك معه الرّجعة، قاله عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجّاج في آخرين.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾:
أ. قيل: معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحقّ في إمساك المرأة.
ب. وقال عطاء، ومجاهد، والضحّاك، والسّدّيّ: المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾: الرّجعة بعد الثانية.
4. في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن المراد به: الطّلقة الثالثة، قاله عطاء، ومجاهد، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدّتها، قاله الضحّاك، والسّدّيّ، قال القاضي أبو يعلى محمّد بن الحسين بن الفرّاء وهذا هو الصحيح، لأنه قال عقيب الآية: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شكّ، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ على تركها حتى تنقضي عدّتها، لأنه إن حمل على الثالثة، وجب أن يحمل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ على رابعة، وهذا لا يجوز.
5. الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور، ومكروه:
أ. فالواجب: طلاق المؤلي بعد التّربّص، إذا لم يفئ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين، إذا رأيا الفرقة.
ب. والمندوب: إذا لم يتّفقا، واشتدّ الشّقاق بينهما، ليتخلّصا من الإثم.
ج. والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولا بها، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر.
د. والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة، وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه.
6. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس، أتت زوجته إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا، فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (أتردّين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، أن يأخذها، ولا يزداد، رواه عكرمة عن ابن عباس، واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة، ونسبها يحيى بن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكنّاها مقاتل، فقال: أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ، وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ، وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين: إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل، والثانية: سهلة بنت حبيب، وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام.
7. الخوف في الآية بمعنى: العلم، والحدود قد سبق بيان معناها.
8. معنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك، هذا على قراءة الجمهور في فتح (ياء) يَخافا، وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو جعفر، وحمزة والأعمش: (يخافا) بضم الياء.
9. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، قال قتادة: هو خطاب للولاة، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ على المرأة ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه ثمن حقّه، وقال الفرّاء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد ذكرا جميعا؛ كقوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾، وإنما يخرج من أحدهما، وقوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾: وإنما نسي أحدهما.
10. سؤال وإشكال: هل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: يجوز، وبه قال عمر بن الخطّاب وعثمان وعليّ وابن عباس والحسن ومجاهد والنّخعيّ والضحّاك ومالك والشّافعيّ.
ب. الثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ وطاووس وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن حنبل، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضا.
11. سؤال وإشكال: هل يجوز الخلع دون السّلطان؟ والجواب:
أ. قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاووس وشريح والزّهريّ: يجوز، وهو قول جمهور العلماء.
ب. وقال الحسن وابن سيرين وقتادة: لا يجوز إلا عند السّلطان.
__________
(1) زاد المسير: 1/202.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هذا هو الحكم الثالث من أحكام الطلاق، وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾: كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له، فجاءت امرأة إلى عائشة، فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنزل قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾.
3. اختلف المفسرون في أن هذا الكلام ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله(2):
أ. قيل: إنه حكم مبتدأ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، وهذا التفسير هو قول من قال الجمع بين الثلاث حرام، وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار: أن هذا هو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء وحذيفة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين:
• الأول: وهو اختيار كثير من علماء الدين، أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثا لا يقع إلا الواحدة، وهذا القول هو الأقيس، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
• الثاني: وهو قول أبي حنيفة: أنه وإن كان محرما إلا أنه يقع، وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
ب. وقيل: أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله، والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان، ولا رجعة بعد الثلاث، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث، وهو مذهب الشافعي.. وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج، ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائما أو إلى غاية معينة، فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين، أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة، هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله: الطلاق للمعهود السابق، يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين، فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية، والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه:
• الأول: أن قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: 228] إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص، وإن لم يكن عاما فهو مجمل، لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة، فيكون مفتقرا إلى البيان، فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلا مع العام المخصوص، أو كان البيان حاصلا مع المجمل، وذلك أولى من أن لا يكون كذلك، لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزا إلا أن الأرجح أن لا يتأخر.
• الثاني: إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ، كان قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع، لا يقال: إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة، وهو قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فصار تقدير الآية: الطلاق مرتان ومرة، لأنا نقول: إن قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ متعلق بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ لا بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق، ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز.
• الثالث: ما روينا في سبب نزول هذه الآية، إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيرا بسبب المضارة، وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجا عن عموم الآية، فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه.
4. احتج القائلون بأنه حكم مبتدأ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة بأن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق، لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق، فصار تقدير الآية: كل الطلاق مرتان، ومرة ثالثة، ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق، لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع، فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون، وعندي الجمع مباح لا مسنون، قلنا: ليس في الآية بيان صفة السنة، بل كان تفسير الأصل الطلاق، ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر، إلا أن معناه هو الأمر، أي طلقوا مرتين يعني دفعتين، وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر، فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات، وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه.
5. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه، يقال: إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلا قال الفراء: يقال إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي قوة، وأما التسريح فهو الإرسال، وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض، وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى.
6. تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج، هو أن يوجد مرتان، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح والإنفاع، وفي معنى الآية وجهان:
أ. أحدهما: أن توقع عليها الطلقة الثالثة، روي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ قيل له صلّى الله عليه وآله وسلم: فأين الثالثة؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: هو قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
ب. الثاني: أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو مروي عن الضحاك والسدي، وهذا الوجه هو الأقرب لوجوه:
• أحدها: أن الفاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ [البقرة: 230] تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة، لكان قوله: فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز.
• ثانيها: أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال، لأنه بعد الطلقة الثانية، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أو يطلقها وهو المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقا آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز.
• ثالثها: أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق.
• رابعها: أنّه قال بعد ذكر التسريح ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ والمراد به الخلع، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.
7. المراد من الإحسان، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها.
8. الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.
9. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ هذا الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع، ذلك أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقرونا بالإحسان، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، وذلك لأنه ملك بضعها، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئا، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء، كما قال في سورة النساء: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء: 19] وقوله هاهنا: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ هو كقوله هناك: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق، ونظيره قوله تعالى: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: 1] فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضا: ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 20] فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
10. سؤال وإشكال: لمن الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا﴾ فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئا، والجواب: الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطابا للأزواج وآخرها خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون.
11. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لما منع الله تعالى الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئا استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع، وروي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقالت: فرق بيني وبينه فإني أبعضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، وأشدهم سوادا، وإني أكره الكفر بعد الإسلام، فقال ثابت: يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: نعم وأزيده فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: لا حديقته فقط، ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام، وفي سنن أبي داوود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.
12. اختلفوا في أن قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ هو استثناء متصل أو منقطع، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا: يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب، وقال الأزهري والنخعي وداوود: لا يباح الخلع إلا عند الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئا، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف، وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئا بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، وأما كلمة (إلا) فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92] أي لكن إن كان خطأ ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ [النساء: 92].
13. الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره: قد خرج غلامك بغير إذنك، فتقول: قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته، وأنشد الفراء:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة...تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني...أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 230].
14. ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة، والأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلا من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما، أو يكون الخوف حاصلا من قبلهما معا:
أ. الأول: وهو أن يكون هذا الخوف حاصلا من قبل المرأة، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج، فههنا يحل للزوج أخذ المال منها، والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لها الخلع ولثابت الأخذ.
ب. الثاني: أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط، بأن يضربها ويؤذيها، حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية، وبدليل سائر الآيات، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 19، 20] وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال.
ج. الثالث: أن لا يكون هذا الخوف حاصلا من قبل الزوج، ولا من قبل الزوجة، وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين: أن هذا الخلع جائز، والمال المأخوذ حلال، وقال قوم إنه حرام.
د. الرابع: أن يكون الخوف حاصلا من قبلهما معا، فهذا المال حرام أيضا، لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلا من قبل الزوج، وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ [النساء: 35] الآية، ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال.
15. هذا شرح هذه الأقسام الأربعة، وهذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى، فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء.
16. سؤال وإشكال: شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معا، فكيف قلتم: إنه يكفي حصول الخوف منها فقط، والجواب: سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلا لهما جميعا، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه، أو لمرض منفر منه، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج، ويكون الزوج خائفا من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها.
17. قرأ حمزة: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ بضم الياء والباقون بفتحها، قال الزمخشري: وجه قراءة حمزة إبدال أن لا يقيما من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود الله، وهذا المعنى متأكد بقراءة عبد الله إلا أن يخافوا وبقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ ولم يقل: خافا، فجعل الخوف لغيرهما، وجه قراءة العامة إضافة الخوف إليهما على ما بينا أن المرأة تخاف الفتنة على نفسها، والزوج يخاف أنها إن لم تطعه يعتدي عليها.
18. اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به:
أ. فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاووس: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهو قول علي بن أبي طالب، واحتجول بالقرآن والخبر والقياس:
• أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، ثم قال بعد ذلك: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ فوجب أن يكون هذا راجعا إلى ما آتاها، وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر، وأما الخبر
• روينا أن ثابتا لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته، فقالت جميلة وأزيده، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: لا حديقته فقط، ولو كان الخلع بالزائد جائزا لما جاز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يمنعها منه.
• وأما القياس فهو أنه استباح بعضها، فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إحجافا بجانب المرأة وإلحاقا للضرر بها، وأنه غير جائز.
ب. قال سعيد بن المسيب: بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له.
ج. وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي، واحتجوا بأن الخلع عقد معاوضة، فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين، فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير، فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج، حيث أظهرت بغضه وكراهته، ويتأكد هذا بما روي أن عمر رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحسبها في بيت الزبل ليلتين، ثم قال لها: كيف حالك؟ فقالت: ما بت أطيب من هاتين الليلتين، فقال عمر: اخلعها ولو بقرطها، والمراد اخلعها حتى بقرطها، وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها، فلم ينكر عليها.
19. اختلف في الخلع هل هو تطليقة أم لا:
أ. قيل: الخلع تطليقة بائنة، وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري، وهو قول أبي حنيفة وسفيان، وهو أحد قولي الشافعي، لأن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق، فإذا بطل كونه فسخا ثبت أنه طلاق، وإنما قلنا: إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخا لما صح بالزيادة على المهر المسمى: كالإقالة في البيع، وأيضا لو كان الخلع فسخا فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر، كالإقالة، فإن الثمن يجب رده، وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ، وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق.
ب. وقال ابن عباس وطاووس وعكرمة: إنه فسخ للعقد، وهو القول الثاني للشافعي، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو ليس بطلاق لوجوه:
أ. الحجة الأولى: أنه تعالى قال ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ثم ذكر الطلاق فقال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس.
ب. الحجة الثانية: وهو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام، فلو كان الخلع طلاقا لكان يجب على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يستكشف الحال في ذلك، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقا دل على أن الخلع ليس بطلاق.
ج. الحجة الثالثة: روى أبو داوود في (سننه) عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عدتها حيضة، قال الخطابي: وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، لأن الله تعالى قال ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
20. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ المعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ أي فلا تتجاوزوا عنها.
21. ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد، فقال: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وفيه وجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى ذكره في سائر الآيات ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18] فذكر الظلم هاهنا تنبيها على حصول اللعن.
ب. ثانيها: أن الظالم اسم ذم وتحقير، فوقوع هذا الاسم يكون جاريا مجرى الوعيد.
ج. ثالثها: أنه أطلق لفظ الظلم تنبيها على أنه ظلم من الإنسان على نفسه، حيث أقدم على المعصية، وظلم أيضا للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها، أو كتمت شيئا مما خلق في رحمها، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئا لا بسبب نشوز من جهة المرأة، ففي كل هذه المواضع يكون ظالما للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالما لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/442.
(2) كلام الرازي هنا مختلط كثيرا، وقد حاولنا ترتيبه بحسب فهمنا له بهذا الشكل.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في المراد من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾:
أ. ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، ونسخ ما كانوا عليه، قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم.
ب. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين.
2. الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة، والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عمر: (فإن شاء أمسك وإن شاء طلق)، وقد طلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حفصة ثم راجعها، خرجه ابن ماجه، وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب، فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور، قال ابن المنذر: وليس في المنع منه خبر يثبت.
3. روى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر، ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه).. قال ابن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق طاوس وحماد والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة، قال: وبالقول الأول أقول.
4. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ ابتداء، والخبر أمثل أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف، أي فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق، ويجوز في غير القرآن (فإمساكا) على المصدر، ومعنى ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ أي لا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول، والإمساك: خلاف الإطلاق.
5. التسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض، وسرح الماشية: أرسلها، والتسريح يحتمل لفظه معنيين:
أ. أحدهما: تركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك.
ب. المعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصح لوجوه ثلاثة:
• أحدها: ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فلم صار ثلاثا؟ قال: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ـ في رواية ـ هي الثالثة)، ذكره ابن المنذر،.
• الثاني: إن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ إن (عزموا السراح).
• الثالثة: أن فعل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل.
6. قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله، وقد روي من أخبار العدول مثل ذلك أيضا: عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فأين الثالثة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله، قلت: وذكر الكيا الطبري هذا الخبر وقال: إنه غير ثابت من جهة النقل، ورجح قول الضحاك والسدي، وأن الطلقة الثالثة إنما هي مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، فالثالثة مذكورة في صلب هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، فوجب حمل قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، فوجب ألا يكون معنى قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الثالثة، ولو كان قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ بمعنى الثالثة كان قوله عقيب ذلك: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هو تركها حتى تنقضي عدتها.
7. ترجم البخاري على هذه الآية (باب من أجاز الطلاق الثلاث) بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيق على نفسه لزمه، قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد ابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقيل عنهما: لا يلزم منه شي، وهو قول مقاتل، ويحكى عن داوود أنه قال لا يقع، والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا، ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات:
أ. فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شي فاحتج بدليل قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه، وقد تقدم، وقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ والثالثة ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ومن طلق ثلاثا في كلمة فلا يلزم، إذ هو غير مذكور في القرآن.
ب. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة فاستدل بأحاديث ثلاثة:
• أحدها: حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصهباء وعكرمة.
• ثانيها ـ حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثا، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم أمره برجعتها واحتسبت له واحدة.
• ثالثها ـ أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة.
8. الجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي أن سعيد ابن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البكير والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج، وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على وهن رواية طاوس وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه، قال ابن عبد البر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس، قال القاضي أبو الوليد الباجي: وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة، فقد روى عنه الأئمة: معمر وابن جريج وغيرهما، وابن طاوس إمام.
9. الحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم، ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة، فلو كان ذلك حالهم في أول الإسلام في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقول فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا)، قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي إنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هذا الذي يطلقون ثلاثا، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة.
10. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث، قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها.
11. وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطني روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهني عن أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي، حائض، فقال لي: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهى حائض، فردها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى السنة، فقال الدارقطني: كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض، قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة، وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة، وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه ويونس ابن جبير والشعبي والحسن، وأما حديث ركانة فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع، لا يستند من وجه يحتج به، رواه أبو داوود من حديث ابن جريج عن بعض، بني أبي رافع، وليس فيهم من يحتج به، عن عكرمة عن ابن عباس، وقال فيه: إن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أرجعها)، وقد رواه أيضا من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها إليه، فهذا اضطراب في الاسم والفعل، ويحتج بشيء من مثل هذا، قلت: قد أخرج هذا الحديث من طرق الدارقطني في سننه، قال في بعضها: عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان، قال أبو داوود هذا حديث صحيح، فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه، قال أبو عمر: رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم.
12. ذكر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي هذه المسألة في وثائقه فقال: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق سنة، وطلاق بدعة، فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة نقيضه، وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق، ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق، فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله ثلاثا لا معنى له لأنه لم يطلق ثلاث مرات وإنما يجوز قوله في ثلاث إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا فيكون مخبرا عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف فقال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة والطلاق مثله، وقال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وروينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدي ومحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الحسني فريد وقته وفقيه عصره وأصبغ بن الحباب وجماعة سواهم، وكان من حجة ابن عباس أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق فقال عز اسمه: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ يريد أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك بالمعروف وهو الرجعة في العدة، ومعنى قوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليها إن وقع ندم بينهما، قال الله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، يريد الندم على الفرقة والرغبة في الرجعة، وموقع الثلاث غير حسن، لأن فيه ترك المندوحة التي وسع الله بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه الطلاق مفرقا يدل على أنه إذا جمع أنه لف واحد، وقد يخرج بقياس من غير ما مسألة من المدونة ما يدل على ذلك، من ذلك قول الإنسان: مالي صدقة في المساكين أن الثلث يجزيه من ذلك، وفي الإشراف لابن المنذر: وكان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة، قلت: وربما اعتلوا فقالوا: غير المدخول بها لا عدة عليها، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت بنفس فراغه من قوله: أنت طالق، فيرد ثلاثا) عليها وهى بائن فلا يؤثر شيئا، ولأن قوله: أنت طالق مستقل بنفسه، فوجب ألا تقف البينونة في غير المدخول بها على ما يرد بعده، أصله إذا قال: أنت طالق.
13. استدل الشافعي بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وقوله: ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ على أن هذا اللفظ من صريح الطلاق، وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فذهب القاضي أبو محمد إلى أن الصريح ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه، مثل أن يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو قد طلقتك، أو الطلاق له لازم، وما عدا ذلك من ألفاظ الطلاق مما يستعمل فيه فهو كناية، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال القاضي أبو الحسن: (صريح ألفاظ الطلاق كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية، وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وقال: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وقال: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾)
14. إذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، كالغائط الذي وضع للمطمئن من الأرض، ثم استعمل على وجه المجاز في إتيان قضاء الحاجة، فكان فيه أبين وأظهر وأشهر منه فيما وضع له، وكذلك في مسألتنا مثله، ثم إن عمر بن عبد العزيز قد قال: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، فمن قال: البتة، فقد رمى الغاية القصوى) أخرجه مالك، وقد روى الدارقطني عن علي قال: الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن البتة ثلاث، من طريق فيه لين، خرجه الدارقطني وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ إن شاء الله تعالى.
15. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بصيغة الطلاق، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
16. ﴿أنْ﴾ في موضع رفع بـ ﴿يَحِلُّ﴾، والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا، فلذلك خص بالذكر، وقد قيل: إن قوله ﴿وَلَا يَحِلُّ﴾ فصل معترض بين قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ وبين قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾.
17. الجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز، وأجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها، وحكى ابن المنذر عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله وخالعته فهو جائز ماض وهو آثم، لا يحل له ما صنع، ولا يجبر على رد ما أخذه، قال ابن المنذر: وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطإ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شي ثم يقابله مقابل بالخلاف نصا، فيقول: بل يجوز ذلك: ولا يجبر على رد ما أخذ، قال أبو الحسن بن بطال: وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله تعالى، وخلاف حديث امرأة ثابت.
18. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ حرم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ، والخطاب للزوجين، والضمير في ﴿أَنْ يَخَافَا﴾ لهما، و﴿أَلَّا يُقِيمَا﴾ مفعول به، و﴿خَفَّتْ﴾ يتعدى إلى مفعول واحد، ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظن، ثم قيل: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ استثناء منقطع، أي لكن إن كان منهن نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية، وقرأ حمزة ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ بضم الياء على ما لم يسم فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله تعالى ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان، قلت: وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين، وقال شعبة: قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي، قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان، وقد أنكر اختيار أبي عبيد ورد، وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن عبد الله بن مسعود قرأ ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ تخافوا، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلا أن يخاف، وأما اللفظ فإن كان على لفظ ﴿يَخَافَا﴾ وجب أن يقال: فإن خيف، وإن كان على لفظ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ وجب أن يقال: إلا أن تخافوا، وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخاف غيركم ولم يقل تعالى: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان، قال الطحاوي: وقد صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء.
19. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا﴾ أي على أن لا يقيما، ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي فيما يجب عليهما من حسن الصحبة وجمل العشرة، والمخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم معه: إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع، وقال الشعبي: ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة، وقال عطاء بن أبي رباح: يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إني أكرهك ولا أحبك، ونحو هذا ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، روى البخاري من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، وأخرجه ابن ماجه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد، فيقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام، روى عكرمة عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبد الله بن أبي، أتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! فقال: أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما، وهذا الحديث أصل في الخلع، وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في امرأة ثابت بن قيس وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها ويضرها رد عليها ما أخذ منها.
20. قال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل تريد امرأته أن تخالعه فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت: فأين قول الله عزوجل في كتابه: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾؟ قال: نسخت، قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة النِّسَاءَ: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، قال النحاس: هذا قول شاذ، خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى فيقع النسخ، لأن قوله ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الآية، ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج في ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ لأن هذا للرجال خاصة، وقال الطبري: الآية محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء فقد جوز النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها كما تقدم.
21. تمسك بهذه الآية من رأى اختصاص الخلع بحالة الشقاق والضرر، وأنه شرط في الخلع، وعضد هذا بما رواه أبو داوود عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد الصبح فاشتكت إليه، فدعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثابتا فقال: خذ بعض مالها وفارقها، قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: ﴿نِعْمَ﴾، قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: خذهما وفارقها، فأخذهما وفارقها، والذي عليه الجمهور من الفقهاء أنه يجوز الخلع من غير اشتكاء ضرر، كما دل عليه حديث البخاري وغيره، وأما الآية فلا حجة فيها، لأن الله تعالى لم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب، والذي يقطع العذر ويوجب العلم قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾.
22. لما قال الله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ دل على جواز الخلع بأكثر مما أعطاها، وقد اختلف العلماء في هذا:
أ. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأبو ثور: يجوز أن تفتدي منه بما تراضيا عليه، كان أقل مما أعطاها أو أكثر منه، وروى هذا عن عثمان بن عفان وابن عمر وقبيصة والنخعي، واحتج قبيصة بقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق، ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك، وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام، فارتفعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: تردين عليه حديقته ويطلقك؟ قالت: نعم، وأزيده، قال: ردي عليه حديقته وزيديه، وفي حديث ابن عباس: وإن شاء زدته ولم ينكر.
ب. وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها، كذلك قال طاوس وعطاء والأوزاعي، قال الأوزاعي: كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتجوا بما رواه ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب عبد الله بن أبى آبن سلول، وكان أصدقها حديقة فكرهته، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: أما الزيادة فلا ولكن حديقته، فقالت: نعم، فأخذها له وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، سمعه أبو الزبير من غير واحد، أخرجه الدارقطني، وروي عن عطاء مرسلا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها.
23. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالخلع، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
24. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ لما بين تعالى أحكام النكاح والفراق قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ التي أمرت بامتثالها، كما بين تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ فقسم الحدود قسمين، منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/126.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بالطلاق المذكور: هو الرجعي، بدليل ما تقدّم في الآية الأولى، أي: الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي: الطلقة الأولى والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه: ﴿مَرَّتَانِ﴾ ولم يقل طلقتان إشارة إلى أن ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة، أو الإمساك واستدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي: فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف، أي: بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة، ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي: بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها، وقيل: المراد: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: برجعة بعد الطلقة الثانية ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي: بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدّتها، والأول أظهر.
2. ﴿الطَّلَاقُ﴾ مبتدأ بتقدير مضاف، أي: عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان، وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة: هل يقع ثلاثا، أو واحدة فقط، فذهب إلى الأوّل الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق، وقد قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا، وأفردته برسالة مستقلة.
3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ الآيةطاب للأزواج، أي: لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهنّ، وتنكير (شيئا) للتحقير، أي: شيئا نزرا فضلا عن الكثير، وخص ما دفعوه إليهنّ بعدم حلّ الأخذ منه؛ مع كونه لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر؛ لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له؛ كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى، وقيل: الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ للأئمة والحكام ليطابق قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام، وعلى هذا: يكون إسناد الأخذ إليهم، لكونهم الآمرين بذلك، والأول أولى لقوله: ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جدا، لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم، وقيل: إن الثاني أولى لئلا يتشوّش النظم.
4. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ أي: لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي: عدم إقامة حدود الله التي حدّها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها، من حسن العشرة والطاعة، فإن خافا ذلك ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أي: لا جناح على الرجل في الأخذ، وعلى المرأة في الإعطاء، بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج، فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف، وهو الذي صرّح به القرآن، وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم: أنه لا يحلّ له ما أخذ، ولا يجبر على ردّه، وهذا في غاية السقوط، وقرأ حمزة: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ على البناء للمجهول، والفاعل محذوف، وهو الأئمة الحكام واختاره أبو عبيد قال لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ فجعل الخوف لغير الزوجين، وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان، وهو سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور.
5. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي: إذا خاف الأئمة والحكام، أو المتوسطون بين الزوجين ـ وإن لم يكونوا أئمة وحكاما ـ عدم إقامة حدود الله من الزوجين، وهي ما أوجبه عليهما كما سلف.
6. حكي عن بكر بن عبد الله المدني: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الاثنين.
7. اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه، ورضيت بذلك المرأة، هل يجوز أم لا!؟ وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأبو ثور؛ وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقال طاووس، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: إنه لا يجوز، وسيأتي ما ورد في ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
8. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي: أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي أمرتم بامتثالها، فلا تعتدوها بالمخالفة لها، فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/274.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، وهو مبتدأ بتقدير مضاف، خبره ما بعده، أي: عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الردّ والرجعة مرتان أي: اثنتان، وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأنّ حقهما أن يقعا مرّة بعد مرّة لا دفعة واحدة، وإن كان حكم الردّ ثابتا حينئذ أيضا، قال ابن كثير: هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام: من أنّ الرجل كان أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله تعالى على ثلاث طلقات: وأباح الرجعة في المرة وثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ الآية.
2. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، أي فالحكم بعد تطليق الرجل امرأته تطليقتين: أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها؛ أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء، ولا ينفر الناس عنها، قال الرازيّ: (الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشقّ عليه مفارقته أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت تعالى حقّ المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرّحها على أحسن الوجوه)
3. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾، ـ أي: أيها المطلّقون ـ ﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ ـ من المهر وغيره ـ ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي: فيما يلزمها من حقوق الزوجية ـ ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، أي: نفسها عن ضرره؛ أي: لا إثم على الزوج في أخذ ما افتدت به، ولا عليها في إعطائه، وهذه الآية أصل في الخلع.
4. ﴿تِلْكَ﴾ ـ أي: الأحكام العظيمة المتقدمة للطلاق والرجعة والخلع وغيرها.. ـ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ ـ شرائعه ـ فَلا تَعْتَدُوها ـ بالمخالفة والرفض ـ ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، أي: لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد.
5. قال ابن القيّم في (أعلام الموقعين): إن المطلّق في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وزمن أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في (الصحيح) عن ابن عباس، فروى مسلم في (صحيحه) عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؛ فأمضاه عليهم، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطّلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا؛ قال فسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كيف طلقها؟ قال طلقها ثلاثا، قال فقال في مجلس واحد؟ قال نعم! قال فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت، قال فرجعها، فكان ابن عباس يرى: إنما الطلاق عند كلّ طهر، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، ثم إن عمر بن الخطاب لم يخف عليه، أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع كلّه جملة واحدة، كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين، كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يمينا إن هذا قاتله، كان يمينا واحدة، ولو قال المقرّ بالزنا: أنا أقرّ أربع مرات أني زنيت، كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك الإقرار إلّا واحدا، وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: من قال في يوم (سبحان الله وبحمده) مائة مرة حطّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة) لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: من سبح الله دبر كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبّره ثلاثا وثلاثين، الحديث، لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، لا يجمع الكلّ بلفظ واحد، وكذلك قوله: من قال في يوم (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرّة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، لا يحصل هذا إلّا بقولها مرة بعد مرة، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء، كقوله تعالى: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: 101]، إنما هو مرة بعد مرة، وكذا قول ابن عباس: رأى محمد ربّه بفؤاده مرتين إنما هو مرة بعد مرة، وكذا قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فهذا هو المعقول من اللغة والعرف، فالأحاديث المذكورة، وهذه النصوص المذكورة، وقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ كلها من باب واحد ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسّر المراد من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والصحابة كلّهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر، على هذا المذهب، فلو عدهم العادّ لزادوا على الألف قطعا، ولهذا ادّعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ـ ولله الحمد ـ على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به من الصحابة ابن عباس والزبير وابن عوف، وعن عليّ وابن مسعود روايتان، ومن التابعين عكرمة وطاووس ومن تابعيهم محمد بن إسحاق وغيره، وممن بعدهم داوود إمام أهل الظاهر، وبعض أصحاب مالك، وبعض الحنفية، وأفتى بعض أصحاب أحمد ـ حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه ـ قال وكان الجدّ يفتي به أحيانا.
6. المقصود أنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى عمر، أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أنّ أحدهم، إذا أوقعه جملة، بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشدّ الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق، فرأى عمر هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وعهد أبي بكر وصدرا من خلافته ـ كان اللائق بهم، لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكلّ من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإنّ الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كلّه مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد ضيعها على نفسه، ولم يتق الله ويطلّق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمة وإحسانا، واختار الأغلظ والأشد، فهذا ما تغيرت به البلوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، ثم قال: فلما تغير الزمان، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس، فالواجب أن يردّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل ويقللها ويخفف شرها، وإذا عرض، على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه، مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل، ووازن بينهما ـ تبين له التفاوت، وعلم أيّ المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين.
7. ثم قال ابن القيم: ويمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين:
أ. أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه؟.
ب. الثاني: أنّ عقوبتهم بذلك تفتح عليه باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة، والعقوبة ـ إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه ـ كان تركها أحبّ إلى الله ورسوله، ولا يستريب أحد في أنّ الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/137.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ ومن الطلاق الفداء خلافًا لجابر بن زيد منَّا ، وللشافعيِّ في أنَّه فسخ، ومختار مذهبه أنَّه طلاق، وهذه الآية متعلِّقة بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أي: فإن طلَّقها بعد المرَّتين: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ بعد الثلاثة.
2. ﴿حَتَّى تَنكِحَ﴾ تتزوَّج ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ واشتراط الوطء بغيوب الحشفة من الحديث لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميمة بنت وهب، أو عائشة بنت عبد الرحمٰن بن عتيك روايتان، ولعلَّهما قصَّتان: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة)؟ ـ بكسر الراء، ابن وهب بن عتيك ـ يعني زوجها الذي طلَّقها ثلاثًا، قالت: نعم، قال: (لا، حتَّى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) يعني زوجها الثاني: عبد الرحمٰن بن الزَّبير، بفتح الزاي على الصحيح، وقيل: بالتصغير، وعابته بأنَّه ما معه إلَّا مثل هدبة الثوب، فضحك صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والعسيلة الجماع، والعسل يكثر تأنيثه أو يغلب، فردَّت التاء، أو تصغير عسلة، أي: قطعة من عسل.
وإنَّما فسَّرت النكاح بالتزوُّج لأنَّه الوارد في القرآن، ولكن لَمَّا جاء الحديث بشرط الوطء أمكن أن يراد بالنكاح في الآية والحديث تقرير لها، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ألا أخبركم بالتيس المستعار)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) يعني بالمحلَّل له: الزوج الأوَّل والمرأة، وإن لم تعلم بقصد التحليل فلا إثم عليها، وعن عمر: (لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلَّا رجمتهما)، وذلك بالدخول، فلو أقرَّت بأنَّها علمت، أو شهد لها بذلك لرجمها، بل دخلت في محلَّل له، وفرَّق عثمان بينها وبين من يحلِّلها، وحرمت على المحلِّل، ولا تحلُّ للأوَّل أبدًا؛ لأنَّ ذلك منها زنى إن علمت بقصد التحليل، ولو تزوَّجت بعد ذلك بلا قصد تحليل، وقد يجوز له إن تزوَّجت بعد؛ لأنَّ ذلك شبهة، أو صحَّت توبتها وتزوَّجت، ولم يحرِّمها الحنفيَّة على المحلِّل.
3. ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ هذا الزوج الثاني، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ﴾ في ﴿أَنْ يَّتَرَاجَعَآ﴾ ترجع إلى الأوَّل ويرجع إليها بنكاح وصداق وبيِّنة، وزعم شاذٌّ من قومنا (2) أنَّها تحلُّ للأوَّل بعقد ثان ولو بلا وطء، وإن نكحها الثاني بقصد الحلِّ للأوَّل لم تحلَّ للأوَّل ولو وطئها الثاني، وقد لعن صلّى الله عليه وآله وسلّم المحلِّل والمحلَّل له، وحرمت إجماعًا على المحلِّل إن ذكر التحليل في عقد النكاح، وإن قصده ولم يذكره حرمت عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يكره، واللعن أنسب بالتحريم؛ لأنَّ اللعن يقتضي القبح لعينه، ومعنى المحلِّلِ: قاصدُ الحلِّ لا أنَّ الحلَّ واقع، فهو ردٌّ على أبي حنيفة، وهو عالم كثر الوفاق بينه وبيننا معشر الإباضيَّة الوهبيَّة في المسائل، وقوله هذا موجود أيضًا في المذهب.
4. ﴿إِن ظَنَّآ﴾ أي رجَّحا وكفى، بل لو قيل: بمعنى (عَلِمَا) وأريد قوَّة الرجحان لجاز، ولا نسلِّم أنَّ (أَنْ) المصدريَّة للتوقُّع، فضلا عن أن يقال: ينافي العلم، وأمَّا أن يتكلَّف أنَّه قد يوقن بالمستقبل فتكلُّف، ﴿أَنْ يُّقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ فيما بينهما من الحقوق الزوجيَّة، والمقام لها، ولو كان من الجائز أن تحمل الحدود على الحقوق الزوجيَّة وغيرها.
5. ﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام ﴿حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وغيرهم، وخصَّصهم بالذكر لأنَّهم المنتفعون بالتبيين، والمراد: يعلمون الحقَّ إجمالاً وإذعانًا أو بعضه فيزدادون علمًا، أو المراد: يتدبَّرون العواقب، أو يتصرَّفون في الدلائل، أو يعملون، فذكر السبب عن المسبَّب، أو أراد الراسخين؛ لأنَّ بعض الحدود لا يعقله إلَّا الراسخ، أو أخرج به الطفل والمجنون ونحوهما.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/57.
(2) يقصد الإباضية
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدة ولم يكن للطلاق حد ولا عدة فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان لمضارة المرأة راجع قبل انقضاء العدة واستأنف طلاقا، ثم يعود إلى ذلك المرة بعد المرة، أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق ما شاء أن يضارها، فكان ذلك مما أصلحه الإسلام من أمور الاجتماع.
2. قال محمد عبده ما مثاله بإيضاح: قد ذكر في الآية السابقة الطلاق على الطلاق وذكر العدة، والطلاق هنا هو الطلاق هناك، وهو عبارة عن مفارقة المرأة المدخول بها، بحل الرجل عقدة الزوجية التي تربطهما معا، واللفظ دل على هذا المعنى؛ فهذا بيان لأصل الشرع في الطلاق جاء على صيغة الخبر لتقريره وتوكيده كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ أي: إن حد الله الذي حده للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدي الرجال هو مرتان؛ أي: طلقتان، وعبر بالمرتين ليفيد أن الطلقتين تكون كل منهما مرة تحل بها العصمة ثم تبرم، لا أنهما يكونان بلفظ واحد، ولهذا روي عن ابن عباس أنه جعل كلمة (طلقت ثلاثا) بمثابة قرأت الفاتحة ثلاثا، فإن كان صادقا فالطلاق صحيح وإلا فهو لغو من القول، وقول: إن إنشاء الطلاق ثلاثا بالقول ليس في قدرة الرجل إيقاعه مرة واحدة؛ ذلك أن الأمور العملية لا تتكرر بتكرر القول المعبر عنها، بل ولا القولية أيضا، فمن فسخ العقد مرة وعبر عنها بقوله ثلاثا فهو كاذب ولو صح ذلك لصح أن يقال: الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، ومن سفه نفسه وجاء بهذا فقد خرج عن السنة واستحق التأديب، فقد روى النسائي من حديث محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟) حتى قال رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله! قال ابن كثير: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواته موثقون، وقد صرح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأن الطلاق الشرعي هو ما كان مرة بعد مرة، وأن جمع الثنتين أو الثلاث بدعة، وأنه حرام، قال أبو زيد الدبوسي في الأسرار: وهذا قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة.
3. هذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى وهو الطلاق الرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، وأما الطلاق البات البائن فلم يرد في كتاب الله تعالى، والفقهاء والمحدثون متفقون على أن حكم الطلاق البائن بلفظ الثلاث أو تكرار اللفظ لا يؤخذ من هذه الآية ولا من آية أخرى من القرآن؛ ولذلك وقع فيه الخلاف من الصدر الأول إلى الآن، ولم يذكر الخلاف بعد الأئمة الأربعة عن أحد من أتباعهم إلا عن بعض الحنابلة وجمهور الأمة على أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا تبين منه كما لو طلقها ثلاث مرات، فالطلاق في الآية يراد به نوع منه وهو الرجعي، وأما البائن فلم يذكر، وقد أخذوه من حديث الملاعنة، والآخرون يجيبون عنه بأن الملاعنة تقتضي التفريق فالطلاق بعدها لغو.
4. حديث الملاعنة الذي أشار إليه محمد عبده هو ما رواه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد أن عويمرا العجلاني أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فأت بها) فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين، وفي لفظ لمسلم وأحمد وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فرق بينهما، ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أن اللعان لا يقتضي التفريق إلا بحكم الحاكم به، وأجاب عنه الذين قالوا: إن اللعان يقتضي التفريق بنفسه بأن تفريقه صلّى الله عليه وآله وسلم بينهما هو بيان الحكم في ذلك لا إنشاء تفريق، وعلى كل من القولين لا يحتج بالحديث في وقوع التطليق الثلاث بتكرار اللفظ في المجلس كما فعل عويمر إذ قال: (كما في رواية) فهي الطلاق فهي الطلاق فهي الطلاق، فإن المتبادر منه أنه تأكيد باللفظ، ولو كان هذا طلاقا مكررا صادف محلا لأنكر عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إيقاعه بدعيا كما أنكر على الرجل الآخر الذي ذكر في حديث النسائي.
5. للجمهور أحاديث أخرى لم يذكرها محمد عبده من أدلتهم لضعفها واضطرابها، أشهرها حديث ركانة، وهو أنه طلق امرأته ألبتة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: والله ما أردت إلا واحدة فأعاد اليمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأعادها هو فردها إليه، وطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان، رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وغيرهم، قال الترمذي: لا يعرف إلا من هذا الوجه وسألت عنه محمدا؛ يعني البخاري، فقال: فيه اضطراب، فقيل: طلقها ثلاثا، وقيل: واحدة، وقيل: ألبتة، وفي إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد، وقال ابن عبد البر في التمهيد: تكلموا في هذا الحديث فهو ضعيف ومضطرب كما أنه معارض بما يأتي، ورواية ثلاثا فيه معارضة للروايتين الأخريين، وهي حجة لمن قال لا يقع بلفظ الثلاث إلا واحدة، فإنه قال فيها طلقتها ثلاثا، وجعلها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم واحدة، فهو باختلاف رواياته مشترك الإلزام، ومنها حديث ابن عمر وقد ضعفه غير واحد ولا حجة فيه.
6. أما حديث المعارض لذلك الموافق للكتاب العزيز فهو ما رواه أحمد ومسلم من حديث طاوس، عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم، فأمضاه عليهم، وفي رواية لمسلم عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق (التتايع بالمثناة التحتية: الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف) فأجازه عليهم، وفي رواية لأبي داود التقييد بما قبل الدخول وهو فرد من أفراد الرواية المطلقة التي هي أصح، وللحديث طريق آخر عند الحاكم وصححه، فلم يبق للجمهور إلا الأخذ بعمل عمر، ومن لم يحتج بعمل الصحابة قال: إنه لا بد له من دليل.
7. قال في نيل الأوطار: واعلم أنه قد وقع الخلاف في الطلاق الثلاث إذا وقعت في وقت واحد، هل يقع جميعها ويتبع الطلاق الطلاق أم لا؟ فذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي، والناصر والإمام يحيى، حكي عنهم في البحر، وحكاه أيضا عن بعض الإمامية أن الطلاق يتبع الطلاق، وذهبت طائفة من أهل العلم لا يتبع الطلاق، بل يقع واحدة فقط، وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى، ورواية عن علي عليه السلام وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القاسم وجماعة من المحققين، وقد نقله ابن مغيب في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح، ونقل الفتوى بذلك عن مشايخ قرطبة، كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار، وحكاه ابن مغيب في ذلك الكتاب عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير، وذهب بعض الإمامية إلى أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء، لا واحدة ولا أكثر منها، وقد حكي ذلك عن بعض التابعين، وروي عن ابن علية وهشام بن الحكم، وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر، وسائر من يقول: إن الطلاق البدعي لا يقع؛ لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة منه إلخ، ثم ذكر الشوكاني الأدلة وعرضها على ميزان التعادل والترجيح، ورجح وقوع الواحدة، وله أي للشوكاني رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور وأجوبتهم عن الحديث الصحيح، ولابن تيمية مؤلف خاص فيها.
8. أطال ابن القيم في إعلام الموقعين القول في المسألة وأورد الأحاديث فيها والدلائل وأوضح معنى قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ بالآيات والأحاديث، وهو أن معناها أنه يكون مرة بعد مرة كما تقدم، قال: (وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة، كاللعان فإنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادت إني لمن الصادقين، كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله: كان ذلك يمينا واحدة، ولو قال المقر بالزنا: أنا أقر أربع مرات أني زنيت: كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا) ثم ذكر أحاديث أخرى كالأمر بالاستئذان ثلاث مرات وغير ذلك، ثم ذكر أن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وأن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده، وذكر بعض من أفتى به من الصحابة والتابعين وأتباع تابعيهم، وأن الفتوى بذلك تتابعت في كل عصر حتى كان من أتباع الأئمة الأربعة من أفتى بذلك، فإنه عندما ذكر أتباع تابعي التابعين قال: (فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو المغلس وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الحلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان الجد يفتي به أحيانا) ثم ذكر أن الأثرم من أصحاب أحمد سأله عن حديث ابن عباس بأي شيء يدفعه؟ فقال بما روي من فتوى ابن عباس بخلافه ـ روي عنه في الفتوى روايتان ـ ثم قال: إن مذهب أحمد العمل برواية الصحابي دون رأيه إذا اختلفا، وذكر لذلك شواهد، ثم بين أن إجازة عمر الثلاث ـ لما تتايع الناس في الطلاق ـ تأديب لهم على مخالفة ما شرعه الله في الطلاق من كونه يوقع المرة بعد المرة ليرجعوا إلى السنة، ووجه ذلك بالنسبة إلى ذلك الوقت، وذكر الروايات في تأييده، ثم بين أن المصلحة الآن تقضي بالرجوع إلى الكتاب وما مضت به السنة في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والخليفة الأول فرارا من مفاسد التحليل التي هي من أكبر العار على المسلمين على أنها مخالفة لدينهم، وأطال في ذلك.
9. إنما أطلنا في ذكر الخلاف في هذه المسألة على تحامينا في التفسير ذكر الخلاف ما وجدنا مندوحة عنه؛ لأن بعض الناس يعتقدون أن المسألة إجماعية فيما جرى عليه الجمهور، وما تم من إجماع إلا ما قاله ابن القيم، وليس المراد مجادلة المقلدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فيها، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها، ولا يبالي بها؛ لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم.
10. قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن معناه: فالواجب عليكم إما إمساك للمرأة مع المعاشرة بالمعروف، وإما تسريحها بإمضاء الطلاق مع الإحسان إليها في المعاملة والتمتيع بمال لائق به، وهو ما سيأتي بيانه قريبا، ويستلزم اتقاء الإهانة والإساءة.
ب. الثاني: أنه ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين: الإمساك بالمعروف أو التسريح؛ أي: الطلاق بالإحسان، ويؤيده حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره (أنه سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سمعت الله يقول: (الطلاق مرتان) فأين الثالثة؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ في الآية الآتية بمعنى هذا، فإن اختار الأمر الثاني وهو التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له إلى آخر ما سيأتي مع حكمته لا أنه دليل على طلقة رابعة.
11. بعد أن فرض الله سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرم عليهم أخذ شيء من المرأة فقال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ ويدخل في ذلك المهر وغيره مما يعطيه الرجل امرأته على سبيل التمليك، بل يجب أن يمتعها بشيء من ماله زائدا على ذلك ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ﴾، قال محمد عبده: إن أخذ الرجل شيئا من مال مطلقته مناف للإحسان فالأمر بالإحسان يستلزمه، وإنما صرح به لمزيد رأفته سبحانه بالنساء، وتأكيده تحذير الرجال الأقوياء من ظلمهن حقوقهن، وقد كرر هذا النهي، ومنه قوله في سورة النساء: ﴿وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا مه شيئا﴾ الآيتين.
12. محل هذا الحكم إذا كان الزوج هو الذي اختار فراق المرأة ورغب عنها، وأما إذا كانت هي الراغبة عنه الطالبة لفراقه، وخيف أن تتوسل إليه بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها، لا لمضارته لها؛ فلا جناح عليهما حينئذ فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب منه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ التي حدها للزوجين من حسن المعاشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل، والتعاون على القيام بأمر المنزل وتربية الأولاد وعدم المضارة لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ وغير ذلك، وذلك بأن تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها فتكفره أو تخونه، ويخاف هو أن يخرج عن الحد المشروع في مؤاخذة الناشز، ويخافا معا سوء العشرة.
13. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ الجناح: الإثم، أي لا جناح عليها فيما تعطيه إياه ليخلعها؛ لأن طلبها الطلاق إنما يحظر لغير هذا العذر، ولا جناح عليه فيما يأخذ لأجل ذلك؛ لأنه برضاها واختيارها من غير إكراه منه ولا مضارة، والخوف هنا على ظاهره وهو توقع المكروه، وفسره بعضهم بالظن وبعضهم بالعلم، وتوقع الشيء لا يكون إلا بوجود ما يدل عليه، فإن كان الدليل قطعيا فهو من العلم وإلا فهو من الظن، وقد جعل بعض المفسرين الخطاب الأول للأزواج والثاني للحكام، وجعل بعضهم الخطاب للحكام أولا وآخرا لتناسق النظم بتناسق الضمائر، ويقول محمد عبده: إن الخطاب في مثل هذا للأمة؛ لأنها متكافلة في المصالح العامة، وأولو الأمر هم المطالبون أولا وبالذات بالقيام بالمصالح، والحكام منهم وسائر الناس رقباء عليهم، وقرأ حمزة ويعقوب ﴿يَخَافَا﴾ بضم الياء؛ أي: يتوقع الناس منهما ذلك لظهور أماراته وآياته.
14. ظاهر الآية أنه لا فرق في الخوف من عدم إقامة حدود الله بين أن يكون مثاره الرجل أو المرأة، وخصه بعض المفسرين بما إذا كان المانع من إقامتها من جانب المرأة، واختاره محمد عبده على ما تقدم آنفا، وهذا هو الذي يتفق مع عدل الإسلام ويدل عليه السياق، إذ جعل هذا استثناء من تحريم أخذ الرجل المطلق شيئا ما مما أعطاه امرأته، وينجلي هذا بعرض حالات الزوجين الثلاث على العقل والعدل، فهما إن أقاما حدود الله تعالى بحسن المعاشرة وأداء كل منهما حق الآخر إلا ما كان من شذوذ يتسامح فيه عادة فلا خوف ولا فراق، وإن عرض لها ما يمنع إقامتها فلا بد أن يكون العارض المانع من قبل أحدهما أو كليهما، فإن كان من قبل الرجل بأن أبغض المرأة أو فتن بغيرها وأحب فراقها لغير ذنب منها أوجب ذلك وخاف ألا يعاملها بما يجب من المعروف، وأن تقابله بمثل ذلك فله أن يسرحها بإحسان؛ لأن عقدة الزوجية بيده، وليس له أن يأخذه في هذه الحالة مما كان أعطاها شيئا بالنص، وهو ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ الآية، فإن التحريم فيها مبني على ما إذا كان الرجل هو الذي أراد الطلاق، وإن كان المانع من قبلها كأن أبغضته بغضا لا تستطيع الصبر عليه والقيام معه بحقوق الزوجية، وخافت أن تقع في النشوز، ويسرف هو في العقوبة، فمن العدل أن تعطيه ما كانت أخذت منه باسم الزوجية ليحل عقدتها، فلا يخسر ماله وزوجته معا، عملا بالرخصة في الآية، إذ تعين حمله عليها، ونفي الجناح عنهما في هذه الحالة ظاهر في الرجل، وجعله بعضهم بمعنى المفرد لخفائه عليهم في جانب المرأة، وما هو بخفي، فإن المرأة يذم منها شرعا وعرفا أن تطلب الطلاق، وقد رفع عنها الجناح فيه بهذا العذر، وهو علمها بتعذر إقامة حدود الله في الزوجية.
15. قد يقال: إن هناك حالة ثانية وهي أن يكره كل منهما الآخر ويود فراقه، ويقول: إن المطلوب في هذه الحال الصبر لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فإن صبر أحدهما دون الآخر جاء الوجهان السابقان، وإن اتفقا على الفراق خوفا من الشقاق، ورضيت المرأة بأن تعطيه شيئا صدق عليها أنها هي الطالبة للفسخ، وجملة القول أنه لا يجوز للرجل أن يأخذ منها شيئا إلا برضاها واختيارها من غير إيذاء منه ولا مضارة، ويدل على هذا ما ورد في نزول الآية.
16. زعم بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بآية النساء التي لا استثناء فيها، ولا دليل على ذلك، والجمهور على خلافه.
17. هذا الفراق المبني على الافتداء يسمى الخلع، وقد اختلف فيه العلماء: هل هو طلاق أم فسخ؟ ولكل مذهب أدلة ليس التفسير بمحل لها، ويترتب على هذا الاختلاف في عده من الطلقات الثلاث أم لا، وفي عدة المختلعة، فالجمهور على أنها كعدة المطلقة، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي والنسائي والحاكم (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة) مثله حديث الربيع بنت معوذ عند الترمذي.
18. ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ أي: هذه الأوامر والنواهي هي حدود الله للمعاملة الزوجية فلا تتجاوزوها بالمخالفة ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الذين صار الظلم وصفا لازما لهم متمكنا من أنفسهم دون الملتزمين لها، والظلم آفة العمران ومهلك الأمم، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق في الإفساد، وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية؛ لأن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلافي الفطرة، فإذا فسدت الفطرة فسادا انتكث به هذا القتل، وانقطع هذا الحبل، فأي رجاء في الأمة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه؟ ثم إن هذا الظلم ظلم للنفس يؤدي إلى الشقاء في الآخرة، كما أنه مشق بطبيعته في الدنيا، وقد بلغ التراخي والانفصام في رابطة الزوجية لعهدنا هذا مبلغا لم يعهد في عصر من العصور الإسلامية، فأسرف الرجال في الطلاق، وكثر نشوز النساء وافتداؤهن من الرجال بالخلع، لفساد الفطرة في الزوجين، واعتداء حدود الله من الجانبين، وقد ورد في كراهة الطلاق في الشرع ما هو مشهور وورد مثله أيضا في طلب المرأة له كحديث ثوبان عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن جرير والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) فطلب الطلاق والخلع محظور في غير حال الضرورة المنصوصة في الآية، ولكنه يقع، قال البيضاوي: والجمهور استكرهوه ولكن نفذوه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/382.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان للعرب في جاهليتهم طلاق وعدة للمرأة ومراجعة في العدة، لكن لم يكن للطلاق حدّ ولا عدد، فإن كان الطلاق لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع زوجه واستقامت بينهما العشرة، وإن كان لمضارة الزوجة راجعها قبل انقضاء العدة، واستأنف طلاقا جديدا، وهكذا يفعل المرة تلو المرة أو يفيء وتسكن ثورة غضبه، فكانت المرأة ألعوبة في يد الرجل يضارها بالطلاق أنّى شاء، فلما جاء الإسلام أصلح مما أصلح من شئونهم الاجتماعية أمور الزوجية والطلاق والرجعة.
2. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أي إن التطليق الشرعي الذي حده الله للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدى الرجال هو مرتان: أي طلقتان تحلّ بكل منهما العصمة ثم تبرم، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر وعثمان وعلىّ وعبد الله ابن مسعود وأبو موسى الأشعري، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال له: (إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلّق لكل قرء تطليقة)، فالطلاق الذي يثبت للزوج فيه حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، أما بعد الطلقتين بأن وجدت الثلاث فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة، ولا تحل له المرأة إلا بعد زواج آخر.
3. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان، ويؤيد هذا حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داوود وغيره، أنه سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سمعت الله تعالى يقول: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فأين الثالثة؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: أو تسريح بإحسان، فقوله تعالى بعد هذا ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ بيان لهذا، فإن اختار التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له حتى تتزوّج زوجا غيره.
4. الخلاصة ـ إن الرجل إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها، يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أو طلقها قبل الدخول بها، فلا تحل له إلا بعقد جديد بإذنها، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تتزوّج زوجا غيره ويصبها.
5. الحكمة في إثبات حق الرجعة ـ أن الإنسان لا يحس بخطر النعمة وجليل قدرها إلا إذا فقدها، وربما ظهرت المحبة للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها، ويندم على ما فرط منه في شأنها ـ وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها، ولا تؤدى ما ينبغي للرجل من الحقوق والواجبات، فإذا هي طلقت تذكرت مصار خطئها، وأحست بما كان فيها من عيوب في المعاملات الزوجية والشئون المنزلية، وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها ـ فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذا فرصة في استدراك ما فات، والعمل على الطريق السوىّ فيما هو آت وقد يحدث أحيانا أن يرجع الرجل سيرته الأولى من المشاكسة والمغاضبة وسوء الخلق، أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانية فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى، ثم يرى أنه كان بما عمل في غواية وضلالة، وأنه لا يطيق البقاء بعيدا عنها، إذ أن أولاده لا تستقيم شئونهم إلا بوجودها فأبيح له العودة مرة أخرى، فإذا هو عاد الثالثة استبان أن رباط الزوجية قد وهن، وأن العشرة أصبحت في خطر، وأن بقاءهما زوجين ربما جرّ إلى ما لا تحمد عقباه من الإساءة إليها في نفسها أو في مالها أو في عرضها، فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة بعده، مع أدائه ما لها عليه من حقوق مالية، وفاء بحقوق العشرة السالفة التي كانت فيها المودة والرحمة بينهما، حين كان يسكن إليها وتسكن إليه، ومن ثم ينبغي له ألا يذكرها بسوء في نفسها أو في عرضها وعفتها حتى لا ينفر الناس منها إذا هي أرادت أن تتزوج بسواه، وفي هذا منتهى المروءة والوفاء لذلك الرباط الوثيق الذي كان بينهما، وحل الزوج وثاقه بطلاقها.
6. في هذا التشريع بذلك التدريج منتهي الرأفة والسجاحة في تلك الشئون الاجتماعية التي يترتب عليها صلاح الأسرة وحسن تهذيب الأولاد، وتثقيف عقولهم والحدب عليهم بإشراك الوالدين في تقويم المعوجّ وتعهدهما لهم بالرعاية الأبوية التي لن تكون كاملة إلا إذا قام كل من الوالدين بقسط منها.
7. بعد أن فرض سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرّم على الرجال أخذ شيء من مال المرأة فقال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ أي ولا يحل لكم أن تأخذوا منهنّ بإزاء الطلاق شيئا مما أعطيتموهنّ على سبيل التمليك مهرا كان أو غيره، بل يجب عليكم أن تمتعوهنّ بشيء من المال زائدا على ذلك كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾.
8. إنما نصّ سبحانه على ذلك وإن كان هذا يفهم من الأمر بالإحسان إليهن حين التسريح، لمزيد العناية بأمر النساء، وللتأكيد في تحذير الرجال الأقوياء من ظلم النساء الضعفاء وهضم حقوقهن كما تومئ إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ وهذا الحكم فيما إذا اختار الزوج الفراق ورغب عنها، فإن كانت هي الطالبة لفراقه وتوسلت إلى ذلك بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها، لا لمضارته إياها فلا جناح عليه فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب جناه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ ألا يقيما أي ألا يراعيا، وحدود الله هي أحكامه التي شرعها للزوجين من حسن العشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل عليها، والتعاون على القيام بتدبير المنزل وتربية الأولاد بما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، وعدم المضارة التي أشار إليها بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾، فإن خافا ذلك بأن خافت المرأة أن تعصى الله في أمر زوجها بأن تجحد نعمة العشرة أو تخونه، أو خاف الرجل أن يزيد على ما شرعه الله في مؤاخذة الناشز، فالحكم ما ذكره بقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ الآيةطاب في مثل هذا للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة، وأولو الأمر هم المطالبون أولا بالقيام بهذه المصالح، والحكام وسائر الناس رقباء عليهم، أي إذا خافا عدم إقامة حدود الله التي سنها للزوجين فلا إثم عليهما فيما تعطيه المرأة للرجل لتفتدي به نفسها وتطلق منه، ولا على الرجل في أخذه لأجل ذلك، لأنه برضاها واختيارها بدون إكراه منه ولا مضارة لها بل هي الحافزة عليه.. وهذا الفراق الذي يبنى على الافتداء يسمى خلعا وعدّته كعدة المطلقة.
9. ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ أي هذه الأوامر والنواهي المتقدمة هي الحدود التي حدها الله في المعاملات الزوجية، فلا تتجاوزوا ما أحله لكم إلى ما حرمه عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه.
10. ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما لا ينبغي فعله، والظلم مخرّب للعمران، مبيد للأمم، ولا سيما ظلم الأزواج للأزواج، إذ الرابطة التي بينهما أمتن الروابط وأحكمها، فأي رجاء في الأمة إذا انحلت فيها عرا تلك الرابطة، وهى أشد الروابط تماسكا.
11. إنا لنشاهد الآن ما يدمى له القلب أسى وحسرة من انفصام روابط الزوجية بحال لم تعهد في أي عصر من عصور الإسلام، إذ هتك النساء حجاب الصيانة والحياء، وأسرفن في التبرّج والاختلاط بالرجال، وكثر الطلاق، وقلّ الزواج، وعمت الشكوى من هذه الفوضى الخلقية، ونبذ آداب الدين والفضيلة، وشعر العقلاء بسوء المغبة بعد أن فاتت الفرصة، وندموا ولات ساعة مندم.
12. جاء في السنة الحث على ترك الطلاق، وحظره في غير ضرورة، فمن ذلك حديث ثوبان عند أحمد والترمذي والبيهقي قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)، وقال: المختلعات هنّ المنافقات)
__________
(1) تفسير المراغي: 2/170.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحكم التالي يختص بعدد الطلقات، وحق المطلقة في تملك الصداق، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق، إلا في حالة واحدة: حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه، وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها.
2. الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان، فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق، وهو أن تنكح زوجا غيره، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقا طبيعيا لسبب من الأسباب، ولا يراجعها فتبين منه.. وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد، إذا ارتضته زوجا من جديد.
3. ورد في سبب نزول هذا القيد، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات، فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها، ثم يطلقها ويراجعها، هكذا ما شاء.. ثم إن رجلا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه، فقال: والله لا آويك ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك؟ قال أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك، فذكرت ذلك للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عزّ وجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾..
4. حكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها.. حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو، ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة، وتنشئ حلولا مستمدة من تلك الأصول الشاملة.
5. هذا التقييد جعل الطلاق محصورا مقيدا؛ لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلا، فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر، فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه؛ ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين، فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها، فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوج آخر، ثم يقع لسبب طبيعي أن يطلقها، فتبين منه لأنه لم يراجعها، أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق، فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول.
6. إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا، فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير، فإن صلحت الحياة بعدها فذاك، وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة.
7. على أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجا أخيرا لعلة لا يجدي فيها سواه، فإذا وقعت الطلقتان: فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء، وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.
8. هذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه، ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال! ولا يحل للرجل أن يسترد شيئا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها، ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية؛ وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب، فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدّي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال، وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.
9. لكي نتصور حيوية هذا النص ومداه، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم، روى مالك في كتابه: الموطأ.. أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خرج في الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من هذه؟) قالت: أنا حبيبة بنت سهل! فقال: (ما شأنك؟) فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس ـ لزوجها ـ فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر).. فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (خذ منها) فأخذ منها وجلست في أهلها(2).
10. مجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة؛ وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها، فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية؛ ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية.
11. ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه، جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين: في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم، ورد تعقيب: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.. وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾.. في الأولى تحذير من القرب، وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلما ذا كان الاختلاف؟
أ. في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.. والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية، فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها!
ب. أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات، فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها، فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة، بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/248.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى الأسلوب الذي يتم به الانفصال بين الزوجين، وإنهاء الحياة الزوجية بينهما! إنه كان لا بد أن يشرّع الإسلام لهذه العلاقة التي كانت قائمة بين الزوجين، ثم طرأ عليها ما يجعل بقاءها غير ممكن، لسبب أو لأكثر من سبب! وذلك ما تسميه الشريعة الإسلامية (الطلاق).
2. الطلاق: مشتق من الإطلاق، وهو ضد الإمساك والحبس..! وهذا يعنى أنه عمل فيه خلاص وفكاك من ضيق، ونجاة وعافية من بلاء.. وذلك حين تصبح الحياة الزوجية ـ لسبب أو لأكثر، من جهة الزوج أو الزوجة أو منهما معا ـ ثقيلة ثقل العلة القاتلة، بغيضة بغض العدو المقيم!
3. عجيب أن ينكر بعض السفهاء على شريعة الإسلام هذا التدبير الحكيم، ويرميها ـ زورا بهتانا ـ أنها تحمل للناس هذا السلاح الذي يفصم عرى الزوجية، ويقطع أوصالها.. وذلك قطع لما أمر الله به أن يوصل! وبمفهوم هذا السفه الجهول علا صراخ بعض المتهوسين من الرجال والنساء ـ في المجتمع الإسلامي ـ ممن يحملون ـ كذبا وادعاء ـ رايات الإصلاح، ويدّعون ـ زورا وبهتانا ـ أنهم صوت العصر، ووجه المدنية والحضارة! نعم، علا صراخ هؤلاء المتهوسين من الرجال والنساء، يتهمون الشريعة الإسلامية، بأنها تفرض على المرأة في القرن العشرين، أسلوب الحياة البادية في عصر الجاهلية الأولى، إذ تعطى الرجل هذا الحق الذي يتحكم به في حياة المرأة بكلمة واحدة، يرسلها من فمه؛ فإذا هي بالعراء، منبوذة نبذ النواة، وإذا هذا العش الذي كانت تأوي إليه، وتجد فيه السكن والاستقرار قد عصفت به عاصفة مدمرة، فذهبت به، وبددت شمله الجميع! وكذبوا وضلّوا! فما جاءت شريعة الإسلام هنا إلا بالدواء الناجع، والرحمة الراحمة لحياة مريضة، وداء عضال، لا يجد أصحابه للحياة طعما، ولا للراحة سبيلا..!
4. إن الشريعة الإسلامية لم تفرض الطلاق فرضا، ولم تجعله واجبا يؤديه الرجال ابتغاء المثوبة والرضوان.. بل هو في شريعة الإسلام أمر كريه مبغّض، لا يجيئه المرء إلا مكرها، ولا يلجأ إليه إلا مضطرا.. وحسبه شناعة وضلالا أن يقول فيه النبي الكريم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، فالأصل في شريعة الإسلام أن تقوم الحياة الزوجية بين الزوجين على أساس الاستمرار والدوام إلى آخر العمر المقدّر لها.. ما دامت الحياة تجرى بهما في مجراها الطبيعي، وما دام الوفاق والإلف بينهما قائما.. وليس يعقل ـ والأمر كذلك ـ أن تجيء شريعة ـ سماوية أو وضعية ـ فتدعو إلى الفرقة بين الزوجين، ولو فعلت ـ ولن تفعل ـ لما وجدت من يسمع أو يجيب! ولكن هل من طبيعة الحياة أن تلزم الأزواج ـ في جميع الأحوال، وعلى امتداد الأزمان ـ أن يجمعهما الوفاق وألا يقع بينهما خلاف، وألا يتحول هذا الخلاف إلى عداوة، ثم لا تكون هذه العداوة جحيما يحترق به الزوج والزوجة معا؟ وإذا كانت الحياة بين الأزواج والزوجات ـ في غالبيتها وعمومها ـ تسير في مجرى طبيعي من مبدئها إلى نهايتها، فهل يمنع هذا من أن تكون هناك ـ وفى أعداد غير قليلة ـ علاقات زوجية مفككة الأوصال، واهية العرى، تنعقد على سمائها سحابات ممطرة دائما بشتى الآلام وصنوف العذاب؟
5. إن ذلك أمر واقع لا ينكره أحد، حتى أولئك الذين يصرخون في وجه الشريعة الإسلامية، من غير المسلمين أو المحسوبين على الإسلام، وينددون بأحكام الطلاق فيها.. وإن كثيرا منهم ـ من رجال ونساء ـ عاشوا في هذه التجربة، أو هم يعيشون فيها، ولكنهم مع هذا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم! ونسأل: ماذا يكون الرأي والتدبير في أمر هذا الخلاف الذي يقع بين زوجين، فيحيل حياتهما على هذا النحو الذي رأيناه؟ أيتركان هكذا يكيد كل منهما كيده لصاحبه؟ أيقطعان الحياة معا في هذا الصراع الظاهر والخفي، حتى يقضى أحدهما على صاحبه؟ وما ذا يظن بأخوين استحكم بينهما الشر فالتقيا بسيفيهما، يريد كل منهما أن يقتل الآخر، وهما في مكان مطبق عليهما وليس لهما من منفذ ينفذان منه؟ إنه لا بد أن تقع الجريمة، وتزهق روح أو روحان! وشواهد هذا كثيرة في محيط الجماعات التي حرّمت الطلاق.. فما أكثر المآسي والفواجع، وما أكثر الويلات والمصائب التي امتدت آثارها فجاوزت الأزواج إلى المجتمع كله، وأشاعت فيه الفساد والانحلال، وأقامت الحياة الزوجية على دخل وفساد ونفاق! وما كان لشريعة الإسلام ـ وقد جاءت لتسع الحياة الإنسانية كلها، في امتداد أزمانها ـ ما كان لشريعة الإسلام ـ وتلك رسالتها ـ أن تغمض العين عن هذا الواقع من الحياة، وأن تدع داء كهذ الداء يأكل الناس في غير مرحمة، ويقيم في المجتمع صداعا حادا تتصدع به الأخلاق، وتفسد معه الضمائر، وتروج به سوق الكذب والنفاق! فكان عن تدبير الشريعة الإسلامية الحكيم أن رصدت لهذا الداء الذي يدخل على الحياة الزوجية ويفسد المشاعر التي بين الزوجين ـ الدواء الناجع، وهو فصم تلك الحياة بالطلاق، وإطلاق كل من الزوجين من هذا الوثاق الذي يشدّهما، والذي كان يوما ما داعية بهجة ومسرة، فأصبح سبب عذاب وبلاء! إن (الطلاق) شرّ.. ولكنه شر لا بد منه، إذ يدفع به ما هو أكثر منه شرا.. والشرّ حين يدفع به شر أعظم منه يكون رحمة، ونعمة! وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال.
6. هكذا ينظر الإسلام إلى الطلاق.. إنه أمر مكروه، ولكنه مع كراهيته قد يركبه المرء مضطرا ليسلم، ولو بفقد عضو عزيز عليه من أعضائه! يقول نبيّ الإسلام صلوات الله وسلامه عليه: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) فهومع أنه رخصة ـ بغيض كريه، لا يقدم عليه المرء إلا مضطرا، ولا يتناوله إلا مكرها، شأنه في هذا شأن المحرمات التي أباحتها الشريعة في أحوال الاضطرار، كالخمر، والميتة والدم، ولحم الخنزير، وغير ذلك مما تتقذره النفس وتعافه ـ فإنه عند المخمصة، وتعرض الإنسان للهلاك، قد أبيح أكلها، والأخذ منها بالقدر الذي يحفظ الحياة، ويدفع التلف.. والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
7. ذلك هو (الطلاق) في شريعة الإسلام، دواء مرّ، يطبّ به لداء موجع، وطعام خبيث، يدفع به جوع قاتل! وإذا كان بعض الجاهلين والحمقى، وذوى الجرأة على دين الله، قد ترخّصوا في هذه الرخصة، واستخفوا بأمر الله فيها، فجاوزوا الحدود، واستباحوا الحرام في غير اضطرار، فليس ذلك بالذي يحسب على الإسلام ولا بالذي يشوّه من جلال أحكامه، وينال من حكمة شريعته.. فالتشريع شيء، والمشرّع له شيء آخر إذ ليس هناك من قوة تحجز الناس عن مخالفة الشرع، ومجاوزة حدوده! ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
8. إنّ أكثر الذين ينظرون إلى (الطلاق) وتعلوا صيحاتهم في وجهه، لا ينظرون إليه في الشريعة التي حملته وحددت حدوده، ورسمت معالمه، وإنما ينظرون إلى من جهلوه، أو تجاهلوه، فعبثوا به، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فطلقوا في غير حرج أو تأثم، وفى غير اضطرار لدفع بلاء، والتماس نجاة وعافية!.
9. نبهت الشريعة في أكثر من موضع إلى قداسة الحياة الزوجية وحرمتها، وعملت على تغذية المشاعر الإنسانية بين الزوجين، بآدابها وأحكامها، وجعلت من الزوجين كيانا واحدا، يغتذى من نبع واحد، هو المودة والرحمة.. فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾
10. ويتجه الإسلام إلى الأزواج الذين في أيديهم عقدة النكاح فيدعوهم إلى الصبر والأناة، واحتمال ما يقع من مكروه في الحياة الزوجية، رجاء أن ينجلي هذا المكروه، وتنقشع سحبه، ويعود إلى الحياة الزوجية صفاؤها، وجمالها، بل ربما كان هذا المكروه هو ضرورة لازمة لتلك الحياة، حيث تنصر فيه الآلام، وتشتد العزائم، وينكشف لكلا الزوجين معدن صاحبه، وربما تكشف عن جوهر نفيس، كان خافيا في ظلال هذه الحياة الساكنة، فلما ماجت أمواجها بين مد وجزر، ظهر ما كان يكمن في أطواء النفس من خير كثير.. وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا الأزواج في شأن النساء: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، فأي عدل بعد هذا العدل؟ وأي رحمة بعد تلك الرحمة؟ في هذا التشريع السماوي الذي لا تقوم الحياة الزوجية على دعائم سليمة إلا إذا كانت تلك الشريعة شأنا من شئونها، وحالا من أحوالها، ودواء عتيدا، يستطبّ به عند الحاجة، ويؤخذ منه بالقدر المطلوب.. جرعة، جرعة، فإن ذهب هذا الدواء بالداء في المرة الأولى، لزم التوقف والإمساك، وإلا كانت الجرعة الثانية، فإن كان فيها الشفاء، وإلا فالثالثة، ولا بعدها! فقد عظم الداء ولا أمل في الشفاء! وقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ بيان لإجراء عملية الطلاق.
11. كلمة الطلاق: لفظ ينطق به الزوج في مواجهة الزوجة أو بعلمها به علما متيقنا نافيا للظن، مرادا به فصم عرا الزوجية.. وكل لفظ يؤدى هذا المعنى هو طلاق.. أما إذا وقع على غير تلك الصورة فلا يعتدّ به، ولا يحمل على محمل الجدّ في فصم علاقة أراد الله لها الاستقرار والتمكين.
12. ثم هو (مرّتان) أي عمليتان، أو عملية على مرحلتين.. ومن هنا كان القول بالطلاق جملة في لفظة واحدة، قولا بعيدا عن منطوق الآية، مجانبا الصواب والحكمة اللذين هما مناط كل حكم من أحكام الشريعة، ولفظ (مرّتان) دال دلالة صريحة في منطوقه ومفهومه على التكرار، مرّة ثم مرة.. وإذا طلق الرجل للمرّة الأولى، فإنه يدخل في تجربة نفسية وروحية وجسدية لأول مرة في حياته مع المرأة التي اتخذ هذا القرار بشأنها.
13. فى هذه التجربة تعرض له خواطر وصور، وربما امتد نظره فرأى طريقه موحشا مقفرا بغير هذا الرفيق الذي كان يصحبه، وهنا كان من حكمة التشريع أن أعفاه من مغبة هذه التجربة، فجعلها له، يتعرف بها على ما هو مقدم عليه، فيقدم أو يحجم، بعد اختبار وتجربة.. وللمرأة ما للرجل في هذه التجربة، إذ تعرف حالها بعد هذا الموقف، وتدبر أمرها على ضوئه، وربما كان في سلوكها وعنادها ما حمل الزوج على أن يقدم على هذا الذي أقدم عليه، فتراجع نفسها، وتصلح من أمرها، وتسترضى زوجها.. فيكون الوفاق والوئام!.
14. للمرأة والرجل معا خير كثير في هذه المهلة، ذلك أنه إذا لم يكن عندهما من الرأي والحكمة ما يجمعهما على الوفاق، كان في نصح الناصحين لهما من الأهل والأقارب والأصدقاء، ما يبصرهما بالخير، ويكشف لهما ما غاب عنهما من رشد، وما عزب من رأى.
15. هذه مرحلة أولى، من مراحل الطلاق، وللرجل أن يراجع زوجه خلال فترة العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة بانت منه زوجه بينونة صغرى، وصارت المرأة أجنبية عنه، لا تحلّ له إلا بعقد ومهر جديدين، برضاها أو رضى وليّها.
16. سواء أعاد الرجل زوجه إليه بالمراجعة، أو بعقد ومهر جديدين، فقد حسبت عليه تطليقة.. فإذا عاد الرجل وطلق هذه الزوجة مرة أخرى.. كان له أن يراجعها ما دامت في العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة صارت المرأة أجنبية عنه، وكان له أن يعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، وبرضاها أو رضا وليها أيضا.. وحسبت عليه تطليقة أخرى.. أي أنه يكون في تلك الحال قد أوقع على زوجه تلك، تطليقتين! وهنا تصبح الحياة الزوجية بينهما واقعة تحت الحكم الوارد في قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.. حيث كان ما جرى بين الزوجين غاية ما يمكن أن يصلح به شأنهما، إن كان هناك سبيل للإصلاح والاستقرار! بمعنى أنه إذا طلق الزوج زوجه هذه، بعد ذلك، كان هذا الطلاق خاتمة المطاف في تلك الدورة للحياة الزوجية بينهما، وتصبح المرأة بمجرد وقوع هذا الطلاق محرّمة عليه، بائنة بينونة كبرى، فلا تحل له، حتى تنكح زوجا غيره ثم يطلقها ذلك الزوج، أو يموت عنها، وتنتهى عدتها وهذا ما يقرره قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ الآية) والمراد بالطلقة هنا، الطلقة الثالثة.
17. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى الطريق الذي يسلكه أولئك الذين تنتهى حياتهم الزوجية بالطلاق ـ بيّن أسلوب العمل في تسوية ما بين الزوجين من علاقات مادية، كانت قائمة بحكم الرابطة الزوجية بينهما، فهناك المهر الذي قدّمه الرجل للمرأة، وهو ملك خالص للمرأة للدخول بها، ولا يحق للرجل أن يسألها شيئا منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ ولكن قد تكون المرأة متضررة بالحياة الزوجية، كارهة لها، غير محتملة أعباءها، والرجل حريص عليها، محبّ لها.. هو يريدها وهى لا تريده، وأما وقد أصبحت الحياة الزوجية على هذا الوضع المضطرب القلق، وأما والمرأة هي صاحبة المصلحة المحققة في قطع هذه الحياة الزوجية، فإنه لا بأس من أن تفتدى نفسها بشيء مما في يدها من المهر الذي قدمه الزوج لها.. وفى هذا الذي يأخذه الرجل منها، تعويض له عن بعض ما ذهب منه، على حين تنال المرأة خلاصها، وتدير وجهها على الوجه الذي تحب.. وهذا ما يشير إليه الاستثناء الوارد على الحكم في قوله تعالى: ﴿تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾.. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، والحياة الزوجية المضطربة لا يمكن أن تظل هكذا وتقام فيها حدود الله.
18. إنه لا جناح على كل من الرجل والمرأة أن يتصالحا على فدية تقدمها المرأة ليفصما بها علائق الزوجية وهذا ما يسمّى بالخلع، وعلى هذا فإنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق، وأن تجاب إلى هذا الطلب إذا نزلت للزوج عن مهرها، وقد طلق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (جميلة) امرأة الصحابي الجليل (قيس بن ثابت).. ففي الحديث أن جميلة امرأة قيس بن ثابت جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أجد في قيس بن ثابت عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقي مجاراته) فقالت: نعم.. فأمر النبي بردّ الحائط إلى قيس بن ثابت، وتطليقها!
19. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ تنبيه إلى أن هذه الأحكام قائمة داخل حدود الله، وأن التزامها واجب، وأن مجاوزتها هو عدوان عليها.. ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/263.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1): 229]
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة: 228] وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228] فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقا كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة: منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: 228] ولما كان أمر العرب في الجاهلية جاريا على عدم تحديد نهاية الطلاق، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعا لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه(2).
2. التعريف في قوله (الطلاق) تعريف الجنس على ما هو المتبادر في تعريف المصادر وفي مساق التشريع، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275] وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ [البقرة: 227] وهذا التعريف هو الذي أشار الزمخشري إلى اختياره، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفا في قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: 228] فإنه الطلاق الأصلي، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته، إلّا الطلقة الواقعة ثالثة، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعد وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة بعد أن تلاعنا، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها، وحذف وصف الطلاق، لأن السياق دال عليه، فصار التقدير: الطلاق الرجعي مرتان، وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان، فعلم أن التقدير: حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعيّة، وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذكر المرتين: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ وقوله بعده: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] الآية وقد روي مثل هذا التفسير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: روي أبو بكر بن أبي شيبة: (أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال أرأيت قول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، وسؤال الرجل عن الثالثة، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكما معروفا إما من السنة وإما من بقية الآية، وإنما سأل عن وجه قوله ﴿مَرَّتَانِ﴾ ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق، باعتبار حصوله من فاعله، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آئلا إلى معنى التطليق، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم.
3. ﴿مَرَّتَانِ﴾، تثنية مرة، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها أو مضافها، فهي لا تقع إلا جارية على حدث، بوصف ونحوه، أو بإضافة ونحوها، وتقع مفردة، ومثناة، ومجموعة، فتدل على عدم تكرر الفعل، أو تكرر فعله تكررا واحدا، أو تكرره تكررا متعددا، قال تعالى: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: 101] وتقول العرب (نهيتك غير مرة فلم تنته) أي مرارا، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان، ألا ترى أنك تقول: أعطيتك درهما مرتين، إذا أعطيته درهما ثم درهما، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين، بخلاف قولك أعطيتك درهمين، فقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ يفيد أن الطلاق الرجعي شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين، مرة عقب مرة أخرى لا غير، فلا يتوهم منه في فهم أهل اللسان أن المراد: الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها، مدفوعين بأفهام مولدة، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في (الكشاف).
4. يجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: 228] فيكون كالعهد في تعريف الذّكر في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36] فإنه معهود مما استفيد من قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ [آل عمران: 35].
5. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ جملة مفرعة على جملة ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر، لا في وجود الحكم، و(إمساك) خبر مبتدأ محذوف تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح على طريقة ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: 18] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان، أي دون ضرار في كلتا الحالتين، وعليه فإمساك وتسريح مصدران، مراد منهما الحقيقة والاسم، دون إرادة نيابة عن الفعل، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة، وفي حال تركها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرارا بها، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ الآية.
6. يجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله، وأصلهما النصب، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69] وقد مضى أول سورة الفاتحة، فيكون مفيدا معنى الأمر بالنيابة عن فعله، ومفيدا الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين، والتقدير فأمسكوا أو سرحوا، فتبين أن الطلاق حدد بمرتين، قابلة كل منهما للإمساك بعدها، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتئوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق، عن غضب أو عن ملالة، كما قال تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1] وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ [البقرة: 231] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام، وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين، إدماجا للإرشاد في أثناء التشريع، وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع.
7. الإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة، والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.
8. المعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام، وهو يناسب الإمساك لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة، وغير ذلك، فهو أعم من الإحسان، وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 49] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن ورياشهن، ويكثرون الطعن فيهن قال ابن عرفة في (تفسيره): (فإن قلت هلا قيل فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف قلت عادتهم يجيبون بأن المعروف أخف من الإحسان إذ المعروف حسن العشرة وإعطاء حقوق الزوجية، والإحسان ألا يظلمها من حقها فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن المعاشرة فجعل المعروف مع الإمساك المقتضي دوام العصمة، إذ لا يضر تكرره وجعل الإحسان الشاق مع التسريح الذي لا يتكرر).
9. أخذ قوم من الآية منع الجمع بين الطلاق الثلاث في كلمة، بناء على أن المقصود من قوله ﴿مَرَّتَانِ﴾ التفريق وسنذكر ذلك عند قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ [البقرة: 230] الآية.
10. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، يجوز أن تكون الواو اعتراضية، فهو اعتراض بين المتعاطفين، وهما قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ وقوله ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ ويجوز أن تكون معطوفة على ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ لأن من إحسان التسريح ألا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضا عن الطلاق، وهذه مناسبة مجيء هذا الاعتراض، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به، فالزوج يقف عن أخذ المال، وولي الأمر يحكم بعدم لزومه، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهى (وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين) وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ [النساء: 5] وإليه أشار الزمخشري، وقال ابن عطية والقرطبي والزمخشري: الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ للأزواج بقرينة قوله: ﴿أَنْ تَأْخُذُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ والخطاب في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ للحكام، لأنه لو كان للأزواج لقيل: فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما، قال في (الكشاف): (ونحو ذلك غير عزيز في القرآن) يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في (الكشاف) بقوله تعالى في سورة الصف [13] ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على رأي الزمخشري، إذ جعله معطوفا على ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفا على الخطابات العامة للأمة، وإن كان التبشير خاصا به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، لأنه لا يتأتى إلا منه، وأظهر من تنظير الزمخشري أن تنظره بقوله تعالى فيما يأتي: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: 232] إذ خوطب فيه المطلّق والعاضل، وهما متغايران.
11. الضمير المؤنث في ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ راجع إلى ﴿الْمُطَلَّقاتُ﴾، المفهوم من قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ لأن الجنس يقتضي عددا من المطلقين والمطلقات، وجوز في (الكشاف) أن يكون الخطاب كله للحكام وتأول قوله تعالى: ﴿أَنْ تَأْخُذُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنه الزمخشري وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحكام فبطل هذا الوجه، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به، واستعمال الحل والحرمة في هذا المعنى وضده قديم في العربية، قال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلت له...حرمت على وليتها لم تحرم
وقال كعب:
إذا يساور قرنا لا يحل له...أن يترك القرن إلا وهو مجدول
12. جيء بقوله تعالى: ﴿شَيْئًا﴾ لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام، تحذيرا من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالا أو نحوه، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في (دلائل الإعجاز)، وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155].
13. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة، فالفعل مسند للفاعل، والضمير عائد إلى المتخالعين المفهومين من قوله تعالى: ﴿أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ وكذلك ضمير ﴿يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا﴾ وضمير ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما، وقرأ حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين؛ والتقدير: إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله.
14. الخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن، ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175] وترادفه الخشية، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد، قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ وقال الشاعر يهجو رجلا من فقعس أكل كلبه واسمه حبتر:
يا حبتر لم أكلته لمه...لو خافك الله عليه حرمه
وخرج ابن جني في (شرح الحماسة)، عليه قول الأحوص فيها على أحد تأويلين:
فإذا تزول تزول على متخمط...تخشى بوادره على الأقران
15. حذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية، وقد قال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.
16. إقامة حدود الله فسرها مالك بأنها حقوق الزوج وطاعته والبرّ به، فإذا أضاعت المرأة تلك فقد خالفت حدود الله.
17. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ رفع الإثم عليهما، ويدل على أن باذل الحرام لآخذه مشارك له في الإثم، وفي حديث ربا الفضل (الآخذ والمعطي في ذلك سواء)
18. ضمير ﴿افْتَدَتْ بِهِ﴾ لجنس المخالعة، وقد تمحض المقام لأن يعاد الضمير إليها خاصة؛ لأن دفع المال منها فقط، وظاهر عموم قوله تعالى: ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أنه يجوز حينئذ الخلع بما زاد على المهر وسيأتي الخلاف فيه.
19. لم يختلف علماء الأمة أن المراد بالآية أخذ العوض على الفراق، وإنما اختلفوا في هذا الفراق هل هو طلاق أو فسخ؟
أ. فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ولا يكون إلا بائنا؛ إذ لو لم يكن بائنا لما ظهرت الفائدة في بذل العوض، وبه قال عثمان وعلي وابن مسعود والحسن وعطاء وابن المسيب والزهري ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشعبي والنخعي ومجاهد ومكحول.
ب. وذهب فريق إلى أنه فسخ، وعليه ابن عباس وطاووس وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل، وكل من قال إن الخلع لا يكون إلا بحكم الحاكم، واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال مرة هو طلاق؛ وقال مرة ليس بطلاق، وبعضهم يحكي عن الشافعي أن الخلع ليس بطلاق إلا أن ينوي بالمخالفة الطلاق.
20. الصواب أنه طلاق لتقرر عصمة صحيحة، فإن أرادوا بالفسخ ما فيه من إبطال العصمة الأولى فما الطلاق كله إلا راجعا إلى الفسوخ، وتظهر فائدة هذا الخلاف في الخلع الواقع بينهما بعد أن طلق الرجل طلقتين، فعند الجمهور طلقة الخلع ثالثة فلا تحل لمخالعها إلا بعد زوج، وعند ابن عباس وأحمد بن حنبل وإسحاق ومن وافقهم: لا تعد طلقة، ولهما أن يعقدا نكاحا مستأنفا.
21. تمسك بهذه الآية سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وزياد بن أبي سفيان، فقالوا: لا يكون الخلع إلا بحكم الحاكم لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، والجمهور على جواز إجراء الخلع بدون تخاصم، لأن الخطاب ليس صريحا للحكام وقد صح من عمر وعثمان وابن عمر أنهم رأوا جوازه بدون حكم حاكم.
22. الجمهور على جواز أخذ العوض على الطلاق إن طابت به نفس المرأة، ولم يكن عن إضرار بها، وأجمعوا على أنه إن كان عن إضرار بهن فهو حرام عليه، فقال مالك إذا ثبت الإضرار يمضي الطلاق، ويرد عليها مالها، وقال أبو حنيفة: هو ماض ولكنه يأثم بناء على أصله في النهي، إذا كان لخارج عن ماهية المنهي عنه، وقال الزهري والنخعي وداوود: لا يجوز إلا عند النشوز والشقاق.
23. الحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع، وأكده بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ ثم بالوعيد بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس؛ إذ قالت له يا رسول الله لا أنا ولا ثابت، أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم (أتردين عليه حديقته التي أصدقك) قالت (نعم وأزيده) زاد في رواية قال: أما الزائد فلا.
24. أجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع، ألا يرى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4] هكذا أجاب المالكية كما في (أحكام ابن العربي)، و(تفسير القرطبي)، وعندي أنه جواب باطل، ومتمسك بلا طائل، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا، فهو تعسف وصرف للكلام عن وجهه، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ فهذا نكرة في سياق النفي، أي لا يحل أخذ أقل شيء، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ ففيه منطوق ومفهوم، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ ففيه كذلك، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة والحال والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز، كالاستثناء والشرط، وأما الاحتجاج للجواز بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾ فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق، فإن ضمير ﴿مِنْهُ﴾ عائد إلى الصدقات، لأن أول الآية ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾ [النساء: 4] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح.
25. اختلفوا في جواز أخذ الزائد على ما أصدقها المفارق:
أ. فقال طاووس وعطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد: لا يجوز أخذ الزائد، لأن الله تعالى خصه هنا بقوله تعالى: ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ واحتجوا بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لجميلة لما قالت له: أرد عليه حديقته وأزيده (أما الزائد فلا) أخرجه الدار قطني عن ابن جريج.
ب. وقال الجمهور: يجوز أخذ الزائد لعموم قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ واحتجوا بما رواه الدار قطني عن أبي سعيد الخدري أن أخته كانت تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فوقع بينهما كلام فترافعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لها (أتردين عليه حديقته ويطلقك) قالت: نعم وأزيده، فقال لها (ردي عليه حديقته وزيديه)، وبأن جميلة لما قالت له: وأزيده لم ينكر عليها، وقال مالك: ليس من مكارم الأخلاق ولم أر أحدا من أهل العلم يكره ذلك أي يحرمه، ولم يصح عنده ما روي (أما الزائد فلا)
26. الحق أن الآية ظاهرة في تعظيم أمر أخذ العوض على الطلاق، وإنما رخصه الله تعالى إذا كانت الكراهية والنفرة من المرأة من مبدأ المعاشرة، دفعا للأضرار عن الزوج في خسارة ما دفعه من الصداق الذي لم ينتفع منه بمنفعة؛ لأن الغالب أن الكراهية تقع في مبدأ المعاشرة لا بعد التعاشر، فقوله تعالى: ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ ظاهر في أن ذلك هو محل الرخصة، لكن الجمهور تأولوه بأنه هو الغالب فيما يجحف بالأزواج، وأنه لا يبطله عموم قوله تعالى: ﴿فِيمَا افْتَدَتْ﴾ وقد أشار مالك بقوله: ليس من مكارم الأخلاق إلى أنه لا يراه موجبا للفساد والنهي؛ لأنه ليس مما يختل به ضروري أو حاجي، بل هو آيل إلى التحسينات، وقد مضى عمل المسلمين على جوازه.
27. اختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فالجمهور على أنها محكمة، وقال فريق: منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء [20] ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني، وهو قول شاذ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته، فيحرم عليه أن يفارقها، ثم يزيد فيأخذ منها مالا، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية.
28. جملة ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ معترضة بين جملة ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ وما اتصل بها، وبين الجملة المفرعة عليها وهي ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ الآية، ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبيينا؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله.
29. حدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس، لأن الأحكام الشرعية، تفصل بين الحلال والحرام، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام، وما هم عليه بعده.
30. الإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد، يقال: أقام حدا لأرضه، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعا لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.
31. جملة: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ تذييل وأفادت جملة ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ حصرا وهو حصر حقيقي، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.
32. اسم الإشارة من قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ مقصود منه تمييز المشار إليه، أكمل تمييز، وهو من يتعدى حدود الله، اهتماما بإيقاع وصف الظالمين عليهم.
33. أطلق فعل ﴿يَتَعَدَّ﴾ على معنى يخالف حكم الله ترشيحا لاستعارة الحدود لأحكام الله، وهو مع كونه ترشيحا مستعار لمخالفة أحكام الله؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود، وفي الحديث: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)
34. أمر الله بهذا الحكم(3)، مرتبا على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظا، أو تأكيدا، أو كذبا لأن ذلك ليس طلاقا بعد طلاقين، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى، لا تصير ثانية، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر، كما ورد في كتب الصحيح: (الموطأ) وما بعده، عن ابن عباس، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثا في كلمة، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي، أنه طلق امرأته ثلاثا في كلمة واحدة فسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال له: إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها، ثم إن عمر بن الخطاب في السنة الثالثة من خلافته حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال: أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
35. اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة، فقال الجمهور: يلزمه الثلاث أخذا بما قضى به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان، يلزم المكلف فيها ما التزمه، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد، ولكنه قضى بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته.
36. قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وطاووس والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس: منهم محمد بن زنباع، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني، فقيه عصره بقرطبة، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل، وقال ابن تيمية من الحنابلة: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر، واحتجوا بحجج كثيرة:
أ. أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول، فإذا قال الرجل لامرأته: هي طالق طلاقا ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك، قال ابن عباس: (وهل هو إلا كمن قال قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذبا).
ب. الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيره إياه، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق الرجعة، قال ابن رشد الحفيد في (البداية) (وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].
ج. الثالثة قال ابن مغيث: إن الله تعالى يقول: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وموقع الثلاث غير محسن، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى، وقد يخرّج هذا بقياس على غير مسألة في (المدونة): من ذلك قول الإنسان: ما لي صدقة في المساكين قال مالك يجزئه الثلث.
د. الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في (الصحيحين) (كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة)، وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاووس وقد روى بقية أصحاب ابن عباس عنه أنّه قال من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه زوجه، وهذا يوهن رواية طاووس، فإن ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه، حتى قال ابن عبد البر رواية طاووس وهم وغلط، وعلى فرض صحتها، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر (إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة) فلو كان ذلك واقعا في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر إنهم استعجلوا ولا عابه عليهم، وهذا جواب ضعيف، قال أبو الوليد الباجي: الرواية عن طاووس بذلك صحيحة.. وأقول: أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر (فلو أمضيناه عليهم) فإن كان إمضاؤه عليهم سابقا من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله: (فلو أمضيناه عليهم) وإن لم يكن إمضاؤه سابقا بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال.
هـ. الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثا في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال له: إنما هي واحدة أو إنما تلك واحدة فارتجعها، وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب؛ لأنه روي أن ركانة طلق، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثا وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا وقال: أردت واحدة فاستحلفه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وهو جواب واه لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث، ولا قائل من الجمهور بالتوجيه فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة.
و. السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثا ولا شك أن معناه ثلاثا في كلمة، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط، وهذا دليل ضعيف جدا لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك (الموطأ) و(صحيح البخاري) و(مسلم)، والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثا.
37. ذهب مقاتل وداوود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع طلاقا بالمرة، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرّق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن، ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريبا، لولا أن الفساد لا يعتري الفسوخ، وهذا مذهب شاذ وباطل، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به، وكيف لا يقع طلاقا وفيه لفظ الطلاق.
38. ذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثا في كلمة يقع طلقة واحدة، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق بالمبني بها وكأنّ وجه قولهم فيه: وأن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/384.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها.
(3) ذكر ابن عاشور هذه المسألة وما يليها في تفسير المقطع التالي لهذا المقطع، لكني وضعته هنا بناء على ارتباطه به، وحتى تسهل المقارنة بين أقوال المفسرين.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة شرعية الطلاق، ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية؛ وفى هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الحد الذي ينته فيه ما للرجل من حق المراجعة، فيبين سبحانه وتعالى أن الرجل ليس حرا يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع لغير حد محدود؛ ولقد قيل إن الرجل في الجاهلية كان يطلق ويراجع لغير عدد ولا حد فتضطرب حياة المرأة؛ وقد يتخذ ذلك للكيد والأذى، لا للعشرة الحسنة، والرغبة في البقاء؛ ولقد روى أن رجلا قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! قالت: وكيف ذلك؟ قال أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله عزّ وجل ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾.
2. سواء أصح هذا سببا لنزول الآية أم أن الآية مقترنة بالآية قبلها متممة لموضوعها مقيدة لإطلاقها؛ فقد ذكرت الأولى أن المطلّق أحق بامرأته ما دامت العدة قائمة، ثم بينت هذه وهى الثانية أن ذلك ليس على إطلاقه إنما هو مقيد بالطلقتين الأولى والثانية، أما الثالثة فقد ذكر من بعد حكمها، وهو أنها لا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره.
3. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ كلمة الطلاق في هذه الجملة السامية؛ ذكر الزمخشري أن المراد بها التطليق، كالسلام بمعنى التسليم؛ أي أن التطليق الشرعي الذي يقره الشارع ويسوغه هو الطلاق الذي يكون على التفريق، واحدة بعد واحدة، ومرة بعد مرة؛ وليس التطليق الذي يكون بالإرسال مرة واحدة، وعلى هذا التخريج الذي ساقه الزمخشري يكون مساق الآية لتقرير أن الطلاق الشرعي لا يكون دفعة واحدة، بل يكون مرة بعد مرة؛ وتكون التثنية في هذه الحال لبيان التكرار لا للعدد، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك] وكقول: (لبيك اللهم لبيك) ويكون قوله تعالى من بعد: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ لبيان الغرض من التكرار وهو أن يكون بعد كل طلاق فرصة مراجعة نفسه ليمسك زوجه ويبقيها معاملا لها بالمعروف لدى أهل العقول المستقيمة الذي لا ينكره عقل ولا شرع، أو يصر على طلاقها، وإخراجها.
4. ذلك التخريج يستقيم في ذاته، ولكن قرن بالآية الكريمة بعد ذلك، قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة] فدل هذا على أن المراد حقيقة التثنية، لأن بعد الثانية الثالثة، ولذلك نختار التخريج الثاني، وهو أن الطلاق في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أل فيه للعهد الذكرى، أي الطلاق المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة] فالطلاق المذكور هو الذي يكون فيه للزوج حق مراجعة زوجته فيه؛ فالسياق يكون لبيان الطلاق الذي تبقى معه عصمة الزوجية؛ ولذلك قال بعد ذلك: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة] فهو ذكر حكم المرتين، ثم ذكر من بعد ذلك حكم الثالثة، وتكون التثنية على هذا التخريج المستقيم من كل الوجوه على حقيقتها لا لمجرد التكرار.
5. مهما يكن السياق، فإن قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ يستفاد منه أن الطلاق لا يقع العدد به مرسلا دفعة بل هو دفعات ومرات، وكل واحدة منها يتخللها رجعة أو عقد جديد؛ وذلك ليتحقق المقصد الحكيم الذي قصد إليه الشارع من عدد الطلاق، وإعطاء فرصة المراجعة بعد كل طلاق نحو ثلاثة أشهر، ثم تكرار تلك الفرصة، حتى إذا كانت الثالثة فصم ذلك العقد الذي أصبح بقاؤه شرا، ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء]، وأصبح من الضروري أن يكون ثمة تجربة قاسية، عساها تصلح من قلب الناشز منهما، وذلك ما فهمه السلف الصالح، فما كان الطلاق يقع دفعة واحدة، بل كان يقع دفعات، لكيلا يقطع الرجل السبيل على نفسه، ولكيلا يتعدى حدود الله، وكما قال الله تعالى في هذا المقام: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق]؛ فلعل الله في مدة العدة أو بعدها إذا طلق واحدة، أو اثنتين على دفعتين، أن يحدث أمرا بإحلال المودة محل العداوة، والرحمة محل البغضاء، فتستأنف حياة زوجية هنيئة سعيدة.
6. سؤال وإشكال: إذا أوقع الرجل الطلاق دفعة واحدة، ولم يوقعه على ثلاث مرات، أو أوقعه في مجلس واحد متتابعا، أو أوقعه في مجالس متفرقة، فما حكمه، وما مؤداه؟ والجواب: لا شك أن صريح الآية أن الطلاق لا يقع مرة واحدة، فلا يقع الطلاق الثالث بلفظ الثلاث ثلاثا، ولكن يقع طلقة واحدة لأنه مرة واحدة، وليس ثلاث مرات، ولكى يكون ثلاثا يجب أن يكون ثلاث مرات، وذلك لأن اقتران الطلاق بكلمة ثلاث لا يجعله ثلاث مرات، بل إنه مرة واحدة، ولو وصفه بالمائة، كمن يقول أحلف بالله ثلاثا، فهو يمين واحدة، وكمن يقول قرأت هذه السورة ثلاث مرات، وقد قرأها مرة واحدة، فهو كاذب.
7. كلمة المرة توجب أن يكون الطلاق في حال واحدة، ولسبب واحد، وفى مجلس واحد، ولغاية واحدة، مرة واحدة ولا يخرجه عن كونه مرة واحدة، تعدد الألفاظ في المجلس، أو لأجل السبب، أو لهذه الغاية؛ ولهذا قرر كثيرون من العلماء منهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وطائفة من شيوخ قرطبة، منهم ابن زنباع، ومحمد بن بقى، ومحمد بن عبد السلام، وأصبغ بن الحباب، أنه يقع واحدة؛ وكل أولئك قد اختاروا رأى ابن عباس، وقد روي عن بعض الصحابة كعلى بن أبي طالب وأبى موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وقاله من بعدهم بعض التابعين، ثم تتابع العلماء يقولونه، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنّه قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: (إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه.
8. هذا تفسير قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ وهذا ما فهمه منه بعض العلماء تابعين لبعض الصحابة والتابعين؛ ولكن الأئمة الأربعة يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يكون ثلاثا أو اثنين على حسب ما اقترن به؛ وقد قال العلماء: إنه قد اتفق عليه أئمة الفتوى، وكأن غيره من الأقوال من شواذ الفتيا الذي لا يلتفت إليه وقد استندوا إلى الأخذ بفتوى عمر، وادعوا أن الإجماع قد انعقد عليه، ومن المؤكد أن طائفة كبيرة من الصحابة كانت على ذلك الرأي وما كان لمثلهم أن يقولوا ما يخالف ظاهر القرآن من غير سند من حديث صح عندهم، والآية الكريمة تبين ما ينبغي ولا تبين بطلان سواه، وأنه لا يقع إلا ذلك النوع من الطلاق.
9. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الإمساك بالمعروف هو العشرة الحسنة، والمعاملة الرفيقة بأهله؛ فالمعروف هو الخلق الفاضل الذي تعرفه العقول السليمة، وتدركه الفطر المستقيمة، وتعالج به النفوس، وتطمئن به القلوب والتسريح إرسال الشيء وتفريقه؛ ولذلك يقال سرح الشعر، أي فصله وفرقه ليخلص بعضه من بعضه، ويقال سرّح الماشية، أرسلها وفرقها في المرعى.
10. لا شك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال، معنى الرفق في التفريق، فلا يفرق بعنف، وحرج للنفوس، وخدش للمروءة، ولمكارم الأخلاق، بل يفرق في رفق وعطف، من غير حرمان، بل بإعطاء من غير منع، كما قال تعالى في هذا المقام: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة] فالإحسان في هذا المقام، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي، فهو من أحسن إليه، بمعنى أسدى إليه خيرا، أو أدى معروفا، أو أعطى عطاء.
11. وقت الإمساك أو التسريح في هذا المقام، مقام ذكر الطلاق ومراته، هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية، أي أنه بعد إحدى هاتين الطلقتين، إما إمساك بمعروف، بمعنى رجعة على نية البقاء والإصلاح، واطراح أسباب النزاع والخلاف، والأخذ بالرفق والحسنى، والعيشة الهنيئة الكريمة؛ وإما تسريح بإحسان، بمعنى تركها حتى تنته عدتها، ويغنى الله كل واحد عن الآخر من سعته، فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير، وهى الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها، بأن يفكر في ماضي أمره، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق؛ فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه، والتقويم من معوجه، والأخذ بالرفق؛ وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار، كما قال تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب]، وعلى هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما.
12. قال بعض العلماء: إن المراد من التسريح بالإحسان هو الطلقة الثالثة؛ أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة، وعندى أن ذلك التخريج بعيد لوجهين:
أ. أولهما: أن التسريح يكفى فيه بعد الطلقتين أن يسكت من غير مراجعة حتى تنته عدتها، ولأن الترديد بين الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان لا يكون إلا في وقت يجوز فيه الأمران، والأنسب في ذلك ما بعد الطلاق؛ وهو المراجعة أو تركها؛ وليس المناسب في ذلك هو إرداف الطلاق بالطلاق؛ إن ذلك لا يكون فيه تسريح بإحسان، بل فيه تضييق على نفسه وظلم لها، إذ قطع السبيل، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وفوق ذلك فيه مجافاة ومبالغة فيها بإيقاع طلاق ثان من غير حاجة إليه.
ب. ثانيهما: قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة] فإن هذه الطلقة الثالثة، ولو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لكانت هذه رابعة، ولم يقل ذلك أحد.
13. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ إذا كان الفراق بين الزوجين يجب أن يكون مصحوبا بالإحسان والرفق، وألا ينسوا الفضل بينهم، فلا يصح أن يأخذ شيئا مما آتاها من مال؛ لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانا؛ ولأن ذلك يكون ظلما لا عدل فيه؛ ولقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء]، وإن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها؛ أولها الفراق الذي لا تريده، وثانيهما استرداد ما وهب.
14. سؤال وإشكال: قد يقول قائل: إذا طابت نفسها بذلك فلما ذا لا يأخذ؟ والجواب: إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده، فإن ذلك مكارم أخلاق منها، وفساد نفس منه، ومثل ذلك لا يكون حلالا؛ وليس من ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء] لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية، كما أنه ليس منه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة] لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئا، أو قبضت دون نصف المهر؛ وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف؛ ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها، بل إسقاط لما يجب، وعساه يكون في عسرة، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ، ولكن كان منها إسقاط، فلا ظلم ولا بهتان.
15. لم يسوغ الشارع الحكيم الأخذ إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله، ففي هذه الحال يحل الأخذ، وحدود الله سبحانه وتعالى ما أوجبه من حقوق للرجل على زوجته، ولها عليه، وهى مقاصد الزواج؛ فإن لم يتحقق من الزواج مقاصده، ولم تقم الأسرة الهنيئة التي تربط بين آحادها المودة الواصلة بين الزوجين فأخذ المال جائز، وتلك الحال التي يخافان ألا يقيما حدود الله، وواجباته، وحقوق كل منهما على صاحبه، تتحقق بسببين:
أ. أحدهما: أن تكون المرأة ناشزا عاصية أو كارهة، كتلك المرأة التي ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تقول: (والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكنى أكره الكفر في الإسلام؛ لا أطيقه بغضا! فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (أتردين عليه حديقته؟) ـ وهى المهر الذي أمهرها ـ قالت: نعم، فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛ ففرق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بينهما بطريق الخلع، ويقال إنه كان أول خلع في الإسلام، وأحيانا تكون المرأة كارهة ولا تبدى بغضها بهذه الصراحة، ولكنها تثير الشغب في البيت لأتفه سبب، وتعصى زوجها، وتقوم بالكفر في الإسلام، ولا تتورع عنه، وهذا ما كرهت امرأة ثابت بن قيس التي جاءت الرواية بأمرها.
ب. ثانيهما ـ أن يكون بالمرأة عيب مستحكم ولا يمكن معه القيام بالحقوق الزوجية، فإن أخذ المال في هذه الحال يكون سائغا، وإن لم يكن نشوز ولا عصيان؛ ولذلك سوغ الحنابلة والمالكية أن يطلب الرجل من القاضي التفريق على أن يأخذ ما أعطى أو بعض ما أعطى، وإن لم يعتبر التفريق خلعا.
16. إن هذين السببين كلا منهما يدل على أن أخذ المال جائز إذا كان سبب الفراق من جانبها، أو سبب عدم القيام بحدود الله وتحقق العدالة من جانبها؛ ولكن الآية الكريمة مطلقة لا تقيد في جواز الأخذ بكون النشوز من جانبها أو من جانبه، بل يقول سبحانه في الاستثناء: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ وذلك كما يكون عندما يكون النشوز من جانبها، يكون عندما يكون من جانبه.
17. ذلك العموم قد يبدو بادى الرأي، لكن المتأمل البصير في عبارات الجملة الكريمة يستنبط من إشاراتها أن جواز الأخذ مقصور على الحال التي يكون النشوز من جانبها أو سببه من جانبها، أو على الأقل كان الجانب الأكبر منه يتصل بها؛ وذلك لأنه عبر عن حال جواز الأخذ بألا يخافا ألا يقيما حدود الله وحال الخوف الذي يكون من جانبهما معا لا من جانبها وحدها تكون في الحال التي يكون السبب من جانبها؛ وذلك لأنه مفروض أن الخوف الذي يكون هو الخوف الذي يكون سببه لا ظلم فيه؛ وذلك في غالب الأحيان لا يتحقق إلا إذا كان السبب من جانب المرأة؛ لأنه إن كان من جانب الرجل فهو ظلم؛ إذ يملك أن يطلق، ولا يقال إنه إذا خاف أن يظلم يجوز أن يأخذ المال؛ لأن أخذ المال في ذاته ظلم إذا كان البغض من جانبه؛ لأنه يكون داخلا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء] وخوف الظلم لا يبرر ظلما آخر، وخصوصا إذا كان ثمة مندوحة عنه، ويكون داخلا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة]
18. وفوق ذلك فإن النسق القرآني قد جعل للرجل حالين، وهى حال الطلاق الذي لا يحل فيه الأخذ، وحال جواز الأخذ، وكلاهما لا يجوز إلا إذا تعذر قيام الحياة الزوجية على أسس الإصلاح والصلاح، وقد جعل الطلاق إذا كانت النفرة من جانبه، فكان السياق يوجب أن يكون الافتداء إذا كانت الفرقة من قبلها؛ فهذه حال وتلك حال؛ ولذا قال أهل البصرة من النحويين: إن الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لأن ما بعد إلا غير داخل في عموم ما قبلها، بل هو حال مغايرة له، وأخيرا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدى نفسها، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها، أو على الأقل هو من جانبها أظهر.
19. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ الجناح معناه الإثم، من جنح بمعنى مال، والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها، ودفع الأذى عنها؛ وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله.
20. الخطاب في الآية إما أن يكون لجماعة المؤمنين من حيث إنهم متعاونون فيما بينهم، بحيث وجدوا الشر بين الزوجين؛ وإما أن يكون خطابا لجماعة الأزواج الذين كان بينهم وبين نسائهم ما يخشى معه ألا يقيم كلاهما حدود الله التي رسمها للحياة الزوجية؛ فالخطاب لإباحة الأخذ والفداء، وعندى أن جعل الخطاب لجماعة المؤمنين أولى بالاعتبار؛ فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله؛ ولذلك كان الخطاب عاما لجماعة المؤمنين بقوله ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ ونفى إثم الأخذ خاصا بالزوجين؛ ولذا قال ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾
21. فهم بعض العلماء من التابعين من كون الخطاب موجها إلى جماعة المؤمنين أن الخلع الذي هو التفريق بين الزوجين في نظير مال تفدى نفسها به، ولا يكون إلا بأمر ولى الأمر أو القاضي الذي يقيمه ولى الأمر لذلك؛ وقد فهم هذا الفهم الحسن البصرى، وسعيد بن جبير، وابن سيرين؛ وكان يسير على ذلك الرأي زياد بن أبيه في حكمه، وقد كان مقبول الولاية من عمر وعلى، وكلاهما مكانته في الفقه مكانته.
22. إن قصر الخلع على السلطان على هذا المذهب لا نحسبه صوابا؛ ولكن نرى أن الأولى أن يقال: إن الخلع كما يجوز بتراضي الزوجين إذا خافا ألا يقيما حدود الله، كذلك يجوز بأمر القاضي إذا تبين له بعد تحكيم الحكمين أنهما لا يقيمان حدود الله بسبب نفرة المرأة من الحياة الزوجية؛ وذلك ما نص عليه في مذهب مالك؛ فقد جاء أن الأمر إذا فسد بين الزوجين، ولم تعلم له أسباب ظاهرة حكم الحكمان، فإن تبين أن العشرة بينهما غير ممكنة، فرقا بينهما، وجاز أن يكون التفريق خلعا إذا كانت الإساءة من جانب المرأة.
23. من صريح الآية يتبين أن الخلع لا يكون إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله؛ ومن سياق الآيات وتناسقها، وإشارة الآية الكريمة وصريح الحديث النبوي يفهم أن الخلع يكون حيث تكون النفرة من جانب الزوجة؛ ولذلك قال ابن رشد في بيان المقصد من شرعية الخلع: (الفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابل ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل) ولهذا قال الظاهرية إن الخلع لا يكون إلا إذا كان النشوز من جانبها؛ لأنه إذا كان النشوز من جانبه يكون النهى عن أخذ المال لوقوعه في عموم قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة] وقرروا أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطى، ولكن الحنفية والمالكية والشافعية سوغوا الخلع في كل الأحوال، وبأي قدر من المال، وإن كرهوا الخلع إذا كان النشوز من قبله، وكرهوا أخذ أكثر مما أعطى.. هذا وللفقهاء خلاف طويل في شأن الخلع، نتركه لكتب الفقه.
24. بعد بيان أحكام الطلاق وعدده وأحواله، قال سبحانه ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ والإشارة إلى ما تقدم من الأحكام، والإشارة للبعيد لبيان علو قدرها، وعظم منزلتها، وجلال ما فيها من مصالح ظاهرة بينة لذوى الألباب؛ وسمى تلك الأحكام حدود الله للإشارة إلى أنها فاصلة بين الحق والباطل والظلم والعدل، والمصلحة والمضرة؛ وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتطرق الريب إليها، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه، ويتجنب الصالح، ويتبع الطالح، ويترك النافع إلى ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة.
25. إذا كانت تلك الأحكام حدودا فلا يصح تجاوزها وتركها، وإلا كان معتديا على حرمات الله، متهجما على شرع الله؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال؛ لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة، وهى عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع، وبها قام بنيانه، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه.
26. ذيل الله سبحانه الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه، وبينها على لسان نبيه الكريم، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه، وظالم لجماعته، وظالم في الحكم بين الناس.
27. أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغنى عنها لتأكيد معنى السببية، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله، وأردف ذلك بقوله (هم) وهو للتأكيد؛ ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده؛ ثم كان القصر، أي قصر الظلم عليهم، وهو قصر حقيقي.. وذلك التأكيد الشديد لسببين:
أ. أولهما: أن الإنسان مغرور دائما، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه، وقد يكون فيها الظلم والضرر، ويتوهمهما العدل والمصلحة، ويتوهم أن لا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه، أو يتركها، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).
ب. ثانيهما: المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم، وهو ما يتعلق بالأسرة، فإن الظلم فيها أقبح الظلم.. وفقنا الله سبحانه لأن ندرك شرع الله، ونؤمن بأنه الحق الذي لا حق سواه، وفيه المصلحة التي يقوم عليها بناء اجتماعي فاضل، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/771.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، كان للعرب في الجاهلية طلاق، وعدة مقدرة للمطلقة، ورجعة للمطلّق أثناء العدة، ولكن لم يكن للطلاق عدد معين، فربما طلق الرجل امرأته مائة مرة وراجعها، وتكون المرأة بذلك ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق والرجوع متى شاء.. وجاء في بعض الروايات ان رجلا قال لامرأته: لا أقربك أبدا، ومع ذلك تبقين في عصمتي، ولا تستطيعين الزواج من غيري.. قالت له: وكيف ذلك؟ قال أطلقك، حتى إذا قرب انقضاء العدة راجعتك، ثم طلقتك، وهكذا أبدا، فشكته الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله سبحانه: الطلاق مرتان، أي ان الطلاق الذي شرّع الله فيه الرجوع للمطلق هو الطلاق الأول والثاني فقط، أما الطلاق الثالث فلا يحل الرجوع بعده، حتى تنكح المطلقة زوجا غير المطلّق، كما في قوله: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾
2. ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، إذا طلق الرجل زوجته للمرة الثانية فهو مخير بين أحد أمرين، ما دامت في العدة: الأمر الأول ان يرجعها الى عصمته بقصد الإصلاح، وحسن المعشر، وهذا هو الإمساك بمعروف، الأمر الثاني ان يدعها وشأنها، حتى تنقضي عدتها، على أن يؤدي اليها ما لها عليه من حق مالي، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء، ولا ينفّر منها من أراد الزواج بها بعد انقضاء العدة، وهذا هو التسريح بإحسان.
3. سؤال وإشكال: ان كثيرا من المفسرين قالوا: المراد من التسريح الطلقة الثالثة، واستشهدوا بحديث عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم.. فلما ذا عدلت عن قولهم هذا، وفسرت التسريح بالإهمال وترك المراجعة؟، والجواب: ان لفظ التسريح بذاته يمكن أن يراد منه الطلقة الثالثة، ويمكن أن يراد منه السكوت عن المطلقة وعدم مراجعتها، ولكن مراعاة السياق، ترجح المعنى الثاني، وهو عدم المراجعة، ذلك ان قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ هو تفريع عن الإمساك، ويكون المعنى إذا طلقها بعد الإمساك، ورجع اليها أثناء عدتها من الطلاق الثاني تكون الطلقة ثالثة، ولا يحل للمطلق أن يرجع اليها، حتى تنكح زوجا غيره، ولا يصح أن يكون تفريعا عن التسريح بمعنى الطلاق الثالث، إذ يكون المعنى على هذا فان طلقها للمرة الرابعة بعد أن طلقها الطلقة الثالثة، والمفروض انه لا طلاق رابع في الإسلام، أما الحديث الذي فسر التسريح بالطلقة الثالثة فغير ثابت.
4. اتفقت المذاهب السنية الأربعة على ان من قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا، أو قال أنت طالق، انت طالق، انت طالق يقع بذلك ثلاث طلقات، وتحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره.. وقال الإمامية: تقع طلقة واحدة فقط، ويحل له الرجوع اليها ما دامت بالعدة، وجاء في تفسير المنار عن ابن حنبل في مسنده، ومسلم في صحيحه، ان طلاق الثلاث كان واحدة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وبعض السنين من خلافة عمر.. ولكن عمر بدا له، وقال: ان الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.. ثم نقل صاحب تفسير المنار عن ابن القيّم ان الأصحاب كانوا مجمعين على أن لا يقع بالثلاث مجتمعة الا واحدة من أول الإسلام الى ثلاث سنين من خلافة عمر، وأيضا أفتى به بعد عمر جماعة من الصحابة والتابعين وأتباع تابعيهم، وان الفتوى بذلك تتابعت في كل عصر، حتى كان من أتباع الأئمة الأربعة من أفتى بذلك.
5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، (مما) من للتبعيض، وما من صيغ العموم، وكذلك شيء هنا، لأنها نكرة في سياق النفي تشمل اليسير والكثير، والمعنى ان الزوج إذا كان هو الكاره الراغب في الطلاق والفراق فليس له أن يسترجع شيئا مما كان قد ملكها إياه هبة أو تستحقه عليه مهرا أو نفقة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾
6. هذا إذا كان هو الكاره الراغب في فراقها، أما إذا كانت هي الكارهة له الراغبة في فراقه فلا مانع أن تبذل له ما يرضيه، كي يطلقها، سواء أكان المبذول بقدر المهر، أو أقل، أو أكثر، ويسمى هذا الطلاق المبني على البذل منها طلاقا خلعيا، لا يحق له الرجوع اليها في العدة ما دامت مستمرة على البذل، فان رجعت عنه أثناء العدة ساغ له أن يرجع هو بدوره في الطلاق ان شاء.
7. إلى هذا الطلاق الخلعي أشار سبحانه بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، هذا استثناء من عدم جواز الأخذ منهن عوضا عن الطلاق.. وحدود الله هي الحقوق والواجبات التي لكل من الزوجين للآخر وعليه، والمعنى أيها الأزواج لا تأخذوا شيئا من مطلقاتكم بسبب من الأسباب إلا بسبب واحد، وهو أن تكون هي الكارهة للزوج ولا تطيق عشرته، بحيث يؤدي نفورها منه إلى معصية الله في التقصير بحقوق الزوج، وقد يخاف الزوج أيضا أن يقابلها بالأساءة أكثر مما تستحق، ففي هذه الحال يجوز لها أن تطلب الطلاق من الزوج، وتعوضه عنه بما يرضيه، كما يجوز له أن يأخذ ما افتدت به نفسها، وفي الحديث ان ثابت بن قيس كان متزوجا بنت عبد الله بن أبي، وكان هو يحبها، وهي تبغضه، فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقالت: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شيء، وقد كان ثابت قد أصدقها حديقة، فقال ثابت: والحديقة؟ فقال لها الرسول: ما تقولين؟، فقالت: نعم.. وأزيده، قال الرسول: لا، الحديقة فقط، فاختلعت منه.
8. سؤال وإشكال: لماذا جاء بضمير التثنية في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، وبضمير الجمع في قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، ولم يوافق بين الضميرين في الجملتين؟، والجواب: الضمير في يخافا ويقيما راجع الى الزوجين، وفي خفتم الى الحكام والمصلحين، والمعنى: ان خاف الزوجان والحكام والمصلحون من ترك اقامة الحدود يرتفع المحذور من بذل الزوجة، وأخذ الزوج، والغرض هو بيان ان المسوغ للبذل والعطاء الخوف المعقول التي ظهرت دلائله وأماراته للجميع، لا لخصوص الزوجين فقط.
9. سؤال وإشكال: لماذا ثنّى ضمير عليهما في قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، مع العلم بأن المفهوم من السياق انه لا جناح على الزوج في الأخذ منها عوضا عن الطلاق، ولا دخل للزوجة في ذلك؟ والجواب: التثنية هنا للإشارة الى انه لا حرج على الزوجة فيما أعطت، ولا على الزوج فيما أخذ، هذا، الى أن جواز الأخذ يستلزم جواز العطاء، وبالعكس.
10. سؤال وإشكال: إذا تراضيا على الخلع، وبذلت مالا كي يطلقها، والحال عامرة، والأخلاق ملتئمة بينهما، فهل تصح المخالعة، ويحل للزوج أن يأخذ الفدية؟، والجواب: قالت المذاهب الأربعة: يصح الخلع، وتترتب عليه جميع الأحكام والآثار، ومنها جواز أخذ الفدية، وقال الامامية: لا يصح الخلع، ولا يملك المطلق الفدية، ولكن يصح الطلاق، ويقع رجعيا مع اجتماع شروطه، واستدلوا على فساد الخلع وعدم جواز أخذ الفدية بأن الآية الكريمة علقت جواز ذلك على الخوف من الوقوع في المعصية إذا استمرت الزوجية، أما قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ فان المراد به ما تعطيه المرأة لزوجها هبة مجانية، لا عوضا عن الطلاق، فالآية أجنبية عن الخلع.
11. سؤال وإشكال: إذا أساء معاملتها بقصد أن تبذل له، وتفتدي نفسها، فبذلت وطلقها على هذا الأساس، فهل يقع الخلع صحيحا، ويحل له ما افتدت به نفسها؟، والجواب: قال أبو حنيفة: الخلع صحيح، والعوض لازم، والزوج آثم، وقال الشافعي ومالك: الخلع باطل، والعوض مردود، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، وقال الإمامية: لا يصح الخلع، ويحرم أخذ المال المبذول، ولكن يقع الطلاق رجعيا مع توافر شروطه، أما نحن فنميل إلى انه يقع لغوا، لا خلعا ولا طلاقا، لأن المبني على الفاسد فاسد.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/346.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أن الدفعة والكرة والنزلة مثلها وزنا ومعنى واعتبارا، والتسريح أصله الإطلاق في الرعي مأخوذ من سرحت الإبل وهو أن ترعيه السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الإبل، وقد أستعير في الآية لإطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجيء.
2. المراد بالطلاق في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ الآية، وأما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ الآية.
3. المراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الأوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الأظهر أنه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ الآية، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الآية، بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الإجمالي.
4. في تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان من لطيف العناية ما لا يخفى، فإن الإمساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للإضرار بها وهو منكر غير معروف، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك، يريد بذلك إيذاءها والإضرار بها وهو إضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه، بل الإمساك الذي يجوزه الشرع أن يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام، ويتم به الأنس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.
5. وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب، ويتصور بصورة الانتقام، والذي يجوزه هذه الشريعة أن يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وهذا التعبير هو الأصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، وأما ما في هذه الآية ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، حيث قيد التسريح بالإحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾.
6. بيانه: أن التقييد بالمعروف والإحسان لنفي ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود، والمطلوب بتقييد الإمساك بالمعروف نفي الإمساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، والمطلوب في مورد التسريح نفي أن يأخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر، ولا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإن مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته وأخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي، ولو قيل: (أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم)، فاتت النكتة.
7. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، الخوف هو الغلبة على ظنهما أن لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين، وذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك.
8. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله تعالى: ﴿خِفْتُمْ﴾، كأنه للإشارة إلى لزوم أن يكون الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة، لا ما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها، ولذلك عدل أيضا عن الإضمار فقيل ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس، وأما نفي الجناح عنهما مع أن النهي في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا﴾ الآية، إنما تعلق بالزوج فلأن حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الإعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الإثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج أن يأخذ الفدية، ولا جناح على الزوجة أن تعطي الفدية وتعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
9. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ الآية، المشار إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين وهي أحكام فقهية مشوبة بمسائل أخلاقية، وأخرى علمية مبتنية على معارف أصلية، والاعتداء والتعدي هو التجاوز.
10. ربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الأحكام الفقهية والأصول الأخلاقية، والاقتصار في العمل بمجرد الأحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الإنسانية فإن الإسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على أجساد الأحكام والإعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾
11. في الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ إلى خطاب المفرد في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾، ثم إلى الجمع في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾، ثم إلى المفرد في قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الإصغاء.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/234.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أي تطليق مرتين مرة بعد مرة ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ على ما مر في الآية قبلها من الرد في التربص ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ إرسال وترك للإمساك حتى تخرج من العدة مع الإحسان إليها، بأن يترك لها مثلاً كسوتها ويجهزها للعودة إلى أهلها جهازاً حسناً، وهذا مثل للإحسان؛ لا تعيين ولا تحديد، فأما نفقة العدة فتأتي إن شاء الله.
2. قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ كقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ فليس للضرار ولا للمنع من الزواج مع الإهمال وهو من الضرار، ومثله الحبس والإمساك ليرثها إذا ماتت، أو لئلا يرثها غيره مع الإهمال أو التقصير في الحقوق الزوجية، فكل ذلك ليس بمعروف ولا إصلاح ويأتي تأكيد الزجر عن الإمساك ضراراً.
3. ظاهر الآية: وقوع التطليقة الثانية، وإن لم تتخلل رجعة ما دامت في العدة، كما روي عن الإمام القاسم عليه السلام، ولا نسلم أن المطلق قد خرج عن كونه أهلاً للتطليق كما لم يخرج عن الإرث وهو تابع للزوجية، فدل ذلك على بقاء حكم الزوجية مادامت في العدة إلا ما خص المطلقة من أحكام الطلاق المبينة في الكتاب والسنة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ فسماهم بعولة، ولا يلزم أنه مجاز لاستعمال اسم الزوج في البائنة مجازاً باعتبار ما كان عليه.
4. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ وبعض الناس يأسف على ما قد سلم لها فيحاول استرجاعه بحيلة للمخالعة وأخذه باسم الخلع وهو ظالم فيه وفي أخذ مالها ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا﴾ أي الزوجان ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لفرط الكراهة مثلاً بأن يثقل عليها طاعته حتى تظن أنها لا تقوم بواجبه، وهو يظن أنه لا يستطيع القيام بما كانت تستحق عليه من الإنفاق ونحوه لمعصيتها له؛ وهذا لأن حدود الله هنا أحكام الزوجين وحكم كل منهما الذي جعله الله تبعاً للزواج، فإذا كانت تهمل من جانبها فقد جاز الخلع.
5. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أسند الخوف أولاً إلى الزوجين لبيان الحكم في حقهما، ثم أسنده إلى الدولة الإسلامية بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ لبيان إحالة أمرهما إلى الحكومة حتى تنظر في أمرهما وهل يمكن الإصلاح بينهما وبقاؤهما في الزوجية، أوقد تحقق سبب الخلع فقد يكون الخلاف بينهما لغضب عارض وخلاف على أمر يمكن فيه حلُّ الإشكال والإصلاحُ بينهما وتركُ الطلاق، أما إذا عرف عند دولة الحق أن لا مجال من الخلع؛ تولت هي المخالعة بينهما ليكون على وجه الصحة؛ لأن الخلع قد يدخله ما يفسده ويبطل الطلاق، أو يفسده مع صحة الطلاق رجعياً، وإذا ترك الناس يتولونه بدون ذلك تولوه بدون إرجاع إلى أهل العلم وحصل الفساد الذي يترتب عليه مفاسد بسبب الجهل، فلا بد أن تتولاه دولة الحق بنفسها أو تحيلهما إلى نائب من العلماء يقوم بالمقصود فإذا وقع على وجه الصحة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ لا جناح عليه في الأخذ، ولا جناح عليها في الأداء، وهذا لأن المعاملة بالباطل يكون الإثم فيها على الآخذ والمعطي في الغالب كالربا والرشوة وغيرهما.
6. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ التي حدها في الطلاق ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ طمعاً في أخذ ما آتيتموهن أو بغضاً لهن أو تهاوناً بأمر الله فيهن ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وإذا كان من الظالمين فهو من أهل النار؛ قال تعالى: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [الحشر:17] وقال تعالى حاكياً: ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:29] وقال تعالى: ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإنسان:31] ولا يبعد انحصار أسباب النار كلها في الظلم، وأن كونها ظلماً هو سبب العقاب عليها وإن اختلفت أسماؤها.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/341.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لنا ملاحظة، وهي أن هذه الروايات(2)، وغيرها مما ورد في تحديد أسباب النزول، تدل على أن حركة التشريع كانت تنطلق من حاجة الواقع إلى معالجة المشاكل المتحركة فيه، فيأتي الحكم الشرعي في صعيد الحاجات الإنسانية الصعبة التي يتطلع المسلمون إلى حلها، ليكون تأثيره أكثر عمقا مما لو كان منطلقا من تشريع ابتدائي، وهذا مما يوحي بأن الإسلام كان واقعيا في تشريعه للإنسان، من خلال نظرته إلى واقع حياته، بحيث يجد الإنسان سرّ الحكم الشرعي في معاناته للواقع المعاش في حياته الخاصة والعامة.
2. في ضوء ذلك، لا بد للاجتهاد الفقهي أن لا ينظر إلى الحكم الشرعي الوارد في النصوص في دائرة التجريد، بل في دائرة الواقع، فربما نستوحي من ذلك الكثير، مما يجعل فهم النص أكثر سلامة واستقامة في وعي الشريعة، لأنها جاءت لخدمة الإنسان ولحل مشاكله، لا لتعذيبه وتقييد حاجاته بلا معنى.
3. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ هذا تحديد للطلاق الذي يملك فيه الرجل حق الرجوع للمرأة المطلقة من دون حاجة إلى إجراءات جديدة، ولهذا فرع عليه قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فإن هذا هو الخيار الذي يملكه في وقت العدة.
4. روى الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه)، عن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا علي بن موسى عليه السّلام عن العلّة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال عليه السّلام: (إن الله ـ عز وجل ـ إنما أذن في الطلاق مرتين، فقال عز وجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يعني في التطليقة الثالثة فلدخوله في ما كره الله عز وجل له من الطلاق الثالث حرّمها عليه، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق ولا يضاروا النساء)، وفي هذا التعبير إيحاء بطبيعة الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في كلتا الحالتين، فلا يبتعد عن الجو الحميم الذي تقتضيه العلاقة، ولا يتنكر للكرامة التي تطلبها المرأة.. فإذا كان هناك رجوع وعودة وإمساك، فينبغي أن يكون بالمعروف في الروحية والدوافع والأسلوب، وإذا كان هناك انفصال وتسريح، فلا بد من أن يكون بالإحسان في الكلمة والمعاملة والجوّ اللطيف، حتّى يتمثل كل منهما في نفسه روحيّة الخلق الإسلامي الذي يحب الله للناس أن يتّصفوا به.
5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ فليس للرجل أن يستغل قوّته، فيغتصب من المرأة حقوقها الشرعية من مهر ونحوه، وهذا دليل على احترام الإسلام لملكية المرأة للمال الذي تملكه، باعتبار أنها شخصية قانونية شرعية مستقلة، فلها الحرية في التصرف بمالها كما تشاء، وليس للآخرين أن يأخذوه منها في أية حالة، حتى زوجها الذي بذل لها المهر في عقد الزواج، فإنها قد ملكته بذلك وأصبح ملكا لها كبقية أموالها، فليس له استرجاعه منها بعد الطلاق، وليس له أن يأخذ منها أي شيء عوضا عن الطلاق بوسيلة غير مشروعة.
6. ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ فتشعر المرأة بأن لا مجال للعيش مع زوجها على أساس الالتزام بالحكم الشرعي، ويشعر الرجل بالشعور نفسه بالنظر إلى كراهيتها ونفورها منه، فيمكن لهما في هذه الحال أن يتفقا على أن تتنازل له عن مهرها أو عن شيء آخر، كتعويض له عما يفقده من هذه العلاقة الزوجية، مما يدخل في حساب الخسائر المادية والمعنوية، وذلك في سبيل أن يطلقها طلاقا بائنا، لا مجال له ـ معه ـ في الرجوع، بل يكون لها الأمر في ذلك، فإن رجعت في ما بذلته في أثناء العدة، كان لها ذلك وثبت لها الحق في إرجاع ما بذلته، وكان له ـ في مقابل ذلك ـ أن يرجع بالطلاق، وإن بقيت على البذل ثبت الطلاق واستمر من دون أي مبرر شرعي للرجوع، وهذا ما يسميه الفقهاء (بالطلاق الخلعي)، للتعبير عنه بصيغة الخلع في مقام الإنشاء الإيقاعي، وفي هذا الحال، يجوز للرجل أن يأخذ ما بذلته له من دون حرج، لأنه منطلق من موقع الاتفاق على ذلك، على أساس التبادل في الخسارة والربح، وهذا ما عبّر عنه الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ويلاحظ في هذا التعبير (الافتداء) معنى التعويض عن حريتها التي قيدها الزواج.
7. إنما نسب نفي الجناح إليهما، مع أن الإباحة للزوج لأنه هو الذي يأخذ المال، باعتبار قيام الأمر بالزوجة من جهة، لأن لها التخلص منه بدفع الفدية، وبالزوج لأن له الأخذ للمال.
8. جاء عن الصادق عليه السّلام: الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة: لا أبر لك قسما، ولأخرجنّ بغير إذنك، ولأوطئن فراشك غيرك، ولا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها وكلّ ما أقدر عليها مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك، على طهر بشهود، فقد بانت منه بواحدة، وهو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوجته نفسها، وإن شاءت لم تفعل، فإن تزوّجها فهي عنده على اثنتين باقيتين، وينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المبارأة، إن رجعت في شيء مما أعطيتني، فأنا أملك بضعك، وقال: لا خلع ولا مبارأة ولا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، والمختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلقها تحل للأول أن يتزوج بها، وقال: لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المبارأة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها.
9. سؤال وإشكال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾: قاعدة فقهية هل هذه الفقرة التي تكررت في أكثر من آية، متصلة ببعض الجزئيات في أحكام الطلاق من خلال تأكيد البقاء على الزوجية، أو الخروج منها بالطلاق أو بانتهاء العدة، أو هي قاعدة فقهية تحدد الطابع الإسلامي العام للعلاقة الزوجية، بحيث يدور الأمر بين السلوك الأخلاقي الشرعي في علاقة الزوج بزوجته بحيث يصدق عليه المعاشرة بالمعروف، و(الإمساك بالمعروف)، وبين إنهاء الحياة الزوجية ب (التسريح بإحسان) بالطريقة التي لا يتعسّف الزوج فيها على الزوجة بالطلاق، بحيث لا مجال لتجميد الحياة الزوجية في حالة إساءة الزوج لزوجته، ومنعها من حقوقها الشرعية كالنفقة والقسم والجماع في حدوده الخاصة.. فإذا امتنع الزوج من تطبيق أحكام الشرع في حقوقها الخاصة، أنذر بالطلاق من قبل الحاكم الشرعي، فإذا امتنع عن ذلك، طلقها الحاكم الشرعي؟ والجواب: ربما يجد الفقيه نفسه أمام هذه الفقرة في دائرة واحدة، وذلك في الآيات التالية:
أ. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وظاهره أن على المكلف، إذا طلق في المرة الثانية، أن يبقي على زوجته بالرجوع إليها في أثناء العدة، أو ينتظر انتهاء العدة، أو يطلقها في المرة الثانية على الاحتمالين في تفسير التسريح بإحسان، فلا علاقة لها على الظاهر بالحديث عن طابع الحياة الزوجية في علاقة الرجل بامرأته.
ب. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ج. وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، وظاهرهما هو أن المطلّقة، إذا بلغت نهاية العدة فلم يبق منها إلا القليل، فلا بد لزوجها أن يقف بين أمرين: إما مراجعتها لتستمر حياتهما بالمعروف، وإما أن يبقى على الطلاق فيفارقها نهائيا بإحسان، وأن عليه أن لا يجعل من رجوعه إليها وإمساكه بها وسيلة إضرار بالزوجة، من أجل تطوير العدة أو التضييق بالنفقة أو الابتزاز لها، لتفتدي نفسها منه بما تبذله من مال أو نحوه.
10. في ضوء ذلك، قد يلاحظ الفقيه أن الآية مختصة بأجواء الرجوع في العدة أو الاستمرار بالطلاق، ولكن قد نلاحظ أن الفقهاء قد حكموا، تبعا للأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، بأن الرجل إذا امتنع عن النفقة وعن الطلاق، طلقها الحاكم الشرعي، وربما أوحت بعض هذه الأخبار بأن الأساس في ذلك هو هذه الفقرة: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فقد جاء أن أبا القاسم الفارسي قال: قلت للرضا عليه السّلام: جعلت فداك، إن الله يقول في كتابه: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، ما يعني بذلك؟ قال أما الإمساك بالمعروف فكفّ الأذى وإجباء النفقة، وأما التسريح بإحسان، فالطلاق على ما نزل به الكتاب، فإنها توحي بأن الأمر دائر بين الأمرين، فلا تجميد للوضع السلبي، فلا بد من التسريح بإحسان إذا لم يكن هناك إمساك بالمعروف، ولا يضر بذلك اقتصار الحديث على كف الأذى وإحياء النفقة، لأن من الممكن أن يكون ذلك على سبيل المثال، لأن هناك حقوقا أخرى للمرأة على الزوج كما هي النفقة، كالقسم في بعض الآراء أو بعض الحالات والجماع في الحدود الشرعية المعينة.
11. إذا كان الحديث ضعيف السند، فإنه لا يخلو من إيحاء بالمضمون في الآية، مع ملاحظة أننا لا نقتصر في حجية الخبر على خبر الثقة، بل نضيف إلى ذلك الخبر الموثوق به نوعا، لأن سيرة العقلاء أو بناءهم هو الأساس في حجيته، وربما كان ضعف احتمال الكذب، لعدم وجود أساس لرغبة الناقل في تعمّده هو القرينة الطبيعية على وثاقة الحديث.
12. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المورد الذي نزلت الآية، من خلال مناسبته، لا يخصص الوارد إذا كانت الفقرة تشمل أكثر من ذلك المورد، فإن إيحاء هذه الفقرة يدلّ على أن الله لا يريد للمرأة في علاقتها بالرجل في الزواج أن تسقط تحت تأثير تعسفه، وأن تتجمد حياتها في دائرة وحشيته، فليس له أن يمسكها ضرارا من دون فرق بين الإمساك بها في مدى الحياة الزوجية الطبيعية، أو في الرجعة بها بعد طلاق، بل لا بد له، في حال إصراره على الإساءة أو الإضرار بها، من أن يطلقها أو يسرّحها بإحسان، لا سيما إذا دققنا في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، والآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19] فإن الآية الأولى ترفض الإمساك للإضرار، لأن ذلك يمثل لونا من دون ألوان العدوان عليها، فلا يمكن اختصاص النهي عن الإضرار بها بصورة الإمساك في حالة العدة بالرجعة، فلا مانع من الإضرار في الحياة الزوجية في أوضاعها العادية التي لا طلاق فيها.
13. أما الآية الثانية، فإنها تأمر بالمعاشرة بالمعروف، وإن بدا للرجل بعض ما يكرهه من زوجته، لأن الكراهة النفسية قد لا تتفق مع واقع الإنسان الذي نكرهه، فربما كان له في الجانب الخفي من عناصر شخصيته الكثير مما يحببنا به لو اطلعنا عليه، مما يعني أن على الزوج معاشرة زوجته بالمعروف حتى في حال كراهته لها.
14. السؤال الذي يفرض نفسه علينا: هل هي نصيحة من الله للأزواج، أو هي برنامج عملي للزواج كطابع عملي له، من خلال ما يريد الله للزوجة أن تعيشه مع زوجها في زواجها به؟ وهل نتصور أن الله يريد للمرأة أن تخضع للمعاشرة بغير المعروف، بحيث يكون ذلك ضريبة مفروضة عليها من الله، فلا فرصة لها في التخلص من ذلك، مهما فعل الزوج ومهما أساء، ما عدا النفقة، تماما كما لو كان كل شيء للمرأة أن تحصل على ما يقيم جسدها ويكسو عورتها في بيت زوجها؟ إن السؤال يفرض نفسه، وإن القرآن يجيب عن ذلك بأن للمرأة الحق بأن تعيش مع زوجها بمعروف وسلام، أو أن تفارقه بإحسان وسلام، وفي ضوء ذلك، فإن للمرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا منعها أيّ حق من حقوقها الشرعية في النفقة والمضاجعة بالمبيت معها، والجنس الكامل في وقته، فإذا لم يستجب لذلك، فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي الذي جعل الله له الولاية على طلاقها.
15. إنها أفكار نثيرها، في نطاق استنطاق الآيات الكريمة، ليدور هناك التفكير حولها، لا سيما إذا عرفنا أن الإجماع لم يقم ضدها، لأن هناك من العلماء من يوافق على هذا الرأي.
16. سؤال وإشكال: لماذا هذا التحجير على الإنسان في حدود الطلاق، والوقوف به عند حد الثلاث، فإذا تجاوزه، فلا مجال لإعادة الزواج إلا على أساس زواجها بإنسان آخر، الأمر الذي يعقّد القضية، انطلاقا من أن الإنسان الذي يرغب في العيش مع زوجته، لا يرضى بأن تعقد علاقة، ولو شرعية، مع إنسان آخر في امتداد علاقته بها؟ والجواب: عن ذلك: إن الله عندما أحلّ الطلاق من خلال الأسباب الشخصية والاجتماعية المترتبة على ذلك، أراد أن ينزل بالزواج إلى المستوى الطبيعي في العلاقات الإنسانية الواقعية، فلا يجعله غارقا في أجواء القداسة المثالية، فأباح للزوجين أن ينفصلا عندما يريان المصلحة في ذلك، وجعل للزوج الحق في إيقاع الطلاق تبعا لما جعله الله له من حق القوامة والإشراف على البيت الزوجي.. ولكنه لا يريد أن يجعل الحياة الزوجية تهتز أمام الرياح، فتتلاعب بها الخلافات اليومية بالمستوى الذي يجعل لكل يوم طلاقا أو لكل شهد طلاقا؛ مما يجعل من العلاقة مأساة وكارثة لهما وعبثا بحياتهما، بدلا من أن تكون خيرا وبركة وسعادة.. فأراد أن يحدد الموضوع بالحد الذي تعاف النفس معه العودة إلى الحياة الزوجية إن كان لهما رغبة في ذلك ليفكر الإنسان تفكيرا عميقا في الموضوع في المرة الثالثة، إذا لم يكن قد وقف طويلا أمام الطلاق في المرة الأولى أو الثانية.. ولتكون القضية في الثالثة بمثابة الصدمة القوية التي تجعله يعيد النظر في كل حساباته المستقبلية، لتكون العودة بعد الزواج الجديد بالآخر مرتكزة على قاعدة ثابتة من التأمل والتفكير والمعاناة والمسؤولية.. وفي ذلك درس عملي للإنسان في طريقة ممارسته للعلاقة الزوجية بوعي وبإنسانية.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/303.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
جاءت امرأة إلى إحدى زوجات النبيّ وشكت لها من زوجها الّذي يطلّقها مرارا ثمّ يعود إليها للإضرار بها، وكان للزّوج في تقاليد الجهاليّة الحقّ في أن يطلّق زوجته ألف مرّة ثمّ يعود إليها وهكذا فلم يكن للطّلاق حدّ حين ذاك، وحينما اطّلع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على شكوى هذه الامرأة نزلت الآيات الكريمة وبيّنت حدّ الطّلاق.
1. ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و(الرّجوع) لإصلاح وضع الاسرة ومنع تشتتّها وتمزّقها، لكنّ بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهليّة، وعمدوا إلى التضييق على الزّوجة بتطليقها المرّة بعد الأخرى والرّجوع إليها قبل انتهاء العدّة، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.
2. هذه الآية تحول بين هذا السّلوك المنحط وتقرّر أنّ الطّلاق والرّجوع مشروعان لمرّتين، أمّا إذا تكرّر الطّلاق للمرّة الثالثة فلا رجوع، والطّلاق الأخير هو الثالث، والمراد من عبارة ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ هو أنّ الطّلاق الّذي يمكن معه الرّجوع مرّتان والطّلاق الثالث لا رجوع بعده، وتضيف الآية ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، فعلى هذا يكون الطّلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه، وبعبارة أخرى أنّ المحبّة والحنان المتقابل بين الزّوجين يمكن إعادتهما في المرّتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصّورة إذا تكرّر منه الطّلاق في المرّة الثالثة فلا يحقّ له الرّجوع إلّا بشرائط معيّنة تأتي في الآية التالية.
3. يجب الالتفات إلى أنّ (إمساك) يعني الحفظ و(تسريح) بمعنى إطلاق السّراح ومجيء جملة ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ بعد جملة ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ إشارة إلى الطّلاق الثالث الّذي يفصل بين الزّوجين لا بدّ أن يكون مع مراعاة موازين الحقّ والإنصاف والقيم الأخلاقيّة (جاء في أحاديث متعدّدة أنّ المراد من قوله ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هو الطّلاق الثالث، فعلى هذا يكون المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي، ولا يسعى الإضرار بها عملا وقولا بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويسقط شخصيّتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانيّة الزّواج المجدّد، فكما أنّ الصّلح والرّجوع إلى الزّوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعا بالإحسان أيضا، ولهذا تضيف الآية الشريفة ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزّوج عند الانفصال النهائي أن يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئا، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان، وقد ذكر هذا الحكم بالتفصيل في سورة النّساء الآيات 20 و21 حيث يأتي ذكره، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من (المهر) وقالوا أنّه يشمل كلّما أعطاه الزوج من الهدايا لزوجته أيضا.
4. ممّا يستجلب النظر في مورد الرّجوع والصّلح هو التعبير بـ (المعروف) ولكن في مورد الفرقة والانفصال ورد التعبير (بإحسان) الّذي يفهم منه ما هو أعلى وأسمى من المعروف، وذلك من أجل جبران ما يتخلّف من المرارة والكآبة لدى المرأة بسبب الانفصال والطّلاق.
5. تتطرق الآية إلى ذكر مسألة (طلاق الخلع) وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطّلاق حيث تقول الآية ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ ثمّ تضيف ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، أي الفدية أو التعويض الّذي تدفعه المرأة للتّخلّص من الرّابطة الزّوجية، هذه الحالة تختلف عن الاولى في أنّ الطّالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرّجل الّذي يريد ويطلب بقاء العلقة الزوجيّة، وبذلك يتمكّن الزّوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوّج مرّة أخرى ويختار له زوجة ثانية.
6. الجدير بالذكر أنّ الضّمير في جملة ﴿أَلَّا يُقِيمَا﴾ الوارد بصورة التثنية إشارة إلى الزّوجين، ولكن في جملة ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ ورد بصيغة الجمع للمخاطب، وهذا التفاوت يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم نظارة حكّام الشرع على هذا اللّون من الطّلاق، أو إشارة إلى أنّ تشخيص عدم إمكانيّة استمرار الحياة الزوجيّة مع رعاية حدود الإلهيّة لا يمكن أن تكون بعهدة الزّوجين، لأنّه في كثير من الحالات يظنّ الزوجين ولأسباب نفسيّة وحالات عصبيّة عدم إمكانيّة إدامة الحياة الزّوجيّة لأسباب تافهة، ولهذا يجب أن تطرح المسألة على العرف ومن له علاقة بهذين الزّوجين يثبت بهذه الصورة جواز الطّلاق الخلعي.
7. في ختام الآية تشير إلى مجمل الأحكام الواردة فيها وتقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
8. يستفاد من جملة ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ أنّ تعدّد الطّلاق لا يصحّ أن يكون في مجلس واحد، بل يجب أن يقع الطّلاق في مجالس متعدّدة، وخاصّة إذا عرفنا بأنّ الغاية هو إعطاء فرصة أكثر للرّجوع واحتمال عودة المؤدة بعد النّزاع الأوّل، فإن لم يتحقق الصلح في المرحلة الاولى فسيتحقّق في الثانية ولكنّ وقوع عدّة طلقات مرّة واحدة يوصد هذا الباب كليّا وينفصل الزّوجان بعد ذلك نهائيّا فلا أثر لتعدّد الطّلاق عملا.
9. هذا الحكم المذكور آنفا مقبول لدى فقهاء الشيعة، ولكن هناك اختلاف بين أهل السّنة بالرّغم من أنّ أكثرهم يرى جواز تعدّد الطّلاق في مجلس واحد، أمّا كاتب تفسير المنار فينقل عن مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم أنّ حكم ثلاث طلقات في مجلس واحد لا يحسب إلّا طلاق واحد، وهذا ما كانت السّنة جارية عليه منذ حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وحتّى سنتين من خلافة عمر حيث يتّفق على ذلك جميع الصّحابة، ولكنّ الخليفة الثاني بعد ذلك حكم بأنّ الطّلاق ثلاثا في مجلس واحد صحيح ويقع ثلاثا.
10. مع حكم الخليفة الثاني بوقوع الطّلاقات الثلاثة في مجلس واحد ذهب جماعة من أهل السّنة إلى عدم وقوعها، ومنهم الشيخ الأزهر الأكبر (الشيخ محمود شلتوت) حيث كتب في مجلّة (رسالة الإسلام) وفي مقارنة بين آراء المذاهب الإسلاميّة وأخذ في كثير من الأحايين بآراء الشيعة، لأنّها كما يقول أقوى دليلا ومن ذلك مسألة تعدّد الطّلاق وأفتى بأنّ الطلاقات الثلاثة في مجلس واحد هي بمثابة الطّلاق الواحد.
11. في هذه الآية وآيات كثيرة أخرى عبّرت عن القوانين الإلهيّة بكلمة (حد) وبهذا فإن المعصية ومخالفة هذه القوانين تعدّد تجاوزا للحد، وفي الواقع فأنّ بين الأعمال التي يؤدّيها الإنسان توجد مجموعة مناطق ممنوعة، أي يكون الدخول فيها خطرا وترسم القوانين والأحكام الإلهيّة حدود هذه المناطق الممنوعة كالعلامات المنصوبة على تلك المناطق، ولهذا نقرأ في سورة البقرة النهي عن الاقتراب من هذه الحدود ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ لأنّ الاقتراب منها يعرّض الإنسان إلى خطر السقوط في الهاوية، وكذلك ورد النهي في روايات أهل البيت عليهم السّلام عن مواضع الشبهة، لأنّه بحكم الاقتراب من شفا الهاوية الذي قد يستتبعه السقوط بأدنى غفلة (من حام حول الحمى أو شك أن يقع فيه)
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/159.
104. الطلاق البائن والرجعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈104⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 230]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المحلل، والمحلل له(1).
__________
(1) أحمد: ٧/٣١٣.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ هذه الثالثة(1).
2. روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي فيمن طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
(2) البيهقي في سننه: ٧/٣٣٤ ـ: ٣٣٥.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ إن طلقها ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ إذا تزوجت بعد الأول، فدخل بها الآخر؛ فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلقها الآخر أو مات عنها، فقد حلت له(2).
3. روي أنّه قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (كيف طلقتها؟)، قال طلقتها ثلاثا، فقال: (في مجلس واحد؟)، قال نعم، قال: فإنما تلك واحدة؛ فأرجعها إن شئت)، فراجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر، فتلك السنة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١](3).
4. روي أنّه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم(4).
5. روي عن ابن أبي مليكة، أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس، فقال: أتعلم أن ثلاثا كن يرددن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى واحدة؟ قال نعم(5).
6. روي أنّه قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا، بفم واحد، فهي واحدة(6).
7. روي أن رجلا سأله، فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، قال إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، قال كيف ترى في رجل يحلها له؟ قال من يخادع الله يخدعه(7).
8. روي أنّه قال: طلق عبد يزيد ـ أبو ركانة وإخوته ـ أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة ـ لشعرة أخذتها من رأسها ـ، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم حمية، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: (أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان منه كذا وكذا؟)، قالوا: نعم، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعبد يزيد: (طلقها)، ففعل قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته)، فقال: إني طلقتها ثلاثا، يا رسول الله قال: قد علمت، أرجعها)، وتلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١](8).
9. روي عن طاووس بن كيسان، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم(9).
10. روي عن طاووس بن كيسان، أن رجلا يقال له: أبو الصهباء، كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال أجيزوهن عليهم(10).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٦٦.
(2) ابن جرير: ٤/١٧٥، وابن أبي حاتم: ٢/٤٢٣.
(3) أحمد: ٤/٢١٥.
(4) عبد الرزاق: ١١٣٣٦.
(5) الحاكم: ٢/٢١٤.
(6) أبو داوود: ٢١٩٧.
(7) عبد الرزاق: ١٠٧٧٩.
(8) أبو داوود: ٣/٥١٨.
(9) مسلم: ٢/١٠٩٩.
(10) أبو داوود: ٣/٥٢٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، والثالثة قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ ـ يعني: ب الثالثة ـ فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٦٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قيل له: طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا، وتدع سبعا وتسعين(1).
__________
(1) الشافعي: ٢/٨١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ ظَنَّا﴾ إن أيقنا(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلم 100.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، قال: هي التي تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق الثالثة، فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، وتذوق عسيلته، ويذوق عسيلتها وهو قول الله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ التسريح بالإحسان: التطليقة الثالثة(1).
2. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وتزوجها رجل متعة، أيحل له أن ينكحها؟ قال: لا، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه(2).
3. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فتزوجها عبد ثم طلقها، هل يهدم الطلاق؟ قال: نعم، لقول الله تعالى في كتابه: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(2).
4. روي أنّه سئل عن المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره؟ قال: هي التي تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق الثالثة، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها(3).
5. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته، طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فتزوجها وجل متعة، أتحل للأول؟ قال لا، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ والمتعة ليس فيها طلاق(4).
6. روي عن مسلمة بن جعفر الأحمسي قال قلت لجعفر بن محمد: إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة، يجعلونها واحدة، يروونها عنكم قال معاذ الله، ما هذا من قولنا، من طلق ثلاثا فهو كما قال(5).
7. روي عن بسام الصيرفي قال سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته بجهالة أو علم فقد برئت منه(5).
8. روي أنّه قال: المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره: التي تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق، ثم تراجع، ثم تطلق الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره إن الله جل وعز يقول: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ والتسريح: هو التطليقة الثالثة(1).
9. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾: هي هنا التطليقة الثالثة، فإن طلقها الأخير فلا جناح عليهما أن يتراجعا بتزويج جديد(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/116.
(2) الكافي: 5/425.
(3) الكافي: 6/76.
(4) التهذيب: 8/34.
(5) البيهقي: ٧/٣٤٠.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، فقال: (إن الله عز وجل إنما أذن في الطلاق مرتين، فقال عز وجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ يعني في التطليقة الثالثة، ولدخوله فيما كره الله عز وجل له من الطلاق الثالث حرمها عليه، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق، ولا تضار النساء، فالمطلقة للعدة إذا رأت أول قطرة من الدم الثالث بانت به من زوجها، ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره(1).
2. روي أنّه سئل عن الخصي: يحلل؟ قال: لا يحلل(2).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 3/324.
(2) التهذيب: 8/34.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
أ. قيل: التطليقة الثالثة، وعلى ذلك جاء الخبر، وهو واحد عندنا(2)، يدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾
ب. ويحتمل: عقد النكاح خاصة، دون الجماع من الثاني؛ إذ ليس في الآية ذكر الدخول بها، وأما عندنا: فهو على الجماع في النكاح الثاني، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها)، فيكون النكاح مضمرا، وهو أولى؛ لأن الآية في عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء، وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة ـ إذ هي لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه.
2. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فيه دليل على:
أ. أن في التراجع إيجاب عقد بهما جميعا؛ فدل على قطع رجعه الثاني المحل هذا ـ في أحكام الله تعالى ـ لا يوجد ولا يستقيم وهو كالوضوء فيما جعل سببا لإقامة الصلاة، ولم يجز أن يجعل سببا لها ثم يكره الإقدام عليه وينهى عنه، وكالتحريم إذ جعل سببا للدخول بها في الصلاة لم يجز النهى عنها، وبها قوامها، كذا هذا، لما جعل سببا لرفع الحرمة به لا جائز أن ينهى عنه.
ب. جواز نكاح المحلل، فإن سئلنا عن قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له)، قيل: لحوق اللعن لأجل النكاح على قصد الفراق والطلاق، ليس لأجل التحليل على الأول، ورفع الحرمة عنه، دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يحب كل ذواق مطلاق)؛ وذلك لقصده الفراق بالنكاح، إذ النكاح بنى في الأصل على البقاء والدوام عليه، وفيه التعفف، وفى الطلاق زوال ما به يقصد؛ فلهذا لحقه ما لحقه من اللعن.
3. المحلل له لما طلب بنكاح الزوج الثاني ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر، انزجر عن ذلك، ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجرا ومنعا عن ارتكابه.
4. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ يخرج على الترخيص؛ وذلك أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم يحرم فأخبر ـ عزّ وجل ـ وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة ـ أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبدا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/169.
(2) يقصد الحنفية.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يعني المطلقة الثالثة لا تحل للزوج المطلق حتى تنكح زوجاً غيره ثم نكاح الثاني يحللها الأول بعد دخول الثاني بها ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته للخبر(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/113.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي.
ب. الثاني: أن ذلك تخيير لقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهو قول مجاهد.
2. ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثا حتى تنكح زوجا آخر، وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل، وهو قول سعيد بن المسيب.
ب. الثاني: أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني، حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، للسنّة المروية فيه، وهو قول الجمهور.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/296.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾:
أ. قيل: المعني فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر عليه السلام، وبه قال السدي، والضحاك، والزجاج، والجبائي، والنظام.
ب. وقال مجاهد: هو تفسير لقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فانه التطليقة الثالثة، وهو اختيار الطبري.
2. صفة الزوج الذي تحل المرأة، للزوج الأول أن يكون بالغاً، ويعقد عليها عقداً صحيحاً دائماً ويذوق عسيلتها، بان يطأها وتذوق هي عسيلته ـ بلا خلاف بين أهل العلم ـ فلا يحل لأحد أن يتزوجها في العدة، وأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة فإنها لا تحل للزوج الاول، ومتى وطأها بعقد صحيح في زمان يحرم عليه وطؤها مثل أن تكون حائضاً، أو محرمة، أو معتكفة، فإنها تحلّ للأول لأن الوطء قد حصل في نكاح صحيح، وإنما حرم الوطء لأمر، ضار عليه، هذا عند أكثر أهل العلم، وقال مالك: الوطء في الحيض لا يحل للأول وإن وجب به المهر كله، والعدة.
3. موضع (أن):
أ. في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ خفض، وتقديره في أن يتراجعا ـ عند الخليل، والكسائي، والزجاج ـ وقال الفراء: موضعه النصب، واختاره الزجاج، وباقي النحويين، وقال الفراء: الخفض لا أعرفه،
ب. وموضع (أن)الثانية في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ نصبـ بلا خلاف ب (ظنا)، وإنما جاز حذف (في) من أن يتراجعا ولم يحز من التراجع، لأنه إنما جاز مع (أن)لطولها بالصلة، كما جاز (الذي ضربت زيد)، لطول الذي بالصلة، ولم يجز في المصدر، كما لم يجز في اسم الفاعل نحو (زيد ضارب عمرو) وتريد ضاربه.
4. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الثانية يعنى به الزوج الثاني وذلك يدل على أن الوطء بعقد لا تحل للزوج الأول، لأن الطلاق لا يلحق نكاح شبهة، والراجع المذكور هاهنا، هو بعقد مستأنف، ومهر جديد، بلا خلاف.
5. ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ قرأ المفضل عن عاصم بالنون على وجه الاخبار من الله عن نفسه، الباقون بالياء، الكناية عن الله.
6. ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ إنما خص العلم بذكر البيان وإن كان بياناً لغيرهم، لأنهم الذين ينتفعون ببيان الآيات، فصار غيرهم بمنزلة من لم يعتد به، ويجوز أيضاً أن يكونوا خصّوا بالذكر تشريفاً لهم، كما قال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾
7. الحدود: المراد بها ما تقدم بيانها من أحكام الطلاق، والإيلاء، والخلع، وغير ذلك.
8. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ لا يدل على وجوب الاجتهاد في الشريعة، لأنه لا يمنع من تعلق أحكام كثيرة ـ في الشرع ـ في الظن، وإنما فيه دلالة على، من قال لا يجوز: أن يعمل في شيء من الدين إلا على اليقين، فأما الظن، فلا يجوز أن يتعلق فيه شيء من الأحكام، فالآية تبطل قوله.
9. ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾.. ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يدل على أن النكاح بغير ولي جائز، وأن المرأة يجوز لها العقد على نفسها، لأنه أضاف العقد إليها دون وليها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/249.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ عاصم في رواية أبان والمفضل ﴿نبينها﴾ بالنون على الإضافة بنون التعظيم، والباقون بالياء على أنه يرجع إلى اسم الله تعالى.
2. شرح مختصر للكلمات:
أ. النكاح: عبارة عن الوطء، ومنه: ﴿ملعون من نكح بهيمة﴾، وعن العقد، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ وأصله الوطء، ثم سمي العقد، لأنه سبب الوطء.
ب. الزوج: الواحد الذي يكون معه آخر، والاثنان زوجان يقال: زوجا خف، والرجل زوج امرأته، والمرأة زوجة، والزوج: صنف أيضًا، ومنه: ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ والأزواج: الأشباه، ومنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾.
ج. البيان: الفصل بين الشيئين، وأصله من بان يبين إذا فارق، والبين: الفراق، فأما حد البيان:
• فقيل: هو الأدلة، عن أبي علي وأبي هاشم والقاضي.
• وقيل: العلم الحادث، عن أبي عبد الله البصري.
• وقيل: ما يخرج الشيء عن حد الإشكال إلى حد التجلي عن الصيرفي، وموضع المسألة أصول الفقه.
3. قيل: نزلت الآية في عائشة، وقيل: تميمة بنت عبد الرحمن القرظي، وكانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها، فطلقها ثلاثًا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير البصري، فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقالت: كنت عند رفاعة بطلقتين فبت طلاقي، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة ثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأوجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا، حتى تذوقي من عسيلته، ويذوق من عسيلتك) وأبو بكر جالس يسمع، والمراد بالعسل الجماع شبه اللذة فيه بالعسل، وهذا من فصيح الكنايات، فلبثت ما شاء الله، ثم عادت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقالت: إن زوجي مسني، فقال: (كذبت قولك الأول، فلا نصدقك في الآخر)، فلبثت حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأتت أبا بكر فاستأذنت، فقال: لا ترجعي إليه، فلبثت حتى مضى لسبيله، فأتت عمر فاستأذنت فقال: لئن رجعت إليه لأرجمنك، وفي قصة رفاعة وامرأته نزلت: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
4. ثم بَيَّنَ تعالى حكم التطليقة الثالثة، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾:
أ. قيل: يعني الزوج يطلقها التطليقة الثالثة.
ب. وقيل: إن قولة: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ تفسير لقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، عن مجاهد، وهذا على مذهب من يجعل التسريح طلاقًا، وقيل: بل هي التطليقة الثالثة، عن السدي.
5. ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ يعني هذه المرأة لا يحل نكاحها لهذا الذي طلق ثلاثًا ﴿مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يعني حتى تتزوج زوجًا، ويجامعها، واختلفوا:
أ. فقيل: العقد يُعْلَمُ بالكتاب، والوطء بالسنة، عن أبي علي.
ب. وقيل: بل كلاهما يُعْلَمُ بالكتاب؛ لأن النكاح يعبر به عنهما، كأنه قيل: حتى تتزوج ويجامعها.
ج. وقيل: تقديره: حتى يجامعها زوج، فيفهم الوطء بقوله تعالى: ﴿تَنْكِحَ﴾ والعقد بقوله تعالى: ﴿زَوْجًا﴾ قال أبو مسلمِ: وهو من الكنايات الفصيحة، والإيجاز العجيب.
6. ﴿غَيْرُهُ﴾ أي غير المطلق، ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ يعني الزوج الثاني، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا مأثم على المرأة والزوج الأول، ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ يعني بنكاح جديد باتفاق أهل العلم، فذكر النكاح بلفظ التراجع، ﴿إِنْ ظَنَّا﴾ قيل: عَلِمَا، وقيل: أَيْقَنَا، وقيل: اعَتَقَدا، عن أبي مسلم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾:
أ. قيل: علما أن نكاحهما على غير دُلْسَةٍ.
ب. وقيل: يعملان بما أمر الله به كل واحد منهما في حق الآخر.
8. ﴿وَتِلْكَ﴾ يعني ما نبينه ﴿حُدُودُ الله﴾ أوامره ونواهيه ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ يفصلها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: هم العقلاء؛ لأنهم المخاطبون، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: أراد به من يعْلَمُ، وخصهم بالذكر؛ لأنهم ينتفعون بالآيات، فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به.
ج. وقيل: خصهم بالذكر؛ لنباهتهم، كقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾
د. وقيل: يبينها ليعلم أنه بعث الرسول وأنزل الكتاب، عن الأصم.
هـ. وقيل: أراد العرب؛ لأن القرآن نزل بلسانهم مصلحة لهم في الدارين.
9. اختلفوا في التحليل على ثلاثة أقاويل:
أ. منهم من قال: إذا نوى التحليل يفسد النكاح، ولا تحل للأول، عن سفيان ومالك والأوزاعي، وروي عن أبي يوسف نحوه، وتعلقوا بنهيه عنه بقوله: ﴿لعن الله المحلل والمحلل له﴾.
ب. ومنهم من قال: إذا لم يشترط في العقد حل، وإذا شرطه يفسد، ولا تحل، وهو قول الشافعي.
ج. ومنهم من قال: يصح العقد ويبطل الشرط وتحل للأول، ولكن يكره، وهو الظاهر من مذهب أبي حنيفة وأهل العراق، وإن اختلفت الروايات عنهم، وعن محمد: أنه يصح النكاح، ولا تحل للأول.
10. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن المملوك يعقد النكاح بثلاث تطليقات؛ إذ لو ملك أكثر لكان في الثالثة في جواز الرجعة كالبائنة.
ب. أنه إذا طلقها لا تحل إلا بعد شرائط الزوج الثاني وَوَطْأَهُ وفرقته وانقضاء عدته.
ج. أن الزوج الأول يكون خاطبًا من الخطاب.
د. تأديب من الله تعالى ليتحرز من الطلاق؛ لأنها قد تكون ذات أولاد، وقد يحبها، وقد تكون صالحة، ويشق عليه مراجعتها بعد زوج، وأمر بأن تطلق للعدة، وأثبت المراجعة مصلحة لهم.
هـ. أن الزوج الثاني يرفع التحريم، ولا بد من نكاح صحيح، ولا يحلها الفاسد والوطء بالشبهة، ووطء المولى، واختلفوا فيما دون الثلاث: هل يرفع الزوج الثاني ذلك؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: نعم، وقال محمد، والشافعي: لا.
و. أن الحكم الشرعي قد يتعلق بإثبات علل؛ لأن إباحتها للأول تعلقت بهذه الأشياء.
ز. أن التحريم يرتفع، وإن لم يطلق الثاني ثلاثًا؛ لأنه أطلق ذلك.
ح. أنه أباح التراجع بشرط أن يقيما حدود الله، وهذا شرط في إباحته، لا في صحته، بإجماع الفقهاء.
ط. أن الأحكام تتعلق بالظن، فتدل على صحة الاجتهاد في المسائل، واختلفوا في الظن فقيل: جنس برأسه سوى الاعتقاد، عن أبي علي، وقيل: هو من جنس الاعتقاد، عن أبي هاشم.
ي. أن للتعبّد مدخلاً في النكاح والطلاق والرجعة لذلك قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ ولما كان النكاح الثاني شرطًا في الحل للزوج الأول.
11. موضع: ﴿إِنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ خفض بإضمار الخافضة تقديره: في أن يتراجعا، عن الخليل والزجاج والكسائي، وقيل: موضعها نصب بنزع الخافضة، عن الفراء، وقيل: لما حذف حرف الخافضة، وصل الفعل إليه فنصبه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/918.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة ما روي عن عروة عن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة بن وهب القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، وانه طلقني قبل أن يمسني، فأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسسيلتك، وتذوقي عسيلته! وفي قصة رفاعة وزوجته نزل: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
2. ثم بين سبحانه حكم التطليقة الثالثة، فقال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾:
أ. قيل: يعني التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر، وبه قال السدي والضحاك.
ب. وقيل: هو تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، عن مجاهد، وهذا على مذهب من جعل التسريح طلاقا.
3. ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي: لا تحل هذه المرأة، أي: لا يحل نكاحها لهذا الرجل الذي طلقها، حتى تزوج زوجا غيره، ولجامعها، واختلف في ذلك:
أ. فقيل: العقد علم بالكتاب، والوطء بالسنة، عن الجبائي.
ب. وقيل: بل كلاهما علم بالكتاب، لأن لفظ النكاح يطلب عليهما، فكأنه قيل: حتى يتزوج ويجامعها الزوج، ولأن العقد مستفاد بقوله تعالى: ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، والنكاح مستفاد بقوله ﴿حَتَّى تَنْكِحَ﴾.
4. إنما أوجب الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل، حتى لا يعجلوا بالطلاق وأن يتثبتوا، قال أبو مسلم: وهذا من الكنايات الفصيحة، والإيجاز العجيب.
5. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الزوج الثاني، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي: فلا جناح على الزوج وعلى المرأة أن يعقدا بينهما عقد النكاح، ويعودا إلى الحالة الأولى، فذكر النكاح بلفظ التراجع.
6. ﴿إِنْ ظَنَّا﴾ أي: إن رجيا، وقيل: علما، وقيل: اعتقدا ﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ في حسن الصحبة والمعاشرة، وأنه يكون بينهما الصلاح.
7. ﴿وَتِلْكَ﴾ إشارة إلى الأمور التي بينها في النكاح والطلاق والرجعة، ﴿حُدُودُ الله﴾: أوامره ونواهيه، ﴿يُبَيِّنُهَا﴾: يفصلها، ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ خص العالمين بذكر البيان لهم:
أ. لأنهم هم الذي ينتفعون ببيان الآيات، فصار غيرهم بمنزلة من لا يعتد به.
ب. ويجوز أيضا أن يكونوا خصوا بالذكر تشريفا لهم، كما خص جبرائيل وميكائيل بالذكر من بين الملائكة.
8. تدل الآية على أنه طلقها الثالثة، فلا تحل له إلا بعد شرائط الزوج الثاني، ووطئه في القبل، وفرقته وانقضاء عدتها، وصفة الزوج الذي يحل المرأة للزوج الأول، أن يكون بالغا، ويعقد عليها عقدا صحيحا دائما، واختلف في التحليل على ثلاثة أقاويل:
أ. فمنهم من قال: إذا نوى التحليل يفسد النكاح، ولا تحل للأول، عن مالك والأوزاعي والثوري، وروي نحوه عن أبي يوسف، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له).
ب. ومنهم من قال: إذا لم يشرط في العقد حل، وإذا شرطه يفسد، ولا يحل عند الشافعي.
ج. ومنهم من قال: يصح العقد، ويبطل الشرط، وتحل للأول، ولكن يكره ذلك، وهو الظاهر من مذهب أبي حنيفة وأهل العراق وقال محمد: يصح النكاح، ولا تحل للأول.
9. في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ دلالة على أن النكاح بغير ولي جائز، وأن المرأة يجوز لها أن تعقد على نفسها، لأنه أضاف العقد إليها دون وليها.
10. موضع: ﴿إِنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ جر بإضمار الجار وتقديره: في أن يتراجعا، عن الخليل والكسائي والزجاج، وقيل: وموضعه نصب، وهو اختيار الزجاج، وباقي النحويين.
11. موضع: ﴿إِنْ﴾ الثانية وهو ﴿أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾: نصب بلا خلاف بظنا، وإنما جاز حذف في من ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾، ولم يجز حذفه من المصدر الذي هو التراجع، لطول أن بالصلة، كما جاز الذي ضربت زيد لطول) الذي) بالصلة، ولم يجز في المصدر كما لم يجز في اسم الفاعل، نحو: زيد ضارب عمرو، ويريد ضاربه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/577.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾:
أ. ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظيّ.
ب. وقال غير مقاتل: إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمّها، فطلّقها ثلاثا، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، ثم طلّقها، فأتت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلّقني، فأبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، وإنه طلّقني قبل أن يمسّني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
2. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ يعني: الزوج المطلّق مرتين، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هي الطّلقة الثالثة.
3. عاد الله تعالى بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق.
4. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، يعني: الثاني ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ يعني: المرأة، والزوج الأول ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، قال طاووس: ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصّحبة.
5. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا﴾ قراءة الجمهور (يبينها) بالياء، وقرأ الحسن؛ ومجاهد، والمفضّل عن عاصم بالنون ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، قال الزجّاج: يعلمون أن أمر الله حقّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/204.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة، والذين قالوا: إن قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ تفسير لقوله تعالى: ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وهذا قول مجاهد، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله تعالى: ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الطلقة الثالثة، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالا ثلاثة:
أ. أحدها: أن يراجعها، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 229].
ب. الثاني: أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
ج. الثالث: أن يطلقها طلقة ثالثة، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ فإذا كانت الأقسام ثلاثة، والله تعالى ذكر ألفاظا ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة، فأما إن جعلنا قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلوم أن الأول أولى.
2. وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي، ونظم الآية: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره.
3. سؤال وإشكال: إذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟، والجواب: السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك: فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بحكم الخلع، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب.
4. مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط: تعتد منه، وتعقد للثاني، ويطؤها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد.
5. اختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة، أو بالكتاب:
أ. قال أبو مسلم الأصفهاني: الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار، وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة، قال عثمان بن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: (فرقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة)، وهذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين، فإذا قيل: نكح فلان زوجته، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته، ثم الزوجة ليست اسما لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسما لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب، إذا ثبت هذا فنقول: إذا قلنا نكح فلان زوجته، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة، تقدم المفرد على المركب، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية، إذا ثبت هذا كان قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية، فكل من قال بذلك قال إنه الوطء، فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء، فقوله تعالى: ﴿تَنْكِحَ﴾ يدل على الوطء، وقوله تعالى: ﴿زَوْجًا﴾ يدل على العقد.
ب. أما قول من يقول: إن الآية غير دالة على الوطء، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدودا إلى غاية، وهي قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ﴾ وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد، فكان رفعها بالخبر نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، أما إذا حملنا النكاح على الوطء، وحملنا قوله تعالى: ﴿زَوْجًا﴾ على العقد، لم يلزم هذا الإشكال، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها، فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي، فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقالت: كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقالت: إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأتت أبا بكر فاستأذنت، فقال: لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك، وفي قصة رفاعة نزل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
6. المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعا وزاجرا.
7. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المتفرعة على هذه المسألة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
8. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ المعنى: إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح، فهذا تراجع لغوي.
9. ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] لأن المقصود من العدة استبراء الرحم، وهذا المعنى حاصل هاهنا، وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد، لأن الوطء لو كان معتبرا لكانت العدة واجبة، وهذه الآية تدل على سقوط العدة، لأن الفاء في قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا.
10. قال الخليل والكسائي: موضع أَنْ يَتَراجَعا خفض بإضمار الخافض، تقديره: في أن يتراجعا، وقال الفراء: موضعه نصب بنزع الخافض.
11. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ قال كثير من المفسرين ﴿إِنْ ظَنَّا﴾ أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله، وهذا القول ضعيف من وجوه:
أ. أحدها: أنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد.
ب. الثاني: أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه.
ج. الثالث: أنه بمنزلة قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة: 228] فإن المعتبر هناك الظن فكذا هاهنا، وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن، أي متى حصل هذا الظن، وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله، حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم.
12. كلمة (إن) في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة، لكنه ليس الأمر كذلك، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول: ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة: بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾
13. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى ما بينها من التكاليف، وقوله: ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض، وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة، وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة، فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو كقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].
14. قرأ عاصم في رواية أبان نبينها بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى.
15. إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه:
أ. أحدها: أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به، وهو كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2].
ب. الثاني: أنه خصصهم بالذكر كقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98].
ج. الثالث: يعني به العرب لعلمهم باللسان.
د. الرابع: يريد من له عقل وعلم، كقوله: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43] والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلا عالما بما يكلفه، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف و.
هـ. الخامس: أن قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/449.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ على قوله ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.
2. اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وفيه قول ثان وهو أن الطلاق لا يلزمها، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل، الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام.
3. المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الطلقة الثالثة ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه، واختلفوا فيما يكفي من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف، وقال الحسن بن أبى الحسن: لا يكفى مجرد الوطي حتى يكون إنزال، وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطي كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق، قال ابن العربي: ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب، وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن، قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطي، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن المسيب قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول، وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها، قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب (معاني القرآن) له، قال: وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع، لأنه قال: ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح ها هنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها، قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ والله أعلم، روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه)، قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء، قال علماؤنا: ويفهم من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه) استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.
4. روى النسائي عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا ومؤكله والمحلل والمحلل له، وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي، وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يزوجها بنكاح جديد، قال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي، وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الخيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة، وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء، وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها، ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه، وفيه قول ثالث ـ قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا، فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبي حنيفة، ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داوود قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي، وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد، وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داوود بن علي إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.
5. جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة، قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك، ولا خلاف أنه لا رجم عليه.
6. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ يريد الزوج الثاني، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي المرأة والزوج الأول، قال ابن عباس، ولا خلاف فيه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات، واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول:
أ. فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأى بن كعب وعمران ابن حصين وأبو هريرة، ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر.
ب. وفيه قول ثان وهو أن النكاح جديد والطلاق جديد، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال، وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر، قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
7. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي.
8. قوله تعالى: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ شرط، قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه، وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شي من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه، وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها، وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه، وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق، واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان.
9. قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع، وقد تقدم هذا مستوفى، وإنما قال: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده، والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/147.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي: الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله تعالى: ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي: فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي: حتى تتزوج بزوج آخر، وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيب، ومن وافقه قالوا: يكفي مجرد العقد لأنه المراد بقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ وذهب الجمهور من السلف والخلف: إلى أنه لا بدّ مع العقد من الوطء، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من اعتبار ذلك، وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه.
2. في الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك نكاحا شرعيا مقصودا لذاته، لا نكاحا غير مقصود لذاته، بل حيلة للتحليل، وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأوّل، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذمّ فاعله، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع، ولعن من اتخذه لذلك.
3. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي: الزوج الثاني ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: الزوج الأول والمرأة ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي: يرجع كل واحد منهما لصاحبه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحرّ إذا طلق زوجته ثلاثا؛ ثم انقضت عدّتها؛ ونكحت زوجا؛ ودخل بها؛ ثم فارقها؛ وانقضت عدّتها؛ ثم نكحها الزوج الأوّل؛ أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.
4. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي: حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك، بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو ترددا أو أحدهما ولم يحصل لهما الظنّ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح لأنه مظنة للمعصية لله والوقوع فيما حرّمه على الزوجين.
5. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى الأحكام المذكورة كما سلف، وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم وغيره، ووجوب التبليغ لكل فرد، لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/275.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ ـ أي: بعد التطليقتين ـ ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ ـ برجعة ولا بنكاح جديد ـ ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ ـ أي: من بعد هذا الطلاق ـ ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي: حتى تذوق وطء زوج آخر، وهي العسيلة التي صرح بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في نكاح صحيح.
2. في جعل هذا غاية للحلّ، زجر لمن له غرض مّا في امرأته عن طلاقها ثلاثا، لأنّ كلّ ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر.
3. التحليل غير جائز في الشرع، ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به، وإذا كان لعن الفاعل لا يدلّ على تحريم فعله لم تبق صيغة تدلّ على التحريم قط؛ وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله تعالى في قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، كما أنه لو قال: لعن الله بائع الخمر) لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ والأمر ظاهر.
4. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بطلاق الغضبان والخلع وغيرها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
5. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي: الزوج الثاني ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: على المرأة ومطلّقها الأول ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي إلى ما كانا فيه من النكاح بعقد جديد بعد عدّة طلاق الثاني المعلومة مما تقدم من قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ الآية.
6. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، أي: التي أوجب مراعاتها على الزوجين من الحقوق ﴿وَتِلْكَ﴾ أي: الأحكام المذكورة ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾، أي: أحكامه المحميّة من التغيير والمخالفة ﴿يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، أي: يكشف اللبس عنها لقوم فيهم نهضة وجدّ في الاجتهاد فيجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت، فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29]، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282] ـ أفاده البقاعيّ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/139.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي.(1):
1. ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ واحدة بعد أخرى أو دفعة، ولو خالف السنَّة في الدفعة، فالآية على أنَّ الطلاق لا يكون أكثر من ثلاثة لا في بيان الأفضل، وإنْ كان فيه فمرَّتان، من تثنية التكثير كـ (لبَّيك) و(كرَّتين) و(علَّمتك الكتاب بابًا بابًا)، فالمعنى: مرَّة مرَّة بلا نهاية، لكن لكلِّ زوج اثنتان وثالثة فقط، والثالث في قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ دون ضرر.
2. ﴿اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ ومعلوم أنَّ الإمساك بعد الطلاق إنَّما هو بالمراجعة، فإذا راجعها بعد التطليقتين فعليه أنْ يمسكها بمعروف أو يطلِّقها الثالثة بإحسان فلا يراجعها بعدُ، ولا يتزوَّجها حتَّى تنكح زوجًا غيره، كان الرجل إذا طلَّق وراجع قبل تمام العدَّة فله ذلك ولو ألفًا، فقصد رجل ذلك إذا شارفت التمام راجع فقال: والله لا آوِيكِ ولا تخلين أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى ذلك.
3. روى أبو داود وابن أبي حاتم والدارقطني عن أنس أنَّه سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أين الثالثة؟) فقال: (﴿اَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾)؛ قال الحسن بن عليٍّ لزوجه: (أنت طالق ثلاثًا) وندم، فقال: لولا أنِّي سمعت جدِّي أو حدَّثني أبي عن جدِّي: (أيُّما رجل طلَّق امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو ثلاثًا مبهمة ـ يعني بالإبهام أنَّها بلفظ واحد ـ لم تحلَّ له حتَّى تنكح زوجًا غيره، لراجعتها)، والثلاثة بمرَّة واثنتان بمرَّة بدعة عندنا وعند أبي حنيفة خلافًا للشافعي، مستدلًّا بحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلَّقها ثلاثة بمرَّة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم ينكر عليه، قلنا: لا دليل على تأخُّره عن نزول الآية، وأيضًا يضعِّفه أنَّه لا طلاق بعد لعان، ولو كان هذا لا ينهض حجَّة.
4. روى ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ طلاق السنَّة أنْ تستقبل الطُّهر استقبالاً فتطلِّقها لكلِّ قرء تطليقة)، وإنْ طلَّق اثنتين بلفظين أو ثلاثًا بلفظين أو ثلاثة ألفاظ قبل الدخول عدَّت واحدة، إذ لا عدَّة عليها تدركها أخرى فيها، وإنْ قال: تطليقتين طلَّقتك أو ثلاثًا طلَّقتك أو طلَّقت تطليقتين زوجي أو فلانة، أو طلَّقت ثلاثًا زوجي أو فلانة، وقع الاثنتان أو الثلاث ولو قبل الدخول، وإن أخَّر تطليقتين أو ثلاثًا عن فلانة أو عن زوجي وقدَّم الطلاق فواحدة، وعن أبي هريرة وابن عبَّاس: اثنتان أو ثلاث، كأنَّهما راعيا نيَّته حين تلفَّظ بلفظ الطلاق، وله وجه، والنيَّة لها وقع في الحكم، طلَّق ركانة زوجه البتَّة وقال: (والله ما أردت إلَّا واحدة) فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والله ما أردتَ إلَّا واحدةً؟) فقال: (والله ما أردت إلَّا واحدة) قال: (هو ما أردتَ) فردَّها عليه، فدخل بالمعروف حسنُ العشرة وأداء حقوق الزَّوجيَّة، وبالإحسان كون الطلاق في الطهر قبل المسِّ، وكونه واحدًا أو اثنين أو ثلاثًا بتفريق، وجبر قلبها بمال نفلاً، وإيصال الصَّداق وعدم ذكرها بسوء فيها، وعدم تنفير الناس عنها بل يذكر ما فيها من خير بلا غشٍّ بما فيها من سوء، والتسريح عبارة عن أنْ يقول: (طلَّقتك)، أو (أنت طالق)، وشهر أنَّ التسريح طلاق إذا قال: سرَّحتُك، وأراد الطلاق فهو واقع، وهو الصحيح.
5. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُم﴾ أيُّها الأزواج، ﴿أَن تَاخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ من الصداق بطلبكم الافتداء أو بدونه، ﴿اِلَّآ أَنْ يَّخَافَآ﴾ أي إلَّا أنْ يخاف الزوجان منكم معشر الأزواج أي ظنَّا، أو هو على ظاهره، والاستثناء مفرَّغ، أي: في وقت ما إلَّا خوفهما، أي: إلَّا وقت خوفهما، أو لسببٍ ما إلَّا لخوفهما، أو منقطع أي: لكن خوفهما..إلخ معتبر.
6. ﴿أَلَّا يُقِيمَا﴾ أي: خافا عدم الإقامة أو من عدمها بأمارة، ﴿حُدُودَ اللهِ﴾ المتعلِّقة بالزوجيَّة، ولفظ الإقامة تحريض على تعديل مواجب الزوجية، وعلى تشمير الساق في مراعاتها ومحافظتها بلا إفراط ولا تفريط، وقيل: الخطاب للحكَّام، لقوله: ﴿فَإِن خِفْتُم﴾ بأمارة.
7. ﴿أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ فإنَّ الخطاب فيه لهم لا للأزواج، قلت: لا بأس بتلوين الخطاب، كجعل الخطاب في: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُم﴾ للأزواج وفي: ﴿إِنْ خِفْتُم﴾ للحكَّام، فإنَّه شائع في كلام الله بلا لبس، وأمَّا إسناد الأخذ والإيتاء للحكَّام فلِجريَانِهِما على أيديهم وبحكمهم عند الترافع، إلَّا أنَّه يضعف كون الخطاب للحكَّام بأنَّ الإيتاء ليس بأيديهم بل الزوج يعطي الصداق عند العقد أو بعده، إِلَّا أن يتكلَّف بأنَّ الإيتاء إيتاء المرأة إلى زوجها، أو إيتاء الزوج الصداق بالحكم حين الخصام في الصداق، مع أنَّ هذا بحاكم آخر، ويؤيِّد كون الخطاب لهم قراءة: (إلَّا أنْ تخافوا) بالخطاب والجمع.
8. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ على الزوج في الأخذ وعلى المرأة في الإعطاء، أي: فمروهما أيُّها الحكَّام بالفداء لأنَّه لا جناح عليهما، وإنْ جعلنا الخطاب في (خِفْتُم) للأزواج لم يلزم هذا التقدير، أي: فإنْ خفتم أيُّها الأزواج على أنْ لا يقيم الزوجان منكم الحدود فلا جناح عليهما، وكل اثنين في (خفتم) هما (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).
9. ﴿فِيمَا اَفْتَدَتْ بِهِ﴾ من صداقها كلِّه أو بعضه، قال بعض: أو بأكثر، بناء على أنَّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أمَّا الزيادَةُ فلَا) بمعنى أنَّها لا تجب، أمَّا بالرِّضا منها وتخليص نفسها منه فلا بأس عليه وعليها، إلَّا إن أساء حتَّى تفعل فعليه بأس، وهو كذلك عندي؛ لأنَّ النهي عن العقد لا يدلُّ على فساده، وتخليتها حقٌّ له فله فيه شرط ما شاء، إلَّا أنْ يقال يكره طلب الزيادة.
10. روي أنَّ جميلة أخت عبد الله بن أُبيِّ بن سلول، وفي بعض الطرق: جميلة بنت سهل، وروى الدارقطني: زينب أخت عبد الله بن أُبي بن سلول، ولعلَّ لها اسمين أو أحدهما لقب، وجميلة أصحُّ وأشهر، أو ذلك قصَّتان، وهو أظهر، لصحَّة الحديثين، وفي رواية: جميلة بنت عبد الله، وفي رواية: بنت أخت عبد الله، وقال التفتازاني: (اتَّفقوا أنَّ الصواب بنت أخت عبد الله) قيل: (يصحُّ ثبوت بنت وعدمه؛ لأنَّ أباها عبد الله بن أبيٍّ رأس المنافقين، وأخوها صحابيٌّ جليل اسمه: عبد الله بن عبد الله) والمراد الأب الحقيق، والقول بأنَّ أبا الأب أبٌ ضعيف هنا لذكر سلول، وسلول اسم أمِّه أو جدَّته بفتح اللَّام للعلميَّة والتأنيث، كانت ـ أعني جميلة ـ تبغض زوجها ثابت بن قيس، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: (لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ولا رأسه شيء، والله ما أعيبه في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام وما أطيقه بغضًا، إنِّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدَّة فإذا هو أشدُّهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا)، فنزلت الآية، فاختلعت منه بحديقة أصدقها، وهو أوَّل خلع وقع في الإسلام، ومعنى الكفر أنْ تقتله أو تضربه أو تسبَّه.
11. ﴿تِلْكَ﴾ الأحكام من الطلاق والرجعة والفداء وما قبل ذلك من قوله: ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ إلى هنا، ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ فقفوا عندها، ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ بالمخالفة، ﴿وَمَنْ يَّتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ﴾ في شأن الأزواج أو غيرهم كالمفاداة بلا ضرورة كهذه الكراهة الشديدة، وكإساءة عشرتها، وكعدم القيام بحقوقها، وكنشوزها عنه، وكريبَتها، وكرضاهما معًا بطيب أنفسهما لداعٍ، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم وغيرهم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المختلعات من غير ما بأس من المنافقات) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أيُّما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنَّة)، وقال: (المختلعات من المنافقات) أي من غير بأس.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/55.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن الطلاق مرتان وأنه يكون بلا عوض وقد يكون بعوض قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي: فإن طلقها بعد المرتين طلقة ثالثة ـ وهي التسريح بإحسان ـ فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بآخر زواجا صحيحا مقصودا حصل به ما يراد بالزواج من الغشيان، قال محمد عبده: عبر عن الطلقة الثالثة بـ ﴿إِنْ﴾ دون إذا للإشعار بأنها لا ينبغي أن تقع مطلقا، كأنه تعالى لا يرضى أن يتجاوز الطلاق المرتين، والنكاح له طلاقان: العقد وما وراء العقد، وهو المقصود منه الذي يكنى عنه بالدخول، وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أن الحل يحصل بمجرد العقد، وهو خلاف ما عليه الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إذ قالوا: لا بد من المخالطة الزوجية أخذا من إسناد النكاح إلى المرأة مع العلم بأن المرأة لا تتولى العقد، ومن تسمية من تنكح زوجا، وهذا هو الموافق لحديث العسيلة الصحيح والمنطبق على الحكمة في منع المراجعة.
2. قال المفسرون والفقهاء في حكمة ذلك: إنه إذا علم الرجل أن المرأة لا تحل له بعد أن يطلقها ثلاث مرات إلا إذا نكحت زوجا غيره فإنه يرتدع؛ لأنه مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، ولا سيما إذا كان الزوج الآخر عدوا أو مناظرا للأول، ولنا أن نزيد على ذلك أن الذي يطلق زوجته ثم يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادما على طلاقها، ثم يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلقها، ثم يبدو له ويترجح عنده عدم الاستغناء عنها فيرتجعها ثانية، فإنه يتم له بذلك اختبارها؛ لأن الطلاق ربما جاء عن غير روية تامة ومعرفة صحيحة منه بمقدار حاجته إلى امرأته، ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك؛ لأنه لا يكون إلا بعد الندم على ما كان أولا والشعور بأنه كان خطأ، ولذلك قلنا: إن الاختبار يتم به، فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحا لإمساكها على تسريحها، ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التام مرجوحا، فإن هو عاد وطلق ثالثة كان ناقص العقل والتأديب، فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلبه ويرتجعها متى شاء هواه، بل يكون من الحكمة أن تبين منه ويخرج أمرها من يده، لأنه علم أن لا ثقة بالتئامها وإقامتهما حدود الله تعالى، فإن اتفق بعد ذلك أن تزوجت برجل آخر عن رغبة واتفق أن طلقها الآخر أو مات عنها، ثم رغب فيها الأول وأحب أن يتزوج بها ـ وقد علم أنها صارت فراشا لغيره ـ ورضيت هي بالعود إليه، فإن الرجاء في التئامهما وإقامتهما حدود الله تعالى يكون حينئذ قويا جدا، ولذلك أحلت له بعد العدة، وقد شرحنا الحكمة بناء على ما فسرنا به كون الطلاق مرتين، وكون النكاح لزوج آخر هو ما يكون بين الزوجين بالعقد الصحيح وهو الحق.
3. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الزوج الثاني ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: الزوج الثاني والمرأة ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ هذا ما اختاره محمد عبده خلافا (للجلال) وغيره من القائلين: إن المراد الزوج الأول والمرأة، قال وحكمته بعد قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ هي إزالة وهم من يتوهم أن الزوج الأول يكون أحق بها ولا تظهر لنا حكمة في قولهم: إن المراد الزوج الأول والمرأة، وعلى كل من القولين لا بد في التراجع من مراعاة شرطه وهو قوله تعالى: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي: ترجح عند كل منهما أنه يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده سبحانه تعالى، فلا بد من حسن القصد وسلامة النية من كلا الزوجين؛ لأن الله تعالى ما وضع هذه الحدود للزوجين إلا ليصلح حالهما ويستقيم عملهما، فإن كانت هناك نية سوء فإن هذا التراجع لا قيمة له عند الله تعالى، وإن صح عند القاضي أو المفتي عملا بالظاهر، وقد فسر بعضهم الظن هنا بالعلم، ولا وجه له لغة ولا فعلا إذ لا يعلم أحد باليقين كيف يعامل الآخر في المستقبل ويكفي أن ينوي إقامة الحدود الشرعية ويغلب على ظنه القدرة على تنفيذ ما نواه.
4. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الإشارة بتلك إلى الأحكام في الآية والآيتين يبينها في كتابه لأهل العلم بفائدتها وما فيها من المصلحة، ومن علم المصلحة في شيء كان مندفعا بطبعه إلى العمل به وإقامته على الوجه الذي تتحقق به الفائدة منه، يبينها لهؤلاء الذين يعلمون الحقائق؛ لأنهم هم الذين يقيمونها، لا من يجهل ذلك فيأخذ بظاهر قول المفتي أو القاضي ولا يجعل لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في عمله، فيرجع إلى المرأة ويضمر لها السوء ويبغيها الانتقام، وقد بينا معنى هذه الحدود في تفسير ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ فارجع إليه إن كنت نسيته.
5. ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا هو ما كان زواجا صحيحا عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوج بامرأة مطلقة ثلاثا بقصد إحلالها للأول كان زواجه صوريا غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، وهو لا يلعن من فعل فعلا مشروعا ولا مكروها فقط، بل المشهور عند جمهور العلماء أن اللعن إنما يكون على كبائر المعاصي، فإن عادت إليه كانت حراما، ومثال ذلك مثال من طهر الدم بالبول؛ وهو رجس على رجس، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر وخلائق غيرهم من أهل الحديث والفقه، وقال محمد عبده: إن نكاح التحليل شر من نكاح المتعة وأشد فسادا وعارا، وقال آخرون من الفقهاء: إنه جائز مع الكراهة ما لم يشترط في العقد؛ لأن القضاء بالظواهر لا بالمقاصد والضمائر، نقول: نعم؛ ولكن الدين القيم هو أن يكون الظاهر عنوان الباطن وإلا كان نفاقا، على أن باغي التحليل ليس بمتزوج حقيقة الزواج الذي شرعه الله وبينه لا عند نفسه ولا عند من أراده على التحليل وتواطأ معه عليه، فإن عذر القاضي المنفذ له بجهله للواقع عملا بالظاهر، فلا يعذر به العالم به والمقترف له، وقد أوضح ذلك الحافظ الفقيه ابن القيم في (إعلام الموقعين) أتم الإيضاح ومن غرائب الانتصار للتقليد أن استدل بعضهم (كالألوسي) على صحة نكاح المحلل بتسميته محللا في الحديث الناطق بتحريم التحليل، وإنما سماه بذلك من أرادوه أول مرة عند حاجتهم إليه، وبعد التسمية سئل عنه الشارع فلم يجز عمله، ولا يصح أن تكون حكاية لفظ الاسم مبطلة لمضمون الحكم، فالناس هم الذين سموا، والشارع هو الذي حرم، كما ترى في حديث ابن عباس الآتي، وإننا نثبت هنا ما أورده ابن حجر المكي في الزواجر من الأخبار والآثار في تحريم التحليل قال: أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له) قال الترمذي: والعمل على ذلك عند أهل العلم منهم عمر وابنه وعثمان وهو قول الفقهاء من التابعين، وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس ما قال: (سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن المحلل فقال: لا، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة).
6. أنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، ولا سيما مع الفتوى والحكم بأن الطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث يقع ثلاثا، اتخذ غوغاء المسلمين دينهم هزوا ولعبا، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبه سواهم، وقد رأيت في لبنان رجلا نصرانيا ولع بشراء الكتب الإسلامية وغيرها وأكثر من النظر فيها، فاهتدى إلى حقية الإسلام مع الميل إلى التصوف، فأسلم، وقال لي: لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله، أقبحها مسألة (التجحيش) أي: التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع.
__________
(1) تفسير المنار: 2/386.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي فإن طلقها بعد المرتين المذكورتين في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ وهذه التطليقة هي المعبّر عنها فيما سلف بقوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بزوج آخر زواجا صحيحا مقصودا مع غشيان الثاني لها كما بينته السنة.
2. الحكمة في اشتراط ذلك أن الرجل متى علم أن المرأة لا تحل له بعد الطلاق ثلاثا إلا إذا نكحت زوجا غيره، ولعله عدوه ـ يرتدع ويزدجر، لأن هذا مما تنفر منه الطباع السليمة ويأباه ذوو الغيرة والمروءة.
3. الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا ما كان زواجا صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فمن تزوج بامرأة بقصد إحلالها للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحل به المرأة للأول إذا هو طلقها، وهو معصية لعن الشارع فاعلها، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري ـ وقال جماعة من الفقهاء: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط ذلك في العقد، روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له)، وروى عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن المحلل فقال: لا، إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عزّ وجل ثم تذوق العسيلة.. وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، واسأل ابن عباس عمن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخدع الله يخدعه.
4. ومن هذا ترى أن حكم السنة ورأى كبار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لعن المحلل والمحلل له، لكن قد فشت هذه الرذيلة بين الأشرار الذين اتخذوا الطلاق عادة، وجعلوا دينهم هزوا ولعبا، حتى صار الإسلام يعاب بمثل هذا، وما عيبه إلا بفعلهم.
5. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا حرج عليه ولا على المرأة أن يتراجعا، ويكون هو أحق بها من الزوج الأول، ولكن بعد تحقق الشرط الذي بينه الله بقوله: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي إن ترجح لدى كل منهما أن يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده الله من حسن العشرة وسلامة النية، ليصلح حالهما ويستقيم أمرهما، فإن خافا حين المراجعة نشوزا منها أو إضرارا منه، فالرجوع ممقوت عند الله وإن صح عند القاضي.
6. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي إن هذه الأحكام بينها الله على لسان نبيه في كتابه الكريم لأهل العلم بفائدتها، ومعرفة ما فيها من المصلحة، ليعملوا بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة والمنفعة، لا لمن يجهلون ذلك، فلا يجعلون لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في العمل، فيرجع أحدهم إلى المرأة وهو يضمر لها السوء ويبغى الانتقام منها.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/170.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.. إن الطلقة الثالثة ـ كما تبين ـ دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب ـ إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق ـ وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد، فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق، الذي قرر ليكون صمام أمن، وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية، لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة، ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها، واحتراسا من المساس بها.
2. سؤال وإشكال: قد يقول قائل: وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث؟ والجواب: لكننا نواجه واقعا في حياة البشر، فكيف يا ترى يكون العلاج، إن لم نأخذ بهذا العلاج؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها؟ فنقول له مثلا: إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها!.. كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله.. إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه؛ وأن نكلفه مهرا وعقدا جديدين إن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين؛ وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريما كاملا ـ إلا أن تنكح زوجا غيره ـ وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها؛ ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات.. والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية؛ وواقع الحياة العملية؛ لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض، في عالم الحياة! فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجا آخر، ثم طلقها هذا الزوج الآخر.. فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا.. ولكن بشرط: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾..
3. ليست المسألة هوى يطاع، وشهوة تستجاب، وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق، إنما هي حدود الله تقام، وهي اطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله.
4. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.. فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة، إنما هو يبينها في هذا القرآن، يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها؛ وإلا فهو الجهل الذميم، وهي الجاهلية العمياء!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/250.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بينت الآية السابقة حدود الطّلاق، وأنه مرّتان تنتهى بعدهما علاقة الزوجية بين الزوجين، ويصبح كل منهما أجنبيا عن الآخر، وقد أشارت الآية السابقة أيضا إلى ما انتهى إليه الموقف بعد هذا، فقال تعالى ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أي رجعة بعقد ومهر جديدين، أو التطليقة الثالثة، وفى هذه الآية يبين الله تعالى الموقف بين الزوجين بعد أن ينتهى الأمر بينهما إلى التطليقة الثالثة، حيث يقول سبحانه: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي الطلقة الثالثة ـ لفظا أو حكما ـ ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي تصبح هذه المرأة أكثر من أجنبية عنه، فليس له أن يتقدم إلى خطبتها إلا بعد أن تتزوج غيره ثم يطلقها ذلك الغير، ثم تنقضي عدتها من ذلك الغير، وعندئذ فقط يحلّ له أن يخطبها، بعقد ومهر جديدين.
2. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أي الزوج الآخر ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ أي يراجع كل منهما الآخر في الزواج وإعادة الأمور بينهما إلى ما كانت عليه.. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي إن غلب على ظنهما أنهما سيعودان إلى الحياة الزوجية السليمة، بعد أن يعزلا عنها ما كان سببا في الخلاف الذي نجم عند الانفصال بينهما، فتقوم الحياة الزوجية بينهما على الحدود التي رسمها الله للزوجين.. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فيفيدهم العلم ويعملون به، ويقيمون سلوكهم عليه.
3. قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فوق أنه تأديب للزوج، فيه إثارة لحميته، وبعث لغيرته أن تصبح هذه التي كانت زوجا له وحرما غير مباح من حرماته ـ أن تصبح ليد غيره، حمى مستباحا له، محرّما على غيره، وعلى هذا الذي كانت له من قبل.. وفى هذا ما يبعث في الزوج رغبة في إمساكها قبل أن تخرج من يده فيراجعها قبل الطلقة الثالثة.. ولا شك أن هذا الموقف له أثر كبير في الحرص على الحياة الزوجية، وفى حمل الأزواج على مراجعة زوجاتهن، إن لم يكن ذلك في كل الأحوال، فهو في كثير منها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/272.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ تفريع مرتب على قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: 229] وما بينهما بمنزلة الاعتراض، على أن تقديمه يكسبه تأثيرا في تفريع هذا على جميع ما تقدم؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييرا بني المراجعة وعدمها، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة، وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: 229] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات، فذكر قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ زيادة في البيان، وتمهيد لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ الآية.
2. الفاء إما عاطفة لجملة ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ على جملة ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾ [البقرة: 229] باعتبار ما فيها من قوله ﴿فَإِمْسَاكٌ﴾، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها، فلا تحل له من بعد، وهذا هو الظاهر، وإما فصيحة لبيان قوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج، تصريحا بما فهم من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين، ولا يعوزك توزيعه عليهما، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضا، كما تقدم في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229].
3. الآية بيان لنهاية حق المراجعة صراحة، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داوود في (سننه)، في باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، عن ابن عباس (أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ونزل ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾
4. لا يصح بحال عطف قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ على جملة ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا﴾ [البقرة: 229]، ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا﴾، و﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدِ﴾ بما تعلق به حكم قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا﴾ [البقرة: 229] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد، فمن العجيب ما وقع في (شرح الخطابي على سنن أبي داوود): أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخا بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ الآية قال: فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا) ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعدم جريه على معاني الاستعمال العربي.
5. ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ أي تحرم عليه، وذكر قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلا على المطلق، وإيماء إلى علة التحريم، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته، واستخفافه بحق المعاشرة، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته، فلما ذكر لهم قوله ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
6. المراد من قوله تعالى: ﴿تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أن تعقد على زوج آخر، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين، ولم أر لهم إطلاقا آخر فيه لا حقيقة ولا مجازا، وأيا ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلا، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام.
7. حكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لعبا في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقا، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حديث موسى والخضر: (فكانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا فلذلك قال له الخضر في الثالث ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78]
8. رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة، بمجرد الطلاق، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة، إلا بعد التأمل والتريث، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثا، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر، وينشده حال المرأة قول ابن الزّبير وينشده حال
المرأة قول ابن الزبير:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل... وفي الأرض عن دار القلى متحول
9. في الطيبي قال الزجاج: (إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا)، وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، جاءت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقالت له: (يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة هذا الثوب)، وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة) قالت (نعم) قال: لا، حتى تذوقي عسيلته) الحديث، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق.
10. اتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيس أو هو من حديث رفاعة، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد، أو هو من الزيادة على النص حتى يجيء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان، وهو شذوذ ينافي المقصود؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد، إن هو إلا تعب للعاقدين، والولي، والشهود إلا أن يجعل الحكم منوطا بالعقد، باعتبار ما يحصل بعده غالبا، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر، من باب التعليل بالمظنة، ولم يتابعه عليه أحد معروف، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير، وأحسب ذلك سهوا منه واشتباها.
11. وصف ﴿زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر:
اليوم عندك دلّها وحديثها...وغدا لغيرك زندها والمعصم
وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علّق ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.
12. ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها، وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعا لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم: نقض فلان غزله، وأما قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا﴾ فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي؛ لأنّ إقامة الحدّ الفاصل فيه بيان للناظرين، والمراد بـ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، الذين يفهمون الأحكام فهما يهيئهم للعمل بها، وبإدراك مصالحها، ولا يتحيلون في فهمها.
13. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الواو اعتراضية، والجملة معترضة بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى، وموقع هذه الجملة كموقع جملة ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة: 229] المتقدمة آنفا، و﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ تقدم الكلام عليها قريبا، وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة مفصلة معللة، ويتعلق قوله ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ بفعل ﴿يُبَيِّنُهَا﴾، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتّباع الإسلام.
14. إقحام كلمة (لقوم) للإيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى قوله ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164]
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/395.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة، حتى لا يضيق الرجل على نفسه، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له؛ ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق]، وبين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية؛ ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج؛ أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية، وفى هذه الآية الكريمة يبين سبحانه الطلاق الذي لا يمكن بعده استئناف الحياة بل تحرم عليه مؤقتا، وهو الطلاق المكمل للثلاث، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أي أنه إن طلقها بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه وتعالى له الرجعة بعد كل منهما في أثناء العدة، أو عقد زواج بعد انتهائها؛ إن طلقها بعد هاتين الطلقتين فلا تحل له من بعد طلاقه حتى تنكح زوجا غيره؛ فمعنى (تنكح): تتزوج بعقد شرعي صحيح.
2. في هذه الجملة السامية بيان لانتهاء الحلّ بالطلاق الثالث، وإثبات الحرمة ووقوعه؛ كما أن فيها بيان انتهاء ذلك التحريم؛ فهي قد حدّت المبدأ والغاية؛ فمبدأ التحريم من الطلقة الثالثة، وينته التحريم بعد تزوج شخص آخر، والدخول بها، ثم تطليقها من بعد ذلك.
3. النكاح المراد في الآية هو الزواج وظاهر الآية أن الزواج ثم الطلاق من بعده يحلها للزوج الأول من غير حاجة إلى الدخول؛ وبذلك أخذ سعيد بن المسيب؛ ولكن جمهور الفقهاء والتابعين من قبلهم ثم الصحابة أجمعين قد قرروا أنه لا بد من الدخول الحقيقي لكى تحل له، وذلك لنص الحديث المخصص لظاهر الآية؛ فقد ورد في البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، ومسند الشافعي من حديث عائشة أنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب؛ فتبسم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وواضح أن معنى ذوق العسيلة أن يفضى إليها ويدخل بها، وقد تعددت روايات الحديث بهذا المعنى، فكان حديثا مستفيضا مشهورا، وهو يخصص عموم القرآن الكريم، بل هو في الحق تفسير لظاهره، وليس بعد تفسير النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لكتاب الله تفسير؛ وعلى هذا انعقد الإجماع قبل سعيد بن المسيب، وانعقد الإجماع بعده؛ فقوله من شواذ الفتيا التي لا يلتفت إليها.
4. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ أي فإن طلق الزوج الثاني، فلا جناح على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا، أي لا إثم عليهما في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة؛ فالضمير في (عليهما) يعود إلى المرأة والزوج الأول؛ لأن العلاقة بينهما هي مساق الآية الأول؛ فقد بينت الآية التحريم بالطلقة الثالثة، وأنه ينته بالزواج من الثاني والتطليق منه، ثم صرحت هذه الجملة السامية بابتداء الحل بعد انتهائه، وهو أنه يبتدئ بالطلاق من الثاني وزوال بقايا النكاح الثاني وآثاره بانتهاء العدة؛ فهذه الجملة الكريمة توضيح لابتداء الحل، كما كانت الأولى فيها بيان لابتداء التحريم وإشارة إلى انتهائه.
5. على هذا سار أكثر المفسرين، وكلامهم واضح بين؛ ولكن اختار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أن يكون الضمير في (عليهما) في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ يعود على الزوج الثاني والمرأة لا على الزوج الأول فهي كقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة]، فهي تدل على معنى جديد، لم يتضمنه معنى الجملة التي سبقتها، وهو بيان أن الزواج الثاني يكون ككل أنواع الزواج، وله كل أحكامها وحدودها؛ فلا يكون زواجا مؤقتا، ولا لغرض مؤقت، إنما يعقد للبقاء والدوام ويقصد فيه معنى الزواج كاملا غير منقوص، وقد يتوهم بعض الناس أن الزوج الأول أحق بها، فدفع ذلك بأن المراجعة في العدة حق ثابت للمطلق الثاني، وهو أولى بمقتضى الحكم العام الذي جاء به النص الذي نوهنا عنه، وهو قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة].
6. قد يعترض معترض على ذلك الرأي فيقول: إنه لا يوجد على ذلك التخريج ما يفيد حلها للأول، فنقول في رد ذلك الاعتراض: إن الحل بالزواج ثم الطلاق بعد الدخول وانتهاء العدة فهم من انتهاء التحريم بقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ فالتحريم مؤقت بتوقيت زمنى غير معلوم ينته بالزواج الثاني، وزوال سائر أسباب التحريم الأخرى.
7. مهما يكن من الأمر، فإن السياق يسير على مقتضى رأى الجمهور؛ لأن السياق كله متعلق بشأن المرأة مع زوجها الأول، والكلام في الزوج الثاني جاء لتتميم الكلام في الزواج الأول وإنهائه، ومدى ذلك الإنهاء؛ ويزكى ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن عودة الزواج بقوله تعالى: ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ وهذا يفيد أن ذلك بعقد جديد، ولو كان المراد الرجعة ما عبر بصيغة المشاركة؛ لأنه ينفرد بها الزوج إن كان الثاني.
8. حلها للزوج الأول منوط بأمر ديني مقرر ثابت، وهو أن يكونا قد انتفعا من ذلك الدرس القاسي، وهو الفرقة المحرّمة بينهما، وتجربتها عشرة غيره، وتجربته لرؤيتها عشيرة لسواه؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في بيان إنهاء التحريم: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ فنفى الإثم في العودة إلى الزوج الأول مربوط دينيا وقلبيا بقصدهما إلى العشرة الحسنة وإرادتهما لها، وظنهما القدرة عليها، وزوال النفرة التي كانت توجب الشقاق والنزاع، وتؤدى إلى الطلاق وتكراره المرة بعد الأخرى.
9. فهم بعض العلماء أن المراد بالظن هنا هو العلم واليقين؛ فالمراد إن تيقنا أنهما سيقيمان حدود الله، فليس للرجل والمرأة، وقد فرق بينهما تفريقا بمحرّم بالطلاق الثلاث المتكرر، أن يستأنفا حياة زوجية بعد زوال التحريم إلا إذا علما على وجه الجزم واليقين أنهما سيقيمان في هذا الزواج الجديد حدود الله بإعطاء كل واحد منهما ما للآخر من حق، ويقوم بما عليه من واجب، لتكون المودة بينهما في ظل من الرحمن الرحيم.
10. هذا نظر بعض العلماء في تفسيرهم الظن باليقين؛ ولكن الزمخشري لم يرتض ذلك النظر، ولم ير أنه يتفق مع الذوق البياني لمن يذوق كتاب الله؛ ذلك بأن إقامة حدود الله أمر يتعلق بالمستقبل، والمستقبل مغيب مستور غير معلوم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يجزم في أمر يتعلق بالمستقبل بأنه سيكون على ما يبغى وما يريد، ولو كان يتعلق بقلبه ونيته؛ فالله سبحانه مقلب القلوب، وهو وحده علام الغيوب؛ بل إن أقصى ما يستطيعه الزوجان في مثل هذا المقام أن يعتزما العشرة الحسنة، ويطرحا أسباب الخلاف التي كانت منها الفرقة الجافية، والتي هي أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى، وهما مع ذلك يظنان أن في قدرتهما تنفيذ ما أرادا، واجتناب ما كان منهما قبل تلك التجربة الشديدة.
11. إنه لواضح كل الوضوح من أن الرجل إذا طلق امرأته مرة بعد مرة، حتى أتم الثلاث، يكون هو وهى في حاجة إلى علاج؛ إذ إن العشرة بينهما صارت غير صالحة للبقاء، وأنهما إن يتفرقا نهائيا يغن الله كلا من سعته؛ فهو وهى يسيران في خطين متقاطعين، لا يلتقيان إلا يصطدمان، فيطلقها، ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا التقيا تنابذا للمرة الثانية وتدابرا، فيطلقها ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا استأنفا حياتهما الزوجية تكررت منهما المأساة؛ إن ذلك هو الكفر في الإسلام، وإن ذلك هو الظلم الذي يجب اجتثاثه من أصله، وذلك بمنعهما من استئناف الحياة الزوجية فقد أثبتت التجربة المريرة أن الزوجية بينهما غير صالحة للبقاء، إما لعيب فيه أو لعيب فيها أو لعيب فيهما، وذلك هو غالب الأحوال؛ لأن أحدهما لو كان خالصا من العيوب التي تتعلق بالحياة الزوجية لصبر على الثاني، ولأصلح بصبره حاله؛ ولسارت السفينة في جو هادئ لا يؤدى إلى الفصم والقطع.
12. بعد تلك الفرقة المحرّمة قد يحدث أن تتزوج زوجا آخر، وتعاشره معاشرة الأزواج على قصد أن تدوم العشرة بينهما؛ ولكن بعد مدة طالت أو قصرت ينته هذا الزواج وتزول آثاره، إما بموت الزوج وانتهاء عدة الوفاة، وأو بتطليقه وانتهاء عدة الطلاق، فيبدو لزوجها الأول أن يستأنف حياة زوجية وتبادله هذه الرغبة؛ عندئذ ينهى رب العالمين التحريم الذي أوجده الطلاق المكمل للثلاث؛ لأنه عسى أن يكون الزمان والتجربة، وعشرة غيره قد صقلت نفوسهما وأصلحت قلوبهما، ولطفت من حدة النفور منهما، وترى من هذا أن الزواج الذي ينهى التحريم هو الزواج غير المؤقت الذي لا يقصد به مجرد التحليل للأول، بل الزواج الدائم المستمر، أو الذي يكون على نية الدوام والاستمرار؛ لأن الشارع الكريم جعل نهاية التحريم هو هذا الزواج والدخول فيه ثم الطلاق؛ لتكون تلك التجربة الشديدة المريرة، ولتصقل النفوس الرعناء المتمردة؛ فإذا لم يكن العقد زواجا قصد به البقاء والدوام، ما كانت تلك التجربة، وما كان ذلك الغرض المقصود من الشارع الحكيم.
13. لكن الناس ضيقوا على أمرهم ما وسع الله، ثم أخذوا يفكون ما قيدوا أنفسهم به؛ فطلقوا لأدنى ملابسة، وطلقوا الطلقات الثلاث إما في مجلس واحد أو بلفظ واحد، أو في دفعات متقاربة، وقطعوا على أنفسهم الطريق ولم يفهموا قول الله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق] ثم بعد أن سدوا طريق الحلال، وأخذوا يتحايلون لفتحه بمفاتيح من الحرام، فأوجدوا ما سمى في عرف الناس والفقهاء (زواج المحلل) أي الزواج الذي لا يقصد به عاقده العشرة الزوجية الدائمة، إنما يقصد به مجرد إحلالها للأول؛ فهو في الواقع يتحايل على الأحكام الشرعية ليهدمها، لقد جعل الشارع نهاية التحريم أن تنكح زوجا آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به دوام العشرة، ثم تجيء الفرقة عارضة لتكون تلك التجربة التي تهذب النفوس، وتضبط الإرادة، وتمنع الأهواء من الاندفاع؛ ولكن يجيء الناس فيهدمون مقصد الشارع ويمنعون التهذيب الذي أراده، فيكون ذلك العقد الذي ما قصد به الدوام ولا تتحقق به تجربة، وإن كانت تسقط به المروءة، وتنحرف النفس عن الجادة، ويتحايلون على أوامر الله بذلك ليسقطوها، ويخدعوا الله ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة].
14. ابتدأ ظهور ذلك النوع من الخداع الديني في صدر الإسلام؛ ولذلك نهى عنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم وشدد في النهى، وتضافرت بذلك الأخبار عنه وعن الصحابة، وسماه استهزاء بكتاب الله، ونقتبس من تلك الآثار النبوية قبسة تضيء للناس في عصرنا، حتى لا يضلوا، فيضيقوا على أنفسهم واسعا، ثم يجتهدوا في فتح باب الإثم إذ ضيقوا الحلال، ومن ذلك:
أ. أنه روى عن ابن عباس أنّه قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن المحلل فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة، ولا مستهزئ بكتاب الله عزّ وجل لم يذق العسيلة).
ب. وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له).
ج. وروى عن على بن أبى طالب أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم صاحب الربا وموكله وكاتبه وشاهده، والمحلل والمحلل له).
15. هكذا تعددت الروايات والإسناد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى، وبهذا الهدى أخذ أصحابه، ولم يعرف مخالف بينهم في أن هذا النوع من العقود حرام؛ ولذلك قال عمر: (لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما) فاعتبر عمل الأول زنى؛ كذلك الثاني إن عقد بناء عليه، ودخل بها يكون زانيا يستحق كلاهما عليه الرجم، ولقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر يسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل له؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة؛ كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولقد روى البيهقي أن عثمان بن عفان تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما، وهكذا استفاضت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بتحريم نكاح التحليل واعتباره خداعا للشرع، ولقد سئل ابن عباس، عن رجل طلق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلها؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
16. اتفق المسلمون على أن نكاح التحليل حرام إن قصد العاقد به التحليل؛ لتضافر الأخبار بلعن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم له، ولأنه يخادع الشرع الشريف، ويتحايل لإسقاط أحكامه؛ ولأنه ما قصد بالعقد زواج رغبة وبقاء، بل قصد التحليل، فهو عقد مؤقت، وهو منهى عنه؛ ولأن الباعث على العقد ليس أمرا أحله الشارع، إنما هو نقيض أمره، وكل أمر على خلاف أمر الشارع فهو رد على صاحبه؛ والعبرة في الأمور الشرعية ببواعثها ونياتها؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فمن نوى أن يخدع الشرع بفعله فعليه إثم نيته، ومن نوى بعقده ما أحله الله سبحانه وتعالى فله نيته.
17. مع اتفاق فقهاء المسلمين على أن نكاح التحليل حرام لصريح النصوص، إلا أنهم اختلفوا في بطلانه، وفى تحليلها للمطلق الأول بمقتضى ذلك العقد؛ ذلك أن بعض الفقهاء يرون أن النهى عن عقد لا يمنع صحته، فالصحة والحل ليسا متلازمين تلازما لا يقبل الافتراق؛ فالنهى عن البيع وقت الجمعة لا يقتضى بطلانه والنهى عن الزواج مع تأكد الظلم إن تزوج لا يمنع صحته إن تزوج مع هذه الحال، وهكذا..
18. بتطبيق هذه النظرية عند أولئك الفقهاء على نكاح التحليل نراهم يقررون أنه حرام، ولكنه إن وقع فهو صحيح، ويترتب عليه حلها للأول مع إثم الاثنين أو الثلاثة، وأما الذين قالوا إن النهى عن عقد يقتضى بطلانه، فقد قرروا أن عقد التحليل إن ثبت أنه للتحليل فهو حرام، وغير صحيح، ولا يترتب عليه حل للأول.
19. نبين موضع الخلاف بإجمال؛ فنقول: إن عقد التحليل له حالان:
أ. إحداهما: ألا تظهر نية التحليل في أثناء العقد، بل تختفى في أنفس الثلاثة: الزوج الثاني، والأول، والمرأة، فلا ينطق واحد منهم في العقد بهذه النية، ولكنها في أطواء نفوسهم جميعا؛ وفى هذه الحال قال مالك وأحمد: إن العقد غير صحيح، ولا تحل للأول؛ لأن الأحكام بالنيات، والبواعث والغايات تناط بها الأحكام، وما كان النكاح نكاح رغبة، بل هو نكاح دلسة كما عبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو تحايل في شرع الله، فلا يقر عليه المتحايل، والله لا يقرّ أمرا جاء على خلاف ما أمر، وهو داخل في عموم نهيه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه في هذه الحال ينعقد العقد صحيحا مع تحقق الإثم، ويترتب عليه حلها للأول بعد الدخول والطلاق وانتهاء العدة؛ لأن الأحكام تناط بظواهر الألفاظ، والنيات علمها عند الله، وهو الذي يؤاخذ عليها، والشافعي قد أثر عنه قولان: أحدهما وهو القديم كمذهب مالك وأحمد، وثانيهما وهو الجديد، كمذهب أبى حنيفة وفقهاء العراق.
ب. الحال الثانية: أن يصرح بالتحليل في العقد، فيعقد العقد على شرطه، وهذا قال فيه الشافعي إنه كنكاح المتعة فهو باطل؛ لأنه نكاح مؤقت؛ ومالك وأحمد على أصلهما وهو بطلانه وعدم حلها للأول بمقتضاه؛ والشافعي يوافقهما كما رأينا، وإن كان الأساس مختلفا؛ فالشافعي أبطله لأنه مؤقت كنكاح المتعة، ومالك وأحمد أبطلاه لذلك، ولأن الباعث عليه حرام، وما كان باعثه حراما فهو حرام، هذه أقوال الأئمة الثلاثة، وقد وافقهم أبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة، من حيث إنه عقد فاسد لا يحلها للأول؛ وقال أبو حنيفة وزفر: يصح العقد ويحلها للأول؛ لأن اشتراط إحلالها للأول شرط فاسد، فهو يلغى ولا يكون لازما، ويصح العقد، ويحلها للأول بعد استيفاء شروط الحل، وقال محمد من أصحاب أبى حنيفة: إن عقد الثاني صحيح مع هذا الشرط؛ لأن الشرط يلغى، ولكن هذا العقد لا يحلها للأول، أما صحة العقد فلأن الشرط ملغى لا يلتفت إليه، ولكن لأنه قد اشترط حلها للأول قد استعجل أمرا أخره الله تعالى، وهو بذلك قد ارتكب محرما، وكان مستعجلا أمرا قبل أوانه، فلا يصل إلى غايته، كمن قتل مورثه مستعجلا ميراثه فإنه لا يرث لأنه استعجل أمرا قبل أوانه فعوقب بحرمانه.
20. هذه خلاصة أقوال الفقهاء في نكاح المحلل، وهو أقبح عقود الزواج، وترى منها أن جميع الفقهاء يرون أنه حرام، وأنه خداع لله سبحانه وتعالى، وأنه تحايل على إبطال أحكام الله، وتفويت لمقاصد الشارع الحكيم، وأن جمهور الفقهاء يرون أنه عقد فاسد لا تحل به للأول؛ وإذا كان ذلك شأن عقد المحلل فليتق الله الناس في أنفسهم وأخلاقهم ومروءاتهم، وليجنبوا أنفسهم ألفاظ الطلاق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا يضيقوا على أنفسهم ما أفسح الله لهم؛ وليحفظوا على أنفسهم أعراضهم ومروءاتهم فلا يضطروا إلى ذلك العقد الذي هو إثم في إثم؛ وجرم في جرم، وتعريض الحرمات للانتهاك.
21. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ذيل الله سبحانه وتعالى أحكام الطلاق وعدده، ودفعاته، وما يترتب عليه بهذه الجملة السامية؛ ومعناها أن تلك الحقوق والواجبات التي بينها سبحانه وتعالى في الطلاق من أن الزوج أحق بزوجته بعد الأولى والثانية، ومن أن النساء لا يسوغ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، ومن أن الطلاق ثلاث، بعدها تحرم عليه حتى تتزوج زوجا آخر، ومن أنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئا إلا أن يكون فداء لنفسها خشية نشوزها، كل هذه الأحكام، هي الحدود التي أقامها سبحانه فارقا بين العدل والظلم، والحق والباطل، والخطأ والصواب، وهى التي تقوم عليها معالم الأسرة الإسلامية؛ وقد بينها لقوم من شأنهم أن يعلموا الأمور على وجوهها ويدركوها على حقيقتها، ومن لم يلتزمها فقد ضل ضلالا مبينا.
22. ذلك التذييل الكريم يستفاد منه ثلاثة أمور:
أ. أولها: بيان أن الأحكام الخاصة بالطلاق هي حدود حدها الشارع، من يتجاوزها فقد تجاوز ما له إلى ما ليس له، وترك الحلال إلى الحرام، وترك الحق إلى الباطل؛ وفى ذلك حث على الطاعة، وتحريض على التزام ما أمر الله سبحانه وتعالى.
ب. ثانيها: الإشارة إلى أن هذه الأحكام هي المصلحة الحق، وأن الناس إن تجاوزوها فقد تركوا الخير إلى الشر والنفع إلى الضرر.
ج. الثالث: حث الناس على تعرف حكم الشارع وغاياته؛ فإن مقاصد الشارع لا يعرفها على وجهها إلا الذين من شأنهم أن يعلموا، ويصلوا إلى لب الحقائق، ومرامى الأحكام الشرعية القاصية والدانية، والله بكل شيء محيط.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/783.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ للمرة الثالثة ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ أي للمطلّق ثلاثا ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ الطلقة الثالثة، لا بالرجعة، ولا بعقد جديد ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الزوج الثاني ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي على الزوج الأول والمرأة المطلقة من الزوج الثاني ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ بعقد جديد ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ من الحقوق الزوجية.
2. محصل المعنى ان من طلق زوجته ثلاث مرات فلا تحل له، حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، ويدخل بها الثاني المحلل حقيقة، فقد جاء في الحديث: لا تحل للأول، حتى يذوق الثاني عسيلتها.
3. يشترط أن يكون المحلل بالغا، وان يكون الزواج دائما لا منقطعا، ومتى تحققت الشروط، ثم فارقها الثاني بموت أو طلاق، وانقضت عدتها جاز للأول أن يعقد عليها ثانية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/346.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع أن المحرم إنما هو عقدها أو وطؤها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، وليشعر قوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، على العقد والوطء جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الأول أن يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأوليين، وذلك إن ظنا أن يقيما حدود الله.
2. وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾، لأن المراد بالحدود غير الحدود، وفي الآية من عجيب الإيجاز ما يبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير أن يوجب تعقيدا في الكلام، ولا إغلاقا في الفهم.
3. اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكرة والكنايات من غير رداءة في السياق كقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، أربعة أسماء منكرة، وقوله تعالى: ﴿مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ كنى به عن المهر، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، كنى به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى: ﴿فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، كنى به عن مال الخلع، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، أريد به التطليقة الثالثة، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾، أريد به تحريم العقد والوطء، وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، أريد به العقد والوطء معا كناية مؤدبة، وقوله تعالى: ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾، كنى به عن العقد.
4. في الآيتين حسن المقابلة بين الإمساك والتسريح، وبين قوله ﴿أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ وبين قوله تعالى: ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، والتفنن في التعبير في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ﴾
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/236.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ رجع الكلام إلى أول الآية التي قبل هذه في الذي قد طلق مرتين، فإن طلقها مرة ثالثة: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ﴾ أصلاً لا في العدة ولا بعدها ولا بعقد جديد ومهر جديد ولا بأي وسيلة ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ برضاها واختيارها نكاحاً وزواجاً صحيحاً لا ليطلقها وترجع ولكن: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ كما هو معنى (إن) الشرطية أنها لغير المتوقع، لأن المتوقع يقال فيه: (إذا) أو (متى) ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ بالتراضي بينهما بالمعروف كما يأتي في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وقد جاء في الروايات النهي عن التحليل واشتراط أن يدخل بها الزوج الثاني تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها فلا تحل بمجرد العقد، ولعله شرع ليصعب التحليل؛ لأنها لو كانت تحل بالعقد وحده ثم الطلاق لكان التحليل سهلاً، وكثير من الناس لا يمنعه من التحليل إلا المروءة لئلا يكون كالتيس المستعار، ولو كان يحصل بالعقد وحده لسهل عليهم فكان اشتراط الدخول موافقاً للآية من حيث أن المقصود زواج لا يتوقع فيه الطلاق.
2. ﴿إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ في الزواج ويعملا بحكم الله فيه ليخرج ما كان لغرض فاسد كأن يخدعها ويعدها ويمنيها وقصده حبسها عن التزوج بغيره ولا يريد أن يقوم بحقوقها الزوجية، أو هي ترضى به لا للقيام بحقوق الزواج؛ بل ليسهل لها الزنا من حيث أنها تأمن الفضيحة بالحمل فترجع له لا لأجله؛ بل لأجل غيره، فالزواج المتوسل به للباطل جناح وحرام.
3. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فلا عذر بعد البيان، وفيها دلالة على تمكن كل من يعلم أن يفهم حدود الله وهو كل مكلف وإنما يذم من لا يعلم من المكلفين لأنه متمكن من العلم ولكنه أعرض وتمرد حتى خذل وصار لا يعلم الواضحات بالدلائل البينات، أو أعرض عن التعلم ورضي لنفسه بالجهل، وكلاهما غير مقصود في الآية؛ لأن اللوم عليهما، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ الآية [الكهف:57] وإنما المقصود من يريد الحق ويطلب العلم، فالآيات والحدود مبينة له، وإتقان صنع آلة الأكل؛ فأسنان تقطع، وكواسر تكسر التمر ونحوه، وطواحن تطحن المأكول في الفم، وشفتان تمسكانه لا يتساقط مع الطحن، وريق يسارع إلى اللقمة ليمازجها، ولسان يردها بين الطواحن ويميز ما فيها مما يضر من حصاة أو شعرة يحس بها فيخرجها من بين اللقمة، ثم آلة ابتلاع اللقمة عند صلاحها لذلك، فيطلع لها المريء ويدفعها إليه الفم فينزلها إلى المعدة لتجمع المأكول والمشروب ثم تهضم المأكول وترسل بعضه إلى الكبد لتعمل عملها فيه وترسل بعضاً آخر إلى الأمعاء لتعمل عملها فيه ليحصل الغذاء للبدن فينمو ويقوى على أعماله فهذا دليل واضح على قدرة الله وعلمه وغيره كثير.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/343.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ يعني الطلاق الثالث، وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ في الطلاق الأول والثاني، ثم يؤكد القرآن على اعتبار هذا التشريع حدا من حدود الله التي ينبغي للمؤمن أن يقف عندها ولا يتعداها، لأن ذلك هو معنى الالتزام بخط الإيمان، فيقف حيث يريد الله منه أن يقف، ويتحرك حيث يريد الله منه أن يتحرك، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم في ما يتعلق بحياتهم الخاصة، ولغيرهم في ما يتصل بحياة الآخرين.. وقد جعل الله للظلم عقابه الذي ينال الظالمين وغيرهم في يوم القيامة.
2. على ضوء هذا، يمكن للزوج أن يرجع في طلاقه الأول، فتعود العلاقة الزوجية كما كانت، فإذا طلقها للمرة الثانية أمكنه الرجوع في طلاقه الثاني، وتعود العلاقة من جديد ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ للمرة الثالثة، ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ بأية وسيلة من رجوع أو عقد جديد، فقد حرمت عليه بالطلاق الثالث، فلا مجال للعودة إليه ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾؛ وذلك بالعقد والدخول معا، لما ورد في الحديث المأثور الذي يقول: (حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها)، وهو كناية عن الالتذاذ بالجماع وعدم الاكتفاء بالعقد.
3. ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ من جديد، أمكنه أن يرجع إليها تماما كما هو الحال في الطلاق الأول، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، ولعل في هذا التقييد إشارة بأن المؤمنين لا يحاولون إعادة التجربة على أساس مزاج شخصي أو شهوة طارئة، بل ينطلقون في ذلك كله من موقع الدراسة الواعية للموقف، والاستفادة من تلك التجارب السابقة الفاشلة، والشعور بضرورة عدم تكرارها إلا إذا أيقنا بإمكانية النجاح في ذلك، مما يجعل الظن غالبا في إقامتهما لحدود الله من جديد، لأن اليقين بذلك لا يتحقق في حسابات المستقبل.. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ في الطلاق والرجوع ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ ويوضحها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فيتحملون مسئولية العلم فكرا وعملا في كل ما يريده الله منهم وما لا يريده.
4. في هذا إشارة إلى أن أحكام الله، في ما أحله أو حرمه، هي الحدود التي يقف الإنسان عندها في حركته في الحياة، لأن في تجاوزها خطرا على مصيره في الدنيا والآخرة، لما في ذلك من الوقوع في المفاسد، ومن خسران المصالح في الدنيا، باعتبار ارتكاز التشريع عليها في الجانب الإيجابي أو السلبي، ولما فيه من التعرض لغضب الله الذي يؤدي إلى عقابه في الآخرة، فلا حرية للإنسان في معنى عبوديته لربه أن ينطلق في حياته تبعا لهواه، وانفعالا بمزاجه الذاتي، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
__________
(1) من وحي القرآن: 4/308.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. جاء في الآية السابقة إجمالا أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد أمرين: إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإمّا أن ينفصلا انفصالا نهائيا، هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة لمادّة قانونية، فهي تقول إن حكم الانفصال حكم دائمي، إلّا إذا اتخذت المرأة زوجا آخر، وطلّقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنهما قادران على أن يعيشا معا ضمن حدود الله.
2. يستفاد من الرّوايات عن أئمّة الدّين أنّ لهذا الزّواج الثاني شرطين، أوّلا: أن يكون هذا الزّواج دائميّا.. الثاني: أن يتبع عقد الزّواج الاتّصال الجنسي، ويمكن استفادة هذين الشرطين من مفهوم الآية أيضا:
أ. أمّا الأوّل وهو أن يكون العقد دائميّا فلجملة ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ الشاهدة على هذا المعنى، لأنّ الطّلاق لا يكون إلّا في العقد الدائمي.
ب. أمّا الوطء فيمكن أن يستفاد من جملة ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ لأنّ المستعمل في سيرة أدباء العرب أنّهم حينما يقولون (نكح فلانا فلانة) فيمكن أن يراد منه مجرّد العقد، أمّا لو قيل (نكح زوجته) فهذا يدلّ على الوطء (لأنّه حسب الفرض أنّها زوجته فعند ما يقال: نكح) في مورد الزوجة فلا يعني سوى العمليّة الجنسيّة) مضافا إلى أنّ المطلّق ينصرف إلى الفرد الغالب والغالب في عقد الزواج هو اقترانه بالوطئ، ومضافا إلى ما تقدّم فإنّ لهذا الحكم فلسفة خاصّة لا تتحقّق بمجرّد إجراء العقد كما سنشير إلى ذلك لا حقا.
3. المعمول بين الفقهاء أنّهم يطلقون على الزّوج الثاني في هذه الموارد قسم (المحلّل) لأنّه يؤدّي إلى أن تكون هذه المرأة حلال لزوجها السّابق (طبعا بعد الطّلاق والعدّة) والظّاهر أنّ مراد الشارع المقدّس من ذلك هو منع تعدّد الطّلقات.
4. توضيح ذلك: كما أنّ الزّواج أمر ضروريّ وحياتيّ بالنّسبة للإنسان، فكذلك الطّلاق تحت شرائط خاصّة يكون ضروريّا أيضا، ولذلك نجد أنّ الإسلام (وخلافا للمسيحيّة المحرّفة) يبيح الطّلاق، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى تشتيت العائلة وإلى إنزال ضربات موجعة بالفرد والمجتمع، فقد وضعت شروط متنوعة للحيلولة دون وقوع الطّلاق قدر إمكان.
5. إنّ موضوع الزواج المجدّد أو (المحلّ) واحد من تلك الشروط، إذ أنّ زواج المرأة من رجل جديد بعد طلاقها من زوجها الأول ثلاثا يعتبر عائقا كبيرا بوجه استمرار الطلاق أو التمادي فيه، فالذي يريد أن يطلّق زوجته الطلاق الثالث، يشعر أنّه إن فعل ذلك فلن تعود إليه وتكون من نصيب غيره، وهذا الشعور يجرح كرامته، ولذلك فهو لن يقدم على هذا العمل عادة إلّا مضطرّا.
6. في الحقيقة أنّ قضية (المحلّل) أو الأصحّ زواج المرأة برجل آخر زواجا دائميا يعتبر مانعا يقف بوجه الرجال من ذوي الأهواء المتقلّبة والمخادعين لكي لا يجعلوا من النساء ألا عيب بين أيديهم وغرضا لخدمة أهوائهم، وأن لا يمارسوا ـ بلا حدود ـ قانون الطلاق والعودة.
7. إنّ شروط هذا الزواج (كأن يكون دائميا) تدلّ على أنّ هذا الزواج ليس هدفه إيجاد وسيلة لإيصال الزوجة إلى زوجها الأول، لأنه يحتمل أن لا يطلقها الزوج الثاني، لذلك فلا يمكن استقلال هذا القانون ورفع العائق عن طريق زواج مؤقّت.
8. مع الالتفات إلى ما ذكرنا يمكن القول أنّ هدف الزّواج الثاني بعد ثلاث طلقات والسّماح لكلّ من الزوجين في تشكيل حياة زوجيّة جديدة من أجل أن لا يصبح الزّواج هذا الرّباط المقدّس مدعاة للتّغالب وفق أهواء الزوج الأوّل ومشتهياته الشّيطانية، وفي نفس الوقت إذا طلّقها الزوج الثاني فإنّ طريق العودة والرّجوع سيكون مفتوحا أمامهما فيجوز للزّوج الأوّل نكاحها من جديد، ولذلك اطلق على الزوج الثاني (المحلّل).
9. من هنا يتّضح أنّ البحث يخص الزّواج الواقعي الجاد بالنّسبة إلى المحلّل، أمّا إذا قصد شخص منذ البداية أن يتوسّل بزواج مؤقّت، واعتبر القضية مجرّد شكليّات يحلّها (المحلّل) فإنّ زواجا هذا شأنه لا يؤخذ به ويكون باطلا، كما أنّ المرأة لا تحلّ لزوجها الأوّل، ولعلّ الحديث المذكور (لعن الله المحلّل والمحلّل له) يشير إلى هذا النوع من المحلّلين، وهذا الأسلوب من الزّواج الظّاهري والشكلي.
10. ذهب البعض إلى أنّ الزوج الثاني إذا قصد الزّواج الدائمي الجدّي، ولكن كانت نيّته أن يفتح طريق عودة المرأة ورجوعها إلى الزّوج الأوّل، فإن هذا الزّواج يعتبر باطلا أيضا، وذهب البعض أيضا إلى أنّه في هذه الحالة يقع الزّواج صحيحا رغم أن نيّته هي إرجاع المرأة إلى زوجها الأوّل، ولكنّه مكروها بشرط أن لا يذكر هذا المعنى كالجزء من شرائط العقد.
11. من هنا يتضح أيضا الضجّة المفتعلة للمغرضين الّذين اتّخذوا من (المحلّل) ذريعة لشن حملاتهم الظّالمة على أحكام الإسلام ومقدّساته، فهذه الضجّة المفتعلة دليل على جهلهم وحقدهم على الإسلام، وإلّا فإنّ هذا الحكم الإلهي بالشّرائط المذكورة عامل على منع الطّلاق المتكرّر والحدّ من التصرّفات الهوجاء لبعض الأزواج، ودافع على إصلاح الوضع العائلي وإصلاح الحياة الزوجيّة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/165.
105. الطلاق والإمساك والتسريح
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈105⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 231]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثلاث لا لعب فيهن: النكاح، والطلاق، والعتاقة، والصدقة(1).
2. روي أنّه قال: مكتوب في التوراة: من أصبح على الدنيا حزينا، فقد أصبح لقضاء الله ساخطا، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فقد أصبح يشكو الله، ومن أتى غنيا فتواضع لغناه، ذهب الله بثلثي دينه، ومن قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار، فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، ومن لم يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر)(2).
__________
(1) عبد الرزاق: ١٠٢٤٧.
(2) تفسير القمّي: 1/76.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب، لا يريد الطلاق؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾، فألزمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الطلاق(1).
2. روي أنّه قال: ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ عافية الله(2).
__________
(1) ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: ١/٦٣٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٦.
إبراهيم النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ يطلق الرجل تطليقة، ثم يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض قبل أن تفرغ من الثالثة، ثم يقول لها: قد راجعتك، ثم يفعل مثل ذلك بها، حتى يحبسها تسع حيض قبل أن تحل للرجال، فهذا الضرار(1).
__________
(1) محمد بن الحسن الشيباني في الآثار: ٢/٥١٢.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ الضرار: أن يطلق الرجل المرأة تطليقة، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأقراء، ثم يطلقها، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأقراء، يضارها بذلك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم﴾، النعم: آلاء الله(2).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٦.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ هو الرجل يطلق امرأته، فإذا أرادت أن تنقضي عدتها أشهد على رجعتها، ثم يطلقها، فإذا أرادت أن تنقضي عدتها أشهد على رجعتها، يريد أن يطول عليها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٧٩ بنحوه.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فقال: (إن الله غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة، فمن غضب عليه فزاد، فأنا إلى الله منه بريء فذلك قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾)(1).
2. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، فقالا: (هو الرجل يطلق المرأة تطليقة واحدة، ثم يدعها حتى إذا كان آخر عدتها راجعها، ثم يطلقها اخرى، فيتركها مثل ذلك، فنهى عن ذلك)(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/117.
(2) تفسير العيّاشي: 1/119.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، فقال: الرجل يطلق، حتى إذا كاد أن يخلو أجلها راجعها، ثم طلقها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى الله عز وجل عن ذلك)(1).
2. روي أنّه قال: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها، وليس له فيها حاجة، ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عز وجل عنه، إلا أن يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك)(1).
3. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، فقال: الرجل يطلق، حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها، ثم طلقها، ثم راجعها، يفعل ذلك ثلاث مرات، فنهى الله عنه(2).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 3/323.
(2) تفسير العيّاشي: 1/119.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ يعني بالحكمة: الحلال، والحرام، وما سن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يقول: يعظكم الله به، واتقوا الله في أمره ونهيه، واعلموا أن الله بكل شيء عليم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ واحدة: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني: انقضاء عدتهن من قبل أن تغتسل من قرئها الثالث؛: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني: بإحسان من غير ضرار، فيوفيها المهر والمتعة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاذْكُرُوا﴾ واحفظوا: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُم﴾ بالإسلام(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٦.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وقال عزّ وجل: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ ذكر في الآية الأولى (الإمساك)، والإمساك المعروف: هو إمساكها على ما كان من الملك، وذكر في الآية الأخيرة (الرد)، والرد لا يكون إلا بعد الخروج من الملك، هذا هو الظاهر في الآية، لكن بعض أهل العلم يقولون: إنه يمسكها على الملك الأول ويردها من الحرمة إلى الحل؛ لأن من مذهبهم: فأمر بالإمساك على الملك الأول وبالرد من الحرمة إلى الحل، وهو قول أهل المدينة أي يردها من العدة إلى ما لا عدة، ويمسكها بلا عدة، وأما عندنا(2): فهو واحد بحدث الإمساك، دليله قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ ولو لم يكن الإمساك سوى القصد إليه، لكان لم يكن بالقصد إليها مضرّا، وهو فيما أمر بالإمساك بالمعروف فيه وجهان:
أ. أحدهما: هو أن يمسكها على ما كان يمسكها من قبل من مراعاة الحقوق ومحافظة الحدود.
ب. ويحتمل ما قيل: ألا تطول عليها العدة، على ما ذكر في القصة من تطويل العدة عليها، وفيه نزلت الآية.
2. فيه دلالة أن الزوج يملك جعل الطلاق بائنا بعد ما وقع رجعيّا؛ لأنه يصير بائنا بتركه المراجعة؛ فعلى ذلك يملك إلحاق الصفة من بعد وقوعه، فيصير بائنا.
3. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ الأصل عندنا في المناهي: أنها لا تدل على فساد الفعل ولا تستدل بالنهى على الفساد، كقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ على ذلك قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ أنه يصير ممسكا لها وإن كان فيه ضرارا لها، وهكذا هذا في كل ما يشبه هذا من قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا﴾ [النساء: 25]، أنه إذن بالفعل في حال فهو وإن أوجب نهيا في الفعل، فذلك لا يدل على الفساد في حال أخرى.
4. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ معناه أي لا تعملوا بآيات الله عمل من يخرج فعله بها مخرج فعل الهازئ؛ لأنه معقول أن أهل الإيمان والتوحيد لا يتخذون آيات الله هزوا، ولا يقصدون إلى ذلك، وقيل: إنهم في الجاهلية كانوا يلعبون بالطلاق والعتاق، ويمسكونهم بعد الطلاق والعتاق على ما كانوا يمسكون قبل الطلاق وقبل العتاق، فنهوا عن ذلك بعد الإسلام والتوحيد.
5. اختلف فى ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾
أ. قيل: حجج الله.
ب. وقيل: أحكام الله.
ج. وقيل: دين الله.
د. ويحتمل: ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ الآيات المعروفة.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: ﴿نِعْمَتَ﴾ هاهنا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو من أعظم النعم.
ب. ويحتمل: ﴿نِعْمَتَ﴾ الإسلام وشرائعه.
ج. ويحتمل: ﴿نِعْمَتَ﴾ هي التي أنعمها على خلقه جملة.
6. النعمة على ثلاثة أوجه:
أ. النعمة بالإسلام، تقتضى منه المحافظة.
ب. والنعمة الخاصة، تقتضى الشكر.
ج. والنعم العامة جملة، تقتضى منه التوحيد.
7. ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهو القرآن، ففيه دلالة أن ﴿الْكِتَابِ﴾ هو منزل، ليس كما يقول القرامطة؛ لأنهم يقولون: بأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم ألف القرآن، وإنما كان يوحى إليه كما يتوهم الرجل شيئا فيجعله كلاما.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾:
أ. قيل: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الفقه.
ب. وقيل: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الحلال والحرام.
ج. وقيل: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ المواعظ.
د. وقيل: ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ هي الإصابة: إصابة موضع كل شيء منه.
هـ. وقيل: ﴿الْحِكْمَةَ﴾ القرآن، وهو من الإحكام والإتقان، كأنه قال ـ عزّ وجل ـ: (اذكروا ما أعطاكم من الفقه والإصابة والكتاب المحكم والمتقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
9. ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ يعنى بالقرآن، وفى قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تخويف وتحذير، ليعلموا أن كل شيء في علمه، وأنه لا يعزب عنه شيء في علمه، وبالله العصمة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/171.
(2) يقصد الحنفية.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ معنى قوله ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن انقضاء عدتهن كما يقول المسافر قد بلغت بلد كذا إذا قاربه ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ هو المراجعة قبل انقضاء العدة ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ هو تركها حتى تنقضي العدة ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ وهو أن يراجع كلما طلق حتى تطول عدتها إضراراً بها.
2. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ يعني في قصد الإضرار وإن صحت الرجعة والطلاق ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ روينا عن أمير المؤمنين علي أنّه قال كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يطلق الرجل منهم أو يعتق فيقال له ما صنعت فيقول: كنت لاغياً فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من طلق لاغياً أو أعتق لاغياً فقد جاز عليه) وفيه نزلت: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾
3. معنى قوله: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الأجل هاهنا انقضاء العدة بخلاف بلوغه في الآية قبلها لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها فدل اختلاف الكلامين على اختلاف البلوغين.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/113.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن انقضاء عددهن، كما يقول المسافر: بلغت بلد كذا إذا قاربه، ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ هو المراجعة قبل انقضاء العدة ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وهو تركها حتى تنقضي العدة.
2. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ هو أن يراجع كلما طلّق حتى تطول عدتها إضرارا بها، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ يعني في قصد الإضرار، وإن صحت الرجعة، والطلاق.
3. روى حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غضب على الأشعريين، قالوا: يقول أحدهم قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا بطلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها ولا تتخذوا آيات الله هزوا، وروى سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يطلّق أو يعتق، فيقال: ما صنعت؟ فيقول: كنت لاعبا، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من طلّق لاعبا أو أعتق لاعبا جاز عليه)، قال الحسن: وفيه نزلت: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/297.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ معناه: انقضى عدتهنّ بالأقراء، أو الأشهر، أو الوضع، والمعنى: إذا بلغن قرب انقضاء عدّتهن، لأن بعد انقضاء العدة ليس له إمساكها.
2. الإمساك هاهنا المراجعة قبل انقضاء العدة، وبه قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وقد يقال لمن دنا من البلد: فلان قد بلغ البلد، والمراد (بالمعروف) هذا الحق الذي يدعو إليه العقل، أو الشرع للمعرفة بصحته، بخلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل، أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته، فما يجوز المعرفة بصحته: معروف، وما لا يجوز المعروف بصحته منكر، والمراد به هاهنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه الله له: من القيام بما يجب لها من النفقة، وحسن العشرة، وغير ذلك، ولا يقصد الإضرار بها.
3. بينا أن التسريح أصله إرسال الماشية في المرعى ومنه قوله: ﴿حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾.
4. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ معناه: لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن إما في تطويل العدة، أو طلب المفاداة أو غير ذلك، فان ذلك غير جائز.
5. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فالظلم الضرر الذي ليس لأحد أن يضرّ به.
6. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ يعني ما ذكره من الأحكام في الطلاق بما يجوز فيه المراجعة، وما لهم على النساء من التربص حتى تعرا أو رفعوه مما ليس لهم عن ذلك وروي عن أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري: أنهم قالوا: كان الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول: إنما كنت لاعباً، فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من طلق لاعباً، أو أعتق لاعباً، فقد جاز عليه.
7. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ معناه: التنبيه على أنه لا يسقط الجزاء على عمل من أعمالهم، لخفائه عنه، لأنه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ والأجل هو انقضاء مدة الانتظار، والإمساك هاهنا: المنع من الذهاب والتسريح: الإرسال بتركهن بانقضاء العدة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/251.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأجل: المدة، والأجل: الوقت، والآجل خلاف العاجل، قال الزجاج: الأجل آخر المدة وعاقبة الأمور.
ب. التسريح: الإطلاق، وأصله إرسال الماشية في المرعى، ومنه: ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾، ومنه السرح.
ج. الضرار: المضارة، وهو من الضر ضد النفع، والظلم أصله النقص، وحده: الضرر القبيح، وقيل: الضرر الذي لا نفع فيه ولا دفع ولا استحقاق.
د. الهزؤ: السخرية، يقال: هزأ به واستهزأه.
هـ. الوعظ: التخويف، والعظة الاسم، قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له قلبه.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:
أ. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ في ثابت بن يسار الأنصاري طلق امرأته حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها، يفعل ذلك حتى مضت تسعة أشهر مضارة لها، ولم يكن الطلاق محصورًا يومئذ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله هُزُوًا﴾ قيل: كان الرجل يطلق أو يعتق، ثم يقول: إني كنت لاعبًا، فنزلت الآية، عن أبي الدرداء والحسن فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: من طلق لاعبًا أو أعتق لاعبًا فقد جاز عليه).
3. ثم بَيَّنَ تعالى ما يجب على الزوج إذا طلق، وإذا بلغ الأجل، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ خطاب للأزواج: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي بلغن انقضاء العدة ومعناه: قاربن وشارفن أجلهن، عن الحسن وغيره من أهل العلم؛ لأنه بعد انقضاء العدة ليس له الإمساك، يقال: بلغت البلد إذا قاربت منها، والأجل الذي تنقضي به العدة: الأقراء في ذوات الحيض، والأشهر فيمن لا تحيض، والوضع فيمن بها حمل.
4. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني راجعوهن قبل انقضاء العدة، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أي بالقيام بما أمر الله تعالى به في حقها دون إرادة المضارة، عن أبي علي والأصم، والمعروف:
أ. قيل: الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته، وخلافه المنكر.
ب. وقيل: بمعروف بإشهاد على الرجعة دون الرجعة بالوطء، عن ابن جرير.
5. ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ﴾ أي طلقوهن بأن تتركوهن حتى تنقضي عدتهن، وكن أملك بأنفسهن ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾:
أ. قيل: أمسكوهن بالمعروف لا للمضارة، وسوء العشرة.
ب. وقيل: التضييق في النفقة في العدة.
ج. وقيل: بتطويل العدة.
د. وقيل: الإمساك للمضارة بخلاف ما أمر الله به تعالى.
6. ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ أي تجاوزوا حد الله ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يعني الاعتداء، ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ يعني بخس حقها حيث خالف أمر الله تعالى حتى استحق وعيد الله.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله هُزُوًا﴾:
أ. قيل: يعني لا تستخفوا بآياته وأوامره وفروضه، ولا تتخذوه عبثًا، عن الأصم وأبي مسلم.
ب. وقيل: آيات الله قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ عن الكلبي.
ج. وقيل: لا تستخفوا بنهي الله إياكم فيما تقدم، عن أبي علي.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾:
أ. قيل: فيما أباح من الأزواج والأموال، وما بين من الحلال والحرام، عن أبي علي.
ب. وقيل: بما علمكم وكنتم جهالاً، عن الأصم.
ج. وقيل: بالإيمان.
9. ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾ اذكروا ما أنعم عليكم به، وما أنزل الله ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهو الكتاب ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني العلوم التي دل عليها، والشرائع التي بينها، ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ لتتعظوا وتنتهوا عن معاصيه.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾:
أ. قيل: أي اتقوا معاصيه المؤدية إلى عقابه.
ب. وقيل: اتقوا عذابه باتقاء معاصيه.
11. ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ من أفعالكم وغيرها.
12. تدل الآية الكريمة على:
أ. جواز الرجعة كما تقدم إلا أن ههنا زيادة فائدة، وهو أن له الرجعة ما دامت في العدة.
ب. تحريم الإمساك للمضارة، وتدل على أن من فعل ذلك فقد ظلم نفسه.
ج. المنع من الهزؤ بآيات الله، وفيه زيادة على ترك العمل؛ لأن الهازئ هو التارك مع قلة الاكتراث استخفافًا، وهذا كفر.
د. يدل قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله﴾ أن العصيان مع كثرة النعم أعظم، ونبه على عظيم نعمه، ونبه على وعظ يجمع بين الأمر والنهي والوعد والوعيد، ونبه بآخر الآية بكونه عالمًا لضمائرهم ليكونوا خائفين وجلين.
هـ. استدلّ بعضهم بالآية على أن الخلع ليس بطلاق؛ لأنه تعالى ذكر تطليقتين، ثم الخلع، ثم قال: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ فلو كان الخلع طلاقًا لكانت التطليقات أربعًا، قلنا: الله تعالى بَيَّنَ الطلاق بغير بذل وأحكامه من ثبوت الرجعة وغيره، ثم بَيَّنَ حكم الطلاقين ببذل؛ ليعلم حكمه من امتناع الرجعة، ثم بَيَّنَ حكم الثالث ببذل وغير بذل، وأنه يحرم في الحالين العقد إلا بعد زوج.
و. استدل بعضهم بقوله تعالى: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ على أن لفظ السراح صريح في الطلاق؛ لأن المراد به الطلاق ههنا، وهذا لَا يصح؛ لأن القرآن يَرِدُ بالصريح والكناية كقوله تعالى: ﴿أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ و﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وعلى أن المراد بالتسريح تركها حتى تنقضي عدتها، فما ذكره ممنوع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/922.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الأجل: آخر المدة وعاقبة الأمور.
ب. المعروف هاهنا: الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع، لاستحالة المعرفة بصحته، فما يجوز المعرفة بصحته: معروف، وما لا يجوز المعرفة بصحته: منكر.
2. ثم بين سبحانه ما يفعل بعد الطلاق، فقال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ وهذا خطاب للأزواج: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ البلوغ هاهنا: بلوغ مقاربة أي: قاربن انقضاء العدة بما يتعارفه الناس بينهم، بما تقبله النفوس، ولا تنكره العقول، والمراد بالمعروف هاهنا: أن يمسكها على الوجه الذي أباحه الله له من القيام بما يجب لها من النفقة، وحسن العشرة، وغير ذلك.
3. ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فيكن أملك بأنفسهن: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ أي: لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن، بل لطلب الإضرار بهن إما في تطويل العدة، أو بتضييق النفقة في العدة.
4. ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ أي: لتظلموهن، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ أي: الإمساك للمضارة، ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ فقد أضر بنفسه، وعرضها لعذاب الله.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله هُزُوًا﴾:
أ. قيل: أي: لا تستخفوا بأوامره وفروضه ونواهيه.
ب. وقيل: آيات الله قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
6. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ فيما أباحه لكم من الأزواج والأموال، وما بين لكم من الحلال والحرام، ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني العلوم التي دل عليها، والشرائع التي بينها، ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ لتتعظوا فتؤجروا بفعل ما أمركم الله به، وترك ما نهاكم عنه.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾:
أ. قيل: أي: معاصيه التي تؤدي إلى عقابه.
ب. وقيل: اتقوا عذاب الله باتقاء معاصيه.
8. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ من أفعالكم وغيرها.
9. مسائل نحوية:
أ. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾: الجملة في موضع جر بالعطف على الجملة قبلها، وهي: ﴿طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ مجرورة الموضع بإضافة: ﴿إِذَا﴾ إليها.
ب. ﴿ضِرَارًا﴾: نصب على الحال من الواو في: ﴿تُمْسِكُوهُنَّ﴾ تقديره: ولا تمسكوهن مضارين.
ج. اللام في: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾: يتعلق بتمسكوا وضرارا وهزوا: مفعول ثان (لتتخذوا).
د. ﴿وَمَا أَنْزَلَ﴾: موصول وصلة في محل النصب بالعطف على: ﴿نِعْمَةٍ﴾.
هـ. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: في محل النصب على الحال، والعامل فيه: ﴿اذْكُرُوا﴾، وذو الحال: ﴿مَا أَنْزَلَ﴾ ومن يكون بمعنى التبيين.
و. ﴿يَعِظُكُمُ﴾: جملة في موضع الحال، والعامل فيه: ﴿أَنْزَلَ﴾.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/582.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، قال ابن عباس: كان الرجل يطلّق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها، ثم يطلّقها، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك، فنزلت هذه الآية.
2. الأجل هاهنا: زمان العدّة، ومعنى البلوغ هاهنا: مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه، يقال: بلغت المدينة: إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها، وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدّة رجعة.
3. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: المراد به الرّجعة قبل انقضاء العدّة، ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وهو تركها حتى تنقضي عدّتها.
4. المعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حقّ، والمعروف في التّسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدّتها بالمراجعة، وهو معنى قوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، قاله الحسن ومجاهد، وقتادة في آخرين، وقال الضحّاك: إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ الاعتداء، ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ بارتكاب الإثم.
5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه الرجل يطلّق أو يراجع، أو يعتق، ويقول: كنت لاعبا، روي عن عمر، وأبي الدّرداء، والحسن.
ب. الثاني: أنه المضارّ بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق، قاله مسروق، ومقاتل، واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ
6. ﴿عَلَيْكُمْ﴾، قال ابن عباس: احفظوا منّته عليكم بالإسلام، قال والكتاب: القرآن، والحكمة: الفقه.
7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، في الضّرار ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ به وبغيره ﴿عَلِيمٌ﴾.
__________
(1) زاد المسير: 1/205.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سؤال وإشكال: أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول: لا فرق بين هذه الآية وبين قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريرا لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز، والجواب:
أ. أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع، وإنما المشروع هو التفريق، فهذا السؤال ساقط عنهم، لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة.
ب. أما أصحاب الشافعي، وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم، ولهم أن يقولوا: إن من ذكر حكما يتناول صورا كثيرة، وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى، ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وهاهنا كذلك، وذلك لأن قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين، وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت، وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر، فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيها على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالا على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها.
2. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إشارة إلى المراجعة واختلف العلماء في كيفية المراجعة:
أ. قال الشافعي: لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام، لم تكن الرجعة إلا بكلام، واستدل بما يلي:
• ما روي أن ابن عمر لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، أمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالمراجعة مطلقا.
• وقيل: درجات الأمر الجواز فنقول: إنه كان مأذونا بالمراجعة في زمان الحيض، وما كان مأذونا بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة.
ب. وقال أبو حنيفة والثوري: تصح الرجعة بالوطء، لأنه تعالى قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أمر بمجرد الإمساك، وإذا وطئها فقد أمسكها، فوجب أن يكون كافيا.
ج. وقال مالك: إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا.
3. الشافعي لما قال إنه لا بد من الكلام، ظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال في (الإملاء): هو واجب، وهو اختيار محمد بن جرير الطبري، والحجة فيه قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ولا يكون معروفا إلا إذا عرفه الغير، وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد، فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجبا وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم.
4. 5. سؤال وإشكال: إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة، وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة، وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة، والجواب: من وجهين:
أ. أحدهما: المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ، وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر، وهو كقول الرجل إذا قارب البلد: قد بلغنا.
ب. الثاني: أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه، بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة، وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز.
6. سؤال وإشكال: لا فرق بين أن يقول: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وبين قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار؟ والجواب: الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة، فلا يتناول كل الأوقات، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات، فلعله يمسكها بمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل، فلما قال تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات.
7. الضرار(2) هو المضارة قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ [التوبة: 107] أي اتخذوا المسجد ضرارا ليضاروا المؤمنين، ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة، وموجبات النفرة، وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها:
أ. أحدها: ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها، فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها، وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر.
ب. الثاني: في تفسير الضرار سوء العشرة.
ج. الثالث: تضييق النفقة، واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها.
8. في قوله تعالى: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ وجهان:
أ. الأول: المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين، يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك، وهو كقوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8] أي فكان لهم وهي لام العاقبة.
ب. الثاني: أن يكون المعنى: لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذ تصيرون عصاة الله، وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية، ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي.
9. في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وجوه:
أ. أحدها: ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله.
ب. ثانيها: ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين، أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه.
10. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ وجوه:
أ. الأول: أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر، يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به، فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله، ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها، كان كالمستهزئ بها، وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة، وهو الأقرب، لأن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ تهديد، والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديدا على تركها، لا على شيء آخر غيرها.
ب. ثانيها: المراد: ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث.
ج. الثالث: قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية، ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقال: (من طلق، أو حرر، أو نكح، فزعم أنه لاعب فهو جد)
د. الرابع: قال عطاء: المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصرا عليه أو على مثله، كان كالمستهزئ بآيات الله تعالى.
11. لما رغبهم الله تعالى في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد، رغبهم أيضا في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم، فبدأ أولا بذكرها على سبيل الإجمال فقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا، فقال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾، والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به، ثم قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي في أوامره كلها، ولا تخالفوه في نواهيه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/452.
(2) الكلام هنا للقفال.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ معنى ﴿بَلَغْنَ﴾ قاربن، بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى.
2. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها:
أ. ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبد الرحمن ابن مهدي، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال: إن ذلك سنة، ورواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
ب. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ وقال: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح، وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لا معارض لها.
3. الحجة للأول قوله صلّى الله عليه وآله وسلم في صحيح البخاري: (تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني) فهذا نص في موضع الخلاف.
4. الفرقة بالإعسار عندنا(2) طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله: إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولي.
5. ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ يعني فطلقوهن، وقد تقدم، ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾:
أ. روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ يعظهم الله به.
ب. وقال الزجاج: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله، وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر.
6. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ معناه لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو [بالهزو] فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته، قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول: كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد)، وفي موطإ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي؟ فقال ابن عباس: (طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا)، وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن علي قال: سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال: (تتخذون آيات الله هزوا ـ أو دين الله هزوا ولعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره)، إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث، وروي عن عائشة: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك، قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك، فنزلت: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾، قال علماؤنا: والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوا، ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية، وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه.
7. لا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في ﴿بَرَاءَةٌ﴾ إن شاء الله تعالى، وخرج أبو داوود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)، وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء كلهم قالوا: ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق، وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين، ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه.
8. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي بالإسلام وبيان الأحكام، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب، ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي يخوفكم، ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/156.
(2) يقصد المالكية.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي: الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازا لعلاقة مع قرينة كما هنا، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي، لأن المرأة إذا قد بلغت آخر جزء من مدّة العدّة؛ وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء؛ فقد خرجت من العدّة، ولم يبق للزوج عليها سبيل، قال القرطبي في تفسيره: إن معنى ﴿فَبَلَغْنَ﴾ هنا: قاربن، بإجماع العلماء، قال ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، والإمساك بمعروف: هو القيام بحقوق الزوجية، أي: إذا طلقتم النساء؛ فقاربن آخر العدّة؛ فلا تضاروهنّ بالمراجعة من غير قصد لاستمرار الزوجية واستدامتها بل اختاروا أحد أمرين: إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار، أو التسريح بإحسان، أي: تركها حتى تنقضي عدّتها من غير مراجعة ضرار.
2. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدّتها، ثم مراجعتها لا عن حاجة ولا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مدّة الانتظار ضِراراً لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه، قال الزجاج: يعني عرّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله.
3. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ أي: لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزء، فإنها جدّ كلها، فمن هزل فيها فقد لزمته، نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل، فإنه كان يطلق الرجل منهم أو يعتق أو يتزوج ويقول: كنت لاعبا، قال القرطبي ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه.
4. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي: النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وظلمات بعضها فوق بعض، والكتاب: هو القرآن، والحكمة: قال المفسرون: هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
5. ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي: يخوفكم بما أنزل عليكم، وأفرد الكتاب والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولا أوليا، تنبيها على خطرهما وعظم شأنهما.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/279.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، أي: طلاقا رجعيا ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، أي: قاربن انقضاء العدة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾، أي: بالمراجعة إن أردتم ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾، من غير ضرار ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، أي: بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ﴾، أي: بالرجعة ﴿ضِرَارًا﴾، أي: مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة ﴿لِتَعْتَدُوا﴾، اللام للعاقبة، أي: لتكون عاقبة أمركم الاعتداء؛ أو للتعليل (متعلقة بالضرار) فيكون علة للعلّة، أي: لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء.
2. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، أي: بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ﴾، أي: أوامره ونواهيه ﴿هُزُوًا﴾، أي: مهزوّا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها.
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾، أي: السنة ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي: بما أنزل، أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، تأكيد وتهديد.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/153.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ مطلقًا، ﴿فَبَلَغْنَ﴾ سمَّى مقاربة الأجل بلوغًا للجوار، أو للمشارفة، أو لتسبُّب المقاربة للوقوع، وتبعد الاستعارة تشبيها للداني بالواقع، وكأنَّه قيل: (قاربْنَ) ﴿أَجَلَهُنَّ﴾ الأجل [هنا] مطلق اللحظة التي تلي المدَّة، أو اللحظة الأخيرة من المدَّة، أو نفس المدَّة، والمراد هنا آخر العدَّة، بقدر ما يراجِع، بدليل قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ بالمراجعة.
2. ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ من الحقوق بلا ضرر، وذلك تسمية للجزء باسم الكلِّ، أو يقدَّر مضافٌ، أي: آخر الأجل، وظاهر [قول] بعض: إنَّ الأجل بمعنى آخر المدَّة حقيقة أيضًا، والأولى: أنَّه مجاز للمشارفة، أو استعارةٌ، تشبيهًا لقريب الوقوع بالواقع.
3. ﴿اَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ دعوهنَّ بلا مراجعة، فيخرجن عنهم، ويتزوَّجنهم برضاهنَّ أو غيرهم، كأنَّه قيل: أَبْقُوهنَّ على حكم التطليق الواقع حتَّى يفتن، وإذا جازت المراجعة في آخر المدَّة فأولى أن تجوز قبل الأخير، فلم يذكر ذلك للعلم به، ولأنَّ الذي يفعلونه هو الرجعة آخر العدَّة ضرارًا.
4. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ﴾ بالمراجعة، ﴿ضِرَارًا﴾ أي ضرًّا، أو سمَّى فعلها الذي كان سببًا لضرِّه لها ضرًّا للمشاكلة على عموم المجاز، فصحَّت المفاعلة، فدخل من لم تضرَّه بالأولى، ﴿لِّتَعْتَدُواْ﴾ عليهنَّ بإطالة الحبس، أو الإلجاء بذلك إلى الفداء، كما فعل ذلك ثابت بن يسار، كلَّما بقي يومان أو ثلاثة راجعها فطلَّقها حتَّى مضت تسعة أشهر، ونزلت الآية فيه، على ما روي عن السُّدِّيِّ، و(لِتَعْتَدُوا) بدل من (ضِرَارًا)، أو علَّة للعلَّة والمعلول معًا، ويتعيَّن هذا الوجه إذا جعلنا (ضِرَارًا) بمعنى: مضارِّين، أو ذوي ضرار، أو ضرارَ عاقبةٍ، و(لِتَعْتَدُوا) علَّة، فيعلَّقان معًا بـ (لَا تُمْسِكُوهُنَّ)، والمعنى: لضرار، وفي جمعهما تأكيد كما في الجمع بين قوله تعالى : ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وقوله تعالى : ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾، وكذا بين قوله: ﴿سَرِّحُوهُنَّ﴾، و﴿لَا تُمْسِكُوهُنَّ﴾، ألا ترى أنَّ الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه الذي لا ضدَّ له إلَّا هو؟ ولكنَّ الأمر لا يعمُّ الأوقات، والنهي للتكرير، وقيل: الضرار تطويل المدَّة، والاعتداء: الإلجاء [إلى الفداء].
5. ﴿وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَالِكَ﴾ الإمساك المؤدِّي للضرار، ﴿فَقَد ظَّلَمَ نَفْسَهُ﴾ بتعريضها للعقاب المرتَّب عليه بالضرار، كان الرجل يطلِّق زوجه، حتَّى إذا شارفت انقضاء العدَّة راجعها ليطيل عدَّتها لأنَّها تعتدُّ بالأخير، ﴿وَلَا تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللهِ هُزُؤًا﴾ مهزوءًا بها، أو ذات هزؤ، بأن لا تعملوا بها، وبأن تراجعوا بلا رغبة بل لإضرار، وبأن ينكح ويطلِّق ويعتق، ثمَّ يقول: أنا ألعب، ونزلت الآية لذلك، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ثلاثة جدُّهنَّ جدٌّ، وهزلهنَّ جدٌّ: النكاح والعتاق والطلاق)، ولفظ أبي الدرداء: (ثلاثة اللاعب فيهنَّ كالجادِّ: النكاح والطلاق والعتاق)، وفي لفظ أبي هريرة: ((ثلاثٌ هزلهنَّ جدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة)، كلُّ ذلك مرفوع، وعن عمر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أربع مقفلات: النذر والطلاق والعتق والنكاح).
6. ﴿وَاذْكُرُواْ﴾ بالشكر والقيام بحقِّ النعمة ﴿نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ كالهداية، ورسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ﴿وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ القرآن، ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ عطف خاصٍّ على عامٍّ، والحكمة القرآن، أي: الجامع بين أنَّه قرآن وحكمة، أو هي القرآن والسنَّة، أو السنَّة كما قال الشافعيُّ، ومعرفة الدين والفقه فيه، والاتّباع له كما قال ابن وهب عن مالك، والفصل بين الحقِّ والباطل كما قيل، والإصابة في القول والعمل كما قيل، والموعظة كما قال مقاتل، أعني أنَّ الآية لجميع ذلك، وأصل الحكمة الردُّ، وتلك المعاني تردُّ عن الجهل والخطإ، ﴿يَعِظُكُم بِهِ﴾ يوصيكم ترغيبًا وترهيبًا.
7. ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو لا يأمر إلَّا بما هو حكمة، ويجازيكم على المخالفة والموافقة فيما مضى من الأحكام وغيرها، كالعضل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/60.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا حكم جديد غير ما تقدم في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فهذه الآية بيان للواجب في معاملة المطلقات ونهي عن ضده ووعيد على هذا الضد وإرشاد إلى المصلحة، والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن هذا النهي، وتلك بيان لكيفية الطلاق المشروع وعدده وكون الأصل فيه أن يكون بغير عوض، وكون أخذ العوض من المرأة لا يحل إلا بشرط، ولا ينافي هذا ما ورد في سبب نزولها وذكرناه في تفسيرها وهو أليق بهذه، فإن هذه الآيات كلها نزلت في إبطال ما كان عليه الناس من سوء معاملة النساء في الطلاق، فجميع الوقائع التي كانت تقع على العادات كانت تعد من أسباب النزول لها، وقد ورد في أسباب نزول هذه ما نقله السيوطي في كتابه عن ابن جرير وهو في معنى رواية الترمذي والحاكم هناك قال: أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: (كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها ثم يفعل ذلك يضارها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية) وأخرج عن السدي قال: (نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله تعالى (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا)
2. لا تحسبن أن قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ﴾ نزل وحده، بل القول فيه كالقول في مجموع هذه الآيات في مسائل الطلاق، نزلت كلها مرة واحدة فيما يظهر من سياقها، ولكن بعد وقوع حوادث جعلت من أسبابها.
3. الأجل في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ هو زمن العدة ومعنى ﴿بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ قاربن إتمام العدة، قال القرطبي: هذا إجماع لم يفهم أحد من الآية غيره، وهو مبني على قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه تجوزا قرينته العرف، يقول المسافر: بلغنا البلد أو وصلنا إليه إذا دنا منه وشارفه.
4. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ معناه: فاعزموا أحد الأمرين ـ إمساك المرأة بالمراجعة أو إطلاق سبيلها ـ وليكن ما تختارونه من أحد الأمرين بالمعروف الذي شرع لكم في آية ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾) ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ أي: ولا تراجعوهن إرادة مضارتهن وإيذائهن للاعتداء عليهن بتعمد ذلك، فالضرار بمعنى الضرر، وذكر بالصيغة التي تأتي للمشاركة للإشعار بأن ضره إياها يستلزم ضرها إياه، فالرجال يضرون أنفسهم بإيذاء النساء، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ في الدنيا بسلوك طرق الشر والاعتداء التي لا راحة لضمير صاحبها، ويجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد، وبتنفير الناس منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، وظلم نفسه في الأخرى أيضا بما خالف أمر الله وتعرض لسخطه.
5. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ وهذا وعيد بعد وعيد، وتهديد لمن يتعدى حدود الله في هذه الأحكام أي تهديد، والسبب فيه حمل المسلمين على احترام صلة الزوجية، وتوقي ما كانوا عليه في عهد الجاهلية، فقد كانوا يتخذون النساء لعبا، ويعبثون بطلاقهن وإمساكهن عبثا، وفي أسباب النزول: أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: (كان الرجل يطلق، ثم يقول: لعبت، ويعتق ثم يقول: لعبت)، فأنزل الله ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ أي: أنزله فيما أنزل من آيات أحكام الطلاق، لا أنه أنزله على حدة كما تقدم نظيره في نظيره، والمعنى لا تتهاونوا بحدود الله تعالى التي شرعها لكم في آياته جريا على سنن الجاهلية؛ فإن هذا التهاون والاعتداء للحدود بعد هذا البيان والتأكيد من الله تعالى يعد استهزاء بآياته، ومن هنا قال بعض السلف: المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه، ولا شك أن الذي يخالف أمر الله وينقض هذه العهود بعد توثيقها طلبا لشهوة من شهواته، أو استمساكا بعادة من عاداته، فهو جدير بأن يعد مستهزئا بآيات الله غير مذعن لها.
6. بعد التحذير من التهاون بحقوق النساء وجعل العابث بأحكام الله فيها مستهزئا بآياته ـ وفي ذلك من الوعيد والترهيب ما فيه ـ أراد تعالى أن يقرر هذه الأحكام في النفوس بباعث الترغيب فيها بالتذكير بفوائدها ومزاياها، وبيان المنة في هداية الدين التي هي منها فقال: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به﴾ أي: امتثلوا ما ذكر آنفا من أمر ونهي، وتذكروا نعمة الله عليكم بالفطرة السليمة في الرابطة الزوجية المعبر عنها بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وما أنزله عليكم من آيات الأحكام المكملة للفطرة في الزوجية والحكمة فيها حال كونه يعظكم بالجمع بينهما ـ أي: الأحكام وحكمتها ـ فإن معرفة الشيء مع حكمته هي التي تحدث العظة والعبرة الباعثة على الامتثال، ولا يبعد أن تكون هذه الآيات النفسية هي المرادة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾.
7. أفسد على الناس تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح، غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفران النساء لنعمة الرجال وحفظ سيئاتهم، وتماديهن في الذم لها والتبرم بها، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين، وقلد به الناس بعضهم بعضا، فالله سبحانه وتعالى ذكرنا:
أ. أولا بنعمته علينا في أنفسنا لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتباع الهوى، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكين صلة الزوجية واحترامها وتوثيقها.
ب. وثانيا بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذلك، وحد لنا كتابه الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، مؤيدا لها بالوعظ السائق إلى اتباعها، وما ذكرنا بالكتاب هنا إلا لنجعله إماما لنا في تقويم الفطرة على ما مضت به السنة وعززته الحكمة، ولكننا قد أعرضنا عنه، فمن نظر في شيء من هذه الأحكام فإنما ينظر فيما كتبه بعض البشر مما هو خلو من حكمة التشريع، غير مقرون بشيء من الترغيب والترهيب، فهو لا يحدث للنفوس عظة ولا ذكرى، ولا يبعث في القلوب هداية ولا تقوى، على أن أكثر المسلمين لا ينظر فيها، ولا يسأل العارفين بها عنها، إلا أن يكون لأجل الاستعانة على حقوق يهضمها، أو صلات يقطعها وعرى يفصمها، فهو يستفتي غالبا ليأمن مؤاخذة الحكام لا ليقيم حدود الإسلام، وإذا قام فيهم داع يدعو إلى الله، ويذكر المؤمنين بآيات الله رماه الرؤساء بسهام الملام، وأغروا به الساسة وأهاجوا عليه العوام، خائفين أن يحيي ما أماتوه من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة، زاعمين أنه يبطل مذاهب الأئمة، على أن التذكير هو الذي يحيي علم المجتهدين؛ لأنهم كانوا مذكرين به ومبينين، لا صادين عنه ولا ناسخين، وما كل من اهتدى بهديهم في التذكير والتبيين يلحقهم في الاستنباط والتدوين، فيا أيها العلماء أحيوا كتاب الله، فوالله إنه لا حياة لهذه الأمة بسواه؛ ولذلك عادت بترك هديه إلى عادات الجاهلية، وما هو شر منها من إباحية الإفرنج العصرية، اتباعا للهوى ونزغات البهيمية.
8. هذا وإن جمهور المفسرين فسروا نعمة الله هنا بالدين والرسالة، وجعلوا ما أنزل من الكتاب والحكمة تفصيلا للنعمة المجملة، قال محمد عبده: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بإرسال هذا الرسول، وبيان الحدود والحقوق التي تحفظ لكم الهناءة في الدنيا، وتضمن لكم السعادة في الآخرة، وذكر أن ما بعد هذا تفصيل له، وفسر الحكمة بسر الكتاب، ثم قال: وفي النعمة وجه آخر، وهي هذه الرحمة التي جعلها الله بين الرجال والنساء، وامتن بها علينا في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وإنما أوردنا هذا الوجه أولا بالبيان والتفصيل؛ لأنه هو المختار عندنا، وذهب بعضهم إلى أن النعمة هنا عامة تشمل نعم الدنيا والدين.
9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أمر بعد كل ما تقدم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية ـ وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام ـ مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية، إذ كانوا يرونه كعقد الرق والبيع والإجارة في المتاع الخسيس والنفيس، بل كانوا يرونه دون ذلك؛ لأن الرجل لم يكن يشتري متاعا ثم يرمي به في الطريق زهدا فيه، ولم يكن يمسك قنه ليعذبه وينتقم به، ولكنهم كانوا يطلقون المرأة لأدنى سبب ـ كالملل والغضب ـ ثم يعودون إليها، يفعلون ذلك المرة بعد المرة، وكانوا يمسكونها للضرار والإهانة كما تقدم آنفا، وقد يستبدل الواحد منهم امرأة الآخر بامرأته.
10. اعتياد هذه المعاملة السوأى والأنس بها لا تكون مقاومته إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد؛ إذ لا يسهل على الرجل الذي كان يرى المرأة مثل الأمة أو دونها أن يساويها بنفسه بمجرد الأمر، ويرى لها عليه مثل ما له عليها، ويحظر على نفسه مضارتها وإيذاءها ويلتزم معاملتها بالمعروف في حال إمساكها عنده، وفي حال تسريحها إن اضطر إليه، ولكن هذه العظات والتشديدات المشتملة على الإقناع وبيان المصلحة هي التي تعمل في نفسه، وتؤثر بتكرارها في قلبه، وإن كان كالحجارة في القسوة:
أما ترى الحبل بتكراره... في الصخرة الصماء قد أثرا
11. نعم إنه قد كان له أحسن التأثير في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وفيمن اتبعهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن، وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية، وسائر الأمم من ظلم النساء، فلم يتقوا الله في ذلك ولا تدبروا قوله بعدما تقدم.
12. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وهو أبلغ في موضعه من كل ما تقدم من التأكيد والتشديد في حقوق النساء؛ لأن الإنسان قد يراعي الأحكام الظاهرة بقدر الإمكان بغير إخلاص فيطبق العمل على الحكم على وجه يعلم أن من ورائه ضررا، فهذه الجملة تذكره بأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء مما يسره العبد أو يعلنه، فلا يرضيه إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون ظاهره كباطنه في الخير، ولا يتم له ذلك إلا بمراقبة الله تعالى في عمله، والعلم اليقين بأنه مطلع عليه فيه، لا يبيت قولا أو فعلا، ولا ينوي خيرا أو شرا، ولا يطوف في ذهنه خاطر، ولا تختلج في قلبه خلجة إلا وهو سبحانه عالم بذلك ومطلع عليه، فلا طريق له إلى مرضاة ربه إلا بتطهير قلبه، وإخلاص نيته في معاملة زوجه وفي سائر المعاملات، قال محمد عبده رحمه الله تعالى: من حسنت نيته حسن عمله غالبا بل كان موفقا دائما.
13. من التوفيق أن يستفيد من خطئه الذي لم يرد به سوءا، فيعرف كيف يتوقى مثل هذا الخطأ، ويزداد بصيرة في الخير، فليزن المؤمنون أنفسهم بميزان هذه الآية الكريمة وأمثالها وهي الموازين القسط؛ ليعلموا أن منشأ فساد البيوت وشقاء المعيشة هو الإعراض عن هدي الكتاب المبين، وأنه لا سبيل إلى السعادة إلا بالرجوع إليه، وفقنا الله لذلك بمنه وكرمه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/396.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بيّن الله تعالى فيما سلف كيفية الطلاق المشروع وعدده بقوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وأن الأصل فيه أن يكون بلا عوض بقوله: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾، وأن أخذ العوض لا يحل إلا بشرط ذكره بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، ذكر هنا ما يجب في معاملة المطلقات، ونهى عن ضده، وتوعد على فعل ذلك الضد، وأرشد إلى المصلحة والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن ذلك النهى.
2. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي وإذا طلقتم النساء فقار بن إتمام العدة، فاعزموا أحد الأمرين، إما إمساك المرأة بالمراجعة، أو إطلاق سبيلها بالمعروف الذي شرع لكم في الآية: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾، وإنما فسرنا بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة، لأن الأجل إذا انقضى حقيقة لم يكن للزوج حق إمساكها بالمعروف، إذ هي غير زوجة له، وفي غير عدة منه.
3. ثم أكد الأمر بالإمساك بالمعروف ووضح معناه بقوله: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ أي ولا تراجعوهن مريدين مضارتهن وإيذاءهن بالحبس وتطويل العدة لتلجئوهن إلى افتداء أنفسهن كما كانوا يتعاطونه في الجاهلية، روى ابن جرير عن ابن عباس قال كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، ثم يفعل ذلك ليضارّها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية، وعن السدى قال نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، ثم راجعها ثم طلقها مضارة لها فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾.
4. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدى إلى الظلم فقد ظلم نفسه في الدنيا بسلوك طريق الشر وإقلاق راحة الضمير بالاعتداء، وبمناصبة المرأة وأسرتها العداء فيتألبون عليه وينفرون منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، كما ظلم نفسه في الآخرة بمخالفة أمر الله وتعرضه لسخطه.
5. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ أي ولا تتهاونوا بحدود الله التي شرعها لكم في دينه جريا على سنن الجاهلية، فإن التهاون بعد هذا البيان والتأكيد يعدّ استهزاء بها، وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يتعدى هذه الحدود، وفيه حث للمسلمين على احترام صلة الزوجية والبعد عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذ كانوا يتخذون هذه الصلة لعبا ويعبثون بطلاقهن ويمسكونهن عبثا.
6. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي وتذكّروا ما أنعم به عليكم من الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وبها امتنّ علينا في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ومن جعل النكاح والطلاق والرجعة بأيدينا، وعدم التضييق في عدد النساء؛ كما ضيق على من سبقنا إذ أحل لهم امرأة واحدة ولم يحلّ لهم بعد موت المرأة زواج أخرى، وبما أنزل به عليكم من آيات أحكام الزوجية التي تجعلكم في هناء في الدنيا وسعادة في الآخرة، ومن الحكمة في سنّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح، إذ معرفة التشريع مع حكمته هي التي تحدث العبرة والعظة الباعثة على الامتثال.
7. ذكّرنا سبحانه بنعمته علينا أن ممكننا من إقامة الصلة الزوجية على أتمّ نظام، وأن هدانا بهذا الدين القويم وحدّ لنا الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، وأيدها بالمواعظ التي تهدى إلى اتباعها، بيد أن الناس قد أعرضوا عن هذه النعم ففسدت بينهم تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة غرورهم بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفر النساء نعمة الرجال وتمادين في ذمهم والتبرم بهم، وقلد الناس بعضهم بعضا في ذلك.
8. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية، وترك ما ألف الناس من عدم المبالاة بعقد الزوجية الذي كانوا يرونه كعقد الرق والإجارة في المتاع الخسيس، بل كانوا يرونه دون ذلك، إذ كانوا يطلقون المرأة لأتفه سبب، ثم يعودون إليها، يفعلون ذلك المرة بعد المرة للضرار والإهانة، فاعتياد المعاملة السيئة والأنس بها لا يقاوم إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، نعم، كان لذلك أحسن الأثر في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم النساء ومعاملتهن بالقسوة دون مراعاة لما أمر به الدين على لسان سيد المرسلين.
9. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يسرّه العبد أو يعلنه، وهو لا يرضى إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون الباطن كالظاهر في الخير، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله في العمل، والإخلاص له في السر والعلن، والعلم بأنه تعالى المطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/177.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين، توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال.. إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة، سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها، ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها، ولا يحقق هذا المستوي الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية، عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان ـ أرفع النعم ـ إلى نعمة الصحة والرزق، واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة..
2. هذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها.
3. لقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها، كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل، أغلى منها الناقة والفرس وأعز! وكانت تلقاه مطلقة، تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها، إن أرادا أن يتراجعا.. وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية؛ شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان.
4. ثم جاء الإسلام.. جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها، وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها.. وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها.. هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه، ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره، إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا، على الحياة الإنسانية جميعا..
5. المقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة، فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الإصلاح ـ والمعاملة بالمعروف ـ وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة ـ وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء..
6. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾.. وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! فهذا هو الإمساك بغير إحسان، إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام، وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق؛ لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية: ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم يهذبها الإسلام، ولم يرفعها الإيمان..
7. هنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله، وشعور الخوف منه في آن، ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها؛ ويرتفع بها إلى المستوي الكريم الذي يأخذ بيدها إليه: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.. إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه، فهي أخته، من نفسه، فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه، وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى.
8. آيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق؛ فإذا هو استغلها في إلحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام أمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك المرأة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا ـ وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد، ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام ـ وويل لمن يستهزئ بآيات الله دون حياء من الله.
9. ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة، وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة.. وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم، هو وجودهم ذاته كأمة.. فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام؟ إنهم لم يكونوا شيئا مذكورا، لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم، كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة، لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به، بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم، لم يكن لديهم شيء على الإطلاق، لا مادي ولا معنوي.. كانوا فقراء يعيشون في شظف، إلا قلة منهم تعيش في ترف، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير، عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة، وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود، واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة، والثارات الحادة، واللهو والشراب والقمار، والمتاع الساذج الصغير
10. على كل حال! ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام، بل أنشأهم إنشاء، أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها، أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية، أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة، وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود، وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم، أو مهملين لا يحس بهم أحد، وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة.. وأكثر من هذا أعطاهم السلام، سلام النفس، وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه، أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق.. وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.. فإذا ذكر هم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر، وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد، وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.
11. القرآن يقول لهم: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ﴾.. بضمير المخاطب؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة.. ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.. فيستجيش شعور الخوف والحذر، بعد شعور الحياء والشكر.. ويأخذ النفس من أقطارها، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/251.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أشار سبحانه وتعالى في الآية في قوله سبحانه: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ إلى الموقف الذي ينبغي أن يلتزمه الرجل من زوجه إن طلقها للمرة الثانية، وهو إما أن يمسكها على نية خالصة وقلب سليم، ورغبة صادقة في أن يقيم الحياة الزوجية معها كما أمر الله، من إحسان ومودة، وإما أن يرسلها ويخلى سبيلها، لتستقبل حياتها الجديدة كما تريد.
2. فى هذه الآية تحذير آخر للأزواج، وما تنعقد عليه قلوبهم تجاه الزوجات اللائي طلقن الطلقة الثانية.. إذ الزوجة في تلك الحال صالحة لأن يراجعها زوجها، وأن يعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، وقد تستجيب الزوجة لهذا وفى ظنها أن رجلها قد عاودته الرغبة فيها وفى السّكن إليها، وقد يكون الرجل على نية غير هذا، إذ يعيدها إليه للمضارّة بها، وليخضعها لضروب من الضرّ والأذى.. وهذا مما لا يعلمه إلا الرجل وحده.. فجاء قول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ خطابا موجها إلى ضمائر الرجال، وما انطوت عليه، وما بيتته من خير أو شر في إمساك زوجاتهن، فالله سبحانه وتعالى مطلع على السرائر، لا تخفى عليه خافية، فمن بيّت الشرّ، ورمى بالضرّ والأذى، فقد ظلم نفسه، ووضعها موضع الحساب والعقاب: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ لأنه عبث بآيات الله، واتخذ الرخصة التي جعلها الله له في مراجعة زوجه والتي من شأنها أن تصلح ما أفسد ـ اتخذها وسيلة لمزيد من الإفساد.
3. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ ونعمة الله هنا هي المرأة التي جعلها الله سكنا لزوجها، ومن تمام هذه النعمة أن أتاح الله المزوج فرصة مراجعتها وإمساكها بعد أن قطع حبل الزوجية مرة ومرة، فإذا أعادها إليه فليذكر أنها نعمة في يده، فلا يطلقها من يده مرة أخرى!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/274.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ عطف على جملة: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ [البقرة: 230] الآية عطف حكم على حكم، وتشريع على تشريع، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه.
2. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ مؤذن بأن المراد: وإذا طلقتم النساء طلاقا فيه أجل، والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه، أعني أجل الانتظار وهو العدة، وهو التربص في الآية السابقة، وبلوغ الأجل: الوصول إليه، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته، توسعا أي مجازا بالأول، وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من (مغني اللبيب) أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور:
أ. أحدها، وهو الكثير المتعارف عن حصول الفعل وهو الأصل.
ب. الثاني: عن مشارفته نحو ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ [البقرة: 240] أي يقاربون الوفاة، لأنه حين الوصية.
ج. الثالث: إرادته نحو ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة: 6].
د. الرابع: القدرة عليه نحو ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104] أي قادرين.
3. الأجل في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين، ومنه قولهم: ضرب له أجلا ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ﴾ [القصص: 28]، والمراد بالأجل هنا آخر المدة، لأن قوله تعالى: ﴿فَبَلَغْنَ﴾ مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه، وأسند (بلغن) إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل، ليخرجن من حبس العدة، وإن كان الأجل للرجال والنساء معا، للأوّلين توسعة للمراجعة، وللأخيرات تحديدا للحل للتزوج، وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة.
4. القول في الإمساك والتسريح مضى قريبا، وفي هذا الوجه تكرير الحكم المفاد بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] فأجيب عن هذا بما قاله الفخر: إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة، تذكيرا بالإمساك وتحريضا على تحصيله، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره، وذكر التسريح هنا مع الإمساك، ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الإمساك وذلك بتقديمه في الذكر؛ إذ لو يذكر الأمران لما تأتى التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة التي اقتضى الحال الاعتراض فيها.
5. ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ قيد التسريح هنا بالمعروف، وقيد في قوله السالف ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح، فلما تقدم ذكره لم يحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك، أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبني عليه النهي عن المضارة، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان، فطلب منه الحق، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه، سواء في الإمساك أو في التسريح، ومضارة كل بما يناسبه، وقال ابن عرفة: (تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية الأخرى بتسريحهن مقارنا للإحسان، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أن الأمر للندب لا للوجوب).
6. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ تصريح بمفهوم ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ إذ الضرار ضد المعروف، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف، مع ما فيه من التأكيد، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر: نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة، وفيها نزاع في علم الأصول، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة، على أن هذا العطف إن قلنا: إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار، فيصير الضرار مساويا لنقيض المعروف، فلنا أن نجعل نكتة العطف حينئذ لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف: بطريقي إثبات ونفي، كأنه قيل: (ولا تمسكوهن إلّا بالمعروف)، كما في قول السموأل:
تسيل على حد الظّبات نفوسنا...وليست على غير الظّبات تسيل
7. الضرار مصدر ضارّ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين، مثل خاصم، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل: عافاك الله، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر، تشنيعا على من يقصده بأنه مفحش فيه، ونصب ﴿ضِرَارًا﴾ على الحال أو المفعولية لأجله.
8. ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ جرّ باللام ولم يعطف بالفاء؛ لأن الجر باللام هو أصل التعليل، وحذف مفعول (تعتدوا) ليشمل الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله تعالى، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة، والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين، فنزل منزلة العلة مجازا في الحصول، تشنيعا على المخالفين، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه.
9. ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ جعل ظلمهم نساءهم ظلما لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات، وظلم نفسه أيضا بتعريضها لعقاب الله في الآخرة.
10. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ عطف هذا النهي على النهي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة، لقصد المضارة، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة، مريدا رحمة الناس، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزؤا.
11. آيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] إلى قوله ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 230].
الهزء بضمتين مصدر هزأ به إذا سخر ولعب، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي لا تتخذوها مستهزأ به، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف وعدم الرعاية، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب، وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه، ومن هذا التوصل المنهي عنه، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر، بمقتضى حكم الشرع، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية.
12. المخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصا على بقاء المودة والرحمة، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية، وتفاقم الشر والعداوة، وفي (الموطأ) أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس (بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزؤا) يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية، فجعله سبب نكاية وتغليظ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة.
13. ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ فذكرهم بما أنعم عليهم بعد الجاهلية بالإسلام، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103] فكما أنعم عليكم بالانسلاخ عن تلك الضلالة، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام.
14. ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ معطوف على (نعمة)، وجملة ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ حال ويجوز جعله مبتدأ؛ وجملة ﴿يَعِظُكُمُ﴾ خبرا، والكتاب: القرآن، والحكمة: العلم المستفاد من الشريعة، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين، وأسرار الشريعة، كما قال تعالى، بعد أن بين حكم الخمر والميسر ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [البقرة: 219، 220] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن كما ذكرنا، ومن الإيماء إلى العلل، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها، والموعظة والوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ.
15. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلا لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة، منزلة من يجهل أن الله عليم، فإن العليم لا يخفى عليه شيء، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء، لأن هذا العليم قدير.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/402.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى نظام الطلاق في الإسلام، فذكر عدده، وأن الرجل أولى بزوجه، له ردها من غير عقد ما دامت في العدة، إذا كان ذلك بعد الطلقة الأولى أو الثانية؛ ثم بين متى يسوغ أن تفتدى المرأة نفسها بمال تقدمه، وبين التحريم الذي يعقب الطلقة الثالثة، ومتى ينته ذلك التحريم؛ وفى الجملة بين نظام الطلاق الذى يجعله في دائرة المعقول، وعند الحاجة إليه؛ وبين معه طريق تفادى نتائجه من الفصم، متى كانت ثمة ندحة، أو متى كان هناك أمل في استئناف حياة زوجية سعيدة، يعالج فيها كل واحد من الزوجين نفسه، ويجعلها ملائمة لنفس صاحبه، ويصلح من حاله وحال من معه، متى كان ذلك في دائرة الإمكان.
2. بعد بيان ذلك النظام المحكم الوثيق الأركان، أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يجب على الرجال إذا كانت الفرقة، وقد انشعبت القلوب، ولم يكن سبيل للالتئام، أو كان ثمة سبيل موصل إليه؛ أي أن الآيات السابقة في بيان نظام الطلاق، وهاتين الآيتين في بيان ما ينبغي اتباعه في معالجة نتائجه، ليكون العدل والحق، ولا يكون الجور والباطل، أو الشطط والتهور، وقد قال سبحانه عزّ من قائل: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾
3. الأجل هنا: العدة؛ ويصح أن يطلق على آخرها؛ فإن كلمة أجل تطلق على المدة كلها، كما تطلق على الزمن الذي تنته إليه؛ فيقال: أجل الدين هو شهران، ويقال: أجل الدين هو نهاية شهر كذا؛ وكلا التفسيرين يصح أن يكون مرادا هنا، والأقرب أن يراد به انتهاء المدة.
4. بلوغ الأجل المراد به هنا قرب انتهاء العدة، ومشارفة ذلك الانتهاء؛ وذلك لأن الإمساك بالمعروف؛ وهو المراجعة لا يمكن أن يتحقق إلا إذا فسرنا بلوغ الأجل بقرب انتهائه؛ إذ لا معنى للإمساك بمعروف بعد انتهاء الأجل؛ فإن المراجعة لا تكون بعد انقضاء العدة، ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى البلوغ ما نصه: (البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أو زمانا، أو أمرا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه؛ فمن الانتهاء ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف] وقوله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وأما قوله عزّ وجل: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق] فللمشارفة؛ فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها له)، وإن استعمال البلوغ بمعنى مشارفة الانتهاء مثاله في المكان أن تقول: بلغت المدينة، إذا وصلت إليها، وصرت على مقربة منها بحيث صرت تشرف عليها، وتبدو لك مطالعها.
5. معنى الجملة السامية: إذا شارفت العدة الانتهاء، وقاربت العلاقة على الانقطاع التام وجب على الرجل أن يتدبر في أمره، فينظر في ماضيه معها وحاضره، وما يرجوه في المستقبل ويترقبه:
أ. فإن رجح لديه أن البقاء أولى من القطع، وأن ما كان سببا لكلمة الطلاق لا يصلح أن يكون سببا لقطع العلاقة قطعا باتا، وأن يتفرقا، وأنه إن أعاد الحياة أقام العدل معها، ولم يكن فيها ما يدفعه إلى الظلم، ولا في طباعه ما يدفع إلى الأذى؛ إن كان ذلك كذلك فليمسكها بمعروف، أي فليرجعها إليه معتزما إمساكها والبقاء معها بالمعروف، أي بالتزام الأمر المعقول الذي تعرفه العقول وتقره، ويرضاه الناس، ويزكيه الحق سبحانه وتعالى.
ب. وإن رجح لديه بعد أن ينظر في غابر أمره وحاضره أنه لا يرجو في المستقبل خيرا، وتأكد لديه ذلك، أو كان قريبا منه، أو غلب الظن بذلك، فليسرحها بمعروف أي فليمض الطلاق، ويخل بينه وبينها بمعروف، أي بالأخلاق الحسنة من غير مشاحة ولا معاندة ولا إيذاء، فإن ذلك هو الذي يعرفه العقلاء، ويؤمن به الأتقياء؛ ولقد كان الصالحون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ومن جاء بعدهم لا يذكرون نساءهم اللائي يطلقونهن بسوء قط، سئل بعض التابعين: لم طلقت زوجك؟ فقال: إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله.
6. التسريح بالمعروف يتقاضى أن يؤدى لها كل حقوقها من مال كان عليه، وألا يذكرها إلا بخير، وأن يعاونها إن كانت في حاجة إلى معونته؛ حتى لقد قرر الفقهاء أنه تستحب المتعة لكل مطلقة؛ وقد ادعى بعض الفقهاء وجوبها، عملا بقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة]، وفى الجملة إن التسريح بالمعروف يتقاضى الامتناع عن كل أذى، ومدّ يد المعونة إن تعينت إليه؛ وهذا هو التسريح الجميل المذكور في قوله تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب].
7. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وإذا كان الإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان هو المطلوب، فإن الإمساك الذي يترتب عليه الضرر لا يسوغ.
8. سؤال وإشكال: إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان، وإن ذلك يفهم منه ضمنا النهى عن الإمساك ضرارا وإيذاء؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى قد خير المؤمن بين أمرين لا ثالث لهما، فكان ذلك نهيا عن الثالث والرابع، وهو الإمساك ضرارا، والتسريح مع الإيذاء، والجواب: عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإمساك ضرارا بالنهى بعد أن فهم النهى عنه وعن غيره ضمنا، ليبين للمؤمن أنه لا يحل له أن يراجع إلا إذا كان قد اعتزم العدل وأراده، ولم يجد معوقا له عن إقامته، بل وجد أنه يستطيع أن يتعاون مع أهله عليه، وأن التنفير من الطلاق والنهى عن القطيعة لا يسوغان له أن يرضى بإعادة العشرة مع توقع الضرار والأذى، واستمرار الحياة المعتكرة بالشر والحدة والأذى، فإنه إذا كانت القطيعة والفراق أمرين غير مرغوب فيهما، ويتنافيان مع المودة التي يدعو إليها الإسلام؛ فإن الضرار بين الزوجين أمر منهى عنه، وإن المودة هي المطلوبة، فإن تعذر قيامها، أو غلب على الظن عدم قيامها، فلا يسوغ استئناف الحياة الزوجية مع النفرة المستحكمة، والأذى والنشوز؛ فإن ذلك هو الكفر في الإسلام؛ لأنه كفر في العشرة، وعداوة في موطن المودة، ومكايدة في موضع المسالمة.
9. فهم بعض العلماء أن المراد من الضرار هو الإضرار، فإن ذلك هو الذي يصلح سببا من جانب الذي يملك الرجعة وحده وهو الزوج؛ أما الزوجة فإنها لا تملك الرجعة فلا يتصور ضرر من جانبها يكون مقصودا عند الرجعة، والضرار يوجب عملا مشتركا من الجانبين، والاشتراك غير متصور؛ فالضرار يكون بمعنى الضرر؛ وإن ذلك الفهم صحيح في جملته؛ ولكن لم عبر عن الضرر بالضرار، وعدل عن اللفظ الأصلي الموضوع له إلى لفظ آخر؟ والجواب عن ذلك هو أن الرجل عند الإمساك الذي يؤدى إلى الضرار ـ وهو مبادلة الضرر التي تنشأ عن المعاندة والمكايدة ـ له حالان:
أ. إحداهما: أن يقصد إلى الضرر والأذى بالرجعة، بأن يمسكها مكايدة وعناتا ومبالغة في الظلم لتكون كالمعلقة؛ وذلك كما كان يقع من بعض الناس في عصر التنزيل، إذ يرجعون أزواجهم قبل انتهاء العدة، ثم يطلقونهن لتطول العدة، وليبالغوا في الأذى، وذلك أمر منهى عنه، لا حاجة إلى النص عليه، ومعنى الضرار فيه خفى؛ لأن الضرر فيه واقع على جانب واحد، ومن جانب واحد، أو هو على الأقل واضح في أحد الجانبين، وليس واضحا في الآخر.
ب. ثانيهما: هو أن يكون المطلق قاصدا الرجعة الحق، ولكنه لم يعتزم العدل، ولم يتوقعه، ولم ير أن أسباب الطلاق قد زالت، بل أراد العودة مع قيام أسباب النفرة؛ فإن ذلك يكون كقاصد الضرار، وإن لم يعلنه وإن لم يشعر؛ لأنه سيكون بينهما لا محالة وسيقع؛ ويكون حينئذ الضرار على أصل معناه، ويكون مقصودا من فاعل الرجعة، أو في حكم المقصود.
10. بين سبحانه وتعالى أنه سيترتب على الرجعة مع قيام الأسباب التي أوجبت الطلاق والتي اعتبرت ضرارا ـ أمران:
أ. أحدهما: أن يعتدى في الحياة الزوجية فيظلم، بل إن إقدامه مع توقع الكيد والأذى اعتداء؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ فاللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، فهي تبين أن ثمرة الرجعة التي لا يتوقع فيها العدل هو الاعتداء، بل إن ذات الرجعة في هذه الحال من الاعتداء والظلم.
ب. الثاني: الذي يترتب على الرجعة ضرارا، هو أنه يظلم نفسه، فكما أنه يترتب على ذلك الضرار اعتداء على غيره يكون فعله ظلما لنفسه؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي أن من يرجع مطلقته إضرارا أو ضرارا فقد ظلم نفسه ظلما مؤكدا، وإذا كان قد أراد ظلمها فمن المؤكد أنه قد ناله حظ عظيم من الظلم قبل أن ينالها؛ وذلك لأنه عصى ربه فاستحق عذابه، ولأنه جعل البيت الذي هو مثابة الراحة والقرار مكان نكد واضطراب يستبدل فيه بالمودة البغضاء؛ ولأنه لا يعيد إلى حظيرة الزوجية زوجا ودودا، بل عدوا شديدا، وأشد الأعداء من كان منك قريبا، وقد يكون كالثعبان بين جنبيك؛ وأي ظلم للنفس فوق هذا الظلم.
11. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن أن تتخذ الرجعة ضرارا، أو يقدم الرجل عليها وهو يعلم أو يظن أنه لن يكون إمساك بمعروف؛ أعقب ذلك بنهى آخر هو توكيد للنهى الأول، فقال: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رسم في آياته حدودا ونظما تتقرر بها الحياة الزوجية، فشرع الرجعة لتدارك ما فاته وقت الغضب، ولرجاء أن يستقيم الأمر، وتقام الحياة الزوجية بالمعروف، بعد أن تهددتها القطيعة، وقاربت على الانفصال؛ فمن اتخذ الرجعة للضرار، أو وهو غير مستيقن صلاح الحال أو يرجو ذلك، فهو كمن يستهزئ بأحكام الله، وآياته سبحانه؛ لأنه ينفذ الأوامر في غير موضعها، ويكذب على نفسه وعلى دينه وعلى ربه، فهو يعمل عمل من يريد الصلاح ولا يريده، وعمل من يقيم الحياة الزوجية الصحيحة ولا يقيمها، ثم هو في أعماله يشبه اللاعب الهازئ، بل إنه لاعب هازئ في موضع الجد، يطلق لأتفه الأسباب، ويرجعها من غير أن ينوى الصلاح والعشرة بالمعروف، فيطلق ثانيا عابثا، ثم يرجعها عابثا، ثم يطلق، فيكون التحريم بسبب العبث والمجون.
12. يصح أن يراد بالآيات الآيات التكوينية، لا الآيات القرآنية الحكمية المتلوة؛ وذلك لأن من آيات الله في الكون أن جعل الزوج سكنا تربطها به المودة، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم] فمن طلق عابثا وراجع عابثا، وجعل الحياة الزوجية اضطرابا وضرارا وعداوة بدل المودة، فقد استهزأ بآيات الله الكونية، فحرم نفسه من نعمتها؛ ولذا قال سبحانه بعد هذا النهى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يتذكروا دائما نعمة الله تعالى عليهم، وأن يتذكروا ما في الكتاب وما جاءت به السنة من أحكام وعظات.
13. النعمة التي يجب تذكرها هي نعمة الزوجية خاصة، ونعمه سبحانه وتعالى عامة، ونعمة الزوجية تتجلى في أن يكون للشخص أليف في الحياة يقطع معه بيداءها، ويتحمل معه لأواءها؛ ويكون بيت الزوجية فيها كواحة في وسط صحراء الحياة، وروضة يأوي إليها بعد المشاق وبعد الكد واللغوب، فمن عبث بهذه النعمة فقد ظلم نفسه، ونسى أنعم الله سبحانه وتعالى عليه، ثم حق عليه أن يتذكرها؛ ومن كمال نعم الله أن ذكره بها في مقام نسيانه لها.
14. التذكير الثاني هو بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؛ والكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة هي السنة النبوية كما فسرها الشافعي، وهو تفسير حكيم نقبله؛ لأن العطف يقتضى المغايرة، فلا بد أن تكون الحكمة غير الكتاب؛ ولا شيء نزل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بعد الكتاب غير ما اشتملت عليه السنة من أحكام؛ فما كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ينطق عن الهوى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم] والحكمة معناها العلم النافع الذي يتجه إلى ناحية العمل الذي به تنضبط النفس، وذلك يتلاقى مع السنة النبوية، فكانت جديرة بهذه التسمية؛ لأنها تفصل الأحكام العملية الجزئية، وترشد إلى تنفيذ ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قواعد كلية، ونظم جامعة.
15. التذكير بالكتاب والسنة هو تذكير بأمرين يجب أن يكونا في ذاكرة كل مؤمن، فهو تذكير زاجر؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿يَعِظُكُمُ﴾ فالوعظ تذكير فيه زجر وتخويف؛ ولذلك قال الخليل بن أحمد في تعريف الوعظ: (هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب)
16. الضمير فى ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ يعود على المذكور من الكتاب والسنة، وجعل الضمير واحدا؛ لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد؛ وإن السنة ليست إلا تابعة للكتاب، منه أخذت قوتها وسلطانها، إذ قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر].
17. قال تعالى في ختام الآية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بعد أن بيّن سبحانه العواقب الوخيمة لمن يعبث بالحياة الزوجية، ويجعلها مضارة وعداوة، لا مودة فيها ولا خير، وذكّر بنعمة الله عليه في أحكامه وشرعية الزواج، وبيّن مغبة العبث بالأحكام؛ بعد هذا كله حذّر وأنذر، فأمر بتقوى الله سبحانه وتعالى بأن يجعل بينه وبين غضب الله سبحانه وتعالى وعذابه وقاية، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ وإن تربية معانى التقوي في النفس تجعلها تدرك الخير والشر، وتمنعها من أن يتأشب إدراكها نوازع من الهوى والعبث؛ لأن التقوي تربى المهابة من الله والخوف منه، وتجعلها تذكّر عقابه.
18. ثم وصل سبحانه بالتهديد إلى أقصى الغاية ببيان علمه الكامل بكل شيء فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فإنه سبحانه يعلم ما تخفى الصدور، وما تطويه النيات، وما تكنه السرائر؛ ثم إن التذكير بعلم الله فوق أنه إنذار أيّ إنذار، فيه بيان أن المصلحة فيما يشرع من أحكام، وما يبين من نظم؛ لأنه على قدر العلم يكون الإحكام، وعلى قدر الإحاطة يكون الإتقان؛ فهذا التنزيل فيه حث على الطاعة، كما أن فيه إنذارا بالمخالفة؛ والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/793.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا الخطاب موجه للمؤمنين أو للناس أجمعين، فكأنه قال عز من قائل: يا أيها المؤمنون إذا طلق أحدكم امرأته الخ.. فبعد أن بيّن سبحانه ان على المطلقة أن تعتد، وان للمطلق إرجاعها الى عصمته مع توافر الشروط، وانها تحرم عليه بعد الطلقة الثالثة، حتى ينكحها زوج غيره، وانه لا يحل له أن يأخذ شيئا منها عوضا عن الطلاق إلا إذا كرهته، وافتدت نفسها منه ـ بعد هذا كله بيّن سبحانه ما يجب علينا أن نعامل به المطلقة المعتدة من العدل والانصاف، ويتحقق العدل في أن يعزم المطلق أحد أمرين ـ متى أشرفت العدة على الانقضاء ـ إما إرجاع المطلقة الى عصمته بقصد الإصلاح وحسن المعشر، وهذا هو الإمساك بمعروف، واما تركها وعدم التعرض لها بسوء، مع تأديتها كل ما تستحقه عليه، وهذا هو التسريح بمعروف.
2. بهذا يتبين معنا ان المراد من الآية السابقة، وهي ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ هو غير المراد من هذه الآية، وهي ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، إذ المراد بتلك بيان ان الطلاق الذي يصح الرجوع بعده هو الطلاق الأول والثاني دون الثالث، أما المراد من هذه الآية التي نحن بصددها فهو بيان ما يجب علينا في معاملة المطلقات، كما تبين ان المراد بـ ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ المشارفة على بلوغ الأجل، لا البلوغ حقيقة.
3. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، أي لا تراجعوهن بقصد إيذائهن، والاعتداء عليهن، وراجعوهن بقصد تأدية الحقوق الزوجية، والتعاون على ما فيه مصلحة الجميع.
4. سؤال وإشكال: ان معنى الضرار المضارة التي تشعر بالمشاركة بين الطرفين، كالمضاربة والمشاتمة، والمفروض ان القصد هو إضرار الرجل بالمرأة فقط دون العكس؟، والجواب: ان إضراره بها يستلزم ضرره أيضا لغضب الله عليه، وذم الناس له، وتعمدها هي أن تقتص منه، وتقابله بالمثل، وعندها تتحول الحياة الزوجية الى جحيم عليها وعليه، وربما اتسع الخرق، وتجاوز الشقاق والخلاف الى الأقارب والأرحام، ووقع ما لا تحمد عقباه.. وبهذا نجد تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ لا نفسها فحسب.
5. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾، هذا وعيد وتهديد لمن يتعدى حدود الله في الحقوق الزوجية، ووجه الهزء بآياته جلت كلمته ان كل من يدعي الايمان بالله، والتدين بشريعته، ثم يتهاون بأحكامه وحلاله وحرامه فقد استخف واستهزأ بها من حيث يريد أو لا يريد، تماما كمن يعد إنسانا بشيء، وهو يضمر عدم الصدق والوفاء.. قال بعض السلف: المستغفر من الذنب، وهو مصر عليه كالمستهزئ بخالقه.. أعوذ بالله، واستعين به على طاعته.
6. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، من هذه النعم انه سبحانه خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن اليها، ونتعاون معها على ما فيه سعادة الأسرة وهناؤها، فإذا كنا نؤمن بالله، ونأتمر بأمره حقا فعلينا أن نعمل على تحقيق هذه الغاية، ونبتعد عن كل ما يستدعي شقاء الأسرة، ويعكر صفو الحياة الزوجية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/351.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لِتَعْتَدُوا﴾، المراد ببلوغ الأجل الإشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على أن المراد به ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، إذ لا معنى للإمساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.
2. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الإمساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والإمساك خاصة رجوع إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة، فمن يفعل ذلك أي أمسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الإنسانية.
3. على أنه اتخذ آيات الله هزوا يستهزئ بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم من الأحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على أجرام الأفعال أخذا وإعطاء وإمساكا وتسريحا وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتم بها سعادة الحياة الإنسانية، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، وتطهر بها الأرواح، وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الأحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.
4. المراد بالنعمة في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، وقوله: ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾، كالمفسر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها.
5. يمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهية، التكوينية وغيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الأحكام وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شيء عليم، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولا تجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/237.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ أعيد الكلام ليبني عليه الزجر عن الضرار ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ أو أن الأجل آخر العدة، فللزوج الرجعة ولو لم يراجع في أولها، وهذا مناسب لترتيب النهي عن الضرار عليه بأن يدعها حتى تقارب انتهاء العدة ثم يراجعها ليطلقها مرة ثانية وتعتد عدة أخرى، وللضرار صور غير هذه.
2. ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ أي لأن تتجاوزوا حدود الله في الزواج بأن تمسكوهن لغير العمل بحقوق الزواج بل للضرار.
3. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ كما ظلم المرأة، ويوم المظلوم على الظالم شر من يوم الظالم على المظلوم، وكيف لا يكون قد ظلم نفسه وقد صار من أهل النار بظلمه للمرأة.
4. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ بأن تسخروا منها استكباراً وعتواً كما هو شأن كل جبار عنيد، وفيه تحذير لكل من يؤمن بآيات الله بلسانه دون قلبه ويخالفها في سلوكه؛ لأن ذلك الإيمان ليس جداً لعدم الإيمان بقلبه وإنما هو إيهام وتغرير وتدليس، فإمّا أن هذا معنى الهزؤ، وإن لم يتعمد السخرية، وإما أنه مظنة الهزء والسخرية إذا أصابته فتنة بسبب عصيانه فغضب ووقعت منه السخرية، كقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ [النور:63] وقد مر تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أن المعاصي تجر إلى ما هو أكبر منها.
5. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ فليس من شأن المنعَم عليه أن يكفر المنعِم؛ بل إساءته إلى المنعِم أقبح بقدر النعمة، فكيف يكون من غمَرته نعم الله واستمرت له منذ خلق ثم جاءته النعمة العظمى نعمة الهدى إلى الإسلام ومعرفة طريق السعادة والسلامة من النار ولعل هذه النعمة هي المراد هنا أي نعمته بالرسول والقرآن والهداية إلى الإسلام.
6. ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ عن المعاصي، فاذكروا ما في الكتاب والسنة من الزواجر، والحكم النافعة، والبيان الكافي لطريق السعادة، والترغيب العظيم في الجنة، والتحذير من الشيطان، والتحذير من الاغترار بالدنيا وغير ذلك، فلا تغفلوا عن ذلك وتعصوا ربكم بظلم النساء وإمساكهن ضراراً.
7. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فأخذه شديد وبطشه شديد، وما لكم ﴿مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ [الطارق:10] لدفع عذابه ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لتراقبوه وتتقوه لأنه لا يخفى عليه شيء، وفيها دلالة على وجوب العلم ولا يكفي الظن، والعلم يحصل بالنظر في إتقان مصنوعاته، وما جعل بينها من المناسبة كخلق الإنسان وحواسه، وخلق الطعام المناسب له للذته وتغذيته مع تنويع الأطعمة من الحبوب والفواكه والبقول وغيرها وكلها مناسبة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/345.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية نداء للأزواج الذين يستغلون الحق في الرجوع في العدة، كوسيلة من وسائل الإضرار بالزوجة.. فهو لا يريد أن يرجع إليها ليساكنها ويعاشرها بالمعروف، كما يعيش الزوج مع زوجته بالطريقة الإنسانية السمحة، بل يحاول أن يضارّها ليجعلها في ما يشبه السجن من الحياة الزوجية المضغوطة بضغوط العدوان والحقد، وليمنعها من أن تجد لنفسها السبيل في حياة جديدة، في تجربة أخرى مع زوج آخر.. وهكذا يتصرف لينفّس عما يحمله في داخله من عوامل الحقد، إن الله يخاطب من يفعل ذلك، بأنه ممن ظلم نفسه بمعصيته ربه، لأن في ذلك إثما وانحرافا عن خط الله، واستهزاء بآيات الله من ناحية عملية، وإن لم يكن كذلك من ناحية شكلية، فإنه لا فرق بين من لا يحترم آيات الله بالكلمة، وبين من لا يحترمها بالعمل.
2. ثم يذكرهم الله بنعمته عليهم في ما أولاهم إياه من ضروب النعم، ويثير أمامهم التفكير الواعي في ما أنزله الله عليهم ـ بواسطة أنبيائه ـ من الكتاب الذي يهدي الإنسان السبيل إلى النور ويبعده عن الظلمة، ومن الحكمة التي تخلق للإنسان الرؤية الواضحة والفهم المستقيم والوقوف عند العلامات الثابتة للأشياء.. ففي ذلك كله الموعظة، كل الموعظة، التي تدعو إلى التقوي، وتدفع إلى النجاة، وتبعث على الشعور العميق بالرقابة الشاملة الواعية من قبل الله الذي لا بد للعباد من أن يعلموا بأنه عليم بكل شيء، فهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
3. قد يكون في هذا التأكيد في ترديد الكلمات التي تعبر عن ضرورة الالتزام من الوجه الإيجابي والسلبي، والدعوة إلى التجاوب مع موعظة الله للإنسان في ذلك كله، والدعوة إلى التقوى واستشعار أثر النعمة في نفسه وفي ما أنزله الله عليه.. قد يكون في هذا التأكيد إشارة إلى أن مثل هذه الأمور التي تدخل في النوازع النفسية المعقّدة التي تلتقي بالقيم المنحطّة للإنسان، قد تحتاج إلى جهد كبير في أساليب المعالجة والإصلاح لقوة تأثيرها على النفس الإنسانية بالمستوى الكبير.
4. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: وصلن إلى نهايته، فلم يبق منه إلا القليل الذي انتهى، وخرجت المرأة من العدة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وذلك بالرجوع إليهن من أجل العودة إلى الرابطة الزوجية، بعد هذه الفقرة التي كانت فترة تأمل ودرس للإيجابيات والسلبيات واكتشاف الخطأ في الطلاق، لتكون العودة منطلقة من القناعة في ضرورة الدخول في تجربة جديدة مع الزوجة، فيعاشرها بالمعروف الذي يعبر عن الأخلاق الحسنة، والرعاية الطيبة، والعاطفة الحميمة، والرحمة الكريمة، والمودة الروحية.
5. ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وأطلقوا لها حريتها، التي تتحرك من خلالها في حياتها بعيدا عن قيود الزواج ومسئولياته، ولتعود كما كانت قبل الزواج إنسانة حرة في نفسها أو أمام الآخرين، وليكن ذلك بالأسلوب الإنساني الذي يمثل الإحسان في المعاملة، الذي يجعل للطلاق ذكرى طيبة، كما يحدث ذلك في مشروع الزواج.
6. ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾، أي قصد الإضرار بهن من أجل ابتزازهن ماليا أو الضغط عليهن عاطفيا، لمنعهن من الارتباط بعد الطلاق بشخص آخر، أو لتحويل الزواج إلى سجن دائم، أو غير ذلك مما ينطلق من موقع العقدة الذاتية العدوانية.. ﴿لِتَعْتَدُوا﴾ لأن ذلك يمثل الاعتداء على حرية المرأة وكرامتها وإنسانيتها.. وهذا مما لا يرضاه الله للإنسان، فلم يسلّط الإنسان على الإنسان إلّا بالحقّ.
7. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، لأنه يدفع بها إلى الكثير من التعقيدات التي قد تعقد له حياته، فإن الكثير من الحالات التي يوجه فيها الإنسان الضرر للآخرين، قد تنقلب لتؤدي إلى الإضرار به، على طريقة (من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه)، ولأنه يعرضها لغضب الله.
8. ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ في الابتعاد عن روحها ومضمونها الإنساني، وحركتها في تحقيق السّلام للحياة الزوجية، لتحولوها إلى وسائل للإضرار بالآخرين، باستغلال الأشكال القانونية التي تمنحهم الشرعية لما يريدون الوصول إليه، كما لو كان الوضع طبيعيا جدّيا، لا مجال فيه لأية مسئولية سلبية ضدهم، تماما كما لو كانوا في مقام الاستهزاء، وذلك بالإيحاء بأنهم منسجمون مع شريعة الله، في الوقت الذي يسقطون كل مضمونها الروحي وبعدها الإنساني.
9. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ الذي يمثل الإسلام في الخط الفطري والبعد التطبيقي، فيؤدي بالإنسان إلى الارتفاع إلى المستوى الأعلى في روحيته، وإنسانيته، وفي سعادته في توفير الاستقرار في حياته الفردية والاجتماعية في داخل الحياة الزوجية أو الحياة العامة، وتحقيق الخير والرفاه والسّلام له.. ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ في الالتزام بأوامره ونواهيه ووصاياه ونصائحه ومناهجه في كل قضاياكم العامة أو الخاصة.
10. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فهو العالم بالغيب، المطّلع على السرائر، الذي يعرف ما تخفي الصدور، مما قد يفكر فيه الإنسان بالطريقة التي يختلف فيه الباطن عن الظاهر، فيكون ظاهره الأخذ بأسباب الشريعة وباطنه الإضرار بالمرأة ـ الزوجة، فليكن لكم الحس الإيماني، الذي تلتفتون فيه إلى حضور الله معكم ورقابته عليكم، لتتوازنوا في خطواتكم في الدنيا، ولتربحوا جنة الله في الآخرة.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/316.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تستمرّ هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها، تقول الآية: ما دامت العدّة لم تنته، وحتّى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
2. لكن كلّ رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف وأن لا يخالطه شيء من روح الانتقام، ثمّ تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، وهذه الجملة في الحقيقة تفسير لكلمة (معروف) أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفا والوئام، وذلك لأن الجاهليّين كانوا يتّخذون من الطّلاق والرجوع وسيلة للانتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة: إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والاعتداء، إذ أنّ ذلك ـ فضلا عن كونه ظلما للزوجة ـ ظلم لنفس الزوج أيضا.
3. والآن علينا أن نعرف لماذا يكون ظلم الزوج زوجته ظلما لنفسه أيضا؟
أ. أولا: إنّ الرجوع المبني على غمط الحقوق لا يمكن أن يمنح الهدوء والاستقرار.
ب. ثانيا: الرجل والمرأة ـ بالنظرة القرآنية ـ جزءان من جسد واحد في نظام الخلقة فكلّ غمط لحقوق المرأة هو ظلم وعدوان على الرجل نفسه.
ج. ثالثا: إنّ من يستسيغ ظلم الآخرين يكون غرضا لنيل العقاب الإلهي، فيكون بذلك قد ظلم نفسه.
4. ثمّ يحذّر القرآن الجميع: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ هذا التعبير يمكن:
أ. أن يكون إشارة إلى بعض التقاليد الجاهلية المترسّخة في أفكار الناس، ففي الرواية أنّ بعض الرجال في العصر الجاهلي يقولون حين الطّلاق: أنّ هدفنا من الطّلاق هو اللّعب والمزاح، وكذلك الحال عندما يعتقون عبدا أو يتزّوجون من امرأة، فنزلت الآية الكريمة لتحذّرهم بأنّ كلّ من يطلّق زوجته أو يعتق عبده أو يتزوّج من امرأة أو يزوّجها من شخص آخر، ثمّ يدّعي أنّه كان يمزح ويلعب فإنّه لا يقبل منه، ويتحقّق ما أقدم عليه في الواقع العملي بشكل جاد.
ب. ويحتمل أيضا أنّ الآية ناظرة إلى حال الأشخاص الّذين يستغلّون الأحكام الشرعيّة لتبرير مخالفاتهم ويتمسّكون بالظّواهر من أجل بعض الحيل الشرعيّة، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات الله، ومن ذلك نفس مسألة الزّواج والطّلاق والرّجوع في زمان العدّة بنيّة الانتقام وإلحاق الضرّر بالمرأة والتّظاهر بأنّه يستفيد من حقّه القانوني، فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهيّة والتمسّك فقط بالظّواهر الجامدة لها، فلا ينبغي اتّخاذ آيات الله ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يعتبر ذنب عظيم ويترتّب عليه عقوبة أليمة.
5. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا:
أ. أوّلا: أنّ الله تعالى عدّ تلك التصرّفات من خرافات وتقاليد الجاهليّة الشنيعة بالنّسبة إلى الزّواج والطّلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النّعمة العظيمة وتؤدّوا حقّها.
ب. ثانيا: بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالاستفادة من موقعيّتكم، ويجب أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع حتّى على نيّاتكم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/169.
106. الطلاق والعضل والتراضي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈106⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 232]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
معقل:
روي عن معقل بن يسار (في تفسير هذا المحلّ: 50 هـ) أنّه قال: كانت لي أخت، فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها، حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع، أكرمتك بها، وزوجتكما، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، والله، لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، قال ففي نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه، وفي لفظ: فلما سمعها معقل قال سمع لربي وطاعة، ثم دعاه، فقال: أزوجك، وأكرمك(1).
__________
(1) البخاري: ٧/١٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فلا تمنعوهن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: كان الرجل يطلق امرأته فتبين منه، وينقضي أجلها، ويريد أن يراجعها، وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾(2).
3. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٧.
(2) ابن جرير: ٤/١٩٢.
(3) ابن جرير: ٤/١٩١ ـ: ١٩٢.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ طلق رجل امرأته، فندم وندمت، فأراد أن يراجعها، فأبى وليها؛ فنزلت هذه الآية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: إذا رضيت المرأة، وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الله يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت، أيها الولي(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/١٩٣.
(2) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾: معناه لا تضيقوا عليهنّ، ولا تحبسوهنّ عن الأزواج،(1).
2. روي أنّه قال: (﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ معناه تزويج صحيح،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلم 101.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يعني: بمهر، وبينة، ونكاح مؤتنف(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يعني: بمهر جديد، ونكاح جديد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من النهي ألا يمنعها من الزوج، ﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني: يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له، ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره الله تعالى من المراجعة، ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُم﴾ يعني: خير لكم من الفرقة، ﴿وَأَطْهَرُ﴾ لقلوبكم من الريبة(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، نزلت في أبي البداح ابن عاصم بن عدي الأنصاري ـ من بني العجلان الأنصاري، وهو حي من قضاعة ـ، وفي امرأته جمل بنت يسار المزنية، بانت منه بتطليقة، فأراد مراجعتها، فمنعها أخوها، وقال: لئن فعلت لا أكلمك أبدا، أنكحتك، وأكرمتك، وآثرتك على قومي، فطلقتها، وأجحفت بها، والله، لا أزوجكها أبدا... فلما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (يا معقل، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تمنع أختك فلانا)، يعني: أبا البداح، قال فإني أنا أؤمن بالله واليوم الآخر، وأشهدك أني قد أنكحته(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
أ. قال قائلون: فيه دليل فساد النكاح دون الأولياء، واحتجوا بأن قالوا: قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ ولا ينهى عن القول من غير أن يعمل، إذ القول فيما لا يعمل غير ضار لعضلها به؛ فثبت أنه عامل، وأن له فيه حقّا إلى أن نهوا، ثبت أن قوله: (لا تعضل)، منع؛ إذ لو لم يجعل منعا لم يكن ضارّا به.
ب. وقال آخرون: فيه دليل جواز نكاحهن دون الأولياء؛ لأنه تعالى قال ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ﴾ واستدلوا:
أ. بأن النكاح على وجود العضل يجوز، ولو كان العضل سبب المنع في الجواز لم يحتمل جوازه إذا فات، وفيه أن العضل إذا لم يكن، جاز للنساء تولى النكاح.
ب. واحتجوا أيضا بما أضاف النكاح إليهن بقوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240]، وأضاف الإنكاح إلى الأولياء على إرادة إدخال الصغار، والثاني على وجوب الحق لهن عليهم، لا أن يجب لهم عليهن.
ج. ثم الأصل: بأن كل نكاح أريد بالذكر الصغار وأضيف الإنكاح إلى الأولياء؛ كقوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ [النور: 32]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221]، ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ [البقرة: 221]، مع ما احتمل دخول البالغين في هذا، دليله قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ والفدية لا تصح من الصغار، وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ والصغار لا يخاطبن بإقامة حدود الله، وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وإن كان متأخرا في الذكر، بهذا قيل إن وقوع الإنكاح بالإضافة في الصغار إلى الأولياء، وفى الكبار إليهن، ثم ذكر الكفاءة والمهر، وجرى إضافته إلى الأولياء، لذلك كان لهم التعرض في فسخه.
2. ثم قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ رجع ذلك إلى المهر؛ لأن (التراضي) فعل اثنين، والمهر يتعرف بهما؛ لأن القصة في امرأة بعينها وكانت ظهرت كفاءة زوجها لها، وقال في الكفاءة: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ﴾ [البقرة: 234]، ووجود الكفاءة إنما تكون من إحدى الجانبين، فذكر ذلك مضافا إلى الأولياء، لم يجز دونهم.
3. الأصل في مسألة النكاح: أن الحق في النكاح لها على الولي، لا للولى عليها، دليله: ما يزوج على الولي إذا عدم، ويجوز عليه إذا وجد، وزوج عليه إذا أبى، وهى لا تجبر بإرادة الولي إذا أبت؛ فبان أن الحق لها قبله، ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل آخر لم يوجب ذلك فساده.
4. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يحتمل وجوها:
أ. فيه دليل على أن النهى عن العضل إنما كان في الأزواج كانوا لهن، دليله قوله تعالى: ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ ولا يسمى (الأزواج) إلا بعد النكاح، ويدل أيضا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ذكر (الطلاق) فدل أنه كان في أزواج كان لهن.
ب. ويحتمل: أن يكون في الابتداء من غير أن كان ثم نكاح، وجائز تسمية الشيء باسم ما يؤول الأمر إليه لقرب حالهن بهم.
5. أهل التفسير بأجمعهم قالوا: إن الآية نزلت في أخت معقل بن يسار المزني، أن زوجها قد طلقها وانقضت عدتها، ثم أراد الزوج أن يتزوجها ثانية وتهوى المرأة ذلك، فيقول الولي: لا أزوجها إياه؛ فنزل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو يحتمل المعنى الذي ذكرنا.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾:
أ. قيل: ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ أي ينهاكم به، كقوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا﴾ [النور: 17]، أي ينهاكم.
ب. وقيل: ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ أي يؤمر به.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾:
أ. قيل: إذا وضعن أنفسهن حيث هوين فذلك أزكى وأطهر لكم من العضل من ذلك؛ ولعل العضل يحملهن على الفساد والريبة.
ب. وقيل: المراجعة خير لكم من الفرقة، وأطهر لقلوبكم من الريبة.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أي الله يعلم من حب كل واحد منهما صاحبه، وأنتم لا تعلمون ذلك.
ب. ويحتمل: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ فيما صلاحكم، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/175.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ والعضل المنع ومنه قيل: داء عضال إذا امتنع من أن يتداوى وكذلك: فلان عضلة أي داهية وقال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي... يذمك إن ولَّى ويرضيك مقبلاً
ولكنه النائي إذا كنت آمناً... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
فنهى الله سبحانه وتعالى أولياء المرأة عن عضلها ومنعها النكاح لمن رضيته من أكفائها.
2. وقوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي إذا تراضى الزوجان بالمهر وفي الآية بيان أنه لا يصح النكاح إلا بولي لورود الأمر إلى الأولياء بترك العضل وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار وقد زوج أخته رجلاً فطلقها ثم تراضيا بعد العدة أن يتزوجها فنزلت هذه الآية.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/113.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ بلوغ الأجل هاهنا تناهيه]، بخلاف بلوغ الأجل في الآية التي قبلها، لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها، قال الشافعي: فدخل اختلاف المعنيين على افتراق البلوغين.
2. في العضل في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه المنع، ومنه قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يداوى، وفلان عضلة أي داهية، لأنه امتنع بدهائه.
ب. الثاني: أن العضل الضيق، ومنه قولهم: قد أعضل بالجيش الفضاء، إذا ضاق بهم، وقال عمر بن الخطاب: قد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال، وقال أوس بن حجر.
وليس أخوك الدّائم العهد بالّذي...يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النّائي إذا كنت آمنا...وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
فنهى الله عزّ وجل أولياء المرأة عن عضلها ومنعها من نكاح من رضيته من الأزواج.
3. في قوله عزّ وجل: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: إذا تراضى الزوجان.
ب. الثاني: إذا رضيت المرأة بالزوج الكافي، قال الشافعي: وهذا بيّن في كتاب الله تعالى يدل على أن ليس للمرأة أن تنكح بغير وليّ.
4. اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها نزلت في معقل بن يسار زوّج أخته، ثم طلقها زوجها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها، فعضلها معقل، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد.
ب. الثاني: أنها نزلت في جابر بن عبد الله مع بنت عم له، وقد طلقها زوجها، ثم خطبها فأبى أن يزوجه بها، وهذا قول السدي.
ج. الثالث: أنها نزلت عموما في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، والزهري.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/298.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:
أ. قال قتادة، والحسن: إن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع الى الزوج الأول، فإنه طلقها، وخرجت من العدة ثم أرادا أن يجتمعا بعقد آخر على نكاح آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت فيه الآية.
ب. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عم له.
2. الوجهان لا يصحان على ـ مذهبنا(2) ـ، لأن عندنا أنه لا ولاية للأخ، ولا لابن العم عليها وإنما هي ولية نفسها، فلا تأثير لعضلها، والوجه في ذلك أن تحمل الآية على المطلقين، لأنه خطاب لهم بقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ نكاية قال: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ بأن تراجعوهن عند قرب انقضاء عدتهن، ولا رغبة لكم فيهن، وإنما تريدون الإضرار بهن، فان ذلك مما لا يسوغ في الدين، والشرع، كما قال في الأولى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾
3. لا يطعن على ذلك قوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، لأن المعنى فيه من يصيروا أزواجهن، كما أنهم لا بد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الأول، لأن بعد انقضاء العدة لا يكون زوجاً، ويكون المراد من كان أزواجهن، فما لهم إلا مثل ما عليهم، ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر، والحيلولة بينهن، وبين التزويج دون ما يتعلق بالولاية، لأن العضل هو الحبس.
4. قيل: إن العضل مأخوذ من المنع، وقيل: إنه مأخوذ من الضيق، قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي...يذمّك إن وّلى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا...وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وتقول: عضل المرأة يعضلها إذ منعها من التزويج ظلماً، وفي بعض اللغات يعضلها ـ بكسر الضاد ـ في المضارع، وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم أن يقوموا به، لأنه امتنع عليهم بشدة، وهو داء عضال، والأمر المعضل: الذي يغلب الناس، لامتناعه بصعوبته، وعضلت عليه إذا ضيقت عليه بما يحول بينه، وبين، ما يريد ظلماً، لأنك منعته بالضيق عليه مما يريد، وعضلت المرأة بولدها إذا عسرت ولادتها وكذلك أعضلت، وأعسرت، لأن الولد امتنع من الخروج عسراً، وفلان عضلة من العضل: أي داهية من الدواهي، لأنه امتنع بدهائه، وعضل الوادي بأهله: إذا ضاق بأهله: وعضلة الساق: لحمة مكتنزة، وأصل الباب المنع، وقيل أصله التضييق.
5. موضع (أن) من قوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ جر عند الخليل، والكسائي، وتقديره: من أن، ونصب عند غيرهما بالفعل.
6. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ إنما قال بلفظ التوحيد وإن كان الخطاب للجميع لأحد ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن (ذا) لما كان منها ما يستعمل الكاف معه كثيراً، صار بمنزلة شيء واحد، ولا يجوز على ذلك (أيها القوم هذا غلامك)، وقال الفراء: توهم أن الكاف من (ذا)، وأنكر ذلك الزجاج، وقال: ليس في أفصح اللغات بناء على توهم خطأ، والوجه ما قلناه من التشبيه مما جعلت الكلمتان فيه بمنزلة شيء واحد.
ب. الثاني:على تقدير: ذلك أيها القبيل.
ج. الثالث: أن يكون خطاباً للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
7. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ معناه أنه يعلم من مصالح العباد ما لا يعلمون.
8. ﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (من) في موضع رفع ب (يوعظ)، وإنما خص المؤمن بالوعظ لأحد ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لأنهم المشفقون بالوعظ، فنسب اليهم، كما قال ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ و﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾.
ب. الثاني:لأنهم أولى بالاتعاض.
ج. الثالث: إنما يلزمه الوعظ بعد قبوله الايمان واعترافه بالله تعالى.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/253.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العَضْلُ: أصله المنع ظلمًا، وقيل: أصله التضييق والشدة، ومنه يقال للأمر المشكل الذي يضيق منه المخرج: أمر معضل، وداء عضال الذي أعيا الأطباء لشدته.
ب. أزكى: أنمى وأعظم بركة، يقال: زكا المال إذا كثر، وللزكاة معنيان: أحدهما النماء والزيادة، ومنه زكا الزرع، والثاني: الطهارة، ومنه: ﴿يُزَكِّيكُمْ﴾
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:
أ. عن الحسن وقتادة وجماعة من المفسرين أن الآية نزلت في معقل بن يسار عضل أخته جميلة بنت يسار أن ترجع إلى الزوج الأول وهو عاصم بن عدي، وكانت تحب ذلك، وكان طلقها ثم خطبها، فحلف ألا يزوجها، وقرأها رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم على معقل، فزوجها منه، وكفر يمينه.
ب. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري عضل بنت عم له، ومنع من المراجعة، وكانت تحب ذلك، فنزلت الآية.
3. ثم بَيَّنَ تعالى المراجعة إلى الزوج الأول، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي انقضت عدتهن، ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أي لا تمنعوهن ظلمًا عن التزويج:
أ. قيل: المراد به التخلية.
ب. وقيل: هو خطاب للأولياء ومنع لهم عن عضلهن عن التزويج.
ج. وقيل: خطاب للأزواج يعني إذا طلقها في السر، ولا يظهر طلاقها كيلا تتزوج غيره، عليه فيبقين لا ممسكات إمساك الأزواج، ولا مخليات تخلية المطلقات، أو تطول العدة عليها.
د. وقيل: الخطاب لهما، فنهى الولي عن العضل والزوج عن ذلك، عن أبي مسلم.
4. ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يعني أن يعقد عقدًا جديدًا بينهن وبين أزواجهن الأولين، وسمي أزواجًا:
أ. قيل: يعني كانوا أزواجًا.
ب. وقيل: من رُضِيَ بهم أزواجًا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. وقيل: فيه تقديم وتأخير يعني أن ينكحن أزواجهن بالمعروف ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما وافق الشرع من عقد حلال، ومهر جائز، وشهود عدول إذا تراضوا على ذلك.
ب. وقيل: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني إذا تراضوا بشيء هو معروف موافق للشرع.
6. ﴿ذَلِكَ﴾ يعني ما ذكر من الأمر والنهي: ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ يُزْجَرُ ويخوف ويؤمر وينهى: ﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إنما خصهم بالذكر:
أ. قيل: لأنهم أهل الانتفاع به.
ب. وقيل: لأنهم أولى بالاتعاظ به.
ج. وقيل: لأن الكافر يلزمه ذلك بعد الإيمان، فأما مع الكفر فغير مخاطب به.
7. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ يعني أعظم بركة وأنفع وأحرى أن يجعلكم أزكياء: ﴿وَأَطْهَرُ﴾:
أ. قيل: يعني أطهر لقلوبكم من الريبة؛ لأنه لعل في قلبهما حبًّا، فإذا منعا من التراجع لم يؤمن أن يتجاوزا إلى ما حرم الله تعالى.
ب. وقيل: أطهر لكم من الذنوب، عن أبي علي وأبي مسلم.
ج. وقيل: أقرب إلى الحلال وأبعد من الحرام.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: من مصالحكم فيما كلفكم ما لا تعلمون أنتم عن الأصم وأبي علي، ﴿وَالله يَعْلَمُ﴾ بالمطيع والعاصي في العاقبة، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: والله يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلمون أنتم.
ج. وقيل: والله يعلم من يقبل ويجيب.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن للمرأة أن تعقد عقد النكاح؛ لأنه أضاف عقد النكاح إليها بقوله: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ وأراد به العقد، وأضاف التراضي إليها دون الولي، فيصح ما قاله أبو حنيفة: إن النكاح ينعقد بلفظ النساء، خلاف ما يقوله الشافعي، ولا يقال: هو مشترك الدلالة؛ لأنه لولا أن النكاح إلى الولي لما صح العضل، قلنا: المراد به المنع من التزويج.
ب. أن للولي حقا في العقد فعند أبي حنيفة أنه يتولى عقدها برضاها، وله الاعتراض عليها إذا وضعت نفسها في غير كفؤ، وإذا قصر في المهر، وعند أبي يوسف ومحمد: العقد إلى الأولياء، ويعتبر رضاها، ولا يقال: إن الآية تدل على أن العقد للأولياء؛ لأنا بينا أنه أراد به المنع، وإذا حملنا على أنه خطاب للزوج سقط الاعتراض، وهو أولى؛ لأنه لم يجر للأولياء ذكر كما جرى ذكر المطلق.
ج. استدل بعض الحنفية بالآية على أن الكافر غير مخاطب بالشرائع، وذلك غير صحيح لما بينا من الوجوه في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله﴾.
10. مسائل نحوية:
أ. موضع: ﴿إِنَّ﴾ من الإعراب في قوله: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ﴾ جر عند الخليل والكسائي، على تقدير: من أن ينكحن، ونصب عند غيرهما بالفعل.
ب. في سبب توحيد الكاف في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾، والخطاب للجميع ثلاثة أقوال:
• الأول: أن: ﴿ذَا﴾ لما كان مبهما يستعمل كثيرًا معه، صار بمنزلة شيء واحد، ولا يجوز على ذلك، أيها القوم، هذا غلامك.
• والثاني: على معنى أيها القبيل.
• والثالث: أنه خطاب للرسول والمراد به الجميع.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/925.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العضل: الحبس، وقيل: هو مأخوذ من المنع، وقيل: هو مأخوذ من الضيق والشدة، والأمر المعضل: الممتنع بصعوبته، وعضلت الناقة: فهي معضلة إذا احتبس ولدها في بطنها، وعضلت الدجاجة: إذا احتبس بيضها، وتقول: عضل المرأة يعضلها عضلا: إذا منعها من التزويج ظلما، وأعضل الداء الأطباء: إذا أعياهم أن يقوموا به وامتنع عليهم لشدته، وداء عضال، وفلان عضلة من العضل أي: داهية من الدواهي.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى:
أ. نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج الأول، وهو عاصم بن عدي، فإنه كان طلقها وخرجت من العدة، ثم أراد أن يجتمعا بعقد آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت الآية، عن قتادة والحسن وجماعة.
ب. وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله، عضل بنت عم له، عن السدي.
3. الوجهان لا يصحان على مذهبنا(2)، لأنه لا ولاية للأخ وابن العم عندنا، ولا تأثير لعضلهما، فالوجه في ذلك أن:
أ. تحمل الآية على المطلقين، كما في الظاهر فكأنه قال: لا تعضلوهن أي: لا تراجعوهن عند قرب انقضاء عدتهن، إضرارا بهن، لا رغبة فيهن، فإن ذلك لا يسوغ في الدين.
ب. ويجوز أن يكون العضل محمولا على الجبر، والحيلولة بينهن وبين التزويج، دون ما يتعلق بالولاية.
4. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انقضت عدتهن، ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾:
أ. قيل: أي: لا تمنعوهن ظلما عن التزوج.
ب. وقيل: المراد به التخلية.
ج. وقيل: هو خطاب للأولياء، ومنع لهم من عضلهن.
د. وقيل: خطاب للأزواج يعني أن تطلقوهن في السر، ولا تظهروا طلاقهن كيلا يتزوجن غيرهم، فيبقين لا ممسكات إمساك الأزواج، ولا مخليات تخلية الطلاق، أو تطولوا العدة عليهن.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾:
أ. قيل: أي: من رضين بهم أزواجا لهن.
ب. وقيل: الذين كانوا أزواجا لهن من قبل.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: أي: بما لا يكون مستنكرا في عادة ولا خلق ولا عقل.
ب. وقيل: إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح، عن السدي.
ج. وقيل: إذا تراضيا بالمهر، قليلا كان أو كثيرا.
7. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما سبق من الأمر والنهي: ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ يزجر، ويخوف به ﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إنما خصهم بالذكر:
أ. قيل: لأنهم الذين انتفعوا به، أو لأنهم أولى بالاتعاظ به.
ب. وقيل: لأن الكافر إنما يلزمه الوعظ بعد قبوله الإيمان، واعترافه بالله تعالى.
8. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ أي: خير لكم، وأفضل وأعظم بركة، وأحرى أن يجعلكم أزكياء: ﴿وَأَطْهَرُ﴾:
أ. قيل: أي: أطهر لقلوبكم من الريبة، فإنه لعل في قلبها حبا، فإذا منعها من التزويج لم يؤمن أن يتجاوزا إلى ما حرم الله.
ب. وقيل: أطهر لكم من الذنوب.
9. ﴿وَالله يَعْلَمُ﴾ ما لكم فيه من الصلاح في العاجل والآجل، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم.
10. ليس لأحد أن يستدل بالآية على أن العقد لا يصح إلا بولي، لأنا قد بينا أن المراد بالعضل المنع، وإذا حملنا الآية على أنها خطاب للأزواج، سقط قولهم، وهذا أولى لأنه لم يجر للأولياء ذكر، كما جرى ذكر المطلقين.
11. مسائل نحوية:
أ. موضع: ﴿إِنَّ﴾ من قوله: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ جر عند الخليل والكسائي، وتقديره من أن، ونصب عند غيرهما بوصول الفعل: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ مبتدأ وخبر.
ب. ﴿مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله﴾: في موضع رفع بيوعظ.
ج. ﴿مِنْكُمْ﴾: في موضع الحال من الضمير في: ﴿يُؤْمِنْ﴾.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/584.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوّج أخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلّقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة، وكانت أحقّ بنفسها، فخطبها مع الخطّاب، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها، فطلّقتها!؟ لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك، قال الحسن: فعلم الله، عزّ وجلّ، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى بعلها، فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعا لربّي، وطاعة، فدعا زوجها، فقال: أزوّجك، وأكرمك، ذكر عبد الغنيّ الحافظ عن الكلبيّ أنه سمّى هذه المرأة، فقال: جميلة بنت يسار.
ب. الثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاريّ كانت له ابنة عمّ، فطلّقها زوجها تطليقة، فانقضت عدّتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأبى جابر، وقال: طلقت ابنة عمّنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية!؟ وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته، فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ.
2. بلوغ الأجل في هذه الآية، هو انقضاء العدّة، بخلاف التي قبلها، قال الشّافعيّ: دلّ اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين.
3. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، خطاب للأولياء، قال ابن عباس، وابن جبير، وابن قتيبة في آخرين: معناه لا تحبسوهنّ، والعرب تقول للشدائد: معضلات، وداء عضال: قد أعيا، قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدّائم العهد بالذي...يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا...وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقالت ليلى الأخيليّة:
إذا نزل الحجّاج أرضا مريضة...تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الدّاء العضال الذي بها...غلام إذا هزّ القناة سقاها
قال الزجّاج: وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدّجاجة، فهي معضل: إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضا: إذا احتبس ولدها في بطنها.
4. ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال السّدّيّ، وابن قتيبة: معناه إذا تراضى الزوجان بالنّكاح الصحيح، قال الشّافعيّ: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوّج إلا بوليّ.
5. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾، قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع، قال الزجّاج: إنما قال ﴿ذَلِكَ﴾ ولم يقل: (ذلكم) وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، فالمعنى: ذلك أيها القبيل.
6. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾، يعني ردّ النساء إلى أزواجهنّ، أفضل من التّفرقة بينهم، ﴿وَأَطْهَرُ﴾، أي: أنقى لقلوبكم من الرّيبة لئلا يكون هناك نوع محبّة، فيجتمعان على غير وجه صلاح.
7. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه، قاله ابن عباس، والضحّاك.
ب. الثاني: يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا، قاله الزجّاج في آخرين.
__________
(1) زاد المسير: 1/206.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو الحكم السادس من أحكام الطلاق، وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة، وروي في سبب نزولها:
أ. أن معقل بن يسار زوج أخته جميل بن عبد الله بن عاصم، فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك، فقال لها معقل: إنه طلقك ثم تريدين مراجعته وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم معقل بن يسار وتلا عليه هذه الآية فقال معقل: رغم أنفي لأمر ربي، اللهم رضيت وسلمت لأمرك، وأنكح أخته زوجها
ب. روي عن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكان جابر يقول فيّ نزلت هذه الآية.
2. العضل المنع، يقال: عضل فلان ابنته، إذا منعها من التزوج، فهو يعضلها ويعضلها، بضم الضاد وبكسرها وأنشد الأخفش:
وإن قصائدي لك فاصطنعني...كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل في اللغة الضيق، يقال: عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها، وكذلك عضلت الشاة، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم، قال أوس بن حجر:
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة...معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل المريض الأطباء أي أعياهم، وسميت العضلة عضلة لأن القوى المحركة منشؤها منها، ويقال: داء عضال، للأمر إذا اشتد، ومنه قول أوس:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي...يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا...وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
3. اختلف المفسرون في أن قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطاب لمن؟
أ. فقال الأكثرون: إنه خطاب للأولياء، وحجتهم من وجوه:
• الأول: وهو عمدتهم الكبرى: أن الروايات المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها أولى بالرعاية لأن المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد وأيضا فلأن الروايات متعارضة، فروي عن معقل أنه كان يقول، إن هذه الآية لو كانت خطابا مع الأزواج لكانت إما أن تكون خطابا قبل انقضاء العدة أو مع انقضائها، والأول باطل لأن ذلك مستفاد من الآية، فلو حملنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكرارا من غير فائدة، وأيضا فقد قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فنهى عن العضل حال حصول التراضي، ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة، ولا يجوز التصريح بالخطبة إلا بعد انقضاء العدة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ [البقرة: 235].
• الثاني: أيضا باطل لأن بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة، فكيف يصرف هذا النهي إليه، ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء عدتها وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها، وحينئذ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة، أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسيء القول فيها وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها، فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام.
• الثالث: لهم قالوا قوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ معناه: ولا تمنعوهن من أن ينكحن الذين كانوا أزواجا لهن قبل ذلك، وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطابا للأولياء، لأنهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجا لهن قبل ذلك، فأما إذا جعلنا الآية خطابا للأزواج، فهذا الكلام لا يصح، ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله تعالى: ﴿يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ من يريدون أن يتزوجوهن فيكونون أزواجا والعرب قد تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، فهذا جملة الكلام في هذا الباب.
ب. وقال بعضهم إنه خطاب للأزواج، وهذا هو المختار، الذي يدل عليه أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ والجزاء قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ ولا شك أن الشرط وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ خطاب مع الأزواج، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطابا معهم أيضا، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية: إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحينئذ لا يكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلا وذلك يوجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب، فهذا كلام قوي متين في تقرير هذا القول، ثم إنه يتأكد بوجهين آخرين:
• الأول: أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج، والبتة ما جرى للأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم.
• الثاني: ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة، فإذا جعلنا هذه الآية خطابا لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة كان الكلام منتظما، والترتيب مستقيما، أما إذا جعلناه خطابا للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى.
4. تمسك الشافعي، ومن وافقه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء، قال: وإذا ثبت هذا وجب أن يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادرا على عضلها من النكاح، ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عن العضل، وحيث نهاه عن العضل كان قادرا على العضل، وإذا كان الولي قادرا على العضل وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح، وهذا الاستدلال بناء على أن هذا الخطاب مع الأولياء، وقد تقدم ما فيه من المباحث، ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أن يخليها ورأيها في ذلك، وذلك لأن الغالب في النساء الأيامى أن يركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح، وإن كان الاستئذان الشرعي لهن، وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم، وحينئذ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن، فيكون النهي محمولا على هذا الوجه، وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية، وأيضا فثبوت العضل في حق الولي ممتنع، لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر، وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر.
5. تمسك أبو حنيفة، ومن وافقه بقوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ على أن النكاح بغير ولي جائز، وقال: إنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله، والتصرف إلى مباشره، ونهى الولي عن منعها من ذلك، ولو كان ذلك التصرف فاسدا لما نهى الولي عن منعها منه، قالوا: وهذا النص متأكد بقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] وبقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 234] وتزويجها نفسها من الكفء فعل بالمعروف فوجب أن يصح، وحقيقة هذه الإضافة على المباشر دون الخطاب، وأيضا قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ [الأحزاب: 50] دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولي ألبتة، وأجاب أصحابنا(2) بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر قد يضاف أيضا إلى المتسبب، يقال: بنى الأمير دارا، وضرب دينارا، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح.
6. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ محمول في هذه الآية على انقضاء العدة، قال الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال في الآية السابقة: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ولو كانت عدتها قد انقضت لما قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ لأن إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز، ولما قال: ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج، وهذا النهي إنما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج، وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة، فهذا هو المراد من قول الشافعي، دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
7. في التراضي في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز وشهود عدول.
ب. ثانيها: أن المراد منه ما يضاد ما ذكرناه في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 231] فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه، حتى تحصل الصحبة الجميلة، وتدوم الألفة.
8. قال بعضهم: التراضي بالمعروف، هو مهر المثل، وفرعوا عليه مسألة فقهية وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصانا فاحشا، فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة، وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس للولي ذلك، حجة أبي حنيفة في هذه الآية هو قوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وأيضا أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء، لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور، ويتفاخرون بكثرتها، ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء، وأيضا فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن، فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل، فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة.
9. ثم إنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة، فكانت الآية تهديدا من هذا الوجه.
10. سؤال وإشكال: لم وحد الكاف في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ مع أنه يخاطب جماعة؟، والجواب: هذا جائز في اللغة، والتثنية أيضا جائزة، والقرآن نزل باللغتين جميعا، قال تعالى: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف: 37] وقال: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف: 32] وقال: ﴿يُوعَظُ بِهِ﴾ وقال: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: 22].
11. سؤال وإشكال: لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم؟، والجواب: لوجوه:
أ. أحدها: لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهو هدى للكل، كما قال ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ وقال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45]، ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11] مع أنه كان منذرا للكل كما قال ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1].
ب. ثانيها: احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين، قالوا: والدليل عليه أن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام، فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف، لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97].
ج. ثالثها: أن بيان الأحكام وإن كان عاما في حق المكلفين، إلا أن كون ذلك البيان وعظا مختص بالمؤمنين، لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها، فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير، ثم قال ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ يقال: زكا الزرع إذا نما فقوله تعالى: ﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم، وقوله:
12. ﴿وَأَطْهَرُ﴾ إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي التي يكون حصولها سببا لحصول العقاب، ثم قال ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير، لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات، فلما كان كذلك صح أن يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/455.
(2) يقصد الشافعية.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه، فنزلت الآية، قال مقاتل: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم معقلا فقال:) إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح فقال: آمنت بالله، وزوجها منه، وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾(2).
2. إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ للأولياء، وأن الامر إليهم في التزويج مع رضاهن، وقد قيل: إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها، واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا: لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾
3. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ بلوغ الأجل في هذا الموضع: تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة.
4. ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ معناه تحبسوهن، وحكى الخليل: دجاجة معضل: قد احتبس بيضها، وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي، وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم: إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه، وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها، وفي حديث معاوية: (معضلة ولا أبا حسن)، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج، وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس، وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي:
إذا المعضلات تصدينني... كشفت حقائقها بالنظر
ويقال: أعضل الأمر إذا اشتد، وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضلها بالضم والكسر لغتان.
5. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ﴾ ولم يقل ﴿ذَلِكُمْ﴾ لأنه محمول على معنى الجمع، ولو كان ﴿ذَلِكُمْ﴾ لجاز، مثل ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أي ما لكم فيه من الصلاح، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/158.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الخطاب في هذه الآية بقوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ وبقوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾:
أ. إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العضل منهم: أن يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ لحمية الجاهلية، كما يقع كثيرا من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رئاسة الدنيا؛ وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء؛ يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم، إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع.
ب. وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم: أنهم سبب له لكونهم المزوّجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهنّ.
2. بلوغ الأجل المذكور هنا، المراد به: المعنى الحقيقي، أي: نهايته لا كما سبق في الآية الأولى.
3. العضل: الحبس، وحكى الخليل: دجاجة معضلة: قد احتبس بيضها؛ وقيل: العضل: التضييق والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه، أي: منعتني وضيقت عليّ، وأعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وقال الأزهري: أصل العضل: من قولهم عضلت الناقة: إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها، وكل مشكل عند العرب معضل، ويقال: أعضل الأمر: إذا اشتد، وداء عضال: أي: شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وعضل فلان أيّمه: أي: منعها، يعضلها بالضم والكسر لغتان.
4. ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ﴾ أي: من أن ينكحن، فمحله الجر عند الخليل، والنصب عند سيبويه والفراء؛ وقيل: هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾
5. ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ إن أريد به المطلقون لهنّ؛ فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردن أن يتزوّجنه؛ فهو مجاز باعتبار ما سيكون.
6. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما فصل من الأحكام، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعا حملا على معنى الجمع بتأويله بالفريق ونحوه، وقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ محمول على لفظ الجمع، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتنانا.
7. ﴿أَزْكَى﴾ أي: أنمى وأنفع وأَطْهَرُ من الأدناس ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ ما لكم فيه الصلاح ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/280.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، أي: انقضت عدتهن، وقد دلّ سياق الكلامين على اختلاف البلوغين، إذ الأول دلّ على المشارفة للأمر بالإمساك، وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، أي: لا تمنعوهن ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، الذين طلّقوهن والآن يرغبن فيهم ﴿إِذَا تَرَاضَوْا﴾، أي: النساء والأزواج ﴿بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: بما يحسن في الدين من الشرائط.
2. ﴿ذَلِكَ﴾، أي: النهي عن العضل ﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ﴾، أي: الاتعاظ بترك العضل والضرار ﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾، أي أصلح لكم ﴿وَأَطْهَرُ﴾، لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والعداوة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، أي: يعلم ما فيه صلاح أموركم فيما يأمر وينهى، ومنه ما بينه هنا، وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كلّ ما تأتون وما تذرون.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/154.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُم﴾ أيُّها الأزواج ﴿النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ اللحظة بعد تمام العدَّة، أي: انقضت عدَّتهنَّ، ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ لا تمنعوهنَّ أيُّها الأولياء، وفي الآية جواز تعدُّد المخاطَب، أي: بأن يخاطب ببعض الكلام غير المخاطب ببعضه الآخر، فالحقُّ الجواز إذن بأنَّ المراد كما جاء في غير هذه الآية الخطاب بالكاف للنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وبالكاف والميم للأمَّة، ﴿أَنْ يَّنكِحْنَ﴾ يتزوَّجن، ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾ أي من كانوا أزواجًا لهنَّ، فذلك من مجاز الكون.
2. طلَّق عاصم بن عديٍّ زوجه (جُمْل)، ـ وقيل: (جُميل) بالتصغير ـ وأراد تزوُّجها بعد انقضاء العدَّة ورضيت، ورضي أخوها معقل بن يسار، فزوَّجه بها ثانيًا، ثمَّ طلَّقها ثانيا، وطلبها ابن عمٍّ له بعد العدَّة للتزوُّج، ومنعها أخوها معقل بن يسار، وهو ابن عمِّ عاصم أيضًا، وحلف أن لا يزوِّجها أبدًا لأحد، فنزلت الآية، فزوَّجها بابن عمِّه الآخر، فكفَّر يمينه، وروى البخاري، وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه والترمذيُّ عن معقل بن يسار: كانت لي أخت، فأتاني ابن عمٍّ لي فأنكحتها إيَّاه، فكانت عنده ما كانت، ثمَّ طلَّقها تطليقة ولم يراجعها حتَّى انقضت العدَّة فهواها وهوته، ثمَّ خطبها مع الخُطَّاب، فقلت له: يا لُكَع، أكرمتك بها وزوَّجتُكَها، وطلَّقت ثمَّ جئت تخطبها! والله لا ترجع إليك أبدًا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، وعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه، فأنزل الله هذه الآية، ففيَّ نزلت، فكفَّرت عن يميني وأنكحتها إيَّاه)، وفي لفظ: فلمَّا سمعها معقل قال: (سمعًا لربِّي وطاعة)، ثمَّ دعاه فقال: أزوِّجك وأكرمك.
3. وقيل: الخطاب في ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ للأزواج المطلِّقين لهنَّ، فيكون المراد بالأزواج في قوله: ﴿أَنْ يَّنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ مَن أردن أن يكون بعد العدَّة زوجًا غير الأوَّل، وسمَّى غير الزوج زوجًا لأنَّ حبَّهنَّ لأَن يكون زوجًا لهنَّ سبب لتزوُّجهنَّ به، فكأنَّه من مجاز الأوْل، ومن لم يشترط في مجاز الأوْل التحقُّق ولا الرجحان، بل مطلق الإمكان فظاهر أنَّه منه، وكان أهل الجاهليَّة يمنعون من طلَّقوهن أن يتزوَّجن غيرهنَّ ترفُّعًا أن يطأها غيره، وقيل: الخطاب في ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ للأولياء والأزواج، أي: لا يمنعهنَّ الأزواج المطلِّقون عن تزوُّج أزواج آخرين، ولا الأولياء عن تزوُّج المطلِّقين لهنَّ، وقيل: الخطاب للناس كلِّهم، أي: لا يكن فيكم عضل بمنع ولا برضًا به عن المطلِّقين ولا عن غيرهم، فيكون من عموم المجاز، ويجوز كون الخطاب أيضًا في (طلَّقتم) للأولياء، والأزواج من عموم المجاز؛ لأنَّ الأولياء سبب، لأنَّهم يتعرَّضون لتخليص وليَّتهم من الزوج.
4. ﴿إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ﴾ أي الأزواج والنساء، رضي كلٌّ منهم الآخر، و(إِذَا) عائد إلى (يَنكِحْنَ)، وإذا جعلناه عائدًا إلى (تَعْضُلُوهُنَّ) فلأنَّ التراضي معتاد، لا لتجويز العضل إذا لم يتراضوا، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ اللائق شرعًا وعادة ومروءة.
5. ﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من أحكام الطلاق والإيلاء واليمين، أو ما في السورة، أو النهي عن العضل، وإفراد الخطاب للعموم البدليِّ، أو له صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو تأويل الفريق الأزواج أو الأولياء، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّ الكاف لمجرَّد الخطاب، إذ لا خطاب بلا مخاطَب ـ بفتح الطاء ـ .
6. ﴿يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُومِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ﴾ هذا بإعادة كاف (ذَلِكَ) لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كقوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا النَّبِيءُ اِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ [الطلاق: 1]، في تشخيصه من عموم، لا أنَّ نداءه وخطابه كندائهم وخطابهم، وفي أنَّ الكلام معه والحكم يعمُّهم، ولأنَّه الأشدُّ إتقانًا للأمر المنزَّل من الله تعالى ، وخصَّ من يؤمن لأنَّه المتَّعظ، والحكم يعمُّ، أو معنى (يُوعَظُ) يجعل الوعظ مؤثِّرًا فيه، وقس على هذا في كلِّ ما أمكن ولو لم أذكره، بأن تحمل الفعل على تأثيره مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: 11] أي يؤثِّر إنذارك فيمن اتَّبع الذكر.
7. ﴿ذَالِكُم﴾ أي ترك العضل، أو العمل بمقتضى الوعظ، ﴿أَزْكَى﴾ أنفع، فهو من نموِّ الخير وزيادته، ﴿لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ لكم من دنس الآثام والفتنة والخصام والريبة، وهما من زكى وطهر ـ بتخفيفهما ـ ولا داعي إلى جعلهما من المشدَّد بحذف الزائد، و(أَفْعَلُ) خارج عن التفضيل، أو يعتبر ما يتوهَّم في غير ما وعظوا به من زكاة وطُهر، ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ مصالحكم الدنيويَّة والأخرويَّة كلَّها، ﴿وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك إلَّا قليلا، فاستزيدوا من الله العلم والعمل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/63.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الأجل: آخر المدة المضروبة، والمراد به انقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها، قال الإمام الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، ذلك أن الإمساك بمعروف والتسريح بمعروف في الآية السابقة لا يتأتى بعد انقضاء العدة، لأن انقضاءها إمضاء للتسريح، لا محل معه للتخيير، وإنما التخيير يستمر إلى قرب انقضائها، والنهي عن العضل في هذه الآية يقتضي أن المراد ببلوغ الأجل انقضاؤها إذ لا محل للعضل قبله لبقاء العصمة.
2. ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ حكم جديد غير الأحكام السابقة هو تحريم العضل؛ أي: منع المرأة من الزواج، وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، فقد يزوجها بمن تكره ويمنعها ممن تحب لمحض الهوى، وقال المفسرون: إن الرجال المطلقين كانوا يفعلون ذلك يتحكم الرجل بمطلقته فيمنعها أن تتزوج أنفة وكبرا أن يرى امرأته تحت غيره، فكان يصد عنها الأزواج بضروب من الصد والمنع، كما كان يراجعها في آخر العدة لأجل العضل، وقد أثبت الإسلام الولاية للأقربين وحرم العضل وهو المنع من الزواج، وأن يزوج الولي المرأة بدون إذنها، فجمع بين المصلحتين.
3. اختلف المفسرون في الخطاب هنا:
أ. فقيل: هو للأزواج، أي لا تعضلوا مطلقاتكم أيها الأزواج بعد انقضاء العدة أن ينكحن أزواجهن، واضطر أصحاب هذا القول إلى جعل الأزواج بمعنى الرجال الذين سيكونون أزواجا.
ب. وقيل: هو للأزواج والأولياء على التوزيع، وقالوا: لا بأس بالتفكيك في الضمائر لظهور المراد وعدم الاشتباه.
ج. وقيل: للأولياء، واستدلوا بما ورد في سبب نزول الآية في الصحيح، أخرج البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال: (كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها؟ والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه) وفي لفظ: (فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك؛ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم دعاه فتلا عليه الآية) ومن هنا تعرف خطأ من قال: إن إسناد النكاح إلى النساء هنا يفيد أنهن هن اللواتي يعقدن النكاح، فإن هذا الإسناد يطلق في القديم والحديث على من زوجها وليها، كانوا يقولون: نكحت فلانة فلانا، كما يقولون حتى الآن: تزوجت فلانة بفلان، وإنما يكون العاقد وليها، ولم تكن أخت معقل حاولت أن تعقد على زوجها فمنعها، وإنما طلبها الزوج منه فامتنع أن ينكحه إياها فصدق عليه أنه منعها أن تنكح زوجها، ونزلت فيه الآية، وفهمها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والصحابة وغيرهم من العرب كالإمام الشافعي بهذا المعنى.
د. وفي الخطاب وجه ثالث رجحه الزمخشري واختاره محمد عبده هنا، وسبق له مثله، وهو أنه للأمة؛ لأنها متكافلة في المصالح العامة على حسب الشريعة؛ كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا وقع منكم تطليق للنساء وانقضت عدتهن وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هن ذلك فلا تعضلوهن أن ينكحن؛ أي: لا تمنعوهن من الزواج، وعلى هذا الوجه يأخذ كل واحد حظه من الخطاب للمجموع، وتقدم لهذا الخطاب نظائر، ومنها خطاب بني إسرائيل في عصر التنزيل بما كان من آبائهم في زمن موسى وما بعده مسندا إليهم، والحكمة في هذا الخطاب العام هنا أن يعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفيء إلى أمر الله، وأنهم إذا سكتوا على المنكر ورضوا به يأثمون، والسر في تكافل الأمة أن الأفراد إذا وكلوا إلى أنفسهم فكثيرا ما يرجحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدي بعضهم ببعض مع عدم النكير، فيكثر الشر والمنكر في الأمة فتهلك، ففي التكافل والتعاون على إزالة المنكر دفاع عن الأمة، ولكل مكلف حق في ذلك؛ لأن البلاء إذا وقع فإنه يصيبه سهم منه، قال تعالى: ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾
4. ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: إذا تراضى مريدو التزوج من الرجال والنساء، بأن رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، وقوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ يشعر بأن لا نكر في أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها ويتفق معها على التزوج بها ويحرم حينئذ عضلها، أي امتناع الولي أن يزوجها منه إذا كان ذلك التراضي في الخطبة بالمعروف شرعا وعادة بألا يكون هناك محرم، ولا شيء يخل بالمروءة ويلحق العار بالمرأة وأهلها، وقد استدل الفقهاء بهذا على أن العضل من غير الكفء غير محرم كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه الغضاضة، ويمس ما لقومها من الشرف والكرامة، فينبغي أن تصرف عنه بالوعظ والنصيحة، ويجيز بعض الفقهاء العضل إذا كان المهر دون مهر المثل، وقال محمد عبده: إذا أرادت المرأة أن تتزوج بأقل من مهر مثلها، ولم يكن الحامل على ذلك فساد الأخلاق المسقط للكرامة، أو اتباع الهوى وإرضاء الشهوة، بل كان ميلا إلى رجل مستقيم يرجى منه حسن العشرة وصلاح المعيشة، إلا أنه يعسر عليه دفع مهر كثير مع نفقات الزواج الأخرى، فلا يجوز حينئذ العضل بل يجب تزويجه.
5. مسألة مراعاة الكفاءة بين الزوجين عرف معروف بين العرب وغيرهم من الأمم ولا سيما الملوك والأمراء، ولا يوجد سبب يحمل الرجال والنساء على الإخلال به كالعشق، فكم من ملك أو أمير تزوج راقصة أو مغنية أو ممثلة للقصص لعشقه لها وإن أدى ذلك إلى ترك الملك أو استحقاقه، وإن من العشق ما هو مسقط للكرامة والشرف، ومنه ما ليس كذلك، فالأول يعذر جمهور الناس من ابتلي به دون الثاني، والفرق بينهما معروف، والمدار في مسألة الكفاءة على العرف القومي والوطني لا على تقاليد بيوت شرفاء النسب والجاه وكبريائهم، فما يعده الجمهور إهانة للمرأة تكون به مضغة في الأفواه وعارا على بيتها فهو الذي يبيح لأوليائها المنع منه، إذا لم يكن العضل سببا لمفسدة شر منه، فالمسألة من أحكام المصالح التي تختلف بحسب الزمان والمكان لا تعبدية، ولا يجوز إكراه المرأة على الزواج بمن تكره مطلقا.
6. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الوعظ: النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل؛ أي: ذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود المقرونة بالحكم، والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله والجزاء على الأعمال في الآخرة؛ فإن هؤلاء هم الذين يتقبلونه ويتعظون به فتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به قبولا لتأديب ربهم، وطلبا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى، وأما الذين لا يؤمنون بما ذكر حق الإيمان كالمعطلين والمقلدين الذين يقولون آمنا بأفواههم لأنهم سمعوا قومهم يقولون ذلك، ولم تؤمن قلوبهم لأنهم لم يتلقوا أصول الإيمان بالبرهان الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان، فإن وعظهم به عبث لا ينفع، وقول لا يسمع؛ لأنهم يتبعون في معاملة النساء أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم وعشراءهم.
7. الآية تدل على أن الإيمان الصحيح يقتضي العمل وقد غفل عن هذا الأكثرون، وقرره الأئمة المحققون كحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق الشاطبي ومحمد عبده رحمهم الله تعالى، قال شيخنا هنا: كأنه يقول من كان مؤمنا فلا شك أنه يتعظ بهذا، يشير إلى أن من لم يتعظ ويعمل بها فليس بمؤمن، وتدل على أن أحكام الدين حتى المعاملات منها ينبغي أن تساق إلى الناس مساق الوعظ المحرك للقلوب لا أن تسرد سردا جافا كما ترى في كتب الفقه.
8. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ الزكاء: النماء والبركة في الشيء، والمشار إليه في ﴿ذَلِكُمْ﴾ هو النهي عن عضل النساء بقيده وشرطه، والمراد أنه مزيد في نماء متبعيه وصلاح حالهم ما بعده مزيد يفضله، وأنه أطهر لأعراضهم وأنسابهم، وأحفظ لشرفهم وأحسابهم؛ لأن عضل النساء والتضييق عليهن مدعاة لفسوقهن ومفسدة لأخلاقهن، وسبب لفساد نظام البيوت وشقاء الذراري، مثل في نفسك حال امرأة كأخت معقل بن يسار تزوجت برجل عرفها وعرفته، فأحبها وأحبته، ثم غضب مرة وطلقها، وبعد انقضاء العدة ندم على ما فعل، وأحب أن يعود إلى امرأته التي تحبه، واعتادت الأنس به والسكون إليه، فعضلها وليها اتباعا لهواه، واعتزازا بسلطته، ألا يكون ذلك مضيعة لولدهما ومغواة لهما؟ ومثل أيضا وليا يمنع موليته من الزواج بمن تحب ويزوجها بمن تكره اتباعا لهواه أو عادة قومه، كما كانت العرب تفعل، وانظر أترجو أن يصلح حالهما ويقيما حدود الله بينهما، أم يخشى أن يغويها الشيطان بالآخر ويغويه بها ويستدرجهما في الغواية فلا يقفان إلا عند نهاية حدودها؟ وهكذا مثل كل مخالفة لهذه الأحكام تجدها مفسدة.
9. كان الناس لجهلهم بوجوه المصالح الاجتماعية على كمالها لا يرون للنساء شأنا في صلاح حياتهم الاجتماعية وفسادها حتى علمهم الوحي ذلك، ولكن الناس لا يأخذون من الوحي في كل زمان إلا بقدر استعدادهم، وإن ما جاء به القرآن من الأحكام لإصلاح حال البيوت (العائلات) بحسن معاملة النساء لم تعمل به الأمة على وجه الكمال، بل نسيت معظمه في هذا الزمان وعادت إلى جهالة الجاهلية؛ ولهذا الجهل السابق ولتوهم الذين يسيئون معاملة النساء من الرجال أنهم يفعلون ما هو مصلحة لهم ومحافظة على شرفهم ختم هذه المواعظ والأحكام والحكم بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: يعلم سبحانه ما لكم في ذلك من الزكاء والطهر وسائر المصالح ودفع المفاسد وأنتم لا تعلمون ذلك كله علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام واعتزاز الرجال بقدرتهم على التحكم في النساء؛ ولذلك ذكركم في أثر النهي عن عضل النساء عن الزواج بهذه الثلاث:
أ. الأولى: إنها موعظة يتعظ بها من يؤمن بالله واليوم الآخر.
ب. الثانية: أنها أزكى لكم وأطهر لأعراضكم.
ج. الثالثة: أن الله يعلم كل ذلك كغيره وأنتم لا تعلمون.
10. هذه آيات علمه ظاهرة، فإن البشر من جميع الأمم لا من العرب وحدهم لم يهتدوا إلى هذه الأحكام المنزلة في هذه السورة النافعة باختبارهم الطويل، بل عزبت حكمتها عن نفوس الأكثرين بعد أن نزل الوحي بها فلم يعملوا بها، وكان يجب على المؤمن الذكي أن يقيمها على وجهها ملاحظا فوائدها، وعلى المؤمن غير الذكي أن يسلم أمر ربه بها تسليما وإن لم تظهر له فائدتها في الدنيا اكتفاء بأن الله تعالى يعلم من ذلك ما لا يعلم هو.
11. هنا أنبه وأذكر القارئ لهذا التفسير بأن من أظهر ما تفضل به هداية الوحي ما هو صحيح وحسن من حكمة البشر: أن المؤمن بالوحي يتبع هدايته سواء أعلم وجه المنفعة فيها أم لا، فينتفع بها كل مؤمن، وأما حكمة البشر فلا ينتفع بها إلا من فهمها واقتنع بصحتها وبأن العمل بها خير له من تركه، والذين يجهلون هذه المزية لهداية الدين من غير أهله يفضلون هداية الحكمة والبشرية عليها بأن متبعها يترك الشر؛ لأنه شر ضار، ويفعل الخير؛ لأنه خير نافع، وأن متبع الدين يفعل ما لا يعقل له فائدة، وهذا غلط أو مغالطة؛ فإن الدين قد جاء بالحكمة مؤيدة للكتاب كما قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ 2 فمن جمع بين الكتاب والحكمة فهو المؤمن الكامل، ومن عجز عن فهم حكمة الأحكام والآداب فيه من عامي وبليد أو حديث عهد بالإسلام لم يفته وقد هدي إلى الإيمان أن يترك الشر ويفعل الخير لأن الذي نهاه عن الأول وأمره بالثاني هو الله، وهو أعلم منه ومن كل حكماء خلقه.
12. من دقائق البلاغة في الآية اختلاف الخطاب بالإشارة؛ فإنه لما جعل الوعظ بما ذكر من الأحكام والحكم خاصا بمن يؤمن بالله واليوم الآخر وجه الخطاب به إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ الآية، وأما كونه أزكى وأطهر فقد جعله عاما وخاطب به الناس كافة بقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الآية، وقد تقدم توجيه الأول، وأما توجيه الثاني فهو أن كل من عمل بهذه الأحكام فإنها تكون زكاء له وبركة في بيته وذريته، وطهرا لعرضه وشرفه، سواء أوعظ بتلك الآيات فاتعظ لإيمانه، أم عمل بها لسبب آخر؛ بأن بلغته غفلا من الموعظة غير مسندة إلى الوحي أو قلد بها بعض العاملين.
13. كون الخطاب بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم هو أحد الوجوه التي ذكروها فيه، قال البيضاوي في توجيهه: (إنه على طريقة قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ للدلالة على أن حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد)، وقيل: الخطاب للجمع على تأويل القبيل، وقيل: لكل أحد، وقيل: لمجرد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين، ذكر ذلك كله البيضاوي، وسأل الفخر الرازي: لم وحد الكاف في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ مع أنه يخاطب جماعة؟ وأجاب بأن هذا جائز، والتثنية أيضا جائزة، والقرآن نزل باللغتين جميعا قال تعالى: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾، وقال: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ إلى آخر ما أورد، وهو جواب مبهم موهم؛ فإن التثنية هنا واردة في خطاب الاثنين، والجمع المؤنث وارد في خطاب النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فلا يصح شيء مما ذكره في هذا المقام، والمعروف في الاستعمال ـ ولعله مراده ـ أن الكاف المفردة تستعمل في كل خطاب سواء كان المخاطب مفردا أو مثنى أو جمعا وهي لغة بعض العرب، فإذا تحول المتكلم عنها وجب أن يكون كلامه على حسب المخاطبين، تقول للرجل ﴿ذَلِكَ﴾ بفتح الكاف وبكسره للمرأة، وذلكما للاثنين مطلقا، وذلكم للذكور، وذلكن للإناث وهي لغة قريش.
__________
(1) تفسير المنار: 2/402.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. البلوغ الانتهاء، والأجل هنا آخر المدة المضروبة لانقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها، لأن الإمساك بالمعروف والتسريح لا يتأتى بعد انقضاء العدة إذا انقضاؤها إمضاء للتسريح فلا محل معه للتخيير، والتخيير يستمر إلى قرب الانقضاء والمذكور هنا النهى عن العضل وإجازة النكاح، وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء العدة، ومن ثم أثر عن الشافعي أنّه قال دل السياق على افتراق البلوغين.
2. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله، إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك، فلا تمنعوهن من الزواج، إذا رضى كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعا وعادة، بألا يكون هناك محرّم ولا شيء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.
3. في قوله ﴿بَيْنَهُمْ﴾ دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتفق معها على التزوج بها، ويحرم حينئذ على الولي أن يعضلها ويمنعها من الزواج، كما أن في قوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ دليلا على أن العضل من غير الكفء غير محرم، كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه عار، ويمسّ كرامة قومها منه أذى، وحينئذ ينبغي أن تصرف عنه بالنصح والعظة.
4. أجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل، ولكن الذي ينبغي التعويل عليه أنه إذا كان الرجل حسن السيرة يرجى منه صلاح المعيشة الزوجية، ويعسر عليه دفع المهر الكثير والنفقات الأخرى للزواج ـ لا يجوز العضل بل يجب تزويجه.
5. المدار في الكفاءة على العرف القومي لا على تقاليد بيوت ذوى الشرف والجاه وكبريائهم، فما يعدّه جمهرة الناس إهانة للمرأة وعارا على أهلها، فهو الذي يبيح لأوليائها المنع منه إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أشنع منه، كما لا يجوز إكراه المرأة على أن تتزوج بمن لا تحب، إذ قد يجرّ هذا إلى أضرار ومفاسد ربما لا تحمد عقباها.
6. الخطاب هنا للأمة جميعها، لأنها متكافلة في المصالح العامة، ليعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفيء إلى أمر الله وأنهم إذا سكتوا عن المنكر ورضوا به يأثمون، إذ كثيرا ما يرجّحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدى بعضهم ببعض، فيكثر الشر والمنكر فتهلك الأمة كما قال تعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
7. كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها من تحب لمحض الهوي.
8. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي ذلك الذي تقدم من الأحكام المقرونة بالحكم، مع الترغيب والترهيب، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هم الذي يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، ويتحرّون العمل به، طاعة لأمر ربهم، ورجاء لمثوبته عليه في الدارين.
9. في الآية دليل على أن المؤمن حقا لا بد أن يتعظ به، فالذين لا يتعظون به ولا يعملون به فليسوا بمؤمنين، بل هم يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لأنهم لم يتلقوا أصول الإيمان بالدليل، فلم يقع من نفوسهم موقع التأثير في مسالك الوجدان، فوعظهم عبث ضائع، إذ هم لا يتبعون إلا أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم.
10. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي ذلكم النهى عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق، مفسدة للأخلاق، وسببا في اختلال نظم البيوت، وشقاء الذرية، انظر إلى ولىّ يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب، ويزوجها بمن تكره، اتباعا لهواه أو لعادات قومه، كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله، أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد؟.
11. لجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لكنّ المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الاسر والبيوت جزاء وفاقا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم.
12. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي والله يعلم ما لكم في ذلك من النفع والصلاح، إذ هو العليم بوجوه الفائدة في هذه الأحكام، والسر فيما به أمر، وعنه نهي، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام، فالبشر جميعا لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع اختبارهم وتجاربهم الطويلة، بل عزبت حكمتها عن نفوس الكثيرين منهم، بعد أن نزل بها الوحى، وجاء بها الدين فلم يعملوا بها، وكان يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين ما لها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/181.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:(1).
1. كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة ـ حين توفي العدة ـ ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾..
2. هذه الاستجابة الحانية من الله ـ سبحانه ـ لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده.. أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال.
3. وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.. والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب، حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع.. والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر، لنفسه وللمجتمع من حوله، ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.
4. هكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/254.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة نبه الله سبحانه وتعالى الأزواج الذين طلقوا للمرة الثانية وأرادوا مراجعة زوجاتهن ـ أن يكونوا جادّين في مراجعتهنّ، يريدون منها الخير والإصلاح، وإلا فقد تعرضوا لغضب الله وباؤوا بسخطه، وفى هذه الآية يحذر الله سبحانه أولياء هؤلاء المطلقات من أن يكونوا حجر عثرة في طريق المراجعة بين المطلقة ومطلقها، وأن يمسكوا المطلقات عن أن يعدن إلى أزواجهن مرة ثانية بعقد جديد ومهر جديد، فإن في هذا إضرارا بالزوجة من حيث يقدّر وليّها أنه إضرار بالزوج وحده.. فإذا تراضى الزوجان وقدرا أنهما قادران على بناء الحياة الزوجية من جديد، كان على وليّها أن يستجيب لهذه الرغبة.. وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾.
2. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ تنبيه لأولياء الزوجات إلى ما قضى الله به في هذا الموقف، وهو قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾
﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فمن آمن بالله واليوم الآخر لم يكن له أن يعطل حكما من أحكام الله، وأن يقيم لذلك المعاذير الواهية والعلل الكاذبة.
3. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ إشارة إلى الوقوف عند حدود الله وأحكامه في موقف الأولياء من المطلقات اللاتي يرغب أزواجهن في مراجعتهن، ثم هو من جهة أخرى لفت لهؤلاء الأولياء إلى أن مراجعة الزوج لزوجه وإمساكها في بيت الزوجية خير لها من أن تعيش من غير زوج أو أن تتزوج رجلا آخر، ففي الحالة الأولى لا تكون المرأة بمأمن من أن تزلّ وتنحرف، وفى الحالة الثانية تنكشف المرأة لرجل آخر، وهو وإن كان حلالا مباحا إلّا أن فيه شيئا ما يخدش به حياء المرأة الحرة، ويتأذى منه وليّها الرجل!
4. خير من هذا كلّه أن تعود المرأة إلى زوجها الذي عرفها وعرفته! ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أن الله سبحانه يعلم من عواقب الأمور ما لا تعلمون، وأن عضل المطلقة التي ترغب في العودة إلى زوجها يخفى وراءه أضرارا ومآثم لا يعلمها إلّا علام الغيوب.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/275.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك.
2. عرف من شأن الأولياء في الجاهلية وما قاربها، الأنفة من أصهارهم، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم، وربما رأوا الطلاق استخفافا بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عندما يرون منهم ندامة، ورغبة في المراجعة وقد روى في (الصحيح) أن البداح بن عاصم الأنصاري طلق زوجه جميلا أبدا، فنزلت هذه الآية، قال معقل: (فكفرت عن يميني وأرجعتها إليه) وقال الواحدي: نزلت في جابر بن عبد الله كانت له ابنة عم طلقها زوجها وانقضت عدتها، ثم جاء يريد مراجعتها، وكانت راغبة فيه، فمنعه جابر من ذلك فنزلت.
3. المراد من أجلهن هو العدة، وهو يعضد أن ذلك هو المراد من نظيره في الآية السابقة، وعن الشافعي (دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين) فجعل البلوغ في الآية الأولى، بمعنى مشارفة بلوغ الأجل، وجعله هنا بمعنى انتهاء الأجل، فجملة ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ عطف على ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231] الآية.
4. الخطاب الواقع في قوله ﴿طَلَّقْتُمُ﴾ و﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه، فيكون موجها إلى جميع المسلمين، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق إن كان زوجا، ويقع منه العضل إن كان وليا، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفى في استعمالهم، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين، غير المسند إليه الفعل الآخر، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل ولا العكس، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير، فالمراد بقوله تعالى: ﴿طَلَّقْتُمُ﴾ أوقعتم الطلاق، فهم الأزواج، وبقوله ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ النهي عن صدور العضل، وهم أولياء النساء.
5. جعل في (الكشاف) الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق وبلغ المطلقات أجلهن، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله: (لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين).
6. العضل: المنع والحبس وعدم الانتقال، فمنه عضّلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضّلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، والمعاضلة في الكلام: احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ، وهو التعقيد، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح، وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح، فالأب لا يعد عاضلا برد كفء أو اثنين، وغير الأب يعد عاضلا برد كفء واحد.
7. إسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه، والمراد بأزواجهن طالبو المراجعة بعد انقضاء العدة، وسماهن أزواجا مجازا باعتبار ما كان، لقرب تلك الحالة، وللإشارة إلى أن المنع ظلم؛ فإنهم كانوا أزواجا لهن من قبل، فهم أحق بأن يرجعن إليهم.
8. ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرط للنهي، لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحا لها، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي: وهي أن الولي لا يحق له منعها مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها، على حد قولهم في المثل المشهور (رضي الخصمان ولم يرض القاضي).
9. في الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح بناء على غالب الأحوال يومئذ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف مطموع فيه، معصوم عن الامتهان، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها، فقد يستخف بحقوقها الرجال، حرصا على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة، ووجه الإشارة: أن الله أشار إلى حقين: حق الولي بالنهي عن العضل؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده لما نهي عن منعه، ولا يقال: نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافيا، ولجيء بصيغة: ما يكون لكم ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء، ولم يقل: أن تنكحوهن أزواجهن.
10. هذا مذهب مالك والشافعي وجمهور فقهاء الإسلام، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح، واحتج له الجصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد استعمال العرب في قولهم: نكحت المرأة، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية؛ لأنها واردة في شأن الأيامى ولا جبر على أيم باتفاق العلماء.
11. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ إشارة إلى حكم النهي عن العضل، وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة، رعيا لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل، وأما جمعها في قوله ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ فتجديد لأصل وضعها.
12. معنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض وأقرب للخير، فأزكى دال على النماء والوفر، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن حمية وحفاظا على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض؛ لأن فيه سعيا إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب؛ فإذا كان العضل إباية للضيم، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم.
13. ﴿وَأَطْهَرُ﴾ هو معنى أنزه، أي إنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة، وما ذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية والعداوات المتأصلة، والقلوب المحرّقة.
14. لك أن تجعل ﴿أَزْكَى﴾ بالمعنى الأول، ناظرا لأحوال الدنيا، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله ﴿أَزْكَى﴾.
15. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ تذييل وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم، لمخالفته لعاداتهم القديمة، وما اعتقدوا نفعا وصلاحا وإباء على أعراضهم، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق، لأن الله يعلم النافع، وهم لا يعلمون إلّا ظاهرا، فمفعول ﴿يَعْلَمُ﴾ محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم؛ وأنتم لا تعلمون ذلك.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/407.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه العواقب الوبيلة التي تترتب على الإمساك ضرارا، وما فيه من ظلم للرجل والمرأة معا، أخذ يبين حكمه سبحانه في ظلم آخر يقع بالنساء وعاقبته وبيلة للمجتمع، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾
2. بلوغ الأجل هنا هو بلوغ أقصى العدة، فالبلوغ هنا غير البلوغ في الآية السابقة، إذ الأول كان للمقارنة والمشارفة، وهنا للانتهاء والسياق هو الذي عيّن معنى البلوغ في الأول كما بيّنا، وهو الذي عيّن معنى البلوغ الثاني، إذ إن العقد المعبر عنه بقوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ يدل على أن المراد هو انتهاء العدة؛ إذ لا يتصور النكاح وهو العقد الذي يكون من طرفين إلا بعد انتهاء العدة؛ ولذا قال الشافعي في هذه الآية والتي سبقتها: (دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين).
3. العضل معناه هنا المنع الظالم، وأصله بمعنى الحبس والتضييق مع الألم، ومنه: عضلت الدجاجة إذا تعلقت بها بيضتها فلم تخرج منها، وعضل المرأة يمنعها من الزواج من غير مبرر فيه حبس لها وتضييق عليها، وإرهاق لنفسها ولحسها.
4. النساء اللائي يطلقن يتعرضن لظلم المطلقين، فيحاول المطلقون أن يرهقوهن من أمرهنّ عسرا، بأن يمنع كل مطلق من طلقها من أن تتزوج من غيره، خصوصا إذا كان صاحب سطوة باغية، أو كان ذا جبروت طاغية؛ وتلك نزعة جاهلية، لا يقرها عرف ولا شرع ولا عقل، ويتعرض أولئك المطلقات لظلم ذويهن، فقد يردن العودة إلى أزواجهن، ويتراضين معهم على ذلك، ولكن يقف الولي محاجزا، حاسبا أن ذلك مهانة له ولها، كما فعل بعض الناس في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم؛ وقد ترتضى المطلقة رجلا زوجا لها، عفا في عرضه، تقيا في دينه فيملأ نفسها؛ ولكن لا يرتضيه أولياؤها لأمر لا ينقص من قدره، كفقر أو نحوه، فيمنعونها من ذلك الزواج!
5. في كل هذه الصور يكون عضل المرأة، وحبسها والتضييق عليها في ذات نفسها؛ فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾، وقد قال بعض العلماء: إن الخطاب للمطلقين ليمتنعوا عن تلك العنجهية الجاهلية؛ وقال بعضهم الخطاب للأولياء لكيلا يحولوا بين النساء وبين الزواج ممن يردن من غير سبب ومبرر، سواء أكان الزوج الذي ارتضته هو المطلق السابق أم كان غيره، ونحن نرى أن الخطاب عام لكل المؤمنين ممن يقع في دائرتهم ذلك، فهو يعم المطلقين، ويعم الأولياء، ويعم غيرهم ممن يتصلون بهم، ويعم أولياء الأمر الذين بيدهم الهيمنة على الأمور؛ والتعميم بهذا الشكل يدل على التكافل بين آحاد الأمة، ووجوب التعاون بينهم في منع كل ظلم، وخصوصا ما يقع على الضعفاء، وما يمس الحرية الشخصية في أدق ما تتجه إليه، ولا شيء يهم المرأة أكثر من اختيار زوجها، ولا عقد أمس بالوجدان من عقد الزواج، ولا اتفاق أكبر خطرا في الحياة من ذلك الاتفاق؛ فالظلم فيه خطير بمقدار ماله من خطر وشأن.
6. المرأة ليست لها الحرية المطلقة في اختيار من تشاء من الأزواج، بل إن رضاها مقيد بالمعقول والمشروع؛ ولذا قيد التراضي بقوله تعالى: ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بالأمر الذي تسير عليه العقول، ويجرى به العرف، ويقره العقل، ولم يكن ثمة سبب للاعتراض، فليس من المعقول أن يطلق اختيارها ويحترم إذا اختارت لمجرد الهوى العارض، سواء أكان كفئا لها أم لم يكن كفئا؛ ولذلك سوغ أبو حنيفة للولى أن يعترض إن تزوجت بغير كفء، فهو قد أطلق حريتها، ولكن إن أساءت الاختيار كان للولى الاعتراض، وغير أبى حنيفة أشركوا الولي معها في الاختيار حتى لا تضل، ولكن نهاهم القرآن عن أن يمتنعوا من غير سبب معقول، وإلا كان ذلك عضلا، ولها أن ترفع الأمر إلى القاضي صاحب الشأن ليرفع ظلم الأولياء.
7. هنا نكتة بلاغية نشير إليها؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذين يختارهم النساء ويمنعن عنهم ظلما بالأزواج مع أن الزواج لم يتم، للإشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة، وهو أن من يقع اختيارها عليه، ويتراضيان عليه بالمعروف، ولم يكن الزواج بينهما فيه ما يشينها أو يشين أسرتها هو الذي ينبغي أن يكون ازدواجها به، وهو في حكم الفطرة زوجها، وعلى الأولياء ألا يعاندوا حكم الفطرة، بل عليهم أن ينفذوه ويقروه، ولا يصح لأحد أن يعارضه.
8. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ذلك القول الحكيم، والأمر الكريم يذكّر الله به تذكيرا يرق معه قلب المؤمن وتخشع نفسه، ويوجل قلبه إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ذلك لأن الإيمان بالله، والإحساس بعظمته وكبريائه، يمنع الظالم من أن يظلم، ولا يظلم الظالم إلا وهو في غفلة عن الله، ولو أحس بأن الله محاسبه، وأنه يأخذ الظالم بظلمه، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ما استمر في ظلمه، ولا استرسل في غيه، ولكنه يكون حال ظلمه في غفوة عن الإيمان، ونسيان للواحد الديان وهو القاهر فوق كل شيء.
9. الإيمان باليوم الآخر من شأنه أن يحس معه المؤمن بالحساب والعقاب الذي يرتقبه، ومن شأنه أن يجعل المؤمن يستهين بالدنيا وما فيها، ويعلم أنها ظل زائل، وعرض حائل، وأن الآخرة هي الباقية وإذا كان كذلك قلل من الرغبات، وإذا قلت الرغبات ضعفت الدوافع إلى الظلم، وخمدت نوازع الشر.
10. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلكم أيها المؤمنون أجمعون من غير تخصيص طائفة بالخطاب، وهو ما شرعه الله سبحانه من أحكام خاصة بسلطان الأزواج والأولياء، أزكى وأطهر، والزكاة النماء، أما أنه أزكى وأنمى؛ فلأن قيام الأسرة على العدل والمودة والتراحم يزيد في عدد الأمة فيكثر النسل؛ ويزيد من قوتها؛ لأن الجماعات القوية هي التي تقوم على أسرة قوية، ولا شيء يقوى الأسرة أكثر من المودة والعدل والرحمة؛ وأما أنه أطهر فلأن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة بالحق والعدل وأطلقت حريتها في دائرة المعروف المعقول ولم تظلم في رغباتها العادلة، أدى ذلك إلى الطهر والعفاف؛ فإن احترام النفس صون وعفاف، وامتهانها نقيض ذلك؛ لأن النفس إذا أكرهت جمحت، وإذا جمحت لم ترتبط برباط من الحكمة والصون والعفاف، بل إنها إذا جمحت عميت، فلا تدرك خيرا ولا شرا، ولقد روى أن على بن أبى طالب قال (إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارا، فأتوها من قبل شهواتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمى) ولا عفة ولا طهر عند عماية القلوب.
11. لقد قال سبحانه: ﴿ذَلِكُمْ﴾ بضمير الجمع، وغيّر النسق؛ للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها، إن كان الاختيار في دائرة المعقول ـ حق على الجميع، وفائدته للجميع.
12. لقد ذيّل سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ للإشارة إلى أن شرع الله تعالى فيه النفع الدائم، والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية؛ لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئا، وليس للناس أن يتمردوا عليه، أو يخالفوه، أو يهونوا مخالفته في أنفسهم بدعوى أنهم يرونه في الظاهر مخالفا للظاهر من مصلحتهم؛ فإن ما يدركونه مصلحة ليس بمصلحة في ذاته إذا جاء نص الشرع القاطع على خلافه؛ لأن علم الإنسان قاصر، وعلم الله وحده هو الكامل؛ فلنتبع شرع الله، ولا نحكّم الهوى في نصوص الكتاب، ولنحث التراب في وجوه الذين يحاولون مخالفة النصوص الصريحة القاطعة بدعوى أن المصلحة في خلافها؛ لأنه لا توجد مصلحة قاطعة تخالف نصا قاطعا؛ إنما هي أوهام، وعقول خاضعة لأزمان محكومة بالشر المتكاثف، حتى حجب النور؛ ولنقل لهم إن شرع الله هو المصلحة: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/800.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بـ (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) في الآية السابقة قرب انقضاء العدة، كما أشرنا، والمراد به هنا انقضاء العدة حقيقة.. ثم ان هذه الآية قد اشتملت على خطابين: الأول إذا طلقتم النساء، الخطاب الثاني فلا تعضلوهن، أي تمنعوهن، وقد اختلف المفسرون فيمن هو المقصود بالخطابين، هل هو واحد، أو ان المخاطب بالأول غير المخاطب بالثاني؟
أ. فمن قائل بأنه واحد، وهو الأزواج، وان المعنى يا أيها الأزواج إذا طلقتم النساء، وانتهت عدتهن فلا تمنعوهن عمن يرتضين للزواج بعدكم، لأن الرجل كان يتحكم بمطلقته، ويمنعها أن تتزوج بغيره بعد انتهاء العدة أنفة أن يرى امرأته تحت غيره.
ب. ومن قائل بأن المخاطب بـ ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ هم الأزواج، والمخاطب بـ ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ هم الأولياء، وان المعنى يا أيها الأزواج إذا طلقتم النساء فلا تمنعوهن يا أيها الأولياء ان يرجعن الى أزواجهن الأولين بعد انقضاء عدتهن مع رغبتهن في ذلك، واستشهد الذاهبون الى هذا التفسير بحديث معقل ابن يسار.
2. يلاحظ بأن قوله تعالى: ﴿إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ جملة واحدة مركبة من شرط، وهو إذا طلقتم النساء، وجزاء، وهو فلا تعضلوهن، فإذا كان المخاطب بالشرط غير المخاطب بالجزاء يكون المعنى يا أيها الأزواج إذا طلقتم النساء فيا أيها الأولياء لا تعضلوهن، وفي هذا ما فيه من التفكيك الذي يجب أن ينزه عنه كلام الباري عز وجل.
3. الصحيح ان المخاطب بالشرط والجزاء واحد، وهم المؤمنون جميعا، لا الأزواج فقط، ولا الأولياء فقط، ولا هما معا، بل كل المؤمنين، وهذا كثير في كلامه جل جلاله، ويكون المعنى: يا أيها المؤمنون إذا طلق أحدكم زوجته، وانقضت عدتها، وأرادت الزواج ثانية من زوجها الأول أو من غيره فلا تمنعوها منه، ولا تقفوا في سبيلها إذا تراضيا بينهما بالمعروف، أي عزما الزواج وثوابه على كتاب الله، وسنة نبيه.
4. ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يدل على ان للمرأة أن تزوج نفسها بمن ترضى به، ويرضى بها من غير ولي.
5. سؤال وإشكال: ان الآية الكريمة نفت الولاية على المطلقات، ولم تتعرض للولاية على غيرهن لا نفيا ولا اثباتا، وعليه فنفي الولاية في زواج الأبكار يحتاج الى دليل، والجواب: ان اثبات الولاية يحتاج الى دليل خاص، أما نفيها فالدليل عليه الأصل في ان كل بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى يستقل في التصرف في نفسه، ولا ولاية عليه لأحد إطلاقا كائنا من كان إلا إذا تجاوز حدود الله سبحانه.
6. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ذلك اشارة الى ما ذكره تعالى من أحكامه المقرونة بالترغيب والترهيب، ويوعظ به، أي يتعظ به أهل الايمان الصحيح، أما غيرهم من ذوي الايمان المزيف ففي آذانهم وقر عن ذكر الله وأحكامه، وموعظته وهديه.. وفي هذه الآية دلالة واضحة على انه لا ايمان بلا تقوى، وان الايمان الصحيح لا ينفك أبدا عن الاتعاظ والعمل، وان من لا يتعظ ولا ينتفع بأوامر الله فليس من الايمان في شيء.
7. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾، ذلك اشارة الى الاتعاظ والعمل بأحكام الله في الحياة الزوجية بعامة، ومعاملة المطلقات بخاصة.. وليس من شك ان الزواج بقصد الانسانية والتعاون على الخير ينتج النماء والزكاة في الرزق، والطهر في الخلق، والعفة في العرض، والنجاح في النسل، أما إذا ساء القصد والمعشر فعاقبته الفقر والفسق، والبلاء والشقاء في حياة الآباء والأبناء.
8. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ليس القصد أن يخبرنا الله بأنه عالم أو أعلم.. كلا، ان هذه الحقيقة بديهية لا تحتاج الى تعليم وتفهيم، وإنما القصد هو التأكيد والحث على العمل بأحكامه تعالى، وان لم يتبين لنا وجه النفع والصلاح فيها، لأنه جلت حكمته لا يأمر إلا بما فيه الخير والصلاح، وليس من الضروري أن نعلم هذا الخير بالتفصيل، بل يكفي أن نعلم ان الآمر الناهي حكيم عليم، لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء.
9. تجمل الاشارة هنا الى الفرق بين المؤمن وغير المؤمن.. ان المؤمن يتعبد بقول الله، ويعمل به موقنا بوجود المنفعة واقعا، وان عجز عن إدراكها بالتفصيل، أما غير المؤمن فلا يقدم الا مع العلم أو الظن بوجود المنفعة التي يدركها هو بعقله، أو يرشده اليها مخلوق مثله.. وكثيرا ما يخيب ظنه، ويستبين له العكس، ولكن المؤمن في أمان الله وحرزه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/354.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العضل المنع، والظاهر أن الخطاب في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، لأوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لا يسعهن مخالفته، والمراد بأزواجهن، الأزواج قبل الطلاق، فالآية تدل على نهي الأولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي:
أ. أما أولا: فلأن قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره.
ب. وأما ثانيا: فلأن اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لا دليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم، وأن النهي نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾.
2. ربما قيل: إن الخطاب للأزواج جريا على ما جرى به قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، والمعنى: وإذا طلقتم النساء يا أيها الأزواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن، وذلك بأن يخفى عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو ذلك، وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: ﴿أَزْوَاجَهُنَّ﴾، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: أن ينكحن أو أن ينكحن أزواجا وهو ظاهر.
3. المراد بقوله تعالى: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لأحد من الأولياء وغيرهم أن يمنع ذلك وبعولتهن أحق بردهن في ذلك، على أن قوله تعالى: ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ﴾، دون أن يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك.
4. قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ كقوله فيما مر ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهو التوحيد، لأن دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل دون الفصل.
5. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والأصل في هذا الكلام خطاب المجموع أعني خطاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأمته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وحده في غير جهات الأحكام كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾، وقوله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، وقوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ وقوله: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾، حفظا لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركن في هذه المخاطبة وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره فمخاطب بوساطته، وأما الخطابات المشتملة على الأحكام فجميعها موجهة نحو المجموع، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.
6. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، وقد مر الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ﴾ عدم المنع عن رجوعهن إلى أزواجهن، أو نفس رجوعهن إلى أزواجهن، والمآل واحد، وذلك أن فيه رجوعا من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو أستر لهن وأطهر لنفوسهن، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الأجانب إذا منعن عن نكاح أزواجهن، والإسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ آل عمران ـ 164، وقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾
7. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، أي إلا ما يعلمكم كما قال تعالى، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الآية أي يعلمون بتعليم الله.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/238.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي صرن في أجلهن للزواج وخرجن من التربص ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ لا تمنعوهن ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ أي يتزوجن أزواجهن الذين كانوا أزواجهن، وسموا أزواجاً تسمية بما كانوا عليه مجاز، وفيه مناسبة لحال الزوجين حيث رغبا في التراجع بسبب ما بقي في أنفسهما من أثر الزواج الأول من المرغبات في العودة إلى الزواج، فلما بقي أثره في أنفسهما أشبه ما لو كان باقياً فحسن استعمال هذا الاسم للمناسبة.
2. ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بأن يرضى هو وترضى هي بزواج بعقد جديد ومهر جديد وزواج صادق كما شرعه الله للزوجين، فإذا لم يكن التراضي إلا على غير المعروف فلا بأس بعضلها، وفيه دلالة على أن أمر زواج المرأة إلى الأولياء.
3. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي ذلك النهي عن العضل يوعظ به من كان يؤمن لأنه الذي يتعظ، لأن إيمانه بالله واليوم الآخر يبعثه على الطاعة والمحافظة على دينه خشية لله وخوفاً من عذابه؛ ولذلك فهو أهل لأن يخص بالموعظة وأهل أن يوعظ رحمة له لئلا ينقلب، أما الفاجر المصر فلا يستحق إلا الخذلان.
4. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ﴾ أطيب ﴿وَأَطْهَرُ﴾ فلا تحسبوا العضل خيراً لكم، وهذا تأكيد لأن من الناس من يغضب على الزوج بسبب خلاف سبق فيثقل عليه إرجاعها، وقد علم الله من المصلحة ما لم يعلم فقد يؤدي العضل مع شدة ندمهما وحرصهما على العودة في زواجهما ويأسهما من موافقة الولي وغضبهما من عضله إلى أن يقعا في الفاحشة، ويدنسا بذلك أعراض الأولياء، ويقع الأولياء في عار المنع حيث سببوا لذلك فبان أن ترك العضل أزكى وأطهر، وفيه فضيلة عظمى لمن عصى نفسه وأخضعها لأمر الله راغمة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/347.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا نداء آخر للأشخاص الذين يملكون أمر الضغط على النساء، من الآباء والأمهات والإخوة والأعمام والأخوال.. وغيرهم، ممن جرت عادتهم بالتدخل في أمورهن الخاصة والعامة، انطلاقا من الضعف الطبيعي للمرأة الذي يبرز خضوعها للاضطهاد وانسحاقها تحت ضغط إرادة الآخرين، فلا يكون لها أيّ موقف في حياتها العملية، ولا يسمح لها بإبداء أي رأي في علاقاتها الزوجية أو المالية أو الاجتماعية.
2. ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ من خلال بعض الحالات الانفعالية الطارئة التي تحولت إلى عنصر ضغط سلبي نفسي ضد الزوجة، أو شقاق بينهما، أو من خلال بعض المصالح الآنية التي فرضت ذلك عليكم.. ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: انتهت العدة، فلم يعد لكم حق شرعي في الرجوع بطريقة تلقائية، ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وتمنعوهن عن العودة إلى الزواج من جديد، ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ استجابة للرغبة النفسية التي عاشتها المرأة وعاشها الرجل بعد تجربة الطلاق الذي شعرا فيه أنهما لا يستغنيان عن بعضهما، وأن ما حدث لهما كان صدمة لهما هزت أعماقهما، فرأيا أن الانفصال ليس من مصلحتهما، وذلك ﴿إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وأرادوا الدخول في ميثاق جديد وشروط جديدة، تمنح العلاقة الزوجية قوة وثباتا وصلابة حتى لا تهتز بفعل الحالات الطارئة، كما حدث سابقا، فإن التجربة الصعبة قد أعطتهما درسا جديدا للمستقبل.
3. قد نستوحي من الآية، أن القضية لا تقتصر على التحذير من المنع، بل تتعداه إلى التشجيع على العودة، فإن النهي عن شيء قد يختزن في داخله الدعوة إلى الأخذ بالخيار الآخر، باعتبار أن الله يريد للإنسان أن يستفيد من تجربته، فيتراجع عن الخطأ الذي وقع فيه، لا سيما في مسألة الزواج والطلاق التي قد تكون لها علاقة بالحياة الروحية والعملية للزوجين، بحيث يتحول الطلاق إلى عقدة نفسية لدى أي واحد منهما، أو أزمة عملية، أو يؤدي إلى مشاكل صعبة في أوضاعهما الخاصة والعامة، أو يترك تأثيره على أولادهما الذين قد يتعرضون للضياع أو للتعقيد النفسي أو للسقوط في أوحال الجرائم الاجتماعية، مما يجعل من العودة إلى الحياة الزوجية ضرورة نفسية وعملية.
4. خلاصة النداء، أن على هؤلاء أن لا يمنعوا المطلقات من العودة إلى أزواجهن من جديد بالعقد بعد العدة إذا تراضوا بينهم بالمعروف، بل يتركون لهن الحرية في ذلك، لأن القضية هي قضيتهن الخاصة المتعلقة بحياتهن الحاضرة والمستقبلة، فمن حقهن أن يملكن الإرادة في ما يريدون وما لا يردن.
5. ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وتلك هي موعظة الله لمن يخافون الله ويخافون حساب الآخرة، انطلاقا من الإيمان بالله واليوم الآخر الذي يدفع الإنسان إلى التفكير في الأمور من خلال الآفاق الرحبة التي تتجاوز الزوايا الضيقة التي تحاصره، فتضعه في دائرة معزولة عن الأفق الواسع، فإن قيمة الإيمان بالله، أنه يدفع الإنسان للتفكير بالأشياء من خلال ما يحبه الله له في حياته، لأنه الأعلم بما يصلحه ويفسده، أما قيمة الإيمان باليوم الآخر، فتتمثل في الرغبة في الحصول على ثواب الله والابتعاد عن عقابه، من خلال ما يأخذ به أو يترك من الأقوال والأعمال والمواقف والعلاقات.
6. ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ فهو الذي يحقق لكم التوازن النفسي والعملي، ويربطكم بالواقع الذي تتحركون فيه، لتنظروا إليه من خلال حركة النمو الروحي في وجدانكم بما يفتح لكم من الآفاق الواسعة التي تتحسس النتائج الإيجابية في الأمور من أكثر من موقع، ومن خلال الطهارة الفكرية والعملية التي تجعلكم تبتعدون عن كل قذارات الجاهلية في أنانياتها وعصبياتها وآفاقها الضيقة وعنفوانها الكاذب.
7. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ كل أسرار الحياة الخفية الكامنة في الواقع الفردي والاجتماعي للناس، فيأمركم وينهاكم تبعا لذلك، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ حقائق الأشياء، فتتحركون من خلال الحالة الانفعالية الضبابية التي تحجب عنكم وضوح الرؤية للأشياء، فتتخبطون في مشاكلكم من خلال الجهل الضاغط على حياتكم كلها، وبذلك يتحقق لهم النمو والطهارة بشكل أفضل وأعلى، لأن ذلك يحفظ للمجتمع شرفه وعفته وانسجامه مع خطه المستقيم في الحياة، بينما يستلزم الضغط والمنع عن ممارسة الحق الطبيعي للإنسان في تقرير مصيره في الوقوع في الانحراف، فلا بد للإنسان من الالتزام بتوجيهات الله ووصاياه وتعاليمه، لأنه الذي يعلم مصلحة الإنسان أكثر مما يعلمها الإنسان نفسه.
8. إذا كانت هذه الآية تتحدث عن المنع من عضل النساء في العودة إلى أزواجهن من جديد، فإن هذه المسألة ليست هي كل شيء في خط الفكرة، بل هي جزء من الخط العام الذي يمنح المرأة الحرية في الاختيار بما يتصل بحياتها الخاصة، فليس لأحد من أقربائها، ولا لأي شخص من رموز المجتمع، ولا للمجتمع نفسه، الحق في الضغط على حريتها في اختيار ما تريد، لأنها إنسان كامل في عقله، ومستقل في قراره، وحر في إدارة شؤونه الذاتية والمالية والاجتماعية.. فلا سلطة لأحد عليه، إلا بالحق المنفتح على شريعة الله في أوامره ونواهيه.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/321.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو (معقل بن يسار) يعارض زواج أخته (جملاء) من زوجها الأوّل (عاصم بن عدي) لأنّ عاصما كان قد طلّقها من قبل، ولكن بعد انقضاء العدّة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد، فنزلت الآية ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج، وقيل إنّ الآية نزلت في معارضة (جابر بن عبد الله) زواج ابنة عمّه من زوجها السابق، وربّما كان حقّ المنع هذا يعطي في الجاهليّة للأقربين.
2. لا شكّ أنّ الأخ وابن العمّ لا ولاية لهما ـ في فقهنا(2) ـ على الاخت وابنة العم، إلّا أنّ هذه الآية تتحدّث عن حكم عام يشمل الأولياء وغير الأولياء، وتقول أنّه حتّى الأب والأم وابن العم، وكذلك الغرباء لا حقّ لهم في الوقوف بوجه هذا الزواج.
3. ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كن تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهنّ ورأيهنّ، واختيار الزوج كان واحدا من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أيّ تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجا رسميا ثمّ تطلّق لم يكن لها حقّ الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطا برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمّة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجيّة بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعا لمصالحهم أو لتخيّلاتهم وأوهامهم.
4. القرآن الكريم أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحقّ، إذ أنّ الزوجين ـ وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى اتفاق بالعودة بعد الانفصال ـ يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حقّ الاعتراض عليهما، تقول الآية ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من الرجال الأقارب، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأوّل، بمعنى أنكم إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدّد مع رجال آخرين، حيث إن بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين، وما ذلك سوى نزعة جاهلية فحسب.
5. في الآية السابقة (بلوغ الأجل) يعني بلوغ أواخر أيام العدّة، ولكن في هذه الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدّة، بقرينة الزواج المجدّد، فالغاية في الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.
6. يتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات ـ أي اللّواتي سبق لهنّ الزواج ثمّ طلّقن أو مات أزواجهنّ ـ إذا شئن الزّواج ثانية فلا يلزمهنّ موافقة أوليائهنّ أبدا.
7. ثمّ تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ثمّ من أجل التأكيد أكثر تقول: ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الّذين ينتفعون بها هم الّذين لهم أساس عقائدي من الإيمان بالله والمعاد ولا يتبّعون أهوائهم، وبعبارة أخرى أنّ هذه الجملة تقول: أنّ نتيجة العلم بهذه الأحكام يصبّ في مصلحتكم، لكنّكم قد لا تدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلّة معارفكم، والله هو العالم بكلّ الأسرار، ولذلك قرّر هذه الأحكام وشرّعها لما فيها من تزكيتكم وحفظ طهارتكم.
8. الجدير بالذّكر أنّ الآية تشير إلى أنّ العمل بهذه الأحكام يستوجب: (التزكية) و(الطهارة) فتقول ﴿أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ يعني أنّ العمل بها يطهّر أفراد العائلة من مختلف الأدناس والخبائث، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل المعنوي، لأنّ (التّزكية) في الأصل (الزّكاة) بمعنى النمو.
9. ذكر بعض المفسّرين إنّ جملة ﴿أَزْكَى لَكُمْ﴾ تشير إلى الثواب المترتّب على الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطّهارة والنّقاء من الذّنوب، ومن البديهي أنّ الزّوجين بالرّغم من كلّ تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا بسبب بعض الحوادث المؤسفة، ولكن بعد الانفصال والفرقة ومشاهدة الآثار الوخيمة المترتّبة على هذه الفرقة يندمان ويصمّمان على العودة إلى الحياة المشتركة، وهنا لا ينبغي التشدّد والتعصّب لمنع عودتهما لأنّ ذلك يخلّد آثارا سلبيّة وخيمة في روحيّة كلّ منهما، وقد يؤدّي إلى انحرافهما وتلوّثهما بالرّذيلة، وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإنّ مصيرهم سوف يكون تعيسا جدّا، ومسئوليّة هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزّوجين من المصالحة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/172.
(2) يقصد الإمامية.
107. من أحكام الرضاعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈107⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 233]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٠٤.
الإمام علي:
روي عن أبي الأسود الديلي: أن عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر، فهمّ بإقامة الحد عليها، فبلغ ذلك عليا (ت 40 هـ)، فقال: ليس عليها حد؛ قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، وستة أشهر، فذلك ثلاثون شهرا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٨.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه، لا أن تزيد عليه، إلا أن يشاء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾: لا تدعنه ورضاعه من شنآنها؛ مضارة لأبيه، ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها(2).
3. روي أنّه قال في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه على نفقته: نعم، ينفق عليه حتى يدرك(3).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢١٧٣.
(2) ابن جرير: ٤/٢١٨.
(3) ابن جرير: ٤/٢٢٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ لا رضاع إلا في هذين الحولين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ فجعل الله الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه لم يترك له مالا(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ألا يضار(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ فجعل الله الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ﴾: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾: فلا حرج عليهما(2).
6. روي أنّه أتي عثمان بامرأة ولدت في ستة أشهر، فأمر بإقامة الحد عليها، فقال ابن عباس: إنها إن تخاصمك بكتاب الله تخصمك؛ يقول الله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، ويقول الله في آية أخرى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥]، فقد حملته ستة أشهر، فهي ترضعه لكم حولين كاملين، فدعا بها عثمان، فخلى سبيلها(5).
7. روي أنّه قال في التي تضع لستة أشهر: إنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت أحدا وعشرين شهرا، ثم تلا: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥](6).
8. روي أنّه قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم، وأنشأ العظم(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٠٥.
(2) ابن جرير: ٤/٢٠٢.
(3) ابن جرير: ٤/٢٣٠ ـ: ٢٣١.
(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٣.
(5) عبد الرزاق في مصنفه: ١٣٤٤٧.
(6) ابن جرير: ٤/٢٠١.
المزني:
روي عن بشير بن النضر المزني (ت 70 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ الوارث هو الصبي(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٢٦.
ابن عتبة:
روي عن عبد الله بن عتبة (ت 73 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ الرضاع(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٢٨.
ابن معقل:
روي عن عبد الله بن معقل (ت 88 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ نفقة الصبي من نصيبه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ هو الرجل يطلق امرأته وله منها ولد، فهي أحق بولدها من غيرها، فهن يرضعن أولادهن(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، يعني: يكمل الرضاعة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ يعني: الأب الذي له ولد: ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ يعني: رزق الأم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ يقول: لا يحمّل الرجل امرأته أن يضارها، فينتزع ولدها منها، وهي لا تريد ذلك، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يعني: الرجل يقول: لا يحمّلن المرأة إذا طلقها زوجها أن تضاره؛ فتلقي إليه ولده مضارة له(4).
5. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ يعني: الأبوين؛ أن يفصلا الولد عن اللبن دون الحولين، ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾ يقول: اتفقا على ذلك(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: لا حرج على الإنسان أن يسترضع لولده ظئرا، ويسلم لها أجرها، ولا كسوة لها ولا رزق(6).
7. روي أنّه قال: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ لأمر الله، يعني: في أجر المراضع: ﴿مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقول: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها(6).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٨.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٩.
(3) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٩ ـ: ٤٣٠.
(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣١.
(5) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٣ ـ: ٤٣٤.
(6) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٥.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يجبر الرجل إذا كان موسرا على نفقة أخيه إذا كان معسرا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على الوارث ما على الأب إذا لم يكن للصبي مال، وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه فعليه النفقة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على الوارث ما على الأب من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال(3).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن جرير: ٤/٢٢٤.
(3) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين؛ فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ لا تضار أم بولدها، ولا أب بولده يقول: لا تضار أم بولدها، فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا، أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتا، ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها، ولا ينتزعه(3).
4. روي أنّه قال: إن مات أبو الصبي وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، فإن لم يكن للعصبة مال أجبرت عليه أمه(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ يعني بـ: ﴿الْوَارِثِ﴾: الولد الذي يرضع(4).
6. روي أنّه قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان، ويجبران على ذلك، فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع فإنه يعرض على الصبي المراضع، فإن قبل مرضعا صار ذلك وأرضعته، وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته، فإن لم يكن له مال ولا لعصبته أكرهت على رضاعه(5).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٠٦.
(2) ابن جرير: ٤/٢١١.
(3) ابن جرير: ٤/٢١٦.
(4) ابن جرير: ٤/٢٢٧.
(5) ابن جرير: ٤/٢٤١.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ لا يضار، ولا غرم عليه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٣٢.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ المطلقات: ﴿حَوْلَيْنِ﴾ قال سنتين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ ثوب تصلي فيه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ يقول: لا تأبى أن ترضعه ضرارا؛ لتشق على أبيه، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يقول: ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه؛ ليحزنها بذلك(1).
4. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ يعني: الولي من كان(1).
5. روي أنّه قال: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ النفقة بالمعروف، وكفله، ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال، وأن لا تضار أمه(1).
6. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على وارث الصبي أن يسترضع له مثل ما على أبيه(3).
7. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ غير مسيئين في ظلم أنفسهما، ولا إلى صبيهما؛: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾(1).
8. روي أنّه قال في الآية: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى(4).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص٢٣٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٠.
(3) الدرّ المنثور: [عيينة] سفيان بن عيينة (ت 198 هـ).
(4) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ ذلك إذا طلقها، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها، وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق إذا كان إنسانا مسكينا؛ فتقذف إليه ولده(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ ليس للوالد أن يضار بولده والدته، فيأمرها أن تفطمه قبل تمام رضاعه حولين كاملين ـ كما قال الله تعالى ـ وهي تريد أن تتم رضاعه، وليس له أن ينتزع ولده من أمه ضرارا لها، ويسترضع له غيرها على كره منها، وهي تريد رضاعه، وهي أشفق على ولدها، وأحسن له غذاء(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ كان يلزم الوارث نفقة الصبي إذا لم يكن له مال على وارثه(3).
4. روي أنّه قال: إذا توفي الرجل وامرأته حامل فنفقتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته قال وكان يتأول قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على الرجال(4).
5. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾: على الوارث رضاع الصبي، وليس عليه نفقة الحبلى(5).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢١٦.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٢.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(4) ابن جرير: ٤/٢٢٣.
(5) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٣.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ): أن امرأة جاءت تخاصم في نفقة ولدها وارث ولدها إلى عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقضى بالنفقة من مال الصبي، وقال لوارثه: ألا ترى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾!؟ ولو لم يكن له مال لقضيت بالنفقة عليك(1).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢١٨٥.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾: على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على وارث المولود إذا كان المولود لا مال له مثل الذي على والده من أجر الرضاع(3).
4. روي أنّه قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال ـ تعالى ذكره ـ: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(5).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٢٥.
(2) ابن جرير: ٤/٢٣١.
(3) عبد الرزاق: ١٢١٨٣.
(4) ابن جرير: ٤/٢٤٣.
(5) ابن جرير: ٤/٢٠٥.
حماد:
روي عن حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) أنّه قال: يجبر على كل ذي رحم محرم(1).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، يعني: الوالدات المطلقات أحق برضاع أولادهن إذا قبلن ما يعطي غيرهن من الأجر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ إلى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها، وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها(1).
3. روي أنّه قال: نهى الله أن تضار والدة بولدها، وذلك أن تقول الوالدة: لست مرضعته، وهي أمثل له غذاء، وأشفق عليه وأرفق به من غيرها، فليس لها أن تأبى، بعد أن يعطيها من نفسه ما جعل الله عليه، وليس للمولود له أن يضار بولده والدته، فيمنعها أن ترضعه ضرارا لها إلى غيرها، فلا جناح عليهما أن يسترضعا عن طيب نفس الوالد والوالدة، ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها، وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها، ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾: مثل الذي على الوالد في ذلك(3).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢١٧.
(2) ابن وهب في جامعه كما في الفتح: ٩/٥٠٥.
(3) ابن جرير: ٤/٢٣٢.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ لا ينزع الرجل ولده من امرأته، فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به، ولا تضار والدة بولدها فتطرح الأم إليه ولده تقول: لا أليه، ساعة تضعه، ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ على وارث الولد(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إن قالت ـ يعني: الأم ـ: لا طاقة لي به؛ فقد ذهب لبني، فتسترضع له أخرى، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت(3).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢١٧.
(2) ابن جرير: ٤/٢٢١.
(3) ابن جرير: ٤/٢٤١ ـ: ٢٤٢.
ربيعة الرأي:
روي عن ربيعة الرأي (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿الْوَارِثِ﴾: الولي لليتيم ولماله مثل ذلك من المعروف، يقول في صحبة الوالدة: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يقول: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ يقول: فيما ولي الولي؛ إن أقره عند أمه أقره بالمعروف فيما ولي من اليتيم وماله، وإن تعاسرا وتراضيا على أن يترك ذلك يسترضعه حيث أراه الله، ليس على الولي في ماله شيء مفروض، إلا من احتسب(1).
__________
(1) المدونة للإمام مالك: ٢/٢٦٦.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ إنها المرأة تطلق، أو يموت عنها زوجها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ هو ولي الميت(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: أبي داوود في ناسخه.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك، فقال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٤٤.
(2) ابن جرير: ٤/٢٠٦.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (لا رضاع بعد فطام)، قيل: جعلت فداك، وما الفطام؟ قال (الحولان اللذان قال الله عز وجل: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾)(1).
2. روي أنّه قال: ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين، إن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن، والفصال: الفطام(2).
3. روي أنّه قال: الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهرا، فما نقص عن أحد وعشرين شهرا فقد نقص المرضع، وإن أراد أن يتم الرضاعة فحولين كاملين(3).
4. روي أنّه قال: الرضاع واحد وعشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي(4).
5. روي أنّه قال: الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها وهي أحل بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة أخرى، يقول الله عز وجل: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233].. لا يضار بالصبي ولا يضار بأمه في رضاعه، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين فإذا أرادا الفصال عن تراض منهما كان حسنا، والفصال هو الفطام(5).
6. روي أنّه قال: الحبلى المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها، وهي أحق بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى إن الله عز وجل يقول: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.. فنهى الله عز وجل أن تضار المرأة الرجل، وأن يضار الرجل المرأة، وأما قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ فإنه نهى أن يضار بالصبي، أو يضار أمه في الرضاعة، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين، وإن أرادا فصالا عن تراض منهما قبل ذلك، كان حسنا، والفصال: هو الفطام)(6).
7. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، فقال: كانت المراضع مما تدفع إحداهن الرجل إذا أراد الجماع، تقول: لا أدعك، إني أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي هذا الذي أرضعه، وكان الرجل تدعوه المرأة، فيقول: أخاف أن أجامعك، فأقتل ولدي، فيدعها ولم يجامعها، فنهى الله عز وجل عن ذلك، أن يضار الرجل المرأة، والمرأة الرجل(7).
8. روي أنّه قال في رجل مات وترك امرأته ومعها منه ولد، فألقته على خادم لها، فأرضعته، ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصي، فقال: (لها أجر مثلها، وليس للوصي أن يخرجه من حجرها حتى يدرك، ويدفع إليه ماله)(7).
9. روي أنّه قال: لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة فيضارها، إذا كان لها ولد مرضع، ويقول لها: لا أقربك، فإني أخاف عليك الحبل فتقتلين ولدي، وكذلك المرأة لا يحل لها أن تمتنع على الرجل، فتقول: إني أخاف أن أحبل فأقتل ولدي فهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة(8).
10. روي أنّه قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ (ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية، فإذا فطم فالوالد أحق به من الام، فإذا مات الأب فالام أحق به من العصبة، وإن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، وقالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم، فإن له أن ينزعه منها، إلا أن ذلك أجبر له وأقدم وأرفق به أن يترك مع امه(9).
11. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، قال: الجماع(9).
12. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، قال: لا ينبغي للوارث أيضا أن يضار المرأة، فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، ويضار ولدها إن كان لهم عنده شيء، ولا ينبغي له أن يقتر عليه(10).
13. روي أنّه قال: المطلقة ينفق عليها حتى تضع حملها، وهي أحق بولدها أن ترضعه مما تقبله امرأة اخرى، إن الله يقول: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ إنه نهى أن يضار بالصبي، أو يضار بأمه في رضاعه، وليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين، فإن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما، كان حسنا، والفصال: هو الفطام(10).
__________
(1) الكافي: 5/443.
(2) التهذيب: 8/105/355.
(3) التهذيب: 8/106/358.
(4) الكافي: 6/40/3.
(5) من لا يحضره الفقيه: 3/329/1594.
(6) الكافي: 6/103.
(7) الكافي: 6/41.
(8) تفسير القمّي: 1/76.
(9) تفسير العيّاشي: 1/120.
(10) تفسير العياشي: 1/121.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾: الأب الذي له ولد، ﴿رِزْقُهُنَّ﴾: رزق الأم، ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ على قدر ميسرته(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما أعطيتم الظئر من معروف مع الأجر، فيزيدها فوق أجرها، فلا بأس(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٢٩.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ إذا طلق امرأته وله ولد رضيع ترضعه أمه فعلى الأب رزق الأم والكسوة، ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، يعني: إلا ما أطاقت من النفقة، والكسوة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ لأمر الله في المراضع: ﴿مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقول: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها(2).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٧.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٨.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء: ما قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾؟ قال وارث المولود مثل ما ذكر الله، قلت: أيحبس وارث المولود إن لم يكن للمولود مال بأجر مرضعته، وإن كره الوارث؟ قال أفيدعه يموت!؟(1).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه: ٧/٥٩.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ألا يضار، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة(2).
3. روي أنّه قال: التشاور ما دون الحولين إذا اصطلحا دون ذلك، وذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾، فإن قالت المرأة: أنا أفطمه قبل الحولين، وقال الأب: لا، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين، وإن لم ترض الأم فليس له ذلك حتى يجتمعا، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين، وذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف، يعني: إلى من استرضع للمولود إذا أبت الأم رضاعه(4).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢١٢.
(2) ابن جرير: ٤/٢٣٢.
(3) ابن جرير: ٤/٢٠٣.
(4) ابن جرير: ٤/٢٤١.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: لا يلزم نفقة أخ، ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه، قال وقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو منسوخ(1).
__________
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ت: اللاحم، ٢/٦٣ ـ ٦٤.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): وسألت عن: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، وقد قال بعض الناس في ذلك: وعلى الوارث في ذلك ألا يضار؛ وليس قول من قال بذلك حجة فيما قال ببينة ولا إسفار.. وقال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيرهما: على وارث اليتيم إذا لم يكن له مال الاسترضاع له، والكسوة والإنفاق، والوارث الذي أمر بالنفقة هو: من يرث اليتيم إن مات بالقرابة، وليس هو بالزوج ولا الزوجة(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/108.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ معنى ذلك أنه لا يضار الزوج الأم إذا كان قد فارقها، فيمنعها من رضاع ابنها، ويحرمها جعل مثلها؛ بل الواجب عليه أن يتركها وإياه ترضعه، ويكون لها جعل مثلها في رضاعه، وكذلك لا يجوز لها هي أن تضار أباه فيه، فترمي به إليه ساعة تلده، ولا تلبيه، ولا تسقيه، إلى أن توجد له مرضعة، وكذلك على الوارث: أن لا يضار أم الولد فيه، وعليه من مؤونة الصبي ونفقة مرضعته مثل ما على أبيه لو كان حيا، واجبا ذلك عليه، محكوما به فيه.
2. حدثني أبي عن أبيه في قول الله تبارك وتعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، قال: على وارث الصبي الذي يرثه إذا مات أبوه ما على أبيه من نفقته على مرضعته، والمضارة في الولد من الوالدة: ألا ترضعه، وهي قوية على إرضاعه؛ مضارة لأبيه في ذلك، وعلى الاب أيضا: ألا يضار الوالدة إذا أرادت أن ترضع ولدها، فيسترضعه من غيرها، وعلى الوارث مثل ذلك، من: ترك المضارة في الولد مثل الذي على الوالدين في ذلك، وغيره من النفقة.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/108.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾:
أ. قال بعضهم: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ هن المطلقات، يرضعن أولادهن، وهو كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6]، ذكر هاهنا الأجر، وذكر هناك الرزق والكسوة، وهما واحد.
ب. وقال آخرون: لا، ولكن قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ هن المنكوحات، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ هن المطلقات، دليل ذلك: ذكر الأجر في أحدهما، والرزق والكسوة في الأخرى، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه لم يستوجب الأجر، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة؛ فدل هذا على أن ذكر الأجر في المطلقات، وذكر الرزق والكسوة في المنكوحات.
2. سؤال وإشكال: ما فائدة ذكر الرزق والكسوة في المنكوحة في الرضاع، وقد يستوجب ذلك في غير الرضاع؟ والجواب: فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع؛ ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك!؟ فثبت أن لها فضل حاجة في حال الرضاع ما لا يقع لها تلك الحاجة في غير حال الرضاع؛ فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه ذكر تلك الزيادة والفضل.
3. فى القرآن دليل أن مئونة الرضاع على الأب من أوجه:
أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6].
ب. الثاني: قوله عزّ وجل: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
ج. الثالث: قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾
فثبت أنه حق على الوالد إلى أن ذكر فيه إيتاء الأجر.
4. في القرآن الكريم دلالة على أن شرط الطعام والكسوة للظئر يجوز بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ غير أن الكسوة لا تجوز إلا بإعلام الجنس، والطعام يجوز؛ لأن الظئرة تكسى كسوة الأهل وتطعم طعامهم، فلا بد في الكسوة من إعلام جنسه، إذ لا يجوز أن تكون كسوة واحدة لها وللأهل، ويجوز في الطعام ذلك؛ لأن الكسوة ليست بذي غاية تعرف، فاحتيج إلى ذكر الجنس ليقع في حد قرب المعرفة والعلم، وأما الطعام فهو ذو غاية عند الناس غير متفاوت ولا متفاضل عندهم؛ لذلك جاز هذا، ولم يجز الآخر إلا أن يعلم الجنس، فإذا علم الجنس فحينئذ يصير عندهم كالطعام.
5. دل على جوازه قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي مثل ما على المولود له، ويكون ذلك بعد موته؛ لذلك يجوز شرط الكسوة والطعام في الرضاع.
6. قوله تعالى: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ ليس فيه جعل الحولين شرطا في الرضاع لوجوه:
أ. أحدها: قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ فلو لم يحتمل الزيادة والنقصان لم يكن لقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ معنى.
ب. الثاني: الإرادة والقدرة ربما تذكر على غير إرادة وقدرة في الحقيقة، ولكن على إرادة حقيقة الفعل، دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أراد الحج فليفعل كذا، ومن استطاع أن يفعل كذا فليفعل)، ليس ذلك على حقيقة القدرة والإرادة، ولكن هذا على معنى: (من فعل كذا فليفعل كذا)؛ فكذلك الأول ليس على حقيقة الإرادة، ولكن تذكر ذلك لما لم يكن الفعل إلا بقدرة وإرادة، والله أعلم.
ج. الثالث: لا يخلو (الحولين) من أن يقدر بالأهلة فقد ينتقص عن سنتين، أو أن يقدر بالأيام فقد يزداد على المعروف من الوقت؛ فثبت أنه بحيث الاحتمال لما ذكرنا؛ إذ يحتمل ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ أن يزيد حتى يتم، أو ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ أن يقتصر على التمام، على أن الآية ليست في حق الحرمة، لكنها في حق الفعل؛ إذ قد يجب الحرمة لا بحولين، وروى عن ابن عباس، في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15]، وقوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: 14]: إن كان الحمل ستة أشهر، ففصاله في عامين، وإن كان الحمل تسعة أشهر، فيقدر الباقي؛ فدل هذا على أن (الحولين) ليسا بشرط في الفطام، ولا وقت له، لا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان.
7. ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل وجهين: قيل: إنه في المطلقة، وقيل: إنه في المنكوحة، وقد دللنا على أنه في المنكوحة.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾:
أ. قال قوم: قوله تعالى: ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ إلا ما يسع ويحل، لكن هذا لو كان على ما ذكر لكان بالأمر يحل ويسع، فكان كأنه قال لا نكلف إلا ما نكلف، وذلك لا يكون.
ب. وقال قوم: ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعنى: طاقتها وقدرتها، وهذا أشبه، ومعناه: لا يكلف الزوج بالإنفاق عليهما والكسوة إلا ما يحتمل ملكه وإن كانت حاجاتها تفضل عما يحتمله ملكه، لم يفرض عليه إلا ما احتمله ملكه كقوله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7].
9. اختلف في تحريم الرضاع في حال الكبير:
أ. قال قوم: يحرم، ورووا في ذلك أحاديث.
ب. قال أصحابنا(2): لا يحرم، وذهبوا في ذلك إلى:
• الآثار رويت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه صلّى الله عليه وآله وسلم سئل عن الرضاع، فقال: (ما أنبت اللحم وأنشز العظم)، وفى بعضها عنه: (لا رضاع بعد حلم، ولإرضاع بعد فصال)، وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس، أنهما قالا: لا رضاع بعد الحولين، وعن على وابن مسعود، أنهما قالا: لا رضاع بعد الفطام أو الفصال، الشك منا، وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار: أنه دخل على عائشة، فرأى معها رجلا، فرأت عائشة، الكراهة في وجهه، فقالت: (إنه أخي من الرضاعة أو عمى)، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (انظرن من إخوانكن، ما الرضاعة؟ إنما الرضاعة من المجاعة)، وروى عن أبى موسى الأشعري: أن رجلا قال له: إن امرأتي أرضعتني، أتحرم على؟ فقال: نعم، فبلغ ذلك ابن مسعود، فأتاه، فقال له: أأنت تفتى بكذا؟ فقال: نعم، فقال: كذبت، أو كلام نحو هذا؛ إنما الرضاعة من المجاعة، فإذا كان غذاؤه بالطعام سوى اللبن، فالطعام هو الذي ينبت اللحم وينشز العظم، فلم يحرم.
• ثم الأصل: بأن كل مذكور على الكمال والتمام لا يمتنع عن احتمال الزيادة والنقصان، دليله قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع فقد تم حجه)، وقوله: (إذا فعلت هذا فقد تمت حجتك)، وقوله: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، وصفهما بالتمام والحرمة باقية.
10. قدّر أبو حنيفة الزيادة بستة أشهر، ذهب في ذلك إلى أن الفطام ربما يعترض ويعترى في حال ـ وهو حال الحر والبرد ـ ما لو منع الرضاع منه لأورث هلاك الصبى وتلفه، لما لم يعود بغيره من الطعام، ففيه خوف هلاكه، فإذا كان فيه خوف هلاكه، لما ذكرنا، استحسن أبو حنيفة، إبقاءها بعد الحولين لستة أشهر، إذ على هذين الحالين تدور السنة، وقال زفر: بزيادة سنة، ذهب في ذلك إلى أنه لما جاز أن يزاد بالاجتهاد على حولين بستة أشهر، جاز أن يزاد بالاجتهاد على الحولين بسنة.. وعلى ما زيد على المذكور من الحبل مثل أقل وقت الرضاع، يزاد على المذكور من الرضاع مثل أقل الحبل، أو لما احتمل الأقل الانتقال إلى الوسط يحتمل الوسط الانتقال إلى الأكثر، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ﴾
11. قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ في ترك الإنفاق عليهما.
ب. ويحتمل: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ في انتزاع الولد منها، وهى تريد إمساكه.
12. قوله تعالى: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ كذلك يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: لا يضار الوالد بولده في ردها الولد عليه ورميه إليه بعد ما ألف الولد الأم.
ب. ويحتمل: لا يضار الوالد في تحميل فضل النفقة عليه وملكه لا يحتمل ذلك، بل إنما يحمل عليه ما احتمله ملكه.
13. فى قوله تعالى: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ دليل أنه إنما يسمى (الوالد) على المجاز، ليس على التحقيق؛ لأنه لم يلد هو، إنما ولد له؛ فثبت أن الرجل يستحق اسم الفعل بفعل غيره، وكل معمول له يستحق اسم الفاعل وإن لم يعمل هو، نحو ما سمى (والدا)، وإن لم يلد هو، وإنما ولد له، ففيه دلالة أن من حلف: (لا يعتق)، و(لا يطلق) فأمر غيره، ففعل، حنث وجعل كأنه هو الفاعل.
14. اختلف في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قال بعضهم: هو معطوف على قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ معناه: ألا يضار الوارث أيضا باليتيم.
ب. وقال آخرون: هو معطوف على الكل: على النفقة، والكسوة، والمضارة.
ج. وقال غيرهم: هو راجع إلى النفقة والكسوة دون المضارة، وهو قولنا؛ لوجهين: أحدهما: أن نسق الكلام إنما هو على قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فنسقه على حرف (على) أولى من نسقه على حرف (لا)، ليصح، إذ الإنفاق؛ فثبت أن حمله عليه أحق.
15. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾:
أ. قال بعضهم: أراد (بالوارث) الوالد، والأم، والجد، ولا يدخل ذو الرحم المحرم فيه، ذهبوا في ذلك إلى ما روى عن ابن عباس، أنّه قال ذلك.
ب. أما أصحابنا، ذهبوا إلى ما روى عن عمر، أنه أوجب النفقة على العم، وقال: لو لم يبق من العشيرة إلا واحد لأوجبت عليه النفقة، وروى أيضا عن زيد بن ثابت، أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ النفقة على كل ذي الرحم المحرم على قدر مواريثهم، فاتبعنا الصحابة في ذلك، وفى الكتاب دليل وجوب النفقة على المحارم، قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ [النور: 61]، فإنما يأكل بحق، لا بالرضاء، ألا ترى أنه يأكل من بيت الأجنبي إذا بذل ورضى، فلو لم يكن أكله من بيت هؤلاء بحق لم يكن للتخصيص فائدة، فإن عورض (بالصديق)، أنه لا يفرض عليه قيل: لما أنه لو فرض عليه لانقطعت الصداقة بينهما.
16. سؤال وإشكال: كيف لا أوجبت النفقة على كل وارث على ظاهر الآية؟ والجواب: الآية مخصوصة بالإنفاق؛ لأن المرأة وارثة، ولا تفرض عليها نفقة الزوج؛ دل أنه أراد وارثا دون وارث، وهو الوارث من الرحم المحرم.
17. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ قيل: فإن أراد الأبوان فصال الصبى وفطامه بدون الحولين ليس لهما إلا بتراضيهما جميعا واتفاقهما على ذلك، وأما بعد تمام الحولين فإنه إذا أراد أحدهما الفصال دون الآخر يفصل وأصله واحد بأن الفصال بعد الحولين فصال على التمام والكمال فجاز أن يفصل اذا أراد أحدهما، وأما الفصال قبل الحولين فصال عن غير تمام ذكره الكتاب، فلا يفصل إلا باجتماعهما واتفاقهما على ذلك، وأما ما بعد الحولين هو على تمام النص، فجاز ذلك لرأى واحد منهما، وما قبله لا يجوز إلا لرأيهما جميعا، وأصله: أنه بالحولين قد ظهر التمام والكفاية، ثم بالنص، وما دونه يعلم بالاجتهاد، وعند التنازع يزول موضع بيان الصواب فيرد إلى الحد المذكور، مع ما في القرآن للتمام ذكر إرادة الفرد، وللفصل التشاور.
18. ثم إن الزوجين يحكمان عن أنفسهما برضاع ولدهما لذلك يحتج إلى نظير غيرهما، ولا إلى رأى آخر، لما لا يجوز أن يعدم شفقتهما جميعا عن ولدهما، وأما إذا كان الحكم لغيرهما أو على غيرهما فلا بد من أن يحكم غيره، دليله: قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]، وكقوله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]، فهذا الحكم على غيرهما؛ ولذلك احتيج إلى غيرهما؛ وذلك الزوجان يحكمان على أنفسهما وينظران لولدهما؛ لذلك افترقا.
19. (الجناح) و(الحرج) واحد: وهو الضيق، ومعناه: أي لا ضيق ولا تبعة عليهما، ولا إثم إذا أرادا فطامه بدون الحولين.
20. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فيه دلالة جواز الرضاع بعد الحولين وحرمته؛ لأنه ذكر في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ بتراضيهما بدون الحولين.
21. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ يصير استرضاعا بعد الحولين إذ ذكر الرضاع في الحولين بقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وذكر الفصال بدون الحولين بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾، فحصل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ بعد الحولين، وهذا يدل لقول أبى حنيفة، ويقوى مذهبه، ويحتمل: أن تكون الآية في جواز استرضاع غير الأمهات إذا أبت الأم رضاعه؛ وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6].
22. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ يعنى إذا سلمتم الأمر لله تعالى، ﴿مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي قبلتم، ليس هو على الإيتاء، ولكن على القبول، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5] ليس هو الإيتاء نفسه، ولكنه على القبول كأنه قال فإن تابوا وقبلوا إقامة الصلاة وعهدوا إيتاء الزكاة فخلوا سبيلهم، فعلى ذلك الأول.
23. ﴿آتَيْتُمْ﴾ أي قبلتم إيتاء ما عهدوا وهو الأجر، وقد يكون ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ أي عقدتم عقد الإيتاء؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والعطية عقدتم التسليم عليه، وذلك دليل لقول من يفرق بين قوله: أعطيتنى كذا، فلم أقبضه، وسلمتني فلا أقبضه.
24. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي فيما أمركم من الإنفاق، والكسوة، ونهاكم من إضرار أحدهما صاحبه، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وهو وعيد على ما سبق من الأمر والنهى.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/177.
(2) يقصد الحنفية.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ والحول السنة وهو مأخوذ من قولهم: حال الشيء إذا انقلب لانقلابه عن الوقت الأول ومنه استحال الكلام لانقلابه عن الصواب، وإنما قال حولين كاملين لأن العرب تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين أي حولاً وبعض آخر، وأقام يومين أي يوماً وبعض آخر، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي تعجل في يوم وبعض آخر.. وهذا حكم في رضاع الولد إذا اختلف والداه في إرضاعه أي يرضع حولين كاملين.
2. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ والمولود له الأب عليه في ولده لمن يرضعه الكسوة والنفقة وقوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي على قدر اليسار والإعسار ثم قال ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ أي لا تمتنع من إرضاعه إضراراً بالأبـ ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي الأب لا يضار بولده أي لا ينتزع الولد من أمه ضراراً بها ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي على وارث الولد يعني أولياءه وعصبته مثل ما كان على أبيه من القيام وطلب صلاحه والإنفاق عليه بالمعروف وتأديبه والأولياء في ذلك يقومون مقام الآباء.
3. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ والفصال الفطام وسمي فصالاً لانفصال الصبي عن ثدي أمه، وقولهم: فاصل فلان فلاناً إذا فارقه بعد خلطة والتشاور استخراج الرأي بالمشورة، وزمان الانفصال قبل الحولين فإن رضي الأبوين بذلك جاز وإن رضي أحدهما لم يجز.
4. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ فحذف اللام اكتفاء بدلالة الكلام وهذا عند امتناع الأم من إرضاع ولدها فلا جناح عليه أن يسترضع له ظئراً غيرها ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل الامتناع منهن، ويحتمل أن يكون المعنى إذا سلمتم الأولاد بمشورة أمهاتهم إلى المسترضعة علمتم أجرها بالمعروف.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/114.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ والحول السنة، وفي أصله قولان:
أ. أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم: حال الشيء إذا انقلب عن الوقت الأول، ومنه استحالة الكلام لانقلابه عن الصواب.
ب. الثاني: أنه مأخوذ من التحول عن المكان، وهو الانتقال منه إلى المكان الأول.
2. إنما قال حولين كاملين، لأن العرب تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين وإنما أقام حولا وبعض آخر، وأقام يومين وإنما أقام يوما وبعض آخر، قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 203] ومعلوم أن التعجل في يوم وبعض يوم.
3. اختلف أهل التفسير فيما دلت عليه هذه الآية من رضاع حولين كاملين، على تأويلين:
أ. أحدهما: أن ذلك في التي تضع لستة أشهر فإن وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا، استكمالا لثلاثين شهرا، لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أن ذلك أمر برضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه أن يرضع حولين كاملين، وهذا قول عطاء والثوري.
4. ثم قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يريد بالمولود له الأب عليه في ولده للمرضعة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وفيه قولان:
أ. أحدهما: أن ذلك في الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها فلها رزقها من الغذاء، وكسوتها من اللباس، ومعنى بالمعروف أجرة المثل، وهذا قول الضحاك.
ب. الثاني: أنه يعني به الأم ذات النكاح، لها نفقتها وكسوتها بالمعروف في مثلها، على مثله من يسار، وإعسار.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾:
أ. قيل: أي لا تمتنع الأم من إرضاعه إضرارا بالأب، وهو قول جمهور المفسرين.
ب. وقال عكرمة: هي الظئر المرضعة دون الأم.
6. ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ وهو الأب في قول جميعهم، لا ينزع الولد من أمه إضرارا بها.
7. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أن الوارث هو المولود نفسه، وهذا قول قبيصة بن ذؤيب.
ب. الثاني: أنه الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر منهما، وهو قول سفيان.
ج. الثالث: أنه وارث الولد، وهذا قول الحسن، والسدي.
د. الرابع: أنه وارث الولد، وفيه أربعة أقاويل:
• أحدها: وارثه من عصبته إذا كان أبوه ميتا سواء كان عما أو أخا أو ابن أخ أو ابن عم دون النساء من الورثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، ومجاهد.
• الثاني: ورثته من الرجال والنساء، وهو قول قتادة.
• الثالث: هم من ورثته من كان منهم ذا رحم محرم، وهذا قول أبي حنيفة.
• الرابع: أنهم الأجداد ثم الأمهات، وهذا قول الشافعي.
8. في قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته، وهو قول الحسن، وقتادة، وإبراهيم.
ب. الثاني: أن على الوارث مثل ذلك في ألّا تضار والدة بولدها، وهذا قول الضحاك، والزهري.
9. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ والفصال: الفصام، سمي فصالا لانفصال المولود عن ثدي أمه، من قولهم قد فاصل فلان فلانا إذا فارقه من خلطة كانت بينهما، والتشاور: استخراج الرأي بالمشاورة.
10. في زمان هذا الفصال عن تراض قولان:
أ. أحدهما: أنه قبل الحولين إذا تراضى الوالدان بفطام المولود فيه جاز، وإن رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجز، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والزهري، والسدي.
ب. الثاني: أنه قبل الحولين وبعده، وهذا قول ابن عباس.
11. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ يعني لأولادكم، فحذف اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون للأولاد، وهذا عند امتناع الأم من إرضاعه، فلا جناح عليه أن يسترضع له غيرها ظئرا.
12. في قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل امتناعهن، وهذا قول مجاهد، والسدي.
ب. الثاني: إذا سلّمتم الأولاد عن مشورة أمهاتهم إلى من يتراضى به الوالدان في إرضاعه، وهذا قول قتادة، والزهري.
ج. الثالث: إذا سلّمتم إلى المرضعة التي تستأجر أجرها بالمعروف، وهذا قول سفيان.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/300.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن كثير، وأهل البصرة، وقتيبة: (لا تضار) ـ بتشديد الراء ـ ورفعها، وقرأ أبو جعفر بتخفيفها وسكون، الباقون بتشديدها وفتحها، وقرأ ابن كثير (ما آتيتم) قصرا، وكذلك ﴿ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً﴾ في الروم.
2. اختلف في قوله تعالى: ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾:
أ. قيل: في حكم الله الذي أوجبه على عباده، فحذف للدلالة عليه.
ب. وقيل: لأنه وقع موقع يرضعن، صرفا في الكلام مع رفع الاشكال، ولو كان خبراً لكان كذباً، لوجود والوالدات يرضعن أولادهن أكثر من حولين، وأقل منهما.
3. في الآية بيان لأمرين: أحدهما مندوب، والثاني فرض، فالمندوب: هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين، هي التي تستحق المرضعة الأجر فيهما، ولا تستحق فيما زاد عليهما، وهو الذي بينه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، فتثبت المدة التي تستحق بها الأجرة على ما أوجبه الله في هذه الآية.
4. رُضع يرضَع، ورضِع يرضع رضاعة، وأرضعته أمه إرضاعاً، وارتضاعاً، واسترضع استرضاعاً، وراضعه رضاعاً، ومراضعة، ولئيم راضع، لأنه يرضع لبن ناقته من لؤمه، لألّا يسمع الضيف صوت الشخب، والرضعتان: الثنيتان: مقدمتا الأسنان، لأنه يشرب عليهما اللبن، وأصل الباب الرضع: مصّ الثدي، لشرب اللبن منه.
5. معنى ﴿حَوْلَيْنِ﴾ سنتان، وهو مأخوذ من الانقلاب في قولك: حال الشيء عما كان عليه يحول، فالحول، لأنه انقلب عن الوقت الأول الى الثاني، ومنه الاستحالة في الكلام، لانقلابه عن الصواب، وقيل أخذ من الانتقال من قولك: تحول عن المكان.
6. إنما قال (كاملين) فان كانت التثنية تأتي على استيفاء العدة، لرفع التوهم، وإنه على طريقة التغليب، كقولهم: سرنا يوم الجمعة، وإن كان السير في بعضه، وقد يقال: أقمنا حولين، وإن كانت الاقامة في حولين، وبعض آخر فهو لرفع الإيهام الذي يعرض في الكلام.
7. سؤال وإشكال: هل يلزم في كل مولود، والجواب: فيه خلاف:
أ. قال ابن عباس: لا، لأنه يعتبر ذلك بقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ فان ولدت المرأة لستة أشهر، فحولين كاملين، وإن ولدت لسبعة أشهر، فثلاثة وعشرون شهراً، وإن ولدت لتسعة أشهر، فأحد وعشرين شهراً تطلب بذلك التكملة لثلاثين شهراً في الحمل والفصال الذي سقط به الفرض، وعلى هذا تدل أخبارنا(2)، لأنهم رووا: أن ما نقص عن إحدى وعشرين شهراً فهو جور على الصبي.
ب. وقال الثوري: هو لازم في كل ولد إذا اختلف والداه، رجعا الى الحولين من غير نقصان، ولا زيادة، ولا يجوز لهما غير ذلك.
8. الرضاع بعد الحولين لا حكم له في التحريم ـ عندنا ـ وبه قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأكثر العلماء، وروي عن عائشة أن رضاع الكثير يؤثر، وقال أبو علي الجبائي لم يقم بهذا حجة ولا نزل له ظاهر القرآن.
9. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ معناه أنه يجب على الأب إطعام أم الولد وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة، وبه قال الضحاك والثوري وأكثر المفسرين.
10. يقال كساه يكسوه كسوة: إذا ألبسه الثياب واكتسى هو اكتساء: إذا لبس، واكتست الأرض بالنبات إذا تغطت به، وكسوته مدحاً أو ذماً: إذا أثنيت عليه أو ذممته، والكساء معروف، وأصل الباب الكسوة: اللباس.
11. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يدل على فساد قول المجبرة: في حسن تكليف ما لا يطاق لأنه إذا لم يجز أن يكلف مع عدم الجدة لم يجز أن يكلف مع عدم القدرة، لأنه إنما لم يحسن في الأول من حيث أنه لا طريق له الى أداء ما كلفه من غير جدة، فكذلك لا سبيل له الى أداء ما كلف الى الطاعة مع عدم القدرة، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: ﴿فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ لأنه ليس المراد نفي القدرة وإنما معناه: أنه يثقل عليهم كما يقول القائل: لا أستطيع أن أنظر الى كذا معناه: أنه يثقل عليّ، ويقال: كلف وجهه كلفاً، ونجدّه كلف أي أثر، والكلف بالشيء الايلاع به، لأنه لزوم يظهر أثره عليه، وكلف كلفا: إذا أحب، وتكلف الأمر تكلفاً: تحمله، وكلفه تكليفاً: ألزمه، وأصل الباب الكلف: ظهور الأثر.
12. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ أصله تضارر ـ بكسر الراء الأولى ـ وقيل ـ بفتحها ـ وأسكنت وأدغمت في الراء بعدها، ومن فتحها بالتقاء الساكنين، وهو الأقوى فيما قبله فتحة أو ألف نحو عضّ ولا تضار زيداً، وقال بعضهم: لا يجوز ألّا تضارر بفتح الراء الأولى، لأن المولود لا يصح منه مضمارة، لأن الأفصح لو كان كذلك الكسر، قال الرماني: غلط في الاعتلالين أما الأول، فلأنه ينقلب عليه في تضارّ إذا المضارة من إثنين في الحقيقة، وإن لم يسم الفاعل، ولأنه إنما يرجع ذلك الى الزوج، والمرأة الأولى والولد، فأما الأفصح، فعلى خلاف ما ذكر، لأن الفتح لغة أهل الحجاز، وبني أسد، وكثير من العرب، وهو القياس، لأنه إذا جاز مدّ بالضم للاتباع، كانت الفتحة بذلك أولى، لأنها أخف، ولأنه يجوز مدّ بالفتح طلباً للخفة، فإذا اجتمع الاتباع والاستخفاف كان أولى، وقوله: إن الفتحة في تضار: هي الفتحة في الراء الاولى، دعوى منه لا دليل عليها، ويدل على صحة ما قلناه: قوله تعالى: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ﴾ ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ كل ذلك بالفتح دون الكسر.
13. إنما قيل: ﴿يُضَارَّ﴾ والفعل من واحد لأنه لما كان معناه المبالغة كان بمنزلته من إثنين، وذلك لأنه يضره إن رجع عليه، منه ضرورة، فكأنه قيل: لا تضار والدة من الزوج بولدها، ولو قيل في ولدها لجاز في المعنى، وكذلك فرض الوالد:
أ. عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام أي لا يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يعني لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل، فيضر ذلك بالأب.
ب. وقيل: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ بأن ينزع الولد منها، ويسترضع امرأة أخرى مع إجابتها الى الرضاع بأجرة المثل ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ﴾ بولده أي لا تمتنع هي من الإرضاع إذا أعطيت أجرة مثلها، والأولى حمل الآية على عموم ذلك.
ج. وقيل: معناه أنّ على الوالدة ألّا تضار بولدها فيما يجب عليها من تعاهده، والقيام بأمره، ورضاعه، وغذاءه، وعلى الوالد ألّا يضار بولده فيما يجب عليه من النفقة عليه، وعلى أمه، وفي حفظه، وتعاهده.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قال الحسن، وقتادة، والسدي: الوارث للولد، وهو أقوى.
ب. وقال قبيضة بن ذؤيب: هو الوالد.
15. سؤال وإشكال: أعلى كل وارث له، أم على بعضهم؟ والجواب: ذكر أبو علي الجبائي: أن على كل وارث نفقة الرضاع الأقرب فالأقرب يؤخذ به، وأما نفقة ما بعد الرضاع، فاختلفوا:
أ. عندنا يلزم الوالدين ـ وإن عليا ـ النفقة على الولد وإن نزل، ولا يلزم غيرهم.
ب. وقال قوم: يلزم العصبة دون الأم، والأخوة من الأم، ذهب اليه عمر، والحسن.
ج. وقيل: على الوارث من الرجال، والنساء على قدر النصيب من الميراث، ذكره قتادة، وعموم الآية يقتضيه، غير أنا خصصناه بدليل.
د. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون من كان ذا رحم ليس بمحرّم، كابن العم وابن الأخت، فأوجبوا على ابن الأخت ولم يوجبوه على ابن العم وإن كان وارثه في تلك الحال، وكذلك العمة وابن العمة حكا ذلك أبو علي الجبائي، والبلخي، وقال سفيان ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾: أي الباقي من أبويه، وهذا مثل ما قلناه.
هـ. روي في أخبارنا: أن على الوارث كائناً من كان النفقة، وهو ظاهر القرآن، وبه قال قتادة، وأحمد وإسحاق، والحسن وإبراهيم.
16. الميراث: تركة الميت، تقول: ورث يرث إرثاً، وو أرثه ميراثاً، وتوارثوا توارثاً، وورّثه توريثاً، وأورثه الحي ضعفاً، والتراث: الميراث، وورّثت النار، وأورثتها: إذا حركت جمرها، ليشتعل، لأنه تظهر فيه النار عن الأول، كظهور الميراث في الثاني عن الأول.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: يعني من النفقة، وبه قال إبراهيم.
ب. وقال الضحاك: من ترك المضارة.
ج. المفهوم من الكلام، وعند أكثر العلماء: الأمران معاً، وهو أليق بالعموم.
18. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ فالفصال: الفطام، لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه الى غيره من الاغتذاء.
19. سؤال وإشكال: أي فصال ذاك أقبل الحولين أم بعدهما؟ والجواب:
أ. قيل: فصال الحولين، لأن الفرض معلوم إذا تنازعا رجعا إليه، فأما بعد الحولين، فلا يجب على واحد منهما اتباع الآخر في دعائه، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن شهاب، وسفيان وابن زيد.
ب. وروي عن ابن عباس: أنه إذا تراضيا على الفصال قبله أو بعده مضى، فان لم يتراضيا رجعا الى الحولين.
20. فصال: أصل الباب الفرق، يقال: فصل يفصل فصلا، وفاصله مفاصلة، وتفاصلوا تفاصلا، واستفصلوا استفصالا وانفصل انفصالا، وفصّله تفصيلا، وتفصل تفصلا، وفواصل القلادة: شذر بين نظم الذهب، والفصل: القضاء بين الحق، والباطل، وهو الفيصل، وفصيلة الرجل بنو أبيه، لانفصالهم من أصل واحد، والفصيل: الواحد من أولاد الإبل، لأنه فصل عن أمه والفصيْل: حائط قصير دون السور.
21. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ يعني لا حرج، على قول ابن عباس، وهو مأخوذ من ﴿جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ أي مالوا، والجناح: الميل عن الاستقامة.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. معناه على قول مجاهد، والسدي: أجر الأم بمقدار ما أرضعت أجرة المثل.
ب. وقال سفيان: أجرة المسترضعة، وقال ابن شهاب: سلّمتم الاسترضاع.
ج. وقال ابن جريج: أجرة الأم والنظير.
23. ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ معناه: لأولادكم، وحذفت اللام لدلالة الاسترضاع عليه من حيث أنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز: دعوت زيداً، تريد لزيد، لأنه يجوز أن يكون المدعو، والمدعو له، إذ معنى دعوت زيداً لعمرو، خلاف دعوت زيداً فقط، فلا يجوز للإلباس.
24. في الآية دلالة على أن الولادة لستة أشهر تصح، لأنه إذا ضم الى الحولين كان ثلاثين شهراً، وروي عن علي عليه السلام وابن عباس ذلك.
25. من رفع ﴿لَا تُضَارَّ﴾ فعلا استئناف النفي، وقال الكسائي، والفراء: هو منسوق على ﴿لَا تُكَلَّفُ﴾، قال الرماني هذا غلط، لأن النسق ب (لا) إنما هو على إخراج الثاني مما دخل فيه الأول، نحو ضربت زيداً لا عمراً، فأما أن يقوم زيد لا يقعد عمرو، فلا يجوز على النسق، ولكن يرفع على استئناف النفي ب (لا)، فكذلك ﴿لَا تُضَارَّ﴾ مستأنف في اللفظ متصل في المعنى، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ إنما جاز في موضع الجزم للاتباع، وليس ذلك في (لا تضار).
26. الوسع: الطاقة مأخوذ من سعة المسلك الى العرض، فيتمكن لذلك، ولو ضاق لأعجز عنه، والسعة فيه بمنزلة القدرة، فلذلك قيل: الوسع بمعنى الطاقة.
27. ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ فالتشاور مأخوذ من الشور، وهو اجتناء العسل، تقول: شرت العسل، وأنا أشوره شوراً، واشيره إشارة: إذا اجتنيته من مكانه، والمشورة: استخراج الرأي من المستشار، لأنه يجتنى منه، وشاوره مشاورة، وأشار عليه إشارة، واستشار استشارة، واستشار العسل: إذا اجتناه وأشار الى الشيء إشارة: إذا أومأ اليه، والمشيرة الإصبع الذي تسمى السبابة لأنه يشار بها الشباب، وغيره، والشابة: الهيبة، واللباس الحسن لأنه مما يشاب اليه لحسنه والتشوير: استخراج سير الدابة كالإحسان.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/255.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرضع: مص الثدي لشرب اللبن، يقال: رضع رضعًا، وأرضعته أمه رضاعًا.
ب. الولد معروف، ويقال للواحد والاثنين والجماعة، والوالد: من له ولد، والأم والدة، والجميع الوالدان، والولد مِنْ وُلدَ على فراشه، وقيل: من خلق من مائه على وجه غير زنا.
ج. الحول: السنة أخذ من الانقلاب، يقال: حال الشيء عما كان عليه يحول، والحول؛ لأنه ينقلب عن الوقت الأول إلى الثاني، وقيل: أخذ من الانتقال، ومنه تحول عن المكان، أي انتقل.
د. الكامل: كمل، وأكملته أنا.
هـ. التام: ضد الناقص، تم الشيء وأتممته أنا.
و. الكسوة: اللباس، ومنه الكساء.
ز. التكليف: أصله من الكلفة، وهو ظهور الأثر، فسمي التكليف؛ لأنه يلزمه ما يظهر فيه أثره، تكلف أي تحمل، والتكليف: إلزام الشاق.
ح. الوسع: الطاقة أخذ من سعة الملك كالوجد.
ط. الوارث: من يرث الميت، والميراث: تركة الميت، وأصله الظهور، يقال: ورثت النار: إذا حركت جمرها لتشتعل؛ لأنه تظهر فيه النار، والتركة تظهر في الثاني عن الأول، فسمي ميراثًا.
ي. الفصل: الفرق، والفصال: الفطام، وهو أن يفصله عن ثدي أمه إلى غيره من الأقوات، ومنه الفصل.
ك. التشاور من المشورة، وهو إخراج الرأي من المستشار، وأصله من الشور وهو اجتناء العسل، فكأن المستشير يجْني الرأي، وسلمه: دفعه إليه.
ل. الجُنَاح: الحرج، وأصله من الميل، كأنه يميل عن الاستقامة.
2. لما بَيَّنَ تعالى حكم الطلاق وافتراق الزوجين بَيَّنَ حكم الأولاد الصغار المحتاجين إلى التربية، وبَيَّنَ حكم الرضاع ومدته، وما يجب فيه من النفقة والكسوة فقال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾:
أ. قيل: المطلقات اللاتي لهن الأولاد من أزواجهن ولدن قبل الطلاق أو بعده، عن الأصم.
ب. وقيل: بل هو عام في جميع الزوجات، عن أبي علي.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾:
أ. قيل: معناه الخبر، وتقديره: حق الوالدات أن يرضعن.
ب. وقيل: صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، وإنما جاز ذلك لوجهين:
• قيل: لأن تقديره: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، فحذف لدلالة الكلام عليه.
• وقيل: لأن معنى يرضعن: ليرضعن، فجاز ذلك للتصرف في الكلام مع رفع الإشكال.
4. هذا أمر استحباب لا أمر إيجاب، ومعناه أنهن أحق برضاعهن من غيرهن بدليل قوله: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾
5. ثم بين مدة الرضاع فقال: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ يعني عامين تامين أربعة وعشرين شهرًا، وإنما ذكر كاملين:
أ. قيل: لرفع التوهم أنه على طريقة سرنا يوم الجمعة، وإن كان السير في بعضه، ويُقال: أقمنا حولين، وإن كانت الإقامة في بعضهما، وولد فلان عام كذا.
ب. وقيل: ذكر كاملين للتأكيد، والأول الوجه.
6. اختلف العلماء في هذا الحد أهو لكل مولود أو للبعض:
أ. قال ابن عباس: ليس لكل مولود، لكن إن ولدت لستة أشهر فحولين، وإن ولدت، لسبعة أشهر فثلاثة وعشرين، وإن ولدت لتسعة أشهر فإحدى وعشرين، يطلب بذلك تكملة ثلاثين شهرًا في الحمل والفصال.
ب. وقال سفيان وابن جريج: هو حد لكل مولود، ويأتي وقت وُلدَ لا يزيد ولا ينقص إلا أن يتراضيا قبل الحولين فحينئذ فطماه، وإن اختلفا لم يفطماه، وروي أيضًا ذلك عن ابن عباس.
ج. وقال جماعة: المراد به بيان التحريم الواقع بالرضاع ففي الحولين يحرم، وما بعده لا يحرم، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري.
د. وقال قتادة والربيع: فرض الله تعالى على الوالدات أن يرضعن أولادهن حولين كاملين، ثم أنزل الرخصة بعد ذلك فقال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ يعني أن هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك وقت محدود، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي.
7. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ يعني الأب ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ يعني الطعام والإدام ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ يعني لباسهن، والمراد الرزق والكسوة للأم ما دامت في الرضاعة اللازمة، وذلك في المطلَّقة، عن الثوري والضحاك: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني على قدر اليسار؛ لأنه تعالي علم اختلاف أحوال الناس في الغنى والفقر، وجعل حق الحضانة للأم، والنفقة على الأب على قدر حاله.
8. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعني لا تلزم إلا دون طاقتها.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾:
أ. قيل: يعني لا يلحق بالأم ضرر لأجل ولدها بنزع الولد منها ودفعه إلى غيرها، بعد أن رضيت بالرضاعة ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يعني الأب، لا يضار بولده بإلقائه إليه مضارة.
ب. وقيل: لا تضار والدة قيل: بأن تكره على الرضاع، ولا الأب بأن يلزم أكثر مما يجب عليه.
10. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿لَا تُضَارَّ﴾، والفعل لواحد؟، والجواب:
أ. قيل: لأن معناه المبالغة فكان بمنزلته من اثنين.
ب. وقيل: لا تضار الأم والأب، بألا ترضع الأم، أو يمنعها الأب.
ج. وقيل: الضرر يرجع إلى الولد كأنه يقول: لا يضار كل واحد منهما بالصبي: الأم بألا ترضعه، والأب بألا ينفق أو ينزعه من الأم، والباء زائدة، وتقديره: لا تضار والدة ولدها ولا الأب.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾:
أ. قيل: وارث الولد، عن الحسن وقتادة والسدي، وهو من يرثه إذا مات.
ب. وقيل: وارث الوالد، عن قبيصة بن ذؤيب، والأول أصح، واختلفوا أي وارث هو؟ فقيل: العصبات دون الأم والإخوة من الأم، عن عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم.
ج. وقيل: وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، عن قتادة وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: النفقة على قدر الميراث.
د. وقيل: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم مثل ابن العم المولى، عن أبى حنيفة وأصحابه.
هـ. وقيل: على الوارث أي الباقي من أبويه، عن سفيان وجماعة.
و. وقيل: على الوارث يعني الصبي الذي هو وارث أبيه، إن أجر الرضاع من ماله، فإن لم يكن له مال أجبرت أمه على الرضاع، ولا يجبر على نفقة رضاعه إلا الوالدان، عن الشافعي، والوالد فقط، عن مالك.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: من النفقة والكسوة، عن إبراهيم.
ب. وقيل: من ترك الإضرار، عن الشعبي والزهري والضحاك.
ج. وقيل: منهما عن أكثر أهل العلم.
13. ﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾ يعني الوالدين: ﴿فِصَالًا﴾ فطامًا:
أ. قيل: قبل الحولين، عن مجاهد وقتادة وسفيان.
ب. وقيل: قبله أو بعده، عن ابن عباس، فإن لم يتراضيا رجعا إلى الحولين.
ج. وقيل: ﴿فِصَالًا﴾ يعني مفاصلة بين الوالد والوالدة أي تراضيا، عن أبي مسلم.
14. ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ يعني اتفاق منهما ومشاورة، وإنما شَرَطَ تراضيَهُما؛ لأن الوالدة تعلم من تربية الصبي ما لا يعلمه الوالد، فَشَرَطَ تراضيَهُما، وشرط المشاورة مصلحة للولد، إذ لو لم يفكر أو لم يشاور أدى إلى ضرر الصبي.
15. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا حرج عليهما، عن ابن عباس وغيره: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ أيها الآباء ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ يعني تطلبوا مراضع لهم غير أمهاتهم لإباء الأم الرضاعة، أو لعلة بهن أو لانقطاع لبن أو طلب نفقة فوق الوسع، أو طلب النكاح، أو خوف الضيعة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج عليكم ولا ضيق في ذلك.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾:
أ. قيل: أجرة الأم بمقدار ما أرضعت، عن مجاهد والسدي.
ب. وقيل: أجرة المسترضعة، عن سفيان.
ج. وقيل: سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الإضرار، عن ابن شهاب.
د. وقيل: أجرة الأم والصبي، عن ابن جريج.
17. ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ يعني اتقوا معاصيه وعذابه في مجاوزة ما حد لكم: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يعني عليم بأعمالكم فيجازيكم بحسبه.
18. اختلفوا في مدة الرضاع التي توجب التحريم:
أ. فقيل: حولين، عن أبي يوسف ومحمد وأبي علي، وهو قول الأكثر.
ب. وقيل: حولين ونصفًا عن أبي حنيفة؛ لأن الصبي يختلف حاله في الحر والبرد فيزيد ستة أشهر استظهارًا.
ج. وقيل: ثلاثة أحوال، عن زفر؛ لأنه الوقت الذي تزول الحاجة إلى اللبن في الأغلب، وروي عن عائشة أن رضاع الكبير يُحَرمُ، والفقهاء كلهم على خلافه.
19. في الآية أحكام عقلية وأحكام شرعية:
20. أما العقلية:
• فدلالة قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل، وأنه إذا لم يكلف مع عدم الجِدَةِ، فَلَأَنْ لا يكلف مع عدم القدرة أولى؛ لأن في الموضعين لا سبيل له إلى ما كلف.
• ومنها: ما يدل أن فعل العبد فعله؛ إذ لو كان خلقًا له تعالى لم يكن وسعه.
• ومنها: يدل على حسن نظره تعالى لعباده، وأنه يفعل لهم الأصلح حيث جعل التربية للأم؛ لأنها أشفق وأهدى للتربية، وجعل النفقة على الأب؛ لأنه أقدر عليها، فإذا بلغ سن البنت حال البلوغ، فالأب أولى؛ لأن هذه حالة التزويج، وهو أهدى، وإذا بلغ سن الابن سبع سنين فالأب أولى؛ لأنه حالة التأديب.
• ومنها: تدل على المنع من الإضرار بالغير، ويستوي فيه القريب والبعيد، والطفل والبالغ.
21. أما الأحكام الشرعية:
• فيدل قوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ على أن للأمهات اختصاصًا في الرضاع، وذلك أنها إذا أرضعت فليس للأب انتزاع الولد منها.
• يدل قوله: ﴿حَوْلَيْنِ﴾ على توقيت بهذه المدة، وتدل على أنه ليس بحتم؛ لذلك شرط إرادتهما إتمام الرضاعة.
• تدل على أن الفصال قبل الحولين لا يجوز إلا بتشاور وتراضٍ، وفائدة المشاورة النظر في حال الصبي، فربما كان بحال يحل به الفطام قبل الحولين، وربما كان بخلافه فينقصان ويزيدان بحسب مصلحة الصبي.
• تدل على أن لكل واحد منهما حقًّا في الرضاع لذلك اعتبر تراضيهما، ولأنه لا تهمة عليهما في حق الولد فبتراضيهما بعد المشاورة تتكامل المصلحة، وتدل على أن ما يحتاج إليه الولد فهو على الأب؛ لأن الرضاع من أشد ما يحتاج إليه، ثم جعل ذلك عليه، وهي النفقة في الزوجات والأجرة في الأجنبيات، ولا يقال: إنها نفقة الزوجية؛ لأنها قد تكون مطلقة، ولم يفصل بينها وبين الزوجة فدل أنها لمكان الرضاع، ويدل قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ على المنع من السرف والتقتير، وهذا إذا لم يكن للولد مال، فإن كان له مال فنفقته وأجرة الرضاع في ماله، وليس هذا كنفقة الزوجية؛ لأن نفقة الرحم للحاجة، وهي بر وصلة، ونفقة الزوجية بمنزلة المعاوضة، غير أنه إذا كان له مال فالأب مخاطب بإنفاق ماله عليه، فكذلك الولي، وإن لم يكن له مال ينفقه من مال نفسه ففي الحالين الأب مخاطب بالإنفاق.
• تدل على أن للأم حق الحضانة؛ لأن الرضاعة تتضمن معنى الحفظ، فكل ما كان من باب الحفظ فالأم أولى، وقد ذكرنا التقدير فيدل على ما قاله أبو حنيفة في الغلام سبع سنين، وفي الجارية إذا بلغت مبلغ النساء، وحق الحضانة في قرابة الأم كولاية التزويج في قرابة الأب.
• تدل على أن النفقة يعتبر فيها اليسار؛ إذ لو جاز إيجابه على المعسر صلة لأوجب له أيضًا، وهذا فاسد.
• تدل على جواز استرضاع غير الأم، وجواز الاستئجار عليه، واختلفوا في الزوجة المعتدة إذا أرضعت فمنهم من قال: يجمع بين نفقة الزوجية وأجرة الرضاع، وكذلك بين نفقة العدة والرضاع، وهو اختيار القاضي، ومنهم من قال: لا تجب نفقة الرضاع؛ لأنه وجبت نفقة الزوجية والعدة، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وتفصيل نفقة الأقارب ومسائل الرضاع كتب الفقه.
22. قراءات وحجج:
أ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وقتيبة عن الكسائي: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بالرفع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي وحمزة بالفتح، وكلهم شددوا الراء، أما الرفع فقيل: على النفي، وقيل: نسقا على قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾، والنصب على النهي، وقرأ ابن كثير وحده: ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ مقصورة الألف، والباقون: ﴿آتَيْتُمْ﴾ ممدودة الألف.
ب. في الآية قراءات شاذة غير ظاهرة، وعن أبي رجاء العطاردي: ﴿الرَّضَاعَةِ﴾ بكسر الراء، قال الفراء والخليل: وهما لغتان كالوكَالة والوكِالة، والدِّلالة والدَّلالة، وعن ابن محيصن أن يتم (الرَّضْعَةَ) وهي فَعْلَة كالكَرَّة الواحدة، وعن عكرمة وحميد: ﴿يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ بفتح ياء يتم، ورفع الرضاعة على أن الفعل لها، وعن طلحة بن مصرف وكسوتهم) بضم الكاف، وهما لغتان: كُسْوَ وكِسْوَ، ورُشوة ورِشوة، وأُسوة وإِسوة، وعن الحسن: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بكسر الراء مدغمة؛ لأنها لما أدغمت سكنت، والجزم يحرك إلى الكسر، وعن أبان وعاصم لا تُضَارِرْ) مظهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها، وعن أبي جعفر: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بجزم الراء، والتخفيف على الحذف طلبًا للخفة.
23. مسائل نحوية:
أ. أصل: ﴿تُضَارَّ﴾، ووزنه يحتمل تُضَارِر بكسر الراء الأولى، ويحتمل تُضَارَر بفتحها، وتُضَارَّ بالفتح لالتقاء الساكنين، وهو الاختيار فيما قبله فتحة وألف، نحو: عض ولا تضار زيدًا.
ب. يجوز بالرفع نسقا على قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ﴾ عند الفراء والكسائي، قال علي بن عيسى: وهو غلط؛ لأن النسق بـ ﴿لَا﴾ إنما هو على إخراج الثاني مما دخل فيه الأول، نحو: ضربت زيدًا لا عمرًا، فأما: أن يقوم زيد لا يقعد عمرو فلا يجوز على النسق، ولكن يرجع إلى الاستئناف، والنهي بـ ﴿لَا﴾، كذلك لا تضار مستأنف في اللفظ، متصل في المعنى، وارتفع النفس باسم الفعل المجهول؛ لأنه وضع موضع الفاعل، وانتصب الوسع بخبر الفعل المجهول؛ لأنه أقيم مقام الفاعل.
ج. حذفت اللام من ﴿تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ معناه تطلبوا الرضاعة لأولادكم اجتزاء بدلالة الاسترضاع؛ لأنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز: دعوت زيدًا، يريد لزيد؛ لأنه يجوز أن يكون المدعو زيدًا؛ إذ معنى دعوت زيدًا لعمرو بخلاف دعوت زيدًا، فلا يجوز، للالتباس.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/5.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرضع: مص الثدي بشرب اللبن منه، يقال: رضع ورضع والمصدر الرضع والرضع والرضاع والرضاعة، ولئيم راضع: يرضع لبن ناقته من لؤمه لئلا يسمع الضيف صوت الشخب، وأرضعت المرأة فهي مرضعة، وقولهم مرضع بغير هاء: ذات رضاع.
ب. الحول: السنة مأخوذ من الانقلاب في قولك: حال الشيء عما كان عليه، يحول، ومنه الاستحالة في الكلام لانقلابه عن الصواب، وقيل: أخذ من الانتقال من قولك: تحول عن المكان.
ج. الكسوة: مصدر كسوته ثوبا أي: ألبسته، واكتسى أي: لبس، والكسوة: اللباس.
د. التكليف: الإلزام الشاق، وأصله من الكلف: وهو ظهور الأثر، لأنه يلزمه ما يظهر فيه أثره، وتكلف أي: تحمل، والكلف بالشيء: الايلاع به.
هـ. الوسع: الطاقة مأخوذ من سعة المسلك إلى الغرض فيمكن لذلك، فلو ضاق لأعجز عنه، والسعة فيه بمنزلة القدرة، فلذلك قيل: الوسع بمعنى الطاقة.
و. الفصال: الفطام لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات، وفصيلة الرجل: بنو أبيه لانفصالهم من أصل واحد، والفصل: الفرق.
ز. التشاور: مأخوذ من الشور، وهو اجتناء العسل تقول: شرت العسل أشوره شورا: إذا اجتنيته من مكانه، والمشورة: استخراج الرأي من المستشار، لأنها تجتنى منه، وأشار إليه إشارة: أومى إليه، والمشيرة: الإصبع التي تسمى السبابة لأنه يشار بها، والشارة: الهيئة واللباس الحسن، لأنه مما يشار إليه لحسنه، والتشوير: استخراج سير الدابة كالاجتناء.
2. لما بين سبحانه حكم الطلاق، عقبه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع والتربية، وما يجب في ذلك من الكسوة والنفقة، فقال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ أي: الأمهات ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾:
أ. قيل: صيغته صيغة الخبر، والمراد به الأمر أي: ليرضعن أولادهن، كقوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾، وجاز ذلك التصرف في الكلام مع رفع الإشكال، إذ لو كان خبرا لكان كذبا، لجواز أن يرضعن أكثر من حولين أو أقل، وقولك: حسبك درهم، معناه: اكتف بدرهم تام.
ب. وقيل: هو خبر بمعنى الأمر، وتقديره: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم الله الذي أوجبه على عباده، فحذف للدلالة عليه.
3. هذا أمر استحباب لا أمر إيجاب، والمعنى إنهن أحق برضاعهم من غيرهن بدليل قوله: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾.
4. ثم بين مدة الرضاع فقال: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ أي: عامين تامين أربعة وعشرين شهرا، وإنما ذكر كاملين، وإن كانت التثنية تأتي على استيفاء العدة، لرفع الإبهام الذي يعرض في الكلام، فإن الرجل يقول: سرت شهرا، وأقمت عند فلان سنة، وإن كان قد سار قريبا من شهر، وأقام قريبا من سنة، وفي هذا بيان لأمرين أحدهما: مندوب والثاني: فرض.
أ. فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين.
ب. والمفروض هو أن المرضعة تستحق الأجرة في مدة الحولين، ولا تستحق فيما زاد عليه.
5. اختلف في هذا الحد هل هو لكل مولود أو للبعض؟
أ. فقال ابن عباس: ليس لكل مولود، ولكن لمن ولد لستة أشهر، وإن ولد لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون، وإن ولد لتسعة أشهر فأحد وعشرون، يطلب بذلك تكملة ثلاثين شهرا في الحمل والفصال، وعلى هذا يدل ما رواه أصحابنا(2) في هذا الباب، لأنهم رووا أن ما نقص عن أحد وعشرين شهرا فهو جور على الصبي.
ب. وقال الثوري وجماعة: هو لازم في كل ولد إذا اختلف والداه رجعا إلى الحولين، من غير زيادة ولا نقصان، ولا يجوز لهما غير ذلك.
6. الرضاع بعد الحولين لا حكم له في التحريم عندنا، وبه قال ابن عباس وابن مسعود وأكثر العلماء قالوا: المراد بالآية بيان التحريم الواقع بالرضاع، ففي الحولين يحرم، وما بعده لا يحرم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾:
أ. قيل: أي: لمن أراد أن يتم الرضاعة المفروضة عليه، وهذا يدل على أن الرضاع غير مستحق على الأم، لأنه علقه بالإرادة ويدل عليه قوله: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾.
ب. وقال قتادة والربيع: فرض الله على الوالدات أن يرضعن أولادهن حولين، ثم أنزل الرخصة بعد ذلك، فتال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ يعني إن هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حد محدود، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي، وما يعيش به.
8. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ يعني الأب ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ يعني الطعام والإدام، ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ يعني لباسهن، والمراد رزق الأم وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة، وذلك في المطلقة، عن الثوري والضحاك وأكثر المفسرين.
9. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني على قدر اليسار، لأنه علم أحوال الناس في الغنى والفقر، وجعل حق الحضانة للأم، والنفقة على الأب، على قدر اليسار، ولم يرد به نفقة الزوجات، لأنه قابلها بالإرضاع، ونفقة الزوجة لا تجب بسبب الإرضاع، وإنما تجب بسبب الزوجية، وقال بعضهم: أراد به نفقة الزوجات.
10. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي: لا يلزم إلا دون طاقتها: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ أي: لا تترك الوالدة إرضاع ولدها، غيظا على أبيه، فتضر بولده به، لأن الوالدة أشفق عليه من الأجنبية.
11. ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي: لا يأخذه من أمه طلبا للإضرار بها، فيضر بولده، فيكون المضارة على هذا بمعنى الإضرار أي: لا تضر الوالدة، ولا الوالد بالولد، وإنما قال: تضار، والفعل من واحد:
أ. قيل: لأنه لما كان معناه المبالغة، كان بمنزلة أن يكون الفعل من اثنين.
ب. وقيل: الضرر يرجع إلى الولد، كأنه يقول: لا يضار كل واحد من الأب والأم بالصبي، الأم بأن لا ترضعه، والأب بأن لا ينفق، أو بأن ينتزعه من الأم، والباء زائدة، والمعنى لا تضار والدة ولدها، ولا والد ولده.
ج. وقيل: معناه لا تضار والدة الزوج بولدها، ولو قيل في ولدها، لجاز في المعنى.
د. وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: لا تضار والدة بأن يترك جماعها خوف الحمل، لأجل ولدها المرتضع، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي: لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل، فيضر ذلك بالأب.
هـ. وقيل: لا تضار والدة بولدها بأن ينتزع الولد منها، ويسترضع امرأة غيرها، مع إجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل، فعلى هذا يكون معنى بولدها بسبب ولدها، ولا مولود له أي: لا تمتنع هي من الإرضاع إذا أعطيت أجرة مثلها، فإن فعلت استأجر الأب مرضعة ترضعه غيرها، ولا تمنعه من رؤية الولد، فيكون فيه مضارة بالوالد، وقوله: بولده بسبب ولده أيضا.
و. ليس بين هذه الأقوال تناف، فالأولى حمل الآية على جميعها.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾:
أ. قيل: معناه وارث الولد، عن الحسن وقتادة والسدي، وهو من يرثه إذا مات.
ب. وقيل: وارث الوالد، عن قبيصة بن ذويب، والأول أقوى.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: أي: مثل ما كان على الوالد من النفقة والرضاع، عن الحسن وقتادة.
ب. وقيل: مثل ما كان على الوالد من ترك المضارة، عن الضحاك.
ج. والمفهوم عند أكثر العلماء الأمران معا، وهو أليق بالعموم.
14. اختلفوا في أن النفقة على كل وارث، أو على بعضهم؟
أ. فقيل: هي على العصبات دون أصحاب الفرائض من الأم، والأخوة من الأم، عن عمر بن الخطاب والحسن.
ب. وقيل: على وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، عن قتادة.
ج. وقيل: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم، دون ذي رحم ليس بمحرم، كابن العم، وابن الأخت، فيجب على ابن الأخت، ولم يجب على ابن العم، وإن كان وارثه في تلك الحال، عن أبي حنيفة وصاحبيه.
د. وقيل: على الوارث أي: الباقي من أبويه، عن سفيان، وهو الصحيح عندنا، وهو أيضا مذهب الشافعي، لأن عنده لا يجبر على نفقة الرضاع إلا الولدان فقط.
هـ. وقد روي أيضا في أخبارنا أن على الوارث، كائنا من كان، النفقة، وهذا يوافق الظاهر، وبه قال قتادة وأحمد وإسحاق.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾:
أ. قيل: أي: قبل الحولين، عن مجاهد وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله.
ب. وقيل: قبل الحولين، أو بعدهما، عن ابن عباس.
16. ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾ أي: من الأب والأم، ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ يعني اتفاق منهما ومشاورة، وإنما يشرط تراضيهما وتشاورهما مصلحة للولد، لأن الوالدة تعلم من تربية الصبي ما لا يعلمه الوالد، فلو لم يتفكرا ويتشاورا في ذلك أدى إلى ضرر الصبي.
17. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: لا حرج عليهما إذا تماسك الولد، فإن تنازعا رجعا إلى الحولين.
18. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ خطاب للآباء: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ أي: لأولادكم أن تطلبوا لهم مراضع غير أمهاتهم لإباء أمهاتهم الرضاع، أو لعلة بهن من انقطاع لبن، أو غيره: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: لا حرج ولا ضيق في ذلك.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: أي: إذا سلمتم إلى الأم أجرة المثل، مقدار ما أرضعت، عن مجاهد والسدي.
ب. وقيل: إذا سلمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق، دون ذلك الضرار، عن أبي شهاب، وهذا معنى قول ابن عباس، وفي رواية عطاء قال: إذا سلمت أمه، ورضي أبوه، لعل له غنى يشتري له مرضعا.
ج. وقيل: إذا سلمتم أجرة المسترضعة، عن الثوري.
د. وقيل: إذا سلمتم أجرة الأم أو الظئر عن ابن جريج.
20. معنى قوله: ﴿آتَيْتُمْ﴾ ضمنتم وألزمتم.
21. ثم أوصى بالتقوى فقال: ﴿وَاتَّقُوا الله﴾ يعني معاصيه، أو عذابه في مجاوزة ما حده لكم: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: بأعمالكم: ﴿بَصِيرٌ﴾ أي: عليم لا يخفى عليه شيء منها.
22. في قوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ دلالة على فساد قول المجبرة في حسن تكليف ما لا يطاق، لأنه إذا لم يجز أن يكلف مع عدم الجدة، فأن لا يكلف مع عدم القدرة أحرى، فإن في الحالين لا سبيل له إلى أداء ما كلف.
23. قراءات وحجج:
أ. قرأ أهل البصرة، وابن كثير، وقتيبة عن الكسائي: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بالرفع وتشديد الراء، وقرأ أبو جعفر وحده بتخفيف الراء وسكونها، والباقون بتشديدها وفتحها:
• من رفع فلأن قبله لا تكلف، فأتبعه ما قبله ليكون أحسن لتشابه اللفظ، فإن قيل إن ذلك خبر وهذا أمر؟ قيل: إن الأمر قد يجئ على لفظ الخبر في التنزيل، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ويؤكد ذلك أن ما بعده على لفظ الخبر، وهو قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ والمعنى ينبغي ذلك، فلما وقع موقعه، صار في لفظه.
• ومن فتح جعله أمرا، وفتح الراء ليكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف.
• وأما قراءة أبي جعفر: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ فينبغي أن يكون أراد: لا تضار.
• كما روى في الشواذ عن أبان عن عاصم، إلا أنه حذف إحدى الراءين تخفيفا، كما قالوا: أحست في أحسست، وظلت ومست في ظللت ومسست.
ب. قرأ ابن كثير وحده: ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ مقصورة الألف، والباقون: ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾، وكذلك في الروم، ومن قرأ: ﴿آتَيْتُمْ﴾: فالمراد إيتاء المهر، كقوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾، وقوله: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، وأما قول ابن كثير فتقديره إذا سلمتم ما أتيتم نقده، أو أتيتم سوقه، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ثم حذف الهاء من الصلة، فكأنه قال: أتيت نقد ألف أي: بذلته، كما يقول: أتيت جميلا أي: فعلته، ويؤيده قول زهير: فما يك من خير أتوه فإنما... توارثه آباء آبائهم قبل فكما تقول: أتيت خيرا، فكذلك تقول: أتيت نقد ألف، وقد وقع أتيت موضع آتيت، ويجوز أن يكون: ﴿مَا﴾ في الآية مصدرا، فيكون التقدير: إذا سلمتم الإتيان، والإتيان المأتي مما يبذل بسوق أو نقد، كقوله: ضرب الأمير أي: مضروبه.
24. مسائل نحوية:
أ. ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾: في موضع الحال تقديره: فإن أراد متراضيين، ﴿مِنْهُمَا﴾: في موضع جر صفة لتراض.
ب. ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾: معناه لأولادكم، فحذفت اللام لدلالة الاسترضاع عليه من حيث أنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز: دعوت زيدا، تريد لزيد، لأنه لا يجوز أن يكون مدعوا له إذ معنى: دعوت زيدا لعمرو، خلاف: دعوت زيدا فقط، فلا يجوز للالتباس.
ج. قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ جاز أن يتعلق بسلمتم، كأنه قال: إذا سلمتم بالمعروف ما أتيتم، ويجوز أن يتعلق بأتيتم على حد قولك: أتيته بزيد.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/585.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء، لأن عليهم الاسترضاع، لا إلى الوالدات، بدليل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، فلو كان متحتّما على الوالدة، لم تستحقّ الأجرة، وهل هو عامّ في جميع الوالدات؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه خاصّ في المطلّقات، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل في آخرين.
ب. الثاني: أنه عامّ في الزوجات والمطلّقات، ولهذا يقال: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.
2. الحول: السّنة، وفي قوله تعالى: ﴿كَامِلَيْنِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه دخل للتوكيد؛ كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾.
ب. الثاني: أنه لما جاز أن يقول: (حولين)، ويريد أقلّ منهما، كما قال ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾، ومعلوم أنه يتعجّل في يوم، وبعض آخر، وتقول العرب: لم أر فلانا منذ يومين، وإنما يريدون: يوما وبعض آخر ـ قال كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا قول الزجّاج، والفرّاء.
3. اختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية:
أ. فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدّة الرّضاع، ويتعلّق به أحكام، منها أنه كمال الرّضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرّضاع مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم الرّضاع في مدّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد.
ب. ونقل عن قتادة، والرّبيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا قول بعيد، لأنّ الله تعالى قال في أوّلها: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، فلمّا قال في الثاني: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾ خيّر بين الإرادتين، وذلك لا يعارض المدّة المقدّرة في التّمام.
4. ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، أي: هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرّضاعة، وقرأ مجاهد بتاءين (تتم الرضاعة) وبالرفع، وهي رواية الحلبيّ عن عبد الوارث، وقد ذكر التمام على نفي حكم الرّضاع بعد الحولين، وأكثر القرّاء على فتح راء (الرضاعة)، وقرأ طلحة بن مصرّف، وابن أبي عبلة، وأبو رجاء بكسرها، قال الزّجّاج، يقال: الرّضاعة بفتح الراء وكسرها، والفتح أكثر، ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرّضاعة بالفتح هاهنا لا غير.
5. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾، يعني: الأب، ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ يعني: المرضعات، وفي قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه، ولا الموسر النّزر الطّفيف.
6. في الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصّل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلّا من جهة غالب الظنّ، إذ هو معتبر بالعادة.
7. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، أي: إلا ما تطيقه.
8. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان عن عاصم (لا تضارّ) برفع الراء، وقرأ نافع وعاصم، وحمزة، والكسائيّ بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع، فلأجل المرفوع قبله، وهو (لا تكلف)، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن نصب جعله أمرا، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، قال ابن قتيبة: معناه: لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء، وقال سعيد بن جبير: لا يحملنّ المطلقة مضارّة الزوج أن تلقي إليه ولده، وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمّه أن ترضعه، ليحزنها بذلك، وقال عطاء، وقتادة، والزّهريّ، وسفيان، والسّدّيّ في آخرين: إذا رضيت بما يرضى به غيرها، فهي أحقّ به، وقرأ أبو جعفر: (لا تضار) بتخفيفها وإسكانها.
9. في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه وارث المولود، وهو قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والسّدّيّ، والحسن بن صالح، ومقاتل في آخرين؛ واختلف أرباب هذا القول، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته، كائنا من كان، وهذا مرويّ عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وسفيان، وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء، روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمّد.
ب. الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا، وارث الوالد، روي عن الحسن والسّدّيّ.
ج. الثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر، روي عن سفيان.
د. الرابع: أنه أريد بالوارث الصبيّ نفسه، فالنفقة عليه، فإن لم يملك شيئا، فعلى عصبته، قاله الضحّاك، وقبيصة بن ذؤيب، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال المراد بالوارث وارث الصبي، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه
10. في قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرّضاع والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسّدّيّ، واختاره ابن قتيبة.
ب. الثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضّرار، روي عن ابن عباس والشّعبيّ والزّهريّ، واختاره الزجّاج.
ج. الثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدّمشقيّ واختاره القاضي أبو يعلى، ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضارّ، فيجب أن يكون قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ مشيرا إلى جميع ما على المولود له.
11. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾، الفصال: الفطام، قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبيّ من أمّه: إذا فطمته، ومنه قيل للحوار إذا قطع عن الرّضاع: فصيل، لأنه فصل عن أمّه، وأصل الفصل: التّفريق، قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى، فليس لها، وإن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما.
12. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾، قال الزجّاج: أي: لأولادكم، قال مقاتل: إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده.
13. في قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إذا سلّمتم أيّها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله مجاهد، والسّدّيّ.
ب. الثاني: إذا سلّمتم إلى الظّئر أجرها بالمعروف، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل، وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر، قال أبو عليّ: وجهه أن يقدّر فيه: ما أوتيتم نقده أو أوتيتم سوقه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما تقول: أتيت جميلا، أي: فعلته.
__________
(1) زاد المسير: 1/207.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات، سواء كن مزوجات أو مطلقات، والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
ب. الثاني: المراد منه: الوالدات المطلقات.
ج. الثالث: قال الواحدي في (البسيط): الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة.
2. الذين ذكروا أن المراد منه: الوالدات المطلقات، قالوا: الذي يدل على أن المراد ذلك وجهان:
أ. أحدها: أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهرا، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين:
• أحدهما: أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق.
• الثاني: أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائما لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم، فقال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ والمراد المطلقات.
ب. الثاني: ما ذكره السدي، قال المراد بالوالدات المطلقات، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع، واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه، فلم يجب تعلقها بما قبلها، وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق المرأة قدرا من المال لمكان الزوجية وقدرا آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين.
3. سؤال وإشكال: إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع، والجواب: النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين، فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع، هذا كله كلام الواحدي.
4. ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبرا إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين:
أ. الأول: تقدير الآية: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه.
ب. الثاني: أن يكون معنى يرضعن: ليرضعن، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
5. هذا الأمر ليس أمر إيجاب، ويدل عليه وجهان:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: 6] ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة.
ب. الثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6] وهذا نص صريح.
6. منهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ [البقرة: 233] والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع، فلو كان الإرضاع واجبا عليها لما وجب ذلك، وفيه البحث الذي قدمناه.
7. إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم، أو لا يرضع الطفل إلا منها، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام.
8. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين، وإنما أقام حولا وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يوما وبعض اليوم الآخر.
9. ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب، ويدل عليه وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى قال بعد ذلك: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب.
ب. الثاني: أنه تعالى قال ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار.
10. في سبب التحديد بالحولين وجوه:
أ. الأول: وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
ب. الثاني: في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكما خاصا في الشريعة، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان، لا يفيد هذا الحكم، هذا هو مذهب الشافعي، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري، وقال أبو حنيفة: مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وحجة الشافعي، ومن وافقه من وجوه:
• الحجة الأولى: أنه ليس المقصود من قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك، إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين، فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك، وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى، وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة.
• الحجة الثانية: روي عن علي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال (لا رضاع بعد فصال)، وقال تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: 14].
• الحجة الثالثة: ما روى ابن عباس أنه صلّى الله عليه وآله وسلم قال (لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين).
ج. الثالث: في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنّه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا، وقال آخرون: الحولان هذا الحد في رضاع كل مولود، وحجة ابن عباس أنه تعالى قال ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان، فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى.
11. روي أن رجلا جاء إلى علي فقال: تزوجت جارية بكرا وما رأيت بها ريبة، ثم ولدت لستة أشهر، فقال علي: قال الله: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ وقال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ فالحمل ستة أشهر الولد ولدك، وعن عمر أنه جيء بامرأة وضعت لستة أشهر، فشاور في رجمها، فقال ابن عباس: إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر.
12. ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ قرأ ابن عباس: أن يكمل الرضاعة وقرئ الرضاعة بكسر الراء.
13. في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أن تقدير الآية: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة، وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين، ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية.
ب. الثاني: أن اللام متعلقة بقوله تعالى: ﴿يُرْضِعْنَ﴾ كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه.
14. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ هو الوالد، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه:
أ. الأول: قال صاحب (الكشاف): إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية...مستودعات وللآباء أبناء
ب. الثاني: أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولودا على فراشه على ما قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش)، فكأنه قال إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر.
ج. الثالث: أنه قيل في تفسير قوله: ﴿يَا بْنَ أُمَ﴾ [طه: 94] أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد، فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة، فكذا هاهنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيها على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب، فكان نقصه عائدا إليه، ورعاية مصالحه لازمة له، كما قيل: كلمة لك، وكلمة عليك.
15. كما وصى الله تعالى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف، والمعروف في هذا الباب قد يكون محدودا بشرط وعقد، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة، فإنه إن كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري، فضررها يتعدى إلى الولد.
16. وصى الله تعالى الأم برعاية الطفل أولا، ثم وصى الأب برعايته ثانيا، وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب، لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة ألبتة، أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة.
17. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ التكليف: الإلزام، يقال: كلفه الأمر فتكلف وكلف، وقيل: إن أصله من الكلف، وهو الأثر على الوجه من السواد، فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره، والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه، من سعة الملك أي العرض، ولو ضاق لعجز عنه، والسعة بمنزلة القدرة، فلهذا قيل: الوسع فوق الطاقة.
18. المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه، إلا ما تتسع له قدرته، لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة، ولا يبلغ استغراقها، وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك، وهو نظير قوله في سورة الطلاق: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ثم قال: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 6، 7].
19. تمسك المعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه، لأنه أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما تتسع له قدرته، والوسع فوق الطاقة، فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته، فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى.
20. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بالرفع والباقون بالفتح، أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ﴾ قال علي بن عيسى: هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو: ضربت زيدا لا عمرا فأما أن يقال: يقوم زيد لا يقعد عمرو، فهو غير جائز على النسق، بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال: لا يضرب زيد لا تقتل عمرا وأما النصب فعلى النهي، والأصل لا تضار فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، يقال: يضارر رجل زيدا، وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى، فصار لا تضار، كما تقول: لا تردد ثم تدغم فتقول: لا ترد بالفتح قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ [المائدة: 54] وقرأ الحسن: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بالكسر وهو جائز في اللغة، وقرأ أبان عن عاصم (لا تضارر) مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها.
21. قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ﴾ يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين نظرا لحال الإدغام الواقع في تضار:
أ. أحدهما: أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار.
ب. الثاني: أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعولة بها الضرار، وعلى الوجه الأول يكون المعنى: لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة، فتلقى الولد عليه، وعلى الوجه الثاني معناه: لا تضارر، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له، وقوله تعالى: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي: ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه.
والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
22. سؤال وإشكال: لم قال ﴿تُضَارَّ﴾ والفعل لواحد؟، والجواب: لوجوه:
أ. أحدها: أن معناه المبالغة، فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك.
ب. الثاني: لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها.
ج. الثالث: أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر، فكان ذلك في الحقيقة مضارة.
23. قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ وإن كان خبرا في الظاهر، لكن المراد منه النهي، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع، وترك التعهد والحفظ.
24. ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ يتناول كل المضار، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد، فكل ذلك داخل في هذا النهي.
25. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافا إلى واحد من هؤلاء، والعلماء لم يدعو وجها يمكن القول به إلا وقال به بعضهم.
أ. فالقول الأول: وهو منقول عن ابن عباس: أن المراد وارث الأب، وذلك لأن قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وما بينهما اعتراض لبيان المعروف، والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور، وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار، قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف، لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضا وارثه، أدى إلى وجوب نفقته على غيره، حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالا فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف، ويدفع الضرار عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
ب. القول الثاني: أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو؟ فقيل: هو العصبات دون الأم، والأخوة من الأم، وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل: هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، قالوا: النفقة على قدر الميراث، وقيل: الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث، لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم، كما أن البعيد كالقريب، والنساء كالرجال، ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها، لصح أيضا دخولها تحت الكلام، لأنها قد تكون وارث كغيرها.
ج. القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، وجاء في الدعاء المشهور: واجعله الوارث منا، أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة.
د. القول الرابع: أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: من النفقة والكسوة عن إبراهيم.
ب. وقيل: من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك.
ج. وقيل: منهما عن أكثر أهل العلم.
27. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ في الفصال قولان:
أ. الأول: أنه الفطام لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات، قال المبرد: يقال فصل الولد عن الأم فصلا وفصالا، وقرئ بهما في قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ﴾ والفصال أحسن، لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه، فبينهما فصال نحو القتال والضراب، وسمي الفصيل فصيلا لأنه مفصول عن أمه، ويقال: فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ [البقرة: 249]، وحمل الفصال هاهنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين، ذلك أنه لما بين الله تعالى أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار، ثم اختلفوا:
• فمنهم من قال المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز، حجة لأن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضا دليلا على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط.
• ومنهم من قال إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز، وبعده أيضا جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس، لأن الولد قد يكون ضعيفا فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب.
ب. الثاني: في تفسير الفصال، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال ويحتمل معنى آخر، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد.
28. التشاور في اللغة: استجماع الرأي، وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة، وشرت العسل استخرجته، وقال أبو زيد: شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، وقالوا: شورته فتشور، أي خجلته، والشارة هيئة الرجل، لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته، والإشارة إخراج ما في نفسك، وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره.
29. دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضا قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع، فقد يحاول الفطام دفعا لذلك، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره ألبتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعا للمضار عنه، ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن، بل قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفا كانت رحمة الله معه أكثر وعناية به أشد.
30. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، لما بين الله تعالى حكم الأم وأنها أحق بالرضاع، بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها.
31. قال الزمخشري: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول، وقال الواحدي: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا ﴿أَوْلَادُكُمْ﴾ أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع، لأنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز دعوت زيدا وأنت تريد لزيد، لأنه تلبيس هاهنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف اللام قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ [المطففين: 3] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
32. قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع، فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها، منها ما إذا تزوجت آخر، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع، ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر، ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشا له، ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها، فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها، فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى، أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم.
33. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قرأ ابن كثير وحده ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ مقصورة الألف، والباقون ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ ممدودة الألف، أما المد فتقديره: ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره: ما آتيتم به، فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة به في الثاني لحصول العلم بذلك، وروى شيبان عن عاصم ما أوتيتم أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].
34. ليس التسليم شرطا للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يدا بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سببا لصلاح حال الصبي، والاحتياط في مصالحه، ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/459.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ ابتداء، ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ في موضع الخبر، ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ ظرف زمان، ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قال السدي والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج.. وعلى هذا يشكل قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لأن المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال: الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها، وقيل: الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفي الزوجات، والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ أي الزوج ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط.
2. ﴿يُرْضِعْنَ﴾ خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي، وقيل: هو خبر عن المشروعية كما تقدم.
3. اختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل، لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط، وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب، وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة (أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة، وفي كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال، وقال عبد الوهاب: هو فقير من فقراء المسلمين، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع، وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب، وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها، قال الشافعي: لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، يقال: رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني) واسم الفاعل راضع فيهما، والرضاعة: اللؤم مفتوح الراء لا غير).
4. ﴿حَوْلَيْنِ﴾ أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وقيل: سمي العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب.
5. ﴿كَامِلَيْنِ﴾ قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني.
6. قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين.
7. انتزع مالك ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة، هذا قوله في موطئه، وهي رواية محمد بن عبد الحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور، وروى ابن عبد ال حكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة، عبد الملك: كالشهر ونحوه، وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال: ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث، وحكي عن النعمان أنه قال: وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين، وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين)، قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ، قلت: وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له، وقد روي عن عائشة القول به، وبه يقول الليث بن سعد من بين العلماء، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه الرجوع عنه، وسيأتي في سورة ﴿النِّسَاءَ﴾ مبينا إن شاء الله تعالى.
8. قال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل ولد، وروي عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، فإن مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، وعلى هذا نتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر.
9. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ أي وعلى الأب، ويجوز في العربية وعلى المولود لهم) كقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ لأن المعنى وعلى الذي ولد له و﴿الَّذِي﴾ يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم.
10. ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه، وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها، وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك جناح؟ فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، والكسوة: اللباس، وقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط.
11. ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها من غير تقدير مد ولا غيره بقوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى، وقيل المعنى: أي لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعي القصد.
12. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بالحضانة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
13. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ المعنى: لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، هذا قول جمهور المفسرين، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ﴿تُضَارَّ﴾ بفتح الراء المشددة وموضعه جزم على النهي، وأصله لا تضارر على الأصل، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهكذا يفعل في المضاعف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول: عض يا رجل، وضار فلانا يا رجل، أي لا ينزع الولد منها إذا رضيت بالإرضاع وألفها الصبي، وقرأ أبو، عمرو وابن كثير وأبان بن عاصم وجماعة.
14. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو معطوف على قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ﴾ واختلفوا في تأويل قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب: هو وارث الصبي أن لو مات.
ب. قال بعضهم: وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع، كما كان يلزم أبا الصبى لو كان حيا.
ج. وقال مجاهد وعطاء، وقال قتادة وغيره: هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه، وبه قال أحمد وإسحاق.
د. وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق في كتاب (معاني القرآن) له: فأما أبو حنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث، قال أبو إسحاق: فقالوا قولا ليس في كتاب الله ولا نعلم أحدا قاله.
هـ. وحكى الطبري عن أبي حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: الوارث الذي يلزمه الإرضاع هو وارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره ليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شي، وقيل: المراد عصبة الأب عليهم النفقة والكسوة.
و. قال الضحاك: إن مات أبو الصبي وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجبرت الأم على إرضاعه.
ز. وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز: الوارث هو الصبي نفسه، وتأولوا قوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ المولود، مثل ما على المولود له، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه.
ح. وقال سفيان: الوارث هنا هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما، فإن مات الأب فعلى الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، ويشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث.
ط. وقال ابن خويز منداد: ولو كان اليتيم فقيرا لا مال له، وجب على الإمام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين، الأخص به فالأخص، والأم أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به، ولا ترجع عليه ولا على أحد، والرضاع واجب والنفقة استحباب: ووجه الاستحباب قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وواجب على الأزواج القيام بهن، فإذا تعذر استيفاء الحق لهن بموت الزوج أو إعساره لم يسقط الحق عنهن، ألا ترى أن العدة واجبة عليهن والنفقة والسكنى على أزواجهن، وإذا تعذرت النفقة لهن لم تسقط العدة عنهن.
ي. وروى عبد الرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس أنه قال: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه، قال: وقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو منسوخ، قال النحاس: هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبد الرحمن بن القاسم، ولا علمت أن أحدا من أصحابهم بين ذلك، والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم، أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه، نسخ ذلك أيضا عن الوارث، قلت: فعلى هذا تكون النفقة على الصبي نفسه من ماله، لا يكون على الوارث منها شي على ما يأتي.
ك. قال ابن العربي: (قوله ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة، وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحتار فيه ألباب الشاذين، والأمر فيه قريب! وذلك أن العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم، وتحقيق القول فيه: أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم، فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن وسند إلى عمر، وقالت طائفة من العلماء: إن معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ لايرجع إلى جميع ما تقدم، وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار، والمعنى: وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، وقوله: (وهذا هو الأصل) يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو صحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ في أن الأم إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك، لأن الأم أرفق وأحن عليه، ولبنها خير له من لبن الأجنبية.
ل. قال ابن عطية: وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ألا تضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شي منه، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا، وقرأ يحيى بن يعمر (وعلى الورثة) بالجمع، وذلك يقتضي العموم، فإن استدلوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج) قيل لهم الرحم عموم في كل ذي رحم، محرما كان أو غير محرم، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذي الرحم أولى لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: اجعلها في الأقربين) فحمل الحديث على هذا، ولا حجة فيه على ما راموه.
م. وقال النحاس: وأما قوله من قال ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ألا يضار فقوله حسن، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شي منها إلا بدليل قاطع، وأما قوله من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب، فورثته أولى من ورثة الابن، وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول: كما يرثونه يقومون به، قال النحاس: وكان محمد بن جرير يختار قول من قال الوارث هنا الابن، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة، لأن ماله أولى به، وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولإرضاع، وأن ذلك من مال الصبي، فإن قيل: قد قال الله تعالى ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قيل: هذا الضمير للمؤنث، ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها، لا يسع مسلما الخروج عنه، وأما من قال: ذلك على من بقي من الأبوين، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها، وقد ترجم البخاري على رد هذا القول (باب ـ وعلى الوارث مثل ذلك، وهل على المرأة منه شي) وساق حديث أم سلمة وهند، والمعنى فيه: أن أم سلمة كان لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن، لهم مال، فسألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبرها أن لها في ذلك أجرا، فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ولست بتاركتهم، وأما حديث هند فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب، فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء، وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذي رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذي رحم محرم إذا كان فقيرا، قال النحاس: وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه، فأما القرآن فقد قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا: إذا ترك خال وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شي، فهذا مخالف نص القرآن لأن الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذي رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه.
15. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ الضمير في ﴿أَرَادَا﴾ للوالدين، و﴿فِصَالًا﴾ معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات، والفصال والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبي والثدي، ومنه سمي الفصيل، لأنه مفصول عن أمه، ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾ أي قبل الحولين، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان، وقال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ الآية، وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور: استخراج الرأي، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار: متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة: هيئة الرجل، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره.
16. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج، قال النحاس: التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل ﴿كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
ولا يجوز: دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدي إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع، قلت: وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك، وقد قال عكرمة في قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ﴾ معناه الظئر، حكاه ابن عطية، والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله تعالى، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال: لا يلزمها رضاعة، فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة، وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك، والأصل البديع فيه أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقأ به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا.
17. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قال سفيان، مجاهد: سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع، وقرأ الستة من السبعة ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ بمعنى ما أعطيتم، وقرأ ابن كثير ﴿آتَيْتُمْ﴾ بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير: وما كان من خير أتوه فإنما... توارثه آباء آبائهم قبلقال قتادة والزهري: المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب ﴿سَلَّمْتُمْ﴾ الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال، قال أبو علي: المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع، قال أبو علي: ويحتمل أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغني عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/161.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق، ذكر الرضاع، لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاصّ بالمطلقات؛ وقيل: هو عام.
2. ﴿يُرْضِعْنَ﴾ قيل: هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه؛ وقيل: هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾
3. ﴿كَامِلَيْنِ﴾ تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي، وقوله:﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أي: ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما، بل هو التمام، ويجوز الاقتصار على ما دونه.
4. الآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها.
5. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ أي: على الأب الذي يولد له، وآثر هذا اللفظ دون قوله: وعلى الوالد، للدلالة على أن الأولاد للآباء، لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهنّ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط، ذكر معناه في الكشاف، والمراد بالرزق هنا: الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة: ما يتعارفون به أيضا؛ وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات، وهذا في المطلقات، وأما غير المطلقات فنفقتهنّ وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ.
6. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ هو تقييد لقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه، وطاقته، لا ما يشق عليه ويعجز عنه؛ وقيل: المراد: لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف؛ بل يراعى القصد.
7. ﴿لَا تُضَارَّ﴾ أصله: لا تضارر، على البناء للفاعل أو المفعول، أي: لا تضارر الأب بسبب الولد، بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو: بأن تفرط في حفظ الولد، والقيام بما يحتاج إليه؛ أو: لا تضارر من زوجها، بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب.. ويجوز أن تكون الباء في قوله: بولده، صلة لقوله تضارّ، على أنه بمعنى تضر، أي: لا تضرّ والدة بولدها، فتسيئ تربيته، أو تقصر في غذائه؛ وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذا الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها، أي: لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه، فلا تضاره بسبب ولده، قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ هو معطوف على قوله:
8. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ وما بينهما تفسير للمعروف، أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
9. اختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾:
أ. فقيل: هو وارث الصبي، أي: إذا مات المولود له؛ كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه، كما كان يلزم أباه ذلك، قاله عمر بن الخطاب، وقتادة، والسدّي، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى على خلاف بينهم: هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيبا من الميراث؟ أو على الذكور فقط؟ أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثا منه؟
ب. وقيل: المراد بالوارث: وارث الأب عليه نفقة المرضعة، وكسوتها بالمعروف، قاله مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك، ولكنه قال إنها منسوخة، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ، ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه؛ وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله.
ج. وقيل: المراد بالوارث المذكور في الآية: هو الصبي نفسه: أي: عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز، وروي عن الشافعي.
د. وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري.
هـ. وقيل: إن معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي: وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية.
و. وقيل: إن معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا: وهذا هو الأصل، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل، قال القرطبي: وهو الصحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب، قال ابن عطية، وقال مالك، وجميع أصحابه، والشعبي، والزهري، والضحاك، وجماعة من العلماء: المراد بقوله مثل ذلك: أن لا تضارّ، وأما الرزق، والكسوة، فلا يجب شيء منه، وحكى ابن القاسم عن مالك: مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ، ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة، فإن ما خصصوا به معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ من ذلك المعنى: أي: عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له أو غيره، وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال: مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل: المذكور أو نحوه.
10. ما ذهب إليه أهل القول الأوّل: من أن المراد بالوارث: وارث الصبيّ، فيقال عليه: إن لم يكن وارثا حقيقة مع وجود الصبيّ حيا، بل هو وارث مجازا باعتبار ما يؤول إليه، وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني: فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيرا، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدات والمولود له والولد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم.
11. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ الضمير للوالدين، والفصال: الفطام عن الرضاع، أي: التفريق بين الصبيّ والثدي، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه.
12. ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾ أي: صادرا عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ في ذلك الفصال، سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل الحولين كان ذلك جائزا له، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما، فلا بدّ من الجمع بين الأمرين بأن يقال: إن الإرادة المذكورة في قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ لا بدّ أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدهما، أو كانت المرضعة للصبي ظئرا غير أمه، والتشاور: استخراج الرأي، يقال: شرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة: أجريتها لاستخراج جريها، فلا بدّ لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر، ويشاوره، حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك.
13. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة، وعن سيبويه أنه حذف اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين، والمفعول الأول محذوف، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم.
14. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾ بالمدّ، أي: أعطيتم، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير، فإنه قرأ بالقصر، أي: فعلتم، ومنه قول زهير:
وما كان من خير أتوه فإنّما...توارثه آباء آبائهم قبل
والمعنى: أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم؛ إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري ومجاهد، وقال قتادة، والزهري: إن معنى الآية: إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي: سلم كل واحد من الأبوين، ورضي، وكان ذلك عن اتفاق منهما، وقصد خير، وإرادة معروف من الأمر، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: ﴿سَلَّمْتُمْ﴾ عاما للرجال والنساء تغليبا، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط؛ وقيل: المعنى: إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه، أي: إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف: أي: بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات، من دون مماطلة لهنّ، أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهن على التساهل بأمر الصبيّ والتفريط في شأنه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/282.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾، أي: من المطلقات ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، أي: سنتين كاملتين ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، أي: هذا الحكم لمن أراد أن يتم رضاع الولد، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك، وأنه لا رضاع بعد التمام، قال الحرّاليّ: وهو ـ أي الذي يكتفي به دون التمام ـ هو ما جمعه قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15]، فإذا كان الحمل تسعا كان الرضاع أحدا وعشرين شهرا، وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثا وثلاثين شهرا، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع.
2. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ ـ أي: الأب ـ وعبّر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه، لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم؛ قال بعضهم:
وإنما أمهات الناس أوعية...مستودعات وللآباء أبناء
3. ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾، أي: على والد الطفل نفقة أمّه المطلقة مدّة الإرضاع، أي طعامهنّ ولباسهنّ ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو قدر الميسرة كما فسّره قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، يعني طاقتها؛ والمعنى: أنّ أبا الولد لا يكلّف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته، ولا يبلغ إسراف القدرة.
4. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾، أي: يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ﴾، يعني الأب ﴿بِوَلَدِهِ﴾، بطرح الولد عليه؛ يعني: لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها، تضاره بذلك، وهذا التأويل على تقدير كون (تضارّ) مبنيا للمفعول، وأما على بنائه للفاعل، فالمفعول محذوف والتقدير، لا تضارر ـ بكسر الراء الأولى ـ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول (بعد أن ألفها الصبيّ): اطلب له ظئرا، وما أشبه ذلك؛ ولا يضارر مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه.
5. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، أي: على وارث الأب أو وارث الصبيّ مثل ما على الأب من النفقة وترك الضرار إذا لم يكن الأب.
6. ﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾، يعني الزوج والمرأة ﴿فِصَالًا﴾، أي: فصال الصبيّ عن اللبن قبل الحولين ـ يعني: فطاما ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا﴾، بتراضي الأب والأم ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ بمشاورتهما ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، أي: على الأب والأم إن لم يرضعا ولدهما سنتين.
7. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾، يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ ـ يعني إلى المراضع ـ ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾، أي: ما أردتم إيتاءه إليهن من الأجر ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق بـ ﴿سَلَّمْتُمْ﴾ أي: سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور، والمقصود ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع حتى يؤمن من تفريطهنّ بمصالح الرضيع ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/155.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِداتُ﴾ مسلمات أو كتابيات، حرائر أو إماء، باقيات أو مطلَّقات، ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ في الحكم الشرعيِّ، أو أَرضِعن يا والدات، كما مرَّ في ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، والأمر للندب عند قدرة الأب أو سيِّد الزوج على الإجارة، ووجود غير الأمِّ، وقبول الولد لغيرها، وللوجوب عند فقد ذلك، فيكون من عموم المجاز خروجًا من الجمع بين الحقيقة والمجاز.
2. وأضاف الولد إليهنَّ استعطافًا، ولأنَّ الإرضاع من خصائص الولادة لا الزوجيَّة، وجاء الحديث: (إنَّ الأمَّ أحقُّ بالولد ما لم تتزوَّج)، وقيل: المراد المطلَّقات، فيعلم حكم غيرهنَّ من وجوب نفقة الزوج على زوجها، ويدلُّ له أنَّ نفقة غيرهنَّ للزوجيَّة لا للإرضاع، إلَّا أنَّ قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ يدلُّ على أنَّها للولادة، والولادة علَّة للإرضاع، ويناسب هذا القول أنَّ المطلَّقة هي التي تتعاصى أن ترضع انتقامًا لمطلِّقها ولتتفرَّغ للتزوُّج بغيره، وأنَّ الباقية هي في نفقة الزوج على العادة من قبلُ، وقيل: المراد الباقيات، لأنَّ المطلَّقة لا تستحقُّ الكسوة بل الأجرة.
3. ﴿حَوْلَيْنِ﴾ عامين، سمِّي العام حولاً لتحوُّله، وعلَّة الاسميَّة لا توجبها، فلا يرد عدم تسميته الأيَّام والشهور حولاً، ﴿كَامِلَيْنِ﴾ لا ناقصينِ؛ لأنَّه يقال: حولان، ولو مع نقص، كما قال: ﴿الْحَجُّ أشْهُرٌ﴾ [البقرة: 197]، وكما يقال: عشرة ذي الحجَّة، والمراد تسعة، أو مع ليلة الأضحى، وليس ذلك حدًّا واجبا، وإنَّما هو قطع للنزاع بين الزوجين، فلو قطع الرضاع قبل الحولين عنه لقوَّته ومضرَّة الرضاع، أو زيد عليهما لجاز.
4. وقد قال: ذلك ﴿لِمَنَ اَرَادَ﴾ من الزوجين، أو يرضعن لمن أراد وهو الأب، ﴿أَنْ يُّتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ بلا نقص ولا زيادة، ويجب النقص أو الزيادة لعارض ضرٍّ، ولا عبرة للرضاع بعد حولين في تحريم النكاح وإباحة المصافحة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا رضاع بعد فصال) أي لا حكم رضاع، وعن أبي حنيفة: مدَّة الرضاع ثلاثون شهرًا، وعن زفر: ثلاث سنين.
5. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ وهو الأب، ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لأجل ولادته له، كما أنَّ الإرضاع علَّته ولادتهنَّ له، وتعليق الحكم بمعنى المشتقِّ يؤذن بعلِّيَّة معنى ما منه الاشتقاق، وعبَّر بـ (الْمَوْلُودِ لَهُ) ليتقوَّى أنَّ الْمُؤَنَ عليه، لأنَّه ولد له؛ ولذا لم يقل: وعلى الوالد مع أنَّه أنسب بقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾، فعليه الرّزق والكسوة ولو لم يطلِّقها إن أرادت الأجرة، وهو زيادة على نفقة الزوجيَّة، وقال أبو حنيفة: ليس لها الأجرة ما بقيت غير مطلَّقة، أو مطلَّقة لم تخرج العدَّة، ولكن أمروا بالمؤونة لئلَّا يتوهَّم أنَّه لا نفقة لهنَّ لاشتغالهنَّ عن الأزواج بالأولاد، كما أنَّ لها النفقة عليه إذا سافرت بإذنه في حاجته، والمعروف ما يراه الحاكم شرعًا ومروءة بقدر طاقة المولود له، ونفقة ولد الأمة من حرٍّ على مالك الأمة لأنَّه عبده.
6. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ لا تكلِّف زوجها، ولا يكلِّفها، ولا يكلِّفهما الله، ﴿اِلَّا وُسْعَهَا﴾ في جميع أمورها، ونفقة الزوجات والأولاد وغير ذلك، وعلى الأب نفقة الولد من ماله، وإن كان للولد مال فمن مال الولد، ولا حدَّ في نفقة الزوجة والمطلَّقة والمرضعة سوى ما يليق بالنظر، كما قال العاصميُّ:
çوكـلٌّ راجع إلى افتراض...مُوَكَّل إلى اجتهاد القاضي
بحسب الأوقات والأعيان...والسعـر والزمان والمكانé
وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك)، ولكن لا بدَّ من ذكر بعض الفروع ليرتاح إليها الطالب:
أ. فللزوجة السكنى وجلباب وملحفة ومقنعة ووقاية وخفٌّ ممَّا قدِّر له من مال، وفي أثر: على الغنيِّ البساط والكساء والمقنعة والجلباب والكرزيَّة، فإنْ كان غنيًّا فليصبغ الكساء بالأرجوان والمقنع والجلباب باللَّك، وإنْ كان أوسط صبغت بالفوَّة، أو مفلسًا فبالدباغ وهو (تاكوت)، والأمر على ما يعتاد، وقد لا يصبغ أهل بلد، وقد يكفيها أكثر أو أقلُّ، وفي أثرٍ: لها قميص وملحفة ورداء وخمار ومربع ووقاية وخفٌّ وقرق، وإنْ كان أوسط فقميص وحوليَّة ومقنع ومربع ووقاية وقرق، وإنْ كان فقيرًا فعباءة ووقاية، ولا تدرك ما تصلِّي به فوق ذلك، وعليه غسل ما نجس من ثيابها أو اتَّسخ، وعليه الماء لصلاتها.
ب. والمشهور عند قومنا ـ وعليه الأكثر ـ أنَّ نفقة الزوجة بحسب ما يصلح، وقال الشافعيُّ: على الغنيِّ مدَّان من برٍّ في اليوم، وعلى الوسط مدٌّ ونصف، وعلى الفقير مدٌّ، وهو قول لأصحابنا(2) ولمالك، وفي إدراكها الحنَّاء قولان، وعليه فراش صيفًا، وغطاءٌ وفراش شتاء، ولباس الصيف غير لباس الشتاء، وكذا المرقد والسكنى، ولها بعد الطلاق ما لها قبله ما لم تتمَّ العدَّة، وفي أثرٍ: على الغنيِّ أربع ويبات بويبة (أمسنين) في الشهر، وعلى الأوسط ثلاث، وعلى المعسر ويْبَتان، وهي نصف ويبة (ابنَّاينْ) وويبة وثلث بويبة (يَفْرَنْ)، وذلك بالويبة القديمة وهي تسع الويبة المستعملة وهي أربعة وعشرون مدًّا؛ فعلى الغنيِّ عشرة أمداد وثلثا مدٍّ، هذا ما يقتضيه كلام بعض، ونصف قرن من زيت مع كلِّ ويبة إذا رخُص، وإذا غلا فنصفه مع كلِّ ويبتين، وذلك تضييق، والأولى: ما قيل: إنَّ على الوسط ربع صاع من الحبِّ لكلِّ يوم ومَنّا تمر، وفي وقت البُرِّ برٌّ ووقت الذرة ذُرَة، وإنْ كانت ممَّن يأكل البرَّ على الاستمرار فلها، ودرهمان أو ثلاثة لكلِّ شهر إدامًا ودهنًا على ما يرى الحاكم.
ج. قال أبو عبد الله محَمَّد بن عمرو بن أبي ستَّة: وممَّا وجد بخطِّ عمِّنا أحمد أبي ستَّة وأسنده إلى من قبله من المشايخ أنَّ الفقير يفرض عليه في النفقة الكاملة صاعان، يعني بكيل جربة بين الشعير والقمح، الثُّمُن قمح أو ذرة، والباقي شعير في كلِّ شهر، مع نصف صاع زيتا مع ثلث درهم لحمًا أو سمكًا، وفي الرضاع لكلِّ شهر درهمان يعني على الرضيع، وإذا خرج من حدِّ الرضاع فله ثلث النفقة، وإذا تمَّت أربع سنين يفرض له نصف النفقة، فإذا بلغ خمسًا أو ستَّ سنين يفرض له النفقة الكاملة.
د. قال البسياني: ونفقة الصغير إذا طلِّقت أمُّه ولو تزوَّجت ثلث نفقة إذا فصل عن الرضاع، حتَّى يبلغ خمسة أشبار، ثمَّ نصف النفقة حتَّى يصل ستَّة أشبار ثمَّ ثلثا النفقة حتَّى يبلغ، وقيل في ذلك بنظر العدول، وفي أثرٍ: للأمِّ نفقة الرضيع حتَّى يفطم زيادة على نفقتها إذا طلِّقت، ونفقته على الفقير بعد الفطام ثلث النفقة الكاملة وهي صاعان بكيل جربة، الثمن قمح وذرَّة، والباقي شعير في كلِّ شهر مع نصف صاع زيتًا وثلثي درهم لحمًا أو سمكًا، إلى أنْ تتمَّ أربع سنين أو حتَّى يبلغ خمسة أشبار، وقيل: أربعة أشبار ونصفا، فيكون له نصف هذه النفقة الكاملة، واعترض التحديد بالأشبار لأنَّ من الصبيان الطويل القليل الأكل وضدُّه، وإذا بلغ خمسًا أو ستًّا كملت، وقيل: إنْ كان في سبعة فنصف نفقة أمِّه أو في خمسة فثلثها، أو في عشرة إلى اثني عشر فثلثاها، وللرَّضيع أوقية في الشهر، وللحاضنة ثمن الأوقية في الشهر، وذكر أبو عبد الله محَمَّد بن عمرو بن أبي ستَّة في حاشيته على تفسير الشيخ هود رحمهما الله أنَّه إذا بلغ ستَّ سنين فثلثا النفقة حتَّى يبلغ، كقول بعض المشارقة: إذا بلغ ستَّة أشبار فثلثاها إلى البلوغ، وقيل: إذا بلغ ستَّة أشبار ولم يبلغ نقص من التامَّة قليلاً.
7. ﴿لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ﴾ أي لا يضرُّها أبو الولد، ﴿بِوَلَدِهَا﴾ إخبار عمَّا في الشرع، أو نهي غائب بـ (لَا) النافية أو الناهية، أي: لا ينزعه منها أبوه وقد أحبَّت إرضاعه، وقبل منها بلا مضرَّة تلحقه منها، ولا تكره على إرضاعه إذا أبت.
8. ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ﴾ أي لا تضرُّ أبا الولد، ﴿بِوَلَدِهِ﴾ بأنْ تكلِّفه فوق طاقته في الإنفاق، أو بأنْ تلقيه إليه وقد ألفها، والمفاعلة بمعنى الفعل أو على بابها بأنْ يكون في كلٍّ منها ضرٌّ للآخر يجازيه بشأن الولد، أو الباء صلة على البناء للفاعل، أي: لا يضرَّان ولدهما، وإضافة الولد إليهما عطف لهما إليه ليتَّفقا على صلاحه.
9. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ وارث الولد لأنَّ (ال) كالعوض عن الضمير، والضمير لأقرب مذكور، أي: من يكون وارِثًا لذلك الولد لو مات من سائر قرابة الولد العاصبين له، كما قال عمر بن الخطَّاب وأبو زيد، فإنَّه يموِّن مرضعته من ماله.
10. وإنْ كان للولد مال فمن مال الولد، هذا مذهبنا ومذهب ابن أبي ليلى، وقيل: كلُّ من يرثه من القرابة، وقال أبو حنيفة: الوارث الذي لو كان ذكرًا والولد أنثى أو بالعكس لم يتزوَّجا، وبذلك قال حمَّاد وابن مسعود، إذ قرأ: (وعلى الوارث ذي الرحم المحرَّم مثل ذلك) وقيل: الوارث الولد، إذ هو وارث الأب إنْ مات الأب، وقيل: الأمُّ إنْ مات الأب، ومذهب الشافعيِّ أنَّه لا نفقة على غير الفروع والأصول، وعنه الوارث وارث الأب وهو الصبيُّ، فإنَّ مُؤَن الصبيِّ من مال الصبيِّ إنْ كان له مال، وقد قيل: الوارث الباقي أي من بقي من أبويه وهو الأمُّ بعد موت الأب، روى الترمذي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (اللهمَّ متِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوانا ما أحييتنا واجعلها الوارث منَّا واجعل ثأرنا على من ظلمنا).
11. ﴿مِثْلُ ذَالِكَ﴾ مثل ما وجب على الأب من الرَّزق والكسوة، ﴿فَإِنَ اَرَادَا﴾ الأب والأمُّ، ﴿فِصَالاً﴾ فطامًا قبل الحولين لولدهما، ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ اتِّفاق، متعلق بـ (صادرًا) محذوفًا أو (ثابتًا)، أي: صادرًا عن تراض، أو ثابتًا عن تراض أو بـ (أَرَادَا)، ﴿مِّنْهُمَا﴾ لا برضًا من أحدهما فقط، لاحتمال أنْ تملَّ الأمُّ من إرضاعه والقيام به، أو يبخل الأب بالأجرة فيضرَّ الولد، واعتبرت الأمُّ مع أنَّ الوليَّ الأبُ لأنَّها أشفق على الولد وأصبر له وأنظر لمصلحته.
12. ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ استخراج رأيهما، من شار العسل يشوره، أي: استخرجه؛ وذلك لحلاوة النصح كالعسل، والمراد التشاور بينهما، لولاية الأب بالنفقة والأمِّ بالشفقة، ولو اتَّفقا على فصل قبل الحولين مع مضرَّة الولد لذلك لم يجز.
13. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ في ذلك الفصال قبل الحولين، وكما يجوز الفصال قبل الحولين باتِّفاقهما مع عدم مضرَّة الولد يجوز اتِّفاقهما على الزيادة على الحولين، بل قد يجوز دخول هذا في الآية، لأنَّ التنكير في (فِصَالاً) للإيذان بأنَّه فصال غير متعارف، وكما يحصل عدم التعارف بالنقص يحصل بالزيادة، وقوله: ﴿فَإِنَ اَرَادَا فِصَالاً﴾ مقابل لقوله: ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، وإنْ أرادت الزيادة بلا أجرة وكانت نفعًا للولد لم تُمنع، أو ضرًّا مُنعت.
14. ﴿وَإِنَ اَرَدْتُّمُ أن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ﴾ من غير أمَّهاتهم، فحذف المفعول الثاني، أي: تجعلوا أولادكم راضعين مراضع غير أمَّهاتهم، أي: ماصِّين لهنَّ، أو حذف الأوَّل، أي: تصيِّرونهنَّ مرضعات، أي: مصيِّرات الأولاد ماصِّين، وإنَّما يراد غير الأمَّهات لمضرَّة فيهن كبرص وجذام، أو لإرادتهنَّ التزوُّج، أو لطلبهنَّ ما فوق أجرة المثل، قالت الشافعيَّة: أو وجد الأب من يرضعهم بلا أجرة أو بأجرة أقلَّ ممَّا طلبت الأمُّ، وقد صلحت لهم غير أمَّهاتهم، وقيل: إذا أرادتهم الأمَّهات بأجرة المثل فهنَّ أولى ممَّن يرضعهم بلا أجرة أو بأقلَّ.
15. وحقُّ الإرضاع للأب، وواجب على إطلاقه عند الشافعيَّة، وأنَّ له أن يمنع الأمَّ من إرضاعه، ومذهبنا ومذهب الحنفيَّة أنَّ الأمَّ أحقُّ بإرضاع ولدها، وأنَّه ليس للأب منعها من الإرضاع إذا رضيت أن ترضعه، لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ فحقُّ الإرضاع للأمِّ، وإن كان مندوبًا وليس بواجب عليها، وإلَّا لم يكن للأمر كبير فائدة، فإنَّ الأب إن قدر أن يمنع الأمَّ إذا رضيت بالإرضاع فكيف تمتثل الأمر، فإطلاق ما هنا مقيَّد بما هنالك؛ وكأنَّه قيل: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم ورضيت الأمُّ).
16. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم﴾ في استرضاع غير الأمَّهات ﴿إِذَا سَلَّمْتُم﴾ أعطيتم، أي: إذا نويتم تسليمًا لا مكرًا ﴿مَّآ ءَاتَيْتُمْ﴾ أثبتم بالعقد والوعد، ولا يشترط النقد، كأنَّه قيل: إذا أثبتُّم في العقد للأجرة ما من شأنه أن يثبت، سواء نقدًا أو عاجلاً أو آجلاً؛ وقيل: المراد في الآية النقدُ إرشادًا للمصلحة وتطييبًا لنفس المرضعة لا شرطًا، لكن أخرج مخرج الشرط تأكيدًا، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ في الإعطاء وفيما يعطى وفي القول والمعاملة الحسنة، ﴿وَاتَّقُواْ اللهَ﴾ في كلِّ شؤونكم من شأن الأزواج والمراضع والأولاد، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا تخفى عليه تقواكم أو معصيتكم.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/65.
(2) يقصد الإباضية
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا انتقال من أحكام الطلاق إلى أحكام الرضاعة، وكلاهما من أحكام البيوت (العائلات) الهادية إلى كيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف وتربية الأطفال، فمن ثم عطف على ما قبله.
2. للمفسرين في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: أنه خاص بالمطلقات لوجوه:
• أحدها: أن الكلام السابق في أحكامهن وهذا من تتمته.
• ثانيها: إيجاب رزقهن وكسوتهن على الوالد، ولو كن أزواجا لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب؛ لأن النفقة على الزوج التي في العصمة واجبة للزوجية لا للرضاع
• ثالثها: أن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه؛ لأنه يحول دون زواجها في الغالب، ولما فيه من النكاية بالرجل ولا سيما الذي لم يتيسر له استئجار ظئر تقوم مقام الوالدة.
• وهنا وجه (رابع) لترجيح هذا القول ظهر لي الآن؛ وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد، وإنما تضار بذلك المطلقة دون التي في العصمة، فبين أن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها كسائر الوالدات، وأنه ليس للمطلق منعها منه وهو عرضة لهذا المنع.
ب. الثاني: أنه خاص بالوالدات مع بقاء الزوجية، قال الواحدي في هذا القول: هو الأولى؛ لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة، وأقول: إن هذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه؛ لأنه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء على القرآن وهذا القول أضعف الأقوال.
ج. الثالث: أنه عام في جميع المطلقات، وقال كثيرون: إنه أولى عملا بظاهر اللفظ؛ فهو عام لا دليل على تخصيصه، ويكون الرزق والكسوة ـ أي النفقة ـ خاصا ببعض أفراد العام وهن الوالدات المطلقات، وقال بعضهم: إن استئجار الأم للإرضاع صحيح، وعبر عن الأجرة بالرزق والكسوة، وقيل: إنه ليس في الآية ما يدل على أن الرزق والكسوة لأجل الرضاع، وأنت ترى أن هذا خلاف المتبادر من الآية، ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامة زيادة عما نستفيد بجعلها خاصة، إلا أنه يجب على غير المطلقة من إرضاع الولد مطلقا أو بشرط ما يجب على المطلقة بالنص، وأنه من حقوقها أيضا، وهذا يؤخذ من الآية إذا حملت على التخصيص بالطريق الأولى، على أن القائلين بالعموم لم يقولوا بهذا الوجوب مطلقا كما يأتي، ولا أذكر عن محمد عبده ترجيحا أو اختيارا في هذه المسألة.
3. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره على نحو ما تقدم في قوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾، وزعم بعضهم أنه خبر على بابه؛ أي: إن شأن الوالدات ذلك، وأنت ترى أنه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام، وكأن صاحب هذا القول أراد أن يقوي به قول الفقهاء الذين يرون أنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلا إذا تعينت مرضعا بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو قدر ولم يجد الظئر، على أن هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعا من حكمهم هذا، فقد حملوه على الندب في حال الاختيار، قالوا: لأن لبن الأم أنفع للولد من لبن الظئر، وخاصة إذا لم يكن ولد الظئر في سنه، والظاهر أن الأمر للوجوب مطلقا؛ فالأصل أنه يجب على الأم إرضاع ولدها، واختاره محمد عبده؛ يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه، ولا يمنع الوجوب جواز استنابة الظئر عنها مع أمن الضرر؛ لأن هذا الوجوب للمصلحة لا للتعبد، فهو كالنفقة على القريب بشرطها، فإذا اتفق الوالدان على استئجار ظئر، ورأيا أنها تقوم مقام الوالدة فلا بأس كما في مسألة الفصال الآتية.
4. كما يجب على الأم إرضاع ولدها يجب لها ذلك بمعنى أنه ليس للوالد أن يمنعها منه، ولأن يمنع الرجل مطلقته من إرضاع ولدها منه إن أبيح له ذلك أقرب من أن تمتنع هي عن إرضاعه، وكان الذي يتبادر إلى فهمي أن المقصود من الجملة أولا وبالذات هو أن من حقوق الوالدات أن يرضعن أولادهن، وما المطلقات إلا والدات فيجب تمكينهن من إرضاع أولادهن المدة التامة للرضاع، وهي كما حددها فيرضعنهم.
5. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ والحول: العام والسنة، وهو في الأصل مصدر حال يحول إذا مضى وإذا تغير وتحول، فالعام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين، وأما السنة فهي تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله.
6. حددت مدة الرضاعة التامة بسنتين كاملتين مراعاة للفطرة بالنسبة إلى ضعف الأطفال في أقل البيوت أو البيئات استعدادا للعناية بالتربية، واللبن هذا الغذاء الموافق لكل طفل في هذه المدة، وهذه المدة هي التي تثبت بها حرمة الرضاعة في النكاح، ومن العجب أن ترى الفقهاء اختلفوا في مدة الرضاعة بعد تحديد الله سبحانه لها فقال بعضهم: هي ثلاثون شهرا، وقال بعضهم: ثلاث سنين، ولكن الجماهير على أن مدتها التامة لا تزيد على حولين كاملين، وقد تنقص إذا رأى الوالدان ذلك؛ لأن قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أجاز الاقتصار على ما دون الحولين ولم يحدد أقل المدة، بل وكله إلى اجتهاد الوالدين الذي تراعى فيه صحة الطفل، فمن الأطفال السريع النمو الذي يستغني عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين بعدة أشهر، ومنهم القميء البطيء النمو الذي لا يستغني عن ذلك، وقد استنبطوا من قوله تعالى في سورة الأحقاف: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ أقل مدة الحمل بناء على أن الحولين أكثر مدة الرضاعة، فإن ما يبقى بعد طرح شهور الحولين من ثلاثين شهرا هو ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل، روي هذا عن علي وابن عباس، وقالوا: لعل الحكمة في تحديد المدتين ـ أكثر الرضاعة وأقل الحمل ـ هي انضباطهما دون ما يقابلهما، وقد يقال: إننا نطرح مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر من مجموع مدة الحمل والفصال وهي ثلاثون شهرا، فالباقي وهو واحد وعشرون شهرا ينبغي أن يكون أقل مدة الرضاعة.
7. الظاهر أن معنى قوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ ذلك لمن أراد إتمامها؛ ولذلك قلنا: إن الأمر موكول إلى اجتهاد الوالدين، فاللام متعلق بمحذوف، وقيل: إنه متعلق بقوله: ﴿يُرْضِعْنَ﴾ أي: أنهن يرضعن هذه المدة لمن أراد إتمامها من المولود لهم وهم الآباء، فيكون الأمر لهم في ذلك خاصة، وسيأتي ترجيح الأول في قوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾.
8. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ المولود له هو الأب، ووجه اختيار هذا التعبير على لفظ الوالد والأب هو الإشعار بأن الأولاد لآبائهم، لهم يدعون وإليهم ينسبون، وأن الأمهات أوعية مستودعة لهم كما قال المأمون:
وإنما أمهات الناس أوعية... مستودعات وللآباء أبناء
وهذا الذي قاله المأمون لا يصح إلا على العرف الجاهلي، وهداية الإسلام أن الولد لوالديه يتقاسمان تربيته بحسب فطرة كل منهما، وحقوق الزوجية التي تقدم بيان حظ كل منهما فيها، فالتعبير بالمولود له مقابل التعبير بالوالدات، واختير للتنبيه على علة وجوب النفقة كأنه يقول: إن هؤلاء الوالدات قد حملن وولدن لك أيها الرجل، وهذا الولد الذي يرضعنه ينسب إليك، ويحفظ سلسلة نسبك من دونهن، فعليك أن تنفق عليهن ما يكفيهن حاجات المعاش من الطعام واللباس ليقمن بذلك حق القيام، فاختيار لفظ ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ هنا على لفظ الأب والوالد هو الذي تقضي به البلاغة قضاء مبرما، وبه يستفاد ما لا يستفاد بهما، وأين نجد هذه الدقة في غير القرآن العزيز؟
9. المراد بكون هذه النفقة بالمعروف أن تكون كافية لائقة بحال المرأة في قومها وصنفها، لا تلحقها غضاضة في نوعها ولا في كيفية أدائها إليها، وتقدم أن هذا يرجح أن المراد بالوالدات المطلقات منهن، وقد عبر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة الواجبين للمرأة بمقتضى الزوجية دون الأجرة حتى لا يتوهم أن كل والدة تجب لها الأجرة على إرضاع ولدها؛ لأن الكلام بدئ بلفظ (الوالدات) وأما في سورة الطلاق فقد عبر بلفظ الأجرة إذ قال: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ لأن الكلام هناك في المطلقات لا يحتمل غيره، فلا إبهام في اختيار اللفظ الأخير، ولو توجه الذهن إلى فهم الآية غير مثقل بأقوال الفقهاء لما فهم غير هذا منها، ومن فهمها مجردة غير محمولة على مذهب معين لا يحتاج إلى الكلام في جواز استئجار الأم للرضاع مطلقا وعدمه وهي في النكاح أو العدة؛ إذ المتبادر من الآية أن الأم يجب عليها إرضاع ولدها عند عدم المانع الشرعي، ويجب لها ذلك أيضا ـ كما تقدم آنفا ـ وأن المطلقات إذا كن والدات يجب أن ينفق عليهن مدة الإرضاع لما تقدم، وهن في هذه المدة إما بائنات ـ ولعله الأكثر لندرة طلاق أم الطفل ولا خلاف في جواز استئجارهن حينئذ ـ وإما معتدات تجب لهن النفقة لعدم خروجهن من عصمة النكاح، وقد استشكلوا استحقاق هؤلاء الأجرة على الإرضاع، ولا إشكال في وجوب الشيء بسببين، ولا تكرار في نصي الوجوب؛ لأن كل واحد منهما جاء في موضعه، وله صورة ينفرد بها، إذ المعتدة قد تكون والدة وغير والدة، والمرضع تكون بائنة ومعتدة، وكل منهما مشغولة بمصلحة الرجل المطلق شغلا يمنعها من زواج يغنيها عن نفقته؛ لأن المرضع قلما يرغب فيها وقلما ترغب هي في الزواج، ثم إنها لا تستحق ولدها إذا تزوجت.
10. لما كان المكلفون من الرجال يتفاوتون في الإعسار والإيسار بالنفقة، فمنهم من لا يقدر على اللائق بالمرأة في عرف الناس، ومنهم من يقدر على أكثر من ذلك، عقب تعالى هذا الأمر بقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فسر بعضهم الوسع بالطاقة وهو غلط؛ لأن الوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ استغراقها، وأما الطاقة فهي آخر درجات القدرة فليس بعدها إلا العجز المطلق كأنها آخر طاقة؛ أي فتلة من الطاقات التي يتألف منها الحبل، والمعنى أن المطلوب التوسع في النفقة من السعة؛ أي: بحيث لا ينتهي إلى الضيق، وقد بسط هذا الإيجاز في سورة الطلاق بقوله تعالى في هذا المقام: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾
11. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ﴿لَا تُضَارَّ﴾) بالضم تبعا لقوله: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ﴾ والباقون بالفتح وكلاهما جائز في اللغة، وهو نهي عن المضارة صريح، والأول نهي في المعنى خبر في اللفظ، وقالوا: إن الكلام تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم، والصواب أنه يفيد ـ مع تعليل الأحكام السابقة ـ حكما جديدا عاما، فمنع الرجل المرأة من إرضاع ولدها ـ وهي له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف ـ إضرار بها بسبب ولدها، والتضييق عليها في النفقة مع الإرضاع إضرار بها بسبب ولدها، وامتناعها هي من إرضاعه ـ تعجيزا للوالد بالتماس الظئر أو تكليفه من النفقة فوق وسعه ـ إضرار به بسبب ولده؛ فالعلة في الأحكام السابقة منع الضرار من الجانبين لإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، وهو يتناول تحريم كل ما يأتي من أحد الوالدين للإضرار بالآخر؛ كأن تقصر هي في تربية الولد البدنية أو النفسية لتغيظ الرجل، وكأن يمنعه هو من أمه ولو بعد مدة الرضاع أو الحضانة، فالعبارة نهي عام عن المضارة بسبب الولد لا يقيد ولا يخصص بوقت دون وقت أو حال دون حال أو شخص دون شخص، وكلمة ﴿تُضَارَّ﴾ تحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول وهي للمشاركة، وإنما أسندت إلى كل واحد من الوالدين للإيذان بأن إضراره بالآخر بسبب الولد إضرار بنفسه، ومنه أنه يتضمن ضر الولد أو يستلزمه، وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين هم كل واحد منهما إيذاء الآخر وضرره به؟ والنهي عن المضارة في هذا المقام يؤيد القول بأن الكلام في الوالدات المطلقات كما تقدم.
12. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وما بينهما معترض للتعليل أو التفسير لما قبله من كون ذلك بالمعروف وإن أفاد حكما جديدا، وقد اختلفوا في الوارث هل هو وارث المولود له؛ أي: الأب، لأن الكلام فيه، أو وارث الولد لأنه وليه تجب عليه نفقته؟ واختلف القائلون بأن المراد وارث الأب هل هو عام أو خاص بعصبته، أو بالولد نفسه؟ أي إن نفقة إرضاعه تكون من ماله إن كان له مال وإلا فهي على عصبته، وقال بعضهم: إن المراد بالوارث وارث الصبي من الوالدين، أي وإذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه، وكل يحتمله اللفظ، ولعل الحكمة في هذا التعبير أن يتناول كل ما يصح تناوله إياه.
13. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ الفصال: الفطام؛ لأنه يفصل الولد عن أمه ويفصلها عنه فيكون مستقلا في غذائه دونها، والمراد أنه لما كان ما ذكر من تحديد مدة الرضاعة وكون الحق فيها للوالدة، وكونها تستحق الأجرة عليها إذا كانت مطلقة، كل ذلك لدفع الضرار وتقرير المصلحة لا للتعبد، كان للوالدين صاحبي الحق المشترك في الولد والغيرة الصحيحة عليه أن يفطماه قبل هذه المدة أو بعدها إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور فيه، بحيث يكونان راضيين غير مضارين به.
14. إذا كان القرآن يرشدنا إلى المشاورة في أدنى أعمال تربية الولد ولا يبيح لأحد والديه الاستبداد بذلك دون الآخر فهل يبيح لرجل واحد أن يستبد في الأمة كلها وأمر تربيتها وإقامة العدل فيها أعسر ورحمة الأمراء أو الملوك دون رحمة الوالدين بالولد وأنقص!؟
15. قال أبو مسلم: يحتمل الفصال معنى آخر وهو إيقاع المفاصلة بين الأم والولد؛ أي بأن ترضى هي بضمه إلى أبيه يستأجر له ظئرا ترضعه ويرضى هو بذلك لا يضار به أحدهما الآخر.
16. بهذه المناسبة مناسبة الحكم بأن الحقوق والواجبات المتعلقة بالولد مشتركة بين والديه، ولهما الخيار في تقرير ما فيه المصلحة بالتراضي مع انتفاء الضرر، أو مناسبة جواز فصل الطفل عن أمه برضاها، ذكر حكم المسترضعات وهن الأظآر اللواتي يرضعن بالأجرة فقال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ يقال: استرضعت المرأة الطفل إذا اتخذتها مرضعا له، ويحذفون أحد المفعولين للعلم به فيقولون: استرضعت الطفل كما يقولون: استنجحت الحاجة من غير ذكر من استنجح، والمعنى: إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات.
17. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال قتادة والزهري: أي إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي، بأن كان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير، وإرادة معروف من الأمر، فالخطاب عام للوالدين والوالدات على سبيل التغليب كذا في فتح البيان، أو إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه المراضع من الأجور بالمعروف، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وعادة، وقال محمد عبده: المراد به إعطاء الأجرة المتعارفة وهي ما يسميه الفقهاء أجر المثل، وفي هذا الشرط مصلحة المرضع ومصلحة الولد والوالد؛ لأن المرضع إذا لم تعامل المعاملة الحسنة المرضية بأخذ أجرها تاما لا تهتم بمراعاة الطفل ولا تعنى بإرضاعه في المواقيت المطلوبة وبنظافته وسائر شأنه، وإذا أوذيت يتغير لبنها فيكون ضارا بالطفل، والقول الأول مؤيد وموافق لما علم من كون الأم أحق بإرضاع ولدها كما تقدم، والثاني لا يعارضه؛ لأن الخطاب فيه يصح أيضا أن يكون للآباء والأمهات جميعا، والسكوت عن التصريح بالتراضي والتشاور بين الوالدين للعلم به، وهو يشمل ما إذا كان هناك مانع منع الأم من الإرضاع كمرض أو حبل، وقرأ ابن كثير وحده ﴿آتَيْتُمْ﴾) مقصورة الألف من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وروى شيبان عن عاصم ﴿أُوتِيتُمْ﴾) أي: آتاكم الله من الخير، والمراد الأجرة، كذا قالوا؛ والأقرب أن معناه إذا سلمتم المراضع ما أوتيتم من الولد بالمعروف، بأن يتفق الوالدان أو أحدهما إن استقل بالولد مع المرضع على أن تأخذ الولد لإرضاعه بطريقة معروفة شرعا وعادة مرضية لهما ولها.
18. ثم ختم الآية بما يبعث على التزام أحكامها والمحافظة عليها فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي: التزموا ما ذكر من الأحكام مع توخي حكمة كل منها، واتقوا الله في ذلك فلا تفرطوا في شيء منها، واعلموا علم اليقين أن الله بصير بما تعملون في هذا كله وغيره، فهو يحصي لكم عملكم ويجازيكم عليه، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بالتراضي والتشاور واجتناب المضارة جعلهم قرة أعين لكم في الدنيا وسببا للمثوبة في الآخرة، وإن اتبعتم أهواءكم وعمد الوالد إلى مضارة الوالدة به وعمدت هي إلى ذلك كان الولد بلاء وفتنة لهما في الدنيا، وكانا بعملهما السيئ في أنفسهما وولدهما مستحقين لعذاب الآخرة.
19. جاء الأمر الإلهي بإرضاع الأمهات أولادهن على مقتضى الفطرة(2)، فأفضل اللبن للولد لبن أمه باتفاق الأطباء، أي لأنه قد تكون من دمها في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحول اللبن الذي كان يتغذى منه الرحم إلى لبن يتغذى منه في خارجه، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه، وقد قضت الحكمة بأن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه، ولذلك كان مما ينبغي أن يراعى في الظئر أن تكون سن ولدها كسن الطفل التي تتخذ مرضعا له، ولبن المرضع يؤثر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه، ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع، ويجتنب استرضاع المريضة والفاسدة الأخلاق والآداب، ولكن لا يخشى من لبن الأم وإن كان بها علة في بدنها أو في أخلاقها لأن ما يأخذه من طبيعتها فإنما يأخذه وهو في الرحم، فاللبن لا يزيده شيئا.
20. هذا لا ينافي أن تمنع الأمهات من الإرضاع أحيانا لسبب عارض في البدن أو النفس وهذا نادر، وأما التدقيق في صحة المرضع وفي أخلاقها فيجب أن يكون مطردا إذا كانت ظئرا لا أما، قال محمد عبده: اللبن يخرج من دم المرضع ويمتصه الولد فيكون دما له ينمو به اللحم، وينشز العظم، فهو يشرب منها كل شيء من حسن وقبيح، وقد لوحظ أن من يرضع من لبن الأتان يغلظ قلبه، وكذلك لبن كل حيوان يؤثر على حسب حاله، ولكن حياة الإنسان نفسية عقلية أكثر مما هي بدنية، فجسمه مسخر لشعوره وعقله؛ لذلك كان تأثير الانفعالات والصفات النفسية من المرضع في الرضيع أشد من تأثير الصفات البدنية، وقد لاحظنا أن صوت المرضع قد ظهر في الولد الذي كانت ترضعه، فكيف بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية!؟ وقد نبه الفقهاء على هذا المعنى، وحكاية إمام الحرمين فيه معروفة.
21. ذكر المؤرخون أن أبا محمد الجويني والد إمام الحرمين الشهير (واسمه عبد الملك) كان ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، وكان يطعمها منه إلى أن حملت بإمام الحرمين وهو مستمر على تربيتها الحسنة وتغذيتها بالحلال، فلما وضعته أوصاها ألا تمكن أحدا من إرضاعه، فاتفق أن دخل عليها يوما وهي متألمة والصغير يبكي وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منها قليلا، فلما رأى ذلك شق عليه وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح على بطنه وأدخل أصبعه في فيه، ولم يزل به حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه، ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان يلحقه بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة فيقول: هذا من بقايا تلك الرضعة.
22. انظر إلى هذه المبالغة في العناية بتربية الأطفال من هؤلاء الأئمة، وقابله بتهاون الناس اليوم في أمر الولدان في رضاعتهم وسائر شئونهم، حتى إن الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به، قد صار نساء الأغنياء منهن يرغبن عنه ترفعا وطمعا في السمن وبقاء الجمال، أو ابتغاء سرعة الحمل، وكل هذا مقاومة للفطرة ومفسدة للنسل، وقد فطن له من عرف سنن الفطرة من الأمم المرتقية بالعلم والتربية، حتى بلغنا أن قيصرة الروسية ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع، ألسنا نحن المسلمين أولى بهذه الآداب في الرضاع والتربية من غيرنا؟ إن كانت الفطرة تقضي به فديننا دين الفطرة، وإن كان العلم يدل عليه فقد علمنا الله ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله، ولم نعرف أن دينا أرشد إلى ما أرشد إليه ديننا من ذلك، وإن كانت القدوة هي التي يعول عليها فقد علمت ما كان من أئمة علمائنا في ذلك، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهذا القرآن ليتحققوا بحقيقة الإسلام والإيمان.
__________
(1) تفسير المنار: 2/409.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة، وبين حرمة العضل على الأولياء ـ ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين.
2. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أي على جميع الوالدات مطلقات كن أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما، وقد تنقص المدة إذا رأى الوالدان أن في ذلك مصلحة، والأمر موكول إلى اجتهادهما.
3. إنما وجب ذلك على الأم لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، فالولد قد تكوّن من دمها وهو في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحول الدم إلى لبن يتغذى منه وهو منفصل منها، فهو الذي يلائمه في التغذية وهو سائر معه بحسب سنه، ولا يخشى على الولد منه من علة بدنية أو خلقية تكون فيه، فما أخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ومعرفة أخلاقها وبذل الجهد في اختيارها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دما له ينمو به اللحم وينشز العظم، فيؤثر فيه جسميا وخلقيا، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية في الرضيع أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه حتى لقد يؤثر صوتها في صوته، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية.
4. فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية لهذا، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع، فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعا وطمعا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد، وقد كان للمسلمين من دينهم وازع أيما وازع، فقد هداهم إلى ما فيه المصلحة في تربية الطفل وتهذيبه، ولم نر دينا تعرّض لمحاسن تربية النشء ومساويها مثل ما تعرض له الدين الإسلامي، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهديه، والتحلي بآدابه.
5. يرى جمع من العلماء أنه يجمل بالأم أن ترضع ولا يجب عليها ذلك إلا إذا تعينت للإرضاع بأن كان الولد لا يقبل غير ثديها كما يشاهد ذلك من بعض الأطفال، أو كان الأب عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو كان قادرا ولم يجد من ترضع.
6. قوله ﴿كَامِلَيْنِ﴾ تأكيد لذلك؛ إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال: أقمت عند فلان حولين بمكان كذا، ويكون قد أقام حولا وبعض الحول.
7. الحكمة في تحديد هذه المدة في الرضاع العناية بشئون الطفل، فإن اللبن هو الغذاء الموافق له في هذه السن، إلى أنه محتاج إلى شفقة وعناية تامة لا تتوافران عند غير الأم، إلا إذا رأى الوالدان المصلحة في أقل من ذلك، فهما اللذان يراعيان صحة الطفل فمن الولدان من يستغنى عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين.
8. استنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر وهى أقل المدة، وقد روى هذا عن على وابن عباس.
9. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام، وإنما عبر بالمولود له، ولم يعبر بالوالد للإشارة إلى أن الأولاد لآبائهم، فإليهم ينسبون، وبهم يدعون، والأمهات مستودعات لهم كما قال المأمون:
لا تزرين بفتى من أن يكون له...أمّ من الروم أو سوداء دعجاء
فإنما أمهات الناس أوعية...مستودعات وللأبناء آباء
والخلاصة ـ إن الوالدات قد حملن للوالد، وأرضعن له، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة ليقمن بخدمته، ويحفظنه ويرعين شئونه، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف اللائق بحال المرأة في البيئة التي تعيش فيها، ولا تلحقها بها غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه.
10. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي لا تلزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهى إلى الضيق، وقد فسر هذا في سورة الطلاق بقوله: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.
11. ثم بين الله تعالى العلة في تشريع الأحكام السابقة بقوله: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي إن العلة في تشريع ما تقدم منع الضرار من الجانبين بإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، فيحرم أن يأتي من أحد الوالدين إضرار بالآخر بسبب الوالد، فلا ينبغي أن تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر، أو تكلفه من النفقة فوق وسعه، أو تقصّر في تربية الولد تربية بدنية أو خلقية أو عقلية لتغيظ الرجل، كذلك لا يليق به أن يمنعها من إرضاع ولدها، وهى له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف، أو يضيّق عليها في النفقة مع الإرضاع، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.
12. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي وعلى وارث الصبى وهو قريبه الذي لا يجوز له أن يتزوجه على تقدير أن يكون أحدهما ذكرا والثاني أنثى، مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجرة الرضاع، وقيل المراد بالوارث وارث الصبى من الوالدين أي إذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه.
13. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: فإن للوالدين صاحبي الحق المشترك في الولد، الراغبين في تربيته تربية قويمة في جسمه وعقله ـ أن يفطماه قبل الحولين الكاملين أو بعدهما إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور والتراضي بينهما، لأن هذا التحديد إنما هو للمصلحة ودفع الضرر، فمتى رأيا الفائدة في الأقل أو في الأكثر فعلاه، أما إذا أقدم أحدهما على ما يضر بالولد كأن ملّت الأم الإرضاع، أو بخل الأب بإعطاء الأجرة بقية الأجل المضروب فلا حق له في ذلك، وإنما اعتبر رضا الأم مع أن ولىّ الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره، مراعاة لمصلحة الطفل، إذ هي لكمال شفقتها عليه لا تفكر إلا فيما له فيه خير وفائدة.
14. ها أنت ذا ترى إرشاد القرآن إلى استعمال المشورة في أدنى الأعمال لتربية الولد، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر ـ فما بالك بأجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء إليها في تربية الأمم وتدبير شئونها؟ ومن ثم طلبها القرآن الكريم من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ومدح المؤمنين بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾.
15. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات فلا ضير في ذلك إذا أعطيتم لهن الأجور المتعارفة لأمثالهن، لما في ذلك من مصلحة للمرضع ومصلحة للولد والوالد، فإن المرضع إذا لم تعامل معاملة حسنة ترضيها بأن تأخذ أجرها كاملا غير منقوص، وتمنح الهبات والعطايا ـ لا تهتم بالطفل ولا تعنى بإرضاعه، ولا بنظافته ولا بسائر شئونه، وإذا هي أوذيت تغير لبنها فيكون ضارا بالطفل مؤذيا له، ويتبع هذا إيذاء الوالد حين يرى ابنه على غير ما يحب ويهوى.
16. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شيء من هذه الأحكام مع توخّى الحكمة فيها، واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارّة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة.
17. ما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر، وأدوات الصانع، وماشية الزارع، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/185.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق.. إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق، علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه، وارتبط كلاهما به؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة، تستوفي كل حالة من الحالات.
2. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع، واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير، إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه.
3. الله أولى بالناس من أنفسهم، وأبر منهم وأرحم من والديهم، والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.
4. ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية، ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده، وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية.
5. للوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل: أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة؛ فكلاهما شريك في التبعة؛ وكلاهما مسئول تجاه هذا الصغير الرضيع، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾..
6. لا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخر: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾.. فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها، ليهددها فيه أو تقبل رضاعه بلا مقابل، ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها.
7. الواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.. فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى، تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث، وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده، فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات.
8. عند ما يستوفى هذا الاحتياط.. يعود إلى استكمال حالات الرضاعة.. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.. فإذا شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه، فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته، كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها، وأن يحسن معاملتها: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.. فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة، وله راعية وواعية.
9. في النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي.. بالتقوى.. بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.. فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية، وهذا هو الضمان الوحيد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/254.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بيّن الله في الآيات السابقة أحكام الطلاق وحدوده، والأخلاقيات التي ينبغي رعايتها فيه، وفى هذه الآية يبيّن الله أحكام الرضاع، لمن كان ثمرة الحياة الزوجية من بين وبنات.
الوالدة هي التي تتولى إرضاع ولدها، إذ هي أولى به، رعاية للمولود، وصيانة لحياته، إذ كان لبن الأم وحنانها ورعايتها في تلك المرحلة من حياته مما لم يكن ممكنا أن يعوض من امرأة أخرى غيرها.
2. جاء هذا الحكم: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ في صورة الخبر ولكنه يحمل في طياته الأمر والإلزام، فهو خبر وأمر معا، حتى لا يكون على سبيل الواجب الذي لا فكاك للمرأة عنه من جهة، وحتى لا تتحلّل منه المرأة من غير ضرورة، من جهة أخرى.. وبين هذين الموقفين يقع الحكم.
3. ثم إنه لم يجيء الأمر على سبيل الوجوب والإلزام، لأن عاطفة الأم في غنى عن أن يعطفها على وليدها أمر، وإنها لن تتخلّى عن هذا الواجب الطبيعي إلا إذا كانت تحت ظروف أكبر من عاطفتها، فكان من تدبير الحكيم العليم أن جعل ذلك حقّا لها في الجانب الخبري من الحكم، وجعله أمرا متوجها إلى الآباء في الجانب الأمري منه!
4. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ بيان للمدة اللازمة لفطام الصبىّ، وليس هذا التحديد على سبيل الوجوب، بل هو محكوم بتقدير حال الرضيع وحاجته، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.. وفائدة هذا التحديد ليضمن للأم حقّا في مدة الرضاع وهى سنتان، وقد لا تكون كلها لإرضاع الوليد، ولكن لمعالجة حاله بعد فطامه، وأخذه بالحياة المناسبة له بعد الفطام، وجعلها عادة له، حتى إذا بعد عن أمّه كان من الممكن تدبير شئون حياته.
5. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ حكم على الآباء بالنفقة الواجبة للأم المرضع، في مدة إرضاعها، وهذه النفقة هي مما يكفل للأم الحياة المناسبة من مسكن ومطعم وملبس.. على اختلاف في النوع والقدر، حسب يسر الوالد وإعساره.
6. ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ رفع للحرج عن الآباء في النفقة الواجبة للأم، فلا يتكلف لها الأب ما لا يطيق، ولا يحمل منها على ما يكره.. بل يطلب منه ما يقدر عليه، حسب يسره وإعساره، وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾
7. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ بيان لقوله سبحانه ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فكما لا يجوز أن يرهق الأب من أمره عسرا في النفقة على المولود، كذلك لا يجار على حق الأم في النفقة المطلوبة لها من والده.. فلا يكون الولد وهو نعمة من نعم الله على الوالدين، سببا في شقاء أحدهما وتعاسته.
8. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي وعلى وارث الأب أن يتكفّل في مال مورّثه ما يكفى حاجة الأم من مسكن وملبس وطعام، بالقدر الذي يتحمله ما ورث المولود من والده، فإن يكن المتوفى لم يترك شيئا، أو ترك ما لا يكفل حاجة الأم، كان على وارثه القيام بهذا من مالهم، حسب درجتهم في القرابة، وحسب يسرهم وعسرهم.
9. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي إن أراد الوالدان فطام الصبىّ قبل عامين فلا جناح عليهما بعد أن يتشاورا ويتراضيا على ما فيه من مصلحة المولود.
10. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي وإن أردتم أن تطيلوا مدة الرضاعة بعد العامين، وذلك لما يبدو من حال الطفل ومن حاجته إلى التغذية بيد أمه، كما كان يتغذى من ثديها.. فلا حرج في هذا، فكلمة استرضاع تشير إلى مدّ فترة الرضاع، وذلك بكثرة حروفها، وامتداد جرسها.. ثم إنها تفيد لونا آخر غير الرضاعة المعروفة، وإن كان من جنسها، وطبيعتها!
11. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي لا جناح عليكم أيها الوالدون أن تطيلوا مدة الاسترضاع إذا أديتم ما وجب عليكم من كفالة حاجة الأم، أداء لا حيف فيه، ولا مطل معه.
12. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تذكير بالله في هذه المقامات، لرعاية أحكامه، وتوقيرها، والوفاء بها، فإن عين الله الله لا تغفل، وعلمه لا بعزب عنه شيء.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/277.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهى عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شئون أحكام العائلة.
2. استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين، فجملة ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾ معطوفة على جملة ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: 232] والمناسبة غير خفية.
3. الوالدات عام لأنه جمع معرف باللام، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق، فقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ معناه: والوالدات منهن، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلّا بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلّا لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.
4. جملة ﴿يُرْضِعْنَ﴾ خبر مراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات، ولأنه عقب بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا﴾ فإن الضمير شامل للآباء والأمهات على وجه التغليب كما يأتي، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه، ولكن تدل على أن ذلك حق لها، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6] ولأنه عقب بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وذلك أجر الرضاعة، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة، بل لأجل العصمة.
5. ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾ صرح بالمفعول مع كونه معلوما، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه؛ لأن في قوله تعالى: ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾ تذكيرا لهن بداعي الحنان والشفقة، فعلى هذا التفسير ـ وهو الظاهر من الآية والذي عليه جمهور السلف ـ ليست الآية واردة إلّا لبيان إرضاع المطلقات أولادهن، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها فهي أولى به، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها، ولذلك كان المشهور عن مالك: أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر وبأقل من أجر المثل، لم يجب إلى ذلك، كما سنبينه.
6. من العلماء من تأول الوالدات على العموم، سواء كن في العصمة أو بعد الطلاق كما في القرطبي والبيضاوي، ويظهر من كلام ابن الفرس في (أحكام القرآن) أنّ هذا قول مالك، وقال ابن رشد في (البيان والتحصيل): إن قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ ومحمول على عمومه في ذات الزوج وفي المطلقة مع عسر الأب، ولم ينسبه إلى مالك، ولذلك قال ابن عطية: قوله تعالى: ﴿يُرْضِعْنَ﴾ خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه، والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ الآية، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة.
7. الحول في كلام العرب: العام، وهو مشتق من تحول دورة القمر أو الشمس في فلكه من مبدأ مصطلح عليه، إلى أن يرجع إلى السمت الذي ابتدأ منه، فتلك المدة التي ما بين المبدأ والمرجع تسمى حولا، وحول العرب قمري وكذلك أقره الإسلام.
8. وصف الحولين بكاملين تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني؛ لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان، على بعض المدلول، إطلاق شائع عند العرب، فيقولون: هو ابن سنتين ويريدون سنة وبعض الثانية، كما مر في قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197].
9. ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، قال في (الكشاف): (بيان لمن توجه إليه الحكم كقوله تعالى: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: 23]، فلك بيان للمهيّت له أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم الإرضاع) أي فهو خبر مبتدأ محذوف، كما أشار إليه، بتقدير هذا الحكم لمن أراد، قال التفتازاني: (وقد يصرح بهذا المبتدأ في بعض التراكيب كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 25] وما صدق (من) هنا من يهمه ذلك: وهو الأب والأم ومن يقوم مقامهما من ولي الرضيع وحاضنه، والمعنى: أن هذا الحكم يستحقه من أراد إتمام الرضاعة، وأباه الآخر، فإن أرادا معا عدم إتمام الرضاعة فذلك معلوم من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ الآية.
10. جعل الله الرضاع حولين رعيا لكونهما أقصى مدة يحتاج فيها الطفل للرضاع إذا عرض له ما اقتضى زيادة إرضاعه، فأما بعد الحولين فليس في نمائه ما يصلح له الرضاع بعد، ولما كان خلاف الأبوين في مدّة الرضاع لا ينشأ إلّا عن اختلاف النظر في حاجة مزاج الطفل إلى زيادة الرضاع، جعل الله القول لمن دعا إلى الزيادة، احتياطا لحفظ الطفل، وقد كانت الأمم في عصور قلة التجربة وانعدام الأطباء، لا يهتدون إلى ما يقوم للطفل مقام الرضاع؛ لأنهم كانوا إذا فطموه أعطوه الطعام، فكانت أمزجة بعض الأطفال بحاجة إلى تطويل الرضاع، لعدم القدرة على هضم الطعام وهذه عوارض تختلف، وفي عصرنا أصبح الأطباء يعتاضون لبعض الصبيان بالإرضاع الصناعي، وهم مع ذلك مجمعون على أنه لا أصلح للصبي من لبن أمه، ما لم تكن بها عاهة أو كان اللبن غير مستوف الأجزاء التي بها تمام تغذية أجزاء بدن الطفل، ولأن الإرضاع الصناعي يحتاج إلى فرط حذر في سلامة اللبن من العفونة: في قوامه وإنائه، وبلاد العرب شديدة الحرارة في غالب السنة؛ ولم يكونوا يحسنون حفظ أطعمتهم من التعفن بالمكث، فربما كان فطام الأبناء في العام أو ما يقرب منه يجر مضار للرضعاء، وللأمزجة في ذلك تأثير أيضا.
11. عن ابن عباس أن التقدير بالحولين للولد الذي يمكث في بطن أمه ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، وهكذا بزيادة كل شهر في البطن ينقص شهر من مدة الرضاعة حتى يكون لمدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا؛ لقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15]، وفي هذا القول منزع إلى تحكيم أحوال الأمزجة؛ لأنه بمقدار ما تنقص مدة مكثه في البطن، تنقص مدة نضج مزاجه، والجمهور على خلاف هذا وأن الحولين غاية لإرضاع كل مولود، وأخذوا من الآية أن الرضاع المعتبر هو ما كان في الحولين، وأن ما بعدهما لا حاجة إليه، فلذلك لا يجاب إليه طالبه.
12. عبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجرة إليه، وهو لا حق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها.
13. الرزق: النفقة، والكسوة: اللباس، والمعروف: ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب، والمراد بالرزق والكسوة هنا ما تأخذه المرضع أجرا عن إرضاعها، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة، وكذلك غالب إجاراتهم؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة، بل كانوا يتعاملون بالأشياء، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم، وهي الطعام والكسوة، ولذلك أحال الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم، وعقبه بقوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾
14. جمل: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ إلى قول: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ معترضات بين جملة ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ﴾ وجملة ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ فموقع جملة ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ تعليل لقوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، وموقع جملة ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ﴾ إلى آخرها موقع التعليل أيضا، وهو اعتراض يفيد أصولا عظيمة للتشريع ونظام الاجتماع.
15. التكليف تفعيل بمعنى جعله ذا كلفة، والكلفة: المشقة، والتكلف: التعرض لما فيه مشقة، ويطلق التكليف على الأمر بفعل فيه كلفة، وهو اصطلاح شرعي جديد، والوسع، بتثليث الواو: الطاقة، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء، وهو ضد ضاق عنه، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول، وأصله استعارة؛ لأن الزمخشري في (الأساس) ذكر هذا المعنى في المجاز، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملا ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلّا عندما يتوهم الناظر أنه لا يسعه، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة، فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح، وإن كان بضمها فهو مصدر ـ كالصلح والبرء ـ صار بمعنى المفعول، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة، وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل، فيفيد حذفه عموم الفاعلين، كما يفيد وقوع نفس، وهو نكرة في سياق النفس، عموم المفعول الأول لفعل تكلف: وهو الأنفس المكلفة، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله: ﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ عموم المفعول الثاني لفعل تكلف، وهو الأحكام المكلف بها، أي لا يكلف أحد نفسا إلّا وسعها، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحدا إلّا بما يستطيعه، وذلك أيضا وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلّا بما يستطاع: في العامة والخاصة، فقد قال في آيات ختام هذه السورة ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، والآية تدل على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في شريعة الإسلام، وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ في آخر السورة.
16. جملة ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ اعتراض ثان، ولم تعطف على التي قبلها تنبيها على أنها مقصودة لذاتها، فإنها تشريع مستقل، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألما على النفس، فكان ضره أشد، ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله تعالى: ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وكذلك القول في ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة، فهو كالتذييل، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه، والإشفاق عليه، وفي (المدونة): عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ الآية (يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه، وليس له أن ينتزع منها ولدها، وهي تحب أن ترضعه) وهو يؤيد ما ذكرناه.
17. قيل: الباء في قوله تعالى: ﴿بِوَلَدِهَا﴾ و﴿بِوَلَدِهِ﴾ باء الإلصاق وهي لتعدية ﴿تُضَارَّ﴾ فيكون مدخول الباء مفعولا في المعنى لفعل ﴿تُضَارَّ﴾ وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر، فيصير المعنى: لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبوين بتعنته وتحريجه سببا في إلحاق الضر بولده أي سببا في إلجاء الآخر إلى الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط.
18. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ معطوف على قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ وليس معطوفا على جملة ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ﴾ لأن جملة ﴿لَا تُضَارَّ﴾ معترضة، فإنها جاءت على الأسلوب الذي جاءت عليه جملة ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ التي هي معترضة بين الأحكام لا محالة لوقوعها موقع الاستئناف من قوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، ولما جاءت جملة ﴿لَا تُضَارَّ﴾ بدون عطف علمنا أنها استئناف ثان مما قبله ثم وقع الرجوع إلى بيان الأحكام بطريق العطف، ولو كان المراد العطف على المستأنفات المعترضات لجيء بالجملة الثالثة بطريق الاستئناف.
19. حقيقة الوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث، والإشارة بقوله ﴿ذَلِكَ﴾ إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ وجوز أن يكون ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ كما سيأتي، وهو بعيد عن الاستعمال؛ لأنه لما كان الفاعل محذوفا وحكم الفعل في سياق النهي كما هو في سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أيا ما كان فاعله، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب، على أن ظاهر المثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم.
20. علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة وارثا أن الذي كان ذلك عليه مات، وهذا إيجاز، والمعنى: فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه، فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضا عن المضاف إليه كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكورا بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ [العلق: 15] وكما قال ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40 ـ 41] أي نهى نفسه؛ فإن الجنة هي مأواه، وقول إحدى نساء حديث أم زرع: (زوجي المسّ مسّ أرنب والرّيح ريح زرنب) وما سماه الله تعالى وارثا إلّا لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثا على تقدير موت غيره؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ إلّا لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلّا لقال: وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاما تأكيدا حينئذ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص؛ فإن فاعل ﴿تُضَارَّ﴾ محذوف، والنهي دال على منع كل إضرار يحصل للوالدة فما فائدة إعادة تحريم ذلك على الوارث كما قدمناه آنفا.
21. اتفق علماء الإسلام على أن ظاهر الآية غير مراد؛ إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضع على وارث الأب، سواء كان إيجابها على الوارث في المال الموروث بأن تكون مبدأة على المواريث للإجماع على أنه لا يبدأ إلّا بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية، ولأن الرضيع له حظه في المال الموروث وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره أم كان إيجابها على الوارث لو لم يسعها المال الموروث فيكمّل من يده، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما:
أ. فقال الجمهور: المراد وارث الطفل أي من لو مات الطفل لورثه هو، روي عن عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وإسحاق وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل فيتقرر بالآية، أن النفقة واجبة على قرابة الرضيع وهم بالضرورة قرابة أبيه أي إذا مات أبوه ولم يترك مالا: تجب نفقة الرضيع على الأقارب، على حسب قربهم في الإرث ويجري ذلك على الخلاف في توريث ذي الرحم المحرم فهؤلاء يرون حقا على القرابة إنفاق العاجز في مالهم كما أنهم يرثونه إذا ترك مالا فهو من المواساة الواجبة مثل الدية.
ب. وقال الضحاك وقبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز: المراد وارث الأب وأريد به نفس الرضيع، فالمعنى: أنه إذا مات أبوه وترك مالا فنفقته من إرثه، ويتجه على هذا أن يقال: ما وجه العدول عن التعبير بالولد إلى التعبير بالوارث؟ فتجيب بأنه للإيماء إلى أن الأب إنما وجبت عليه نفقة الرضيع لعدم مال للرضيع، فلهذا لما اكتسب مالا وجب عليه في ماله؛ لأن غالب أحوال الصغار ألا تكون لهم أموال مكتسبة سوى الميراث، وهذا تأويل بعيد؛ لأن الآية تكون قد تركت حكم من لا مال له.
ج. وقيل: أريد بالوارث المعنى المجازي وهو الذي يبقى بعد انعدام غيره كما في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ [الحجر: 23] يعني به أم الرضيع قاله سفيان فتكون النفقة على الأم قال التفتازاني في (شرح الكشاف) (وهذا قلق في هذا المقام إذ ليس لقولنا: فالنفقة على الأب وعلى من بقي من الأب والأم معنى يعتد به) يعني أن إرادة الباقي تشمل صورة ما إذا كان الباقي الأب ولا معنى لعطفه على نفسه بهذا الاعتبار، وفي (المدونة) عن زيد بن أسلم وربيعة أن الوارث هو ولي الرضيع عليه مثل ما على الأب من عدم المضارة.
22. هذا كله على أن الآية محكمة لا منسوخة وأن المشار إليه بقوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو الرزق والكسوة، وقال جماعة: الإشارة بقوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ راجعة إلى النهي عن المشارة، قال ابن عطية: (وهو لمالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك)، وفي (المدونة) في ترجمة ما جاء فيمن تلزم النفقة من كتاب إرخاء الستور عن ابن القاسم قال مالك ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي ألا يضار، واختاره ابن العربي بأنه الأصل فقال القرطبي: يعني في الرجوع إلى أقرب مذكور، ورجحه ابن عطية (بأن الأمة أجمعت على ألا يضار الوارث، واختلفوا: هل عليه رزق وكسوة)، يعني مورد الآية بما هو مجمع على حكمه ويترك ما فيه الخلاف.
23. هنالك تأويل بأنها منسوخة، رواه أسد بن الفرات عن ابن القاسم عن مالك قال: (وقول الله عزّ وجل: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو منسوخ فقال النحاس: (ما علمت أحدا من أصحاب مالك بين ما الناسخ، والذي يبينه أن يكون الناسخ لها عند مالك أنه لما أوجب الله للمتوفى عنها زوجها نفقة حول، والسكنى من مال المتوفى، ثم نسخ ذلك نسخ أيضا عن الوارث) يريد أن الله لما نسخ وجوب ذلك في تركة الميت نسخ كل حق في التركة بعد الميراث، فيكون الناسخ هو الميراث، فإنه نسخ كل حق في المال على أولياء الميت، وعندي أن التأويل الذي في (مدونة سحنون) بعيد لما تقدم آنفا، وأن ما نحاه مالك في رواية أسد بن الفرات عن ابن القاسم هو التأويل الصحيح، وأن النسخ على ظاهر المراد منه، والناسخ لهذا الحكم هو إجماع الأمة على أنه لا حق في مال الميت، بعد جهازه وقضاء دينه، وتنفيذ وصيته، إلّا الميراث فنسخ بذلك كل ما كان مأمورا به أن يدفع من مال الميت مثل الوصية في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: 180] الآية، ومثل الوصية بسكنى الزوجة وإنفاقها في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ يتربصن بأنفسهن [البقرة: 240] ونسخ منه حكم هذه الآية وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) هذا إذا حمل الوارث في الآية على وارث الميت أي إن ذلك حق على جميع الورثة أيّا كانوا بمعنى أنه مبدأ المواريث، وإذا حمل الوارث على من هو بحيث يرث الميت لو ترك الميت مالا، أعني قريبه، بمعنى أن عليه إنفاق ابن قريبه، فذلك منسوخ بوضع بيت المال وذلك أن هذه الآية شرعت هذا الحكم في وقت ضعف المسلمين، لإقامة أود نظامهم بتربية أطفال فقرائهم، وكان أولى المسلمين بذلك أقربهم من الطفل فكما كان يرث قريبه، لو ترك مالا ولم يترك ولدا فكذلك عليه أن يقام ببينة، كما كان حكم القبيلة في الجاهلية في ضم أيتامهم ودفع دياتهم، فلما اعتز الإسلام صار لجامعة المسلمين مال، كان حقا على جماعة المسلمين القيام بتربية أبناء فقرائهم، وفي الحديث الصحيح (من ترك كلّا، أو ضياعا، فعليّ، ومن ترك مالا فلوارثه)، ولا فرق بين إطعام الفقير وبين إرضاعه، وما هو إلّا نفقة، ولمثله وضع بيت المال.
24. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ عطف على قوله ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ لأنه متفرع عنه، والضمير عائد على الوالدة والمولود له الواقعين في الجمل قبل هذه، والفصال: الفطام عن الإرضاع، لأنه فصل عن ثدي مرضعه، وعن في قوله تعالى: ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾ متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي، إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرغما على الإرادة، بخوف أو اضطرار.
25. ﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ هو مصدر شاور إذا طلب المشورة، والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعا فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره: بما ذا تشير عليّ كأنّ أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع، مشتق من الإشارة باليد، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه، ثم عدي بعلى لما ضمن معنى التدبير، وقال الراغب: إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه، وأيا ما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] وسيجيء الكلام عليها عند قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ في سورة آل عمران [159]، وعطف التشاور على التراضي تعليما للزوجين شئون تدبير العائلة، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي.
26. أفاد بقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أن ذلك مباح، وأن حق إرضاع الحولين مراعى فيه حق الأبوين وحق الرضيع، ولما كان ذلك يختلف باختلاف أمزجة الرضعاء جعل اختلاف الأبوين دليلا على توقع حاجة الطفل إلى زيادة الرضاع، فأعمل قول طالب الزيادة منهما، كما تقدم، فإذا تشاور الأبوان وتراضيا بعد ذلك على الفصال كان تراضيهما دليلا على أنهما رأيا من حال الرضيع ما يغنيه عن الزيادة، إذ لا يظن بهما التمالؤ على ضر الولد، ولا يظن إخفاء المصلحة عليهما بعد تشاورهما، إذ لا يخفى عليهما حال ولدهما.
27. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غير والدته إذا تعذر على الوالدة إرضاعه، لمرضها، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، كما تقدم في الآية السابقة، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك، والمخاطب بأردتم: الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال، لقوله تعالى فيما سبق ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم، وبحالة فقد الأم، وقد علم من قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أن حالة التراضي هي المقصودة أولا، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة وأريد صرف الابن عنها إلى مرضع أخرى، لسبب مصطلح عليه، وهما لا يريدان ذلك إلّا حيث يتحقق عدم الضر للابن، فلو علم ضر الولد لم يجز، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها، لا سيما أهل الشرف، وفي الحديث (واسترضعت في بني سعد)
28. الاسترضاع أصله طلب إرضاع الطفل، أي طلب أن ترضع الطفل غير أمه، فالسين والتاء في (تسترضعوا) للطلب ومفعوله محذوف، وأصله أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، لأن الفعل يعدّى بالسين والتاء الدالين على الطلب إلى المفعول المطلوب منه الفعل فلا يتعدى إلّا إلى مفعول واحد، وما بعده يعدى إليه بالحرف وقد يحذف الحرف لكثرة الاستعمال، كما حذف في استرضع واستنجح، فعدي الفعل إلى المجرور على الحذف والإيصال، وفي الحديث (واسترضعت في بني سعد)، ووقع في (الكشاف) ما يقتضي أن السين والتاء دخلتا على الفعل المهموز المتعدي إلى واحد فزادتاه تعدية لثان، وأصله أرضعت المرأة الولد، فإذا قلت: استرضعتها صار متعديا إلى مفعولين، وكأنّ وجهه أننا ننظر إلى الحدث المراد طلبه، فإن كان حدثا قاصرا، فدخلت عليه السين والتاء، عدي إلى مفعول واحد، نحو استنهضته فنهض، وإن كان متعديا فدخلت عليه السين والتاء عدي إلى مفعولين، نحو استرضعتها فأرضعت، والتعويل على القرينة، إذ لا يطلب أصل الرضاع لا من الولد ولا من الأم، وكذا: استنجحت الله سعيي، إذ لا يطلب من الله إلّا إنجاح السعي، ولا معنى لطلب نجاح الله، فبقطع النظر عن كون الفعل تعدى إلى مفعولين، أو إلى الثاني بحذف الحرف، نرى أنه لا معنى لتسلط الطلب على الفعل هنا أصلا، على أنه لولا هذا الاعتبار، لتعذر طلب وقوع الفعل المتعدي بالسين والتاء، وهو قد يطلب حصوله فما أوردوه على (الكشاف): من أن حروف الزيادة إنما تدخل على المجرد لا المزيد مدفوع بأن حروف الزيادة إذا تكررت، وكانت لمعان مختلفة جاز اعتبار بعضها داخلا بعد بعض، وإن كان مدخولها كلّها هو الفعل المجرد.
29. دل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ على أنه ليس المراد بقوله ﴿يُرْضِعْنَ﴾ تشريع وجوب الإرضاع على الأمهات، بل المقصود تحديد مدة الإرضاع وواجبات المرضع على الأب، وأما إرضاع الأمهات فموكول إلى ما تعارفه الناس، فالمرأة التي في العصمة، إذا كان مثلها يرضع، يعتبر إرضاعها أولادها من حقوق الزوج عليها في العصمة، إذ العرف كالشرط، والمرأة المطلقة لا حق لزوجها عليها، فلا ترضع له إلّا باختيارها، ما لم يعرض في الحالين مانع أو موجب، مثل عجز المرأة في العصمة عن الإرضاع لمرض، ومثل امتناع الصبي من رضاع غيرها، إذا كانت مطلقة بحيث يخشى عليه، والمرأة التي لا يرضع مثلها وهي ذات القدر، قد علم الزوج حينما تزوجها أن مثلها لا يرضع، فلم يكن له عليها حق الإرضاع، هذا قول مالك، إذ العرف كالشرط، وقد كان ذلك عرفا من قبل الإسلام وتقرر في الإسلام، وقد جرى في كلام المالكية في كتب الأصول: أن مالكا خصص عموم الوالدات بغير ذوات القدر، وأن المخصص هو العرف، وكنا نتابعهم على ذلك ولكني الآن لا أرى ذلك متجها ولا أرى مالكا عمد إلى التخصيص أصلا، لأن الآية غير مسوقة لإيجاب الإرضاع، كما تقدم.
30. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن، فالمراد بما آتيتم: الأجر، ومعنى آتى في الأصل دفع؛ لأنه معدى أتى بمعنى وصل، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفا للمستقبل مضمنا معنى الشرط، لم يلتئم أن يكون مع فعل ﴿آتَيْتُمْ﴾ الماضي، وتأول في (الكشاف) ﴿آتَيْتُمْ﴾ بمعنى: أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 6] تبعا لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾، والمعنى: إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف، دون إجحاف ولا مطل.
31. وقرأ ابن كثير ﴿آتَيْتُمْ﴾ بترك همزة التعدية، فالمعنى عليه: إذا سلمتم ما جئتم، أي ما قصدتم، فالإتيان حينئذ مجاز عن القصد، كقوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84] وقال زهير:
وما كان من خير أتوه فإنما...توارثه آباء آبائهم قبل
32. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تذييل للتخويف، والحث على مراقبة ما شرع الله، من غير محاولة ولا مكابدة، وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ﴾ تذكير لهم بذلك، وإلّا فقد علموه، وقد تقدم نظيره آنفا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/409.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى حقوق الزوجين، وما لكل واحد منهما على صاحبه، ثم أحكام الافتراق إن لم تكن المودة سائدة؛ وبهذا بين العشرة الحسنة والتسريح بإحسان، أو الفراق الجميل، وبعد بيان حقوق الزوجين في الاجتماع والافتراق، أخذ سبحانه وتعالى يبين حقوق من كانوا ثمرة لهذا الزواج، في حالي الاجتماعي والافتراق أيضا؛ وهذه الآية تبين ذلك؛ وقد ذكرت أول حق يتقرر للطفل فور ولادته؛ وهو حق التغذية الأولى التي تناسب سنه، وتكوّن لحمه، وتنشز عظمه؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾
2. الوالدات: هن الأمهات، سواء أكن أزواجا لآباء الأولاد أم كن مطلقات منهم؛ والتعبير عن الأمهات بالوالدات فيه إشارة إلى أمرين:
أ. أحدهما: أنهن اللائي ولدنهم وكن الوعاء الذي برزوا منه إلى الوجود، وقد تربوا فيه ومنه تغذوا، فكان من الحق أن يتغذوا منه حتى يستغنوا عنه؛ وفى هذا إيماء إلى وجوب الإرضاع على الأمهات.
ب. وثانيهما ـ أن الغذاء الذي يناسب الطفل في مهده هو الغذاء الذي يكون من نوع ما كان يتغذى منه في بطن أمه؛ وكان في التعبير بالوالدات إشارة إلى ذلك؛ لأن الولادة انفصال الحمل عن أمه وبروزه إلى الوجود؛ فهي تشير إلى الصلة بين المكان الذي خرج منه، وحياته التي يستقبلها؛ وذلك إيماء إلى وجوب التناسب بين الحالين، والتناسب بينهما من حيث الغذاء، يوجب التجانس بين حالي الغذاء، وذلك يوحى من جهة ثانية إلى وجوب إرضاع الأم ولدها، وهو ما سيقت له الجملة السامية.
3. ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ هو أمر جاء على صيغة الخبر؛ فمعنى ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ ليرضعن؛ أي عليهن إرضاع أولادهن؛ وعبر عن الطلب بصيغة الخبر؛ للإشارة إلى أن ذلك الوجوب تنادى به الفطرة، ويتفق مع طبيعة الأمومة، وأن الأمهات يلبين الطلب فيه بداع من نفوسهن؛ فلذلك عبر بالخبر، كأن الإرضاع وقع من غير طلب خارجي، فكان ذلك التعبير مفيدا للأمر التكليفي، ومقررا للأمر الفطري والفقهاء يقررون أنه مطلوب من المرأة أن ترضع ولدها، ولكنهم يختلفون في مدى هذا الطلب؛ فالحنفية يرون أن هذا الطلب للندب في جملته، فليس على الأم إرضاع ولدها، إلا في حال الضرورة، بأن لم يوجد من يرضعه سواها، أو لا يلقم الولد إلا ثديها، أو كان الأب عاجزا عن استرضاع ولده عند ظئر؛ إذ لا يملك أجرتها؛ وينافى هذا الرأي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لأن هذا يفيد أن الأب غير ملزم بالاسترضاع، بينما رأى الحنفية يفيد بأنه الملزم، والأم غير ملزمة؛ ولما رأوا ذلك قالوا: إن الأم عليها الإرضاع ديانة لا قضاء، والمالكية يرون أن المرأة عليها إرضاع ولدها إلا لعذر، واعتبر من الأعذار أن تكون من الطبقة التي لا ترضع أولادها عادة.
4. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ يفيد أن الإرضاع اللازم للغذاء لا يتجاوز حولين كاملين؛ ووصف الحولين بأنهما كاملان؛ للإشارة إلى النهاية الكاملة التي لا يدخلها تجاوز ولا تسامح؛ وليتناسب مع قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وإن بيان الحدود من حيث الابتداء والانتهاء يجب أن يكون دقيقا، وإن الناس قد يعدون ما دون الحولين إذا كان قليلا كشهر أو نحوه غير ناقص للمدة؛ فذكر سبحانه وتعالى وصف الكمال، لينفى مثل هذا الاحتمال.
5. فى التعبير عن السنة بالحول في هذا المقال، إشارة إلى معنى دقيق؛ يبين أنه في انتهاء السنتين يكون الطفل قد بلغ حد الاستغناء؛ ذلك أن كلمة حول تدل على التحول من حال إلى حال، فيكون التعبير بها مشيرا إلى تحول الطفل في مدارج نموه من وقت ظهوره في الوجود، ورؤيته شمسه، فإنه ينتقل شهرا بعد آخر في التغذية، تبعا لنمو قواه، وحاجة جسمه، فهو يبتدئ ضعيفا لا يستطيع أن يتناول غذاءه إلا من ثدى أمه، ثم يتناول غيره قليلا، ثم يزاد حتى إذا أتى على الحولين حالت الحال، واستغنى تماما عن الرضاعة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وهذه الجملة السامية تشير إلى أنه قد يستغنى الطفل عن أمه قبل الحولين، وأن من أراد التمام إن وجدت أسبابه يصل إلى نهاية الحولين، سواء أكان المريد الأب أو الأم، وهذه المدة هي حد لثلاثة أمور عند جمهور الفقهاء:
أ. أولها ـ أجرة الرضاعة التي تستحقها الأم، والتي دل عليها قوله تعالى من بعد ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
ب. وثانيها ـ على نهاية الوجوب الذي أوجبه الشارع على الأم عند القائلين بأنه يجب عليها قضاء إرضاع ولدها؛ وعلى نهاية الوجوب الديني عند الذين لا يفرضون عليها إلا الوجوب الديني دون القضائي.
ج. وثالثها ـ أن الرضاع المحرّم الذي يكون موجبا لصلة تكون الأنثى فيها حراما كالنسب تماما في كل أحوال التحريم لا يكون إلا في هذين الحولين؛ أما بعد ذلك فالرضاع لا يحرم؛ وعلى ذلك الرأي جمهور الفقهاء، وقال أبو حنيفة: الرضاع المحرم مدته ثلاثون شهرا، وأما الرضاع من حيث الأجرة، ومن حيث الوجوب على الأم ديانة أو قضاء فمدته حولان كنص الآية الكريمة.
6. إن هذا الوجوب الذي أوجبه القرآن الكريم على الوالدة يدل على مقدار عناية الإسلام بالرضاعة، ومقدار عنايته بتربية الأطفال، وتغذيتهم، وعنايته بأجسامهم، وسلامة دمهم؛ فإن لبن الأم هو الغذاء الطبيعي لولدها، ينمو بنموه، ويسير من حيث كم الغذاء مع تقدم سن الطفل شهرا بعد شهر، وهو غذاؤه في بطن أمه، فيكون هو غذاءه بعد ولادته وإن تعرض الطفل للمراضع يعرضه للأدواء الوراثية تنتقل إليه؛ بل يعرضه للأدواء النفسية والعقلية تؤثر فيه؛ فإن المرضع تحمل إليه مع اللبن ما في جسمها من عيوب وراثية، وما في نفسها وعقلها من عيوب أيضا؛ وقد أثبتت التجربة أن العيوب النفسية في المرضع تسرى إلى من أرضعته، وتتشربها نفسه، بل تتكون منها طباعه، كما تكون من لبنها جسمه.
7. من عناية الشارع بالرضاعة جعلها من أسباب التحريم، فيوجد الرضاعة بين الطفل ومن أرضعته وذويها وكل من تلقوا من ثديها صلة تشبه صلة النسب، ولكى يتحرى الآباء من يرضعن أولادهن، وتتحرى الأمهات من تقمن مقامهن، أو من يشركنهن في الأمومة الفطرية التي أوجدتها الولادة.
8. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ في الجملة السامية السابقة نص على واجب الأمهات المشتق من كونهن والدات؛ وفى النص واجب يقابله على الآباء لكونهم قد ولد لهم، فالتعبير عن الأب بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ هو في مقابل التعبير عن الأمهات بالوالدات؛ وكما أن الأول أوجب عليهن الرضاعة، فالثاني أوجب على الآباء النفقة؛ لأن الولادة لهم، فالنسب لهم، والولد تابع تبعية مطلقة لهم؛ وكأنه كسب كسبوه، وغنم غنموه، فحق عليهم القيام على شئونه ورعايته، والإنفاق على من خصصت نفسها وخصصتها الفطرة لخدمته ورعايته وتغذيته بلبنها الذي هو درّ من دمها، ويلاحظ هنا عندما أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء الإنفاق على الأمهات اللائي يرضعن أولادهن، أمران:
أ. أولهما: أنه قيد الإنفاق بالمعروف، وهو الأمر الذي يتعارفه العقلاء، فلا تستنكره العقول ولا يجفوه الذوق السليم بأن يليق بحالها ويكفيها شئونها، ولا يخرج عن طاقة الأب، ولا يكلفه شططا، ويسهل لها الأب ذلك الإنفاق؛ فيجيء إليها من غير جهد منها، ولا إعنات لها.
ب. ثاني الأمرين: أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الإنفاق يكون في وضع الرجل فلا يرهقه، ولا يشق عليه؛ ولذا قال ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وهى قضية عامة، وقاعدة كلية في كل تكليفات الشارع الإسلامي، يلاحظ فيها أن تكون في وسع المكلف، وليس معنى الوسع هو الطاقة، فإن الفرق بينهما كبير؛ لأن الطاقة هي أقصى قدرة المكلف بحيث لا يستطيع الأمر إلا بمشقة وجهد؛ أما الوسع فهو قدرة المكلف على الأمر، مع بقاء فضل من جهده، بحيث لا يستغرق العمل أقصى قدرته؛ وقد وضح ذلك المعنى في إيجاز بليغ فجعل مناط التكليف ما تسعه قدرة المكلف؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة] تنبيها إلى أنه لا يكلف دون ما تنوء به قدرته، وإذا كان الأمر كذلك فكل التكليفات الشرعية يكون في الوسع القيام بها، بمعنى أنها تؤدى بيسر وسهولة ولا مشقة فيها لمن ذاق طعم الطاعة، وفهم معناها؛ ولذا قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة].
9. لا شك أن الإنفاق على الأم بالمعروف، هو تكليف بما في الوسع الذي يقوم به المرء بيسر وسهولة؛ لأن أساس المعروف ألا يكون فيه غضاضة على المرأة، وألا يكون شطط على الرجل؛ فلا يكلف أحدهما إلا وسعه وما يكون يسرا من أمره.
10. عبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن الإنفاق بالرزق والكسوة، أي بالإطعام والإيواء والكسوة، وعبر في آية الطلاق بالأجرة، فقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق] فالأجرة هنالك هي الكسوة والرزق هنا؛ وتخالف التعبيران؛ لأن كل واحد فيما يناسبه؛ فالتعبير بالأجرة؛ لأن الكلام في المطلقات، وما يفرض لهن من نفقة وأمدها؛ ثم بين ما يستحق في مقابل الإرضاع إن أرضعن وقد خرجن من بيت الرجل وسلطانه، أما في هذه الآية فالكلام في أصل وجوب الإرضاع على الأمهات، وبيان توزيع التكليفات؛ والآية هنا عبر القرآن فيها عن الأم بوصف كونها والدة، وعلى الأب بوصف كونه مولودا له، فناسب أن يعبر عن النفقة هنا بالرزق والكسوة لأن مؤدى التعبير الكريم أن الواجبات للطفل موزعة، والحقوق فيه متقابلة؛ فالأم لأنها تفرغت لخدمته، وقامت على حياطته، وغذته من لبنها بعد أن غذته من دمها، وأوجب عليها الشارع ذلك الغذاء ـ كان على الأب في نظير ذلك أن يكدح ويعمل ليوفر لها رزقها وكسوتها بالمعروف من غير غضاضة ولا شطط.
11. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ هذه الجملة السامية في مقام التعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الوالد والوالدة، والتي أساسها القيام بحق ذلك المخلوق الذي كان كل واحد منهما طريقا لخروجه إلى هذا الوجود الإنساني والمعنى أنه لا يصح أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها لما لها من حنو وعطف، فيستغل ذلك الحنو وذلك العطف لإنزال الأذى بها وإعناتها وتكليفها ما ليس في وسعها، وما ليس متفقا مع فطرتها؛ وكذلك لا يصح أن يقع ضرر بالأب بسبب ولده لأنه يعنى بإنباته نباتا حسنا وتنشئته على أكمل وجه، فيرهق بالمطالب المالية، ويكلف ما ليس في وسعه أو لا تتسع له قدرته عليه إلا بمشقة وجهد شديد.
12. فى هذه الجملة السامية بحثان لفظيان نقولهما بإيجاز:
أ. أولهما ـ أن كلمة ﴿لَا تُضَارَّ﴾ من مادة المفاعلة من الضرر، وقد قرئت مرفوعة على معنى نفى الضرر، ونفى الضرر يقتضى النهى عنه؛ وقرئت مجزومة، وعند الوصل خفف السكون بالفتح على أصل التخلص من التقاء الساكنين، وإن لم يكن هنا ساكنان؛ ولذا قرئ بالسكون، وقراءة السكون تدل على النهى الصريح، ولأن كلمة ﴿لَا تُضَارَّ﴾ من المفاعلة تصلح أن تكون مبنية للمفعول؛ والمعنى في الفرضين واحد، وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه، أو يضر من صاحبه بسبب عطفه على ولده وحنوه عليه.
ب. الثاني: في التعبير بقوله سبحانه، ﴿وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ وتقديم الأم على الأب؛ فإن ذلك التعبير يشير إلى منزلة الولد من قلب كل منهما، وأنه قطعة من قلوبهما؛ ولا يصح أن يكون مزيد العطف الوالدي سببا في أن يتخذه كل منهما ذريعة لإيذاء الآخر والعبث بحقوقه، ولإشعارهما بأن الإيذاء باسم الحنو قد يؤدى إلى نقص العطف على الولد، ولكى يعرف كل منهما أن الولد ولدهما معا ومزيج من جسمهما معا، فلا يصح أن يتخذ سبيلا للكيد والإعنات والإرهاق؛ وقدمت الأم لأن حنوها أشد، ولأن مظنة إنزال الأذى بها أقرب.
13. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هذه الجملة الكريمة سيقت لبيان من ينفق على الولد إن لم يكن له أب، أو كان له أب عاجز عن الإنفاق عليه؛ فإن الإنفاق في هذه الحال يكون على الوارث الذي يرث الولد إذا مات؛ لأن الغنم بالغرم، فما دام يرثه عند الوفاة إن كان له مال، فإنه ينفق عليه إذا كان محتاجا عاجزا، وفى التعبير بكلمة ﴿الْوَارِثِ﴾ بدل كلمة قريب، إشارة إلى أن الوراثة هي السبب في وجوب تقديم الرزق والكسوة، لا مجرد القرابة، أو القرابة المحرمية؛ وعلى ذلك يكون الوجوب تابعا لمقدار الميراث، ولدرجة التوريث؛ لأن الميراث هو السبب في الوجوب، فيكون الوجوب مشتقا من درجته ومقداره وقوته.
14. فى هذا الكلام الحكيم تنظيم للعلاقات المالية بين الأسرة أو إشارة إليه؛ فإنه يوضح أن الحقوق المالية في الأسرة متقابلة، فمن كان له حق الميراث عليه واجب الإنفاق؛ وكأن مال الأسرة شركة بين آحادها يتوارثون المال فيما بينهم؛ ويتعاونون في الإنفاق فيما بينهم؛ فالقادر ينفق على العاجز، والغنى يمد الفقير بحاجته في موضع الحاجة، ولقد فهم الإمام أحمد بن حنبل من هذه الآية أن نفقة القرابة تسير مع الميراث وجودا وعدما، وقوة في الوجوب، وتقديرا له؛ لأن الميراث جعل أساس الإنفاق بمقتضى نص الآية الكريمة ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾
15. قبل أن نترك الكلام في هذا نشير إلى معنى لفظي أشار إليه النص، وهو قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ فإنه أشار إلى أن الوجوب على الوارث هو وجوب بدلى، أي أن الوارث قام فيه مقام الأب، والوجوب الأصلي على الأب؛ فقد قال في الوجوب على الوارث: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ فالتعبير بالمثل يشير إلى أن أصل الوجوب على الأب؛ ولذلك قرر أن الأب لا يشاركه أحد في الإنفاق على ولده، ولو كان يشارك الأب في الميراث من الولد غيره، فلا تشارك الأب القادر غير العاجز الأمّ في الإنفاق إذا كانت غنية.
16. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ تبين في سابق النص الكريم أن الحد بالحولين من حيث وجوب الإرضاع ووجوب الإنفاق ليس حدا لازما بل هو حد للكمال لمن أراد أن يتم الرضاعة كما صرح النص الحكيم؛ ولذلك كان للأب والأم مجتمعين غير منفرد أحدهما ولا مستبد أن يفطما الطفل قبل هذه المدة؛ ولذا سيقت الجملة السامية، ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي لا إثم عليهما إن فعلا ذلك، والفصال هنا هو الفطام؛ لأن الفطام يفصل الولد عن ثدى أمه، ويفصله تدريجيا عن ملازمتها، وإن الفصال لا بد فيه من أمرين:
أ. أحدهما: التشاور فيه بأن يفحصا حال الطفل من حيث قوته وقدرته على الاستغناء عن لبن الأم، وسلامة جسمه ونموه، ولا مانع من أن يستعينا في ذلك برأي خبير رشيد وقد أوجب سبحانه وتعالى التشاور عند الفطام؛ لأن ذلك سيؤثر في صحته في قابل حياته، بل ربما أثر في أعصابه؛ وإن لذلك خطره وشأنه فوجب التشاور فيه، والشورى واجبة في كل أمر ذي شأن وخطر.
ب. ثاني الأمرين اللذين لا بد من وجودهما عند الفطام: أن يكون الفطام بإرادة حرة صريحة واضحة ورضا كامل من كل منهما؛ ولذلك أكد الرضا من كل منهما بالذكر مرتين:
• أولهما أنّه قال ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ فأوجب تحقق إرادتهما.
• وثانيهما أنّه قال ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾ أي إرادة حرة صريحة صادرة عن تراض صحيح ليس فيه شائبة إكراه.
17. فى ذلك فوق ما فيه من رعاية مصلحة الطفل احترام لإرادة المرأة فيما يتعلق بطفلها، وأنها ليست كمّا مهملا في البيت، بل لها الرأي بجوار رأى الرجل في أخطر الأمور وأشدها أثرا.
18. إن العناية بأمر الفطام على ذلك النحو تدل على عناية الشارع الإسلامي بالناشئة وتربيتها تربية جسمية وخلقية وعقلية؛ فإن العناية بالطفل عناية بجيل كامل من الأمة؛ وعلى حسب العناية بالتربية الأولى يكون الجيل من الأجيال.
19. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما تقدم كان في إرضاع الأم ولدها، وفيه بيان وجوبه عليها، وما يقابل ذلك من حق لها على الأب؛ وفى هذا الكلام يبين الله الحكم في استرضاع الأب غير الأم، فبيّن أن ذلك يكون برضا الأم وقد قال سبحانه: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي إن اجتمع رأى الأب ورأى الأم على أن يسترضعوا لولدهما ظئرا، فلا إثم عليهما في ذلك، ولكن على الآباء أن يلاحظوا حق ذلك المرضع من الأجرة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي سلمتم ما وجب عليكم إعطاؤه بالمعروف أي يكون تقديره بالمعروف بين الناس الذى يتعارفونه أجرا، ويكون عطاؤه من غير ممانعة، ولا مماكسة، بل بالمعروف الذي لا يستنكره الناس وتقره العقول والأخلاق القويمة، وهنا بحث لفظي في موضعين:
أ. أولهما: في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ فإن استرضع كما قال الإمام الزمخشري منقول من أرضع؛ يقال أرضعت المرأة الصبى، واسترضعتها الصبى، فهي متعدية إلى مفعولين، كما يقال نجحت الحاجة، واستنجحته الحاجة؛ وفى الآية الكريمة قد حذف أحد المفعولين، إذ المعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم، وحذفه متسق مع السياق الكريم؛ لأن الحذف يدل على العموم وعدم تخصيص مرضع دون مرضع، فإنه عند إرادة الاسترضاع لا يتقيد الأب بواحدة دون الأخرى ما توافرت السلامة فيهن، ولم ينل الطفل من إحداهن ضرر في جسمه أو خلقه أو أعصابه.
ب. الثاني: في قوله تعالى: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾ ففي قوله تعالى ﴿آتَيْتُمْ﴾ ثلاث قراءات: أولاها آتيتم بالمد، وثانيها من غير مد مع ضم الهمزة، وثالثتها (أوتيتم) والقراءات الثلاث تتلاقى في معنى واحد، وهو إعطاء الأجرة بالمعروف أي المتعارف كما نوهنا؛ وتخريجه على القراءة الأولى ﴿مَا آتَيْتُمْ﴾ أي أردتم إيتاءه كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة] أي أردتم القيام إلى الصلاة، وعلى القراءة الثانية (ما أتيتم) أي مما أعطيتم من مال، لأن أتى تستعمل بمعنى أحسن، فيقال أتى إليه إحسانا إذا فعله، وتكون متعدية، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم]، وعلى القراءة الثالثة (أوتيتم) أي أعطيتم المعنى واضح صريح فيها.
20. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ذيّل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة التي تبيّن واجب الآباء والأمهات نحو الأمانة التي سلمها الله لهم؛ ليقدموها للمجتمع الإسلامي غرسا طيبا وجيلا قويا طاهرا؛ ذيّل تلك الآية الحكيمة بالأمر بتقواه، والتذكير بأنه علم بكل شيء علم المبصر الذي يرى؛ إذ خلجات القلوب في علمه الأزلي المحيط، كأنها المرئيات المبصرات، ولذلك التذييل الكريم فوائد ثلاث:
أ. أولاها: تربية المهابة في قلوب المؤمنين؛ ليتذكروا الله سبحانه وتعالى في كل أعمالهم الصغيرة والكبيرة، وليعلموا أن شئون الحياة كلها سواء كان منها ما يتعلق بالأسرة أو ما يتعلق بالمجتمع، وما يتعلق بالآحاد، لا تستقيم إلا بمراقبة الله تعالى، والإحساس بتقواه، وأنه عليم بما تخفى الصدور وما تكنه القلوب؛ وأن من يعمل عملا يعمله كأنه يرى الله، فإن لم يكن يراه فإن الله سبحانه وتعالى يراه.
ب. ثانيها: بيان أن العلاقات بين الآباء وأولادهم وأمهاتهم لا يغفل الله عنها، وسيجزى المحسن إحسانا والمسيء سوءا، وإن استطاع الرجال أو النساء أن يستطيلوا ويظلموا في الدنيا، أو يخدعوا القضاء بزور من القول، فلن يخدعوا الله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء رقيب، وسيجزى كلا بما صنع، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ج. الثالثة: التذكير بأن شئون الأسرة تقوم على التدين، لا على الظواهر المادية، فإنه إذا صلحت القلوب استقامت العلاقة بين الرجل وأهله وأولاده، وإن تقطعت حبال المودة، وذهبت التقوى من القلوب، وأقفرت النفوس، فسيكون الظلم مهما تكن الأحكام، ومهما يكن القضاء، منحنا الله سبحانه رضوانه، ووهبنا عرفانه، وأصلح لنا في ذريّاتنا، إنه سميع مجيب الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/804.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾، اختلف المفسرون في المراد من لفظ الوالدات، هل هنّ المطلقات فقط، أو الزوجات فقط، أو هما معا؟ والأكثرون على ان اللفظ يشملهما جميعا عملا بالظاهر، ولا دليل على التخصيص.. ونحن نميل الى هذا، لما قاله الأكثرون، ولأن الرضاعة تستند للأم بما هي أم، لا بما هي مزوجة، ولا بما هي مطلقة.
2. يرضعن بلفظ الخبر، ولكنه بمعنى الأمر، أي ليرضعن، وهذا الأمر للاستحباب بدليل الآية 6 من سورة الطلاق: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾، ومعنى الاستحباب هنا ان الوالدات أحق في رضاعة أولادهن من الأجنبيات.
3. سؤال وإشكال: ان قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ يرجح ارادة الزوجات والمطلقات الرجعيات اللائي لم يخرجن من عصمة النكاح دون المطلقات اللاتي انتهت عدتهن، لأن أولاء لهن اجرة الرضاع، لا النفقة، وعليه فيجب اخراجهن من العموم؟ فيكون لفظ الوالدات حينئذ عاما وخاصا في آن واحد، عاما بالنسبة الى الرضاعة، وخاصا بالنسبة الى النفقة؟ والجواب: لا مانع إطلاقا أن يكون اللفظ الواحد عاما من حيث الحكم بالنسبة الى جهة، وخاصا بالنسبة الى جهة أخرى، مع قيام الدليل على ذلك، وقد دلت الأحاديث، وقام الإجماع على ان المطلقة غير المعتدة لا نفقة لها وإنما تأخذ اجرة الرضاع فقط فيتبع الدليل، أما بالنسبة الى الرضاعة فلا دليل على التخصيص كما أشرنا فيتبع العموم.
4. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ بلا تسامح في الزيادة والنقصان، وان قلّ..و يجوز ان ترضع الأم وليدها أكثر من حولين بخاصة إذا احتاج الولد الى الزيادة.. أما فائدة التحديد بالحولين فتظهر في أمور ثلاثة:
أ. الأول انها لا تستحق أجرة الرضاعة الزائدة على الحولين.
ب. الثاني إذا تنازع الأب والأم في مدة رضاع الولد، فأراد أحدهما أن يزيد، والآخر أن يتم أو ينقص، إذا كان الأمر كذلك تحاكما الى قوله تعالى: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾
ج. الثالث: ان الرضاع بعد الحولين من أجنبية لا أثر له من حيث انتشار الحرمة بينها وبين الطفل الرضيع، ولا يكون مشمولا لحديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وبهذا قال الإمامية والشافعية، وقال أبو حنيفة: بل يوجب الحرمة الى ثلاثين شهرا.
5. يجوز الاقتصار على ما دون الحولين لقوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، وقوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
6. سؤال وإشكال: هل نرجع في تحديد أقل مدة الرضاعة الى ضابط شرعي معين، أو انها تختلف باختلاف بنية الطفل وصحته؟ والجواب: قال كثير من الفقهاء: ان أقل مدة الرضاعة واحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى في الآية 15 من سورة الأحقاف: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، فإذا أسقطنا من الثلاثين تسعة أشهر، وهي المدة الغالبة في الحمل، يبقى واحد وعشرون، ومهما يكن، فان المهم مراعاة صحة الطفل ومصلحته التي تختلف باختلاف الأجسام.. هذا، وقد كان لمثل هذه البحوث أهميتها فيما مضى، حيث لم تكن المواد الغذائية الصحية للأطفال وغير الأطفال متوافرة، أما اليوم وقد توافرت وأصبحت في متناول كل يد فلم يعد لهذه المسائل من موضوع.
7. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، المولود له هو الأب، واللفظ ظاهر في وجوب الإنفاق على من كانت في عصمة الزوج غير مطلقة كانت، أم في العدة الرجعية، والمراد بالرزق الطعام والإدام، وعبّر عن النفقة التي من جملتها الإسكان، عبّر عنها بالرزق والكسوة، لأنهما الأهم، والمراد بالمعروف مراعاة حال المرأة في النفقة، ومكانتها الاجتماعية.
8. أما مراعاة حال الرجل المادية فقد أشار اليها سبحانه بقوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ونجد التفسير الواضح لهذه الجملة في قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾، كان للإمام جعفر الصادق عليه السلام أصحاب كثر، وربما تأخروا عنده الى وقت الغداء، فيقدم اليهم الطعام، فحينا يأتيهم بالخبز والخل، وحينا بأطيب المآكل، فسأله واحد منهم عن ذلك؟، فقال: ان وسع وسعنا، وان ضيق ضيقنا.
9. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، يجب الوقوف عند قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾، لأن قضاة الشرع في هذا الزمان يستشهدون كثيرا بهذه الآية في أحكامهم، ويفسرونها بأنه ليس للأب الإضرار بالأم عن طريق وليدها، أما أهل التفسير فيكادون يجمعون على العكس، وان المعنى لا تأبى الأم أن ترضع وليدها، وتضره لتغيظ أباه بذلك، قال صاحب مجمع البيان ما نصه بالحرف: (لا تضار والدة بولدها، أي لا تترك الوالدة إرضاع ولدها غيظا على أبيه)، وأين هذا من استشهاد القضاة بالآية على ان الأب ليس له الإضرار بالأم بسبب الولد؟ ونقول بعد توجيه الذهن الى الآية غير مثقل بأقوال الفقهاء والمفسرين: ان الشقاق والخلاف كثيرا ما يقع بين المرء وزوجه، ويتعمد كل منهما أن يغيظ الآخر متخذا الإضرار بالولد وسيلة لهذه الغاية، وبالنتيجة يذهب الطفل ضحية شقاقهما ونزاعهما.. ومثال تعمد الأم إيذاء الأب بسبب إيصال الضرر الى الولد أن تمتنع عن ارضاعه، مع حاجته الى الرضاعة، تمتنع لا لشيء الا تعجيزا للأب.. ومثال تعمد الأب إيذاء الأم أن ينتزع الولد منها، ويعطيه الى أجنبية ترضعه، مع رغبة الأم في إمساكه وارضاعه، وقد نهى الله جل وعز عن الإضرار بشتى أنواعه، سواء توجه ابتداء الى الطفل، أم الى الوالد، أم الوالدة بسبب الطفل، هذا هو المتبادر من قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، ولا يتنافى مع قول المفسرين، ويتنافى مع استشهاد القضاة، وان كان قولهم صحيحا في ذاته، ولكن الخطأ في الاستشهاد.
10. سؤال وإشكال: ان لفظ تضار يفيد المشاركة، كالمكالمة، مع العلم بأن القصد هو الإضرار من طرف واحد، وبتعبير أخصر: لم قال تضار، والفعل واحد؟ والجواب: ان تعمد أحد الوالدين الإضرار بالآخر بسبب الولد هو في نفس الوقت تعمد للإضرار بنفسه، لأن ضرر الولد ضرر للوالدين، بل أشد وأعظم.
11. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، اختلفوا في المراد من الوارث، هل هو وارث الأب، أو وارث الابن؟ وسياق الكلام يرجح انه وارث المولود له، وهو الأب، لأن الكلام فيه، ولكن المعنى لا يستقيم، لأن الطفل والأم من جملة ورثة الأب، ولأن قوله تعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ اشارة إلى أنه يجب على وارث الأب من النفقة مثل ما يجب على الأب، وبالنتيجة يكون المعنى ان نفقة الأم واجبة على الأم، وأيضا على رضيعها، وعلى بقية الورثة، ان كانوا هناك، مع العلم بأن الأم لا تجب نفقتها على أحد إذا كان لها ما تنفقه على نفسها، سواء اتصل اليها المال من ميراثها من زوجها، أو من سبيل آخر.. هذا، إلى أنه لا معنى لوجوب إنفاقها على نفسها من مالها، وإذا فسرنا الوارث بوارث الابن نخالف الظاهر من جهة، والواقع من جهة ثانية، لأن نفقة الأم لا تجب على من يرث ابنها.. أجل، يجب لأمه في ماله اجرة الرضاعة ان كان له مال، ولكن الأجرة شيء، والنفقة بمعناها الصحيح شيء آخر.
12. الحق ان هذه الآية من المشكلات، ولذا قال مالك: انها منسوخة، كما نقل أبو بكر المالكي في كتاب أحكام القرآن، وقد تخطاها بعض المفسرين، وبعضهم نقل الأقوال فيها من غير ترجيح، ووجه المشكلة ما بيناه ان الظاهر إذا بقي على ما هو لم يستقم المعنى، ونعني بالظاهر تفسير الوارث بوارث الأب، وتفسير (مثل ذلك) بنفقة الأم.. وان فسرنا الوارث بوارث الابن، وفسرنا (مثل ذلك) بأجرة الرضاعة يستقيم المعنى.. ولكن نخالف الظاهر باللفظين، وهما الوارث، ومثل ذلك.. ولكن لا سبيل غير مخالفة الظاهر وتأويله، وغير بعيد أن تكون الأحاديث الواردة في الرضاع وأجرته صالحة للدلالة على صحة هذا التأويل.
13. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، الفصال هو الفطام، لأنه يفصل الولد عن أمه، ويفصلها عنه، والمعنى ان للوالدين أن يفطما الطفل قبل استيفاء الحولين، أو بعدهما إذا تم هذا بالاتفاق والتشاور بينهما في مصلحة الطفل، بل للأب أن يسلم طفله للمرضعة المأجورة، والى هذا أشار سبحانه بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
14. ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ خطاب للآباء، والمعنى يا أيها الآباء ان الأم أحق بارضاع ولدها من الأجنبية، ولها عليكم أجرة المثل، فإذا أنتم سلمتم لها بهذا الحق، وأيضا ضمنتم لها أجرة المثل عن الرضاعة، وأبت هي بعد ذلك أن ترضعه الا بزيادة عما تستحق، إذا كان كذلك فلا بأس عليكم حينئذ أن تسترضعوا لأولادكم المراضع الأجنبيات.. وقيل: إذا سلمتم وآتيتم، معناه إذا أديتم للمراضع الأجنبيات الأجور المعروفة والمعتادة بين الناس فلا جناح عليكم، ومهما يكن، فان على الأب أن يؤدي لكل ذات حق حقها أما كانت أو ظئرا، أي المرضعة لولد غيرها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/356.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الوالدات هن الأمهات، وإنما عدل عن الأمهات إلى الوالدات لأن الأم أعم من الوالدة كما أن الأب أعم من الوالد والابن أعم من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، وأما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لا في جميعها كان عليه أن يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة أمه التي ترضعه، ونفقتها، وكان على أمه أن لا تضار والدة لأن الولد مولود له.
2. من أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، وأنشد المأمون بن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية...مستودعات وللآباء أبناء
وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾ ويقول: ﴿بِوَلَدِهَا﴾، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس.
3. اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، وأمر التشريع، حكم الاجتماع وأمر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية، وجملة الأمر في الولد أن التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده إليهما معا، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الأمم: فبعض الأمم يلحقه بالوالدة، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله تعالى: ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ كما تقدم.
4. الإرضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سميت به لأنها تحول وإنما وصف بالكمال لأن الحول والسنة لكونه ذا أجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: أقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه أياما.
5. في قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، دلالة على أن الحضانة والإرضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها والبلوغ إلى آخر المدة أيضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وإن لم تشأ التكميل فلها ذلك، وأما الزوج فليس له في ذلك حق إلا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾
6. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وقد فرع عليه حكمين آخرين:
أ. أحدهما: حق الحضانة والإرضاع الذي للزوجة وما أشبهه فلا يحق للزوج أن يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة وحرج عليها،.
ب. ثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله، ﴿بِوَلَدِهِ﴾ دون أن يقول به رفع التناقض المتوهم، فإنه لو قيل: ولا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى: ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لأن إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي أن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده وولدها وله فحسب تشريعا لأنه مولود له.
7. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، ظاهر الآية: أن الذي جعل على الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لأنها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الأخبار، وهو الموافق أيضا لظاهر الآية.
8. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ إلى آخر الآية، الفصال الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو حق يمكنها أن تتركه، فمن الجائز أن يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس، وكذا من الجائز أن يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن إرضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، أمر بالتقوى وأن يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الآية من قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، فإن تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾، والمضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الأثر بعد.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/240.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ هذا في المطلقات فإنه يقع الخلاف على الولد، والعطف على أحكام المطلقات يُشعِر بذلك.
2. فائدة التأكيد بقوله تعالى: ﴿كَامِلَيْنِ﴾ ظاهرة لأن الناس قد يدعون تمام الحول مع عدم التحقيق في التاريخ، والمقصود حولين بلا نقص.
3. ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ ومن الطبيعي في الوالدين إرادة الإتمام، إلا لعذر مثل: مرض الأم وكراهة إرضاعه من غيرها لعدم الثقة بغيرها، ولعله السبب في إحالة ذلك إلى إرادة الأب أو الأبوين.
4. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ من أجل الرضاع، أو لأن الحضانة من معنى الرضاع وتوابعه، فالرزق والكسوة للرضاع وتوابعه، فكما وجبت نفقة المعتدة لحبسها نفسها من أجل الزوج وجبت كذلك نفقة المرضعة لولده لحبسها نفسها في رعاية الولد وذلك أجر من الله لها كما جعل المهر أجراً، فلا يلزم أن تجري على الحضانة أحكام الإجارة بحيث تعتبر الجهالة في العمل والنفقة والكسوة مفسدة لأن ضابط ذلك كله الحاجة؛ حاجة الصبي وحاجة المرضعة، وحكم الله فيه أغنى عن تطبيق أحكام الإجارة عليه.
5. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ بلا تقتير يستنكر ولا إكثار فوق الحاجة للترفيه بما يشق على الأب ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ فعلى الأب أن يقوم بحاجتها بقدر ما يستطيع من بذل الموجود والسعي لما لا يجد ولا يكلف ما لا يسعه.
6. ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ بتكليفها الحضانة وحبسها عن السعي لقوتِها مع التقصير من الأب، أي لا يجعل ولدها آلة لضرارها ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ فلا يجوز أن يضارّ بتكليفه ما ليس في وسعه، ومن الضرار لها التشديد عليها والأذية بدعوى أنها تقصر على الولد، والتهديد لها إن لحقه ضر أو هلك، والاتهام لها أنها سوف تقصر، ونحو ذلك من الأذية، ومن الضرار: إحواجها إلى المطالبة بنفقتها وجدالها في حاجتها وغير ذلك، ومن الضرار للأب: دعوى أنه يقتّر في الإنفاق، وتحري حال اشتغاله لطلبه مع إمكان طلبه في حال فراغه، والسكوت عن طلب حاجة الطفل بالنهار ثم مطالبته في الليل؛ ليصعب عليه طلبها ونحو ذلك، فالآية تنهى عن الضرار كله.
7. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾ للمولود ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أي مثل ما على الأب وذلك إذا مات الأب أو فقد ﴿فَإِنْ أَرَادَا﴾ أي الوالدان ﴿فِصَالًا﴾ أي فطاماً للمولود ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ فخَرَج التراضي بطريقة المكابرة والمغاضبة لأن التشاور هو الذي يطلب فيه الرأي السديد؛ لا ما يقصد فيه الضرار ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ في الفصال.
8. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ حيث أرادت الأم الفصال ولم يرده الأبـ ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ في استرضاعهم لدى مرضعة أخرى ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل: أنه يدخل فيه التسليم للأم والتسليم للمرضعة، لأنه إذا كان السبب الإساءة إلى الأم عند التسليم إليها بأن لا يسلم إليها إلا بمطالبة وشجار أو يصحب التسليم أذية وتشكٍّ من تغريمه أو نحو ذلك مما يصاحب التسليم خلاف المعروف، فرفع الجناح عنه في الإسترضاع مشروط بأن لا يكون السبب مخالفته للمعروف فيما كان يسلم للأم؛ لأن عليه أن يسلم بالمعروف كما هو مذكور في أول الآية؛ لأنه داخل في المعروف في قوله تعالى: ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وما بعده كالتفسير له، وأما المعروف المقارن للتسليم إلى المرضعة الأجنبية والأقرب أنه المراد هنا فهو خلاف ما يستنكر، ومنه اتقاء التهمة فلا يدخل عليها بيتها خالية، ولا يأتيها بالنفقة ليلاً خالية ونحو ذلك.
9. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، واتقوه في المعاملات كلها فلا تظلموا، واتقوا الله في كل شيء ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا يعيى في مقدار جزاءه، ولا في الفصل بين الحق والباطل، ولا تعييه الحيَل والأعذار الباطلة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/348.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا تخطيط شرعي لموضوع الرضاع في ما يخضع له من تحديد وما يترتب عليه من مسئوليات، سواء في ذلك حالة بقاء العلاقات الزوجية أو حالة انقطاعها بالطلاق، وهذا أمر تفرضه الحاجة إلى رعاية الطفل في فترة الرضاع، وإلى الحقوق العاطفية والمادية التي تحكم علاقة الأم والأب في رعايتهما له.
2. في مجال التحديد الزمني، تطرح الآية الحولين كفترة طبيعية للرضاع ينبغي للوالدين أن يراعياها في تغذية الطفل وتنميته جسديا، فربما كان في ذلك الكثير الكثير من العناصر الأساسية التي تبني له قوّته وتمنحه الحيوية والمناعة.
3. ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وقد أثبتت الأبحاث الطبية المعاصرة أن الفترة الطبيعية النموذجية للرضاع هي سنتان، كما أثبتت أن الإرضاع من الثدي يملك الكثير من الخصائص التي تترك تأثيراتها الإيجابية على صحة الطفل الجسدية والنفسية، وقد ثبت أن لحليب الأم خصوصيات كثيرة في عناصره الغذائية التي تتطور تبعا لتطور حاجات الطفل في عملية نموه، مما يفرض على الأبوين عدم اللجوء إلى أنواع أخرى من الحليب الصناعي أو الطبيعي الحيواني، كما اعتاده الناس.
4. هناك نقطة لا بد للأبوين من مراعاتها في مسألة الرضاع، فإنّه يمنح الطفل شعورا بالأمان في عملية الاحتضان في حال الرضاع، كما يعطيه الإحساس بالامتلاء العاطفي الذي يتحول، تدريجيا، إلى حالة من الاسترخاء اللذيذ والقوة الداخلية.
5. ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقد لا يجب أن تكون هذه الفترة هي حدود الرضاعة التي لا تجوز بعدها، لأنه قد ثبت حليّة ذلك، ولكن التحديد قد يخضع لاعتبارات شرعية خاصة، كالتحريم الحاصل في العلاقات الرضاعية المستند إلى ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) الذي يختص أثره بالحولين، فلا تحريم بالرضاع الحاصل بعدهما.
6. قد يرجع التحديد إلى حق الأم في الإرضاع، الذي يتحقق من خلاله حق الحضانة للولد الذي قد يكون تابعا لحق الرضاع في بعض الاتجاهات الفقهية، وقد يتحدد فيه استحقاق الأم للأجرة على الرضاع، وفي جميع ذلك، لا بد لنا أن نفهم ارتباط ذلك كله بمصلحة الطفل، باعتبار أن أيا من هذه الحقوق لا يقف عند حاجة الأم والأب إلا من خلال ارتباطها الطبيعي بحاجة الطفل إلى أن يعيشا المسؤولية تجاهه في فترة رضاعه.. وفي قوله تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ بعض الإشارة إلى أن هذه الفترة هي الفترة الطبيعية التي تتم بها الرضاعة لمن أراد أن يصل بها إلى تمامها.
7. الولد ـ في حساب المسؤولية المادية ـ هو ابن الأب، فهو الذي يكون النسب إليه، وهو الذي يجب عليه تربيته ورعايته وحفظه من كل سوء.. أما الأم، فلا يجب عليها من ذلك أي شيء ما عدا الأمور التي تتوقف عليها الحياة مما لا يمكن لغيرها أن تقدّمه، فإذا أرادت أن تقوم بشيء من ذلك، كان لها الحق في طلب النفقة من رزق وكسوة كأجرة على خدماتها الرضاعية وغير الرضاعية، ولعل التركيز على الرزق والكسوة من جهة ما يمثلان من حاجة طبيعية للوالدة في ما تحتاجه مما تصرف فيه الأجرة التي تستحقها، لا لخصوصية فيها بالذات.
8. لا بد من أن تكون النفقة في حدود المعروف الذي يتمثل بما تحتاجه مما يتناسب مع وضعها الاجتماعي من ناحية مادية، وذلك بالمستوى الذي لا يزيد على طاقة الرجل في الإنفاق، فلا بد من مراعاة مستواه المادي، ليتناسب مع طاقته، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وبذلك يتحقق التوازن الإنساني في المسؤولية المادية، فإذا كان الرجل غنيا في ماله، وكانت المرأة في مستوى معين من الحاجة، وكانت رعايتها للطفل تفرض عليها التفرغ له ـ كما يوحي به جو الآية ـ فقد يكون من الطبيعي أن يراعي المشرّع حالة المرأة التي لا تضيق بها حالة الرجل، أما إذا كانت موارده محدودة، بحيث لا يستطيع مواجهة حاجات المرأة بشكل كامل، فإن الواجب عليه أن يعطيها جهده وطاقته في ما يملك من جهد الطاقة، لأن من غير الطبيعي أن يكلف غير ذلك مما لا تستطيعه موارده المالية..
9. قد نستوحي هذا التوازن، الذي يلاحظ فيه التشريع الحالة الطبيعية لكلا الطرفين في قوله تعالى: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، فقد نفهم منه أن لا يحاول كل من الطرفين أن يمارس ضغطا على الآخر بسبب ولده، كوسيلة من وسائل اعتبار الولد أداة ضغط، وقد تعددت الآراء والأحاديث في تفسير هذا الضغط الذي يراد منه الإضرار من جانب الزوج ـ الأبـ كأن يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك.. فإن ذلك حرج ومضارة عليها، وأما من جانب الزوجة بأن تمنعه عن رؤيته.. وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في تفسير الآية، قال: كانت المرأة ممن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها، فتقول: لا أدعك، إني أخاف على ولدي، ويقول الرجل للمرأة: إني لا أجامعك إني أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي، فنهى الله عن أن يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل، وقد يكون مثل هذا التفسير واردا مورد التطبيق، وليس جاريا في مجرى التحديد، كما هو الحال في أسباب النزول التي يتحرك فيها المفهوم من خلال النموذج، ولا يتجمد عنده بل يمتد في كل مورد فيه للمفهوم مجال.
10. في ضوء ذلك، نستوحي من هذه الفقرة من الآية التركيز على التحذير عن العلاقة المعقّدة التي يتحرك فيها كل طرف من الزوجين من خلال العقد الداخلية السلبية المنطلقة من الحالة المتأزّمة الكامنة في طبيعة علاقتهما الخاصة، فيحاول كل منهما أن ينفّس عن عقدته تجاه الآخر بما يملكه من وسائل الضغط الطبيعية، فيحرمه من بعض المجالات التي تتصل بعاطفته وتقترب من مسئوليته، أو يعطّل عليه فرصة مناسبة كان من الممكن أن يحصل منها على خير كبير، ولا سيما في ما يتعلق بأمر الولد الذي تلتقي فيه العاطفة بالمسؤولية، مما يجعل من الإضرار المتبادل فرصة لاستغلال الجانب العاطفي في وضع مضادّ، أو الاستفادة من طبيعة المسؤولية في المواقف السلبية الصعبة.
11. في ضوء ذلك، قد نستفيد منها قاعدة فقهية (جزئية) من خلال القاعدة الكبرى (لا ضرر ولا ضرار) تتصل بحق الوالد في ولده بأن تكون له الفرصة في تلبية حاجاته الأبوية العاطفية، فليس للأم ـ التي قد يكون لها الحق في حضانته ـ أن تمنع والده من رؤيته أو رعايته في تلك الحال تحت تأثير عقدة خاصة ناشئة من الطلاق أو غيره ثأرا منه، لأن ذلك، وأمثاله، يمثل حالة الضرار به، وهكذا الحال في سلوك الأب مع أم الولد بعد انقضاء حضانتها له أو انفصالها الواقعي عنه، فليس له أن يضارها بمنعها من رؤية ولدها ورعايته العاطفية في وقت معين، بالدرجة التي تلبي فيها حاجة الأمومة في نفسها، بقدر ما يتسع له الوضع الطبيعي في أمثال تلك الحالات.
12. قد يكون لهذا التوافق الوالدي ـ بين الوالد والوالدة ـ تأثير كبير على روحية الطفل ونفسيته وشعوره بالأمان بينهما، وربما هذا ملحوظ في هذا التشريع لأن مضارة كل منهما للآخر في الولد يجعل الولد ممزقا بينهما في مشاعره وتصرفاته، بحيث يؤدي ذلك، إلى تكوين عقدة خطيرة في نفسه قد تترك تأثيرها السلبي على مستقبل حياته في ذاته، وفي واقع حياته مع الآخرين.
13. ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ اختلف المفسرون في تحديد المراد من كلمة الوارث في هذه الفقرة، وأفاضوا الحديث في ذلك، وأشكلوا على الحكم الذي قد يستفاد من ظاهرها، واعتبرها مالك ـ في ما نقل عنه ـ من الآيات المنسوخة، مما يتسع له البحث الفقهي.. ونحن لا نريد أن نفيض في نقل الأقوال كثيرا، ولكننا نستوحي من جو الآية، أنها في مجال الحديث عن مسئولية الوارث، باعتبار أنّ مال الطفل موجود لديه للتأكيد على ضرورة استمرار الإنفاق عليه بالإنفاق على أمه، باعتبار أن الإرضاع من شؤونه التي لا بد من مواجهتها بما تحتاجه من النفقة.. وليست في مجال الحديث عن مسئوليته الذاتية في ما يملكه من مال شخصي.
14. لعل صفة (الوارث) تعطي الإيحاء بالعلاقة المالية التي تمتد إلى الطفل، وقد نستفيد بعض ملامح هذا المعنى مما ورد في تفسير العياشي عن بعض أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فقد ورد فيه عن أحد الإمامين الباقر أو الصادق عليهما السّلام، في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، قال: (هو في النفقة، على الوارث مثل ما على الوالد)، وقد ورد فيه عن الإمام جعفر الصادق في الآية قال: (لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة، فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، ويضار ولدها إن كان لهم عنده شيء، ولا ينبغي له أن يقتر عليه)، فإن الرواية الثانية ظاهرة في أن القضية مرتبطة بالوارث من حيث وجود مال الطفل لديه وقيامه برعايته بولاية أو وصاية أو نحوهما، لا من حيث تعلق الحكم به بشكل مستقل.
15. ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾ فطاما، ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾ فللزوجين أن يتفقا على اختصار مدة الرضاع، إذا تراضيا وتشاورا في الموضوع، ورأيا المصلحة للطفل في ذلك، باعتبار أن القضية لا تعدوهما في نطاق ما لهما من الحق في رعاية شؤون الطفل في هذين الحولين، على أساس حق الولاية للأب وحق الحضانة للأم، فإذا حصل الرضى منهما، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ فلا مجال للمنع.
16. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ويمكن للأم أن تتنازل عن حقها في إتمام الرضاعة، وقد تطلب أجرا أكبر من الأجر المتعارف الذي تطلبه بقية المراضع.. فللأب أن يطلب لولده رضاع امرأة أخرى، بعد أن يدفع للأم حقها في رضاعها السابق، لأن الحق له في ذلك بعد سقوط حقها بإسقاطها إياه، أو بتجاوزها الحد المعقول للأجر.. فله أن يتصرف بما يشاء في حدود مصلحة الطفل.
17. قد نستوحي من هذه الآية أمرين:
أ. الأول: إن الله أراد للأبوين أن يتشاورا في القضايا المتصلة بالولد، وأن يحاولا تحويل هذه الشورى إلى نقاط حاسمة إيجابية يتراضيان عليها، فلا يريد لأحدهما أن يتحدث مع الآخر من موقع عقدة، أو بذهنية تشنج نفسي، بل من موقع تعاون على مصلحة الطفل، فإذا واجها مشكلة تختلف نظرة أحدهما عن الآخر فيها في تحديد ما هو الأصلح للطفل، فعليهما معالجتها بطريقة لا تضر به، ولا بهما، وذلك بالبحث عن البدائل التي تتجاوز الرأي الذي اختلفا فيه، وإذا كانت الآية تتحدث عن التشاور والتراضي في دائرة رضاع الطفل، فإنها توحي بأن هذا هو الأسلوب الذي ينبغي للأبوين أن يمارساه في رعايتهما للطفل في أموره الخاصة المتعلقة بجسده وروحه وشعوره وعقله وحركته في الحياة.
ب. الثاني: إن الله جعل للمرأة الحق في طلب التعويض عن عملها المنزلي، فلم يلزمها الشارع ببذل عملها ـ حتى إرضاع ولدها ـ مجانا في النطاق القانوني، بل ألزم الزوج ـ الأب بأن يقدم لها أجرا على ذلك، ولها الأولوية على غيرها في إرضاع ولدها، إلا إذا طلبت أجرا زائدا على المقدار المتعارف بين الناس.
18. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ كان ختام الآية دعوة للتقوى، وتذكيرا بأن الله خبير بما يعمله الإنسان، بصير بكل حركاته وتصرفاته في نطاق ذاته أو في علاقته بالآخرين، وذلك لإيقاظ الروح الواعية المحاسبة في الوقوف عند حدود الله في ما أحلّه وما حرمه، ليعيش الإنسان الجو الإسلامي المنضبط في حياته العامة والخاصة على هدى أحكام الله وشرائعه، وفي هذا إيحاء للأبوين أن تنطلق تصرفاتهما ومبادراتهما من روح التقوى المنفتحة على الوعي الإيماني في رقابة الله على ما يسرانه ويعلنانه، لا من روح الانتقام، حتى يتوازنا في نظرتهما إلى الأمور وفي معالجتهما لأوضاع طفلهما بما يحقق له المصلحة على خط المسؤولية التي يحملانها من خلال أوامر الله ونواهيه.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/326.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلّقة بمسائل الزّواج والحياة الزّوجيّة، وتبحث مسألة مهمّة هي مسألة (الرّضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة وفي نفس الوقت ذات معنى عميق الجزئيات المتعلّقة بالرّضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب:
أ. تقول الآية في أوّلها ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، (والدات) جمع (والدة) وهي في اللّغة بمعنى الام، ولكنّ كلمة الام لها معنى أوسع وهي قد تطلق على الوالدة وعلى الجدّة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشيء وأساسه، وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حقّ الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدّة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد أعطيت للأب، ولكن لمّا كانت تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدّة ترتبط ارتباطا لا ينفصم بلبن الأم وعواطفها، فقد أعطيت حقّ الاحتفاظ به، كما تجب مراعاة عواطف الأمومة، لأنّ الأم لا تستطيع في هذه اللحظات الحسّاسة أن ترى حضنها خاليا من وليدها وأن لا تبالي به، وعليه فإنّ تخصيصها بحقّ الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقا ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الأم، والتعبير بـ ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾ إشارة لطيفة إلى هذا المعنى، وبالرغم من أن الجملة مطلقة ظاهرا وتشمل النساء المطلقات وغير المطلقات، ولكن الجملة اللاحقة توضح أن الآية تقصد النساء المطلقات مع وجود هذا الحقّ لسائر الأمهات، ولكن في صورة عدم وجود الطلاق فلا أثر عملي لهذا الحكم.
ب. ليس من الضروري أن تكون مدّة رضاعة الطفل سنتين حتما، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ ولكن للأم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحّة الطفل وسلامته، في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت عليهم السّلام أنّ دورة رضاعة الطفل الكاملة سنتان كاملتان، ودورتها غير الكاملة 21 شهرا، ولعلّ هذا يأخذ أيضا بنظر الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية من سورة الأحقاف التي تقول ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾، ولمّا كانت فترة الحمل 9 أشهر، فتكون فترة الرضاعة الاعتيادية 21 شهرا، ولمّا لم يكن في آية سورة الأحقاف ما يفيد الإلزام والوجوب، فإنّ للوالدات الحقّ في تخفيض فترة ال 21 شهرا بما يتّفق وصحّة الوليد وسلامته.
ج. نفقة الأم في الطعام واللباس، حتّى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الأم من الانصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق، ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، هنا تعبير (المولود له) بدلا من (الأب) يستلفت الانتباه، ولعلّه جاء لاستثارة عواطف الأبوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه، أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وأمه خلال هذه الفترة، فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده، وليس غريبا عنه، إنّ الإتيان بقيد (المعروف) يشير إلى أنّ طعام الأم ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف، ولرفع كلّ غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كلّ أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ويرى البعض أن هذه الجملة بمثابة العلّة لأصل الحكم، والبعض الآخر بعنوان تفسير الحكم السابق (والنتيجة واحدة).
د. لا يحقّ لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمرا مرتبطا بما قد يكون بينهما من اختلافات، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها، ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، على الأب أن يحذر انتزاع الوليد من أحضان أمه خلال فترة الرضاعة فيعتدي بذلك على حقّ الأم في حضانة وليدها، كما أنّ على الأم التي أعطيت هذا الحقّ أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله، وذكر احتمال آخر في تفسير الآية وهو أنّ المراد أنّ الأب ليس له أن يسلب الزّوجة حقّها في المقاربة الجنسيّة بسبب الخوف من الحمل وفي النتيجة الإضرار بالمرضع، ولا الام بإمكانها منع زوجها من هذا الحقّ لهذا السبب، ولكنّ التفسير الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية، والتعبير بـ ﴿ولدها﴾ و﴿وَلَدِهِ﴾ من أجل تشويق الآباء والأمّهات برعاية حال الأطفال الرّضع، مضافا إلى أنّه إشارة إلى أنّ الرّضيع متعلّق لكليهما خلافا لما هو المرسوم من تقاليد الجاهليّة من أنّ الولد متعلّق بالأب خاصّة وليس للام سهم من الحقّ فيه.
هـ. ثمّ تبيّن الآية حكما آخر يتعلّق بما بعد وفاة الأب فتقول: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرّضاعة للطفل، وهناك احتمالات أخرى في تفسير الآية الشريفة ولكنّها ضعيفة.
و. تتحدّث الآية أيضا عن مسألة فطام الطّفل عن الرّضاعة وتجعله بعهدة كلّ من الأبوين على الرّغم ممّا جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرّضاعة، إلّا أنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحّة الطّفل وسلامته الجسميّة، وتقول الآية: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، وفي الواقع أنّ الأب والام يجب أن يراعيا مصالح الطّفل ويتشاوران في ذلك للوصول إلى التّوافق والتّراضي، فيضعان برنامج مدروس لفطام الطّفل من الرّضاع دون أن يحدث لهما مشاجرة في هذه المسألة والتي قد تؤدّي إلى ضياع حقوق الطّفل.
ز. أحيانا تمتنع الام من حضانة الطّفل وحقّها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصّورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهناك عدّة تفاسير لجملة ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
• فذهب بعض المفسّرين أنّه لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدّة الفائتة من الرّضاعة، بل يجب إعطاءها حقّها في المدّة الفائتة التي أرضعت فيها الطّفل حسب ما تقتضيه الأعراف والعادات.
• وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ العبارة ناظرة إلى حقّ المرضعة، فيجب أداء حقّها وفقا لمقتضيات العرف والعادة، وذهب آخرون إلى أنّ المراد من هذه الجملة هو اتّفاق الأب والأم في مسألة انتخاب المرضعة فعلى هذا تكون تأكيدا للجملة السابقة، ولكنّ هذا التفسير ضعيف ظاهرا، والصحيح هو التفسير الأوّل والثاني، وقد اختار المرحوم (الطبرسي) التفسير الأوّل.
2. في الختام تحذّر الآية الجميع وتقول ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزّوجين أن تؤدّي إلى إيقاد روح الانتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطّفل إلى الخطر، فلا بدّ أن يعلم الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالهم بدقّة.
3. هذه الأحكام المدروسة بدقّة والمشفوعة بالتّحذيرات تبيّن بوضوح درجة اهتمام الإسلام بحقوق الأطفال وكذلك الامّهات حيث يدعو إلى رعاية الحدّ الأكثر من العدالة في هذا المجال.. أجل، فإنّ الإسلام ـ وعلى خلاف ما هو السائد في العالم المادي المعاصر حيث تسحق فيه حقوق الطبقة الضعيفة ـ يهتم غاية الاهتمام بحفظ حقوقهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/176.
108. من أحكام العدة والخطبة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈108⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 234 ـ 235]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: نسخ من هذه الآية الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال في سورة النساء القصرى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤](1).
__________
(1) يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٣٦.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت؛ لقول الله: ﴿فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن﴾، ثم جاء الميراث، فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها(1).
__________
(1) البخاري: ٤٥٣١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، فهذه عدة المتوفى عنها، إلا أن تكون حاملا، فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال في ميراثها: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ [النساء: ١٢]، فبين ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ إذا طلقت المرأة، أو مات عنها، فإذا انقضت عدتها؛ فلا جناح عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ يقول: إني فيك لراغب، ولوددت أني تزوجتك، حتى يعلمها أنه يريد تزويجها، من غير أن يوجب عقدة، أو يعاهدها على عهد(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لا يقول لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا(4).
5. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ قال السر: الجماع قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول امرئ القيس(5):
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي؟
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، وهو قوله: إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ قال لا تنكحوا، ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ قال حتى تنقضي العدة(7).
8. روي أنّه قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ قال أخبر الله تعالى عباده بحلمه، وعفوه، وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته(8).
9. روي أنّه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب والزينة، وقال: إنما قال الله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، ولم يقل: في بيوتكم؛ تعتد حيث شاءت(9).
10. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة، من غير أن ينصب لها(10).
11. روي أنّه قال: يعرّض لها في عدتها، يقول لها: إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج(11).
12. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ فذلك السر: الزنية، كان الرجل يدخل من أجل الزنية وهو يعرّض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك، إلا من قال معروفا(12).
__________
(1) ابن جرير: ٢/٢٤٨.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٧.
(3) ابن أبي شيبة: ٤/٢٥٨ ـ: ٢٥٩.
(4) ابن جرير: ٤/٢٧٥.
(5) الطستي في مسائله ـ كما في الإتقان: ٢/١٠٠.
(6) ابن جرير: ٤/٢٨٢.
(7) ابن جرير: ٤/٢٨٥.
(8) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٢.
(9) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢٠٥١.
(10) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٩.
(11) ابن جرير: ٤/٢٦٢.
(12) ابن جرير: ٤/٢٧٤.
جابر بن زيد:
روي عن جابر بن زيد (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ الزنا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٧٢.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه سئل: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٥٨.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنّه سئل: هل اعتد نساء رسول الله بعد وفاته؟ فقال: نعم، اعتددن أربعة أشهر وعشرا، قيل: يا أبا عبد الله، ولم يعتددن وهن لا يحللن لأحد من العالمين، وإنما تكون العدة للاستبراء؟ فغضب عروة، وقال: لعلك ذهبت إلى قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [الأحزاب: ٣٢]؟ أما العدة فإنما عملن بالكتاب(1).
__________
(1) ابن سعد في الطبقات: ١٠/٢١٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لا يقاضها على كذا وكذا، على ألا تتزوج غيره(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ يقول: لأعطينك، لأحسنن إليك، لأفعلن بك كذا وكذا(2).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢١٦٧.
(2) سعيد بن منصور: ٣٨٤ ـ تفسير.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ يقول: إنك لمعجبة، وإني فيك لراغب(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٤/٢٥٨.
(2) ابن جرير: ٤/٢٦٦.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ إذا انقضت عدتها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ لا يتزوجها حتى يخلو أجلها(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٧.
(2) ابن جرير: ٤/٢٨٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 240] قال فجعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية؛ إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، فالعدة كما هي واجبة عليها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هو النكاح الحلال الطيب(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها، هذا كله حل معروف(3).
4. روي أنّه قال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ ذكره إياها في نفسه(4).
5. روي أنّه قال: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ هو الذي يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها، ولا تنكح غيره(5).
6. روي أنّه قال: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لا يخطبها في عدتها(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ قول الرجل للمرأة: لا تسبقيني بنفسك؛ فإني ناكحك، هذا لا يحل(7).
8. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني: التعريض(8).
9. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ يقول: إنك لجميلة، وإنك لحسينة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير(9).
10. روي أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ هو قول الرجل للمرأة في عدتها: إنك لجميلة، وإنك لتعجبين، ويضمر خطبتها، ولا يبديه لها، هذا كله حل معروف(7).
__________
(1) البخاري: ٤٥٣١.
(2) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٨.
(3) تفسير مجاهد: ص٢٣٨.
(4) ابن أبي شيبة: ٤/٣٦٠.
(5) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٩٥.
(6) ابن أبي شيبة: ٤/٢٥٧.
(7) تفسير مجاهد: ص٢٣٧.
(8) ابن أبي شيبة: ٤/٢٥٩.
(9) سفيان الثوري في تفسيره: ص٦٩.
القاسم:
روي عن القاسم بن محمد (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، والله سائق إليك خيرا أو رزقا، أو نحو هذا من القول(1).
__________
(1) مالك: ٢/٥٢٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٤٤.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ معناه نكاح، والسّر: الزّنا،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلم 101.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ في نكاح من هويته، إذا كان معروفا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، قال جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة، فما استأخر لا يحلها إلا أن تضع حملها(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٦٠، وعلَّقه ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٨.
(2) ابن جرير: ٤/٢٤٩.
ربيعة الرأي:
روي عن ربيعة الرأي (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾: عشر ليال لقول الله: ﴿وَعَشْرًا﴾، وما قال الله: فعشرة كاملة، فهي عشر ليال بأيامهن(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٣٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ الفحش والخضع من القول(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٧٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن محمد بن مسلم، قال: جاءت امرأة إلى الإمام الصادق تستفتيه في المبيت في غير بيتها، وقد مات زوجها، فقال: إن أهل الجاهلية كان إذا مات زوج المرأة أحدت عليه امرأته اثني عشر شهرا، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم رحم ضعفهن، فجعل عدتهن أربعة أشهر وعشرا، وأنتن لا تصبرن على هذا(1).
2. روي أنّه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها، وتكون في عدتها، أتخرج في حق؟ فقال: إن بعض نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سألته، فقالت: إن فلانة توفي عنها زوجها، فتخرج في حق ينوبها؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أف لكن، قد كنتن قبل أن أبعث فيكن، وإن المرأة منكن إذا توفي عنها زوجها، أخذت بعرة فرمت بها خلف ظهرها، ثم قالت: لا أمتشط ولا اكتحل ولا اختضب حولا كاملا، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشر ثم لا تصبرن! لا تمتشط، ولا تكتحل، ولا تختضب، ولا تخرج من بيتها نهارا، ولا تبيت عن بيتها، فقالت: يا رسول الله، فكيف تصنع إن عرض لها حق؟ فقال: تخرج بعد زوال الشمس، وترجع عند المساء، فتكون لم تبت عن بيتها)، قيل له: فتحج؟ قال: نعم(1).
3. روي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ جئن النساء يخاصمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كانت إحداكن إذا مات زوجها، أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرتها، في خدرها، ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول، أخذتها ففتتها، ثم اكتحلتبها، ثم تزوجت، فوضع الله عنكن ثمانية أشهر(2).
4. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [البقرة: 235]، قال: هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: أواعدك بيت آل فلان، ليعرض لها بالخطبة، ويعني بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ التعريض بالخطبة، ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله(3).
5. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، فقال: (السر أن يقول الرجل: موعدك بيت آل فلان، ثم يطلب إليها أن لا تسبقه بنفسها، إذا انقضت عدتها)، قيل: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً؟ قال: (هو طلب الحلال في غير أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)(3)
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: يلقاها فيقول: إني فيك لراغب، وإني للنساء لمكرم، فلا تسبقيني بنفسك، والسر: لا يخلو معها حيث وعدها(4).
7. روي أنّه قال: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، ولا تقول: إني أصنع كذا، وأصنع كذا، القبيح من الأمر في البضع، وكل أمر قبيح(5).
8. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها: يا هذه، لا أحب إلا ما أسرك، ولو قد مضى عدتك لا تفوتيني إن شاء الله، فلا تسبقيني بنفسك، وهذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح(5).
__________
(1) الكافي: 6/117.
(2) تفسير العيّاشي: 1/121.
(3) الكافي: 5/434.
(4) الكافي: 5/435.
(5) تفسير العيّاشي: 1/123.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾: عدة حسنة، نظيرها في النساء: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، يعني: عدة حسنة، فتقول وهي في العدة: إنه حبيب إلي أن أكرمك، وأن آتي ما أحببت، ولا أجاوزك إلى غيرك(1).
2. روي أنّه قال: ثم خوفهم، فقال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني: ما في قلوبكم من أمورهن؛: ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ أي: فاحذروا أن ترتكبوا في العدة ما لا يحل(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٩٩.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أن يسر في نفسه أن يتزوجها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٧١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لا تنكحوهن سرا، ثم تمسكها، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٧٨.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، قال: يقول الرجل: أواعدك بيت آل فلان، يعرض لها بالرفث ويرفث يقول الله عز وجل: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً والقول المعروف: التعريض بالخطبة على وجهها وحلها ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ﴾(1).
__________
(1) الكافي: 5/435.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ هذه الأشهر ـ يرحمك الله ـ والعشر هي: أيام العدة التي جعلها الله سبحانه على المرأة عند موت زوجها، لا تنكح فيها، ولا تختضب، ولا تتزين؛ لإظهار الحزن على زوجها، مع استبراء رحمها، فكل ذلك واجب عليها ـ ففي هذه العدة التي جعلها الله عند موت زوجها(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/109.
الناصر:
قال الإمام الناصر بن الإمام الهادي (ت 325 هـ)(1): ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ السر في لغة العرب هو: النكاح، معروف عندهم غير منكر؛ قال أعشى قيس:
فلا تدنون من حرة إن سرها... عليك حرام فأنكحن أو تأبدا
والتأبيد: ترك النكاح، مشتق من التوحش، والدليل على ذلك قول لبيد بن ربيعة الكلابي، حيث يقول:
عفت الديار محلها فمقامها... بمنى تأبد غولها فرجامها
والتأبد عنهم معروف غير منكر، وجماعة الوحش: الأوابد، وقال امرؤ القيس الكندي:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/109.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في النسخ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾:
أ. قيل: هي ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 240]، إنها وإن كانت مقدمة في الذكر، وتلك مؤخرة، ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ناسخة لتلك، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل؛ ألا ترى إلى ما جاء في الخبر: أن امرأة أتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فذكرت: أن بنتا لها توفى عنها زوجها، واشتكت عينها، وهى تريد أن تكحلها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (قد كانت إحداكن في الجاهلية تجلس حولا في منزلها ثم تخرج عند رأس الحول، فترمى بالبعر، وإنما هي أربعة أشهر وعشرا)، فثبت أن ما كان ذلك مما تقدم الأمر به، نسخ بالثاني.
ب. وقال آخرون: إنه قد أثبت في الآية متاعا أو وصية، ثم ورد النسخ على كل وصية كانت للوارث بقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، وإلا كان الاعتداد الواجب اللازم هو أربعة أشهر وعشرا.
2. أمكن أن يستدل بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ إذ كان على إثر قوله تعالى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أن قوله، ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ كان النهى على (الإخراج)، دون (الخروج)، وهذا أصل في الوصايا بالمتاع: ألا يمنع الرد وإن أجبر على التسليم.
3. فى الآية دلالة جواز الوصية بالسكنى إذا بطلت بحق الميراث، لا بحق الوصية ـ والله الموفق ـ وهو جائز فيمن لم تنسخ له الوصية.
4. أمكن الاستدلال بالآية على عدة الوفاة بالحبل إن ثبت ما روى: (أنه يكون أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشرة)، فإذا كان ما ذكرنا أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر ليتبين الحبل إن كان بها، وإذا كان بهذا معنى العدة فإذا ولدت بدونه انقضت العدة.
5. سؤال وإشكال: الأمة أليست لا تختلف عن الحرة في تبيين الحبل، ثم لم يجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، فإذا لم يجعل ذلك كيف لا بان أن الأمر بتربص أربعة أشهر وعشرا إلا لهذا المعنى؟ والجواب: لوجهين:
أ. أحدهما: أن الحرائر هن الأصول في النكاح، وفيهن تجرى الأنكحة، فيخرج الخطاب لهن.
ب. الثاني: أنها حق أخذت الحرة، والحقوق التي تأخذ الحرائر هن الأصول في النكاح، إذا صرف ذلك إلى الإماء تأخذ نصف ما تأخذ الحرائر.
ج. الثالث: أنه لا يقصد آجالهن؛ لما فيه رق الولد واكتساب الذل والدناءة.
6. روى عن على بن أبى طالب، أنّه قال تعتد أبعد الأجلين احتياطا، ذهب في ذلك إلى أن الاعتداد بوضع الحبل إذا ذكر في الطلاق، ولم يذكر في الوفاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك في الوفاة كهو في الطلاق ويحتمل ألا يكون، فأمرها بذلك احتياطا، أما عندنا: ما روى عن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، أنهم قالوا: إذا وضعت ما في بطنها، وزوجها على السرير، انقضت عدتها، وكذلك روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أن امرأة مات عنها زوجها، وكانت حاملا، فوضعت بعد ذلك بأيام، فأذن لها بالنكاح)، ثم الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا، ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا) وهو فوت النعمة في الدين، وذلك الفوت في الطلاق كهو في الموت!؟ ألا ترى أنه لم يجب ذلك في موت أبيها ولا في موت ولدها، دل أنه لم يجب للموت نفسه، ولكن لفوت النعمة في الدين؛ ألا ترى أنه روى في الخبر أن المرأة الصالحة مفتاح الجنة، فأمرت بإظهار الحزن على ما فات منها من النعمة بترك الزينة والتشوف؛ إذ النكاح نعمة، ثم الدخول بها سواء في وجوب المهر والعدة وترك الزينة وإظهار الحزن على فوت النعمة، وأما المطلقة قبل الدخول بها لم يلزمها ذلك؛ لأن العدة لم تلزمها فتتجدد لها النعمة، لما لها أن تنكح للحال، فتكتسب نعمة، والله أعلم، ألا ترى أن الصبى الصغير إذا مات عن امرأته تلزمها أربعة أشهر وعشر، دل هذا على أن وجوبها لفوت النعمة.
7. ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ قيل: لا تبعة عليكم ولا إثم ﴿فِيمَا فَعَلْنَ﴾ قيل: تزين بعد انقضاء عدة، وقيل: المعروف هو وضعهن أنفسهن]، أي في الأكفاء بمهر مثلهن.
8. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ قيل: (التعريض) هو أن يرى من نفسه الرغبة فيما يكنى به من الكلام، على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لها: (إذا انقضت عدتك فآذنيني، فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه، وأما فلان فإنه صعلوك لا شيء له؛ فعليك بأسامة بن زيد)، فكان قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (فآذنيني) كناية خطاب إلى أن أشار على أسامة، دون ما ذكره أهل التأويل: (إنك لجميلة)، و(إنك لتعجبيننى)، و(ما أجاوز إلى غيرك)، أو (إنك لنافعة)، ومثل هذا لا يحل أن يشافه لامرأة أجنبية لا يحل له نكاحها.
9. فى الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار لما ذكر من التعريض]، وما روى عن عمر، وابن مسعود، بالإذن لهن بالخروج بالنهار، والنهى عن البيتوتة في غير منزلهن، ولأن المتوفى عنها زوجها مئونتها على نفسها، فلا بد لها من الخروج، وأما المطلقة فإن مئونتها على زوجها، والزوج هو الذي يكفى مئونتها ويزيح علتها؛ لذلك افترقا.
10. التعريض لا يجوز في المطلقة لوجهين:
أ. أحدهما: ما ذكرنا ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلا ولا نهارا، والمتوفى عنها زوجها يباح لها الخروج، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى التعريض في المتوفى عنها زوجها، لم يذكره في المطلقة.
ب. الثاني: أن في تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينه وبين زوجها؛ إذ العدة من حقه، دليله: أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة، وأما المتوفى عنها زوجها لزمتها العدة وإن لم يدخل بها؛ لذلك يجوز التعريض في المتوفى عنها زوجها، ولا يجوز في المطلقة.. لأن زوجها في الطلاق حي، يعلم ما يحدث بينهما الضغن والمكروه في الحال، وليس ذلك في الوفاة.
11. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يعنى أخفيتم تزويجها في السر، ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ سرّا وعلانية، وقيل: يعنى الخطبة في العدة.
12. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أوجه:
أ. قيل: لا تأخذوا منهن عهدا ألا يتزوجن غيركم.
ب. وقيل: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ يعنى الزنى، و(السر) الزنا في اللغة.
ج. وقيل: (السر) الجماع؛ تقول: آتيك الأربعة والخمسة ونحوه.
13. ثم قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يقول لها قولا لينا حسنا، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه، على ما ذكر في الآية: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]، وأن يعد لها عدة حسنة، أو أن يبر ويحسن إليها لترغيب فيه، ولا يقول لها ما لا يحل ولا يجوز.
14. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾:
أ. قيل: هو على الإضمار، كأنه قال (لا تعزموا على عقدة النكاح).
ب. وقيل: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ﴾ لا تعقدوا ﴿النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يعنى بالكتاب: ما كتب عليها من العدة حتى تنقضي تلك، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصي والخلاف له، وأن الذي لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال، لا بالعزم عليه والاعتقاد.
15. ثم أخبر أنه ﴿غَفُورٌ﴾ ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره وأنهم قد استوجبوا بفعلهم الخزي، لكن الله بفضله ستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه، أو لئلا ييأسوا من رحمته فيستغفروه.
16. وذكر ﴿حَلِيمٌ﴾ لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا في ذلك الوقت، فيظنون الغفلة عنه، كقوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42].
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/186.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ يعني بالتربص زمان العدة في المتوفى عنها زوجها، ومعنى زيادة العشر على أربعة أشهر هذا ما روينا أن الله عز وجل ينفخ الروح في الجنين في هذه العشر ثم ذكر العشر بالتأنيث تغليباً لليالي على الأيام إذا اجتمعت لأن أول الشهر طلوع الهلال ودخول الليل فكان تغليب الأوائل على التوالي أولى والإحداد فهو واجب وهو الامتناع من الزينة والرحيل والتطيب والنقلة.
2. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فإن قيل: فما المعنى في رفع الجناح على الرجال إذا بلغ النساء أجلهن؟ فالجواب: أن الخطاب توجه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العدة فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عدتهن ثم قوله ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من التطيب والتزين، ويحتمل أن يكون المعنى: ولا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عدتهن.
3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أما التعريض فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر فالخِطبة بكسر الخاء هو طلب النكاح، والخُطبة بالضم فهو تأليف كلام يتضمن وعظاً وإبلاغاً، والتعريض المباح في العدة أن يقول: رُبّ رجل يرغب إليك ولعل الله يسوق إليك خيراً.
4. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أي أسررتموه من عقد النكاح، ثم قال ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي لا تأخذوا عهودهن ومواثيقهن على أن لا ينكحن غيركم.
5. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ وهو التعريض الذي ذكرناه، ثم قال ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ وفي الكلام حذف وتقديره ولا تعزموا عقد [عقدة] النكاح يعني التصريح بالخطبة؛ ثم قال ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يعني انقضاء العدة وتقدير الكلام حتى يبلغ فرض الكتاب أجله.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/115.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ يعني بالتربص زمان العدّة في المتوفّى زوجها، وقيل في زيادة العشرة على الأشهر الأربعة ما قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية أن الله تعالى ينفخ الروح في العشرة، ثم ذكر العشر بالتأنيث تغليبا لليالي على الأيام إذا اجتمعت لأن ابتداء الشهور طلوع الهلال ودخول الليل، فكان تغليب الأوائل على الثواني أولى.
2. اختلفوا في وجوب الإحداد فيها على قولين:
أ. أحدهما: أن الإحداد فيها واجب، وهو قول ابن عباس، والزهري.
ب. الثاني: ليس بواجب، وهو قول الحسن.
3. روى عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لمّا أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (تسلّبي ثلاثا ثمّ اصنعي ما شئت)، والإحداد: الامتناع من الزينة، والطيب، والترجل، والنّقلة.
4. سؤال وإشكال: ما المعنى في رفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾؟ والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما: أن الخطاب توجّه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العدّة، فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عددهن.
ب. الثاني: أنه لا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عددهن.
5. في قوله تعالى: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: من طيب، وتزين، ونقلة من مسكن، وهو قول أبي جعفر الطبري.
ب. الثاني: النكاح الحلال، وهو قول مجاهد، وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240]
6. سؤال وإشكال: الآية الكريمة متقدمة والناسخ يجب أن يكون متأخرا، والجواب: هو في التنزيل متأخر، وفي التلاوة متقدم.
7. سؤال وإشكال: لم قدّم في التلاوة مع تأخره في التنزيل؟ والجواب: ليسبق القارئ إلى تلاوته ومعرفة حكمه حتى إن لم يقرأ ما بعده من المنسوخ أجزأه.
8. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أما التعريض، فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر النكاح، وأما الخطبة بالكسر فهي طلب النكاح، وأما الخطبة بالضّم فهي كلام يتضمن وعظا أو بلاغا، والتعريض المباح في العدة أن يقول لها: ما عليك أيمة ولعل الله أن يسوق إليك خيرا، أو يقول: ربّ رجل يرغب فيك، إلى ما جرى مجرى هذه الألفاظ.
9. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني ما أسررتموه من عقدة النكاح، ثم قال تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ في السر خمسة تأويلات:
أ. أحدها: أنه الزنى، وهو قول الحسن، وأبي مجلز، والسدي، والضحاك وقتادة.
ب. الثاني: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن ألا ينكحن غيركم، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والشعبي.
ج. الثالث: ألا تنكحوهن في عددهن سرا، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
د. الرابع: أن يقول لها: لا تفوتني نفسك، وهو قول مجاهد.
هـ. الخامس: الجماع، وهو قول الشافعي.
10. ثم قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ معناه: قولوا قولا معروفا، وهو التعريض، ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، وفي الكلام حذف وتقديره: ولا تعزموا على عقدة النكاح، يعني التصريح بالخطبة.
11. في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه فرض الكتاب أجله، يريد انقضاء العدّة، فحذف الفرض اكتفاء بما دل عليه الكلام.
ب. الثاني: أنه أراد بالكتاب الفرض تشبيها بكتاب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/303.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ وإن كانت مقدمة عليه في التلاوة وعدة كل متوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشراً سواء كانت مدخولا بها، أو غير مدخول، حرة كانت أو أمة، فان كانت حبلى، فعدتها أبعد الأجلين، من وضع الحمل أو مضى الأربعة أشهر، وعشرة أيام، وهو المروي عن علي عليه السلام، ووافقنا(2) في الأمة الأصم، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وقالوا: عدتها نصف عدة الحرة: شهران وخمسة أيام، وإليه ذهب قوم من أصحابنا، وقالوا في عدة الحامل: إنها بوضع الحمل، وإن كان بعد على المغتسل، وروي ذلك عن عمر، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وعندنا أن وضع الحمل يختص بعدة المطلقة.
2. الذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابه في قول ابن عباس، وابن شهاب: الزينة، والكحل بالإثمد، وترك النقلة عن المنزل، وقال الحسن في احدى الروايتين عن ابن عباس: إن الواجب عليها الامتناع من الزواج لا غير، وعندنا أن جميع ذلك واجب.
3. ﴿وَالَّذِينَ﴾ رفع بالابتداء (و﴿يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ في صلة الذين ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ عطف عليه، وخبر الذين قيل فيه أربعة أقوال:
أ. أولها ـ أن تكون الجملة على تقدير ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ أزواجهم (يتربصن).
ب. الثاني:على تقدير (يتربصن) بعدهم أزواجهم.
ج. الثالث: أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد الى مضاف في المعنى، كان كان بمنزلته على تقدير (يتربصن) أزواجهم: هذا قول الزجاج والأول قول أبي العباس، والثاني قول الأخفش ونظير قول الزجاج أن تقول: إذا مات، وخلف ابنتين، يرثان الثلثين، المعنى يرث ابنتاه الثلثين.
د. الرابع: أن يعدل عن الاخبار عن الأزواج، لأن المعنى عليه، والفائدة فيه ذهب إليه الكسائي، والفراء، وأنكر ذلك أبو العباس، والزجاج، لأنه لا يكون مبتدأ لا خبر له، ولا خبر إلا عن مخبر عنه، وأنشد الفراء:
لعلّي إن مالت بي الريح ميلة...على ابن أبي ديان أن يتندما
المعنى لعل ابن أبي ديَّان أن يتندم، وهذا يجوز على حذف أن يتندم لأجلي وقال أيضاً:
نحن بما عندنا وأنت بما...عندك راض والرأي مختلف
وقال أبو عبيدة: نظير الآية قول شدّاد بن عنتر:
فمن يك سائلا عنى فاني...وحروة لا ترود ولا نعار
حروة اسم فرسه وإنما حذف الخبر من الأول، لأن خبر الثاني يدل عليه، لأنه أراد فاني حاضر، وفرسي حاضرة لا ترود، ولا نعار، فدل بقوله: لا ترود ولا نعار: على أنها حاضرة بتوعد وتتهدد في قول أبي العباس.
4. ﴿يذرون﴾ يتركون وترك ماضيه يترك تركاً، وتقول ذره تركاً وكذلك يدع ليذر سواء، والعلة في ذلك أنهم كرهوا الواوات في أول الكلام حتى أنهم لم يلحقوها، أو على جهة الزيادة أصلا، ففي رفض وذر: دليل على الكراهة لها أصلية، وليس بعد الضعف إلا الاتباع فلما ضعفت أصلية امتنعت زيادة، فان قيل كيف قال وعشراً بالتأنيث وإنما العدة على الأيام والليالي، ولذلك لم يجز أن تقول: عندي عشر من الرجال والنساء، قيل لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، وغيره، لأن ابتداء شهور الأهلة الليالي منذ طلوع الهلال فلما كانت الأوائل غلبت، لأن الأوائل أقوى من الثواني وقال الشاعر:
أقامت ثلاثاً بين يوم وليلة... وكان النكير أن تضيف وتجأرا
معنى تضيف تميل وحكى الفراء: صمنا عشراً من شهر رمضان ولو أضاف الى الأيام فقال عشرة أيام، لم يجز إلا التذكير، وإنما جاز في الأول لأنه بمعنى عشر من رمضان وقع العمل في نهاره.
5. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يقال: أجله تأجيلا: إذا أخره، والآجل نقيض العاجل، وتأجل تأجلا واستأجله استئجالا، وأجلوا ما لهم يأجلونه أجلا: إذا حبسوه في المرعى، لأنهم أخروه فيه والأجل: غاية الوقت في محل الدين وغيره، لتأخره الى ذلك الوقت وأجل الشيء يأجل وهو آجل نقيض العاجل، لتأخره عن وقت غيره، وفعلته من أجل كذا أي لعاقبة كذا وهي متأخرة عن وقت الفعل الذي دعت، إليه والأجل: القطيع من نفر الوحش، وجمعه آجال، وقد تأجل الصوار أي صار قطيعاً لتأخر بعضه عن بعض، وآجل عليهم شرّاً آجلا أي خبأه، لأنه أعقبهم شرّاً، وهو متأخر عن وقت فعله، والآجلة الآخرة، والعاجلة الدنيا، والمأجل شبه حوض واسع يؤجّل فيه ماء البئر أياماً، ثم يفجر في الزرع، وهو بالفارسية: (كرجه) وذلك لتأخر الماء فيه.
6. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فالخبير: العالم، لأنه عالم بمخبر الخبر، والخبار: الأرض السهلة فيها حجارة، وأحفار، وأخبرت بالشيء إخباراً، لأنه تسهيل لطريق العلم به، واستخبره استخباراً، وتخبر تخبراً، وخبرّه تخبيراً، وأخبره إخباراً، وتخبر القوم: بينهم خبرة: إذا اشتروا شاة، فذبحوها، واقتسموا لحمها، والشاة: خبيرة، والمخبرة: المزادة العظيمة، والخابرة: أن يزرع على النصف، أو الثلث، أو نحوه، والأكار: الخبير، والمخابرة: المؤاكرة، وذلك لتسهيل الزراعة.
7. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي انقضت هذه المدة، وهي الأربعة أشهر وعشراً ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي لا جناح عليكم أن تتركوهن إذا انقضت هذه المدة أن يتزوجن، وأن يتزين زينة لا ينكر مثلها، وهو معنى قوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾
8. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ قال ابن عباس: التعريض المباح في العدة هو قول الرجل: أريد التزويج، وأحب امرأة من حالها، ومن أمرها، وشأنها، فيذكر بعض الصفة التي هي عليها، هذا قول ابن عباس، وقال القاسم بن محمد، وعامر تقول: إنك لنافقة، وإنك لعجبة جميلة، وإن قضى الله شيئاً كان.
9. الخطبة: الذكر الذي يستدعي به الى عقدة النكاح، والخطبة: الوعظ المنسق على ضرب من التأليف، وقيل: الخطبة: ما له أوّل، وآخر، مثل الرسالة، والخطبة للحال نحو الجلسة، والقعدة، تقول: خطب المرأة يخطبها خطبة، لأنه خاطب في عقد النكاح، وخطب خطبة، لأنه خاطب بالزجر، والوعظ على ضرب من تأليف اللفظ المخصوص، وخاطب مخاطبة، وخطاباً، وتخاطبوا تخاطباً، والخطب: الأمر العظيم، والخطبان: الحنظل الذي تشتدّ خضرته حتى تستحيل الى الغبرة، والصفرة، وأصل الباب الخطاب.
10. الفرق بين التعريض، والكناية أن التعريض: تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر له، والكناية: العدول عن الذكر الأخص بالشيء الى ذكر يدل عليه، فالأول كقول القائل: ما أقبح البخل، يعرض بأن المخاطب بخيل، ولعن الله الملحدين، يعرض له بالإلحاد، والثاني كقولك: زيد ضربته، كنيت عنه بالهاء الموجودة في (ضربته).
11. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ فالاكنان: إسرار العزم على النكاح دون إظهاره على قول ابن زيد، ومجاهد، وقال قوم: هو معنى التعريض بالخطبة إن شئت أظهرته، وان شئت أضمرته، وتقول: كننت الشيء: إذا سترته، أكنه كنّاً وكنوناً وأكننته إكناناً إذا أضمرته، لأنك سترته في نفسك، واستكن الرجل، وأكنن إذا صار في كنّ، لأنه صار فيما يستره، والكنانة الجعبة غير أنها صغيرة تتخذ للنبل، والكنة: امرأة الابن أو ابن الأخ، والجمع كنائن، وسمي الكانون كانوناً، لأنه يحتاج إليه في وقت الاكتنان من البرد، ومنه قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وأصل الباب الكنّ: الستر، والفرق بين الأكنان والكن: أن الأكنان: الإضمار في النفس، ولا يقال كننته في نفسي، وقيل: كننته معناه صنته كما قال ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾:
أ. قال الحسن، وإبراهيم، وأبو مجيلة: السرّ المنهي عنه هاهنا الزنا.
ب. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والشعبي: هو العهد على الامتناع من تزويج غيرك.
ج. وقال مجاهد: هو أن تقول لها لا تفوتيني بنفسك، فاني ناكحك.
د. وقال ابن زيد: هو اسرار عقدة النكاح في العدة.
13. السرّ في اللغة على ثلاثة أوجه: الإخفاء في النفس، والشرف في الحسب، يقال: فلان في سرَّ قومه إذا كان في شرفهم، وصميمهم، والجماع في الفرج قال الشاعر:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني... كبرت وألا يشهد السر أمثالي
وقال رؤبة:
فعفّ عن أسرارها بعد العسق... ولم يضعها بين فرك وعشق
العشق اللصوق، وقال الحطيئة:
ويحرم سرُ جارتهم عليهم... ويأكل جارهم أنف القصاع
14. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني التعريض الذي أباحه الله تعالى، و(إلا) بمعنى (لكن) لأن ما قبلها هو المنهي عنه، وما بعدها هو المأذون فيه، وتقديره: ولكن قولوا قولا معروفاً.
15. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾: تقديره على عقدة النكاح، وحذفت على، لدلالة العزم عليها، لأنه لا يكون إلا على معزوم عليه، كما قيل: ضربه الظهر والبطن أي على الظهر والبطن.
16. العقد: الشد، تقول: عقد يعقد عقداً، وأعقدت العسل إعقاداً، واعتقد صحة الأمر اعتقاداً، وتعاقدوا على الأمر تعاقداً، وعاقده معاقدة، وعقّد كلامه تعقيداً، وتعقد تعقداً، وانعقد انعقاداً، وعقد العبد، لأنه كعقد الحبل في التوثيق، والعقد: السمط من الجوهر، والعقد: الرمل للتداخل، وعقد اليمين: خلاف اللغو، وناقة عاقد أي لاقح، لأنها تعقد بذنبها، فيظهر أنها قد لقحت.
17. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ معناه انقضاء العدة بلا خلاف، والكتاب الذي يبلغ أجله هو القرآن ومعناه: فرض الكتاب أجله، ويجوز أن يكون الكتاب نفسه هو الفرض، ذكره الزجاج، ووجه ثالث أن يكون ذلك على وجه التشبيه بكتاب الدين، ذكره الجبائي.
18. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ قد بينا أن الحلم من الله هو إمهال العقوبة المستحقة، وقال أبو علي الجبائي هو كل فعل يضاد حدوث العقوبة في الإنسان، وهو من الإنسان ترك العقاب، والله تعالى لا يجوز عليه الترك، فهو ما وصفنا من نعمه التي تضاد عقوبته.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/262.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الوفاة: الموت، وتوفيت الشيء واستوفيته أخذته.
ب. التربص: الانتظار.
ج. الأجل: المدة والوقت، وأصله من التأخير يقال: أَجَّلَهُ إذا أخره، والأجل: غاية الوقت في الموت،
د. الخبير: العليم، والخبر: العلم، وأصله من السهولة، ومنه قيل للأرض السهلة: خبر، ومنه الخبر لأنه يسهل المخبر، ومنه: الخبير الأكار، والمخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج، وذلك منهي عنه.
هـ. يذر ويدع بمعنى، وأُهْمِل ماضيه واستُغِني بـ ﴿تَرَكَ﴾؛ لأنهم كرهوا الواوات في أول الكلمة.
و. التعريض: التلويح بالشيء، والتعريض في الكلام: ما كان لحنًا ويفهم به السامع من غير تصريح، وأصله من العرض للشيء الذي هو جانبه وناحية منه، وعرض الجبل ما أخذ يمينًا وشمالاً، وفي الحديث: من عرّض عرّضنا له، ومن مشى على الكلام ألقيناه في النهر)، يعني مَنْ عرض بالقذف عرضنا له بتأديب لا يبلغ الحد، ومن صرح ألقيناه في نهر الحد، والفرق بين التعريض والكناية: أن التعريض تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر له، والكناية: العدول عن الذكر الأخص بالشيء إلى ذكر ما يدل عليه.
ز. الخِطبة من الخطاب، وهي توجيه الكلام إلى الإفهام، والخِطْبَةُ: التماس النكاح، والخُطبة: ضرب من الوعظ الذي له ضرب من التأليف، والخِطبة كالجِلسة، وقال الأخفش: الخطبة الذكر، والخطبة التشهد، وأصل الجميع الذكر، والخِطبة: الذكر الذي يستدعى به عقد النكاح، والخُطبة: الذكر المؤلف.
ح. الأكنان الستر للشيء، والكِنُّ: الستر، ومنه: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ و﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ ويُقال: كننت في أكننت، لغتان.
ط. السر ضد الجهر، وهو ما أخفيته في نفسك.
ي. العزم عقد القلب على أمر يفعله، يقال: عزمت على كذا، ومنه الحديث: خير الأمور عزائمها) يعني: ما أكدت عزمك عليه، والعقدة من العقد، وأصله من الشد، ومنه العقد يشد به.
2. لما تقدم عدة المطلقات بين عدة الوفاة، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي يُقْبَضُونَ ويموتون: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ أي يتركون أزواجًا، والمعنى كانوا أزواجًا، وإن كن في الحال أجنبيات، والحال يشهد بالمراد، كقولهم: باع فلان داره يعني ما كان داره، وكقوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ يعني كانوا أيتامًا: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ أي ينتظرن انقضاء العدة للوصول إلى النكاح، ويحبسن أنفسهن معتدات.
3. ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ يعني عشر ليال وعشرة أيام قيل: إنما أراد عشرًا لأن الزوج يمسك في الجسد فيها، عن سعيد بن المسيب، ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ يعني آخر العدة بانقضائها.
4. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج عليكم يعني الأولياء:
أ. قيل: إنه خطاب للأولياء؛ لأنه يتولى العقد.
ب. وقيل: للجميع لأنه يلزمهم منعها من التزويج في العدة.
ج. وقيل: تقديره لا جناح عليكم يعني على النساء وعليكم.
5. ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من النكاح والزينة بعد انقضاء العدة: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ عليم بأعمالهم فاجتنبوا مخالفة أمره ونهيه.
6. اختلفوا في عدة الوفاة إذا كانت ببلاغ خَبرٍ:
أ. فقيل: من يوم الوفاة، وظاهر الآية يدل عليه، وهو قول أكثر الفقهاء.
ب. وقيل: من يوم بلغها الخبر والأول أصح.
7. اختلفوا في الأشهر:
أ. فقيل: الاعتبار بالأهلة.
ب. وقيل: إذا كانت الوفاة في أثناء الشهور فبالأيام، والصحيح أن ما يمكن عده بالأهلة تعتد بها، وإذا كان في أثناء الشهر تعتد بقية الشهر بالأيام ثم تعتد بالأهلة كشهر رمضان والحج، هذا قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: تعتد بالأيام.
8. اختلفوا في العشرة:
أ. فقيل: الاعتبار بالليالي، تنقضي العدة بعشر ليال.
ب. وقيل: بالأيام، فما لم تنقض عشرة أيام لا تنقضي العدة.
والأول أقرب إلى الظاهر، والثاني أحوط، وأقرب إلى التعارف.
9. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ لما تقدم ذكر العدد وجواز نكاح الزوج في العدة بَيَّنَ حال الأجانب ومنعهم عن النكاح في العدة في عموم الأحوال فقال تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج ولا ضيق يا معشر الرجال: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ يعني ما عرضتم به من ذكر النساء المعتدات بالخطبة التي هي التماس النكاح، ولا تصرحوا به، وذلك أن تذكروا ما يدل على رغبتكم فيها، ثم اختلفوا:
أ. فقيل: يقول: أريد التزويج، أو أحب امرأة من حالها كذا، عن ابن عباس.
ب. وقيل: يقول: إنك لمعجبة جميلة، وإن قضاه الله بيننا كان، عن القاسم بن محمد والشعبي.
ج. وقيل: لعل الله أن يسوق إليك خيرًا، ونحوه من الكلام، ولا يقول: أنكحيني.
د. وقيل: كل ما كان من الكلام دون عقد النكاح فهو تعريض، عن ابن زيد.
10. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ﴾ أسررتم وأضمرتم: ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾:
أ. قيل: من نكاحهن بعد مضي عدتهن.
ب. وقيل: هو إسرار العدم دون إظهاره، والتعريض إظهاره، عن مجاهد وابن زيد.
ج. وقيل: هو معنى التعريض بالخطبة إن شئت أضمرته، وإن شئت أظهرته.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾:
أ. قيل: بقلوبكم.
ب. وقيل: يعني الخطبة.
ج. وقيل: يعني النكاح، عن الحسن.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾:
أ. قيل: لا تواعدوهن في السر؛ لأنها أجنبية، والمواعدة في السر تدعو إلى ما لا يحل.
ب. وقيل: هو الزنا، عن الحسن وإبراهيم وقتادة وجابر بن زيد والضحاك والربيع وعطاء ورواية عن ابن عباس، وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة، وهو يعرض بالنكاح فنهوا عن ذلك.
ج. وقيل: ﴿سِرًّا﴾ أي عهدًا على الامتناع من تزويج غيركم، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي.
د. وقيل: لا تفوتني نفسك فإني ناكحك، عن مجاهد.
هـ. وقيل: هو إسرار عقدة النكاح في السر عن ابن زيد.
و. وقيل: السر الجماع، يعني: لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع، فلا تذكروه، عن جماعة.
ز. وقيل: لا تفصحوا بالنكاح، عن أبي علي: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني عِدة جميلة.
ح. وقيل: هو التعريض من غير تصريح، عن مجاهد، ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ قيل: لا تضمروا النكاح.
ط. وقيل: لا تعزموا على عقدة النكاح، أي لا تبينوا النكاح: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يعني تنقضي العدة، ومعنى الكتاب القرآن، ومعناه فرض الكتاب أجله.
ي. وقيل: الكتاب هو الفرض، ومنه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ يعني فرض الله أجله، عن الزجاج.
ك. وقيل: هو على التشبيه بكتاب الدين، عن أبي علي: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ يعني ضمائركم، وما تسرون: ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ أي فاحذروا عقابه، ولا تخالفوا أمره: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ ولمغفرته لعباده لم يعاقبهم، ولحلمه تجاوز عنهم، والحلم ألا يعجل بالعقوبة، فالمغفرة إزالة العقوبة، والحلم تأخير العقاب.
13. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب العدة متى وقعت الفرقة بالموت، وتدل على وجوبها سواء دخل بها أم لم يدخل بخلاف عدة الطلاق؛ لأن الآية عامة.
ب. أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة، وهذا عام إلا في موضعين خُصَّا من الآية:
• أحدهما الحامل، فقيل: عدتها بوضع الحمل دون الأشهر لظاهر قوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمر سبيعة بنت الحارث، وكانت وضعت بعد وفاة زوجها بأيام أن تتزوج، وعن عمر: لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره لانقضت عدتها، وهو قول أبي مسعود البدري وأبي هريرة وابن مسعود، قال ابن مسعود: من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية في سورة البقرة، وقيل: إن عدتها أبعد الأجلين عن علي وجماعة، والأول إجماع الفقهاء.
• والثاني: الأمة، فأكثر الأمُّةِ أن عدتها شهران وخمسة أيام، وفي الطلاق شهر ونصف، وحكي عن مالك فيه خلاف، فأما المطلقة إذا مات عنها زوجها وهي في العدة، فإن كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة؛ لأنها زوجه، وإن كانت بائنة لا ترث، ولا تنتقل عدتها عن الحيض والشهور إلى عدة الوفاة، فإن ورثت اعتدت عدة الوفاة فيها ثلاث حيض، عن أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: ثلاث حيض، وإن كانت تعتد عدة الوفاة فظهر بها حبل وزوجها كبير انتقلت إلى وضع الحمل، فأما امرأة الصغير إذا مات وهي حامل فعند أبي حنيفة تعتد بوضع الحمل، وعند جماعة بالشهور.
ج. أن عدة الوفاة تخالف عدة الطلاق؛ لأن ثم في ذوات الأقراء بالأقراء وفي الآيسة والصغيرة بالأشهر، وهذه في الجميع بالأشهر، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كان متقدمًا في التلاوة؛ لأنها متأخرة في النزول، وعليه إجماع الفقهاء غير أبي مسلم، فإنه أبى نسخها.
د. الآية تدل على وجوب العدة فقط، وأما الإحداد فلا ذكر له في الآية، وإنما يُعْلَمُ بالسنة، وقد قيل: المتوفى عنها زوجها يلزمها الإحداد، وهوَ اجتناب الزينة والطيب، وترك النقلة، وللمتوفى عنها زوجها أن تخرج نهارا فقط بخلاف المطلقة عن أكثر الفقهاء، وقال نفاة القياس: لا إحداد عليها، فأما المبتوتة فعليها الإحداد عند أبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: لا إحداد، ولا إحداد على الرجعية، وكذلك على الصغيرة والكافرة وأم الولد إذا مات عنها مولاها، وقال الشافعي: على الصغيرة الإحداد، وعلى الأمة والمكاتبة الإحداد، ولا إحداد في النكاح الفاسد.
هـ. أن المرأة تعقد النكاح؛ لأنه أضاف الفعل إليهن، وأباح لهن ما حرم عليهن بالعدة من النكاح ونحوه، وكما أن لها أن تتطيب وتلبس المعصفر كذلك لها أن تتزوج بنفسها.
و. إباحة التعريض بالنكاح في العدة؛ لأن بعد العدة يجوز التصريح والعقد؛ ولذلك قال تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ ولا يحل بالرجعية، ويحل فيما عداه.
تحريم النكاح في العدة، وأنه يكون فاسدا، فإن دخل بها فلها المهر، وعليها العدة، ويثبت النسب، وفيه التعزير، واختلفوا في صداقها:
• فقيل: لبيت المال عن عمر.
• وقيل: لها عن علي، ثم رجع عمر إلى قول علي، وعليه الفقهاء؛ لأنه بدل الوطء، كقيم المتلفات، وأروش الجنايات.
ز. أن المرء مأخوذ بأفعال قلبه، فلذلك نفى الجناح في الإكنان.
ح. أن الحلم من صفات الله تعالى، ثم اختلفوا:
• فقيل: الحلم هو من فعل الله يضاد العقاب والانتقام، فإذا فعل حتى تأخر العقاب كان حليمًا، عن أبي مسلم.
• وقيل: معناه أن لا يفعل العقاب المستحق، ويؤخره، ولا يفيد فعلاً، عن أبى هاشم.
14. القراءة الظاهرة: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ بضم الياء بمعنى يموتون. وعن علي بفتح الياء أي يتوفون أعمارهم.
15. مسائل نحوية:
أ. في خبر: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أربعة أقوال:
• الأول: الجملة على تقدير: [وَأزواج] الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ، عن أبي العباس.
• الثاني على تقدير: يتربصن بعدهم، عن الأخفش.
• الثالث: أن يكون الضمير في: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ لما عاد إلى مضاف في المعنى كان بمنزلته على تقدير: يذرون أزواجهم يتربصن، عن الزجاج، ونظيره: إذا مات وخلف ابنتين يرثان الثلثين، تقديره: ترث ابنتاه الثلثين.
• الرابع: أن يعدل إلى الإخبار عن الأزواج؛ لأن المعنى عليه والفائدة فيه، وهذا قول الكسائي والفراء، وأنكر الزجاج وأبو العباس ذلك؛ لأنه لا يكون مبتدأ لا خبر له، ولا خبر ولا مخبر عنه.
ب. قال عشرًا بلفظ التأنيث، وإنما العدة على الأيام والليالي، ولم يجز عندي عشر من الرجال والنساء لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره؛ لأن ابتداء الشهور والأهلة الليالي، وحكى الفراء صمنا عشرًا من شهر رمضان، ولو أضاف إلى الأيام لقال عشرة أيام.
ج. في قوله تعالى: ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ محذوف، ومعناه على عقدة النكاح، عن الزجاج، كما يقال: ضرب بطنه وظهره، وجاز الحذف اكتفاء بدلالة العزم؛ لأنه لا يكون إلا على معزوم، وأن محله نصب بدلاً من السر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/13.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. يذر ويدع: يترك ولا يستعمل منهما الماضي استغني عنه بترك، والعلة في ذلك أنهم تركوا الواوات في أول الكلمة، حتى إنهم لم يلحقوها أولا على جهة الزيادة أصلا.
ب. الأجل: غاية الوقت في محل الدين، ونحوه لتأخيره إلى ذلك الوقت، والآجل: نقيض العاجل لتأخره عن وقت غيره، وفعله من أجل كذا أي: لعاقبة كذا، وهي متأخرة عن وقت الفعل الذي دعت إليه، والقطيع من بقر الوحش يسمى أجلا، وقد تأجل الصوار أي: صار أجلا لتأخر بعضه عن بعض، وأجل عليهم شرا أجلا أي: جناه لأنه أعقبهم شرا، والآجلة: الآخرة، والعاجلة: الدنيا.
ج. الخبير: العالم بمخبر الخبر، وأصله من السهولة، والخبار: الأرض السهلة، وأخبرت بالشيء: لأنه تسهيل لطريق العلم به، والخبير: الأكار، والمخابرة: المؤاكرة وهو أن يزرع على النصف، أو الثلث، أو نحوه، وذلك لتسهيل الزراعة.
د. التعريض: ضد التصريح، وهو أن تضمن الكلام دلالة على ما تريد، وأصله من العرض من الشيء الذي هو جانبه وناحية منه، وفي الحديث:) من عرض عرضنا، ومن مشى على الكلأ ألقيناه في النهر)، ومعناه: من عرض بالقذف عرضنا له بتأديب لا يبلغ الحد، ومن صرح ألقيناه في نهر الحد، والفرق بين التعريض والكناية أن التعريض تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر له، والكناية: العدول عن الذكر الأخص بالشيء إلى ذكر يدل عليه، فالأول كقول القائل: ما أقبح البخل تعرض بأن المخاطب بخيل والثاني كقولك: زيدا ضربته، كنيت عنه بالهاء.
هـ. الخطبة: الذكر الذي يستدعى به إلى عقدة النكاح، أخذ من الخطاب: وهو توجيه الكلام للإفهام، والخطبة الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل الخطبة: ما له أول وآخر مثل الرسالة، والخطبة: للحال، نحو الجلسة والقعدة.
و. الاكنان: الستر للشيء، والكن: الستر أيضا، والفرق بين الأكنان والكن: أن الأكنان الإضمار في النفس، ولا يقال كننته في نفسي، والكن: في معنى الصون، وفي التنزيل: ﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾، والكانون: يحتاج إليه في وقت الاكتنان من البرد، والكنانة: الجعبة الصغيرة تتخذ للنبل.
ز. السر في اللغة على ثلاثة أوجه: الإخفاء في النفس، والشرف في الحسب، يقال: فلان في سر قومه أي: في صميمهم، والجماع في الفرج، قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني... كبرت، وأن لا يشهد السر أمثالي وقال الأعشى:
ولا تنكحن جارة، إن سرها... عليك حرام، فانكحن، أو تأبدا
ح. العزم: عقد القلب على أمر تفعله، وفي الحديث: (خير الأمور عوازمها) يعني: ما وكدت عزمك عليه.
ط. العقدة: من العقد، وهو الشد، وفي المثل: (يا عاقد اذكر حلا)، وعقد اليمين: خلاف اللغو.
2. لما بين عدة المطلقات، بين عدة الوفاة، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي: يقبضون، ويموتون ﴿وَيَذَرُونَ﴾ أي: يتركون ﴿أَزْوَاجًا﴾ أي: نساء ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ أي: ينتظرن انقضاء العدة، ويحبسن أنفسهن عن التزويج معتدات.
3. ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ أي: وعشر ليال وعشرة أيام، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها، سواء كانت مدخولا بها، أو غير مدخول بها، حرة كانت أو أمة، فإن كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل، أو مضي أربعة أشهر وعشر، ووافقنا(2) في عدة الأمة الأصم، وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقالوا: عدتها نصف عدة الحرة، شهران وخمسة أيام، وإليه ذهب قوم من أصحابنا، وقالوا في عدة الحامل: إنها بوضع الحمل، وإن كان بعد على المغتسل، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وعندنا أن وضع الحمل يختص عدة المطلقة، والذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابه هو الزينة والكحل بالأثمد وترك النقلة عن المنزل، عن ابن عباس والزهري، والامتناع من التزوج لا غير، عن الحسن، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وعندنا أن جميع ذلك واجب.
4. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: آخر العدة بانقضائها ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾:
أ. قيل: إنه خطاب للأولياء.
ب. وقيل: لجميع المسلمين، لأنه يلزمهم منعها عن التزوج في العدة.
ج. وقيل: معناه لا جناح على النساء، وعليكم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾:
أ. قيل: من النكاح، واستعمال الزينة التي لا ينكر مثلها، وهذا معنى قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾.
ب. وقيل: معنى قوله بالمعروف ما يكون جائزا.
ج. وقيل: معناه النكاح الحلال عن مجاهد.
6. ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي: عليم.
7. هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، وإن كانت متقدمة في التلاوة عليه.
8. لما تقدم ذكر عدة النساء، وجواز الرجعة فيها للأزواج، عقبه ببيان حال غير الأزواج، فقال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: لا حرج ولا ضيق عليكم، يا معشر الرجال، ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ المعتدات، ولم تصرحوا به، وذلك بأن تذكروا ما يدل على رغبتكم فيها، ثم اختلف في معناه:
أ. فقيل: التعريض هو أن يقول الرجل للمعتدة: إني أريد النكاح، وإني أحب امرأة من صفتها كذا وكذا، فيذكر بعض الصفات التي هي عليها، عن ابن عباس.
ب. وقيل: هو أن يقول: إنك لنافعة، وإنك لموافقة لي، وإنك لمعجبة جميلة، فإن قضى الله شيئا كان، عن القاسم بن محمد، والشعبي.
ج. وقيل: هو كل ما كان من الكلام دون عقدة النكاح، عن ابن زيد.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾:
أ. قيل: أي: أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن.
ب. وقيل: هو إسرار العزم دون إظهاره، والتعريض إظهاره، عن مجاهد وابن زيد.
10. ﴿عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم إليهن غيركم، فأباح لكم ذلك.
11. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن معناه لا تواعدوهن في السر، لأنها أجنبية، والمواعدة في السر تدعو إلى ما لا يحل.
ب. ثانيها: إن معناه الزنا، عن الحسن وإبراهيم وقتادة وقالوا: كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزنية، وهو معرض للنكاح، فنهوا عن ذلك.
ج. ثالثها: إنه العهد على الامتناع من تزويج غيرك، عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
د. رابعها: هو أن يقول لها: إني ناكحك فلا تفوتيني نفسك، عن مجاهد.
هـ. خامسها: إن السر هو الجماع، فمعناه لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع، ولا تذكروه، عن جماعة.
و. سادسها: إنه إسرار عقدة النكاح في السر، عن عبد الرحمن بن زيد.
ز. ويجمع هذه الأقوال ما روي عن الصادق أنه قال: لا تصرحوا لهن النكاح والتزويج، قال: ومن السر أن يقول لها: موعدك بيت فلان.
12. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ يعني التعريض الذي أباحه الله وإلا بمعنى لكن، لأن ما قبله هو المنهي عنه، وما بعده هو المأذون فيه، وتقديره: ولكن قولوا قولا معروفا.
13. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: على عقدة النكاح، يعني لا تبتوا النكاح، ولا تعقدوا عقدة النكاح في العدة، ولم يرد به النهي عن العزم على النكاح بعد العدة، لأنه أباح ذلك بقوله: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ﴾.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾:
أ. قيل: معناه: حتى تنقضي العدة بلا خلاف.
ب. وقيل: الكتاب هو القرآن، والمعنى حتى يبلغ الفرض أجله، وعبر بالكتاب عن الفرض كما يقال كتب أي: فرض، وهذا لأن ما كتب فقد أثبت، فقد اجتمعا في معنى الثبوت.
ج. وقيل: إن هذا تشبيه للعدة بالدين المؤجل المكتوب أجله في كتاب، فكما يتأخر المطالبة بذلك الدين حتى يبلغ الكتاب أجله، كذلك يتأخر خطبة النكاح في العدة إلى انقضاء العدة.
15. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من أسراركم، وضمائركم: ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ فاتقوا عقابه، ولا تخالفوا أمره: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ﴾ لعباده: ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل العقوبة المستحقة، فلا يعجل بها.
16. روي في الشواذ عن علي عليه السلام: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ بفتح الياء، قال ابن جني: هو على حذف المفعول أي: الذين يتوفون أيامهم، أو آجالهم وأعمارهم، وحذف المفعول به كثير في القرآن، وفصيح الكلام، إذا كان هناك دليل عليه، كما قال الله (وأوتيت من كل شيء) أي: شيئا، قال الحطيئة.
منعمة تصون إليك منها... كصونك من رداء شرعبي
أي: تصون الكلام منها، وتوفيت الشيء، استوفيته: أخذته وافيا.
17. مسائل نحوية:
أ. ﴿الَّذِينَ﴾: مرتفع بالابتداء و﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾: صلته، و﴿مِنْكُمْ﴾ في موضع النصب على الحال من الواو في يتوفون.
ب. ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾: عطف على الصلة فهو أيضا من الصلة.
ج. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ وما بعده: خبر المبتدأ، وإذا كان خبر المبتدأ لا يخلو من أن يكون هو هو، أو يكون له فيه ذكر، فلا يجوز أن يكون هذا الظاهر على الذي هو عليه، لخلوه من ضربي خبر الابتداء، وقد قيل فيه أقوال:
• أحدها: إن تقدير خبر المبتدأ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ بعدهم لأن المعنى يتربصن أزواجهم بعدهم أربعة أشهر وعشرا، وجاز حذف هذا الذي يتعلق به الراجع إلى المبتدأ، كما جاء ذلك في قولهم: السمن منوان بدرهم، والمعنى على منوان منه بدرهم، عن الأخفش.
• الثاني: أن يكون تقديره أزواجهم بتربص، عن أبي العباس المبرد، فالمحذوف على هذا هو المبتدأ الذي هو أزواجهم، وساغ هذا الحذف لقيام الدلالة عليه، كما يسوغ حذف المفرد إذا قامت الدلالة عليه، وقيام الدلالة على المضاف أن الأزواج قد تقدم ذكرهن، فساغ اضمارهن وحسن، وأما حذف المضاف إليه فلاقتضاء المبتدأ الراجع إليه، وقد جاء المبتدأ مضافا محذوفا كما جاء المفرد وذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ أي: تقلبهم متاع قليل.
• الثالث: أن يكون تقديره يتربصن أزواجهن، ثم كنى عن الأزواج، عن الكسائي.
د. إنما قال: ﴿وَعَشْرًا﴾ بالتأنيث: تغليبا لليالي على الأيام، إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ليلة كل يوم قبله، كما قيل لخمس بقين، وقد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي، وأنشد سيبويه: فطافت ثلاثا بين يوم، وليلة... يكون النكير أن تضيف، وتجأرا: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ﴾: ما مع صلته في موضع الجر بفي.
هـ. قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: الجار والمجرور في موضع النصب على الحال.
و. ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾: الجار والمجرور في موضع الحال، وكذا في قوله: ﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾.
ز. ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾: في موضع نصب بدل من ﴿سِرًّا﴾ تقديره: ولا تواعدوهن إلا قولا معروفا: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: على عقدة النكاح، فحذف على استخفافا، كما قالوا ضرب زيد الظهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن، قال سيبويه: إن الحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/590.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾، أي: يقبضون بالموت، وقرأ المفضّل عن عاصم ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ بفتح الياء في الموضعين، قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد، واستيفاء الشيء: أن نستقصيه كلّه، يقال: توفّيته واستوفيته، كما يقال: تيقّنت الخير واستيقنته، هذا الأصل، ثم قيل للموت: وفاة وتوفّ ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ ينتظرن، قال الفرّاء: وإنما قال ﴿وَعَشْرًا﴾ ولم يقل: عشرة، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام، غلّبوا عليه الليالي على الأيام، حتى إنهم ليقولون: صمنا عشرا من شهر رمضان، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا مع العدد تفسيره، كانت الإناث بغير هاء، والذّكور بالهاء؛ كقوله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا﴾، فإن قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه يبيّن صحة الحمل بنفخ الرّوح فيه، قاله سعيد بن المسيّب، وأبو العالية، ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الرّوح).
2. هذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾؛ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدّة سنة، وسنذكر ما يتعلق بها هنالك، إن شاء الله، فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنّه قال نسختها ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، والصحيح: أنها عامة دخلها التّخصيص، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدّة على المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، سواء كانت حاملا، أو غير حامل، غير أن قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ خصّ أولات الحمل، وهي خاصة أيضا في الحرائر، فإن الأمة عدّتها شهران وخمسة أيام، فبان أنها من العامّ الذي دخله التّخصيص.
3. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، يعني: انقضاء العدّة.
4. في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهنّ بعد ذلك.
ب. الثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهنّ إذا تزيّن وتزوجن، قال أبو سليمان الدّمشقيّ: وهو خطاب لأوليائهنّ.
5. في قوله تعالى: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه التّزيّن والتّشوّف للنّكاح، قاله الضّحّاك، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه النّكاح، قاله الزّهريّ، والسّدّيّ.
6. ﴿الْخَبِيرُ﴾ من أسماء الله تعالى، ومعناه: العالم بكنه الشيء المطّلع على حقيقته، و(الخبير) في صفة المخلوقين، إنما يستعمل في نوع من العلم، وهو الذي يتوصّل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببداءة العقول، وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلّى وظهر.
7. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدّة، والتّعريض: الإيماء والتّلويح من غير كشف، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر، والخطبة بكسر الخاء: طلب النّكاح، والخطبة بضم الخاء: مثل الرّسالة التي لها أول وآخر، وقال ابن عباس: التّعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوّج، وقال مجاهد: أن يقول: إنك لجميلة، وإنّك لحسنة، وإنّك لإلى خير.
8. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، قال الفرّاء: فيه لغتان: كننت الشيء، وأكننته، وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته بشيء، وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية، وكننته: إذا صنته، ومنه قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾، قال بعضهم: يجعل كننته، وأكننته، بمعنى.
9. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن المراد بالسّرّ هاهنا: النّكاح، قاله ابن عباس، وأنشد بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني...كبرت وأن لا يشهد السّرّ أمثالي
وفي رواية: يشهد اللهو، قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنّى الله عنه كقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، وذكر الزجّاج عن أبي عبيدة أن السّرّ: الإفضاء بالنّكاح المحرم، وأنشد قال ابن قتيبة: استعير السّرّ للنّكاح، لأن النّكاح يكون سرّا، فالمعنى: لا تواعدوهنّ بالتزويج، وهن في العدة تصريحا، ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا.
ب. الثاني: أن المواعدة سرّا: أن يقول لها: إنّي لك محبّ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضا.
ج. الثالث: أن المراد بالسّرّ الزّنى، قاله الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، وإبراهيم، وقتادة، والضحّاك.
د. الرابع: أن المعنى: لا تنكحوهنّ في عدّتهنّ سرّا، فإذا حلّت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد.
10. في القول المعروف قولان:
أ. أحدهما: أنه التّعريض لها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والقاسم بن محمّد، والشّعبيّ، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه إعلام وليّها برغبته فيها، وهو قول عبيدة.
11. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾، قال الزجّاج: لا تعزموا على عقدة النّكاح، وحذفت (على) استخفافا، كما قالوا: ضرب زيد الظّهر والبطن، معناه: على الظّهر والبطن.
12. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، أي: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، قال ويجوز أن يكون ﴿الْكِتَابِ﴾ بمعنى (الفرض)؛ كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض أجله، قال ابن عباس، ومجاهد، والشّعبيّ، وقتادة، والسّدّيّ: بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدّة.
13. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، قال ابن عباس: من الوفاء، فاحذروه أن تخالفوه في أمره، والحليم قد سبق بيانه.
__________
(1) زاد المسير: 1/209.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا، فمن مات فقد وجد عمره وافيا كاملا، ويقال: توفي فلان، وتوفي إذا مات، فمن قال توفي كان معناه قبض وأخذ ومن قال توفى، كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء.
2. ﴿وَيَذَرُونَ﴾ معناه: يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر استغناء عنه يترك تركا، ومثله يدع في رفض مصدره وماضيه، فهذان الفعلان العابر والأمر منهما موجودان، يقال: فلان يدع كذا ويذر ويقال: دعه وذره أما الماضي والمصدر فغير موجودين منهما والأزواج هاهنا النساء والعرب تسمي الرجل زوجا وامرأته زوجا له، وربما ألحقوا بها الهاء.
3. ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ ولا بد له من خبر، واختلفوا في خبره على أقوال:
أ. الأول: أن المضاف محذوف والتقدير، وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن.
ب. الثاني: وهو قول الأخفش التقدير: يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله: السمن منوان بدرهم وقوله تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43].
ج. الثالث: وهو قول المبرد: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، أزواجهم يتربصن، قال وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ﴾ [الحج: 72] يعني هو النار، وقوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: 18].
د. الرابع: وهو قول الكسائي والفراء، أن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ مبتدأ، إلا أن الغرض غير متعلق هاهنا ببيان حكم عائد إليهم، بل ببيان حكم عائد إلى أزواجهم، فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبرا، وأنكر المبرد والزجاج ذلك، لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال.
4. سؤال وإشكال: أنتم أضمرتم هاهنا مبتدأ مضافا، وليس ذلك شيئا واحدا بل شيئان، والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد، والجواب: كما ورد إضمار المبتدأ المفرد، فقد ورد أيضا إضمار المبتدأ المضاف، قال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: 196، 197] والمعنى: تقلبهم متاع قليل.
5. بينا فيما تقدم معنى التربص، وبينا الفائدة في قوله تعالى: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ وبينا أن هذا وإن كان خبرا إلا أن المقصود منه هو الأمر، وبينا الفائدة في العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر.
6. قوله تعالى: ﴿وَعَشْرًا﴾ مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام، وذكروا في العذر عنه وجوها:
أ. الأول: تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل، فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت، لأن الأوائل أقوى من الثواني، قال ابن السكيت: يقولون صمنا خمسا من الشهر، فيغلبون الليالي على الأيام، إذ لم يذكروا الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام.
ب. الثاني: أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه، ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة، كقولهم: خرجنا ليالي الفتنة، وجئنا ليالي إمارة الحجاج.
ج. الثالث: ذكره المبرد، وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة، معناه وعشر مدد، وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة.
د. الرابع: ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية، فقال: إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج، فيتأول العشرة بالليالي، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم.
7. هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين:
أ. أحدهما: أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة، وقال أبو بكر الأصم: عدتها عدة الحرائر، وتمسك بظاهر الآية، وأيضا الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلا عن هذه المدة، ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة، فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه، وسائر الفقهاء قالوا: التنصيف في هذه المدة ممكن، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق.
ب. الثانية: أن يكون المراد إن كانت حاملا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل، فإذا وضعت الحمل حلت، وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة، وعن علي عليه السلام: تتربص أبعد الأجلين.
8. من الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ والشافعي لم يقل بذلك لوجهين:
أ. الأول: أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملا وقد لا تكون، ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ إنما ورد عقيب ذكر المطلقات، فربما يقول قائل: هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها، فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن، وإنما عول على السنة، وهي ما روى أبو داوود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب، فقال لها بعض الناس: ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فسألت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي.
9. ذكر هنا بعض المباحث الفرعية المرتبطة بالعدة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
10. أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها.. والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول، إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول، وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى.
11. اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة:
أ. فقال بعضهم: ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة، واحتجوا بأنه تعالى قال ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص، والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك.
ب. والأكثرون قالوا السبب هو الموت، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى، قالوا: والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة.
12. المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه، والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول: الامتناع عن النكاح مجمع عليه، وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة، وأما ترك التزين:
أ. فهو واجب، لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)
ب. وقال الحسن والشعبي: هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه، واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (وتلبثي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت).
13. احتج من قال إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ﴾ خطاب مع المؤمنين، فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط، وجوابه: أن المؤمنين لما كانوا هم العاملين بذلك خصهم بالذكر كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45] مع أنه كان منذرا للكل، لقوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1].
14. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ المعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح عليكم:
أ. قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد.
ب. وقيل: الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان، وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول،.
ج. وفي الآية وجه ثالث وهو أنه لا جناح عليكم تقديره: لا جناح على النساء وعليكم.
15. ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي ما يحسن عقلا وشرعا لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن، وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعا لشرائط الصحة.
16. ثم ختم الآية بالتهديد، فقال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
17. تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله، والنكاح ليس كذلك، فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما.
18. تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي، قالوا: إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزا لقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة، وتمسك أصحاب الشافعي في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطبا بقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾
19. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ التعريض في اللغة ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره، ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا: (وحسبك بالتسليم مني تقاضيا)، والتعريض قد يسمى تلويحا لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه، كقولك: فلان طويل النجاد، كثير الرماد، والتعريض أن تذكر كلاما يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك.
20. أما الخطبة فقال الفراء: الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك: إنه لحسن القعدة والجلسة تريد القعود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان:
أ. الأول: أن الخطب هو الأمر، والشأن يقال: ما خطبك، أي ما شأنك، فقولهم: خطب فلان فلانة، أي سألها أمرا وشأنا في نفسها.
ب. الثاني: أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح، وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب: الأمر العظيم، لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير.
21. النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام:
أ. أحدها: التي تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها، بل يستثنى عنه صورة واحدة، وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه)، ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقا لكن فيه ثلاثة أحوال:
• الحالة الأولى: إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحا هاهنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث.
• الحالة الثانية: إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها.
• الحالة الثالثة: إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي هاهنا قولان.
● أحدهما: أنه يجوز للغير خطبتها، لأن السكوت لا يدل على الرضا.
● الثاني: وهو القديم وقول مالك: أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضا على الكراهة، فربما كانت الرغبة حاصلة من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
ب. الثاني: التي لا تجوز خطبتها لا تصريحا ولا تعريضا، وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سببا لتشويش الأمر على زوجها من حيث إنها علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرام، وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة، بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها، وتعتد منه عدة الوفاة، ويتوارثان.
ج. الثالث: أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية، وهي أيضا على ثلاثة أقسام:
• الأول: التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضا لا تصريحا، أما جواز التعريض فلقوله تعالى: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ﴾ وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها، لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية، أما أنه لا يجوز التصريح، فقال الشافعي: لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك، وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب.
• الثاني: المعتدة عن الطلاق الثلاث، قال الشافعي في (الأم): ولا أحب التعريض لخطبتها، وقال في (القديم) و(الإملاء): يجوز لأنها ليست في النكاح، فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما هاهنا تنقضي عدتها بالأقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي.
• الثالث: البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها، وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح؛ لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان:
● أحدهما: يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا.
● الثاني: وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية.
22. قال الشافعي: والتعريض كثير، وهو كقوله: رب راغب فيك، أو من يجد مثلك؟ أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني، وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض: إنك لجميلة وإنك لصالحة، وإنك لنافعة، وإن من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب.
23. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء: للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان: كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى، ومنه: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ [النمل: 74]، و﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات: 49] وفرق قوم بينهما، فقالوا: كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة، وإن لم يكن مستورا يقال: در مكنون، وجارية مكنونة، وبيض مكنون، مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت، ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره، وهو ضد أعلنت وأظهرت، والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها.
24. سؤال وإشكال: إن التعريض بالخطبة أعظم حالا من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئا فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك: ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ جاريا مجرى إيضاح الواضحات، والجواب: ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال، ثم قال ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل، فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال، وتحريم للتصريح في الحال، والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة، ثم إنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني، فلما كان دفع هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك.
25. سؤال وإشكال: أين المستدرك بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ والجواب: هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه، تقديره: علم الله أنكم ستذكرونهن فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن.
26. السر ضد الجهر والإعلان، فيحتمل أن يكون السر هاهنا صفة المواعدة على معنى: ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا تواعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفا بوصف كونه سرا، أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين، فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهرا عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات، وهاهنا احتمالات.
أ. الأول: أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة.
ب. الثاني: أن يواعدها بذكر الجماع والرفث، لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز، قال تعالى لأزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ [الأحزاب: 32] أي لا تقلن من أمر الرفث شيئا ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: 32].
ج. الثالث: قال الحسن: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه، وقال: إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى، والجواب: روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة، وهو يعرض بالنكاح فيقول لها: دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك، فالله تعالى نهى عن ذلك.
د. الرابع: أن يكون ذلك نهيا عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية، لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها.
هـ. الخامس: أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحدا سواها.
27. إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه:
أ. الأول: السر الجماع قال امرؤ القيس: (وأن لا يشهد السر أمثالي)
وقال الفرزدق:
موانع للأسرار إلا من أهلها...ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن، يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن، قال ابن عباس: المراد لا يصف نفسه لها فيقول: آتيك الأربعة والخمسة.
ب. الثاني: أن يكون المراد من السر النكاح، وذلك لأن الوطء يسمى سرا والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز.
28. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ لما أذن الله تعالى في أول الآية بالتعريض، ثم نهى عن المسارة معها دفعا للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض.
29. اختلف في معنى العزم في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ على وجوه:
أ. الأول: أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159] واعلم أن العزم إنما يكون عزما على الفعل، فلا بد في الآية من إضمار فعل، وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف على فيقال: فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية: ولا تعزموا على عقدة النكاح، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس، فعلى هذا تقدير الآية: ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكدا عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
ب. الثاني: أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب، يقال: عزمت عليكم، أي أوجبت عليكم ويقال: هذا من باب العزائم لا من باب الرخص، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (عزمة من عزمات ربنا)، وقال (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)، ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز، إذا عرفت هذا فنقول: الإيجاب سبب الوجود ظاهرا، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه، ولا تفرغوا منه فعلا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
ج. الثالث: قال القفال: إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح، لأن المعنى: لا تعزموا عليهن عقدة النكاح، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح، كما تقول: عزمت عليك أن تفعل كذا، فأما قوله تعالى: ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ فاعلم أن أصل العقد الشد، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
30. في الكتاب في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ وجهان:
أ. الأول: المراد منه: المكتوب والمعنى: تبلغ العدة المفروضة اخرها، وصارت منقضية.
ب. الثاني: أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وإنما حسن أن يعبر عن معنى: فرض، بلفظ كتب لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله تعالى: ﴿حَتَّى﴾ هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله.
31. ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالما بالسر والعلانية، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد، فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/466.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ لما ذكر تعالى عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، ذكر عدة الوفاة أيضا، لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق، ﴿وَالَّذِينَ﴾ أي والرجال الذين يموتون منكم، ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات فالزوجات ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، قال معناه الزجاج واختاره النحاس، وحذف المبتدإ في الكلام كثير، كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ﴾ أي هو النار، وقال أبو علي الفارسي: تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم، وهو كقولك: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم، وقيل: التقدير وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، وقال بعض نحاة الكوفة: الخبر عن ﴿الَّذِينَ﴾ متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن، وهذا اللفظ معنا الخبر عن المشروعية في أحد الوجهين كما تقدم.
2. هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ لأن الناس أقاموا برهة من الإسلام إذا توفي الرجل وخلف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وبالميراث، وقال قوم: ليس في هذا نسخ وإنما هو نقصان من الحول، كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن هذا نسخا، وهذا غلط بين، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فإن خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا، وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شي، وقد قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر بحالها، وسيأتي
3. عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين، واختاره سحنون من علمائنا، وقد روى عن ابن عباس أنه رجع عن هذا، والحجة لما روي عن علي وابن عباس روم الجمع بن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ وبين قوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأمرها أن تتزوج، أخرجه في الصحيح، فبين الحديث أن قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود: ومن شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة، قال علماؤنا: وظاهر كلامه أنها ناسخة لها وليس ذلك مراده، وإنما يعني أنها مخصصة لها، فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها، وكذلك حديث سبيعة متأخر عن عدة الوفاة، لأن قصة سبيعة كانت بعد حجة الوداع، وزوجها هو سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدرا، توفي بمكة حينئذ وهي حامل، وهو الذي رثى له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من أن توفي بمكة، وولدت بعده بنصف شهر، وقال البخاري: بأربعين ليلة، وروى مسلم من حديث عمر بن عبد الله بن الأرقم أن سبيعة سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قالت: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي، قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء، وقال الحسن والشعبي والنخعي وحماد: لا تنكح النفساء ما دامت في دم نفاسها، فاشترطوا شرطين: وضع الحمل، والطهر من دم النفاس، والحديث حجة عليهم، ولا حجة لهم في قوله: (فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب) كما في صحيح مسلم وأبي داوود لان (تعلت) وإن كان أصله طهرت من دم نفاسها ـ على ما قاله الخليل ـ فيحتمل أن يكون المراد به هاهنا تعلت من آلام نفاسها، أي استقلت من أوجاعها، ولو سلم أن معناه ما قال الخليل فلا حجة فيه، وإنما الحجة في قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لسبيعة: قد حللت حين وضعت) فأوقع الحل في حين الوضع وعلقه عليه، ولم يقل إذا انقطع دمك ولا إذا طهرت، فصح ما قاله الجمهور.
4. لا خلاف بين العلماء على أن أجل كل حامل مطلقة يملك الزوج رجعتها أو لا يملك، حرة كانت أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أن تضع حملها، واختلفوا في أجل الحامل المتوفى عنها كما تقدم، وقد أجمع الجميع بلا خلاف بينهم أن رجلا لو توفي وترك امرأة حاملا فانقضت أربعة أشهر وعشر أنها لا تحل حتى تلد، فعلم أن المقصود الولادة.
5. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا، ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ فبينت السنة جميع ذلك، والأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء.
أ. وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب، وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة، وثبت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، وهذا حديث ثابت أخرجه مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، رواه عنه مالك والثوري ووهيب بن خالد وحماد بن زيد وعيسى بن يونس وعدد كثير وابن عيينة والقطان وشعبة، وقد رواه مالك عن ابن شهاب وحسبك، قال الباجي: لم يرو عنه غيره، وقد أخذ به عثمان بن عفان قال أبو عمر: وقضى به في اعتداد المتوفى عنها في بيتها، وهو حديث معروف مشهور عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج عنه، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر.
ب. وكان داوود يذهب إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها وتعتد حيث شاءت، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات، ومن حجته أن المسألة مسألة خلاف، قالوا: وهذا الحديث إنما ترويه امرأة غير معروفة بحمل العلم، وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع، قال أبو عمر: أما السنة فثابتة بحمد الله، وأما الإجماع فمستغنى عنه بالسنة، لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة كانت الحجة في قوله من وافقته السنة، وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة مثل قول داوود وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن البصري، قال ابن عباس: إنما قال الله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ولم يقل يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت، وروي عن أبي حنيفة، وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خرجت عائشة بأختها أم كلثوم ـ حين قتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله ـ إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها، قال: وحدثنا الثوري عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أبى الناس ذلك عليها، قال: وحدثنا معمر عن الزهري قال: أخذ المترخصون في المتوفى عنها زوجها بقول عائشة، وأخذ أهل الورع والعزم بقول ابن عمر، وفي الموطأ: أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج، وهذا من عمر اجتهاد، لأنه كان يرى اعتداد المرأة في منزل زوجها المتوفى عنها لازما لها، وهو مقتضى القرآن والسنة، فلا يجوز لها أن تخرج في حج ولا عمرة حتى تنقضي عدتها، وقال مالك: ترد ما لم تحرم.
6. ذكر هنا بعض الفروع المرتبطة بالعدة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
7. ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر التي جعلها الله ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها، هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا، فقال بعضهم: لا تبرأ إذا كانت ممن توطأ إلا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر وإلا فهي مسترابة، وقال آخرون: ليس عليها أكثر من أربعة أشهر وعشر، إلا أن تستريب نفسها ريبة بينة، لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من أمر النساء إلا أن تكون المرأة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها أن حيضتها لا تأتيها إلا في أكثر من هذه المدة.
8. ﴿وَعَشْرًا﴾ روى وكيع عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أنه سئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها، وسيأتي في الحج بيان هذا إن شاء الله تعالى، وقال الأصمعي: ويقال إن ولد كل حامل يرتكض في نصف حملها فهي مركض، وقال غيره: أركضت فهي مركضة، وقال الخطابي: قوله ﴿وَعَشْرًا﴾ يريد والله أعلم ـ الأيام بلياليها، وقال المبرد: إنما أنث العشر لأن المراد به المدة، المعنى وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة، فالليلة مع يومها مدة معلومة من الدهر، وقيل: لم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، ﴿وَعَشْرًا﴾ أخف في اللفظ، فتغلب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ، لأن ابتداء الشهور بالليل عند الاستهلال، فلما كان أول الشهر الليلة غلب الليلة، تقول: صمنا خمسا من الشهر، فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار، وذهب مالك والشافعي والكوفيون إلى أن المراد بها الأيام والليالي، قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلا حتى يمضي اليوم العاشر، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة فغلب التأنيث وتأولها على الليالي، وإلى هذا ذهب الأوزاعي من الفقهاء وأبو بكر الأصم من المتكلمين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ (أربعة أشهر وعشر ليال)
9. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أضاف تعالى الأجل إليهن إذ هو محدود مضروب في أمرهن، وهو عبارة عن انقضاء العدة.
10. ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء، ﴿فِيمَا فَعَلْنَ﴾ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد، لأنه حق للأولياء كما تقدم.
11. في هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة، وفيها رد على إسحاق في قوله: إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأول، إلا أنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تغتسل، وعن شريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدة بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلا، فإذا انقضت عدتها حلت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك، والحديث عن ابن عباس لو صح يحتمل أن يكون منه على الاستحباب.
12. ﴿وَلَا جُنَاحَ﴾ أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع، وقيل: بل هو الأمر الشاق، وهو أصح في اللغة.
13. ﴿عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ المخاطبة لجميع الناس، والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة، والتعريض: ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره، وقيل، هو من قولك عرضت الرجل، أي أهديت إليه تحفة، وفي الحديث: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا، أي أهدوا لهما، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه.
14. قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك، وما أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت قيس: (كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك)، ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة، وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها.
15. روي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين: الأول ـ أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها، والثاني ـ أن يشير بذلك إليها دون واسطة، فيقول لها: إني أريد التزويج، أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيرا، إني فيك لراغب، ومن يرغب عنك! إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب، وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه، قاله إبراهيم، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وقرابتي من علي وموضعي في العرب، قلت غفر الله لك يا أبا جعفر! إنك رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي! قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ومن علي، وقد دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال: (لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي) كانت تلك خطبة، أخرجه الدارقطني، والهدية إلى المعتدة جائزة، وهى من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم، وكره مجاهد أن يقول لها: لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا، قال القاضي أبو محمد بن عطية: وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
16. ﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ الخطبة بكسر الخاء: فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول، يقال: خطبها يخطبها خطبا وخطبة، ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة، والخطيب: الخاطب، والخطيبى: الخطبة، قال عدي بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء:
لخطيبى التي غدرت وخانت... وهن ذوات غائلة لحينا
والخطب، الرجل الذي يخطب المرأة، ويقال أيضا: هي خطبه وخطبته التي يخطبها، والخطبة فعلة كجلسة وقعدة: والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره، قال النحاس: والخطبة ما كان لها أول وآخر، وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة.
17. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها، والإكنان: الستر والإخفاء، يقال: كننته وأكننته بمعنى واحد، وقيل: كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا، ومنه بيض مكنون ودر مكنون، وأكننته أسررته وسترته، وقيل: كنت الشيء من الأجرام) إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر في نفسي، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي)، ويقال: أكن البيت الإنسان، ونحو هذا، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد، ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها.
18. استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد، وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح، قلنا: هذا ساقط لأن الله تعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف، والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض، لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.
19. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم، فرخص في التعريض دون التصريح، الحسن: معناه ستخطبونهن.
20. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي على سر فحذف الحرف، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: ﴿سِرًّا﴾:
أ. فقيل، معناه نكاحا، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني، بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية، هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم، وسرا) على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسرين.
ب. وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها، قال معناه جابر ابن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري.
ج. وقيل: السر الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش، هذا قول الشافعي.
د. وقال ابن زيد: معنى قوله ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن، وهذا هو معنى القول الأول، فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق.
هـ. وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾.
21. قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز: وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه، وقال مالك فيمن يواعد في العمدة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إلي، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقال الشافعي: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه، لأن النكاح حادث بعد الخطبة، قاله ابن المنذر.
22. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن، كقوله ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ أي لكن خطأ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة: احبسي علي نفسك فإن لي بك رغبة، فتقول هي: وأنا مثل ذلك، وهذا شبه المواعدة.
23. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا﴾ قد تقدم القول في معنى العزم، يقال: عزم الشيء وعزم عليه، والمعنى هنا: ولا تعزموا على عقدة النكاح، ومن الأمر البين أن القرآن أفصح كلام، فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته، وقد قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ﴾ وقال هنا: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ والمعنى: لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم، وحكى سيبويه: ضرب فلان الظهر والبطن، أي على، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه، قال النحاس: ويجوز أن يكون ولا تعقدوا عقدة النكاح)، لأن معنى ﴿تَعْزِمُوا﴾ وتعقدوا واحد، ويقال: ﴿تَعْزِمُوا﴾ بضم الزاي.
24. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يريد تمام العدة، والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وكما قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أي فرض، وقيل: في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن، وعلى الأول لا حذف فهو أولى.
25. حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة، وأباح التعريض في العدة بقوله: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ الآية، ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم، واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة، وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها.
26. اختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه، وذلك قبل الدخول، فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل المفقود، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول، ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم، أصله إذا بنى بها.
27. إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها، فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة، يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك: يتأبد التحريم، وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة.
28. إن دخل في العدة، قال مالك والليث والأوزاعي: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا، قال مالك والليث: ولا بملك اليمين، مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها، واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال: لا يجتمعان أبدا، قال سعيد: ولها مهرها بما استحل من فرجها، أخرجه مالك في موطئه وسيأتي، وقال الثوري والكوفيون والشافعي: يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب، واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها في العدة، قالوا: وهو قول علي، ذكره عبد الرزاق، وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضا، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان.
29. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/174.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
لما ذكر سبحانه عدّة الطلاق؛ واتصل بذكرها ذكر الإرضاع؛ عقب ذلك بذكر عدّة الوفاة، لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق، قال الزجاج: ومعنى الآية: والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، أي: ولهم زوجات، فالزوجات يتربصن، وقال أبو علي الفارسي: تقديره: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم، وهو كقولك: السمن منوان بدرهم، أي: منه، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون؛ وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن؛ ذكره صاحب الكشاف، وفيه أن قوله تعالى: ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ لا يلائم ذلك التقدير، لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة، وقال بعض النحاة من الكوفيين: إن الخبر عن: الذين، متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصن.
1. ظاهر هذه الآية العموم، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ وإلى هذا ذهب الجمهور، وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم: أن الحامل تعتدّ بآخر الأجلين، جمعا بين العام والخاص، وإعمالا لهما، والحق ما قاله الجمهور، والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له، وقد صح عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوّج بعد الوضع والتربص الثاني والتصبر عن النكاح، وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرّة والأمة وذات الحيض والآيسة، وأن عدتهنّ جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر، وقيل إنّ عدة الأمة نصف عدّة الحرة شهران وخمسة أيام، قال ابن العربي: إجماعا إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوّى بين الحرة والأمة، وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين أنّه قال عدّتها عدّة الحرّة، وليس بالثابت عنه، ووجه ما ذهب إليه الأصمّ وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم، ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدّة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾، وقد تقدم حديث: (طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان) وهو صالح للاحتجاج به، وليس المراد منه: إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة، وعدّتها على النصف من عدّتها، ولكنه لما لم يمكن أن يقال طلاقها تطليقة ونصف، وعدّتها حيضة ونصف، لكون ذلك لا يعقل، كانت عدّتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبرا للكسر، ولكن هاهنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور، وهو أن الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرا هو ما قدّمنا من معرفة خلوّها من الحمل، ولا يعرف إلا بتلك المدّة، ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدّة أم الولد، واختلف أهل العلم في عدّة أم الولد لموت سيدها، فقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق ابن راهويه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه: أنها تعتدّ بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم (عدّة أمّ الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر)، أخرجه أحمد، وأبو داوود، وابن ماجة، والحاكم، وصححه، وضعفه أحمد، وأبو عبيد، قال الدارقطني: الصواب أنه موقوف، وقال طاووس وقتادة: عدّتها شهران وخمس ليال، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح: تعتدّ بثلاث حيض، وهو قول عليّ، وابن مسعود، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: عدّتها حيضة، وغير الحائض شهر، وبه يقول ابن عمر، والشعبي، ومكحول، والليث، وأبو عبيد، وأبو ثور، والجمهور.
2. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ المراد بالبلوغ هنا: انقضاء العدّة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من التزين، والتعرّض للخطاب ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي لا يخالف شرعا ولا عادة مستحسنة، وقد استدلّ بذلك: على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة، وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)، وكذلك ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما: النهي عن الكحل لمن هي في عدّة الوفاة، والإحداد: ترك الزينة من الطيب، ولبس الثياب الجيدة، والحليّ، وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدّة الوفاة، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدّة الرجعية، واختلفوا في عدّة البائنة على قولين، ومحل ذلك كتب الفروع.
3. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ الجناح: الإثم، أي: لا إثم عليكم؛ والتعريض: ضد التصريح، وهو من عرض الشيء، أي: جانبه، كأنه يحوم به حول الشيء ولا يظهره؛ وقيل: هو من قولك: عرضت الرجل، أي: أهديت له، ومنه: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا، أي: أهدوا لهما، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه، وقال في الكشاف: الفرق بين الكناية والتعريض، أن الكناية: أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض: أن يذكر شيئا يدل به على شيء لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم منّي تقاضيا كأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى: التلويح، لأنه يلوح منه ما يريده.
4. الخطبة بالكسر: ما يفعله الطالب من الطلب، والاستلطاف بالقول والفعل، يقال: خطبها يخطبها خطبة وخطبا، وأما الخطبة بضم الخاء: فهي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطبا.
5. ﴿أَكْنَنْتُمْ﴾ معناه: سترتم، وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة، والإكنان: التستر والإخفاء، يقال: أكننته وكننته بمعنى واحد، ومنه: بيض مكنون، ودر مكنون، ومنه أيضا: أكنّ البيت صاحبه، أي: ستره.
6. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي: علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهنّ برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وقال في الكشاف: إن فيه طرفا من التوبيخ كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾
7. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ معناه: على سرّ، فحذف الحرف لأن الفعل لا يتعدّى إلى المفعولين، وقد اختلف العلماء في معنى السر:
أ. فقيل: معناه: نكاحا، أي: لا يقل الرجل لهذه المعتدّة تزوّجيني، بل يعرض تعريضا، وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا جمهور العلماء.
ب. وقيل السرّ: الزنا، أي: لا يكن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ثم التزويج بعدها، قاله جابر بن زيد، وأبو مجلز، والحسن، وقتادة، والضحاك، والنخعي، واختاره ابن جرير الطبري.
ج. وقيل: السرّ: الجماع، أي: لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع ترغيبا لهنّ في النكاح، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية.
8. الاستدراك بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ﴾ من مقدّر محذوف دلّ عليه ﴿سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي: فاذكروهنّ ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث: من ذكر جماع، أو تحريض عليه، لا يجوز، وقال أيضا: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدّة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته.
9. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قيل: هو استثناء منقطع بمعنى: لكن، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض، ومنه صاحب الكشاف أن يكون منقطعا وقال: هو مستثنى من قوله تعالى: ﴿لَا تُوَاعِدُوهُنَّ﴾ أي: لا تواعدوهن مواعدة قط؛ إلا مواعدة معروفة غير منكرة، فجعله على هذا استثناء مفرغا، ووجه منع كونه منقطعا: أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعودا وليس كذلك، لأن التعريض طريق المواعدة، لا أنه الموعود في نفسه.
10. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ قد تقدّم الكلام في معنى العزم، يقال: عزم الشيء، وعزم عليه، والمعنى هنا: لا تعزموا على عقدة النكاح ثم حذف على، قال سيبويه: والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه، وقال النحاس: يجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح، لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد؛ وقيل: إن العزم على الفعل يتقدّمه فيكون في هذا النهي مبالغة، لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشيء، كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى.
11. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يريد حتى تنقضي العدّة، والكتاب هنا: هو الحدّ، والقدر الذي رسم من المدّة، سماه: كتابا، لكونه محدودا، ومفروضا، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ وهذا الحكم أعني: تحريم عقد النكاح في العدّة مجمع عليه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/285.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. 2. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾، أي: يموتون من رجالكم ﴿وَيَذَرُونَ﴾، أي: يتركون ﴿أَزْوَاجًا﴾ بعد الموت ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، أي ينتظرن ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ في العدّة ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ يعني عشرة أيام ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، أي: انقضت عدّتهنّ ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، أي: على الأولياء في تركهنّ ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ من التعرّض للخطّاب والتزيّن ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: بوجه لا ينكره الشرع، وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع، فعليهم أن يكفّوهنّ عن ذلك، وإلّا فعليهم الجناح ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
3. خصّ، من عموم الآية، الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، ولما في (الصحيحين) عن سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة ـ وهو من بني عامر بن لؤيّ وكان ممن شهد بدرا ـ فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك ـ رجل من بني عبد الدار ـ فقال: مالي أراك تجمّلت للخطّاب، لعلك ترجين النكاح؟ وإنّك والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي، وفيه قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت دمها، غير أنه لا يقربها حتى تطهر.
4. المراد من تربّصها بنفسها: الامتناع عن النكاح، والامتناع عن التزيّن، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه، فالأول مجمع عليه، والثاني: روي فيه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وعائشة ـ أمهات المؤمنين ـ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا) متفق عليه، وعن أم سلمة أن امرأة قالت: (يا رسول الله! إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال لا، كل ذلك يقول: لا، مرتين أو ثلاثا ـ ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية تمكث سنة)، متفق عليه، وعن نافع: أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها ـ وهي حادّ على زوجها ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان، أخرجه مالك في (الموطأ)، وعن أم سلمة قالت: (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا تلبس المتوفى عنها زوجها، المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحليّ ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب) أخرجه أبو داوود (والممشقة: المصبوغة بالمشق وهي المغرة).
5. استنبط بعضهم وجوب الإحداد من قوله تعالى ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾، أي: من زينة وتطيب ـ كما قدمنا ـ فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد.
6. أما الامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفّي فيه زوجها: فروى فيه أحمد وأهل السنن حديث فريعة بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي، فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني؟ قال تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني ـ أو أمر بي فدعيت ـ فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، وفي بعض ألفاظه: أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته، فأخذ به، وقد أعلّ هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به.
7. أكثر الفقهاء على أنّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة، فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول بل هو توقيفيّ، وذهب مجاهد وغيره إلى أنهما محكمتان، كما سيأتي بيانه.
8. أبدى المهايميّ الحكمة في تحديد عدة المتوفى عنها بهذا القدر، فقال: لئلا يتعارض في قلبها حب المتوفّى وحب الجديد، فأخذت مدّة صبرها ـ وهو أربعة أشهر ـ وزيد عليه العشر، إذ بذلك ينقطع صبرها فتميل إلى الجديد ميلا كليا، فينقطع عن قلبها حب المتوفى، على أنّه يظهر في حق المدخول بها حركة الحمل إذ تكون بعد أربعة أشهر، لكنها تبتدئ ضعيفة وتتقوى بمضيّ عشر آخر، ثم قال ولم يكتف بالأقراء الدالة على عدمه هاهنا، بخلاف الفراق حال الحياة، لأن الفراق الاختياريّ شاهد عدمه مع شهادة الأقراء، فثمة شاهدان وهاهنا واحد، وعدم الحركة بعد هذه المدة يقوي شهادة الأول فيكون كالشاهد مع اليمين.
9. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، أي: لا حرج عليكم أيها الخاطبون في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهنّ قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها، والتعريض: إفهام المقصود بما لم يوضع له، حقيقة ولا مجازا، كأن يقال لها: إنك جميلة أو صالحة، أو ربّ راغب فيك، أو من يجد مثلك.
10. الخطبة ـ بالكسر ـ طلب المرأة، أَوْ ـ فيما ﴿أَكْنَنْتُمْ﴾، أي: أضمرتم من نكاحهنّ ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، أي: قلوبكم وإن كان حقه التحريم فضلا عن التعريض باللسان، لكن أباحه الله لكم إذ ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾، أي: لا تصبرون عن النطق برغبتكم فيهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وفيه طرف من التوبيخ على قلة التثبت كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187]
11. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ هذا الاستدراك من قوله ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ﴾، و﴿سِرًّا﴾ مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي: لا تواعدوهن نكاحا، أو هو بمعنى ضد الجهر والإعلان فيكون مصدرا في موضع الحال تقديره (مستخفين بذلك) والمفعول محذوف تقديره (لا تواعدوهن النكاح سرا)، أو صفة لمصدر محذوف أي: مواعدة سرا، أو التقدير (في سر) فيكون ظرفا، وإنما نهى عن ذلك لأن المواعدة بذكر الجماع والرفث بين الأجنبيّ والأجنبية غير جائز إجماعا، كالمواعدة بينهما على وجه السرّ إذ لا تنفك ظاهرا عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات.
12. قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وقال أيضا: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته.
13. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، أي: لا يستحيي منه عند أحد من الناس، فآل الأمر إلى أن المعنى: لا تواعدوهن إلا مالا يستحيى من ذكره فيسر وهو التعريض؛ فنصّت هذه الآية على تحريم التصريح، بعد إفهام الآية الأولى لذلك، اهتماما به لما للنفس من الداعية إليه ـ أفاده البقاعيّ، وقال الرازيّ: لما أذن تعالى في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارّة معها دفعا للريبة والغيبة، استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها في السرّ بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفّل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض.
14. ما قدمناه من أنّ قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، استدراك من قوله ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ﴾ قاله أبو البقاء، وجعل الزمخشريّ المستدرك محذوفا دلّ عليه ﴿سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾، أي: فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهن سرا، قال الناصر: وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف، لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة عقيبها، ونظير هذا النظم قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: 187] الآية، ولهذا الحذف سرّ وهو أنّه اجتنب لأن الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقا، بل اختصت بوجه واحد من وجوهه، وذلك الوجه المباح عسر التميز عمّا لم يبح، فذكرت مستثناة بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ تنبيها على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر، والأصل فيه الحظر، ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم، فإنه أبيح مطلقا غير مقيد؛ فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة.
15. جاء النهي عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلوا للإباحة وتبعا في الذكر، لأنها حالة فاذّة، والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب، وهو الاعتكاف، فتفطّن لهذا السرّ فإنه من غرائب النكت.
16. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، (العقدة) بالضم من النكاح وكل شيء من البيع ونحوه، وجوبه، قال الفارسيّ: هو من الشد والربط، وقال الرازيّ: أصل العقد الشدّ، وسميت العهود والأنكحة عقودا لأنها تعقد كما يعقد الحبل، وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، ومعناه: ولا تعزموا وجوب النكاح لأن القصد إليه حال العدة يفيد مزيد تحريك من الجانبين بحيث لا يطاق معه الصبر إلى انقضاء العدّة.
17. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، أي: العدّة المكتوبة المفروضة آخرها، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ ما ﴿فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من الميل إليهنّ قبل الأجل ﴿فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ يغفر ذلك الميل إذ لم يتعدّ العزم عقدة النكاح حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة، فلا تستدلّوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/156.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ تقبض أرواحهم بُلَّغًا أو أطفالاً، أحرارًا أو عبيدًا، عقلاء أو مجانين؛ والذي يتوفَّاهم هو الله، قال رجل لأبي الأسود خلف الجنازة: من المتوفِّي ـ بكسر الفاء ـ فقال: الله، والصواب أن يقول: من المتوفَّى، بفتح الياء، وفيه وجه آخر، وهو أن يقال للميِّت: متوفٍّ ـ بكسر الفاء ـ بمعنى مستوفٍ لأجله، كما قرئ ﴿يَتَوَفَّونَ﴾ بفتح الفاء، ولم يخبر أبو الأسود على ذلك سائله، لأنَّ سائله لا معرفة له بذلك.
2. ﴿مِنكُمْ﴾ أيُّها المسلمون، وأمَّا المشركون فكذلك، إلَّا أنَّ المنتفع بالخطاب المسلمون فيفسَّر بهم؛ ولا مانع من أنَّ المخاطبين المسلمون والمشركون.
3. ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ مسلمات أو كتابيَّات، ذوات أقراء أو غيرهنَّ، صغارًا أو كبارًا، مدخولا بهنَّ أو غير مدخول بهنَّ، إلَّا الحامل فأقصى الأجلين: أجل الوضع وأجل الوفاة، وهو الأصحُّ، وهو قول عليٍّ وابن عبَّاس، وإلَّا الأمة فنصف الحرَّة، وقيل: كالحرَّة، وقالت الحنفيَّة: الكتابيَّة كالمسلمة بشرط أن تكون تحت مسلم، بناء على أنَّ المشرك غير مخاطب بالفروع، المفرد: الزوج الأنثى بلا تاء، وهو اللغة الفصحى لا الزوجة بالتاء، لأنَّ (فَعْلَة) لا يجمع على (أفعال)، والزوجة ـ بالتاء ـ للمؤنَّث لغة تميم وبعض قيس.
4. ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ أي: وأزواج الذين يُتوفَّون يتربَّصن، أو الذين يتوفَّون ويذرون أزواجًا يتربَّصن بعدهم، أو بهم، أو تتربَّص أزواجهم، فأضمر لهنَّ، والضمير لا يضاف، فحذف المضاف إليه، فالنون عائد إلى قولك: أزواجهم، وقولك: أزواجهم مشتمل على ضمير (الَّذِينَ)، فهي عائدة إلى ما أضيف إلى الضمير فربط بذلك الضمير، وقيل: يقدَّر مبتدأ، أي: أزواجهم يتربَّصن، وفيه أنَّ تقدير المضاف قبل (الَّذِينَ) أخفُّ من هذا، ﴿بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ أي: عشر ليال مع أيَّامهنَّ، وذكر الليالي لأنَّهنَّ أوائل الأيَّام والشهور، أو أراد عشرة أيَّام، فحذفت التاء، كقوله تعالى: ﴿إِن لَّبِثْتُمُ إِلَّا عَشْرًا﴾ [طه: 103]، أي: إلَّا عشرة أيَّام لقوله: ﴿اِن لَّبثْتُمُ إِلَّا يَوْمًا﴾ [طه: 103]، ولكن لا مانع من أن يراد: إِلَّا عشر ليال، مع قوله: ﴿إِلَّا يَوْمًا﴾، وذكر بعض أنَّ قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إِنَّمَا هو إذا ذكِر المعدود، وأمَّا عند حذفه فيجوز الأمران مطلقًا، والجنين يتحرَّك مطلقًا لأربعة أشهر، وزيد عشرة، إذ قد تخفى حركته في المبدإ، ولا يتحقَّق ما قيل: إنَّ الذكر يتحرَّك لثلاثة، والأنثى لأربعة فاعتبر الأكثر، واستتمَّ بعشرة لخفاء حركة المبدإ.
5. والآية لعمومها شاملة لغير المدخول بها، وقال ابن عبَّاس: لا عدَّة لغير المدخول بها، والحامل المتوفَّى عنها تعتدُّ عند عليٍّ بأقصى الأجلين، وقال غيره: بأربعة أشهر وعشر فتتزوَّج ولو لم تضع الحمل، لكن لا يمسُّها حتَّى تضع فيمسُّها في غير الفرج، وإذا تمَّت عدَّة النفاس مسَّها في الفرج، والمشهور أنَّ العدَّة من حين علمت بالموت، ولو بعد تمام الأربعة والعشر، وقيل: من حين الموت، وعليه جمهور الأمَّة.
6. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ تمام أربعة أشهر وعشر، ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ لا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيُّها المتولُّون لأمور الإسلام، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقيل: الخطاب للأولياء، ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ﴾ من التزيين للخُطَّاب بالثياب واللباس الحسن، والكلام الحسن، وإظهار زينة الوجه واليد لهم، وإظهار الساق والشعر والصدر للنساء، ونحو ذلك مِمَّا يحلُّ إظهاره لهنَّ ليصفنه لمن يريد التزوُّج.
7. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا، لا بكشف ما لا يحلُّ من بدن، ولا عند من لا يتَّقي الله، ولا بخلوة به، وأمَّا قبل بلوغ الأجل في المطلَّقة فإنَّما تتحبَّب لزوجها بأكثر من ذلك كلِّه غير كشف العورة الكبرى، فإن رآها متولُّو الأمر تتعرَّض قبل بلوغ الأجل لغيره بكلام أو زينة أو تبرُّج، أو تتعرَّض له أو لغيره بعد بلوغ الأجل بغير المعروف فعليهم الإثم إن لم يمنعوها.
8. ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ والخطاب لمن خوطب قبلُ، وقيل: للأزواج، ﴿خَبِيرٌ﴾ فيجازيكم.
9. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أيُّها الناس ﴿فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ﴾ لوَّحتم به، من عرض الكلام، أي: جانبه، واللفظ حقيقة، وفهم الملوَّح إليه ليس حقيقة ولا مجازًا، وقيل: اللفظ غير حقيقة ولا مجاز، كما أنَّ الكناية كذلك إذا لم يرد المعنى الموضوع، كما إذا قلت: كثير الرماد للجواد حيث لا رماد له، ويقال: التعريض أن تذكر شيئًا مقصودًا بلفظه الحقيقيِّ أو المجازيِّ أو الكنائيِّ لتدلَّ به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، ويقال: مثل قولك: طويل النجاد كناية، ومثل قول الفقير: جئت لأسلِّم عليك، كناية وتعريض، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
10. ﴿مِن خِطْبَةِ﴾ من الخطب وهو الشأن، أو الخطاب، والخطاب: توجيه الكلام للأفهام، ومنها الخِطبة ـ بالكسر ـ وهي كلام يستدعى به إلى عقد النكاح؛ والخُطبة ـ بالضمِّ ـ الوعظ المتَّسق على ضرب من التأليف.
11. ﴿النِّسَآءِ﴾ في عدَّتهنَّ من موت أزواجهنَّ، مثل أن يقول: أنت جميلة، وأنا راغب فيك، أو أحبُّ مثلك، أو ليتني وجدتك، أو إذا أتممت عدَّتك فأخبريني، أو أريد التزوُّج.
12. ﴿اَوَ اَكْنَنتُمْ﴾ سترتم ﴿فِي أَنفُسِكُمْ﴾ من قصد تزوُّجهنَّ، وعلَّل قوله: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ بقوله: ﴿عَلِمَ اللهُ﴾ علمًا أزليًّا، ولا أوَّل لعلمه ولا آخر باعتبار النوع والشخص لا النوع فقط.
13. ﴿أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ لا طاقة لكم على الصبر عنهنَّ، فأباح لكم التعريض في عدَّة الوفاة لا التصريح، وإنَّما تكون السين للتأكيد لو كان الذِّكْر في مستقبل قريب، وليس المراد ذلك، بل علم في الأزل بلا أوَّل أنَّه سيخلقهم ويتزوَّجون ويموتون، فيقصد القاصد المتوفَّى عنها، والآية توبيخ للرجال على قلَّة الصبر عنهنَّ وعدم المجاهدة، فقال: اذكروهنَّ.
14. ﴿وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ تزوُّجًا تصريحًا، سمِّي سرًّا، لأنَّه سبب الوطء الذي يسَرُّ وملزومه، أو سرًّا وطءًا، ولكن لا يصحُّ هذا إِلَّا على أنَّ الاستثناء منقطع في قوله: ﴿اِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ في الشرع من التعريض لا فحش فيه، أي: لا تواعدوهنَّ بالقول المستهجن، لكن واعدوهنَّ بالقول المعروف الذي لا يستحيى منه، أو متَّصل، أي: لا تواعدوهنَّ مواعدةً مَّا إِلَّا مواعدة معروفة، أو إِلَّا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قولا معروفًا، فلا يقل: (رغبت في وطئك)، وقيل: لا تواعدوهنَّ في موضع سرًّا، أي: خفاء، فذلك مواعدة الوطء، لأنَّها تكون في الخفاء لقبحها، فلا يقل لها: إنِّي قويُّ الوطء، أو إنِّي أفعل كذا وكذا مِمَّا يكون تحت اللحاف، ويجوز التعريض للبائن بحرمتها أبدًا بوجه من وجوه التحريم، أو بطلاق الثلاث، أو طلاق من تكون الاثنان أو الواحدة في حقِّها ثلاثًا، والبائن التي لا تجوز مراجعتها، وجاز تزوُّجه لها في العدَّة منه أو بعدها في قول، ولا يجوز التعريض في بائن تصحُّ رجعتها برضاها.
15. ﴿وَلَا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: لا تعقدوا النكاح، وذَكَر العزم تأكيدًا للنهي، كالنهي عن فعل الشيء بالنهي عن قربه، فنُهي عن العقد بالنهي عن سببه وملزومه، والمراد حقيقة النهي عن العزم على العقد فكيف العقد!، أو العزم: القطع، أي: لا تبرموها، وذلك قطع للشكِّ والتردُّد بالجزم، وقيل: لا تقطعوا عقد نكاح الأوَّل المتوفَّى، ورُدَّ بأنَّه لا يعرف العزم بمعنى صريح القطع بل بمعنى قطع التردُّد، اللهمَّ إِلَّا على التجوُّز فيصحُّ، وأمَّا ردُّه بأنَّه لا تنقطع عقدة الأوَّل بعقد الثاني لأنَّ عقده لغو فلا يتمُّ؛ لأنَّ المراد: لا تتعاطوا صورة قطعها، ولو كانت لا تنقطع تحقيقًا، و(عُقْدَةَ) مفعول به، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقًا لتضمين (تَعْزِمُوا) معنى تعقدوا، ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ﴾ المكتوب، أي: المفروض ﴿أَجَلَهُ﴾ وهو آخر الأربعة والعشر، وزعم بعض الشافعيَّة أنَّه يجوز العزم في العدَّة على العقد بعدها، وهو خطأ؛ لأنَّه تصريح بالنكاح.
16. ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ من العزم، فلا بأس بلا تصريح ومن عدم العزم، ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ احذروا عقابه على عقد النكاح قبل الأجل ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ للحاذر والتائب، ﴿حَلِيمٌ﴾ يؤخِّر العقاب لمستحقِّه إلى وقته، فلا تظنُّوا أنَّ تأخيرَهُ عمَّن أصرَّ ترْكٌ له، ومن صمَّم على قصد المناهي يؤاخذ فكيف من يفعل؟ ولكن اُرجُوا الغفران والرحمة، لكن لا يكتب عليه أنَّه فَعَلَ بل أنَّه عَزَمَ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/74.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا يزال الكلام في أحكام النساء من حيث هن أزواج يمسكن ويسرحن، فيراجعن أو يبتتن، وفي حقوقهن حينئذ في أولادهن، وكل هذا قد مر تفسيره، وقد ذكر في هاتين الآيتين أحكام من يموت بعولتهن، ماذا يجب عليهن من الحداد والاعتداد، ومتى تجوز خطبتهن ومتى يتزوجن؟
2. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ أي: يتوفاهم الله تعالى، أي يقبض أرواحهم ويميتهم، قال الله تعالى في سورة الزمر: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول وهذا هو المستعمل الفصيح.
3. ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ أي: يتركون زوجات، والفصيح استعمال لفظ الزوج في كل من الرجل وامرأته، ويجمع في الاستعمال على أزواج، قال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ والزوج في الأصل العدد المكون من اثنين، وقد اعتبر في تسمية كل من الرجل وامرأته ﴿زَوْجًا﴾ أن حقيقته من حيث هو زوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئا واحدا، في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر، ولذلك وضع لهما لفظا واحدا ليدل على أن تعدد الصورة لا ينافي وحدة المعنى، أريد أن هذا اللفظ المشترك يشعر بأن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها بتمازج النفوس ووحدة المصلحة، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر.
4. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ خبر لما قبله؛ أي: يتربصن بعد وفاتهم هذه المدة، وتقدم الكلام في مثله في تفسير قوله عز وجل: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، فارجع إليه إن كنت نسيت ما في التعبير من آيات البلاغة، والمعنى أن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشر ليال، لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل بغير عذر شرعي، ولا يواعدن الرجال بالزواج.
5. قد يتعارض هذا مع قوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فهل يقال: إن ما هنا خاص بغير الحوامل أم ما هنالك خاص بالمطلقات؟ الظاهر الثاني؛ لأن الكلام هنالك في الطلاق، والسورة سورته فهو خاص، والآية التي نحن بصدد تفسيرها عامة في كل من يتوفى زوجها؛ لأن الله تعالى جعل عدتها طويلة، وفرض عليها الحداد على الزوج مدة العدة، مع تحريم السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها، ولكن الجمهور على القول الأول، وأن الحامل التي يموت زوجها إذا وضعت تنقضي عدتها ولو بعد الموت بيوم أو ساعة، واحتجوا بحديث سبيعة الأسلمية عند أبي داود فإنها قالت: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر، ويروى عن علي وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا، فأي آية كانت عند الله هي المخصصة للأخرى كانت عاملة بها، ولا أحفظ عن محمد عبده جزما بقول من هذه الأقوال، ولكن الاحتياط الذي قال به الحبران لا ينكره منكر.
6. سئل محمد عبده في الدرس عن الحكمة في كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فأجاب: أن مثل هذا ليس علينا أن نبحث عنه، وإنما نبحث عما يشير الكتاب إلى حكمته إشارة ما، ويقول بعض الناس: إن ما يحصل من فراق الزوج من الحزن والكآبة عظيم يمتد إلى أكثر من مدة ثلاثة قروء أو ستين يوما، فبراءة الرحم إن كانت تعرف بهذه المدة، فلا يكون استعراف براءته من الحمل مانعا من الزواج، فبراءة النفس من كآبة الحزن تحتاج إلى مدة أكثر منها، والتعجل بالزواج مما يسيء أهل الزوج ويفضي إلى الخوض في المرأة بالنسبة إلى ما ينبغي أن تكون عليه من عدم التهافت على الزواج، وما يليق بها من الوفاء للزوج والحزن عليه.
7. ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه، ولا بد من مراجعة الأطباء في هذا القول قبل تسليمه، والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الإحداد، ولم يظهر لنا شيء قوي في تحديده، ولكن هناك احتمالات، منها أنه ربما كان من عرف العرب ألا ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها فأقرهم الإسلام على ذلك؛ لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها، وقد كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبر عن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر وتتوق إليه بعد ذلك، ويروى أن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته، وإذا صح أن هذا أصل في المسألة، تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام، والله أعلم بالصواب)، وسيمر بك قريبا من ذكر بعض عادات العرب في الحداد على الزوج وشدته، وما أصلح الإسلام فيه ما يبطل التعليل الأول، وظاهر الآية أن هذا التحديد لعدة الوفاة يشمل بعمومه الصغيرة والكبيرة، والحرة والأمة، وذات الحيض واليائسة، ولكن الفقهاء اختلفوا في أفراد من هذا الشمول كما اختلفوا في الحامل؛ فذهب الجماهير إلى أن عدة الأمة نصف عدة الحرة (شهران وخمس ليال) ولم ينقلوا في هذا خلافا إلا عن الأصم وابن سيرين من فقهاء السلف، والأصل في هذا القياس على الحد، فإن الله تعالى يقول في سورة النساء بعد ذكر التزوج بالإماء: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ وعلى حديث ابن عمر مرفوعا عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي (طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان) والحديث ضعيف، في إسناده عمر بن شبيب وعطية العوفي، وقال الدارقطني والبيهقي: والصحيح أنه موقوف، واختلفوا أيضا في عدة أم الولد يموت سيدها فقالت طائفة من علماء السلف: عدتها أربعة أشهر وعشر، وقال آخرون: تعتد بثلاث حيض وعليه الحنفية، وقال آخرون منهم الأئمة الثلاثة: عدتها حيضة أو شهر إذا لم تكن تحيض.
8. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: أتممن عدتهن ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ مما كان محظورا عليهن في العدة من التزين، والتعرض للخطاب، والخروج من المنزل، وقيد ذلك ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: شرعا وأدبا عرفيا؛ لأنهن إذا أتين بالمنكر وجب منعهن، واختلفوا في الخطاب هنا فقيل: هو للأولياء؛ لأن هذا من مقدمات الزواج الذي يتولونه، وقيل: للمسلمين كافة يتولاه منهم من هو قادر عليه من العارفين به وهو المختار كما علم مما سبق له من النظائر.
9. لا تقل: إن الآية لم تنطق بما يحظر على المرأة في هذه العدة، فنقول: إن نفي الجناح متعلق به، فإن ما علم من الناس بالسنة المتبعة والأخبار الصحيحة في أمر نزل فيه قرآن يتعين حمل القرآن عليه، روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت: (دخلت علي أم حبيبة حين توفي أبو سفيان (والدها) فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق وغيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) قالت زينب: (وسمعت أمي (أم سلمة) تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول) قال حميد: (فقلت لزينب: ما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره) وروى أحمد والشيخان من حديث أم سلمة: (أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال: لا تكتحل، كانت إحداكن تمكث في أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة ـ فلا، حتي تمضي أربعة أشهر وعشر) في رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك (ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها)، فأنت ترى من هذه الأحاديث الصحيحة أن العرب على غلوها في الحداد، وكثرة منكراتها في النوح والندب، كانت تعتاد أمورا خرافية فيه، وكانت المرأة تحد على زوجها شر حداد وأقبحه، فتلزم شر أحلاسها في شر جانب من بيتها، وهو الحفش، سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج من ذلك بما علمت.. والمراد أنه يموت من نتنها، وأما عادة مرور الكلب ورمي البعرة فظاهر الرواية أن المعتدة كانت في آخر العدة تنتظر مرور الكلب لترميه بالبعرة وإن طال الزمان، وبه قال بعضهم، وقيل: بل ترمي بها ما عرض من كلب أو غيره، وقالوا: إن المعنى في ذلك عندهم أن ما فعلته من التربص في تلك المشقة والجهد هو عندها بمنزلة البعرة التي رمتها احتقارا له وتعظيما لحق زوجها، وقيل: هو إشارة إلى رمي العدة والتفلت منها، وقيل: بل هو تفاؤل بعدم العودة إلى مثلها وتمني أن تموت في كنف من عساها تتزوج به.
10. إذا علمت هذا وأمثاله مما كانت عليه العرب من العادات السخيفة والخرافات الشائنة المهينة للمرأة، يظهر لك شأن ما جاء به الإسلام من الإصلاح في ذلك إذ جعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي التزوج، دون النظافة والجلوس في كل مكان من البيت مع النساء والمحارم من الرجال، وهذا الذي أمر به الإسلام يليق ويحسن في كل شعب وجيل في كل زمن وعصر، لا يشق على بدو ولا حضر، وقد رأيت أن سعة الدين وتكريمه للنساء قد كادت تنسي المسلمات ما لم يبعد العهد به من عادتهن وتخرج بهن من كل قيد، حتى استأذن من استأذن منهن بالكحل بحجة الخيفة على العين من المره أو الرمد حتى ذكرهن صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك.
11. استشكل في الحديث المنع من الكحل للتداوي كما هو ظاهر من قولها: (فخشوا على عينها) مع ما علم من أصول الشريعة التي لا خلاف فيها من انتفاء العسر والحرج، ومن كون الضرورات تبيح المحظورات، وكون الضرر والضرار ممنوعين، ومن الترخيص في الكحل للتداوي بالليل دون النهار؛ لأن الليل أبعد من مظنة الزينة، في حديث الموطأ عن أم سلمة، وفيه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار) وحديث أبي داود (فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار) وأجيب عن حديث النهي المطلق بأجوبة منها حمله على كحل الزينة كأنه علم بالقرينة أن السؤال كان عنه أو لأجله، ومنها غير ذلك مما لا حاجة لاستيفائه هنا، وينبغي أن نتذكر أن الليل صار كالنهار في أمصارنا أو أشد إظهارا للزينة.
12. هذا ما جاء به الإسلام من الإصلاح في هذه المسألة الاجتماعية، ومن أراد الاعتبار فلينظر إلى حظ المسلمين اليوم من هديه فيها، المسلمون لا يسيرون اليوم على طريقة واحدة وإنما هم طرائق قدد، فمن نسائهم من يغلون في الحداد، ويغرقن في النوح والندب والخروج من العادات في كيفية المعيشة بالبيوت، حتى يزدن في بعض ذلك على ما كان يكون من نساء الجاهلية، وليس لهن في ذلك حد ولا أجل يتساوين فيهما، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد سنة أو سنين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين يختلف ذلك فيهن باختلاف البلاد والطبقات والبيوت، فإياكم نسأل أبناء العصر الجديد الذين يرون أن أنفسهم ارتقت في المدنية والاجتماع إلى أفق يستغنون فيه عن هدي الدين، هل تجدون لنا سبيلا إلى إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد الذي لا حد له ولا نظام، ولا فائدة فيه لأحد، بل كله غوائل بما يفني من المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون وغير ذلك، وما يفسد من آداب المعاشرة ويسلب من هناء المعيشة، وما يفعل في صحة الكثيرين، ولا سيما ضعاف المزاج وأهل الأمراض؟ أصلحوا لنا بعلومكم وفلسفتكم هذه العادات الرديئة بإرجاعها إلى ما قرره الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب، وأربعة أشهر وعشرا على الزوج، ويجعل هذا الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من البيت، أو بما هو خير من ذلك إن أمكن، وإلا فاعلموا أن لا صلاح لنا إلا بالاعتصام بهدي الدين الذي تحاربونه كل ساعة بأعمالكم وخلالكم، وعاداتكم ولذاتكم، وما تحاربون إلا أنفسكم وما تشعرون.
13. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ محيط بدقائق عملكم، لا يخفى عليه منه شيء، فإذا ألزمتم النساء الوقوف معكم عند حدوده أصلح أحوالكم، ورفه معيشتكم في الدنيا، وأحسن جزاءكم في الآخرة، وإن لم تفعلوا أخذكم في الدارين أخذا وبيلا، ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
14. من مباحث اللفظ في الآية:
أ. أن الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت بالتوفي أن يقال: توفي فلان بالبناء للمفعول وعليه القراءة المتواترة في الآية: ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾، وقرئ في الشواذ عن علي ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ بالبناء للفاعل وفسر بيستوفون آجالهم، فإن معنى التوفي أخذ الشيء وقبضه وافيا تاما، وكانوا يعدون التعبير عن الميت بالمتوفي بصيغة اسم الفاعل لحنا؛ لأنه مقبوض لا قابض، كما روي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي؟ فقال: ﴿اللَّهِ تَعَالَى﴾) وكان هذا من أسباب أمر علي كرم الله وجهه إياه بوضع بعض أحكام النحو.
ب. ومنها مسألة المطابقة بين المبتدأ وهو ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ والخبر هو جملة ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ فإنها غير جلية على قواعد النحو، وإن كان المعنى جليا والتأليف عربيا، وقد قدر بعضهم لفظ (زوجات) مضافا محذوفا؛ أي: وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن إلخ، قال محمد عبده: ولا لزوم له؛ أي: لأنه لا يكون معه فائدة لقوله ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ مع ما فيه من التكلف، ويروون عن سيبويه أن الخبر محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم من حكم الذين يتوفون منكم، ورجح محمد عبده ما قاله الكسائي ومثله الأخفش، وهو أن الرابط بين المبتدأ والخبر في مثل هذا التعبير هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلقات المبتدأ فهو راجع إلى المبتدأ كأنه قال: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن أزواجهم أربعة أشهر وعشرا، قال: وهو ينطبق على استعماله اللغة، وهناك وجه آخر يرجع إليه وهو صحة الإخبار عن المبتدأ بما يرجع إليه كقول الشاعر:
لعلي إن مالت بي الريح ميلة... إلى ابن أبي ذبيان أن يتندما
فمراد الشاعر الإخبار عن تندم ابن أبي ذبيان، والأخبار في اللغة لا يراعى بها إلا صحة المعنى، وكونه مفهوما كما تقدم في تفسير: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾
15. لما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن، قالوا: ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن؛ لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة.
16. التعريض في الأصل إمالة الكلام عن منهجه إلى عرض منه وهو الجانب، ويقابله التصريح، فهو أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح يحتمله الكلام على بعد بمعونة القرينة، وفي الكشاف هو: أن تذكر شيئا تدل به على شيء لا تذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم، أقول: وللناس في كل عصر كنايات في هذا المقام، ومما سمعته من استعمال عامة زماننا في هذا ذكر الرغبة في الزواج مسندة إلى أناس مبهمين، نحو أن من الناس من يتمنى لو يكون له كذا أو يوفق إلى كذا.
17. الخطبة ـ بالكسر من الخطاب أو الخطب وهو الشأن العظيم، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، وأما الخطبة ـ بالضم ـ فهي ما يوعظ به من الكلام.
18. الإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة، أباح الله تعالى أن يعرض الرجل للمرأة في العدة بأمر الزواج تعريضا، وقرن ذلك بما يكون من النية في القلب والعزم المستكن في الضمير، كأنه مثله في تعذر الاحتراز منه أو تعسره، ولم يحرم عليهم أن يقطعوا في هذا الأمر بأنفسهم لأن الأمر أمر ديني، بل راعى فيما شرعه لهم ما فطرهم عليه، ولذلك ذكر وجه الرخصة فقال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ في أنفسكم، وخطرات قلوبكم ليست في أيديكم، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن النطق لهن بما في أنفسكم، فرخص لكم في التعريض دون التصريح، فقفوا عند حد الرخصة.
19. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي في السر؛ فإن المواعدة السرية مدرجة الفتنة ومظنة الظنة، والتعريض يكون في الملأ لا عار فيه ولا قبح، ولا توسل إلى ما لا يحمد، وذهب جمهور العلماء إلى أن السر هنا كناية عن النكاح؛ أي: لا تعقدوا معهن وعدا صريحا على التزوج بهن، قال محمد عبده: عبر عن النكاح بالسر؛ لأنه يكون سرا في الغالب، وروي عن ابن عباس أنه قال: المواعدة سرا أن يقول لها: إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا، وقيل: هي المواعدة على الفاحشة، والدليل على أن النهي عام يراد به تحريم الكلام الصريح معها في الخلوة قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قيل: هو التعريض، وقال محمد عبده: هو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين بلا نكير كالتعريض، وهذا أقوى من التعريض.
20. جملة القول أنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج بالسر ويتواعدوا معهن عليه، وكل ما رخص لهم فيه هو التعريض الذي لا ينكر الناس مثله في حضرتهن، ولا يعدونه خروجا عن الأدب معهن، والفائدة منه التمهيد وتنبيه الذهن، حتى إذا تمت العدة كانت المرأة عالمة بالراغب أو الراغبين، فإذا سبق إلى خطبتها المفضول ردته إلى أن يجيء الأفضل عندها، وقد أوضح الأمر وسلك فيه مسلك الإطناب؛ لأن الناس يتساهلون في مثل هذه الأمور لما لهم من دافع الهوى إليها؛ ولذلك صرح بما فهم من سابق القول من جواز القصد إلى العقد بعد تمام العدة فقال: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ أي: على عقدة النكاح على حذف ﴿عَلَى﴾) ويقال: عزم الشيء وعزم عليه واعتزمه؛ أي: عقد ضميره على فعله، أو المعنى لا تعقدوا عقدة النكاح وهو العزم المتصل بالعمل لا ينفصل عنه.
21. ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أي: حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدة، فالكتاب بمعنى المكتوب؛ أي: المفروض أو بمعنى الفرض، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، وقال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾، وإنما عبر عن الفرضية المحتمة بلفظ الكتاب؛ لأن ما يكتب يكون أثبت وآكد وأحفظ، وفسر بعضهم الكتاب بالقرآن على أن المراد به العدة أيضا كأنه قال: حتى يتم ما نطق به القرآن من مدة العدة، والحاصل أن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، ولأجله حرمت خطبتها فيها، والعقد باطل بإجماع المسلمين.
22. ثم قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ أي: يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم فاحذروا أن تعزموا ما حظره عليكم منه من قول وعمل، قال محمد عبده: هذا التحذير راجع للأحكام التي تقدمت من التعريض وغيره جاء على أسلوب القرآن وسنته في قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، تأكيدا للمحافظة عليها والالتفات إليها، ولا يقال: إن العلم بما في النفس أعم من الخبر بالعمل، فيستغنى عن هذا بما ختمت به الآية السابقة؛ لأن لكل كلمة مما ورد في هذا الكلام أثرا مخصوصا في النفس، والمقصود واحد، وما دامت الحاجة ماسة إلى شيء فلا يقال: إن في الإتيان به تكرارا مستغنى عنه، وإن كثر وتعدد ولو بلغ الألوف بلفظه، فكيف به إذا تنوع بعموم أو خصوص أو غير ذلك؟
23. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ بعد ما ورد من الوعيد والتشديد في الآيات السابقة يبين أن للإنسان مخرجا بالتوبة إذا هو تعدى شيئا من الحدود وأراد الرجوع إلى الله تعالى، فإنه غفور له حليم لا يعجل بعقوبته، بل يمهله؛ ليصلح بحسن العمل ما أفسد بما سبق من الزلل.
__________
(1) تفسير المنار: 2/419.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان الكلام قبل هذا في أحكام الطلاق من جهة عدده وكيفيته، وأن للزوج المراجعة والإمساك بالمعروف، كماله التسريح والتطليق بالإحسان، ثم ذكر بعده حكم الإرضاع وما للوالدة من حقوق فيه، وما على الوالد من واجبات قبل ولده من رزق وكسوة ونحو ذلك ـ وهنا ذكر أحكام من يموت بعولتهن من وجوب الحداد عليهم، ومن وجوب العدة، ومن جواز خطبتهن، ومن صحة العقد عليهن.
2. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ أي إن الرجال الذين يموتون ويتركون زوجات يردن الزواج، لا يحل لزوجاتهم أن يتعرضن لخطبة ولا زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي مدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
3. خلاصة المعنى ـ إن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشرة أيام لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل إلا للأعذار المبيحة لذلك، ولا يواعدن الرجال بالزواج، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها.
4. حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام، وهذا الحكم خاص بغير الحوامل، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن، روي أبو داوود حديث سبيعة الأسلمية قالت: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أفتاها بأنها حلّت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.
5. لا نبحث عن الحكمة في تحديد هذه المدة فهي كأعداد الركعات ومقدار الواجب في الزكاة، وقال بعضهم في بيانها: إن تعرف براءة الرحم احتاجت إلى ثلاثة قروء أو ستين يوما، فبراءة النفس من الحزن والكآبة تحتاج إلى مدة أطول من هذه لعظم الكارثة وفداحة الخطب، إلى أن التعجيل بالزواج مما يسيء أهل الزوج ويفضى إلى الخوض في شأن المرأة، إذ يقولون إنها لم تكن على ما ينبغي من الوفاء للزوج والحزن عليه إلى أنه كان من المعروف عند العرب أن المرأة تصبر على البعد عن الرجل أربعة أشهر بلا حرج ولا مشقة وتتوق إليه بعد ذلك، حتى إن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته، وإذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام، وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة.
6. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فإذا أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها قبل ذلك من التزين والتعرض للخطّاب والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفا، فإن فعلن شيئا من ذلك قبل انقضاء الأجل كن قد أتين بمنكر فيجب على أوليائهن وخيار المسلمين أن يمنعوهن، فإن لم يستطيعوا ذلك استعانوا بالحاكم لإزالة هذا المنكر، وقد بينت السنة والأخبار الصحيحة ما يحظر على المرأة أن تفعله(2).
7. كانت المرأة في الجاهلية تحدّ على زوجها شر حداد وأقبحه، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمسّ طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج بعد ذلك، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة، إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال، والكحل الذي منعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هو كحل الزينة لا كحل التداوي بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار).
8. المسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النّوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين، فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة، وما ينجم عن ذلك من الأمراض، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى أحكام الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب وأربعة أشهر وعشرا على الزوج، وجعل الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة.
9. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فإذا جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع وحدوده صلحت أحوالكم، وسعدتم في دنياكم، وأحسن الله جزاءكم في أخراكم، وإن أسأتم السيرة وحدتم عن السّنن السوىّ أخذكم أخذ عزيز مقتدر.
10. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أي ولا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض للمرأة ويلوّح لها في أثناء عدة الزواج، أو عدة الطلاق البائن بأمر الزواج، لا في أثناء عدة الطلاق الرجعى، لأنها لا تزال في عصمة زوجها.
11. للناس في كل عصر كنايات يستعملونها في مثل هذا، كأن يقول: إني أحب امرأة من صفتها كيت وكيت، أو يقول وددت لو أن الله وفّقني لامرأة صالحة مثلك أو يقول: إني حسن الخلق، كثير الإنفاق، جميل العشرة، محسن إلى النساء، إلى نحو ذلك، كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة، لأن مثل هذا مما يتعسر الاحتراز منه، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله:
12. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ في أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهن بما انطوت عليه جوانحكم، ومن ثم رخص لكم في التعريض دون التصريح، فعليكم أن تقفوا عند حدّ الرخصة ولا تتجاوزوها.
13. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي ولكن لا تواعدوهن على الزواج في السر، فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنّة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه، وذهب جمهرة العلماء إلى أن السر هنا يراد به النكاح، أي لا تتّعدوا معهن وعدا صريحا على التزوّج بهن.
14. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي لا تواعدوهن بالمستهجن، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
15. الخلاصة ـ إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في امر الزواج سرّا، أو يتواعدوا معهن عليه، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن، ولا يعدّونه خارجا من الاحتشام معهن، وفائدة ذلك ـ أن يكون تمهيدا لهن، حتى إذا أتمت إحداهن العدة كانت عالمة بمن يرغب فيها، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل.
16. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ أي ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهى عدتها.
17. الخلاصة ـ إن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، بل الخطبة فيها محرّمة، والعقد فيها باطل بإجماع المسلمين.
18. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ أي واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل، وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، ليكون ذلك آكد في المحافظة عليها والعناية بها.
19. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلّاتهم، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة، وتعملوا بما أمرتم به، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/190.
(2) ذكر هنا بعض الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها.. عدتها، وخطبتها بعد انقضاء العدة، والتعريض بالخطبة في أثنائها.
2. المتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.. وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة: حمار أو شاة.. فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت، بل رفعه كله عن كاهلها؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده.. وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة، جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال ـ ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل ـ وهي أطول قليلا من عدة المطلقة، تستبرئ فيها رحمها، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها، وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب، فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها، سواء من أهلها أو من أهل الزوج، ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي، لا تقف في سبيلها عادة بالية، ولا كبرياء زائفة، وليس عليها من رقيب إلا الله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.. هذا شأن المرأة.
ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾.. إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه.. وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة، لأن هذا الحديث لم يحن موعده، ولأنه يجرح مشاعر، ويخدش ذكريات.
3. مع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض ـ لا التصريح ـ بخطبة النساء، أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها، وقد روي عن ابن عباس أن التعريض مثل أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة).. كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا، لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها:
4. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾.. وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري، حلال في أصله، مباح في ذاته، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه، والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها، ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾.. لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة، ولكن المحظور هو المواعدة سرا على الزواج قبل انقضاء العدة، ففي هذا مجانبة لأدب النفس، ومخالسة لذكرى الزوج، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة.
5. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.. لا نكر فيه ولا فحش، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق.
6. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾.. ولم يقل: ولا تعقدوا النكاح.. إنما قال ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾.. زيادة في التحرج.. فالعزيمة التي تنشئ العقدة هي المنهي عنها.. وذلك من نحو قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾.. توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة.
7. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾.. وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر، فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة، تلك العلاقات الشديدة الحساسية، العالقة بالقلوب، الغائرة في الضمائر، وخشية الله، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة، مع التشريع، لتنفيذ التشريع، فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله، والثقة بعفو الله، وحلمه وغفرانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾.. غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله، الحذر من مكنونات القلوب، حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطئ أن يتوب.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/256.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا حكم المرأة المتوفى عنها زوجها في عدتها، فتعتد أربعة أشهر وعشر ليال.. هذا إذا لم تكن حاملا وامتد حملها إلى ما بعد هذا الأجل، فعدتها حينئذ وضع حملها.
2. سؤال وإشكال: الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للأزواج الذين يتوفون ويتركون زوجات لهم.. فكيف يخاطب الأموات؟ والجواب: السر في هذا هو بعض إعجاز القرآن الكريم، ذلك الإعجاز الذي تحمله كل كلمة من كلماته، بل وكل حرف من حروفه، فهذه العدة التي تعتدها المتوفّى عنها زوجها إنما هي رعاية للحياة الزوجية التي انقطعت بموت الزوج، وهى توقير لقداستها وحرمتها.. ومن حق هذه الحياة أن تظل حية في نفس الزوجة، وأن يظل الزوج المتوفى ماثلا في خيالها، حاضرا في خاطرها! ثم إنها ـ أي العدة ـ من جهة أخرى مجاوبة لمشاعر أهل الزوج، ومشاركة عملية في الأسى على فراقه، من أجل هذا كان حكم العدة هنا موجها إلى المرأة في مواجهة الزوج، وكأنه حاضر يشهد مدى رعايتها للعلاقة التي كانت بينه وبينها، ولهذا ينبغي للمرأة خلال هذه العدة ألّا تتزين زينتها للزوج، وألا يبدو منها ما ينم عن نسيانها لهذه الذكرى، فذلك أقل ما يجب أن يكون منها! وللزوجة على الزوج مثل هذا الحق، وإن لم توجبه الشريعة حكما، فقد أشارت إليه من طرف خفى، في هذا الحكم الذي فرضته على الزوجة في مواجهة زوجها، إذ حين يرى الزوج أن زوجه سوف تلتزم بنوع من الأسى عليه والحزن لفراقه، يجد في نفسه مثل هذا الشعور نحوها حين تسبقه هي إلى الدار الآخرة.
3. الأمر في ذاته ليس في حاجة إلى تشريع، ولكن لما كان بعض المتوفّى عنهن أزواجهن يذهب بهن النزق والطيش إلى قطع علائق الزوجية وآثارها من أول يوم يغيب فيه الزوج عن شخصها، وفى ذلك ما فيه من اعتداء على حرمة تلك الرابطة المقدسة، واستخفاف بشأنها، الأمر الذي إن ترك هكذا سرت عدواه في المجتمع، وصار تقليدا سيئا، يدخل الضيم على العلاقات الزوجية، ويذهب بجلالها! فكان لا بد من وضع حد لهذا الاستهتار، حماية الحياة الزوجية منه، حتى بعد انقطاعها.
4. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بيان للجانب الآخر من جانبي المرأة وموقفها من الرجل بعد موته ـ فإنه كما تكون هناك بعض الزوجات غير آبهات إلى فقد الزوج، ضائقات بهذه العدّة التي فرضتها الشريعة عليهن، فإن بعضهن الأخريات قد يذهب بهن الأسى والوحشة، إلى زمن أبعد من هذا الزمن، الذي حددته العدة لهن، فتظل عاما أو أعواما تحيا في ذكرى زوجها الذي ذهب، وإنه لا حرج عليها في هذا إذا هي وقفت في ذلك الحزن والأسى عند الحد الذي لا يخرج عن المعروف المعقول.
5. قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ قد يكون الخطاب للأزواج الغائبين ليذكر الزوجات اللاتي يخرجن بهن الأسى والحزن عن حد الاعتدال أنّ في هذا أذى للزوج، تتأذى به روحه التي تدرك الزوجة أنها قريبة منها، وقد يكون خطابا لأولياء الزوجات على نحو ما هو خطاب للأزواج المتوفّين!
6. فى قوله تعالى ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ ضبط لمشاعر المرأة التي قد يستبد بها الحزن على زوجها إلى حد التلف.. وهذا شعور غير محمود، بل الشعور المحمود هو القائم على حدود المعروف من الطبائع البشرية في مثل تلك الحال!
7. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أباح الله سبحانه وتعالى للرجال الذين يرغبون في زواج النساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن وهنّ في العدة ـ إن يعرّضن بخطبتهن تعريضا لا تصريحا، وهذا من الرحمة واللطف بالمرأة، فهي وإن كانت في فترة العدة إلا أنها مطلقة إطلاقا تاما من عقدة النكاح، ليس لزوجها المتوفى عنها متعلّق بها، إلا هذه العدة التي تعتدها رعاية للرابطة الزوجية التي بينها وبينه، واستبراء لرحمها منه.. وهذا لا يمنع من أن تكون موضع نظر من يريد الزواج منها.. فقد يكون من العزاء لها أن تجد في فترة الحزن والوحشة أملا يجيء إليها في صورة زوج منتظر، بعد انقضاء عدتها! وإنه لكى لا يدخل على هذه العدة ما يجرحها ويذهب بحكمتها، فقد أبيح للرجل أن يعرّض بخطبة المعتدة لوفاة ولا يصرح بهذه الخطبة، فهذا التصريح يقضى على كل أثر لهذه العدة.
8. إنه لخير من هذا أن يضمر الرجل في نفسه خطبة المعتدة لوفاة.. فذلك ما لا حرج فيه، ولا إثم فيه! وقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي علم الله أنكم لا تقدرون على كتمان ما في أنفسكم، وسيجرى ذكرهن على ألسنتكم، وقد تجاوز سبحانه وتعالى لكم عن ذلك، ولم يبح لكم لقاءهن والتحدث إليهن في تكتم وخفاء، فذلك مما يثير الشكوك والريب، ويجعل لألسنة السوء مقالا، فإذا كان لكم معهن حديث فليكن حديثا مشهودا ممن يؤتمن عليه، فيعرف ما يقال، ولا يدع سبيلا إلى قالة سوء.
9. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ المراد بالكتاب هنا ما كتب على المرأة من عدّة، وأجل الكتاب عمره ومدته.. والآية تنهى عن المعالنة الصريحة، واتخاذ ما يدل على القطع بالرابطة الزوجية التي ستكون بين المعتدة المتوفى عنها زوجها وبين من يرغب في الزواج منها، فذلك من شأنه ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ أن يفسد الحكمة من هذه العدة، ويقضى على مظهر الرعاية لحرمة المتوفّى ولمشاعر أهله!
10. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ رصد لما في النفوس من وساوس وخواطر، ونيات منعقدة على الخير أو الشر، ومبيتة للإخلاص أو الخداع.. فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل شيء، مجاز على كل شيء.. فليحذره أولئك الذين يدبرون السوء، وينوون الغدر..
11. فى قوله سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ دعوة إلى التسامح والمغفرة في تلك الهنات التي تبدو من الزوجة، ووصاة بحمل هذه الهنات على محمل حسن، وألا يبادر المطلعون على هذه الهنات بإصدار أحكام الاتهام.. ولينظروا إلى مغفرة الله التي وسعت ذنوبهم، وإلى حلمه الذي أمهلهم فلم يمجل بأخذهم بها!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/280.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ انتقال إلى بيان عدة الوفاة بعد الكلام عن عدة طلاق وما اتصل بذلك من أحكام الإرضاع عقب الطلاق، تقصيا لما به إصلاح أحوال العائلات، فهو عطف قصة على قصة.
2. يتوفون مبني للمجهول، وهو من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول مثل عني واضطر، وذلك في كل فعل قد عرف فاعله ما هو، أو لم يعرفوا له فاعلا معينا، وهو من توفاه الله أو توفاه الموت فاستعمال التوفي منه مجاز، تنزيلا لعمر الحي منزلة حق للموت، أو لخالق الموت، فقالوا: توفى فلان كما يقال: توفى الحق ونظيره قبض فلان، وقبض الحق فصار المراد من توفى: مات، كما صار المراد من قبض وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية وجاء الإسلام فقال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ [الزمر: 42] وقال: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 15] وقال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11] فظهر الفاعل المجهول عندهم في مقام التعليم أو الموعظة، وأبقي استعمال الفعل مبنيا للمجهول فيما عدا ذلك إيجازا وتبعا للاستعمال.
3. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ خبر (الذين) وقد حصل الربط بين المبتدأ والخبر بضمير ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾، العائد إلى الأزواج، الذي هو مفعول الفعل المعطوف على الصلة، فهن أزواج المتوفين؛ لأن الضمير قائم مقام الظاهر، وهذا الظاهر قائم مقام المضاف إلى ضمير المبتدأ، بناء على مذهب الأخفش والكسائي من الاكتفاء في الربط بعود الضمير على اسم مضاف إلى مثل العائد، وخالف الجمهور في ذلك، كما في (التسهيل) و(شرحه)، ولذلك قدروا هنا: (ويذرون أزواجا يتربصن) بعدهم كما قالوا: (السّمن منوان بدرهم) أي منه، وقيل: التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم إلخ يتربصن، بناء على أنه حذف لمضاف، وبذلك قدر في (الكشاف) داعي إليه كما قال التفتازاني، وقيل التقدير: ومما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، ونقل ذلك عن سيبويه، فيكون ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾: استئنافا، وكلها تقديرات لا فائدة فيها بعد استقامة المعنى.
4. ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ تقدم بيانه عند قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: 228]
5. تأنيث اسم العدد في قوله تعالى: ﴿وَعَشْرًا﴾ لمراعاة الليالي، والمراد: الليالي بأيامها؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم ولا يوم بلا ليلة، والعرب تعتبر الليالي في التاريخ والتأجيل، يقولون: كتب لسبع خلون في شهر كذا، وربما اعتبروا الأيام كما قال تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة: 196] وقال: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184] لأن عمل الصيام إنما يظهر في اليوم لا في الليلة، قال في (الكشاف): والعرب تجري أحكام التأنيث والتذكير في أسماء الأيام إذا لم تجر على لفظ مذكور، بالوجهين قال تعالى: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ [طه: 103 ـ 104] فأراد بالعشر: الأيام ومع ذلك جردها من علامة تذكير العدد، لأن اليوم يعتبر مع ليلته.
6. جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركا بينا، محافظة على أنساب الأموات؛ فإنه جعل عدة الطلاق ما يدل على براءة الرحم دلالة ظنية وهو الأقراء على ما تقدم؛ لأن المطلق يعلم حال مطلقته من طهر وعدمه، ومن قربانه إياها قبل الطلاق وعدمه، وكذلك العلوق لا يخفى فلو أنها ادعت عليه نسبا وهو يوقن بانتفائه، كان له في اللعان مندوحة، أما الميت فلا يدافع عن نفسه، فجعلت عدته أمدا مقطوعا بانتفاء الحمل في مثله وهو الأربعة الأشهر والعشرة، فإن الحمل يكون نطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم ينفخ فيه الروح، فما بين استقرار النطفة في الرحم إلى نفخ الروح في الجنين أربعة أشهر، وإذ قد كان الجنين عقب نفخ الروح فيه يقوى تدريجا، جعلت العشر الليالي الزائدة على الأربعة الأشهر، لتحقق تحرك الجنين تحركا بينا، فإذا مضت هذه المدة حصل اليقين بانتفاء الحمل؛ إذ لو كان ثمة حمل لتحرك لا محالة، وهو يتحرك لأربعة أشهر، وزيدت عليها العشر احتياطا لاختلاف حركات الأجنة قوة وضعفا، باختلاف قوى الأمزجة.
7. عموم ﴿الَّذِينَ﴾ في صلته وما يتعلق بها من الأزواج، يقتضي عموم هذا الحكم في المتوفى عنهن، سواء كن حرائر أم إماء، وسواء كن حوامل أم غير حوامل، وسواء كن مدخولا بهن أم غير مدخول بهن.
8. أما الإماء فقال جمهور العلماء: إن عدتهن على نصف عدة الحرائر قياسا على تنصيف الحد، والطلاق، وعلى تنصيف عدة الطلاق، ولم يقل بمساواتهن للحرائر، في عدة الوفاة إلّا الأصم، وفي رواية عن ابن سيرين إلّا أمهات الأولاد فقالت طائفة: عدتهن مثل الحرائر، وهو قول سعيد والزهري والحسن والأوزاعي وإسحاق وروي عن عمرو بن العاص، وقالت طوائف غير ذلك، وإن إجماع فقهاء الإسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية، فبنا أن ننظر إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق، فيما نصف له فيه حكم شرعي، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولا كاملا، أبقى لهن ثلث الحول، كما أبقى للميت حق الوصية بثلث ماله، وليس لها حكمة غير هذين؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق، وليس هذا الوجه الثاني بصالح للتعليل، لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية، فتبقي منه تراثا سيئا، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت والجزع له، الذي كان عند الجاهلية عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين: الإنسانية والرق، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفا صالحا للتأثير في هذا الحكم، وإنما نصفت للعبد أحكام ترجع إلى المناسب التحسيني: كتنصيف الحد لضعف مروءته، ولتفشي السرقة في العبيد، فطرد حكم التنصيف لهم في غيره، وتنصيف عدة الأمة في الطلاق الوارد في الحديث، لعلة الرغبة في مراجعة أمثالها، فإذا جاء راغب فيها بعد قرئين تزوجت، ويطرد باب التنصيف أيضا، فالوجه أن تكون عدة الوفاة للأمة كمثل الحرة، وليس في تنصيفها أثر، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق.
9. أما الحوامل فالخلاف فيهن قوي:
أ. فذهب الجمهور إلى أن عدتهن من الوفاة وضع حملهن، وهو قول مالك، عمر وابنه وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي هريرة، وهو قول عمر: (لو وضعت حملها وزوجها على سريره لم يدفن لحلت للأزواج) وحجتهم:
• حديث سبيعة الأسلمية زوج سعد بن خولة، توفي عنها بمكة عام حجة الوداع وهي حامل فوضعت حملها بعد نصف شهر كما في (الموطأ)، أو بعد أربعين ليلة، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال لها: (قد حللت فانكحي إن بدا لك)
• واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية سورة الطلاق [4] ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ وعموم (أولات الأحمال)، مع تأخر نزول تلك السورة عن سورة البقرة يقضي بالمصير إلى اعتبار تخصيص عموم ما في سورة البقرة، وإلى هذا أشار قول ابن مسعود (من شاء باهلته، لنزلت سورة النساء القصرى ـ يعني سورة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: 1] ـ بعد الطولى) أي السورة الطولى أي البقرة ـ وليس المراد سورة النساء الطولى.
• وعندي أن الحجة للجمهور، ترجع إلى ما قدمناه من أن حكمة عدة الوفاة هي تيقن حفظ النسب، فلما كان وضع الحمل أدل شيء على براءة الرحم كان مغنيا عن غيره، وكان ابن مسعود يقول: (أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة) يريد أنها لو طال أمد حملها لما حلت.
ب. وعن علي وابن مسعود أن عدة الحامل في الوفاة أقصى الأجلين، واختاره سحنون من المالكية فقال بعض المفسرين: إن في هذا القول جمعا بين مقتضى الآيتين، وقال بعضهم: في هذا القول احتياط، وهذه العبارة أحسن؛ إذ ليس في الأخذ بأقصى الأجلين جمع بين الآيتين بالمعنى الأصولي؛ لأنّ الجمع بين المتعارضين معناه أن يعمل بكلّ منهما: في حالة أو زمن أو أفراد، غير ما أعمل فيه بالآخر، بحيث يتحقق في صورة الجمع عمل بمقتضى المتعارضين معا، ولذلك يسمون الجمع بإعمال النصين، والمقصود من الاعتداد تحديد أمد التربص والانتظار، فإذا نحن أخذنا بأقصى الأجلين، أبطلنا روي في شأنه عن الزهري في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة)، مقتضى إحدى الآيتين لا محالة؛ لأننا نلزم المتوفى عنها بتجاوز ما حددته لها إحدى الآيتين، ولا نجد حالة نحقق فيها مقتضاهما، كما هو بين، فأحسن العبارتين أن نعبر بالاحتياط وهو أن الآيتين تعارضتا بعموم وخصوص وجهي، فعمدنا إلى صورة التعارض وأعملنا فيها مرة مقتضى هذه الآية، ومرة مقتضى الأخرى، ترجيحا لأحد المقتضيين في كل موضع بمرجح الاحتياط فهو ترجيح لا جمع لكن حديث سبيعة في الصحيح أبطل هذا المسلك للترجيح كما أن ابتداء سورة الطلاق [4] بقوله تعالى: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ ينادي على تخصيص عموم قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4] هنالك بالحوامل المطلقات، وقد قيل: إن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور وهو ظاهر حديث (الموطأ) في اختلافه وأبي سلمة في ذلك، وإرسالهما من سأل أم سلمة ا، فأخبرتهما بحديث سبيعة.
10. سؤال وإشكال: كيف لا تلتفت الشريعة على هذا إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن؟ وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة؟ وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر؟ والجواب: كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضا على كل متوفى عنها، والأزواج في هذا الحزن متفاوتات، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات أو كارهات، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكما في هذا الشأن، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن وجدتهن، كما يوكل جميع الجبليات والطبيعيات إلى الوجدان؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار والحديث ونحو هذا، وإنما اهتم بالمقصد الشرعي وهو حفظ الأنساب، فإذا قضى حقه فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهن ما يشأن من المعروف، كما قال ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ﴾ فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل.
11. أما الأزواج غير المدخول بهن فعليهن عدة الوفاة دون عدة الطلاق لعموم هذه الآية، ولأن لهن الميراث، فالعصمة تقررت بوجه معتبر، حتى كانت سبب إرث، وعدم الدخول بالزوجة لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية، إذ هي حلال له، فأوجب عليها الاعتداد احتياطا لحفظ النسب، ولذلك قال مالك، وإن كان للنظر فيه مجال، فقد تقاس المتوفى عنها زوجها الذي لم يدخل بها على التي طلقها زوجها قبل أن يمسها، التي قال الله تعالى فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، وقد ذكروا حديث بروع بنت واشق الأشجعية، رواه الترمذي عن معقل بن سنان الأشجعي: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها أن لها مثل صداق نسائها، وعليها العدة ولها الميراث ولم يخالف أحد في وجوب الاعتداد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب مهر المثل لها.
12. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي إذا انتهت المدة المعينة بالتربص، أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة، وجعل امتداد التربص بلوغا، على وجه الإطلاق الشائع في قولهم بلغ الأمد، وأصله اسم البلوغ وهو الوصول، استعير لإكمال المدة تشبيها للزمان بالطريق الموصلة إلى المقصود، والأجل مدة من الزمن جعلت ظرفا لإيقاع فعل في نهايتها أو في أثنائها تارة، وضمير ﴿أَجَلُهُنَّ﴾ للأزواج اللائي توفي عنهن أزواجهن، وعرف الأجل بالإضافة إلى ضميرهن دون غير الإضافة من طرق التعريف لما يؤذن به إضافة أجل من كونهن قضين ما عليهن، فلا تضايقوهن بالزيادة عليه، وأسند البلوغ إليهن وأضيف الأجل إليهن، تنبيها على أن مشقة هذا الأجل عليهن.
13. معنى الجناح هنا: الحرج، لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرع النساء إلى التزوج بعد عدة الوفاة وقبل الحول، فإن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذلك، فنفى الله هذا الحرج، وقال: ﴿فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ تغليظا لمن يتحرج من فعل غيره، كأنه يقول لو كانت المرأة ذات تعلق شديد بعهد زوجها المتوفى، لكان داعي زيادة تربصها من نفسها، فإذا لم يكن لها ذلك الداعي، فلما ذا التحرج مما تفعله في نفسها، ثم بين الله ذلك وقيده بأن يكون من المعروف نهيا للمرأة أن تفعل ما ليس من المعروف شرعا وعادة، كالإفراط في الحزن المنكر شرعا وعادة، أو التظاهر بترك التزوج بعد زوجها، وتغليظا للذين ينكرون على النساء تسرعهن للتزوج بعد العدة، أو بعد وضع الحمل، كما فعلت سبيعة أي فإن ذلك من المعروف.
14. دل مفهوم الشرط في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ على أنهن في مدة الأجل منهيات عن أفعال في أنفسهن كالتزوج وما يتقدمه من الخطبة والتزين، فأما التزوج في العدة فقد اتفق المسلمون على منعه، وسيأتي تفصيل القول فيه عند قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ [البقرة: 235]، وأما ما عداه، فالخلاف مفروض في أمرين: في الإحداد، وفي ملازمة البيت.
15. الإحداد هو مصدر أحدّت المرأة إذا حزنت ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة، ويقال حداد، والمراد به في الإسلام ترك المعتدة من الوفاة الزينة والطيب ومصبوغ الثياب إلّا الأبيض، وترك الحلي، وهو واجب بالسنة ففي الصحيح (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا)، ولم يخالف في هذا إلّا الحسن البصري، فجعل الإحداد ثلاثة أيام لا غير وهو ضعيف.
16. الحكمة من الإحداد سد ذريعة كل ما يوسوس إلى الرجال من رؤية محاسن المرأة المعتدة، حتى يبتعدوا عن الرغبة في التعجل بما لا يليق، ولذلك اختلف العلماء في الإحداد على المطلقة، فقال مالك والشافعي وربيعة وعطاء: لا إحداد على مطلقة، أخذا بصريح الحديث، وبأن المطلقة يرقبها مطلقها ويحول بينها وبين ما عسى أن تتساهل فيه، بخلاف المتوفى عنها كما قدمناه، وقال أبو حنيفة والثوري وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وابن سيرين: تحد المطلقة طلاق الثلاث كالمتوفى عنها، لأنهما جميعا في عدة يحفظ فيها النسب، والزوجة الكتابية كالمسلمة في ذلك عند مالك، تجبر عليه وبه قال الشافعي، والليث، وأبو ثور، لاتحاد العلة، وقال أبو حنيفة وأشهب وابن نافع وابن كنانة من المالكية: لا إحداد عليها، وقوفا عند قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)، فوصفها بالإيمان، وهو متمسك ضئيل، لأن مورد الوصف ليس مورد التقييد، بل مورد التحريض على امتثال أمر الشريعة.
17. شدد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أمر الإحداد، ففي (الموطأ): (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها، أفتكحلهما ـ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (لا لا) مرتين أو ثلاثا (إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول)، وقد أباح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة في مدة إحدادها على أبي سلمة أن تجعل الصبر في عينيها بالليل وتمسحه بالنهار، وبمثل ذلك أفتت أم سلمة امرأة حادا اشتكت عينيها أن تكتحل بكحل الجلاء بالليل وتمسحه بالنهار، روي ذلك كله في (الموطأ)، قال مالك: (وإن كانت الضرورة فإن دين الله يسر): ولذلك حملوا نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المرأة التي استفتته أمها أن تكتحل على أنه علم من المعتدة أنها أرادت الترخص، فقيضت أمها لتسأل لها.
18. ملازمة معتدة الوفاة بيت زوجها ليست مأخوذة من هذه الآية؛ لأن التربص تربص بالزمان لا يدل على ملازمة المكان، والظاهر عندي أن الجمهور أخذوا ذلك من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240] فإن ذلك الحكم لم يقصد به إلّا حفظ المعتدة، فلما نسخ عند الجمهور بهذه الآية، كان النسخ واردا على المدة وهي الحول، لا على بقية الحكم، على أن المعتدة من الوفاة أولى بالسكنى من معتدة الطلاق التي جاء فيها ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] وجاء فيها ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ [الطلاق: 6] وقال المفسرون والفقهاء: ثبت وجوب ملازمة البيت بالسنة، ففي (الموطأ) و(الصحاح) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال للفريعة ابنة مالك بن سنان الخدري، أخت أبي سعيد الخدري لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)، وهو حديث مشهور، وقضى به عثمان بن عفان وفي (الموطأ) أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج، وبذلك قال ابن عمر، وبه أخذ جمهور فقهاء المدينة والحجاز والعراق والشام ومصر، ولم يخالف في ذلك إلّا علي وابن عباس وعائشة وعطاء والحسن وجابر بن زيد وأبو حنيفة وداوود الظاهري، وقد أخرجت عائشة أختها أم كلثوم حين توفي زوجها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة، وكانت تفتي بالخروج، فأنكر كثير من الصحابة ذلك عليها، قال الزهري: فأخذ المترخصون بقول عائشة، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر، واتفق الكل على أن المرأة المعتدة تخرج للضرورة، وتخرج نهارا لحوائجها، من وقت انتشار الناس إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلّا في المنزل، وشروط ذلك وأحكامه، ووجود المحل للزوج، أو في كرائه، وانتظار الورثة بيع المنزل إلى ما بعد العدة، وحكم ما لو ارتابت في الحمل فطالت العدة، مبسوطة في كتب الفقه والخلاف، فلا حاجة بنا إليها هنا.
19. من القراءات الشاذة في هذه الآية ما ذكره في (الكشاف) أن عليا قرأ ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ﴾ بفتح التحتية على أنه مضارع توفى، مبنيا للفاعل بمعنى مات بتأويل إنه توفى أجله أي استوفاه، وأنا، وإن كنت التزمت ألا أتعرض للقراءات الشاذة، فإنما ذكرت هذه القراءة لقصة طريفة فيها نكتة عربية، أشار إليها في (الكشاف) وفصلها السكاكي في (المفتاح)، وهي أن عليا كان يشيع جنازة، فقال له قائل: من المتوفي؟ بلفظ اسم الفاعل (أي بكسر الفاء سائلا عن المتوفى ـ بفتح الفاء ـ فلم يقل: فلان بل قال (الله) مخطئا إياه، منبها له بذلك على أنه يحق أن يقول: من المتوفى بلفظ اسم المفعول، وما فعل ذلك إلّا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفي على الوجه الذي يكسوه جزالة وفخامة، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه ـ أي إلى علي ـ (والذين يتوفون منكم) بلفظ بناء الفاعل على إرادة معنى: والذين يستوفون مدة أعمارهم، وفي (الكشاف) أن القصة وقعت مع أبي الأسود الدؤلي، وأن عليا لما بلغته أمر أبا الأسود أن يضع كتابا في النحو، وقال: إن الحكاية تناقضها القراءة المنسوبة إلى علي، فجعل القراءة مسلمة وتردد في صحة الحكاية، وعن ابن جني: أن الحكاية رواها أبو عبد الرحمن السلمي عن علي، قال ابن جني: (وهذا عندي مستقيم لأنه على حذف المفعول أي والذين يتوفون أعمارهم أو آجالهم، وحذف المفعول كثير في القرآن وفصيح الكلام)، وقال التفتازاني (ليس المراد أن للمتوفي معنيين: أحدهما الإماتة وثانيهما الاستيفاء وأخذ الحق، بل معناه الاستيفاء وأخذ الحق لا غير، لكن عند الاستعمال قد يقدر مفعوله النفس فيكون الفاعل هو الله تعالى أو الملك، وهذا الاستعمال الشائع، وقد يقدر مدة العمر فيكون الفاعل هو الميت لأنه الذي استوفى مدة عمره، وهذا من المعاني الدقيقة التي لا يتنبه لها إلّا البلغاء، فحين عرف عليّ من السائل عدم تنبهه لذلك لم يحمل كلامه عليه).
20. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصا على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه.
21. الجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، وقوله تعالى: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ﴾ ما موصولة، وما صدقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام، وقد بينه بقوله: ﴿مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ فدل على أن المراد كلام.
22. مادة فعّل فيه دالة على الجعل مثل صوّر، مشتقة من العرض ـ بضم العين ـ وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب، والجانب هو الطرف، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب، ونظير هذا قولهم جنبه، أي جعله في جانب، فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئا، غير المدلول عليه بالتركيب وضعا، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة: إما ملازمة أو مماثلة، وذلك كما يقول العافي لرجل كريم: جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله:
إذا أثنى عليك المرء يوما...كفاه عن تعرّضه الثّناء
وجعل الطيبي منه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 116]، فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة، وكقول القائل (المسلم من سلّم المسلمون من لسانه) في حضرة من عرف بأذى الناس، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة ـ لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله ـ صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة، وإن شئت قلت: المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب، وهذا هو الملاقي لما درج عليه الزمخشري في هذا المقام، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيها بها، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما، فالنسبة بينهما عنده التباين، وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام (الكشاف) على هذا، ولا إخاله يتحمله.
23. إذ قد تبين لك معنى التعريض، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية.
24. إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه وقد يريده لغيره بوساطته، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض، فقد روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة ابنة قيس، وهي في عدتها من طلاق زوجها عمرو بن حفص آخر الثلاث (كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك) أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية (فإذا حللت فآذنيين)، وبعد انقضاء عدتها خطبها لأسامة بن زيد، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة، ووقع في (الموطأ): أن القاسم بن محمد كان يقول في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: (إنك عليّ لكريمة وإني فيك لراغب)، فأما إنك عليّ لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها وما هو بصريح، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله: (قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحا فينبغي ترك مثله) ويذكر عن محمد الباقر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عرض لأم سلمة في عدتها من وفاة أبي سلمة، ولا أحسب ما روي عنه صحيحا، وفي (تفسير ابن عرفة): (قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة كان يقول: (إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة).
25. لفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق، وحكى القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة: من وفاة أو طلاق، وهو يخالف كلام القرطبي، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعد وفاة ومنعه في عدة الطلاق، وهو ظاهر ما حكاه في (الموطأ) عن القاسم بن محمد.
26. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الإكنان الإخفاء، وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلّا عن عزم في النفس، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض، أنّ المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه، فلما كان كذلك، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر، لضعف الصبر على الكتمان، بين الله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس، مع الإبقاء على احترام حالة العدة، مع بيان علة هذا الترخيص، وأنه يرجع إلى نفي الحرج، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل.
27. أخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جاريا على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللّاحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن هذه المخالفة ترمي إلى غرض، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر، وقد زاد ذلك إيضاحا بقوله عقبه: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم، فحصل بتأخير ذكر ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ﴾ فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ وجاء النظم بديعا معجزا، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر.
28. ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ استدراك دل عليه الكلام، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضا؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن كما تقول: علمت أنك تفعل كذا تريد: إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه، وقد علمت فعله، لآخذنه كما قال: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: 187] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل: هذا استدراك على كلام محذوف أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن، أي لا تصرحوا وتواعدوهن، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج.
29. السر أصله ما قابل الجهر، وكنى به عن قربان المرأة.. والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقته، فيكون ﴿سِرًّا﴾ منصوبا على الوصف لمفعول مطلق أي وعدا صريحا سرا، أي لا تكتموا المواعدة، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة.
30. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعدا معروفا، وهو التعريض الذي سبق في قوله تعالى: ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ﴾ فإن القول المعروف من أنواع الوعد إلا أنه غير صريح، وإذا كان النهي عن المواعدة سرا، علم النهي عن لمواعدة جهرا بالأولى، والاستثناء على هذا في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ متصل، والقول المعروف هو المأذون فيه، وهو التعريض، فهو تأكيد لقوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ﴾ الآية.
31. قيل: المراد بالسر هنا كناية، أي لا تواعدوهن قربانا، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح، فيكون ﴿سِرًّا﴾ مفعولا به لتواعدوهن، ويكون الاستثناء منقطعا، لأن القول ليس من أنواع النكاح، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول، والقول خطبة: صراحة أو تعريضا وهذا بعيد: لأن فيه كناية على كناية، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه، فإن قلتم حظر: صريح الخطبة والمواعدة، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض، فإن مآل التصريح والتعريض واحد، فإذا كان قد حصل بين الخاطب والمعتدة العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب، إن كان المفاد واحدا قلت: قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتدة بالبناء بها؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهي عنه، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة، بله المواعدة فيبقى حجاب الحياء مسدولا بينهما وبرقع المروءة غير منضي وذلك من توفير شأن العدة فلذلك رخص في التعريض تيسيرا على الناس، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة.
32. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ العزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به، والمعنى: لا تعقدوا عقدة النكاح، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت، قاله النحاس وغيره، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح، ونهي عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه، وقيل: نهى عن العزم مبالغة، والمراد النهي عن المعزوم عليه، مثل النهي من الاقتراب في قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض، كقولهم ضربة الظهر والبطن، وقيل ضمن عزم معنى أبرم قاله صاحب (المغني) في الباب الثامن.
33. الكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد، والأجل المدة المعينة لعمل ما، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام، كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ [البقرة: 234] آنفا.
34. الآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض، فأما النكاح أي عقده في العدة، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقا، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أو لا؟ فالجمهور على أنه لا يتأبد، وهو قول عمر بن الخطاب، ورواية ابن القاسم عن مالك في (المدونة)، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أنه يتأبد، ولا يعرف مثله عن غير مالك، وأما الدخول في العدة ففيه الفسخ اتفاقا، واختلف في تأبيد تحريمها عليه فقال عمر بن الخطاب ومالك والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل بتأبد تحريمها عليه، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، وهو أصل ضعيف، وقال علي وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والشافعي: بفسخ النكاح ولا يتأبد التحريم، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب، وقد قيل: إن عمر رجع إليه وهو الأصح، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية في عدتها ففرق عمر بينهما وجعل مهرها على بيت المال، فبلغ ذلك عليا فقال: (يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة) قيل له: (فما تقول أنت)؟ قال (لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما)، واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه، فينبغي له أن يترك التعريج عليه، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم.
35. الخطبة في العدة والمواعدة حرام مواجهة المرأة بها، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها، فقال مالك: يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها، وروى عنه ابن وهب: فراقها أحب إليّ، وقال الشافعي: الخطبة حرام، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح.
36. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، عطف على الكلام السابق في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ وابتدئ الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول، في هذا الشأن، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة، وقدم تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ [البقرة: 223].
37. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ تذييل، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا، وإن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/421.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفراق بين الزوجين والأحكام التي تتبع عند الافتراق، وأن الزواج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وأنه إذا لم يكن واحدا منهما فهو الكفر في الإسلام، أو الجهل بأحكامه أو الزيغ عن قانونه، والخروج من ربقته ونظامه؛ ثم أشار سبحانه إلى حقوق ثمرة الزواج في حالي الوفاق والخلاف، وأنها حقوق مقررة في الحالين، بعد ذلك بيّن الحكم إذا فرّق بين الزوجين الموت، فذكر القيود المعقولة التي تقيد بها المرأة، وبعدها تكون الحرية التي يكون من آثارها اختيار الزوج الكفء، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾
2. في هذه الآية الكريمة يتبين عدة المتوفى عنها زوجها، وهى أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام؛ وعبر سبحانه عن العشر بما يدل على أن المعدود مؤنث؛ إذ إنه حذف التاء، فدل على أن المراد عشر ليال والمؤدى واحد، ولكن التعبير بالليالي فيه فائدة أكبر من التعبير بالأيام؛ لأن فيه إشارة إلى أن تقدير الأشهر بالقمرية كما نوهنا؛ لأن الليالي هي التي تعرف فيها أحوال القمر وأدواره؛ فكان التعبير بها توجيها لما يكون فيها، وهو القمر بأطواره وأحواله.
3. قبل أن نخوض في حكمة تقدير عدة الوفاة ذلك التقدير، وما يعارض ظاهرها في سورة الطلاق؛ وما كان عليه العرب من عادات في حداد المرأة على زوجها؛ قبل ذلك نذكر بعض مباحث لفظية في تلك الجملة السامية:
أ. وأول تلك المباحث اللفظية، هو في كلمة ﴿يُتَوَفَّوْنَ﴾ بالبناء للمجهول، ولم تقرأ غير ذلك؛ لأن الفعل توفى متعد؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر] فإذا لم يذكر الفاعل بنى للمفعول.
ب. ثانيها: في كلمة (يذرون) معناها يتركون؛ وقد ادعى علماء النحو أنه من الأفعال التي مات ماضيها، ولم يعرف إلا فعل المستقبل لها؛ مضارعا كان أو أمرا؛ ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري ما دل على أن ماضيها حي وليس بميت؛ فقد جاء فيه ما نصه: (ذره واحذره والعرب أماتت المصدر منه فيقولون: ذر تركا، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه)، ونرى من هذا أن ذلك العالم اللغوي العظيم لم يعترف إلا بأن العرب أماتوا المصدر، أما الماضي فلم يميتوه، وذكر الاستعمال الذي يدل على حياته، فقال: (إنهم إذا قيل لهم: ذروه، قالوا: وذرناه).
ج. ثالث المباحث اللفظية: في كلمة (أزواج) وهى جمع لزوج، وهو كلمة تفيد بأصل معناها الدلالة على اثنين اتحدا في الخواص والصفات وكل المشخصات حتى صار كل واحد منهما صورة كاملة من الثاني، وكأنه هو في شخصه؛ ولذلك أطلق على كل واحد منهما بأنه زوج، وأطلق على كل واحد من الرجل والمرأة بعد ذلك العقد المقدس بأنه زوج؛ لأنه ثاني اثنين قد امتزجت حياتهما، وتلاءمت شخصياتهما حتى صار كل واحد منهما كأنه صورة من الآخر، وكأنه شخصه في كونه ووجوده لما ارتبطا به من حياة، ولكمال الخلطة بينهما، ولتماثل الحقوق والواجبات عليهما ولاتحاد شخصيتهما بذلك الزواج الموحّد بينهما.
د. رابع المباحث اللفظية: في كلمة (يتربصن) والتربص معناه الانتظار؛ فقد قال تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون] وقال تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ [التوبة] وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور] وفى كل هذه الآيات الكريمة كان التربص معناه الانتظار مع الترقب؛ والتربص من المتوفى عنها زوجها في هذا المعنى تقريبا، و(يتربصن) هي خبر في معنى الطلب فالمعنى ليتربصن، كقوله تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة] وفى ذلك إشارة إلى أن التربص أمر نظري يتلاقى مع الأمر الشرعي فإن الحرة الكريمة لا ترضى لنفسها ولا ترضى معها أسرتها أن تتزوج فور وفاة زوجها، أو بعدها بمدة قليلة؛ فإن ذلك أمر مستهجن في الفطرة السليمة، وفى الشرع الحكيم، وفى عرف الناس، ولا ترضى العقول به والمدارك الصحيحة، وكان مع ذلك التعبير بقوله تعالى: ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ فيه إشارة إلى أن ذلك التربص فيه صيانة لأنفسهن، وحفظ لكرامتهن، ودفع لمعنى الامتهان والعار الذي يلحق المرأة من أن يموت ضجيعها، فلا تلبث إلا قليلا بعد أن يسجى ويدفن، حتى تعرض نفسها طالبة الأزواج، كأنه ليس المتوفى عشيرا أليفا يستحق الحداد.
4. سؤال وإشكال: حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات؛ لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر، فلماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض، فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاثة؟ والجواب: لم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا ـ وإن كانت الحكمة الشرعية السامية قد تعلو على مداركنا ـ هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها، وللصغيرة والكبيرة، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انته بوفاة أحد ركنيه، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع ما دام السبب واحدا في الجميع؛ وفوق ذلك إن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض، وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع؛ وفى المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها، أو يظهر كذبها، وهى تخشى صولته، فتبتعد ما أمكن عن المراء؛ أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خاصا، فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل؛ لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب، وليست أمرا يعرف من جهتها فقط.
5. سؤال وإشكال: لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق؟ والجواب: يبدو بادى الرأي من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة، أن الطلاق نتيجة شقاق؛ فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا، ومعنى براءة الرحم وإعطاءه الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة، ويكفى لذلك نحو ثلاثة أشهر؛ أما حال الموت، فإن مرارة الفراق فيها أوضح وأشد، ومعنى الحداد يغلب فيها معنى براءة الرحم؛ ولذلك تجب على المدخول بها وغير المدخول بها؛ وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق؛ وإن الشارع الحكيم قد خفف من حدة ما كانت تعمله النسوة الجاهلية؛ فقد كانت المرأة في الجاهلية تغلق على نفسها أضيق مكان في مسكنها وتقضى فيه سنة كاملة؛ حدادا على زوجها، فجاء الإسلام، وخفف عليها وجعلها أربعة أشهر وعشرا، ولنذكر لك ما كان في الجاهلية وما كان في الإسلام، كما روى في صحاح السنة: فقد روى البخاري ومسلم عن زينب بنت أم مسلمة أنها قالت: (دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان (أبوها) فدعت أم حبيبة بطيب فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)، قالت زينب: سمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفى زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا) مرتين أو ثلاثا، ثم قال (إنما هي أربعة أشهر وعشرا، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول؟) قال الراوى ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمى بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره).، وترى من هذا أن الإسلام قد ألغى تلك العادات الجاهلية، وقصر أمد الحداد على الوفاة، فجعله أربعة أشهر وعشرا بدل سنة.
6. سؤال وإشكال: لماذا حد العدد بأربعة أشهر وعشرا؟ والجواب: إن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توقيفى خالص لا يجرى فيه القياس؛ ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه؛ وإن الحكمة يقررها العلماء في أمرين:
أ. أولهما ـ أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط، وتعرّف أعراضه وظواهره؛ وذلك لأنه لما وكل أمر براءة الرحم إلى مدة، لوحظ فيه المدة التي فيها يعرف ويستبين وتظهر أعراضه.
ب. ثانيهما ـ أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال؛ ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر، بحيث إذا حلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر، ومضى في يمينه وانتهت المدة طلقت منه، فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة، ومقاربة لها في الجملة؛ وليس من المعقول أن يعاقب الشارع الرجل إذا أصر على هجر زوجه بالفراق إذا أصر عليه أربعة أشهر، وفى الوقت نفسه يلزمها بالحداد مدة أطول من ذلك، بل ينبغي أن تكون مدة الإحداد حول هذه المدة أيضا.
7. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بيّنت الجملة السامية السابقة مدة العدة للمتوفى عنهن أزواجهن، وفى هذه الجملة الكريمة يبين سبحانه وتعالى انتهاءها وما يترتب على الانتهاء؛ والمعنى: إذا انتهت المدة المقررة للتربص؛ فلا إثم على الناس فيما يفعلن في أنفسهن من زينة واستعداد للزواج والزواج بالفعل؛ ونرى في التعبير الفعل المباح منسوبا لهن، ونفى الإثم عن الناس المتصلين بهؤلاء المتوفى عنهن أزواجهن؛ وفى ذلك دلالة على أمرين:
أ. أحدهما: أن المرأة تباح لها الزينة بالمعروف، أي بالأمر المعقول الذي تقره العقول، وتدركه الأفهام، وتعرفه أهل المدارك السليمة والأذواق الدقيقة المحكومة بشكائم الأخلاق؛ ويدخل فيما يفعلن بأنفسهن الزواج، فلها اختيار الزوج، وتولى العقد، بشرط أن يكون ذلك في دائرة العرف والتقيد بالكفاءة، وألا تجلب عارا على أسرتها وذويها.
ب. ثانيهما: أن نفى الإثم عن الجماعة فيما يفعلن بأنفسهن بالمعروف غير المستنكر، دليل على أن الجماعة الإسلامية متعاونة متآزرة متماسكة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن على كل امرئ أن يصلح من شأن أخيه، ويقوّمه بالمعروف، ويبين له أوامر الشرع وحكم الله تعالى، ولا تذهب عنه هذه المسئولية حتى يكون عمل من يكون ذا صلة به في دائرة الشرع والخلق القويم.
8. سؤال وإشكال: هذا النص للمعتدات من وفاة: أيشمل الحامل وغير الحامل، أم يختص بغير الحامل فقط؟ والجواب: لقد ورد في عدة الحامل قوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.. [الطلاق] وورد في عدة الوفاة هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها، وهذان عمومان متعارضان، أو يبدو في الظاهر أنهما متعارضان، وقد قال جمهور الفقهاء: إن آية عدة الوفاة التي نتكلم فيها خاصة بغير الحوامل؛ فعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل تكون بأربعة أشهر وعشرا، وعدة الحامل بوضع الحمل عملا بآية الحمل، فكانت آية الحمل شاملة لحال الطلاق وحال الوفاة؛ ويستدل على ذلك الرأي بالحديث الشريف؛ فإنه روى أبو داوود عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنه أفتى سبيعة الأسلمية، بأنها حلت حين وضع حملها، وكانت قد ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر، هذا رأى جمهور الفقهاء، وذلك نظرهم؛ ولكن يروى عن على، وابن عباس ما أن المعتدة الحامل من وفاة تعتد بوضع الحمل، بشرط ألا تقل العدة عن أربعة أشهر وعشر؛ أي أنها تعتد بأبعد الأجلين: وضع الحمل، أو مضى أربعة أشهر وعشر، وذلك الرأي إعمالا للآيتين الكريمتين وإمضاء لعمومهما، وهو يتفق مع الحكمة من إطالة مدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها؛ فإنه لا يتفق مع ذلك أن تنته العدة بوضع الحمل بعد ساعة من الوفاة.
9. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ذيّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا التذييل؛ لبيان أنه سبحانه وتعالى عليم علم الخبير الدقيق الذي لا تخفى عليه خافية، بما يعملون من تنفيذهم لأوامره، أو إهمالهم؛ وأن من سنته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه بعد كل أمر أو نهى يذكر رقابته سبحانه وتعالى في التنفيذ، ليعلم من يهمل ومن يطيع، ولكل جزاؤه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؛ وإذا كان المكلف يحس بأنه تحت رقابة الله دائما فإنه يراقب الله في عمله، ويكون منه الخير واجتناب الشر.
10. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ الخطبة من الخطاب، وهى مخاطبة المرأة أو ذويها في أمر زواجها؛ والتعريض ضد التصريح، وهو إفهام المراد لكلام يحتمل ما يريده المتكلم، ويحتمل غيره، وهو في ظاهره غير ما يريد، ولكن يبدو من لحن القول وإشاراته والمقام ما يريده، وهو من عرض الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به حول الشيء وعلى جوانبه ولا يظهر مراده، والنساء المراد بهن في الآية هن المتوفى عنهن أزواجهن في أثناء العدة، والإكنان في النفس أن يخفى إرادة الزواج والرغبة فيه مع الإصرار عليه، واعتزامه من غير إعلانه لأحد، ومعنى الجملة الكريمة: أنه لا إثم في التعريض بخطبة المتوفى عنهن أزواجهن، كما أنه لا إثم في الرغبة في الزواج منهن مع إكنان ذلك وستره من غير كشف وإعلان؛ لأن الكشف والإعلان قد يؤذى الميت، وهو فوق ذلك لا يليق بأهل المروءة من الرجال.
11. التصريح بالخطبة لا يجوز، حتى لا يؤذى أهل الميت، وحتى لا يدفعها إلى الامتناع عن الحداد على زواجها، فوق أن ذلك نقص في الخلق، وفساد في الذوق لا يصدر عن ذي إحساس كريم؛ فالتعريض فقط هو المباح في الخطبة في حال عدة الوفاة؛ وأساليب التعريض متباينة يبينها المقام؛ ومن ذلك ما يروى عن سكينة بنت حنظلة أنها قالت: (استأذن علىّ محمد بن على زين العابدين فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقرابتي من على، وموضعي في العرب.. فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك؛ تخطبني في عدتي قال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ومن على)، وقد أخرج الدارقطني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم دخل على أم سلمة وهى متأيمة من أبى سلمة، فقال: (لقد علمت أنى رسول الله وخيرته وموضعي في قومي)، وكانت تلك خطبة.
12. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ في هذه الجملة الكريمة يشير سبحانه وتعالى إلى طبائع النفس البشرية فيمنعها من الانسياق فيما يردى ويفسد، ويبيح لها ما لا ضرر فيه، وقد يكون فيه ما تطيب به نفوس، وتطمئن إليه قلوب، فالله سبحانه وتعالى علم أن العارفين لأخبار المتوفى عنها زوجها وأحوالها وحقيقتها، من جمال أو نحوه، ومن حسن عشرة ولطف مودة، أنهم سيذكرونها في نفوسهم ويقرنون الذكر بالرغب والاتجاه إلى طلبها، وإعلان الرغبة والتحبب إليها وإمالة قلبها؛ ولقد علم الله سبحانه وتعالى حال النفوس هذه فأباح للناس ما تكون مغبته حسنة، ومنع غيره؛ فأباح إكنان الرغبة في الأنفس وحديث النفس بها، فإن حديث النفس ليس موضع مؤاخذة؛ وأباح التعريض بالخطبة، ونهى عن أمرين:
أ. أولهما: المواعدة السرية، سواء أكانت تلك المواعدة على الزواج أو غيره.
ب. الثاني: ما اشتمل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾
13. تكلم العلماء في معنى كلمة (سرا) فقيل: إن معناها ما يكون بين الرجل وزوجه من متعة جسدية، وقيل: إن معناها عقد الزواج، وقيل إنّ سرا، معناها زنا، وروى أن ابن عباس وابن جبير والشعبي ومجاهدا وعكرمة والسدى، فسروا (سرا) بألا يأخذ عليها ميثاقا بألا تتزوج غيره في استسرار وخفية، وإن الذي نميل إليه أن (سرا) وصف لمحذوف أي لا تواعدوهن وعدا سريا بأي شكل من الأشكال، وفى أي موضوع من الموضوعات؛ لأن الإسرار يدفع إلى الخلوة فتكون الحال في مكان النهى حيث قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: (لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما) والمعنى على هذا: لا تندفعوا وراء رغباتكم فتلتقوا بهن سرا وتقولوا معهن ما تستحيون من قوله جهرا؛ إما لأنه قبيح لا يعلن، وإما لأنه في غير وقته فيستنكر القول فيه فور الوفاة؛ وذلك فوق قبح الخلوة في ذاتها.
14. استثنى سبحانه استثناء منقطعا في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً والمعنى لكن المباح لكم أن تقولوا قولا معروفا لا تستنكره العقول، وتقره الأخلاق، ولا يقبح إعلانه، بل يقال في غير استسرار؛ وبهذا الاستثناء يحد الله سبحانه فرق ما بين الحلال والحرام في هذا المقام؛ فالسرية ممنوعة أيا كان موضوعها، لما يكون معها من ملابسات محرمة، والقول المعروف الذي يكون بالتعريض، وإظهار المودة بشكل لا يؤدى إلى محرم، ولا تستهجنه العادات الفاضلة والأخلاق الكريمة، هذا حلال لا ريب فيه.
15. ذكر الزمخشري مقام (لكن) في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، مما قبلها؛ فقرر أن المعنى: علم الله أنكم ستذكرون النساء فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا، ويكون المؤدى اذكروهن ذكرا حسنا معروفا معلنا غير منكر، لا تمجه الأذواق، ولا تنبو عنه الأخلاق.
16. الأمر الثاني الذي هو في موضع النهى ما اشتمل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ العزم: القطع، وهو يتعدى بعلى، وبنفسه، فيقال: عزم الأمر وعزم عليه، وعقدة النكاح: الارتباط به، والكتاب: هو الأمر المكتوب المفروض، وهو هنا العدة، والأجل: هو انتهاء المدة المقررة للعدة والمعنى: لا تعقدوا العزم نهائيا في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها، بأن تقطعوا في أمر الخطبة فتجعلوها تصريحا بدل أن تكون تعريضا؛ فإن العزم القاطع لا يكون بالتعريض، بل يكون بالتصريح؛ لأن عبارة التعريض كيفما كانت يدخلها الاحتمال، فلا تنبئ عن القطع أو الجزم؛ وعلى ذلك يكون هذا الكلام السامي ذكرا لما فهم عند نفى الإثم عن التعريض من منع التصريح؛ وفوق ذلك فيه دلالة على منع العزم مطلقا ولو بإصرار النية، وإكنان النفس؛ لأن العاقل لا يسوغ له أن يعزم أمرا ولو في نفسه قبل أن يجيء وقته؛ لأن المستقبل بيد الله ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
17. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ في هذا الكلام الكريم الحكيم تحذير وتقريب، وتخويف ورحمة؛ إذ بيّن سبحانه أنه يعلم خلجات القلوب، وخطرات النفوس، وما تخفى الصدور وما يستكن فيها، وما يعلن؛ وإن للنفس هواجس وخواطر، فإذا همت النفس أو جالت فيها أمور تستهجن ولا تستحسن، كأن يجول بخاطره أن يكلم المعتدة من وفاة في أمر منكر لا يسوغ في الدين، ولا في العرف، ولا في الأخلاق، فليعلم أن الله عليه رقيب يعلم تلك الخواطر؛ فليحذره؛ لكيلا يبرزها إلى الوجود، فيندفع وراءها، وإنه إذا قمعها وقدع نفسه عنها، وجعلها في محيط قلبه لا تخرج منه، فإن ذلك يكون في عفو الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ يغفر الله فلا يأخذ العبد إلا بما يفعل ولا يأخذه بما يجول بخاطره، ولا بما تحدثه به نفسه، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، تبارك الله سبحانه هو المنتقم الجبار العفو القدير، الغفور الرحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/816.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتفق الفقهاء كافة على ان عدة المتوفى عنها زوجها، وهي غير حامل، أربعة أشهر وعشرة أيام، كبيرة كانت أو صغيرة، آيسة أو غير آيسة، دخل بها الزوج أو لم يدخل، واستدلوا على ذلك بهذه الآية، أما إذا كانت حاملا فقالت المذاهب الأربعة السنية: ان عدتها تنقضي بوضع الحمل، ولو بعد وفاة الزوج بلحظة، بحيث يحل لها أن تتزوج، ولو قبل الدفن، لقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وقال فقهاء الإمامية: ان عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل، والأربعة أشهر وعشرة أيام، فان مضت الأربعة والعشرة قبل الوضع اعتدت بالوضع، وان وضعت قبل مضي الأربعة والعشرة اعتدت بالأربعة والعشرة، واستدلوا على ذلك:
أ. بضرورة الجمع بين آية ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، وآية ﴿أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فالآية الأولى جعلت العدة أربعة وعشرة، وهي تشمل الحامل وغير الحامل، والآية الثانية جعلت عدة الحامل وضع الحمل، وهي تشمل المطلقة، ومن توفي عنها الزوج، فيحصل التنافي بين ظاهر الآيتين في المرأة الحامل التي تضع قبل أربعة أشهر وعشرة أيام، فبموجب الآية الثانية تنتهي العدة، لأنها وضعت الحمل، وبموجب الآية الأولى لا تنتهي، لأن الأربعة والعشرة لم تنته.
ب. وأيضا يحصل التنافي إذا مضت الأربعة والعشرة، ولم تضع الحمل، فبموجب الآية الأولى تنتهي العدة، لأن مدة الأربعة والعشرة مضت، وبموجب الآية الثانية لم تنته، لأنها لم تضع الحمل، وكلام القرآن واحد يجب أن يلائم بعضه بعضا، وإذا عطفنا احدى الآيتين على الأخرى، وجمعناهما في كلام واحد هكذا ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، إذا جمعنا الآيتين في كلام واحد يكون المعنى ان عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل، وللحامل التي تضع قبل مضي الأربعة والعشرة، وتكون عدة الوفاة للحامل التي تضع بعد مضي الأربعة والعشرة وضع الحمل.
2. سؤال وإشكال: كيف جعل الامامية عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين من وضع الحمل والأربعة والعشرة مع ان آية: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ صريحة بأن الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، والجواب: إذا قال هذا قائل أجابه الامامية كيف قالت المذاهب السنية الأربعة: ان عدة الحامل المتوفى عنها زوجها سنتان إذا استمر الحمل طوال هذه المدة ـ على مذهبهم ـ مع ان آية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ صريحة بأن العدة أربعة وعشرة، وإذا قال قائل منهم: عملا بأولات الأحمال قال قائل من الإمامية: عملا بآية والذين يتوفون.. اذن لا مجال للعمل بالآيتين إلا القول بأبعد الأجلين.
3. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي إذا انقضت عدة الوفاة فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها أيام العدة من التزيّن والتعرض للخطّاب على الوجه المعروف شرعا وعرفا، وإنما خاطب الله المسلمين المصلحين لأن عليهم من باب النهي عن المنكر أن يمنعوا المرأة إذا تجاوزت الحدود الشرعية، واتفق الفقهاء قولا واحدا على ان المعتدة عدة وفاة يجب عليها أن تجتنب كل ما يحسنها، ويرغّب في النظر اليها، ويدعو الى اشتهائها، وتعيين ذلك يعود الى أهل العرف.
4. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾، حرم الله سبحانه الزواج أثناء العدة، أية عدة تكون، بل حرم على الرجل أن يخطب المرأة صراحة أيام عدتها، حتى ولو كانت عدة وفاة، أو عدة الطلاق البائن.. وأباح سبحانه التلويح بالخطبة، دون التصريح في غير عدة الطلاق الرجعي، لأن المطلقة الرجعية لا تزال في عصمة المطلق.
5. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، كل ما يخطر في البال، ويعزم عليه القلب لا جناح فيه عند الله سبحانه، لأنه غير مقدور، وإنما المقدور هو الآثار واللواحق، فإذا عزم الرجل على الزواج من المعتدة فهو غير آثم، ولكن إذا صرح بعزمه هذا، فخطبها أو أبدى لها ما يكنّ صراحة فهو آثم، لأن العزم غير مقدور، والتصريح مقدور.. وقد جاء في الحديث: إذا حسدت فلا تبغ، فنهى عن البغي الذي هو أثر من آثار الحسد، ولم ينه عن الحسد بالذات، لأنه غير مقدور.
6. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ في أنفسكم، ولذا أباح لكم التلويح، ولو حرم عليكم التلويح والتصريح لشق ذلك عليكم، ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، حتى التلويح بالزواج أثناء العدة الرجعية أو غيرها لا يجوز في الخلوة، لأن الخلوة بين الرجل والمرأة تجر الى ما لا يرضي الله، وفي الحديث ما اختلى رجل وامرأة الا وكان الشيطان ثالثا لهما.. بخاصة إذا كانت مرغوبة لمن اختلى بها.. اللهم الا أن يكون الرجل على يقين بأن الخلوة لا تؤدي به الى الحرام في القول، ولا في الفعل، وعندها يجوز له أن يقول لها في السر ما لا يستنكر عند المهذبين في العلانية، وإلى هذا الاستثناء أشار سبحانه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.
7. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ عزما باتا قطعيا، أو لا تنشئوا عقد الزواج ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ بانقضاء العدة.
8. بعد أن اتفق المسلمون جميعا على ان العقد والخطبة الصريحة أثناء العدة من المحرمات، وان العقد باطل قطعا، ولا أثر له إطلاقا، بعد هذا الاتفاق اختلفوا فيما بينهم: هل تحرم المرأة حرمة مؤبدة على من كان قد عقد عليها أثناء العدة، أو يجوز له ان يستأنف العقد عليها والزواج منها بعد انقضاء العدة؟.
أ. قال الحنفية والشافعية: لا مانع من تزويجه بها ثانية، (بداية المجتهد).
ب. وقال الإمامية: إذا عقد عليها، مع علمه بالعدة والحرمة حرمت عليه مؤبدا، سواء ادخل أم لم يدخل، وإذا عقد عليها جاهلا بالعدة والحرمة فلا تحرم مؤبدا الا إذا دخل، وله استئناف العقد بعد العدة إذا لم يدخل.
9. هذا حكم العقد أثناء العدة، أما مجرد الخطبة فلا أثر لها إلا من حيث الإثم فقط، ومن طريف ما قرأته في هذا الباب ما جاء في احكام القرآن لأبي بكر الأندلسي المالكي، حيث قال إذا خطبها أثناء العدة، ثم عقد عليها بعد العدة فيجب عليه أن يطلقها طلقة واحدة تورعا، ثم يستأنف خطبتها والعقد عليها.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/362.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، التوفي هو الإماتة، يقال: توفاه الله إذا أماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما، والمراد بالعشر الأيام حذفت لدلالة الكلام عليه.
2. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدة، وقوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ كناية عن إعطاء الاختيار لهن في أفعالهن فإن اخترن لأنفسهن الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميت منعهن عن شيء من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع وليس لأحد أن ينهى عن المعروف.
3. كانت الأمم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبني على أساس الأنس والألفة، وللحب حرمة يجب رعايتها، وهذا وإن كان معنى قائما بالطرفين، ومرتبطا بالزوج والزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياة والاحتجاب والعفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه الأقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، وقد عين الإسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر وعشرا.
4. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها، وكان كل ذلك تشخيصا للأعمال مستندا إلى الخبرة الإلهية كان الأنسب تعليله بأن الله خبير بالأعمال مشخص للمحظور منها عن المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لأنفسهن في مورد آخر، ولذا ذيل الكلام بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
5. ﴿لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح، والفرق بين التعريض والكناية أن للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إني حسن المعاشرة وأحب النساء، أي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك: (فلان كثير الرماد) تريد أنه سخي.
6. الخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولا يقال: خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء.
7. الإكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الإكنان بما يستر في النفس كما قال ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾، والكن بما يستر بشيء من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ الصافات ـ 49، وقال تعالى: ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ الواقعة ـ 23، والمراد بالآية نفي البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في أمرها.
8. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾، في مورد التعليل لنفي الجناح عن الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: أن ذكركم إياهن أمر مطبوع في طباعكم والله لا ينهى عن أمر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم، بل يجوزه، وهذا من الموارد الظاهرة في أن دين الإسلام مبني على أساس الفطرة.
9. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره إلا أن يبطل من رأس، والعقدة من العقد بمعنى الشد، وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كان حبالة النكاح تصير الزوجين واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو أمر قلبي إشارة إلى أن سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد والإدراك، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية البقرة ـ 213 ففي الآية استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص الذي فرضه الله على المعتدات، فمعنى الآية: ولا تجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، وهذه الآية تكشف أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ﴾ الآية إنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن، وعلى هذا فاللام في قوله: ﴿النِّسَاءَ﴾ للعهد دون الجنس وغيره.
10. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ إيراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، أعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الأمور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/243.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ﴾ من الذين آمنوا فله حرمة الإسلام ﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ينتظرن بأنفسهن ويمسكنها عن الزواج ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ ليالي بأيامها وهذا عام لكل زوجة مدخولة وغير مدخولة؛ لا بد أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً من حين تعلم بوفاة زوجها.
2. ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ الذي جعله الله لهن لإباحة زواجهن ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يشير إلى أن الأولياء أو أهل الولاية مأمورون بإلزامها أن تتربص، وإنما رخص لهم بعد تمام العدة في تركها تتزين بالمعروف غير المنكر؛ فلا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.
3. في قوله تعالى: ﴿فِي أَنْفُسِهِنَّ﴾ إفادة: أنها في حال التربص لم يكن لها ذلك، وأن تركه من التربص؛ لأنها في حال التربص ليس لها أن تتعرض للأزواج.
4. ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ من حَسَن أو قبيح، ومن حسن في الظاهر وقبيح في الباطن؛ كالتحيل لبعض الزينة بشيء من الأعذار الفاسدة.
5. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ المتوفى أزواجهن لأن السياق فيهن بدلالة العطف، والمراد في حال التربص، فذلك من الرجل لا ينافي تربص المرأة؛ لأنها ليست معرضة بالتزوُّج؛ إنما التعريض من الرجل والتربص من المرأة.
6. فائدة التعريض: أن يشير إلى رغبته في تزوجها بعد العدة لئلا يسبقها عليه أحد إن أرادت، ويظهر من هذا تحريم التصريح بالخطبة لأنه لو كان جائزاً ما احتيج إلى التعريض شرعاً؛ لأنه كان يكفي أن يقول: ولا جناح عليكم في خطبة النساء، وإذا ارتفع الجناح من الشرع فكيفية الخطبة موكولة إلى الخاطب ورأيه لنفسه، فلما لم يذكر إلا التعريض فُهِم: أنه الجائز دون التصريح.
7. التعريض: أن يقول: إني محتاج إلى زوجة وإني منتظر وفاء العدة لعل الله يقسم لنا بالزواج، فإن كانت من أهل الذكاء كفاها أن يرسل لها بمسبحته أو نحو ذلك، والتعريض غير الكناية؛ لأن التعريض كلام يفهم من عرضه إرادة التزوج بها، وليس عبارة عن طلبها للتزوج به، أما الكناية فهي طلب التزويج، مثل أن يقول: أحب أن توافقيني على أن تكوني راعية لبيتي مربية لأولادي.
8. ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ فعزمتم على الخطبة وكتمتم ذلك حتى تم التربص فلا جناح عليكم في ذلك ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ بقلوبكم أو ألسنتكم أو بهما فرخص لكم فيما قال ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ فالمواعدة ممنوعة وهي أن يعدها وتعده، ووعده لها قد يكون في السر وقد يكون في العلانية بحضور أهلها مثلاً، والذي في السر مظنة أن يكون فيه كلام لا يصلح مع الأجنبية، ولا يليق بأهل الحياء، والحياء من الإيمان، وما كان ينافي الحياء فهو خلاف القول المعروف.
9. الأعراف والعادات تختلف في حد القول المعروف وخلافه، أي ما ينبغي أن يستحيى منه وما لا يستحي منه المؤمن ذو المروءة؛ باعتبار موضوع الكلام، وباعتبار طريقة التعبير التصريح والتلويح والكناية والمجاز والحد هو المعروف عند أهل الدين والمروءة من أهل البادية في البادية وأهل المدن في المدن، فأما المعروف عند الفجار الذين لا يستحيون فلا حكم له.
10. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ لا تعقدوا عقد النكاح الذي هو عزيمة لا يبقى بعده رخصة لأحد الزوجين في إهمال موجبه؛ لقول الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1] هذا تكليف آخر بشأن العقد، فقد يكون بعض العامة الجهلة حريصاً على أن لا تفوت فيطلب العقد خوفاً من أن يأتي خاطب آخر ترضاه ويعد وعداً مؤكداً أنه لا يمسها حتى تخرج من العدة وهذا هو الباطل بعينه؛ فلا حكم لعقده وهي لا تزال في خياريها تختار من شاءت.
11. ﴿الْكِتَابِ﴾ هو ما كتب الله عليها من التربص وأجله تمام أربعة أشهر وعشر ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ راقبوه واتقوا فيما تخفون في أنفسكم من الظنون والنيات والعقائد، كالظن بعدم فائدة التربص؛ لأن الميت لا يدري ما تصنع زوجته من تربص أو زواج، وهذا خطاب للجهلة والمنافقين وغيرهم.
12. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فلا يحملكم الحذر منه على ترك التعريض والإكنان في أنفسكم خوفاً من أن يقع في التعريض خطأً كلمةٌ زائدة على المباح، وهذا خطاب لأهل الورع وغيرهم، فهو ﴿غَفُورٌ﴾ يغفر الخطأ وما تاب منه فاعله ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل على معاقبة من عصاه بل يؤجله ليتوب إن شاء حتى ينتهي أجله.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/351.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ في هذه الآية حديث عن عدة الوفاة، للمرأة التي يموت زوجها، فعليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام، وعليها ـ في ما جاءت به الأحاديث ـ أن تجتنب عن كل مظاهر الزينة التي تدعو إلى الرغبة بها، فإذا انتهت العدة، كان لها أن تتصرف في حياتها بما تشاء في ما يصلح أمرها من شؤون العلاقة الزوجية الجديدة بالمعروف، الذي يبني لها مستقبلها على أساس من المصلحة المرتكزة على حدود الله في ما يأمر به وينهى عنه، فإن الله خبير بما يعمله الناس في سرّهم وعلانيتهم، مما يدفع بهم إلى مراقبته في ذلك كله.
2. هناك أحاديث فقهية، أثارها الفقهاء في أجواء هذه الآية حول شمول هذه العدة للنساء مطلقا في ما عدا الحامل، أما الحامل، فقد ذهب جمهور الفقهاء من أهل السنّة إلى أن عدتها وضع الحمل، انطلاقا من الآية الكريمة: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، وذهب فقهاء الإمامية، إلى أن عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ومن الأربعة أشهر وعشرة، فقد كانت المرأة الأرملة قبل الإسلام لا تمس طيبا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتقتض به فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره، والاقتضاض ـ بالقاف ـ هو: التمسح بها قيل: كانت تمسح به جلدها، قال ابن قتيبة: (سألت الحجازيين عن الاقتضاض، فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تقتض أي تكسر ما كانت فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها، فلا يكاد يعيش ما تقتض به)، والمراد أنه يموت من نتنها.
3. قد نجد في هذا وأمثاله كيف انطلق الإسلام بالتشريع ليراعي الجانب العاطفي والاجتماعي للمرأة دون أن يفقدها إنسانيتها من موقع الحرية في أن تمارس حقها في الحزن بشكل طبيعي، كما تمارس حقها في الممارسات الطبيعية للحياة بطريقة معقولة لا تتنكر لمظاهر الحزن ومشاعره.. ثم أعطاها المجال الكبير لتصنع بنفسها ما تريد في الاقتران بإنسان آخر في ما تفرضه عليها الحاجة إلى الزواج، بعيدا عن كل التقاليد الظالمة التي تنكر عليها الزواج باسم الوفاء للزوج، فإنه لا معنى للوفاء في هذا المجال لإنسان تحول إلى عالم آخر، لا يفكر فيه بأي شيء يحدث في هذا العالم من سرور وحزن، أو لذة وألم.. ولهذا فإن للمرأة أن تتزوج بعد انتهاء العدة من دون أن تشعر بأي تأنيب ضمير من وجهة نظر إنسانية إسلامية.
4. لعل من الواجب على العاملين في الحقل الإسلامي أن يعمدوا إلى مواجهة هذه التقالية التي درجت عليها بعض المجتمعات في منع الزوجة من الزواج بعد وفاة زوجها، وذلك من موقع الالتزام الأخلاقي، فيثيروا حولها الشجب والإنكار لتتغير إلى تقاليد إيجابية جديدة من خلال التشريع القرآني العادل، وقد يجب علينا أن نبادر إلى مواجهة بعض مظاهر الحزن التي تفرض على المرأة من موقع التقاليد الاجتماعية، في ما يزيد على المقدار المتعارف الذي تقتضيه العاطفة الهادئة، وذلك باللجوء إلى صبغ الوجه بالسواد أو لطم الصدور، وما أشبه ذلك مما لا يرتضيه الإسلام، ويعتبره من مظاهر الجزع المحرّم الذي يريد للمرأة ـ حفظا لكرامتها وإنسانيتها ـ أن لا تنسحق تحت ووطأة الحزن المريض، وقد كانت بعض الأمم تقضي بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت ودفنها معه، وهناك من يحكم بعدم زواجها بعده إلى آخر عمرها.
5. ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ من زوجاتهم الباقيات على قيد الحياة بعدهم، ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، جاء في كتاب الكافي ـ عن الإمام أبي جعفر محمد الجواد عليه السّلام، مما رواه محمد بن سليمان عنه، قال: قلت له: جعلت فداك، كيف صارت عدة المطلقة ثلاثة حيضات أو ثلاثة أشهر، وصارت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؟ فقال: أما عدة المطلقة ثلاثة قروء، فلاستبراء الرحم من الولد، وأما عدة المتوفى عنها زوجها، فإن الله عزّ وجل شرط للنساء شرطا وشرط عليهن شرطا، فلم يحابهن في ما شرط لهن ولم يجر في ما اشترط عليهن، شرط لهن في الإيلاء أربعة أشهر، إذ يقول الله عز وجل: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ [البقرة: 226] فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك وتعالى أنه غاية صبر المرأة من الرجل، وأما ما شرط عليهن، فإنه أمرها أن تعتد إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه من حياته عند إيلائه قال الله تبارك وتعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً، ولم يذكر العشرة الأيام في العدة إلا مع الأربعة أشهر، وعلم أن غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثم أوجبه عليها ولها وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فهو المطلع عليكم في كل أعمالكم وأوضاعكم، فاتقوه في ذلك كله.
6. هذه الملاحظة في الآية وفي غيرها من الآيات، وهي اختتام الجملة المتضمنة للتشريع بالتأكيد على رقابة الله على الإنسان من خلال خبرته المطلقة بكل خفاياه وقضاياه، تمثل أسلوبا تربويا في ربط المكلف بالحكم الشرعي على أساس الوعي لموقعه من ربه وموقع ربه منه، حتى لا يكون التكليف مجرد مادة قانونية جامدة يتلقاها الإنسان بشكل عادي، بحيث لا تثير في نفسه أي معنى يربط الإلزام بالخط الإيماني الروحي المنفتح على إشراف الله عليه.
7. قد يكون من الضروري أن ينطلق الدعاة والمبلغون للأخذ بهذا الأسلوب في نطاق التبليغ للأحكام الشرعية الإسلامية، والدعوة إلى الالتزام بها في حياة المسلمين.
8. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ في هذه الآية معالجة واقعية للموقف الشرعي أمام المرأة المطلّقة، التي قد يرغب بعض الناس في الزواج منها، فربما تظهر هذه الرغبة على فلتات النفس في ما يعبر به الإنسان عن إرادته المستقبلية للخطبة من أجل خلق جو طبيعي للعلاقة على أساس إبعاد الموانع والحواجز التي قد تحدث من خلال رغبة أخرى لشخص آخر، وربما تبقى هذه الرغبة حديثا مكتوما في النفس، فليس في القضية أيّ إثم ما دامت في الحدود الشرعية التي تبقي الموقف في نطاق المشاعر الداخلية أو الرغبة المستقبلية، بعيدا عن أجواء المواعدة السرية التي قد تفضي إلى أجواء حميمة تؤدي إلى الانحراف، أما إذا كانت تتمثل في القول المعروف، فلا جناح على الإنسان فيه، وتبقى القضية في نطاق الإعلان عن مشروع زواج، أما الزواج نفسه الذي عبّرت عنه الآية الشريفة ب عُقْدَةَ النِّكاحِ فلا يجوز للإنسان أن يحققه إلا بعد بلوغ الكتاب أجله، وهو انتهاء مدة العدة، لأنه غير مشروع في أثنائها.
9. يأتي ختام الآية، ليثير في داخل الإنسان الشعور العميق برقابة الله الخفية، التي تطلع على ما في النفس فترصده، وتتابع حركته في ما يحل وما يحرم مما يوجب على الإنسان الحذر من الله بالحذر من عقابه.. ثم يوحي من جديد بأن الله غفور رحيم، إذا أخطأ العبد وتجاوز حدوده، ثم رجع إلى الله وتاب عليه، لأنه لا يترك الإنسان واقعا تحت ضغط الخطيئة، لتعيش كعقدة متأصلة في نفسه، بل يريد له ـ دائما ـ أن يتحرر منها بالشعور بزوالها عن حياته بزوالها عن داخل ضميره، وهذا هو الأسلوب القرآني الحكيم الذي لا يريد أن يعقّد الإنسان أمام رغباته الذاتية في ما لا ضرر منه، ولذلك فقد أثار أمام الإنسان أن الله يعلم أنه سيذكرهن، فلا ينبغي له أن يشعر بالإثم من ذلك، ثم أكد عليه كيف يقف عند حدود الله في ما يعلم أن الله مطّلع عليه، في موقف يدعوه إلى الالتزام، ولكنه لا يغلق عليه باب المغفرة على تقدير الخطأ، والله العالم.
10. ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: لا حرج عليكم أيها الرجال ﴿فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ اللاتي تنفصلن عن أزواجهنّ بالطلاق في أوقات العدة، وذلك بالحديث عن الرغبة بالزواج بهنّ، من ناحية المبدأ، بطريقة لا صراحة فيها في الدلالة على الفكرة، بل على سبيل التعريض الذي لا يحرج الموقف ولا يسيء إلى الجوّ، وذلك بالحديث عن صفاتها الحسنة التي تجعلها محل رغبة للرجال في اتخاذها زوجة، أو بالتنديد بقضية طلاق زوجها لها بأن مثلها لا يمكن أن يستغني عنها الزوج الذي يريد أن يحقق لنفسه السعادة في الحياة الزوجية، ونحو ذلك من الأساليب التي تتنوّع تبعا للأوضاع وللظروف وللتقاليد الاجتماعية.. ولا حرج عليكم في ذلك ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وذلك بأن أضمرتم وأسررتم التخطيط لمشروع الزواج بعد العدة، من خلال الرغبة الدفينة، فلم تظهروه لأحد، إذ لا فرق في الرخصة بين إضمار الرغبة في النفس أو التعبير عنها بأسلوب التعريض.
11. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ لأن طبيعة أية حالة نفسية كامنة في الذات تفرض التعبير عنها بطريقة أو بأخرى، إذا كانت مرتبطة بحياة الإنسان في مستوى الأهمية الكبرى في أوضاعه الخاصة والعامة، ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لأن أجواء الاجتماعات السرية ـ على أساس المواعدة بينها وبينكم ـ قد يفسح المجال لبعض الوساوس الشيطانية التي تطوف في الخيال الغريزي، فإن التقاء ذكر وأنثى في مثل ظروفهما، ربما يثير الرغبة الكامنة في النفس لدى الرجل، والحرمان العميق في جسد المرأة بانفصالها عن الفرصة التي كانت تهيئ لها إشباع غريزتها مع زوجها، فيؤدي إلى الانحراف والوقوع في المعصية، وربما كان هذا هو مدلول الحديث الذي رواه أبو بصير، عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: أوعدك بيت أبي فلان أوعدك بيت فلان لترفث ويرفث معها، فقد لا يكون الحديث المذكور إشارة إلى فعلية ذلك في سلوكهما العملي، بل ربما كان المقصود منه أداء الجو إلى ذلك.
12. ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ فلا يتخلل الحديث أي كلام فحش، بما يتصل بالعملية الجنسية التي قد يتحدث بها بعض الرجال مع بعض النساء للتدليل على قدرته على إشباع المرأة بطريقة فريدة أو ما أشبه ذلك، بل يتحدث معها عن صفاته الذاتية، وعن احترامه للحياة الزوجية وللمرأة، وعن أوضاعه المادية التي ترغبها في الارتباط به.. بالمستوى الذي تشعر فيه بأن الحياة معه قد تحقق لها السعادة، فقد يكون من حقها أن تتعرف طبيعة هذا الرجل الذي يريد أن يتزوجها، وقد يكون من حقه أن يسألها عن نفسها، وعن نظرتها إلى الحياة الزوجية، وعن طبيعة الظروف التي فرضت عليها الطلاق.. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ قال: (يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها: يا هذه ما أحب لي ما أسرّك، ولو قد مضى عدتك لا تفوتي إن شاء الله، فلا تسبقيني بنفسك)
13. ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ فلا بد من البقاء في حالة الانتظار، التي تفرضها العدة في تشريعها بالامتناع عن الزواج في مدتها حتى تنقضي أيامها، فإذا بلغ الكتابـ وهو الفرض الإلهي الإلزامي بالتربص والامتناع عن الزواج ـ الأجل المضروب في العدة، فلهما أن يتزوجا.
14. سؤال وإشكال: إباحة التعريض بالخطبة لذات العدة قد يبعد الفرصة التي استهدفها التشريع في إيجاد الظروف الملائمة لعودة الزوجين إلى حياتهما الزوجية، باعتبار أن العدة تمثل فرصة تدبر وتفكير وإعادة النظر في العودة إلى الزواج من جديد، من خلال السلبيات التي يكتشفانها في تجربة الانفصال، فإذا أفسحنا المجال لإنسان جديد ليغري المرأة بتجربة جديدة، فقد لا تفكر في العودة إلى زوجها، والجواب: يمكن الرد على ذلك، بأن هذه الفرصة الجديدة المطروحة أمام الزوجة قد تجعلها في الوضع الطبيعي المميز، الذي تدخل فيه في مقارنة بين الزوج القديم والزوج المنتظر، فلا تسقط في حصار ظروفها الصعبة التي قد تفرض عليها العودة إلى زوجها الأول، لأنها تفقد الخيارات الأخرى، فإذا جاء الخيار الجديد، أعطاها الحرية في دراسة المسألة بدقة وانفتاح ومقارنة بين سلبيات العودة وإيجابياتها، من خلال المقارنة بين سلبيات الأول وإيجابياته، لأن قصة العودة ليست مستحبة أو مرغوبة بقول مطلق، بل هي مطلوبة في نطاق النتائج الإيجابية التي يمكن اكتشافها في مدة العدة من قبل الزوجين، فإذا كان الأمر بالعكس، فعليهما الاستمرار في الانفصال حتى لا يواجها تجربة جديدة فاشلة(2).
15. ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ من الدوافع التي تدفعكم إلى خطبة هذه المرأة، من استغلال ظروفها الصعبة، أو الرغبة في الحصول على أموالها ـ إذا كانت غنية ـ أو إبعاد الزوج السابق عن العودة إليها بفعل العداوة بينهما، أو للإضرار به أو بها، أو الوصول إلى بعض الغايات السيئة في الواقع الاجتماعي الذي قد يسيء إليها أو إلى أحدهما.. أو غير ذلك من الدوافع الخيرة الطيبة المنطلقة من الرغبة فيها من خلال القناعة بصلاحيتها لإسعاده، وبقدرته على إسعادها وتخليصها من تعسف زوجها الأول، أو التقرب إلى الله بذلك بلحاظ وجود بعض عناوين القربى في الموضوع، فلا بد لكم من أن تفحصوا ما في أنفسكم من خير أو شر أمام الله، الذي يعلم كل شيء ﴿فَاحْذَرُوهُ﴾ في كل خطواتكم، ولا تأمنوا مكره، ولا تستهينوا بعقابه، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ فهو الذي يغفر لكم إذا أخطأتم في هذا وغيره، وتراجعتم عن الخطأ قبل أن يتحول إلى جريمة في حق الآخرين من الأبرياء، وهو الذي يحلم عنكم، حتى كأنه لا ذنب لكم في كل ما تتحركون فيه.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/336.
(2) الآية الكريمة تحدثت عن عدة المتوفى عنها زوجها، وليس عن عدة المطلقة طلاقا رجعيا.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها، ولمّا كان بناء الأرملة بزوج جديد بعد موت زوجها السابق مباشرة لا ينسجم مع ما تكنّه من حبّ واحترام لزوجها المتوفى، ولا مع الاطمئنان إلى عدم وجود حمل في رحمها منه، وقد يؤدّي إلى جرح مشاعر أهل زوجها الأول، فقد جاءت الآية تشترط للزواج الجديد أن يمرّ على موت زوجها السابق أربعة أشهر وعشرة أيّام.
2. إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليدا وطقوسا خاصّة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على حياتها احتراما لذكرى زوجها الراحل، كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره، وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمة سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كلّ نظافة أو زينة أو اغتسال، إلّا أنّ الآية الكريمة تلغي كلّ هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجيّة بإقرار العدّة.
3. بما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحيانا في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الاعتبار في زواجها المجدّد تقول الآية في ختامها: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ وسيجازي كلّ شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.
4. جملة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ والتي تشير إلى أنّ المخاطب فيها هم الرّجال من أقرباء المرأة تدلّ على أنّهم كانوا يرون في تحرّر المرأة بعد وفاة زوجها عيبا وإثما، ويعتقدون بأنّ التضييق عليها والتشدّد في أمرها من واجباتهم، فهذه الآية تأمر بصراحة بترك هذه الامرأة حرّة في اختيارها ولا إثم عليكم من ذلك (ويستفاد ضمنا من هذه العبارة سقوط ولاية الأب والجد أيضا عليها) ولكن في نفس الوقت تتضمّن الآية تحذيرا للمرأة بأنّه لا ينبغي أن تسيء الاستفادة من هذه الحريّة، بل تتقدّم إلى اختيار الزوج الجديد بخطّوات مدروسة وأسلوب لائق (بالمعروف).
5. حسب ما وصلنا من أئمّة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنّ أن يتزينّ مطلقا، بل ينبغي التجرّد من كلّ زينة، ولا شكّ أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدّة توجب ذلك أيضا.
6. حرّر الإسلام المرأة من الخرافات الجاهليّة واقتصر على هذه العدّة القصيرة بحيث ظنّ بعضهم أنّ لها أن تتزوّج حتّى خلال هذه الفترة، ومن ذلك أنّ امرأة قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تستجيزه أن تكتحل وهي في العدّة فنهاها رسول الله وذكّرها بما كان يفرض على المرأة في الجاهليّة خلال سنة كاملة بعد الوفاة من حداد شديد وإرهاق فظيع مشيرا إلى سماحة الإسلام في هذا الأمر وإنّه ممّا يلفت النّظر أنّ الأحكام الإسلاميّة بشأن العدّة تأمر المرأة بالتزام العدّة حتّى وإن لم يكن هناك أيّ احتمال بأن تكون حاملا، حيث إنّ عدّتها لا تبدأ بتاريخ موت زوجها، بل بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها وإن يكن بعد شهور، وهذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الهدف من هذا التشريع هو الحفاظ على احترام الحياة الزوجيّة وحرمتها إضافة إلى مال هذا التشريع من أهميّة بالنّسبة لاحتمال حمل المرأة.
7. الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمّة للنّساء في العدّة (بمناسبة البحث عن عدّة الوفاة في الآيات السّابقة) فتقول: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، فهذه الآية تبيح للرّجال أن يخطبوا النّساء اللّواتي في عدّة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النّفس ﴿أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ وهذا الحكم في الواقع من أجل الحفاظ على حريم الزّواج السّابق من جهة، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقّها في تعيين مصيرها من جهة أخرى، فهذا الحكم يراعي العدالة وكذلك حفظ احترام الطّرفين.
8. من الطّبيعي أن تفكّر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرّجال بالزّواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزّواج بالأرامل، ولكن من جهة لا بدّ من حفظ حريم دائرة الزّوجيّة السّابقة كما ورد من الحكم آنفا يدلّ بوضوح على رعاية كلّ هذه المسائل المذكورة، ونفهم من عبارة ﴿وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أنّه مضافا إلى النهي عن الخطبة العلنيّة فإنّه لا يجوز كذلك أن تصارحوهنّ بالخطبة سرّا أيضا إلّا إذا كان الكلام بهذا الشأن يتّفق مع الآداب الاجتماعيّة في موضوع موت الزّوج، أي أن يكون الكلام بالكناية وبشكل مبطّن.
9. عبارة ﴿عَرَّضْتُمْ﴾ من مادّة (التّعريض) والتي تعني كما يقول الرّاغب في المفردات: الحديث الّذي يحتمل معنيين الصدق والكذب أو الظّاهر والباطن، وعلى قول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ التّعريض ضد التصريح، وهو في الأصل من مادّة (عرض) الذي هو بمعنى جانب الشيء.
10. يضرب أئمة الإسلام في تفسير هذه الآية بشأن الخطبة الخفيّة أو القول المعروف كما يقول القرآن أمثلة عديدة، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام قال (يلقاها فيقول إنّي فيك راغب وإنّي للنّساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك)، وقد ورد هذا المضمون أو ما يماثله في كلام كثير من الفقهاء والجدير بالذّكر أنّ الآية الكريمة على الرّغم من أنّها وردت بعد الآية التي تذكر عدّة الوفاة، ولكنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ الحكم أعلاه لا يختصّ بعدّة الوفاة بل يشمل غيرها أيضا، يقول المرحوم الفقيه والمحدّث المعروف صاحب الحدائق: (وقد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز التعريض بالخطبة لذات العدّة الرجعيّة لأنّها زوجة، فيجوز للمطلّقة ثلاثا من الزوج وغيره، ولا يجوز التصريح لها منه ولا من غيره، أمّا المطلّقة تسعا للعدّة ينكحها بينها رجلان فلا يجوز التعريض لها من الزوج ويجوز من غيره، ولا يجوز التصريح في العدّة منه ولا من غيره، أمّا العدّة البائنة فيجوز التعريض من الزوج وغيره والتصريح من الزوج دون غيره)، وإذا أردتم التفصيل راجعوا الكتب الفقهية بالأخص كتاب الحدائق في استمرار هذا البحث.
11. ثمّ تضيف الآية ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدّتها يقع العقد باطلا، بل أنّه إذا أقدم على هذا العمل عالما بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبدا، وبعد ذلك تعقّب الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾، وبهذا لا بدّ أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع على أعمالكم ونيّاتكم وفي نفس الوقت لا يؤاخذ المذنبين بسرعة.
12. جملة ﴿لا تَعْزِمُوا﴾ من مادّة (عزم) بمعنى قصد، فعند ما تقول الآية ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ فهو في الواقع نهي مؤكّد عن الإقدام العملي على عقد الزّواج ويعني التّحذير حتّى من نيّة وقصد هذا العمل في زمان العدّة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/182.
109. المطلقات والمتعة والمهر
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈109⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 236 ـ 237]
ابن مسعود:
روي عن علقمة بن يزيد النخعي، أن قوما أتوا ابن مسعود (ت 32 هـ)، فقالوا: إن رجلا منا تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقا، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال: ما سئلت عن شيء منذ فارقت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أشد من هذه، فأتوا غيري، فاختلفوا إليه فيها شهرا، ثم قالوا في آخر ذلك: من نسأل إذا لم نسألك وأنت أخية أصحاب محمد في هذا البلد، ولا نجد غيرك؟ فقال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمني، والله ورسوله منه بريء، أرى أن أجعل لها صداقا كصداق نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشرا، قال وذلك بسمع ناس من أشجع، فقاموا ـ منهم معقل بن سنان ـ فقالوا: نشهد أنك قضيت بمثل الذي قضى به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في امرأة منا يقال لها: بروع بنت واشق، قال فما رؤي عبد الله فرح بشيء ما فرح يومئذ، إلا بإسلامه، ثم قال اللهم، إن كان صوابا فمنك وحدك لا شريك لك(1).
__________
(1) أحمد: ٣٠/٤٠٧ ـ: ٤٠٨.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: يوشك أن يأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر فيه على ما في يديه، وينسى الفضل، وقد نهى الله عن ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: أنه واجب على كل مطلق المتعة للمطلقة(2).
3. روي أنّه قال في المتوفى عنها ولم يفرض لها صداق: لها الميراث، وعليها العدة، ولا صداق لها، وقال: لا يقبل قول الأعرابي من أشجع على كتاب الله(3).
__________
(1) سعيد بن منصور ـ كما في تهذيب التهذيب: ٤/٣٩٥.
(2) علَّقه النحاس في ناسخه: ت: اللاحم، ٢/٩٣.
(3) سعيد بن منصور: ١/٢٦٦.
زيد بن ثابت:
روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) أنّه قال: إذا دخل الرجل بامرأته، فأرخيت عليهما الستور؛ فقد وجب الصداق(1).
__________
(1) مالك: ٢/٥٢٨.
جبير:
روي عن جبير بن مطعم (ت 59 هـ) أنه تزوج امرأة لم يدخل بها حتى طلقها، فأرسل إليها بالصداق تاما، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أولى بالفضل(1).
__________
(1) الشافعي في الأم: ٥/٧٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ المس: النكاح(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ الفريضة: الصداق(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ هو الرجل يتزوج المرأة، ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره(3).
4. روي أنّه قال في الرجل يتزوج المرأة، فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾(4).
5. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ وهي المرأة الثيب والبكر، يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو لهن؛ إن شئن عفون بتركهن، وإن شئن أخذن نصف الصداق(5).
6. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ قال إلا أن تدع المرأة نصف المهر الذي لها، أو يعطيها زوجها النصف الباقي، فيقول: كانت في ملكي، وحبستها عن الأزواج قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت زهير بن أبي سلمى وهو يقول(6):
حزما وبرا للإله وشيمة... تعفو على خلق المسيء المفسد؟
7. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ إلا أن تعفو الثيب، فتدع حقها(7).
8. روي أنّه قال: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو أبو الجارية البكر، جعل الله العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طلقت ما كانت في حجره(8).
9. روي أنّه قال: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو الولي(9).
10. روي أنّه قال: الذي بيده عقدة النكاح: الزوج(10).
11. روي أنّه قال: الذي بيده عقدة النكاح: أبوها، أو أخوها، أو من لا تنكح إلا بإذنه(11).
12. روي أنّه قال: رضي الله بالعفو، وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضنت فعفا وليها الذي بيده عقدة النكاح جاز وإن أبت(12).
13. روي أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها، وقبل أن يدخل بها؛ فليس لها إلا المتاع(13).
14. روي أنّه قال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، قال هو الرجل يتزوج المرأة، ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره؛ فإن كان موسرا أمتعها بخادم أو نحو ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك(3).
15. روي أنّه قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة(3).
16. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية، قال هو الرجل يتزوج المرأة، وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، والمس: الجماع(14).
17. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية، قال هو الرجل يتزوج المرأة، وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن يمسها ـ والمس: الجماع ـ، فلها نصف صداقها، وليس لها أكثر من ذلك(14).
18. روي أنّه سئل عن المرأة يموت عنها زوجها وقد فرض لها صداقا، قال لها الصداق والميراث(15).
19. روي عن عطاء الخراساني أنّه قال: سمعت ابن عباس يقول: أقربهما إلى التقوى الذي يعفو(16).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٨٧.
(2) ابن جرير: ٤/٢٨٩.
(3) ابن جرير: ٤/٢٩٠.
(4) الشافعي في الأم: ٥/٢١٥.
(5) ابن جرير: ٤/٣١٤.
(6) الدرّ المنثور: الطستيِّ.
(7) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٤.
(8) ابن جرير: ٤/٣١٨.
(9) ابن جرير: ٤/٣٢٢.
(10) ابن أبي شيبة: ٤/٢٨١.
(11) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٥.
(12) عبد الرزاق: ١٠٥٨٢.
(13) ابن جرير: ٤/٣٠٥.
(14) ابن جرير: ٤/٣١٢.
(15) الشافعي في الأم: ٥/٦٩.
(16) عبد الرزاق في مصنفه: ٦/٢٨٣.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي طلقها ولم يدخل بها وقد فرض لها، فلها نصف الصداق، ولا متعة لها(1).
2. روي عن أبان بن معاوية، قال سأل رجل ابن عمر، فقال: إني موسع، فأخبرني عن قدري، قال تعطي كذا، وتكسو كذا، فحسبنا ذلك، فوجدناه ثلاثين درهما(2).
3. روي أنّه قال: أدنى ما أراه يجزئ من متعة النساء ثلاثون درهما، أو ما أشبهها(3).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٩٦.
(2) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢٢٦١.
(3) عبد الرزاق في مصنفه: ١٢٢٥٥.
شريح:
روي عن شريح القاضي (ت 78 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾: الدرع، والخمار، والجلباب، والمنطق، والإزار(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾: الدرع، والخمار، والجلباب، والمنطق، والإزار(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٣.
أبو وائل:
روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة (ت 82 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ هو الرجل يتزوج فتعينه، أو يكاتب فتعينه، وأشباه هذا من العطية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٦.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها، أنّه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في الأحزاب، فلما نزلت الآية التي في البقرة جعل لها النصف من صداقها إذا سمى ولا متاع لها، وإذا لم يسم فلها المتاع(1).
2. روي أنّه قال في التي طلقت قبل الدخول وقد فرض لها: كان لها المتاع في الآية التي في الأحزاب، فلما نزلت الآية التي في البقرة جعل لها النصف من صداقها، ولا متاع لها، [فنسخت آية الأحزاب؟](2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٩٦.
(2) ابن جرير: ٤/٢٩٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] كل مطلقة، متاع بالمعروف حقا على المتقين(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٩٥.
نافع:
روي عن نافع (ت 99 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فتعفو عن النصف لزوجها(1).
2. روي أن بنت عبيد الله بن عمر ـ وأمها بنت زيد بن الخطابـ كانت تحت ابن لابن عمر، فمات ولم يدخل بها، ولم يسم لها صداقا، فابتغت أمها صداقها، فقال ابن عمر: ليس لها صداق، ولو كان لها صداق لم نمنعكموه، ولم نظلمها، فأبت أن تقبل ذلك فجعل بينهم زيد بن ثابت، فقضى: أن لا صداق لها، ولها الميراث(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣١٥.
(2) مالك: ٢/٥٢٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ المعروف(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها، فلها نصف الصداق، فأمر الله أن يترك لها نصيبها، وإن شاء أن يتم المهر كاملا، وهو الذي ذكر الله: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٤١.
(2) ابن جرير: ٤/٣٤٠.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ إذا طلق الرجل امرأته، ولم يفرض لها، ولم يدخل بها؛ أجبر على المتعة(1).
2. روي أنّه سئل: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال على قدر ماله(2).
3. روي أنّه قال: زوج رجل أخته، فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فعفا أخوها عن المهر، فأجازه شريح، ثم قال أنا أعفو عن نساء بني مرة، فقال عامر: لا والله، ما قضى قضاء قط أحمق منه؛ أن يجيز عفو الأخ في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، فقال فيها شريح بعد: هو الزوج إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله، أو عفت هي عن النصف الذي سمي لها، وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها، قال ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٢.
(2) ابن جرير: ٤/٢٩٢.
(3) ابن جرير: ٤/٣١٩.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ في هذا، وفي غيره(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٤٠.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾: أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه، فإن هي شحت إلا أن تأخذه فلها، ولوليها الذي أنكحها الرجل ـ عم أو أخ أو أبـ أن يعفو عن النصف، فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٢٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أن أبا بكر الهذلي سأله عن رجل طلق امرأته من قبل أن يدخل بها، ألها متعة؟ قال نعم، فقال له أبو بكر: أما نسختها: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾؟ قال الحسن: ما نسخها شيء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ الفضل في كل شيء، أمرهم أن يلقوا بعضهم عن بعض، فيأخذوا بالفضل بينهم، ويتعاطوه، ويرحم بعضهم على بعض من الفضل كله، والعفو، والنفقة، وكل شيء يكون بين الناس(2).
3. روي عن قرة: سئل الحسن عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم، والله، فقيل للسائل ـ وهو أبو بكر الهذلي ـ: أوما تقرأ هذه الآية: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾!؟ قال نعم، والله(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٤.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٧.
(3) ابن جرير: ٤/٢٩٤.
شريح:
روي عن شريح (ت 111 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أن رجلا طلق امرأته، فخاصمته إلى شريح، فقرأ الآية: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، قال إن كنت من المتقين فعليك المتعة، ولم يقض لها(1).
2. روي أنّه قال في متاع المطلقة: لا تأب أن تكون من المحسنين، لا تأب أن تكون من المتقين(1).
3. روي أنّه قال: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾: الدرع، والخمار، والجلباب، والمنطق، والإزار(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٠٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٣.
عون:
روي عن أبي هارون أنّه قال: رأيت عون بن عبد الله (ت 113 هـ) في مجلس القرظي، فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء، ويقول: صحبت الأغنياء، فكنت من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا، وأطيب ريحا وأحسن مركبا مني، فجالست الفقراء فاسترحت، وقال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ إذا أتى أحدكم السائل وليس عنده شيء فليدع له(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرجل يريد أن يطلق امرأته قبل أن يدخل، قال: يمتعها قبل أن يطلقها، فإن الله تعالى قال ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾)(1).
2. روي أنّه سئل عن الرجل يطلق امرأته، فقال: يمتعها قبل أن يطلق فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾)(2).
3. روي أنّه سئل عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: هو الأب والأخ والموصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة من قرابتها، فيبيع لها ويشتري ـ قال ـ: فأي هؤلاء عفا، فهو جائز في المهر، إذا عفا عنه)(3).
4. روي أنّه سئل عن قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾، قال: الذي يعفو عن الصداق أو يحط بعضه أو كله(4).
__________
(1) التهذيب: 8/141.
(2) التهذيب: 8/142.
(3) التهذيب: 7/484.
(4) تفسير العيّاشي: 1/126.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في الآية: يحثهم على الفضل والمعروف، ويرغبهم فيه(1).
2. روي أنّه قال: كان أبو العالية والحسن يقولان: لكل مطلقة متاع؛ دخل بها أو لم يدخل بها، وإن كان قد فرض لها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها، وقد كان سمى لها صداقا؛ فجعل لها النصف، ولا متاع لها(3).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٤٠.
(2) ابن جرير: ٤/٢٩٤.
(3) ابن جرير: ٤/٣١٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ فالمقتر: القليل المال.. وكذلك المملق،(1).
2. روي أنّه قال: (﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ معناه أن يتركنّ، يعني النّساء،(1).
3. روي أنّه قال: (﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج.. ويقال: هو الوليّ،(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، صلّى الله عليه وآله وسلم 101.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها، وقبل أن يفرض لها؛ فليس عليه إلا متاع بالمعروف، يفرض لها السلطان بقدر، وليس عليها عدة، وقال الله ـ تعالى ذكره ـ: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، فإذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها، ولم يمسسها؛ فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ إذا طلق الرجل المرأة، وقد فرض لها، ولم يمسها؛ فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هي البكر التي يعفو وليها، فيجوز ذلك، ولا يجوز عفوها هي(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ العفو إليهن، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك، ولا يملك ذلك عليها ولي؛ لأنها قد ملكت أمرها، فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها جاز ذلك، وإن أرادت أخذه فهي أملك بذلك(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾، متعتان؛ إحداهما يقضي بها السلطان، والأخرى حق على المتقين، فمن طلق قبل أن يدخل ويفرض فإنه يؤخذ بالمتعة، ومن طلق بعدما يدخل أو يفرض فالمتعة حق عليه(5).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٢٩٩.
(2) ابن جرير: ٤/٣١٣.
(3) ابن جرير: ٤/٣٢٣.
(4) ابن جرير: ٤/٣١٥.
(5) عبد الرزاق: ١/٩٥.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ حض كل واحد على الصلة، يعني: الزوج والمرأة على الصلة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٤٠.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ هو الرجل يتزوج المرأة، وقد فرض لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف ما فرض لها، ولها المتاع، ولا عدة عليها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣١٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرجل يطلق امرأته، أيمتعها؟ قال: نعم، أما يحب أن يكون من المحسنين، أما يحب أن يكون من المتقين؟(1).
2. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها، قال: عليه نصف المهر، إن كان فرض لها شيئا، وإن لم يكن فرض لها شيئا فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء(2).
3. روي أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل ان يدخل بها، فلها نصف مهرها، وإن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، وليس لها عدة، وتتزوج من شاءت من ساعتها(3).
4. روي أنّه قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فقد بانت منه، وتتزوج إن شاءت من ساعتها، وإن كان فرض لها مهرا فلها نصف المهر، وإن لم يكن فرض لها مهرا فليمتعها(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾: هو الأب أو الأخ أو الرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة، فيبتاع لها فتجيز، فإذا عفا فقد جاز(2).
6. روي أنّه قال في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها: عليه نصف المهر، إن كان فرض لها شيئا، وإن لم يكن فرض لها، فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء، وقال في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾: هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه، والرجل يجوز أمره في مال المرأة، فيبيع لها ويشتري، فإذا عفا فقد جاز(2).
7. روي أنّه سئل عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، وإن لم يكن فرض لها شيئا فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء(4).
8. روي أنّه قال: يأتي على الناس زمان عضوض، يعض كل امرئ على ما في يديه، وينسى الفضل وقد قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ ينبري في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين، هم شرار الخلق(5).
9. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة وسمى لها صداقا ثم مات عنها ولم يدخل بها؟ قال: (لها المهر كاملا، ولها الميراث)، قيل: فإنهم رووا عنك أن لها نصف المهر؟ قال: (لا يحفظون عني، إنما ذلك للمطلقة)(6)
10. روي أنّه قال: (الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها)(7).
11. روي أنّه سئل عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: (الولي الذي يأخذ بعضا ويترك بعضا، وليس له ان يدع كله)(7)
12. روي أنّه سئل عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: (هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة، فيبتاع لها ويشتري، فأي هؤلاء عفا فقد جاز)(8)
13. روي أنّه قال في قول الله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ (هو الأخ والأب والرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال بقيمته)، قلت له: أرأيت إن قالت: لا أجيز، ما يصنع؟ قال (ليس ذلك لها، أتجيز بيعه في مالها، ولا تجيز هذا!؟)(6).
14. روي أنّه سئل عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: (هو الذي يزوج، يأخذ بعضا ويترك بعضا، وليس له أن يترك كله)(9).
15. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾، فقال: المرأة تعفو عن نصف الصداق)، قيل: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾؟ قال (أبوها إذا عفا جاز له، وأخوها إذا كان يقيم بها، وهو القائم عليها، وهو بمنزلة الأب يجوز له، وإذا كان الأخ لا يقيم بها، ولا يقوم عليها، لم يجز عليها أمره)(10).
16. روي أنّه قال في رجل قبض صداق ابنته من زوجها، ثم مات: هل لها أن تطالب زوجها بصداقها أو قبض أبيها قبضها؟ فقال: (إن كانت وكلته يقبض صداقها من زوجها، فليس لها أن تطالبه، وإن لم تكن وكلته فلها ذلك، ويرجع الزوج على ورثة أبيها بذلك، إلا أن تكون صبية في حجره، فيجوز لأبيها أن يقبض عنها، ومتى طلقها قبل الدخول بها، فلأبيها أن يعفو عن بعض الصداق، ويأخذ بعضا، وليس له أن يدع ذلك كله، وذلك قول الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ يعني الأب والذي توكله المرأة وتوليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما)(11).
__________
(1) الكافي: 6/104.
(2) الكافي: 6/106.
(3) تفسير العيّاشي: 1/124.
(4) الكافي: 6/108.
(5) الكافي: 5/310.
(6) تفسير العيّاشي: 1/125.
(7) التهذيب: 7/392.
(8) التهذيب: 7/393.
(9) تفسير العيّاشي: 1/126.
(10) تفسير العيّاشي: 1/126/ه: 41.
(11) التهذيب: 6/215.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: وهو واجب: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ثم استثنى، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾، يعني: إلا أن يتركن، يعني: المرأة تترك نصف مهرها، فتقول المرأة: أما إنه لم يدخل بي، ولم ينظر لي إلى عورة، فتعفو عن نصف مهرها، وتتركه لزوجها، وهي بالخيار(1).
3. روي أنّه قال: نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (هل متعتها بشيء؟)، قال لا، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (متعها بقلنسوتك، أما إنها لا تساوي شيئا، ولكن أحببت أن أحيي سنة)، فذلك قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، ثم إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كساه ثوبين بعد ذلك، فتزوج امرأة، فأمهرها أحد ثوبيه(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠٠.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: إنما خفف عندي في المتعة، ولم يجبر عليها المطلق في القضاء في رأيي؛ لأني أسمع الله يقول: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، و﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، فلذلك خففت، ولم يقض بها، وقال غيره: لأن الزوج إذا كان غير متق فليس عليه شيء(1).
__________
(1) المدونة للإمام مالك: ٢/٢٣٩.
ابن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: وليس في المتعة أمر مؤقت، إلا ما أحب لنفسه من طلب الفضل في ذلك، وقد كان في السلف من يمتع بالخادم، ومنهم من يمتع بالكسوة، ومنهم من يمتع بالطعام(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٣٩.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ)
[القاسم الرسّي] الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ) في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾: (وسألت: عن تمتيع المطلقات، هل وجوبه كوجوب الفرائض الواجبات، فذلك واجب على من لم يسم مهرا، موسرا كان أو معسرا، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، والموسع هو: الموسر، والمقتر هو: المفتقر؛ فكل يعطي على قدره، في يسره للمتمتعة وعسره، وليس في ذلك عدد معدود، ولا حد في الأشياء محدود؛ هذا فرض واجب، وحد في المتعة لازم، كما قال الله سبحانه: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 241 ـ 242]، ومن سمى من الأزواج لامرأة مهرا فلها مهرها، مؤسرا كان الزوج أو معسرا)(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/111.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. سئل عن قول الله ذي الجلال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: 236] فقال السائل: ما معنى قوله: لا جناح على من طلق قبل أن يمس، وقد تعلمون ونعلم أيضاً أنه لم يجعل جناحاً على من طلق من بعد المس!؟، فقال: إن للآية مخرجاً بَيِّنا، عند من عقل سوى ما ذهبت إليه، وتقحمت بسوء نظرك فيه، وإنما المعنى في ذلك: أن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا إثم ولا حرج في الطلاق، وإنما أراد بالجناح هاهنا: المهر، ومطالبة المرأة له بما تطالب به المطلقة، المفروض لها التي لم يمسها، ولم يدخل عليها زوجها، فأخبر تبارك وتعالى: أنه إذا طلقها، ولم يكن فرض لها صداقاً، ولا سمى لها مهراً، أنه لا سبيل لها عليه في مطالبة بمهر، لأنه لم يفرض لها شيئا تطالبه بنصفه، كما تطالب التي قد فرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها بنصف ما سمى لها، فهذا هو معنى الجناح هاهنا.
2. سئل عن قول الله سبحانه: ﴿يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 237]؟ قال: هو الزوج، وليس كما يقول الجهال من هذه العوام أنه الأب.. قيل له: فإن قال لنا قائل: ما الدليل على أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح دون الأب والأخوة وبني العم؟ قال لأن العقدة لا تكون إلا في يد من يحلها، إذا أراد أن يطلق طلق، وإن أحب أن يمسك أمسك.. ألا ترى أن الأب لو كره شيئا من الزوج، فأراد أن يحل عقدة نكاحه، لم يجز له ذلك، ولم يقدر عليه، ولم يمكنه إلا برضا الزوج، ولو كره الزوج شيئا من خلائق المرأة، ثم أراد أن يطلق جاز له ذلك، دون الأب وغيره؟ قيل: بلى، قال فذلك ثبَّت ما قلنا، وأبطل قول غيرنا.. قيل: فأين قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؟ قال هذا معنى جعله الله ورسوله، تعظيما وتوقيرا وإجلالا، وتفضيلا للأب على ولده، أزال به عنه إقامة الحد.. ألا ترى أن رجلاً لو سرق شيئا من مال ابنه، مما يجب في مثله القطع على أخذه، لم يجب عليه فيه قطع بإجماع الأمة كلها، فعلى هذا المعنى يخرج قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) قيل: فإن قال قائل: فقد رأينا الأب يجوز له أن يعقد نكاح ابنته إذا كانت صغيرة في حجره، ويدخل بها زوجها؟ قال العقد للنكاح خلاف عقدة النكاح، وبينهما فرق في القول والمعنى، ألا ترى أن الأب لو باع شيئا من مال وُلد له صغار أو كبار، ثم أراد أحدهم أن يرجع فيه عند بلوغه، أليس ذلك له؟ قيل: لا أدري.. قال بلى، له الاختيار عند بلوغه، فكذلك لا يجوز له ولا يمكنه العفو عن شيء لا يملكه، والعفو هو: إلى الزوج، أما أن يعفو فيدفع الفريضة التي لا فرض على نفسه لها، وإما أن تعفوا هي عن النصف الذي أوجب الله لها، فهذا معنى العفو الذي ذكر الله، وفي ما ذكرنا كفاية، ولو جاز أن يكون قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) لأن ما في الحكم لَما كان للزوج ولا للولد شيء من الميراث مع الأب، إذا هلكت ابنته أو ابنه، ولكان يجوز له حينئذ أخذ جميع ما ترك ولده، فلما أن كان هذا الميراث غير جائز له، ثبت وصح أن ولي العقدة هو الزوج، وبطل قول من قال إن الأب ولي العقدة.
__________
(1) تفسير الإمام الهادي: 1/158.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فيه دليل رخصة طلاق غير المدخولات بهن في الأوقات كلها؛ إذ لا يتكلم بنفي الجناح إلا في موضع الرخصة، ولم يخص وقتا دون وقت، وأما المدخولات بهن فإنه عزّ وجل ذكر لطلاقهن وقتا بقوله تعالى: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]؛ لذلك قال أصحابنا(2): أن لا بأس للرجل أن يطلق امرأته في حال الحيض إذا لم يدخل بها منه إذا لم يملك إمساكها عند الندامة، لأن الطلاق قبل الدخول تبين المرأة من زوجها، والأصل في الأمرين ـ جعل الطلاق في وقت حلها للأزواج، وكل الأوقات في غير المدخول بها وقت الحل.
2. ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ معناه ـ ولم تفرضوا لهن فريضة، كأنه عطف على قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله عزّ وجل: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ دليله قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ﴾ معناه ـ ولم تفرضوا لهن، ودل قوله عزّ وجل: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أن ذلك في غير المفروض لها؛ حيث أوجب في المفروض نصف المفروض وأوجب ثمّ المتعة، ثم يجيء في القياس أن يوجب في غير المفروض نصف مهر المثل إلا المتعة؛ لأنه إذا دخل بها أوجب كل مهر المثل كما أوجب كل المفروض عند الدخول بها، ونصف المفروض عند عدم الدخول بها، لكن أوجب المتعة لوجهين:
أ. أحدهما: أن مهر المثل إنما يقدر بها إذا دخل بها، فإذا لم يدخل بها لم يعرف الزوج ما قدر مهر مثلها؟، فإذا لم يعرف ما قدر مهر مثلها لم يعرف النصف من ذلك.
ب. الثاني: أنهم أوجبوا المتعة تخفيفا وتيسيرا؛ لأن الحاكم يلحقه فضل كلفة وعناء في تعرف حالها وحال نسائها، إذ مهر المثل إنما يعتبر بنسائها، وليس ذلك في المتعة.
3. قدر المتعة: يعتبر شأنه اعتبارا بقدرها؛ لأنه لو اعتبر شأنه قدر ما أوجب لها غناءها وغناء أهلها، ومهر المثل لا يبلغ ذلك، فكان في ذلك تفضيل المتعة على مهر المثل ـ وقد ذكرنا أن المتعة أوجب تخفيفا ـ ولو نظر إلى قدرها دون قدره لكلف الزوج ما لا طاقة له به ولا وسع؛ لذلك وجب النظر إلى قدره اعتبارا بقدرها.
4. قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أو نسق على قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ فهو على: (ما لم تفرضوا لهن فريضة)، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 49]، وعلى هذا إجماع القول في جواز النكاح بغير تسمية، وفى ذلك دليل أن قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ [النساء: 24]، هو ما يبتغى من النكاح بالمال، لا بتسمية المال، فيكون النكاح موجبا له، به يوصل إلى حق الاستمتاع، لا بالتسمية؛ ولهذا كان لها حق حبس نفسها عنه حتى يسلم إليها ما منع عن الملك إلا مهر به مسمى أو غير مسمى، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [المائدة: 5]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ الآية [الأحزاب: 50].
5. إذا جاز النكاح بلا تسمية لم يفسده فساد التسمية، بل الذي أفسد في أعلى أحواله كأنه لم يكن، وعلى ذلك اتفاق فيما يتزوج المرأة على ما لا يحل من خمر أو ميتة أو نحو ذلك أن يجوز؛ فيكون في ذلك أمران:
أ. أحدهما: أن ما لا يتعلق جوازه بالشرط، ففساد الشرط لا يفسد.
ب. الثاني: أن تبين موضع النهى عن الشغار أنه غير مفسد العقد أوكد منه في الآخر، على أن العقود والفسوخ كلها تثبت لها عند تسمية البدل، ولا يجب شيء من ذلك بنفس العقد البدل حتى يستوفى في بعض ذلك، ولا يجب شيء في البعض على كل حال؛ فثبت به ما ذكرت، فأوجب ما ذكرت ـ ألا يراد بالمتعة نصف مهر المثل؛ إذ قد ثبت بالبيان الأول أن التدبير لا يوجب الزيادة عليه، وبالبيان الثاني أن الأمر فيه محمول على التيسير والتخفيف، ومن البعيد المجاوزة بالأمر المؤسس على التخفيف على المؤسس بالتغليظ في التغليظ.
6. لم يبين لنا ماهية المتعة ـ ما هي ومعروف أن المتعة هي التي يتمتع بها، وأن مهر المثل مما قد يتمتع به، فجعلنا نصف مهر المثل نهاية المتعة بما هو النهاية فيما كان مبنيّا على التغليظ، فلا يجاوز بها، ذلك مع ما فيه وجهان:
أ. أحدهما: إحالة وجوبها أكثر من مهر مثلها، فيكون الدخول بها سببا لإسقاط الحق، وقد جعله الله تعالى سببا لمنع السقوط؛ فثبت أن مهر المثل معتبر في المتعة.
ب. الثاني: أنها بحكم البدل عن ذلك، دليله وجهان:
• أحدهما: أن المطالبة كانت بمهر المثل، والطلاق سبب إسقاط حقوق النكاح لإيجابها؛ فثبت أن المتعة كانت مكان ما فيه المطالبة، لا أن حدث الوجوب بالطلاق.
• الثاني: أنه متى وجب مهر المثل لم يوجد لها نحو أن يدخل بها، ثبت أنها كانت بدلا، فلا يزاد البدل، مع ما كان التحويل إلى غير نوع مهر المثل، إنما هو لما قد يتعذر تعرفه، أو أن لم يعرف ذلك بالاجتهاد والتفحص عن أحوالها ومحلها ومحل قومها، وفى ذلك مؤن وتكلف، ثم بعد العلم بذلك لا بد من الاجتهاد في الوسط من ذلك، ثم في أمرها منهم، فجعل الله تفضله من الوجه الذي للمرء سبيل العلم به عن ذلك التكلف، أو لو رفع هو إلى الحاكم أمكنه الوصول إلى العلم به بدون ما ذكرت من النظر، فكان ذلك نحو ما فرض الله تعالى من زكاة الإبل، لا فيها إذا صار بحيث لو كانت فيها لكانت جزءا يتعذر أخذ مثله، ثم التسليم إلى الشراء، فجعل في ذلك بدلا على أن الذي عليه لو خرج بتسليم العين جاز؛ فمثله ما نحن فيه.
7. هذا هو وجه جعل الله تعالى متعة على أنها كانت واجبة نحو الإمساك، لو رام ذلك، إذ عليه النفقة والكسوة، فإذا طلقها فجعلت هي مكان مهر المثل إذا فات السبب الذي كان يجب بحقها، فجعلت واجبه بحق غيرها حتى لا يقع في الطلاق وجوب أمر لم يكن فيما تقدم، لو أريد بها الإمساك، ومن البعيد أن يزداد كسوة المرأة على مهرها أو نصف مهرها في الحق، ولا قوة إلا بالله.
8. ليس في ظاهر الآية إبطال المهر فيما لم يسم، ولا النصف فيما سمى، وإنما في الأول الأمر بالمتعة، وفى الثاني بيان أن لها نصف الفرض، والقول: بأن نصف هذا العبد لفلان، أو لفلان، كذا من الحق لا يبطل عنه الحقوق جملة، أو عن النصف لآخر بذلك القول، بل فيه بيان ذلك أنه له وغيره متروك لدليله، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، ليس في ذلك أن لا عدة عليهن، ولكن فيه أن لا عدة لهم، ويجوز أن تكون عليها، لا له، وكذلك عندنا: العدة هي التي عقيب الخلوة لا يملك هو فيها إمساكها، ويلزمه المؤن فكأنها عليه، لا له في المعتبر، فلما ذكرت يبطل قول من ادعى أن القول بالمهر والعدة فيما لا مماسة فيه خلاف الظاهر مع ما لو كان في الظاهر ذلك لأمكن أن يكون من المسيس الإمكان، لا حقيقته، دليل ذلك: أنه لو وجدت القبلة أو المعانقة في الملأ من الخلق لوجد المسيس في الحقيقة، ولم يجب به ذلك؛ فثبت أن المراد من ذلك معنى في المسيس، لا ما يلحقه اسمه.
9. ثم الذي يؤيد أنه الإمكان والاجتماع وجهان:
أ. أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء]، فأعظم عليه أخذ شيء مما آتاها بما كان من إفضاء بعض إلى بعض، والإفضاء في اللغة معروف: أنه الانضمام، لا المجامعة، مع ما كانت المجامعة إلى الأزواج، يضاف فعلها، وفى هذا إضافة الإفضاء إلى كل واحد منهما، ثبت أنه في معنى ذلك من كل واحد منهما نحو الذي من الآخر، وذلك يكون في الاجتماع خاصة.
ب. الثاني: وجود القول من خمسة من نجباء الصحابة الخلفاء، فمن دونهم ممن لا يحتمل خفاء الآيات عليهم، ومن شهد الخطاب أحق بفهم الحقيقة من المراد أن يسألوا عن ذلك من أن يطلعهم على حقيقته إذا كان بحيث احتمال الخفاء، والخاصة النجباء الذين يعلمون أنهم أئمة الخلق، وعلى الاقتداء بهم حثت الأمة، مع ما في ذلك عدول عن الظاهر، وقول بالذي لا يحتمل فهمه عنه؛ ثبت أن كان ذلك منهم عن بيان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أو عن دليل شهدوه أظهر المراد، ولا قوة إلا بالله.
10. على أن في الآية، لو كان في تصريح جماع، لكان يلزم ذلك بالخلوة لوجهين سوى ما ذكرت:
أ. أحدهما: جرى أحكام الكتاب والسنة في البدل لأشياء مقصودة اسما وتحقيقا يستوجب حق العرفاء بها بحق شرط الله القبض في الرهن، والقتال في المغانم، والإيتاء في الأجور والمهور والخروج لأمر الهجرة وأمر رؤيا إبراهيم صلّى الله عليه وآله وسلم، لما أسلما لأمر الله، فعلى ذلك أمر [المهور والعدة في الخلوة إذ هي سلمت نفسها لذلك، وعلى ذلك أمر] الخروج من الأمانات بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، ولو كان لا يخرج إلا بإدخال في الأيدي في الحقيقة، لكان لا سبيل إلى القيام بما كلف الله تعالى، وعلى ذلك إجماع القول في الإجارات إذا أمكن الانتفاع بها.
ب. الثاني: أن النساء لا يملكن من تسليم ما عليهن من الحق، ومحال أن يلزمهن من الحق أكثر مما ذكر، لكن الله تعالى وسعهن؛ فثبت أن ليس عليهن غير الذي فعلن، فاستوجبن ما لهن، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ [البقرة: 228]
11. ثم قد أجمع على وجوب المهر في موت أحدهما، وأن الموت لا يسقطه، وإن لم يكن ثم دخول، فهو أن المقصود بالنكاح الملك وقيام الزوجية إلى موت أحدهما، وإن كان ذلك الاستمتاع وقد وجد تمامه، وقد بينا أن المهر للملك، لا لنفس الاستمتاع، فوجب كماله وإن مات أحدهما، لما بلغ الملك نهايته، وعلى هذا يخرج قولنا فيما لم يسم لها المهر؛ إذ مهر المثل إنما هو بدل الملك، دليله: أنه يوجب لها المطالبة به عند قيامه وإن لم يسم به، وأصله: ما بينا من تعلق هذا الملك بالبدل حكما، وإن لم يكن تعلق به شرطا، وقد وجد ثم، وعلى هذا روى عن ابن مسعود، في ذلك، وقام معقل بن سنان فقال: (نشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل الذي قضيت أنت)، فسر به عبد الله لموافقة رأيه ما روى له عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
12. إذا ثبت ذلك فعلى ذلك، إذ المعقول بالنكاح أن تبذل المرأة نفسها له ليستمتع بها، فإذا جاءت الخلوة وجد تمام المقصود منها بالنكاح، على ما وجد في موت أحدهما، فيجب كمال المهر كما وجب بالأول، ويستوى في ذلك مهر المثل والمسمى.
13. وعلى ذلك فيما لم يوجب جعله بذل المنفعة، إذ هو قيمة البضع، ويجب قيمة الأشياء بإتلافها، ولم يوجد هاهنا، وعندنا: أنه وإن كانت قيمة ذلك فهي بدل ملك ذلك، لا بدل الانتفاع نفسه، إذ لا يجب في الزنى؛ ثبت أنه للملك يجب أو لشبهته، وقد وجد في الأول على تمام ما رجع إليه المقصود، وجب على ما مر بيانه.
14. أوجب قوم في المسماة بعد النكاح نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول استدلالا بظاهر الآية، ولكن التسمية عند الناس إنما تكون في العقد حتى لا يعرف لها وجود غيرها، وهى التسمية في العقد، فهي المرادة في الخطاب، إذ هي المعروفة من الفرض، ثم غيرها بحق الاستدلال، فإن ألزم الدليل لها حق التسمية في العقد لزم، وإلا لا، ثم وجد جميع الأسباب التي تحتمل الاعتياض جعل ذكر الفرض بعد السبب كلا ذكر، فمثله أمر النكاح، فأوجب ذلك فساد التسمية، فلم يجب المسمى من بعد إلا حيث يوجبه الدليل، وقد قام دليل الوجوب عند وجود ما له حكم الدخول بها، يجب عند ذلك، وإلا لا.
15. وجه لزوم القول بما يخرج على أحوال:
أ. إحداهما أن لهذا التسمية إذا جازت بحق مهر المثل، إذ كل سبب ليس له عوض بالحكم لم يجز، ثم كان مهر المثل يسقط قبل الدخول بها، كذلك الواجب به.
ب. وأيضا فإن الحكم يوجب تبيين مهر المثل ليدفع إليها، إذ لها حق الامتناع إلا به، فاصطلاحها على ما سميا من بعد له حق ما في الحكم ذلك وهو التبيين، ولو بينه الحاكم لكان يسقط، فمثله هذا.
ج. الثالث: أنه معلوم أنه لو كان الذي في علم الله تعالى من طلاقها، لو كان ظاهرا وقت التسمية، لكان حقها عليه المتعة، ولم يكن يجب النظر إلى مهر المثل إلا من وجه تحديد المتعة، فكذلك إذا ظهر وأمكن أن يقال: الأصل في ذلك أن المتعة ليس يوجبها الطلاق، ولكن النكاح يوجب، ثم كان الواجب بالنكاح مجهول، لا يدرى أهو مهر المثل أو المتعة؟؛ إذ لا يجوز أن يجبا، ولا أن يوجب الطلاق أحدهما، لما هو بيان ذلك؛ فثبت أن الواجب في الحقيقة أحدهما، لكن لها مطالبة مهر المثل في الظاهر، ولها التسمية عنه بما العرف في النكاح أنه للدوام ثم هو للاستمتاع، فحمل الأمر على ذلك الظاهر وبه أجيزت التسمية، فلما ورد الطلاق قبل الدخول ظهر حقيقة الواجب، فبطل الذي كان بحق المهر، لما ظهر أن الواجب في علم الله تعالى المتعة.
16. على أصل هذا المعتبر أمر المفروض الظاهر أنه نوع الإيمان، وذلك مما لا يزداد ولا ينتقص، فيجب بالطلاق نصف مهورهن، ثم إذا كان من نوع ما يزاد وينقص فيحدث أحد الوجهين، فليس في الكتاب تسمية ذلك النوع على المعروف، ولا القضاء فيه بشيء، ومعلوم أن ذلك لو كان في يدى الزوج ليجب نصف ذلك فيما كان الطلاق قبل الدخول بها، فيصير بحكم المفروض، وإن لم يكن بما كان حدث من الحق، أو بما كان في علم الله تعالى أن الحق في ذلك النصف؛ إذ ذلك حكم الطلاق قبل الدخول بها على حق المنصوص، فيكون الذي حدث من النصف حقه، أو بما كان ذلك مهرا والحادث محتمل جعله مهرا، فهو فيه على ما عليه معتبر الحقوق من لحوق الفروع الأصول، فإذا كان ذلك بعد القبض فقد انتهى أمر الحق، وحدث ما حدث على ملكها، إذ على ذلك يحدث، فقلنا: لو نقص المهر في العين لكان يصير النصف له بحق بعض القبض فيه، ثم نقض العقد، وإذا كان كذلك لا يخلو أمر الزيادة من أن يرد عليه فيرجع بشيء لم يسلم إليها، وذلك فضل على ما أخذ من الحق يأخذه بالحكم، فيكون ربا؛ لأنه لم يسمه، ولا يسلم إليه، فزال المعنى الذي هو لها فيه، فيكون أخذه بلا عوض في عقد التبادل، فيصير ربا، ولو أبقى له على فسخ القبض في المهر والعقد فيصير ذلك لما فضل من أصل قد فسخ العقد فيه مما لم يكن لها إلا ببدل بلا بدل، وذلك وصف الربا، وقد حرم الله الربا؛ فيجب بالضرورة جعل المفروض كالهالك، فيجب نصف القيمة ليزول معنى الربا.
17. على ما ذكرت يخرج قول أبى يوسف، في العلة والهيئة: أنه يظهر الواجب في الحكم، وعند أبى حنيفة، ذلك في حق النقض يصير كذلك، دليله: ما لم يكن يجوز فيه تقلب الزوج، لو كان منه، ثم النقض لا يرد على ما ليس له حكم المهر، فيبقى ذلك للمرأة على ما كان لها قبل الطلاق؛ إذ الطلاق نقض الملك في المهر، وليس ذلك بمهر.
18. المذكور من المتعة فيما فيه الدخول يحتمل ما عليه في حال النكاح من الكسوة والنفقة، إلى تمام العدة، فتكون الآية في ذكر النفقة بعد الفراق؛ إذ لا يجوز أن يكون الطلاق سببا لإيجاد حق غير واجب قبله، ويحتمل أن يكون في حق المتبرع شرط عليه ليكون تسريحا بالإحسان على ما رغب في غير المدخول بها من الإتمام؛ إذ لا يجوز أن يكون ذلك بدلا فيكون لملك واحد بدلين، مع ما جعل الله تعالى الطلاق سببا لتخفيف الحقوق على الزوج، ورفع المؤنة، ورد الأمر إلى الغناء بالآخر بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130]، لم يحتمل به الوجوب، فيصير سببا لإلزام المؤنة، ولا قوة إلا بالله.
19. قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فيه دليل لأبى حنيفة، حيث قال إن الذمى إذا تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لا متعة لها؛ لأن الله تعالى إنما أوجب المتعة على المحسنين، والذمي ليس بمحسن، والدليل على أن المتعة إنما أوجبت تخفيفا، ومهر المثل لا؛ لأن مهر المثل أوجب على المرء احتمله ملكه أو لم يحتمل، والمتعة لم تلزم إلا ما احتمله ملكه؛ فبان أنها أوجبت تخفيفا فإذا كان تخفيفا؛ لم يزد على مهر المثل، والثاني: أن المتعة أوجبت بدلا عن نصف مهر المثل، ثم لا جائز أن يراد بالبدل المبدل، كما قيل في سائر الأبدال، والمتعة ـ هي ثلاثة أثواب؛ لأنه يخرجها من المنزل، وأقل ما تخرج المرأة من المنزل إنما تخرج بثلاثة أثواب.
20. سؤال وإشكال: إن الكتاب ذكر المتعة للمطلقة قبل المماسة إذا لم يفرض لها فرض، وذكر أنه في نصف المفروض إذا طلقها قبل المماسة، وأنتم أوجبتم كل المسمى وكل مهر المثل إذا خلا بها ولم يمسسها، والجواب: في الآية بيان وجوب المتعة في حال وبيان وجوب نصف المهر في حال، وليس في بيان وجوب النصف نفى وجوب الكل؛ لأنه إذا قيل: (لفلان نصف هذا الشيء)، ليس فيه دليل أن النصف الآخر ليس له، فإذا كان ما ذكرنا ليس لمخالفنا الاحتجاج علينا بظاهر الكتاب، ولا السنة إلى مخالفة الآية، فصار معرفة ذلك بتدبير آخر من جهة الكتاب، مع ما أنه لا يوجب المهر كله لعين المسيس، فكانا ـ نحن وهو ـ اتفقنا جميعا على إيجابه لا بالكتاب.
21. إن شئت قلت: إن الخلوة لا توجب كمال الصداق، وإنما يوجبه صحة العقد، دليله: مطالبة المرأة الزوج بكماله بعد صحة النكاح؛ فدل أن وجوبه لا بالخلوة، ولكن بصحة العقد، فالكلام إنما وقع في إسقاط البعض، فيسقط إذا قام دليل الإسقاط.
22. وإن شئت قلت: إن المرأة لا تملك سوى تسليم نفسها إليه، فالعقد إنما وقع على ما يقدر على تسليمه إليه، ليس على ما لا تقدر؛ لأنها لا تقدر على تسليم الاستمتاع إليه؛ إذ لو كان العقد واقعا على ذلك لكان يبطل؛ لأن من باع ما لا يقدر على تسليمه إلى المشترى لبطل العقد بأصله، فعلى ذلك عقد النكاح إذا جعل واقعا على تسليم الاستمتاع إليه كان باطلا كالبيع للمعنى الذي وصفناه.
23. اختلف في المرأة التي مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولا فرض لها مهرا:
أ. روى عن عبد الله بن مسعود، أنّه قال لها مهر مثلها، وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم (أنه قضى لبروع بنت واشق بمهر مثلها).
ب. وروى عن على بن أبى طالب أنّه قال لها المتعة بكتاب الله تعالى، وقال: لا ندع كتاب الله بقول أعرابي، ذهبـ والله أعلم ـ إلى أن الكتاب ذكر المتعة في الطلاق، ثم كان ذلك الحكم في غير الطلاق كهو في الطلاق؛ فعلى ذلك الفرقة التي وقعت بالموت توجب المتعة كوجوبها في الفرقة الواقعة في غير الطلاق، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، ذكر (المطلقات)، ثم كانت التي وقعت الفرقة عليها بغير طلاق يلزمها ما يلزم المطلقة، ومثل ذلك كثير مما يكثر ذكره.
ج. أما عندنا فإنه لا تلزم المتعة، ولكن يلزم مهر المثل لوجوه:
• أحدها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ذكر في الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، وفى الدخول كل المفروض؛ فعلى ذلك ما أوجب من الحكم في التي لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا دون ما أوجب في حكم الدخول.
• الثاني: أن المقصود بالنكاح إنما يكون إلى موت أحد الزوجين، فإذا كان كذلك لزم كل المسمى أو كل مهر المثل.
• الثالث: الخبر الذي ذكرنا: أنه قضى بمهر المثل، وخبر أمثال هؤلاء مقبول إذا كانت البلية في مثله بلية خاصة، إذ بمثل هذا لا يبلى إلا الخواص من الناس؛ لذلك كان ما ذكرنا.
24. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ذهب قوم إلى ظاهر الآية ـ أنه ذكر فيها ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ولم يخص المفروض في العقد دون المفروض بعد العقد، فكله مفروض، فلها نصف المفروض سواء كان المفروض في العقد أو بعد العقد، وعلى ذلك قال قوم: إن الرجل إذا تزوج امرأة على جارية ودفعها إليها، فولدت عندها ولدا، ثم طلقها قبل الدخول بها، أن لها نصف الجارية؛ لأن الله تعالى قال ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ وأنتم لا تجعلون له نصف ما فرضتم، فخالفتم ظاهر الكتاب:
أ. أما الجواب لمن جعل المفروض بعد العقد كهو في العقد فيما جعل لها نصف ما فرض، فإن الخطاب من الله تعالى إنما خرج في المفروض في العقد لا في المفروض بعد العقد؛ لأنه لم يتعارف الفرض بعد العقد، فإذا لم يتعارف في الناس الفرض بعد العقد إنما يتعارف في العقد، خرج الخطاب على هذا المتعارف فيهم، وهو المفروض في العقد، فيجعل لها نصف ذلك وما يفرض بعد العقد وإنما يفرض بحق مهر المثل، فإذا وجد الدخول وجب ذلك، وإلا لم يجب.
ب. أما جواب من قال بأنه إذا تزوجها على جارية ودفعها إليها، فولدت ولدا، أن له نصف ما فرض ـ فإنا نقول: إن الآية ليست في الفرض الذي معه آخر ولدا أو غيره؛ ألا ترى أن الجارية إذا كانت عند الزوج فولدت ولدا فإن لها نصف الجارية ونصف الولد، والولد لم يكن في الفرض وقت العقد؟ فعلى ذلك الآية ليست في الجارية التي ولدت عندها، ولكن في الفرض الذي لا زيادة معه، ثم لا يخلو إما أن يجعل نصف الجارية لها دون الولد، فقد فسخ العقد في الأصل فبقى الولد بلا أصل، فذلك ربا، أو يجعل له نصف الجارية مع نصف الولد، وهو غير مفروض، والله تبارك وتعالى إنما جعل له نصف ما فرض؛ فبطل قول من قال ذلك.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾:
أ. قيل: يريد به المؤمنين فيكون في هذا التأويل دلالة على ما قاله أبو حنيفة: أن لا تلزم الذمى المتعة.
ب. وقيل: على من قصدهم الإحسان إلى الأزواج ويتقون الخلاف، لما كان عليه النكاح من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والله الموفق.
اعتل قوم في حق العدة وكمال المهر، أنه ذكر فيه الطلاق لا على تخصيص الحكم له، بل بكل ما يكون به تسريحها فمثله يكون ذكر المماسة ـ لا على تخصيص، ولكن بكل ما يكون به تحقيقها، ولا قوة إلا بالله، قال: وقدرت المتعة في الاختيار بالقدر الذي كان يمتعها بالإمساك، إذ لا بد من كسوتها، ليعلم أن ليس للفرار عن ذلك الحق يطلق، أو بما به يخرجها من منزله فأمر أن يمتعها بما به التي تخرج من المنازل، وأقل ذلك ثلاثة أثواب.
26. فى هذه الآيات دلالة واضحة على أن الشيء التافه لا يحتمل أن يكون مهرا؛ لما أوجب عند العدم، فيما لا تسمية فيه، الشيء الخطير، وهو الذي يمتعها، وأقل ما تمتع هي له فيه ثلاثة أثواب وفيما سمى أمرا عند ذلك بالعفو وجب، لا يحث على العفو عنها، ولا يرغب بين الزوجين إلا الأخذ بالفضل بمثله دل أن لذلك حدّا قد يجرى بمثله التنازع، فيرغبون في إبقاء ذلك واختيار ما به التآلف على أن الله ـ جل ثناؤه ـ قد جعل بناء النكاح بالأموال وبها أحل، وقال في ذي العذر: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ﴾ [النساء: 25]، الآية، ولو كان بحبة طول حرة لكان لا أحد يعجز عنها فيشترط ذلك فى تزويج المملوكة وبخاصة على قول من لا يبيح إلا بالضرورة، فمن رأى يضطر إلى حبة يتوق إلى الاستمتاع فضلا من أن يتخير، ثم على ذلك قال في الإماء: ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ والحبة معلوم أنها أنكر من المنكر؛ فثبت أن مهر الحرائر بيّن ويظهر في أهل الحاجة، وأن القول بجعل الحبة مهرا تامّا ووصف ملكها بملك الطول قولا مهجورا، لا معنى له، وبعد فإن الناس قد أجمعوا على أنها لا تملك (المعروف) ببضعها، والبدل للزوج بلا بدل يلزمه، فصار كمتولي العقد على ما ليس لها، وحظ القليل في مثله والكثير في المنع واحد، فقياس ذلك ألا يكون الحط من مهر مثلها، والحبة لا تكون مهر مثل أخبث امرأة في العالم، فلا يجيء أن يجوز الحط ولكن أجيز العشرة بالاتفاق، ولم يجز الأكثر للتنازع، وقد بينا الفساد من طريق التدبير.
27. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ قيل: المرأة، وقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ اختلف أهل التأويل فيه: قال على وابن عباس: هو الزوج ـ وقال قوم: هو الولي، وأمكن أن يكون قول من قال بأنه الولي؛ لما أن المهور في الابتداء كانت للأولياء، دليل ذلك قول شعيب لموسى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص: 27] شرط المهر لنفسه، وكما روى من الشغار، ثم نسخ من بعد وصار ذلك للنساء بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: 229]، وقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20]، ولأنهم أجمعوا على ألا يجوز لأحد المعروف في ملك الآخر إلا بإذنه؛ فعلى ذلك لما ثبت أن المهر لها لا يجوز للولى المعروف فيه.
28. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعنى المرأة تترك النصف ولا تأخذ منه شيئا، وقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ يعنى الزوج يجعل لها كل الصداق، يقول: كانت فى حبالتي ومنعتها من الأزواج، وتترك المرأة له النصف، فتقول: لم ينظر إلى عورتي، ولا تمتع أي لا تنسوا الفضل الذي في ابتداء الأمر؛ لأن أمر النكاح في الابتداء مبنى على التشفع والإفضال، فرغبهما عزّ وجل على ختم ذلك على الإفضال على ما بنى عليه، والله تعالى أعلم، وفيه دلالة على أن (العفو) هو الفضل في اللغة، وهو البذل، تقول العرب: عفوت لك، أي بذلته، فإن كان (العفو) هو البذل فكأن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: 178]، أي ترك له وبذل، ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 178]، يكون فيه دليل لقول أصحابنا ـ رحمهم الله تعالى ـ في ذلك.
29. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ معناه: حق على المتقي أن يرغب فيه، وكذا قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أن يرغب فيه، ثم لإضافة ذلك إلى الرجال وجهان:
أ. أحدهما: لما أنهم هم الذين تركوا حقهم، ومن عندهم جاء هذا التقصير.
ب. الثاني: أن في تسليم ذلك من الرجال الكمال، وهم في الأصل موصوفون بالكمال، ومن عندهم يستوفى ما فيه الكمال.
30. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ يحتمل اشتراك الزوجين في ذلك، لا معنى الأخذ بالعفو والفضل أولى لمن يريد اتقاء دناءة الأخلاق، أو أولى الفضل ممن أكرم باتقاء الخلاف لله تعالى، ويحتمل: الأزواج بما قد ضمنوا الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو أقرب إلى وفاء ذلك واتقاء الخلاف له، على أن سبب الفراق جاء منه، فذلك أقرب لاتقاء الجفاء منهم، وأظهر للعذر لهم فيما اختاروا.
31. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ حرف وعيد عما فيه التعدي ومجاوزة الحدود والخلاف لأمره.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/195.
(2) يقصد الحنفية.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ الآية: هو أن الرجل إذا تزوج امرأة ولم يفرض لها مهراً بعينه ثم طلقها قبل أن يدخل بها، وفارقها قبل أن يمسها، فيجب عليه المتعة لها على قدر ما يطيق، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم متع ابنة أبي أسيد بثوبي كتان.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾: يريد إلا أن يعفون عن أزواجهن المطلقين لهن ويهبن لهم ما يحب من نصف الصداق لهن، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح: يعني الرجل إذا أراد العفو عن أخذ بعض المهر وأوفاها جميعه، والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح، ثم ندب الرجال إلى العفو فقال: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: أي أقرب إلى التقوى ثم قال ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾: يعني المروءة.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 286.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وقد قرئ: ما لم تماسوهن ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ ومعنى بل تفرضوا لهن فريضة والفريضة الصداق وسمي فريضة لأنه أوجبه لها ويقال: فرض فلان لفلان كذا أي أوجب له.
2. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ يعني أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار فأما قدر المتعة فعلى ما ذكرنا وليس لها قدر معلوم بل تكون على سعة حسب سعة الأحوال وضيقها والأحسن أن تكون مثل نصف الصداق.
3. ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فعلم وجوبها عليه بهذه الآية وهي لكل مطلقة لم يدخل بها زوجها.
4. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وهو أولى الطلاقين لمن كان كارهاً قبل الدخول كما روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: إن الله عز وجل لا يحب الذواقين والذواقات) يعني الفراق بعد الذوق.
5. ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يعني صداقاً ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ لكم تسترجعونه منهن ويحتمل فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعني به عفو الزوجة ليكون عفوها أدعى إلى خطبتها ويرغب الأزواج فيها به قال ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج كذلك رويناه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
6. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ وهذا خطاب للزوج والزوجة وذلك أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/117.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وقرأ حمزة والكسائي: تماسّوهنّ.
2. في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه ولم تفرضوا لهن فريضة.
ب. الثاني: أن في الكلام حذفا وتقديره: فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة.
الفريضة: الصداق وسمي فريضة لأنه قد أوجبه لها، وأصل الفرض: الواجب، كما قال الشاعر:
كانت فريضة ما أتيت كما...كان الزّناء فريضة الرجم
قدره وعلى المقتدر قدره أي أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار.
3. اختلف في قدر المتعة على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن المتعة الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه قدر نصف صداق مثلها، وهو قول أبي حنيفة.
ج. الثالث: أنه مقدّر باجتهاد الحاكم، وهو قول الشافعي.
4. ثم قال تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ واختلفوا في وجوبها على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة، وهو قول الحسن، وأبي العالية.
ب. الثاني: أنها واجبة لكل مطلقة إلا غير المدخول بها، فلا متعة لها، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب.
ج. الثالث: أنها واجبة لغير المدخول بها إذا لم يسمّ لها صداق، وهو قول الشافعي.
د. الرابع: أنها غير واجبة، وإنما الأمر بها ندب وإرشاد، وهو قول شريح، والحكم.
5. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وهو أول الطلاقين لمن كان قبل الدخول كارها، لرواية سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (إنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ الذوّاقين ولا الذّوّاقات)، يعني الفراق بعد الذوق.
6. ثم قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يعني صداقا ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فيه قولان(2): أحدهما: معناه فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن، ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعني به عفو الزوجة، ليكون عفوها أدعى إلى خطبتها، ويرغّب الأزواج فيها.
7. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وطاووس والحسن، وعكرمة، والسدي.
ب. الثاني: هو الزوج، وبه قال علي، وشريح، وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم، ومجاهد، وأبو حذيفة.
ج. الثالث: هو أبو بكر، والسيد في أمته، وهو قول مالك.
8. في المقصود بهذا الخطاب: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه خطاب للزوج وحده، وهو قول الشعبي.
ب. الثاني: أنه خطاب للزوج والزوجة، وهو قول ابن عباس، وفي قوله:
9. في قوله تعالى: ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه.
ب. الثاني: أقرب إلى اتقاء معاصي الله.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/306.
(2) لم يذكر إلا قولا واحدا.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف (تماسوهن) بضم التاء وبألف هاهنا موضعان، وموضع في الأحزاب، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر، وابن ذكوان (قدره) بفتح الدال في الموضعين، الباقون بإسكانها.
2. المفروض صداقها داخلة في دلالة الآية وإن لم يذكر، لأن التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة، لأن أو تنبئ عن ذلك، لأنه لو كان على الجمع لكان بالواو، والفريضة المذكورة في الآية: الصداق، بلا خلاف، لأنه يجب بالعقد للمرأة، فهو فرض لوجوبه بالعقد.
3. متعة التي لم يدخل بها ولا يسمى لها صداق:
أ. قيل: على قدر الرجل، والمرأة، قال ابن عباس، والشعبي، والربيع: خادم أو كسوة أو رزق، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقيل: مثل نصف صداق تلك المرأة المنكوحة، حكى ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه.
4. في وجوب المتعة لكل مطلقة خلاف:
أ. قال الحسن وأبو العالية: المتعة لكل مطلقة إلا المختلعة، والمبارية، والملاعنة.
ب. وقال سعيد بن المسيب: المتعة التي لم يسم لها صداق، خاصة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ج. وقد روي أيضاً أنها لكل مطلقة، وذلك على وجه الاستحباب.
د. والمتعة للتي لم يدخل بها ولم يعرض لها يجبر عليها السلطان، وهو قول أهل العراق.
هـ. وقال أهل المدينة وشريح يؤمر لها، ولا يجبر عليها.
5. الموسع: الغني في سعة من ماله لعياله.
6. المقتر: الذي في ضيق لفقره، تقول: أقتر الرجل إقتاراً: إذا أقلّ، فهو مقتر أي مقلّ، وقترت الشيء أقتره قتراً، وأقترته إقتاراً، وقترّته تقتيراً: إذا ضيقت الإنفاق منه، والقتار: دخان الشحم على النار، ونحوه، لغلبته بالإضافة الى بقيته، والقتر: الغبار، والقترة: ما يغشى الوجه من غير الموت، والكرب، لأنه كالقتار أو كالغبار يغشى الوجه، وفي التنزيل ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ والقتير: مسامير الدروع، لقلتها وصغرها، والقتير ابتداء الشيب، لقلته، ويجوز أن يكون مشبهاً بالدخان أول ما يرتفع، والقترة ناموس الصائد، لأنها كالقتار بإخفائه إياها، ورجل قاتر: حسن الأخذ من ظهر البعير لا يعقره لقلة ما يأخذ منه، وأصل الباب الاقلال، وابن قترة: حية خبيثة لا ينجو سليمها.
7. المتوفى عنها زوجها إذا لم يفرض لها صداق عليها العدة ـ بلا خلاف ـ ولها الميراث إجماعاً، وقال الحسن والضحاك وأكثر الفقهاء، لها صداق مثلها، وحكى الجبائي عن بعض الفقهاء: أنه لا مهر لها، وهو الذي يليق بمذهبنا، ولا نص لأصحابنا فيها.
8. يحتمل نصب ﴿مَتَاعًا﴾ وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون حالا من قدره، لأنه معرفة، والعامل فيه الظرف.
ب. الثاني:على المصدر، والعامل فيه ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾.
9. يحتمل نصب حقا وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون حالا من ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا﴾ والعامل فيه معنى عرف حقا.
ب. الثاني:على التأكيد، لجملة الخبر كأنه قيل: أخبركم به حقا كأنه قيل: إيجاباً ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾
10. إنما خص التي لم يدخل بها بالذكر في رفع الجناح دون المدخول بها بالذكر وإن كان حكمهما واحداً لأمرين:
أ. أحدهما: لإزالة الشك في الحرج على هذا الطلاق.
ب. الثاني:لأن له أن يطلق أي وقت شاء، وليس كذلك حكم المدخول بها، لأنه يجب أن يطلقها للعدة.
11. ﴿وَقَدَّرَهُ﴾ على تقدير أعطوهن قدر الوسع كما يقال: أخذ صدقاتهن لكل أربعين شاة بالرفع، والنصب، وقال الشاعر في تسكين الدال:
وما صبّ رجلي في حديد مجاشع...مع القدر إلا حاجة لي أريدها
وقال آخر:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر!...وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري!
قال أبو زيد: قدر القوم: أمرهم يقدرونه قدراً، وهذا قدر هذا أي مثله، وقدر الله الرزق يقدره، وروى السكوني يقدره قدراً، وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدراً، وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة، وقدوراً، وقدارة، ونسأل الله خير القدر، وقال أبو الصقر: هذا قدر هذا، وأحمل قدر ما تطيق، قال أبو الحسن: هو القدَر، والقدر، وخذ منه بقدَر كذا، وقدر كذا: لغتان فيه، وقوله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ وقدرها.
12. من قرأ (تمسوهن) بلا الف، فلقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فإنه من جاء على (فعل)، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ ومن قرأ (تماسوهن بالف)، لأن (فاعل)، و(فعل) قد يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر، نحو طابقت النعل وعاقبت اللصّ ولا يلزم على ذلك في آية الظهار ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ لأن المماسة محرمة في الظهار على كل واحد من الزوجين للآخر، فلذلك لم يجز إلا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾، وفي الآية دليل على أن العقد بغير مهر صحيح، لأنه لو لم يصح لما جاز فيه الطلاق، ولا وجبت المتعة.
13. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ روى سعيد بن المسيب: أن هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الأولى، قال البلخي: وهذا ليس بصحيح، لأن الآية الأولى تضمنت حكم من لم يدخل بها، ولم يسم لها مهراً إذا طلقها، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها صداق إذا طلقت قبل الدخول، وأحد الحكمين غير الآخر، والذي قاله سعيد بن المسيب متوجه على ما قدمناه في الآية من أن دليلها يتناول التي فرض لها المهر، وإن حملنا قوله: (ومتعوهن) على عمومه لزم أن تمتع كل مطلقة وإن سمي لها مهراً، وإن قلنا: لا متعة للمفروض لها الصداق، فلا يلزم نسخ الآية أو تخصيصها إن نزلت معها.
14. قال جميع أهل التأويل: إنه إذا طلق الرجل من سمي لها مهراً معلوماً قبل أن يدخل بها، فإنه يستقر لها نصف المهر، فان كانت ما قبضت شيئاً وجب عليه تسليم نصف المهر، وإن كانت قد سلمت جميع المهر، وجب عليها ردّ نصف المهر، ويستقر لها النصف الآخر.
15. النصف: هو سهم من اثنين.. تقول: نصفه ينصفه، وانتصف انتصافاً، ونصفه تنصيفاً، وأنصفه إنصافاً، وتناصفوا تناصفاً، وناصفه مناصفة، وتنصف تنصفاً، والنصف: المرأة بين المسنة والحدثة، لأنها على نصف المسنة، والناصف: الخادم، هو ينصف الملوك أي يخدمهم، لأنه يعطيهم النصف من نفسه قسراً وذلا، والانصاف، لأنه كالنصف في العدل، والنصيف: الخمار، لأنه كالنصف في أنه وسط بين الصغير، والكبير، ويقال له: نصيفة، ومنتصف الطريق: وسطه، والمنصف من الشراب الذي طبخ حتى ذهب نصفه، والنصيف: مكيال، لأنه على النصف بالتعديل بين الكبير والصغير.
16. ﴿أَنْ يَعْفُونَ﴾ معناه: أن يصح عفوها، من الحرار البالغات غير المولى عليها، لفساد عقلها، فتترك ما يجب لها من نصف الصداق، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وجميع أهل العلم.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾:
أ. قال مجاهد، والحسن، وعلقمة: إنه الولي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام، غير أنه لا ولاية لأحد ـ عندنا(2) ـ إلا الأب أو الجد على البكر غير البالغ، فأما من عداها، فلا ولاية له إلا بتولية منهما، روي عن علي عليه السلام.
ب. وعن سعيد بن المسيب، وشريح، وحماد، وإبراهيم، وأبي حذيفة، وابن شبرمة: أنه الزوج، وروي ذلك أيضاً في أخبارنا غير أن الأول أظهر، وهو المذهب، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف، وقوينا ما أخبرناه هناك.
18. الألف واللام في قوله: ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ بدل من الاضافة، فمن جعل الزوج قال تقديره: الذي بيده عقدة نكاحه، ومن جعل الولي، قال تقدير الذي بيده عقدة نكاحها، ومثله قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ ومعناه: هي مأواه وقراره وقال النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم...من الناس والأحلام غير عوازب
معناه وأحلامهم غير عوازب، ومن جعل العفو للزوج قال له أن يعفو عن جميع نصفه.
19. من جعله للولي: قال أصحابنا له أن يعفو عن بعضه، وليس له أن يعفو عن جميعه، فان امتنعت المرأة من ذلك لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة ذلك، عن أبي عبد الله عليه السلام، واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج، قال: لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ خطاب للزوج والمرأة، قال لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة.
20. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ خطاب للزوج، والمرأة جميعاً ـ في قول ابن عباس ـ وقيل: للزوج وحده عن الشعبي، وإنما جمع لأنه لكل زوج وقول ابن عباس أقوى لأنه العموم، وإنما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين:
أ. أحدهما: لاتقاء ظلم كل واحد صاحبه مما يجب من حقه.
ب. الثاني:أنه أدعى الى اتقاء معاصي الله، للرغبة فيما رغّب فيه من العفو عماله.
21. ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ رفع على: عليكم نصف ما فرضتم، وكان يجوز أن ينصب في العربية على فأدوا نصف ما فرضتم.
22. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ الواو مضمومة، لأنها واو الجمع، وقياسها أن تكون مع ضم ما قبلها، فإذا لم يوصل اليه جعل الضم منها، وكان يجوز فيها الكسر، ومثله ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ على ضعف فيه، وقد مضى ذكره.
23. الذي يوجب المهر كاملا الجماع، وهو المراد بالمسيس، وقال أهل العراق: وهو الخلوة التامة إذا أغلق الباب وأرخى الستر، وقد روى ذلك أصحابنا غير أن هذا يعتبر في حق الثيب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/269.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المس مصدر مَسِسْتُ أَمَسُّ من باب حسب يحسب، ويجوز مَسَسْتُ أمس مثل نظرت أنظر، والمس أن يلاقي جلده جلدك.
ب. الفرض أصله القطع، والفرض التقدير، والفرض ما أوجبه الله تعالى عليك، كأنه قدره عليه قطعًا.
ج. المتعة: أصله من الاستمتاع، وهو الانتفاع بالشيء، ومتعت المطلقة بالشيء منه.
د. الموسع ذو السعة في الحال، وهو أن يكون في سعة لغناه.
هـ. المقتر: المقل، والإقتار الإقلال، أقتر الرجل إقتارًا فهو مقتر.
و. النصف معروف، وهو جزء معروف، وهو: جزء من اثنين على المساواة، والجزء الذي لا يتجزأ ليس له نصف؛ لأنه ليس بجزأين.
ز. العفو: الترك، وعفو الله تعالى عن خلقه معناه استحقوا العقوبة فترك، وعفو المال: ما فضل عن النفقة، فكأنه ترك فلم يبق.
ح. النسيان: خلاف الذكر، والنسيان الترك، ومنه: ﴿نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ﴾ والنسأ: التأخير، ومنه: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ ومنه النسيئة.
ط. الفضل: الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان، والمتفضل: المدعي للفضل على أقرانه، ومنه: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾.
2. نزلت الآية في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهرًا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: متعها ولو بقلنسوتك).
3. لما تقدم ذكر المطلقة المدخول بها وعدتها، وإيتاء المفروض بين حكم الطلاق، وبين الفرض والمسيس فقال تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا حرج عليكم، ولا مأثم ﴿إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ قبل أن تمسوهن، والمس كناية عن الوطء ثم الخلوة تقوم مقام الوطء عند أهل العراق في تأكيد المهر والعدة، وقال الشافعي: لا تقوم: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لم توجبوا ولم تقدروا لهن مهرًا مقدرًا.
4. سؤال وإشكال: لم خص برفع الجناح غير المدخول بها، وحكمها والمدخول بها سواء؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. قيل: لإزالة الحرج على هذا المطلق.
ب. وقيل: لأن له أن يطلق أي وقت شاء بخلاف المدخول بها، فإنه لا يجوز أن يطلق إلا في طهر لم يجامعها فيه، وذلك لما لم يكن بينهما التقاء وصحبة لم تنعقد من الحرمة، ولم يثبت من الألفة ما يقتضي الندامة عند الفرقة أو الفتنة فأطلق ذلك.
ج. وقيل: إنه لا عدة عليها، فلا يمكن مراعاة السنة والبدعة فيه.
د. وقيل: لا سبيل عليكم لهن في هذا الموضع بمهر، ونفقة.
5. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به، والمتعة والمتاع ما يتمتع به: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ يعني على الغني الذي في سعة غناه لقدر حاله: ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾ على الفقير الذي في ضيق فقره بقدر إمكانه وطاقته: ﴿مَتَاعًا﴾ أي متعوهن متاعًا: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بما أمركم الله من غير ظلم ولا بخس بتكبر.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾:
أ. قيل: أي حقًّا يلزم المحسنين، وذلك يلزم غير المحسنين، ولكن خص المحسنين، تأكيدًا ليقوموا به، فلا تضيعوه، عن أبي علي.
ب. وقيل: معناه من أراد أن يحسن فهذا حقه وحكمه وطريقه، عن أبي مسلم.
7. اختلفوا في قدر المتعة:
أ. فقيل: خادم أو كسوة أو رزق، على قدر الممتع، عن ابن عباس والشعبي والربيع.
ب. وقيل: أفضله خادم، وأوضعه ثوب، عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن.
ج. وقيل: درع وخمار وملحفة وجلباب، عن الشعبي.
د. وقيل: ثلاثين درهمًا، عن ابن عمر.
هـ. وقيل: قدر النصف من مهر مثلها، عن أبي حنيفة، وأصحابه، قالوا: لا يزاد على مهر مثلها، ولا ينقص من خُمُسِهِ.
و. وقيل: خمسمائة درهم، عن شريح.
8. ثم لما تقدم حكم المطلقة قبل الفرض والمسيس بَيَّنَ حكم المطلقة بعد الفرض والمسيس، فقال تعالى: ﴿وَإنْ طًّقْتُمُوهُنَّ﴾ يعني أيها الرجال إن طلقتم النساء ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾:
أ. قيل: تجامعوهن.
ب. وقيل: المجامعة وما يقوم مقامها من الخلوة، عن ابن مسعود، وهو قول أهل العراق.
9. ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يعني أوجبتم لهن صداقًا، وقدرتم مهرًا ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي عليكم نصف ما قدرتم، وهو المهر المسمى ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعني بترك النساء نصف صداقهن فلا يطالبن الأزواج بذلك، عن ابن عباس وسائر أهل العلم، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أو يترك أو يهب الذي بيده عقدة النكاح:
أ. قيل: هو الزوج، عن علي كرّم الله وجهه، وسعيد بن المسيب وشريح، وإبراهيم وحماد وأبي حذيفة وابن شبرمة والشعبي ومحمد بن كعب ونافع وقتادة والضحاك وطاووس وأبي علي، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، وعليه أكثر العلماء.
ب. وقيل ـ وهم الأقل ـ: هو الولي، عن علقمة ومجاهد والحسن، وهو مذهب الشافعي، قالوا: ويجوز أن يهب الولي مهر الولية إذا كانت بكرًا، ولا يجوز إذا كانت ثيبًا، وعند الأولين ليس للولي أن يهب المهر بكرًا كانت أو ثيبًا كسائر أموالها، وإطلاق الآية يوجب أن المراد به الزوج.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾:
أ. قيل: خطاب للزوج والمرأة، عن ابن عباس.
ب. وقيل: للزوج وحده، عن الشعبي، وجمع لأنه خطاب لكل زوج.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾:
أ. قيل: أي أقرب إلى التقوى، وإنما كان أقرب لاتقاء كل واحد ظلم صاحبه فيما يجب من حقه.
ب. وقيل: أدعى إلى اتقاء معاصي الله تعالى؛ ليرغبه فيما رَغِبَهُ الله تعالى من العفو عما له.
ج. وقيل: لأنه يستحق الثواب عليه، أو يسقط بقدره من العقاب، وهو الأقرب، ويشهد له الظاهر: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي لا تتركوا الإحسان بينكم، والفضل من جهته إتمام الصداق، ومن جهتها إسقاط النصف، حثهما على الإفضال: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي عالم بأعمالكم فيجازيكم بها.
12. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن طلاق غير المدخول بها مباح في كل وقت، وأنه لا بدعة، بخلاف المدخول بها فلذلك أطلق.
ب. صحة النكاح من غير تسمية مهر إذ لو لم يصح النكاح لما صح الطلاق، وفيه إجماع، ولا خلاف أن لها أن تطالب بفرض المهر، فإن دخل بها قبل الفرض فلها مهر المثل، ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة: مهر المثل يجب بالعقد، ويستقر بالدخول، وقال الشافعي: يجب بالدخول، فإن مات قبل الفرض والمسيس فلها مهر المثل، عن أبي حنيفة وأصحابه، ولها الميراث وعليها العدة، وهو قول ابن مسعود والحسن والضحاك وأبي علي، وعند الشافعي لا يجب لها مهر المثل، ولها الميراث، وروي نحوه عن علي، ولا خلاف أن لا متعة لها.
ج. أنه إذا شرط أن لا مهر لها يصح النكاح كما لو لم يسم؛ لأن في الحالين لم يفرض لها الصداق خلاف ما يقوله مالك والشافعي.
د. أن المطلقة قبل الفرض والمسيس لها المتعة، وفيه إجماع، ثم اختلفوا فقيل: المتعة لكل مطلقة عن الحسن والشافعي، وقيل: لهذه المطلقة فقط، عن سعيد بن المسيب ومجاهد وأبي حنيفة وأصحابه.
هـ. وجوب المتعة؛ لأنه أوجب عليه حد وجوب النفقة؛ ولأن كلمة: ﴿عَلَى﴾ تفيد الوجوب؛ ولأنها فرق بين الموسر والمعسر، وذلك يكون في الواجبات، ولهذا قال أبو حنيفة: يجبره عليها السلطان خلاف ما قاله شريح ومالك: إنها مستحبة، قال أبو حنيفة: المتعة متعتان، واجبة كهذه، ومستحبة لكل مطلقة.
و. جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية؛ لأنه وَكَّلَ ذلك إلى اجتهادنا، ثم قال: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وذلك أيضًا يعرف بالاجتهاد فهو كالنفقة المفروضة إلى الاجتهاد.
ز. أن المتعة تجب بالطلاق، بشرط عدم الفرض والمسيس، وإن كان لا بد من تقدم عقد؛ لأنه عند الطلاق تجب المتعة، وقيل: بالطلاق يجب شيء آخر ولا تجب المتعة ولهذا قال أبو حنيفة: إذا رهن بمهر المثل ثم طلقها قبل الفرض والمسيس أنه لا يكون رهنًا بالمتعة؛ لأنه دين آخر لم يرهن به قال أبو يوسف: يكون رهنًا به.
ح. أن المتعة تختلف باليسار والإعسار، ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما جميعًا، وهو اختيار القاضي كالنفقة ومهر المثل، ومنهم من يعتبر حاله، عن أبى حنيفة وأصحابه، قال أبو بكر الرازي في المتعة: يعتبر حاله، وفي مهر المثل يعتبر حالهما، وكذلك في النفقة، واستدل أبو بكر بظاهر قوله: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ قال القاضي: وقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يدل على اعتبار حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة.
ط. أن تقدير المهر عند العقد إذا ثبت لزم لزوم الفرض؛ لذلك قال: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ﴾؛ لأن تقدير ما لا يجب لا يسمى فرضًا.
ي. أن الفرض بعد العقد يصح.
ك. أن المطلقة قبل المسيس يجب لها نصف المفروض، واختلف مشايخنا: فمنهم من قال: المهر يسقط بالطلاق ويجب نصف المفروض على طريق المتعة، ومنهم من قال: النصف يسقط بالطلاق ويبقى النصف، وهو الذي يشهد له الظاهر، فأما الفرض بعد العقد إذا طلقها فيسقط كله، وتجب المتعة عند أبي حنيفة وأصحابه، وعند الشافعي يجب نصف المسمى.
ل. أن المسيس يوجب استقرار المهر، وفيه إجماع، ولا خلاف أن الموت يقوم مقام الدخول في استقرار المهر، واختلفوا في الخلوة فقال أهل العراق: يستقر به المهر، وقال الشافعي: لا، وعلى هذا الخلاف في وجوب العدة، والآية تشهد للقول الأول؛ لأنه إذا خلا بها وقَبَّلَهَا فقد مسها وإن لم يجامعها، فيجب المهر بظاهر الآية.
م. أن المفروض يجب أن يكون معلومًا؛ لأن المجهول لا نصف له.
ن. أن النصف ثبت عند عدم العفو؛ لأن الاستثناء يقتضي ذلك والمراد بالعفو الإسقاط، فالزوج يسقط الطلب بالنصف، والمرأة بالنصف.
س. أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج دون الولي؛ لأن حل العقد بيده، والمهر يملكه هو دون الولي، والهبة منه على الإطلاق تصح دون الولي.
ع. تدل على قولنا في اللطف؛ لأنه يعتد بذلك حيث قال: ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ والنسيان المذكور المراد به الترك؛ لأن النسيان في الحقيقة ليس من فعل العبد، ولا يتعِلق به التعبد.
13. قراءات وحجج:
أ. قرأ حمزة والكسائي (تُمَاسُّوهن) بالألف على المفاعلة، وكذلك في الأحزاب؛ لأن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعًا، واعتبر ذلك بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ وفيه إجماع، وقرأ أبو جعفر وابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ بغير ألف؛ لأن الغشيان من فعل الرجل، واعتبروا بقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فيه إجماع.
ب. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ﴿قَدْرِهِ﴾ بسكون الدال، وقرأ أبو جعفر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بفتح الدال وهما لغتان، قال تعالى: ﴿أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وفيه إجماع، وقيل: القَدْرُ بسكون الدال المصدر، وبالفتح الاسم.
ج. قراءة العامة: ﴿فَنِصْفُ﴾ بكسر النون، وعن السلمي بضمها، وهما لغتان.
د. قرأ الحسن: ﴿وَيَعْفُو﴾ بسكون الواو استثقالاً للفتحة على الواو، والقراءة الظاهرة بفتح الواو، وعن الشعبي، وإن يعفوا) بالياء خبرًا عن: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، وقراءة العامة بالتاء على الخطاب.
هـ. قراءة العامة: ﴿وَلَا تَنْسَوُا﴾ بغير ألف، وضم الواو، وعن علي تناسوا) بالألف من المفاعلة، وعن يحيى بن يعمر بغير ألف وكسر الواو.
14. مسائل نحوية:
أ. نصب ﴿مَتَاعًا﴾ قيل: على الحال من قدره؛ لأنه معرفة، والعامل الظرف، وقيل: على المصدر والعامل فيه متعوهن، كأنه قيل: متعوهن متاعًا، وقيل: نصب على القطع.
ب. نصب ﴿حَقًّا﴾ قيل: على الحال من ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا﴾ والعامل على تقدير عرف حقا، وقيل: على التأكيد لجملة الخبر كأنه قيل: أخبركم به حقًّا، وأحقه حقًّا.
ج. رفع: ﴿فَنِصْفُ﴾ بتقدير فعليكم نصف ما فرضتم، ويجوز في العربية النصف أي أدوا نصف ما فرضتم.
د. ﴿يَعْفُونَ﴾ محله نصب بـ ﴿إِنَّ﴾ إلا أن جمع المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم ويكون بالنون تقول: هن يَضْرِبْنَ، ولم يَضْرِبْنَ، ولن يَضْرِبْنَ.
هـ. ﴿وَأنْ تَعْفُوا﴾ محله رفع بالابتداء تقديره: العفو أقرب للتقوى، عن سيبويه، واللام في التقوى بمعنى: ﴿إِلَى﴾، والألف واللام في قوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ بدل من الإضافة؛ إذ المعنى بيده عقدة نكاحها، وهو الزوج، ومن جعله الولي، تقديره الذي بيده عقدة نكاحها، كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ يعني مأواه.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/21.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الموسع: الذي يكون في سعة لغناه.
ب. المقتر: الذي يكون في ضيق لفقره، يقال: أوسع الرجل: إذا كثر ماله واتسعت حاله، وأقتر: إذا افتقر، وقترت الشيء أقتره قترا، وقترته تقتيرا: إذا ضيقت الانفاق منه، والقتار: دخان الشحم على النار لقلته بالإضافة إلى بقيته، والقتر: الغبار، والقتير: مسامير الدرع لقلتها وصغرها، والقتير: ابتداء الشيب لقلته، ويجوز أن يكون مشبها بالدخان أول ما يرتفع، والقترة: ناموس الصائد لأنها كالقتار، وأصل الباب: الإقلال.
ج. قدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا، وقدرت على الشيء أقدر عليه قدرة وقدورا.
2. ثم بين سبحانه حكم الطلاق قبل الفرض والمسيس، فقال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ هذا إباحة للطلاق قبل المسيس، وفرض المهر، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، والمس: كناية عن الوطء.
3. المفروض صداقها داخلة في دلالة الآية، وإن لم يذكر لأن التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن: ﴿أَوْ﴾ لم: ﴿تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ لأن: ﴿أَوْ﴾ تنبئ عن ذلك، إذ لو كان على الجمع، لكان بالواو، والمراد بالفريضة: الصداق بلا خلاف، لأنه يجب بالعقد على المرأة، فهو فرض لوجوبه بالعقد، ومعناه: أو لم تقدروا لهن مهرا مقدرا.
4. إنما خص التي لم يدخل بها الذكر في رفع الجناح دون المدخول بها، وإن كان حكمهما واحدا لأمرين أحدهما: لإزالة الشك على ما قدمنا ذكره والثاني: لأن له أن يطلق التي لم يدخل بها أي وقت شاء بخلاف المدخول بها، فإنه لا يجوز أن يطلقها إلا في طهر لم يجامعها فيه.
5. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به، والمتعة والمتاع: ما يتمتع به: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ أي: على الغني الذي هو في سعة لغناه على قدر حاله ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ أي: على الفقير الذي هو في ضيق بقدر إمكانه وطاقته، والمتعة:
أ. قيل: خادم أو كسوة أو رزق، عن ابن عباس والشعبي والربيع، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وهو مذهب الشافعي.
ب. وقيل: هو مثل نصب صداق تلك المرأة المنكوحة، عن أبي حنيفة وأصحابه.
6. اختلف في ذلك:
أ. فقيل: إنما تجب المتعة للتي لم يسم لها صداق خاصة، عن سعيد بن المسيب، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
ب. وقيل: المتعة لكل مطلقة إلا المختلعة والمبارئة والملاعنة، عن الزهري، وسعيد بن جبير، وأبي العالية.
ج. وقيل: المتعة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول، فإنما لها نصف الصداق، ولا متعة لها عن ابن عمر ونافع وعطاء، وهو مذهب الشافعي، وقد رواه أصحابنا أيضا، وذلك محمول على الاستحباب.
7. ﴿مَتَاعًا﴾ أي: ومتعوهن متاعا ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: أي: وسطا ليس فيه إسراف ولا تقتير.
ب. وقيل: متاعا معتبرا بحال الرجل في اليسار والاقتار.
ج. وقيل: معتبرا بحالهما جميعا إذ لا يسوي بين حرة شريفة، وبين أمة معتقة، ليكون ذلك خارجا عن التعارف، عن القاضي.
د. وقال أهل المدينة: يؤمر الزوج به من غير أن يجبر عليه.
هـ. وعندنا(2): يجبر عليه، وبه قال أهل العراق.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾:
أ. قيل: أي: واجبا على الذين يحسنون الطاعة، ويجتنبون المعصية، وإنما خص المحسنين بذلك تشريفا لهم، لا أنه لا يجب على غيرهم، ودل ذلك على وجوب الإحسان على جميعهم، فإن على كل انسان أن يكون محسنا، فهو كقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾.
ب. وقيل: معناه من أراد أن يحسن فهذا حقه وحكمه وطريقه، عن أبي مسلم هذا كله في المطلقة.
9. أما المتوفى عنها زوجها: إذا لم يفرض لها صداق، فلها الميراث، وعليها العدة إجماعا، وقال أكثر الفقهاء: لها صداق مثلها، وحكى أبو علي الجبائي عن بعض الفقهاء أنه قال: لا مهر لها، وهو الذي يليق بمذهبنا، لأنه لا نص لأصحابنا في ذلك.
10. ثم بين سبحانه حكم الطلاق، قبل المسيس بعد الفرض، فقال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ يعني: إن طلقتم أيها الرجال النساء ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: تجامعوهن ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي: أوجبتم لهن صداقا، وقدرتم مهرا ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي: فعليكم نصف ما قدرتم، وهو المهر المسمى ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعني الحرائر البالغات غير المولى عليهن، لفساد عقولهن أي: يتركن ما يجب لهن من نصف الصداق، فلا يطالبن الأزواج بذلك، عن ابن عباس ومجاهد وسائر أهل العلم.
11. ﴿أَوْ يَعْفُوَ﴾ أي: يترك ويهب ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾:
أ. قيل: هو الولي، عن مجاهد وعلقمة والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وهو مذهب الشافعي، غير أن عندنا الولي هو الأب، أو الجد مع وجود الأب الأدنى على البكر غير البالغ، فأما من عداهما فلا ولاية له إلا بتوليتها إياه.
ب. وقيل: هو الزوج ورووه عن علي، وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم وقتادة والضحاك، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواه أيضا أصحابنا غير أن الأول أظهر، وهو المذهب.
12. من جعل العفو للزوج قال: له أن يعفو عن جميع النصف، ومن جعله للولي من أصحابنا قال: له أن يعفو عن بعضه، وليس له أن يعفو عن جميعه، فإن امتنعت المرأة عن ذلك، لم يكن لها ذلك إذا اقتضته المصلحة، عن أبي عبد الله: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ خطاب للزوج والمرأة جميعا، عن ابن عباس، وللزوج وحده، عن الشعبي قال: وإنما جمع لأنه خطاب لكل زوج، وقول ابن عباس أقوى لعمومه.
13. إنما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين:
أ. أحدهما إن معناه أقرب إلى أن يتقي أحدهما ظلم صاحبه، لأن من ترك لغيره حق نفسه، كان أقرب إلى أن لا يظلم غيره بطلب ما ليس له.
ب. الثاني: إن معناه أقرب إلى أن يتقي معصية الله، لأن من ترك حق نفسه، كان أقرب إلى أن لا يعصي الله بطلب ما ليس له.
14. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي: لا تتركوا الأخذ بالفضل والإحسان بينكم والإفضال، فتأخذوا بمر الحكم، واستيفاء الحقوق على الكمال.
15. بين الله سبحانه في هذه الآية الحكم الذي لا يعذر أحد في تركه، وهو أنه ليس للزوج أن ينقصها من نصف المهر، ولا للمرأة أن تطالبه بالزيادة، ثم بين طريق الفضل من الجانبين، وندب إليه، وحث عليه: ﴿إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: بأعمالكم ﴿بَصِيرٌ﴾ أي: عليم.
16. روي عن سعيد بن المسيب أن هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الأولى، وقال أبو القاسم البلخي: وهذا ليس بصحيح، لأن الآية تضمنت حكم من لم يدخل بها، ولم يسم لها مهرا إذا طلقها، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها المهر، ولم يدخل بها إذا طلقها، وأحد الحكمين غير الآخر، وأقول: إذا بينا في الآية الأولى أنها تتناول المطلقات غير المدخول بهن سواء فرض لهن المهر، أو لم يفرض، وقلنا: إن متعوهن لا يحمل على العموم، إذ لا متعة لمن فرض لها المهر، وإن لم يدخل بها، فلا بد من تخصيص فيه وتقدير وحذف أي: ومتعوا من طلقتم منهن، ولم تفرضوا لهن فريضة، وإنما جاز هذا الحذف لدلالة ذكر من فرض لها المهر، وحكمها في الآية الأخرى عليه، وهذا ما سنح لي هاهنا، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض لذكره.
17. قراءات وحجج:
أ. قرأ حمزة والكسائي: (تماسوهن) بضم التاء، وبألف في موضعين هاهنا وفي الأحزاب، وقرأ الباقون: ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾.
ب. وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر، وابن ذكوان: ﴿قَدْرِهِ﴾ بفتح الدال في الموضعين، والباقون بإسكانها.
ج. حجة من قرأ تمسوهن قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾، (ولم يطمثهن)، (وانكحوهن)، والنكاح: عبارة عن الوطء، قال جرير:
التاركون على طهر نساءهم... والناكحون بشطي دجلة البقرا
د. حجة من قرأ (ولا تماسوهن) أن فاعل وفعل قد يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر وذلك نحو: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وقال أبو الحسن: يقال هو القدر والقدر، وهم يختصمون في القدر والقدر، قال الشاعر: (ألا يا لقوم للنوائب والقدر) وخذ منه بقدر كذا، وقدر كذا، لغتان، وفي كتاب الله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ وقدرها وعلى الموسع قدره وقدره: ﴿وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾، ولو حركت كان جائزا، وكذلك ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ولو خففت كان جائزا، إلا أن رؤوس الآي كلها متحركة، فيلزم الفتح لأن ما قبلها مفتوح.
هـ. روي في الشواذ عن الحسن: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ﴾ بسكون الواو، وعن علي) عليه السلام): (ولا تناسوا الفضل)، قال ابن جني: سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف نحو: أن يسعى، ثم شبهت الياء بالألف لقربها منها نحو قوله:
كأن أيديهن بالموماة... أيدي جوار بتن ناعمات
وقوله: (كأن أيديهن بالقاع القرق) ثم شبهت الواو في ذلك بالياء، قال الأخطل:
إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها... رفعن، وأنزلن القطين المولدا
وقال: (أبى الله أن أسمو بأم ولا أب)، أما قوله تعالى: (ولا تناسوا): فإنما هو نهي عن فعلهم الذي اختاروه، وتظاهروا به، كما يقال: تغافل وتصام، وتحسن هذه القراءة إنك إنما تنهى الانسان عن فعله، والنسيان ظاهره أن يكون من فعل غيره، كأنه أنسي فنسي، قال الله سبحانه: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾.
18. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾: موصول وصلة في موضع نصب تقديره: مدة ترك المس، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والعامل في الظرف طلق، وجواب الشرط محذوف تقديره إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم.
ب. ﴿مَتَاعًا﴾ نصب على أحد وجهين: إما أن يكون حالا من قدره، والعامل فيه الظرف أي: ممتعا متاعا، وإما على المصدر أي: متعوهن متاعا.
ج. ﴿حَقًّا﴾: ينتصب أيضا على أحد وجهين: إما أن يكون حالا من قوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، والعامل فيه معنى عرف حقا، وإما أن يكون على التأكيد بجملة الخبر، فكأنه قال: أخبركم به حقا، أو أحقه حقا، أو حق ذلك عليهم حقا، كأنه قال: إيجابا على المحسنين.
د. ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾: رفع تقديره عليكم نصف ما فرضتم.
هـ. ﴿يَعْفُونَ﴾: في موضع نصب بأن، إلا أن فعل المضارع إذا اتصل به نون ضمير جماعة المؤنث بني فيستوي في الرفع والنصب والجزم.
و. ﴿أَنْ يَعْفُونَ﴾: موصول وصلة في محل النصب على الاستثناء.
ز. ﴿أَوْ يَعْفُوَ﴾: تقديره أو أن يعفو، وهو في محل النصب بالعطف على الموصول والصلة قبلها.
ح. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ في موضع الرفع بالابتداء، و﴿أَقْرَبُ﴾: خبره، وتقديره والعفو أقرب للتقوى، واللام يتعلق بأقرب، وهو بمعنى من أو إلى.
ط. الألف واللام في النكاح بدل من الإضافة إذ المعنى أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه، ومثله قوله: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ ومعناه هي مأواه.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/595.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو (تمسوهن) بغير ألف حيث كان، وبفتح التاء، وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف (تماسّوهن) بألف وضمّ التاء في الموضعين هنا، وفي الأحزاب ثالث، قال أبو عليّ: وقد يراد بكل واحد من (فاعل) و(فعل) ما يراد بالآخر، تقول: طارقت النعال وعاقبت اللص.
2. المس: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلّت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر، والمتاع: اسم لما ينتفع به، فذلك معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو (قدره) بإسكان الدال في الحرفين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الحرفين، وعن عاصم: كالقراءتين وهما لغتان.
3. هل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: واجبة، واختلف أرباب هذا القول، لأيّ المطلّقات تجب، على ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنها واجبة لكل مطلّقة، روي عن عليّ والحسن وأبي العالية والزّهريّ.
• الثاني: أنها تجب لكل مطلّقة إلا المطلّقة التي فرض لها صداقا ولم يمسّها، فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي عن ابن عمر والقاسم بن محمّد وشريح وإبراهيم.
• الثالث: أنها تجب للمطلّقة قبل الدّخول إذا لم يسمّ لها مهرا، فإن دخل بها، فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
ب. الثاني: أن المتعة مستحبّة، ولا تجب على أحد، سواء سمّى للمرأة، أو لم يسمّ، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، واللّيث بن سعد، والحكم، وابن أبي ليلى.
4. اختلف العلماء في مقدار المتعة:
أ. فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن المسيّب: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلّي فيها.
ب. وروي عن حمّاد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها.
ج. وعن الشّافعيّ وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم.
د. ونقل عن أحمد: أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصّلاة من الكسوة، وهو درع وخمار.
5. ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي: بقدر الإمكان، والحق: الواجب، وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد.
6. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، أي: قبل الجماع ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ﴾ أي: أوجبتم لهنّ شيئا التزمتم به، وهو المهر ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾، يعني: النساء، وعفو المرأة: ترك حقّها من الصّداق.
7. في قوله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الزّوج، وهو قول عليّ، وجبير بن مطعم، وابن المسيّب، وابن جبير، ومجاهد، وشريح، وجابر بن زيد، والضحّاك، ومحمّد بن كعب القرظيّ، والرّبيع بن أنس، وابن شبرمة، والشّافعيّ، وأحمد م في آخرين.
ب. الثاني: أنه الوليّ، روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاووس والشّعبيّ، وإبراهيم في آخرين.
ج. الثالث: أنه أبو البكر، روي عن ابن عباس، والزّهريّ، والسّدّيّ في آخرين.
8. على القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها الصّداق، وعلى الثاني: عفو الوليّ: ترك حقّها إذا أبت، روي عن ابن عباس، وأبي الشّعثاء، وعلى الثالث يكون قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يختصّ بالثّيّبات.
﴿أَوْ يَعْفُوَا﴾، يختصّ أبا البكر، قاله الزّهريّ، والأول أصحّ، لأن عقدة النّكاح خرجت من يد الوليّ، فصارت بيد الزّوج، والعفو إنما يطلق على ملك الإنسان، وعفو الوليّ عفو عما لا يملك، ولأنه قال ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، والفضل في هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره.
9. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعا، روي عن ابن عباس، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه خطاب للزوج وحده، قاله الشّعبيّ، وكان يقرأ: (وأن يعفو) بالياء.
10. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، خطاب للزوجين، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصّداق، وترك المرأة شطرها.
__________
(1) زاد المسير: 1/212.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحكم الخامس عشر حكم المطلقة قبل الدخول، وأقسام المطلقات أربعة:
أ. أحدها: المطلقة التي تكون مفروضا لها ومدخولا بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر، وأن عدتهن ثلاثة قروء.
ب. الثاني: من المطلقات ما لا يكون مفروضا ولا مدخولا بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وذكر أنه ليس لها مهر، وأن لها المتعة بالمعروف.
ج. الثالث: من المطلقات: التي يكون مفروضا لها، ولكن لا يكون مدخولا بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 237] واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة، فقال: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: 49].
د. الرابع: من المطلقات: التي تكون مدخولا بها، ولكن لا يكون مفروضا لها، وحكم هذا القسم مذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: 24] أيضا القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بالشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم.
2. هذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية، ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى، فيقال: إن عقد النكاح يوجب بدلا على كل حال، ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكورا أو غير مذكور، فإن كان البدل مذكورا، فإن حصل الدخول استقر كله، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجيء عقيب هذه الآية، فإن لم يكن البدل مذكورا فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، وحكمها أنه لا مهر لها، ولا عدة عليها، ويجب عليه لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات، إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل.
3. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ هذا نص في أن الطلاق جائز، وكثير من أصحابنا(2) يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام، قالوا: لأن قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ يتناول جميع أنواع التطليقات، بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح، قالوا: وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ يتناول جميع أنواع التطليقات، أعني حال الإفراد وحال الجمع، وهذا الاستدلال عندي ضعيف، وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود، ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة، ولهذا قلنا: إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، ولهذا قلنا: إنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط، فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول: يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين، مع أنه يصح أن يقال: صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني.
4. ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ قرأ حمزة والكسائي تماسوهن بالألف على المفاعلة، وكذلك في الأحزاب والباقون ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ بغير ألف:
أ. حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعا وأيضا يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: 3] وهو إجماع.
ب. وحجة الباقين إجماعهم على قوله: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [آل عمران: 47] ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ [الرحمن: 56] وكقوله: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ [النساء: 25] وأيضا المراد من هذا المس: الغشيان، وذلك فعل الرجل، ويدل في الآية الثانية على المراد من هذا المس الغشيان، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار، وبعض من قرأ: ﴿تماسوهن﴾ قال إنه بمعنى ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ لأن فاعل قد يراد به فعل، كقوله: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وهو كثير.
5. سؤال وإشكال: ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس، والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقا، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس، فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض، ولا في الطهر الذي جامعها فيه، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس، صح ظاهر اللفظ.
ب. الثاني: في الجواب قال بعضهم: إن (ما) في قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بمعنى الذي والتقدير: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تسموهن، إلا أن (ما) اسم جامد لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ (ما) شرطا، فزال السؤال.
ج. الثالث: في الجواب ما يدور حوله القفال، وحاصله يرجع إلى ما أقوله، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، فتقدير الآية: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، بمعنى: لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعا لم يجب المهر، وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ﴾ معناه لا مهر، فنقول: إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل، يقال: أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحا لما فيه من الثقل، قال تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: 13] إذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحا، فثبت أن اللفظ محتمل له.
6. الدليل على أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر لوجهين:
أ. الأول: أنه تعالى قال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ نفى الجناح محدودا إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض، والتقدير: فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر، فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر.
ب. الثاني: أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين:
أ. أحدهما: الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر، وهو المذكور في هذه الآية.
ب. الثاني: الذي يكون قبل المسيس وبعد التقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: 237] ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت هاهنا، فلما كان المثبت هاهنا هو لزوم المهر وجب أن يقال: الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر.
7. ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها، لأنه لما صار تقدير الآية: لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها لا يجب لها المهر، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضا لها والتي تكون مفروضا لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة، وأما القسم الرابع: وهي التي تكون ممسوسة ومفروضا لها، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك.
8. قال أبو بكر الأصم والزجاج: هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز، وقال القاضي: إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة:
أ. أما بيان دلالتها على الصحة، فلأنه لو لم يكن صحيحا لم يكن الطلاق مشروعا، ولم تكن المتعة لازمة.
ب. وأما أنها لا تدل على الجواز، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز، بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح.
9. اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول، قال أبو مسلم: وإنما كنى تعالى بقوله تعالى: ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ عن المجامعة تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به.
10. ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ المعنى يقدر لها مقدارا من المهر يوجبه على نفسه، لأن الفرض في اللغة هو التقدير، وذكر كثير من المفسرين أن (أو) هاهنا بمعنى الواو، ويريد: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، كقوله تعالى: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147] وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف، بل خطأ قطعا.
11. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ لما بين الله تعالى أنه لا مهر عند عدم المسيس، والتقدير بين أن المتعة لها واجبة، وتفسير لفظ المتعة قد تقدم في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: 196].
12. المطلقات قسمان، مطلقة قبل الدخول، ومطلقة بعد الدخول، أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها، وإن كان قد فرض لها فلا متعة، لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر: لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر، وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض، فهل تستحق المتعة، فيه قولان: قال في (القديم) وبه قال أبو حنيفة: لا متعة لها، لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول، وقال في (الجديد): بل لها المتعة، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن بن علي، وابن عمر، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 241] وقال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ [الأحزاب: 28] وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس، لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق.
13. اختلف في حكم المتعة:
أ. مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة، وهو قول شريح والشعبي والزهري، ومن أدلتهم:
• قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ وظاهر الأمر للإيجاب.
• وقال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ فجعل ملكا لهن أو في معنى الملك.
ب. وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة، وهو قول مالك، ومن أدلتهم:
• أنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال: هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجبا فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن.
• وأيضا قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91] وهذا يدل على عدم الوجوب، والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فذكره بكلمة (على) هي للوجوب، ولأنه إذا قيل: هذا حق على فلان، لم يفهم منه الندب بل الوجوب.
14. أصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعا غير باق بل منقضيا عن قريب، ولهذا يقال: الدنيا متاع، ويسمى التلذذ تمتعا لانقطاعه بسرعة وقلة لبث.
15. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، ﴿الْمُوسِعِ﴾ الغني الذي يكون في سعة من غناه، يقال: أوسع الرجل إذا كثر ماله، واتسعت حاله، ويقال: أوسعه كذا أي وسعه عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47] وقوله تعالى: ﴿قَدْرِهِ﴾ أي قدر إمكانه وطلاقته، فحذف المضاف، والمقتر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير، وأقتر إذا افتقر.
16. قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم ﴿قَدْرِهِ﴾ بسكون الدال، والباقون قدره بفتح الدال، وهما لغتان في جميع معاني القدر، يقال: قدر القوم أمرهم يقدرونه قدرا، وهذا قدر هذا، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، وقدر الله الرزق يقدره ويقدره قدرا، وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدرا، وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة، كل هذا يجوز فيه التحريك والتسكين، يقال: هم يختصمون في القدر والقدر، وخدمته بقدر كذا وبقدر كذا، قال الله تعالى: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17] وقال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] ولو حرك لكان جائزا، وكذلك: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [الرعد: 17] وقال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91] ولو حرك لكان جائزا، وكذلك: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] ولو خفف جاز.
17. قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد، ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات، وبين أن الموسع يخالف المقتر:
أ. قال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهما، وعلى المقتر مقنعة.
ب. روي عن ابن عباس أنّه قال أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة.
ج. وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها، ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى.
18. ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ معنى الآية أنه يجب أن يكون على قدر حال الزوج في الغنى والفقر، ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما، وهو قول القاضي، ومنهم من يعتبر حال الزوج فقط قال أبو بكر الرازي في المتعة: يعتبر حال الرجل، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة واحتج أبو بكر بقوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ واحتج القاضي بقوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ فإن ذلك يدل على حالهما لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة.
19. ﴿مَتَاعًا﴾ تأكيد لمتعوهن، يعني: متعوهن تمتعا بالمعروف و﴿حَقًّا﴾ صفة لمتاعا أي: متاعا واجبا عليهم، أو حق ذلك حقا على المحسنين، وقيل: نصب على الحال من قدره لأنه معرفة، والعامل فيه الظرف، وقيل: نصب على القطع.
20. في سبب تخصيص ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ بالذكر وجوه:
أ. أحدها: أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان: كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: 45].
ب. الثاني: قال أبو مسلم: المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه، والمحسن هو المؤمن، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين.
ج. الثالث: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
21. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ لما ذكر الله تعالى حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر، تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر.
22. اختلف في الخلوة هل تقرر المهر أم لا:
أ. مذهب الشافعي، ومن وافقه أن الخلوة لا تقرر المهر.
ب. وقال أبو حنيفة، ومن وافقه: الخلوة الصحيحة تقرر المهر، ويعني بالخلوة الصحيحة: أن يخلو بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي، فالحسي نحو: الرتق والقرن والمرض، أو يكون معهما ثالث وإن كان نائما، والشرعي نحو، الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضا أو نفلا.
23. حجة الشافعي، ومن وافقه أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وهاهنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر:
أ. بيان المقدمة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ليس كلاما تاما بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام، فأما أن يضمر ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ساقط، أو يضمر ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ثابت والأول هو المقصود، والثاني مرجوح لوجوه:
• أحدها: أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهرا، فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق، لأنه غير منفي قبله، أما لو حملناه على السقوط، عملنا بقضية التعليق، لأنه منفي قبله.
• ثانيها: أن قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يقتضي وجوب كل المهر عليه، لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضا لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف، لأن عند قيام المقتضي لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل، فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب.
• ثالثها: أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: 129] فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف.
• رابعها: وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس، وكون الطلاق واقعا قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيء، فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط، لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى، وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال إن معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجب، وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر، إلا من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة، فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال.
ب. بيان المقدمة الثانية: وهي أن هاهنا وجد الطلاق قبل المسيس، هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع، وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله.
24. حجة أبي حنيفة، ومن وافقه أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20] إلى قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: 21] ووجه التمسك به من وجهين:
أ. الأول: هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر، ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة، ومن ادعى التخصيص هاهنا فعليه البيان.
ب. الثاني: أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء، وهي الخلوة، والإفضاء مشتق من الفضاء، وهو المكان الخالي، فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر.
25. أجاب الشافعية، ومن وافقهم عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة، والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام.
26. ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ حال من مفعول ﴿طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ والتقدير: طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة.
27. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ إنما لم تسقط النون من ﴿يَعْفُونَ﴾ وإن دخلت عليه (أن (الناصبة للأفعال لأن ﴿يَعْفُونَ﴾ فعل النساء، فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم، والنون في ﴿يَعْفُونَ﴾ إذا كان الفعل مسندا إلى النساء ضمير جمع المؤنث، وإذا كان الفعل مسندا إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث، كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر، والساقط في ﴿يَعْفُونَ﴾ إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في ﴿يَعْفُونَ﴾ لا الواو التي هي ضمير الجمع.
28. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ المعنى: إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا.
29. في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ قولان:
أ. الأول: أنه الزوج، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام، وسعيد بن المسيب، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة، ومن أدلتهم:
• الأول: أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي.
• الثاني: أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة، لأن بناء الفعلة يدل على المفعول، كالأكلة واللقمة، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم، ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي.
• الثالث: أن قوله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره، كما أن قوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40] أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره، كانت الجنة ثابتة له، فتكون مأواه.
• الرابع: ما روي عن جبير بن مطعم، أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو، وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
ب. الثاني: أنه الولي، وهو قول الحسن، ومجاهد وعلقمة، وهو قول أصحاب الشافعي، ومن أدلتهم:
• الأول: أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر، وذلك يكون هبة، والهبة لا تسمى عفوا.
• الثاني: أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ فلو كان المراد بقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو الزوج، لقال: أو تعفو على سبيل المخاطبة، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة، علمنا أن المراد منه غير الزوج.
• الثالث: هو أن الزوج ليس بيده ألبتة عقدة النكاح، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبيا عن المرأة، ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه، فلا يكون له قدرة على إنكاحها ألبتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح، والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج، أما الولي فله قدرة على إنكاحها، فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج.
30. القائلون بأن ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو الولي، أجابوا عن دلائل من قال المراد هو الزوج بما يلي:
أ. أما الحجة الأولى: فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال بنى الأمير دارا، وضرب دينارا، والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض فيه، بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
ب. وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح، قلنا: العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداء، فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضا بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره.
ج. وأما الحجة الثالثة: وهي قوله: إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه: أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل: فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهي نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا هاهنا.
31. القائلون بأن ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو الزوج، أجابوا عن دلائل من قال المراد هو الولي بما يلي:
أ. أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها.
ب. سماه عفوا على طريق المشاكلة.
ج. أن العفو قد يراد به التسهيل يقال: فلان وجد المال عفوا صفوا، وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
د. صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقا وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل.
هـ. أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفوا؟
و. أنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئا يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك.
ز. سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو، والمعنى: إلا أن يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها.
32. للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي، وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ إما الزوج، وإما الولي، وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له ألبتة على عقدة النكاح، فوجب حمله على الولي.
33. قوله تعالى: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل: بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره، قال تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ [الكافرون: 6] أي لا لغيركم، فكذا هاهنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب.
34. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ هذا خطاب للرجال والنساء جميعا إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى:
أ. أما في اللفظ فلأنك تقول: قائم، ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة، فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل، والدال على المؤنث فرع عليه.
ب. وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث، فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلبا(3).
35. معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما كان الأمر كذلك لوجهين:
أ. الأول: أن من سمح بترك حقه فهو محسن، ومن كان محسنا فقد استحق الثواب، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله.
ب. الثاني: أن هذه الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة، لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقربا إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق.
36. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ ليس المراد منه النهي عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك، فقال تعالى: ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم، وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به، فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببا لتأذيها منه، وأيضا إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرا من غير أن انتفع بها ألبتة صار ذلك سببا لتأذيه منها، فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذي عن قلب الآخر، فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية، وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية، ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/474.
(2) يقصد الشافعية.
(3) هذا الكلام معارض للقرآن الكريم.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ هذا أيضا من أحكام المطلقات، وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض:
أ. ولما نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة، وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن،
ب. وقال قوم: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها.
ج. وقيل: لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل، فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر.
د. وقال قوم: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض، بخلاف المدخول بها، إذ غير المدخول بها لا عدة عليها.
2. المطلقات أربع:
أ. مطلقة مدخول بها مفروض لها، وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية، وأنه لا يسترد منها شي من المهر، وأن عدتها ثلاثة قروء.
ب. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها، بل أمر الرب تعالى بإمتاعها، وبين في سورة ﴿الْأَحْزَابُ﴾ أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها، وسيأتي.
ج. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾
د. ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ذكرها الله في قوله: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾
3. ذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض، فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد، وقابل المسيس بالمهر الواجب.
4. لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين: مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسم لها، دل على أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق، فإن فرض التحق بالعقد وجاز، وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا، قاله القاضي أبو بكر بن العربي، وحكى المهدوي عن حماد بن أبي سليمان أنه إذا طلقها ولم يدخل بها ولم يكن فرض لها أجبر على نصف صداق مثلها، وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة: لا يتنصف بالطلاق، لأنه لم يجب بالعقد، وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ وخلاف القياس أيضا، فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد فوجب أن يتنصف بالطلاق، أصله الفرض المقترن بالعقد.
5. إن وقع الموت قبل الفرض:
أ. فذكر الترمذي عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود، قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وغيرهم، وبه يقول الثوري وأحمد وإسحاق.
ب. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر: إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات قالوا: لها الميراث ولا صداق لها وعليها العدة، وهو قول الشافعي، وقال: ولو ثبت حديث بروع بنت واشق لكانت الحجة فيما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ويروى عن الشافعي أنه رجع بمصر بعد عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق)
ج. وفي المسألة قول ثالث وهو أنه لا يكون ميراث حتى يكون مهر، قاله مسروق.
6. اختلف في تثبيت حديث بروع، فقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب في شرح رسالة ابن أبي زيد: وأما حديث بروع بنت وأشق لقد رده حفاظ الحديث وأئمة أهل العلم، وقال الواقدي: وقع هذا الحديث بالمدينة فلم يقبله أحد من العلماء، وصححه الترمذي كما ذكرنا عنه وابن المنذر، قال ابن المنذر: وقد ثبت مثل قول عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وبه نقول، وذكر أنه قول أبي ثور وأصحاب الرأى، وذكر عن الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي مثل قول علي وزيد وابن عباس وابن عمر.
7. من الحجة لما ذهب إليه مالك أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق، أصله الطلاق، لكن إذا صح الحديث فالقياس في مقابلته فاسد، وقد حكى أبو محمد عبد الحميد عن المذهب ما يوافق الحديث، والحمد لله، وقال أبو عمر: حديث بروع رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، الحديث، وفيه: فقام معقل ابن سنان، وقال فيه ابن مهدي عن الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فقال معقل بن يسار، والصواب عندي قول من قال: معقل بن سنان لا معقل بن يسار، لأن معقل بن يسار رجل من مزينة، وهذا الحديث إنما جاء في امرأة من أشجع لا من مزينة، وكذلك رواه داوود عن الشعبي عن علقمة، وفيه: فقال ناس من أشجع، ومعقل بن سنان قتل يوم الحرة، وفي يوم الحرة يقول الشاعر:
ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها... وأشجع تبكي معقل بن سنان
8. ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ﴿مَا﴾ بمعنى الذي، أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، و﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ قرئ بفتح التاء من الثلاثي، وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر وقرأ حمزة والكسائي (تماسوهن) من المفاعلة، لان الوطي تم بهما، وقد يرد في باب المفاعلة فاعل بمعنى فعل، نحو طارقت النعل، وعاقبت اللص، والقراءة الأولى تقتضي معنى المفاعلة في هذا الباب بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو علي، لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن، جاء: نكح وسفد وقرع ودفط وضرب الفحل، والقراءتان حسنتان.
9. ﴿أَوْ﴾ في ﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾ قيل هو بمعنى الواو، أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن، كقوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ أي وهم قائلون، وقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ أي ويزيدون، وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ أي وكفورا، وقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾ معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون، وقوله: ﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ وما كان مثله، ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره.
10. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب:
أ. تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر.
ب. وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ و﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
11. القول الأول أولى، لأن عمومات الأمر بالامتاع في قوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ أظهر في الوجوب منه في الندب، وقوله: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تأكيد لإيجابها، لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾.
12. اختلفوا في الضمير المتصل بقوله ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ من المراد به من النساء؟
أ. فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها.
ب. وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها.
ج. قال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شي لها غير المتعة.
د. قال الزهري: يقضي لها بها القاضي، وقال جمهور الناس: لا يقضي بها لها.
13. هذا الإجماع إنما هو في الحرة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس فالجمهور على أن لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده، لأنها هي التي اختارت الطلاق، وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة، قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ، قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه، قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب للفراق.
14. اختلف في حد المتعة:
أ. قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
ب. وقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها.
ج. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة.
د. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة، أبو حنيفة: ذلك أدناها.
هـ. وقال ابن محيريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة.
و. وقال الحسن: يمتع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة، وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها، وإنما قال: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، ومتع الحسن بن على بعشرين ألفا زقاق ومن عسل، ومتع شريح بخمسمائة درهم.
ز. قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا، قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها، لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها، فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها، فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطي.
ح. قال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير، لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ وهذا دليل على رفض التحديد، والله بحقائق الأمور عليم.
15. ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ الآية، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (متعها ولو بقلنسوتك)، وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين، فقال: يقتل علي وتظهرين الشماتة! اذهبي فأنت طالق ثلاثا، قال: فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أني سمعت جدي ـ أو حدثني أبي أنه سمع جدي ـ يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها، وفي رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند كل طهر تطليقة أو عند رأس كل شهر تطليقة أو طلقها ثلاثا جميعا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره)(2)
16. من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز عن ابن القاسم، وقال أصبغ: لا شي عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك، ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب.
17. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ دليل على وجوب المتعة، وقرأ الجمهور ﴿الْمُوسِعِ﴾ بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، يقال: فلان ينفق على قدره، أي على وسعه، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ﴿قَدْرِهِ﴾ بسكون الدال في الموضعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما، قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى، لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، يقول: خذ قدر كذا وقدر كذا، بمعنى، ويقرأ في كتاب الله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ وقدرها، وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ولو حركت الدال لكان جائزا.
18. ﴿الْمُقْتِرِ﴾ المقل القليل المال، و﴿مَتَاعًا﴾ نصب على المصدر، أي متعوهن متاعا ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد.
19. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي أوجبت، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله: ﴿حَقًّا﴾ تأكيد للوجوب، ومعنى ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ و﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين، فيحسنون بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار، فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين، و﴿حَقًّا﴾ صفة لقوله ﴿مَتَاعًا﴾ أو نصب على المصدر، وذلك أدخل في التأكيد للأمر.
20. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ اختلف الناس في هذه الآية:
أ. فقالت فرقة منها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتع، إذ يتناولها قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾
ب. وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية الآية التي في ﴿الْأَحْزَابُ﴾ لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها، وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها، قلت: قول سعد وقتادة فيه نظر، إذ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكن.
ج. وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط.
د. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها، بل لها المتعة ونصف المفروض.
21. ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع، والنصف الجزء من اثنين، فيقال: نصف الماء القدح أي بلغ نصفه، ونصف الإزار الساق، وكل شي بلغ نصف غيره فقد نصفه.
22. قرأ الجمهور ﴿فَنِصْفُ﴾ بالرفع، وقرأت فرقة ﴿فَنِصْفُ﴾ بنصب الفاء، المعنى فادفعوا نصف، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت ﴿فَنِصْفُ﴾ بضم النون في جميع القرآن وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء يقال: نصف ونصف ونصيف، لغات ثلاث في النصف، وفي الحديث: لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي نصفه، والنصيف أيضا القناع.
23. إذا أصدقها ثم طلقها قبل الدخول ونما الصداق في يدها فقال مالك: كل عرض أصدقها أو عبد فنماؤهما لهما جميعا ونقصانه بينهما، وتواه عليهما جميعا ليس على المرأة منه شي، فإن أصدقها عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عبد اأو دارا أو اشترت به منه أو من غيره طيبا أو شوارا أو غير ذلك مما لها التصرف فيه لجهازها وصلاح شأنها في بقائها معه فذلك كله بمنزلة ما لو أصدقها إياه، ونماؤه ونقصانه بينهما، وإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه، وليس عليها أن تغرم له نصف ما قبضته منه، وإن اشترت به أو منه شيئا تختص به فعليها أن تغرم له نصف صداقها الذي قبضت منه، وكذلك لو اشترت من غيره عبدا أو دارا بالألف الذي أصدقها ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألف.
24. لا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها وقد سمى لها أن لها ذلك المسمى كاملا والميراث، وعليها العدة، واختلفوا في الرجل يخلو بالمرأة ولم يجامعها حتى فارقها:
أ. فقال الكوفيون ومالك: عليه جميع المهر، وعليها العدة، لخبر ابن مسعود قال: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا أن لها الميراث وعليها العدة، وروي مرفوعا خرجه الدارقطني وسيأتي في النساء.
ب. والشافعي لا يوجب مهرا كاملا، ولا عدة إذا لم يكن دخول، لظاهر القرآن، قال شريح: لم أسمع الله تعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق، وهو مذهب ابن عباس، وسيأتي ما لعلمائنا في هذا في سورة النساء إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾.
25. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ استثناء منقطع، لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، و﴿يَعْفُونَ﴾ معناه يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج، ولم تسقط النون مع ﴿أَنْ﴾، لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع والنصب والجزم، فهي ضمير وليست بعلامة إعراب فلذلك لم تسقط، ولأنه لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله تعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه، إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن، إذا ملكن أمر أنفسهن وكن بالغات عاقلات راشدات، وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها، وحكاه سحنون في المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا يجوز، وأما التي في حجر أب أو وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا، ولا خلاف فيه فيما أعلم.
26. ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ﴾ معطوف على الأول مبني، وهذا معرب، وقرأ الحسن ﴿أَوْ يَعْفُوَ﴾ ساكنة الواو، كأنه استثقل الفتحة في الواو، واختلف الناس في المراد بقوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾:
أ. فروى الدارقطني عن جبير ابن مطعم أنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل، بها فأرسل إليها بالصداق كاملا وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وأنا أحق بالعفو منها، وتأول قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ يعني نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، أي عقدة نكاحه، فلما أدخل اللام حذف الهاء كقوله: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ أي مأواه، قال النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم... من الجود والأحلام غير عوازب
أي أحلامهم، وكذلك قوله: ﴿عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أي عقدة نكاحه، وروى الدارقطني مرفوعا من حديث قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ولي عقدة النكاح الزوج)، وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح، قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاوس ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير، زاد غيره ومجاهد والثوري، واختاره أبو حنيفة، وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلا للولي على شي من صداقها، للإجماع على أن الولي لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده، وأجمعوا على أن الولي لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها، وأجمعوا على أن من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم بنو العم وبنو الإخوة، فكذلك الأب.
ب. ومنهم من قال هو الولي، أسنده الدارقطني أيضا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، زاد غيره وعكرمة وطاوس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم، فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت، بلغت المحيض أم لم تبلغه، قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه على أبيها، والدليل على أن المراد الولي أن الله تعالى قال في أول الآية: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب، ثم قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ فذكر النسوان، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ فهو ثالث فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الولي فهو المراد، قال معناه مكي وذكره ابن العربي، وأيضا فإن الله تعالى قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لهما، فبين الله القسمين فقال: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي إن كن لذلك أهلا، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الولي، لأن الأمر فيه إليه، وكذلك روى ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته، وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد، ولا يجوز عفوه إذا كان سفيها، فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به، لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم، فالجواب ـ أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل أب البكر يملكه خاصة دون الزوج، لأن المعقود عليه هو بضع البكر، ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه، وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أبا أو أخا، وإن كرهت، وقرأ أبو نهيك والشعبي ﴿أَوْ يَعْفُوَ﴾ بإسكان الواو على [التشبيه] بالألف، ومثله قول الشاعر:
فما سودتني عامر عن وراثة... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
27. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ابتداء وخبر، والأصل تعفووا أسكنت الواو الأولى لثقل حركتها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وهو خطاب للرجال والنساء في قوله ابن عباس فغلب الذكور، واللام بمعنى إلى، أي أقرب إلى التقوى، وقرأ الجمهور ﴿تَعْفُوا﴾ بالتاء باثنتين من فوق، وقرأ أبو نهيك والشعبي وأن يعفوا) بالياء، وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح، قلت: ولم يقرأ وأن تعفون) بالتاء فيكون للنساء، وقرأ الجمهور ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ﴾ بضم الواو، وكسرها يحيى بن يعمر، وقرأ علي ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة ولا تناسوا الفضل) وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه، قال مجاهد: الفضل إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.
28. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/197.
(2) الحديث غير صحيح.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المراد بالجناح هنا: التبعة من المهر ونحوه، فرفعه رفع لذلك، أي: لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه؛ إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة، و(ما) في قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف: أي مدّة عدم مسيسكم، ونقل أبو البقاء: أنها شرطية؛ من باب اعتراض الشرط على الشرط؛ ليكون الثاني قيدا للأوّل كما في قولك: إن تأتني إن تحسن إليّ أكرمك، أي: إن تأتني محسنا إليّ؛ والمعنى: إن طلقتموهن غير ماسين لهنّ، وقيل: إنها موصولة، أي: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن.
2. وهكذا اختلفوا في قوله: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾ فقيل: أو: بمعنى إلا، أي: إلا أن تفرضوا؛ وقيل: بمعنى: حتى، أي: حتى تفرضوا؛ وقيل: بمعنى: الواو، أي: وتفرضوا، ولست أرى لهذا التطويل وجها، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين: أي مدّة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معا، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منها جناح، أي: المسمى، أو نصفه، أو مهر المثل.
3. المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها، وهي التي تقدّم ذكرها قبل هذه الآية، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهنّ شيئا، وأن عدّتهن ثلاثة قروء، ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها، وهي المذكورة هنا فلا مهر لها، بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدّة عليها، ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها، وهي المذكورة بقوله تعالى هنا: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾
4. المراد بقوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ما لم تجامعوهنّ، وقرأ ابن مسعود: (من قبل أن تجامعوهنّ) أخرجه عنه ابن جرير؛ وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: (ما لم تمسوهنّ) وقرأه حمزة، والكسائي: (تماسّوهنّ) من المفاعلة، والمراد بالفريضة هنا: تسمية المهر.
5. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن شيئا يكون متاعا لهنّ، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال علي، وابن عمر، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وقتادة، والضحاك، ومن أدلة الوجوب قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ وقال مالك، وأبو عبيد، والقاضي شريح، وغيرهم: إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين، ويجاب عنه: بأن ذلك لا ينافي الوجوب، بل هو تأكيد له، كما في قوله في الآية الأخرى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي: أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوي، كل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه.
6. وقع الخلاف أيضا: هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط؟
أ. فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة، وإليه ذهب ابن عباس، وابن عمر، وعطاء وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، والحسن البصري، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد، وإسحاق، ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط؟ واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وبقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ والآية الأولى عامة لكل مطلقة، والثانية في أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وقد كنّ مفروضا لهنّ مدخولا بهنّ، وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة.
ب. وذهب جماعة من أهل العلم إلى: أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية، لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى، أو مهر المثل، وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة، أي: سمى لها مهرا، وطلقها قبل الدخول، تستحق نصف المسمى، ومن القائلين بهذا ابن عمر، ومجاهد.
7. وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة، وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها، وهو لا يستحق ما لا في مقابل تأذي مملوكته، لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك، وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل هي مقدّرة بقدر أم لا؟ فقال مالك، والشافعي في الجديد: لا حدّ لها معروف، بل ما يقع عليه اسم المتعة، وقال أبو حنيفة: إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر مثلها، ولا ينقص عن خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم.
8. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج، فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير، وقرأ الجمهور: على الموسع بسكون الواو وكسر السين، وهو الذي اتسعت حاله، وقرأ أبو حيوة: بفتح الواو وتشديد السين وفتحها، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر: قدره بسكون الدال فيهما، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما، قال الأخفش وغيره: هما لغتان فصيحتان، وهكذا يقرأ في قوله تعالى: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ والمقتر: المقلّ، ومتاعا: مصدر مؤكد لقوله: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، والمعروف: ما عرف في الشرع، والعادة الموافقة له.
9. قوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ وصف لقوله: ﴿مَتَاعًا﴾ أو: مصدر لفعل محذوف، أي: حق ذلك حقا، يقال: حققت عليه القضاء وأحققت، أي: أوجبت.
10. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة.
11. ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي: فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر، وهذا مجمع عليه، وقرأ الجمهور: ﴿فَنِصْفُ﴾ بالرفع، وقرأ من عدا الجمهور: بالنصب، أي: فادفعوا نصف ما فرضتم، وقرئ أيضا: بضم النون وكسرها، وهما لغتان، وقد وقع الاتفاق أيضا على: أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات؛ وقد فرض لها مهرا؛ تستحقه كاملا بالموت، ولها الميراث وعليها العدة.
12. اختلفوا في الخلوة: هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك، والشافعي في القديم، والكوفيون، والخلفاء الراشدون، وجمهور أهل العلم، وتجب عندهم أيضا العدّة، وقال الشافعي في الجديد: لا يجب إلا نصف المهر، وهو ظاهر الآية، لما تقدّم من أن المسيس هو الجماع، ولا تجب عنده العدة، وإليه ذهب جماعة من السلف.
13. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي: المطلقات، ومعناه: يتركن ويصفحن، ووزنه يفعلن، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام، وقيل: منقطع، ومعناه: يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج، ولم تسقط النون مع أن، لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة واحدة في الرفع، والنصب، والجزم لكون النون ضميرا، وليست بعلامة إعراب كما في المذكر في قولك: الرجال يعفون، وهذا عليه جمهور المفسرين، وروي عن محمد بن كعب القرظي أنّه قال ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ يعني: الرجال وهو ضعيف لفظا.
14. ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ معطوف على محل قوله: (إلا أن يعفون) لأن الأول مبني وهذا معرب:
أ. قيل هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم، وسعيد بن المسيب، وشريح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، ونافع، وابن سيرين، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، والربيع بن أنس، وإياس بن معاوية، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وهو الجديد من قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وابن شبرمة، والأوزاعي، ورجحه ابن جرير، وفي هذا القول قوّة وضعف؛ أما قوته: فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج، لأنه هو الذي إليه رفعه بالطلاق، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر، لأن العفو لا يطلق على الزيادة.
ب. وقيل: المراد بقوله: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو الولي، وبه قال النخعي، وعلقمة، والحسن، وطاووس وعطاء، وأبو الزناد، وزيد بن أسلم، وربيعة، والزهري، والأسود بن يزيد، والشعبي، وقتادة، ومالك، والشافعي في قوله القديم، وفيه قوّة وضعف؛ أما قوّته فلكون معنى العفو فيه معقولا؛ وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده، ومما يزيد هذا القول ضعفا: أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئا من مالها، والمهر مالها.
15. الراجح ما قاله الأوّلون لوجهين:
أ. الأوّل: أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة.
ب. الثاني: أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي، وتسمية الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملا عند العقد كان العفو معقولا، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه، ولا يحتاج في هذا إلى أن يقال: إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف، لأنه عفو حقيقي، أي: ترك لما يستحق المطالبة به، إلا أن يقال: إنه مشاكلة، أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج.
16. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ قيل: هو خطاب للرجال والنساء تغليبا؛ وقرأه الجمهور: بالتاء الفوقية؛ وقرأ أبو نهيك، والشعبي: بالياء التحتية، فيكون الخطاب مع الرجال، وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، لأن عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوي، بل أقرب إلى الظلم والجور.
17. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ قرأه الجمهور: بضم الواو؛ وقرأ يحيى بن يعمر: بكسرها، وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ولا تناسوا والمعنى: أن الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك: أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضا، والمسامحة فيما يستغرقه أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت بينهما من إفضاء البعض إلى البعض، وهي وصلة لا يشبهها وصلة، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح.
18. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيه من ترغيب المحسن؛ وترهيب غيره ما لا يخفى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/290.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، ما شرطية، أي: إن لم تمسوهن ولم تفرضوا لهنّ فريضة، يعني: ولم تعينوا لهنّ صداقا ـ فـ ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو ـ وحينئذ فلا مهر لهنّ ولكن المتعة بالمعروف كما قال تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: من مالكم جبرا لوحشة الفراق ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾ أي: الغنيّ الذي يكون في سعة من غناه ﴿قَدْرِهِ﴾ ـ بسكون الدال وبفتحها قراءتان سبعيتان ـ أي: يجب على الموسر قدر ما يليق بيساره ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾ أي: المعسر الذي في ضيق من فقره، وهو المقلّ الفقير، يقال: أقتر إذا افتقر قَدَرُهُ، أي: قدر ما يليق بإعساره ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ تأكيد لـ ﴿مَتِّعُوهُنَّ﴾ يعني: متعوهنّ تمتيعا بالمعروف ـ أي: بالوجه المستحسن فلا يزاد إلى نصف مهر المثل ولا ينقص إلى ما لا يعتد به ـ حَقًّا، أي: ثبت ذلك ثبوتا مستقرا.
2. ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، أي: المؤمنين لأنه بدل المهر؛ وذكرهم بهذا العنوان ترغيب وتحريض لهم على الإحسان إليهنّ بالمتعة، وإنما كانت إحسانا لأن ملاك القصد فيها ما تطيب به نفس المرأة ويبقى باطنها وباطن أهلها سلما ذا مودّة، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ـ أفاده الحراليّ، وروى الثوريّ عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة، وعنه: إن كان موسرا متعها بخادم ونحوه، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب، وروى عبد الرزاق أن الحسن بن عليّ ـ عليهما السلام ـ متع بعشرة آلاف، فقالت المرأة: متاع قليل من حبيب مفارق.
3. أخذ بعض المفسرين يحاول البحث بأن عنوان نفي الجناح ـ عمّا ذكر هنا ـ يفيد ثبوته فيما عداه، مع أنه لا جناح أيضا فيه، وتكلف للجواب ـ سامحه الله ـ ولا يخفاك أنّ مثل هذا العنوان كثيرا ما يراد به في التنزيل الترخيص والتسهيل، كما تكلف بعض بجعل (أو) بمعنى (إلّا) أو (حتى)؛ وجعل الحرج بمعنى المهر مع أنّ الآية بيّنة بنفسها لا حاجة إلى أن تتجاذبها أطراف هذه الأبحاث، وعدولهم عن أقرب مما سلكوه ـ أعني كون (أو) بمعنى الواو ـ مع شيوعها في آيات كثيرة ـ عجيب وأعجب منه تخطئة من جنح لهذا الأقرب، مع أنّ مما يرشحه مساق الآية بعدها، وما روي في سبب نزول هذه الآية: قال الخازن: نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت لا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. الآية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: أمتعها ولو بقلنسوتك، وهذه الرواية ـ إن ثبتت ـ كانت شاهدة لما اعتمدناه.
4. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾، ـ أي: الزوجات ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، أي: تجامعوهنّ، قال أبو مسلم: وإنما كنى تعالى بقوله: ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ عن المجامعة، تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به، ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ﴾، أي: سميتم ﴿لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، أي: مهرا مقدّرا ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، أي: فلهنّ نصف ما سميتم لهنّ من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾، أي: المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا؟، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج فيسوق إليها المهر كاملا، أو الوليّ، يعني: إذا كانت صغيرة ـ أو غير جائزة التصرف ـ فيترك نصيبها للزوج، قال مالك في هذه الآية: هو الأب في ابنته البكر، والسيّد في أمته وكلا التأويلين مرويّ عن عدّة من الصحابة والتابعين، قال الحراليّ: إذا قرن هذا الإيراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ﴾ خطابا للأزواج قوي فسر من جعل ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج معادلة للزوجات، ومن خصّ عفوهن بالمالكات ـ أي الرشيدات ـ خصّ هذا بالأولياء، ونقل ابن جرير: أن الشعبيّ رجع إلى أنه الزوج، وكان يباهل عليه، وقال الزمخشريّ: القول بأنه الوليّ ظاهر الصحة، وقال الناصر في (حواشيه): وصدق الزمخشريّ أنه قول ظاهر الصحة، عليه رونق الحقّ وطلاوة الصواب لوجوه ستة، ساقها بألطف بيان، فانظرها.
5. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، هذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب التذكير نظرا للأشرف، وروى ابن جرير عن ابن عباس قال أقربهما للتقوى الذي يعفو، وذلك لأنّ من سمح بترك حقه كان محسنا وذلك عنوان التقوى ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، أي: التفضل بالإحسان لما فيه من الألفة وطيب الخاطر، فهو حثّ على العفو، فمن عفا منهما فله الفضل على الآخر، ومعلوم أن النسيان ليس في الوسع حتى ينهى عنه، فالمراد منه الترك أي لا تتركوه ترك المنسيّ، فالتعبير بالنسيان آكد في النهي، والخطاب هنا أيضا للقبيلين بالتغليب، كالذي قبله، وخصّه الحراليّ بالرجال، قال: فمن حقّ الزوج ـ الذي له فضل الرجولة ـ أن يكون هو العافي، وأن لا يؤخذ النساء بالعفو، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهنّ ولا تحريض، فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20]، فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به، وقد حكى الزمخشريّ عن جبير بن مطعم، أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو..! وعنه: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها عليّ فكرهت ردّه، قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال فأين الفضل؟
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، أي: فلا يضيع تفضّلكم وإحسانكم، ولما كانت الحقوق المشروعة قبل، مما قد يشق القيام بها على بعض الناس، أمروا بما يخفف عنهم عبئها ويحبب إليهم أداءها، وذلك بالمحافظة على الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/161.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُم﴾ لا تباعة عليكم من جهة الصداق، لأنَّه لا يلزمكم، لعدم المسِّ وعدم عقد الصداق، ﴿إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بالذكر مع غيوب الحشفة في القبل، وإذا كان ذلك لزم الصداق إن كان، وإن لم يكن فصداق المثل أو العقر، وكالمسِّ الخلوة الممكنة إن ادَّعت مسًّا فيها، وأمَّا باليد في الفرج، أو بالذكر بلا غيوب حشفة، أو بالذكر في الجسد أو في الدبر ولو غابت، أو باليد في الفرج، أو بنظر ما بطن ففي لزوم الصداق خلاف، ومشهور المذهب اللزوم.
2. ﴿أَوْ﴾ ما لم ﴿تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (أَوْ) للتنويع لا لمطلق أحد الشيئين؛ لأنَّه يلزم عليه أن يكون المعنى: لا تبعة عليكم ما لم تمسُّوا ولو فرضتم، أو ما لم تفرضوا ولو مسستم، ولا يصحُّ ذلك؛ لأنَّه إذا فرض فلها النصف إن لم يمسَّ، وإذا مسَّ فلها الصداق إن كان أو العقر، أو صداق المثل إن لم يكن، وأولى من ذلك أن يكون الفعل منصوبًا بعد (أو) التي بمعنى (إِلَّا)، أي: إِلَّا أن تفرضوا، أو حتَّى تفرضوا، فيُغيَّى نفي الجُناح بعدم الفرض ولو انتفى المسُّ؛ لأنَّ في ذلك تبعة نصف الصداق، فإن فرضتم لهنَّ فريضة فعليكم إعطاؤها بالمسِّ على حدِّ ما ذكر، ونصفها إن طلَّقتم قبله، وليس المعنى: لا إثم عليكم في الطلاق قبل المسِّ لأنَّه لا يلائمه ﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾، ولا: لا إثم عليكم في مطلق الطلاق لأنَّه لا يلائمه ﴿أَوْ تَفْرِضُوا﴾، ولا مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ولو كانوا يظنُّون تحريم الطلاق لكثرة نهيه صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه، وقوله: (هو أبغض الحلال عند الله..)، فنزلت الآية لذلك فيما زعم بعض.
3. وفريضة بمعنى مفروضة، والتاء للنقل إلى الاسميَّة، ومعناه المهر، وهو مفعول به، وأجاز بعض أن يكون مفعولا مطلقًا على المصدريَّة أو على الاسميَّة، كما قيل في ﴿خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ﴾ [العنكبوت: 44]: إنَّ السماوات مفعول مطلق.
4. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إن طلَّقتموهنَّ من قبل المسِّ وقبل الفرض، وهذا أولى من عطف (مَتِّعُوهُنَّ) على (لَا جُنَاحَ) عطفًا للأمر على الإخبار، فإنَّ التحقيق جوازه، ولا سيما إذا جمع بينهما شيء كشرط أو إعراب، فإنَّ (لَا جُنَاحَ) بمنزلة جواب (إنْ) بعده، أو يؤوَّل (مَتِّعُوهُنَّ) بالإخبار، أي: وتمتيعهنَّ واجبٌ، جَبرًا لوحشة الطلاق لأنَّها الكثيرة، وقلَّت من لا تستوحش له، والتمتيع: النفع والتلذيذ.
5. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾ على موسعكم أو الموسع منكم، أي: صاحب الوسع في المال ﴿قَدْرُهُ﴾ قدر إمكانه في إعطاء المتعة، ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ﴾ الضيِّق المال ﴿قَدْرُهُ﴾ فليست المتعة بالنظر إلى قدر المرأة، بل لحكم الحاكم بالنظر إلى مال الزوج، ولا حدَّ لها كما لا حدَّ للصداق، وقد طلَّق أنصاريٌّ زوجَه المفوَّضة قبل مسِّها، وهي من بني حنيفة، فتخاصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (متِّعها) فقال: لم يكن عندي شيء، قال: (متِّعها بقلنسوتك)، ولكنَّ في هذا الحديث مقالاً، حتَّى قال بعض: لم أقف عليه، والمفوَّضة هي التي فوَّضها وليُّها أو فوَّضت نفسها، فتزوَّجت بلا ذكر صداق، ولا شكَّ أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (متِّعها بقلنسوتك) لأنَّ الرجل قليل المال، وذلك أنَّه يحكم بقوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ﴾، وذلك هو المذهب، وقال أبو حنيفة: درع وملحفة وخمار، إِلَّا إن كان مهر مثلها أقلَّ من ذلك فنصف مهر المثل، وعن ابن عبَّاس: أعْلَى متعة الطلاق الخادم، ودون ذلك ورق، ودون هذا كسوة، وعن ابن عمر: أدنى المتعة ثلاثون دينارًا، ويقال: لا تنقص المتعة عن خمسة دراهم، وقيل: يعتبر حالها مع حال الرجل، فيزاد على الفقير قليلٌ لذات مرتبة، وينقص عن الغنيِّ قليل لذات دنو المرتبة، وهكذا.. ونصّ القرآن اعتبار الرجل، وعن الشافعيِّ: المتعة لكلِّ مطلَّقة إِلَّا التي سمَّى لها وطلَّقها قبل الدخول، وإلَّا التي طلَّقت نفسها حيث يجوز لها الطلاق أو افتدت، وذلك قياس لجبر الوحشة، وعنده أنَّ القياس مقدَّم على المفهوم، والمفهوم من الآية أن لا متعة للممسوسة، والقياس لجبر الوحشة يوجبها.
6. ﴿مَتَاعَا﴾ تمتيعًا ثابتًا ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا ومروءة، أو متِّعوهنَّ بالمعروف كذلك ﴿حَقًّا﴾ حقُّ ذلك التمتيع بالمعروف ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ المطيعين في الجملة المطلِّقين باعتبار وسعهم وإقتارهم حقًّا، أو متاعًا حقًّا، أي: واجبًا، أو على المحسنين بالمسارعة إلى امتثال الآية، أو إلى المطلَّقات بالتمتيع، وعلى الوجهين الأخيرين سمَّاهم محسنين بتأويل الإرادة أو المشارفة، وخصَّ المحسنين بالذكر لأنَّهم المنتفعون، والحكم يعمُّ غيرهم، وقال مالك: المحسنين المتطوِّعين، صارفًا للأمر إلى الندب، والصحيح أنَّ المتعة واجبة.
7. ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ تحقيقًا أو حكمًا، فإنَّ الخلوة توجب حكم المسِّ، إِلَّا إن اعترفت المرأة بعدمه، ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ﴾ فلهنَّ، أو فعليكم، أو فالواجب لهنَّ، أو عليكم نصف ﴿مَا فَرَضْتُم﴾ فقط، فإن وصلها تامًّا ردَّت إليه النصف.
8. ﴿إِلَّآ أَنْ يَّعْفُونَ﴾ (أنْ) ناصبة، والفعل في محلِّ نصب مبنيٌّ لنون الإناث، والواو حرف هو آخر الفعل لا ضمير، والضمير النون، والمصدر منصوب على الاستثناء المنقطع لا المتَّصل؛ لأنَّه لو كان متَّصلا لكان في التفريغ، وهو أن يكون (إِلَّا) بعد نفي أو نحوه، أي: إِلَّا عفو النساء، أي: لكنَّ عفوهنَّ مطلوب بأن لا يقبضن النصف الذي لهنَّ، أو يقبضن بعضه فقط، إِلَّا أنَّ العفو عند الإطلاق لا ينصرف إِلَّا إلى الكلِّ، فإنَّما يؤخذ العفو عن البعض من غير نصِّ الآية، ولا يصحُّ التفريغ لعدم النفي، فلا يصحُّ ما قيل من أنَّه تفريغ من أعمِّ الأحوال، وأنَّ التقدير: (فلهنَّ نصف المفروض معيَّنًا في كلِّ حال إِلَّا حال عفوهنَّ، فإنَّه يسقط)، فإنَّه لا يصحُّ صناعةً، ولو صحَّ معنًى.
9. ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج عندنا، فيعطي الصداق كاملاً، أو الوليُّ فيردُّ النصف الذي لها، أو بعضه، ويضمن لها ولو كانت ابنة طفلة له، أو يردُّ النصف الذي لأمته أو بعضه، إِلَّا أنَّ إطلاق العفو على إعطاء الزوج النصف الآخر مشكل على قائله، لأنَّ العفو مَحْقُ حقٍّ يمكن استيفاؤه، فإمَّا أن يسمَّى عفوًا للمشاكلة أو لمعنى مطلق فعل الخير، وهو اليسر هنا، أو لتركه كلِّه عندها وقد وصلها، ولم يستردَّ النصف مع أنَّ له استرداده، أو لم يصلها لكن عفا عن إبطاله، قيل: يضعف تفسير ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ بالوليِّ بقوله: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ فإنَّ عفو الوليِّ ليس أقرب للتقوى، قلت: هو أقرب للتقوى إذا كان يضمن، وأيضًا التقوى قد يطلق على فعل المبرَّات وإن اشتهر في ترك المنكرات؛ لأنَّ فعل الطاعة يستلزم ترك المنكرات، والعفو يستلزم ترك البخل المذموم، والتعبير بالقرب إشارة إلى أنَّ التقوى لا يسهل وصولها، ومؤدِّي الواجب قريب لها، والزائد أقرب منه.
10. روي أنَّ جبير بن مطعم طلَّق زوجه قبل الدخول فأكمل لها الصداق، وقال: (أنا أحقُّ بالعفو)، أي: أحقُّ منها ومن وليِّها، فالعفو ممكن من الثلاثة، وعن ابن عبَّاس: يجوز للأب ترك صداق بنته الطفلة بلا ضمان، رواه البيهقي، وهو قول للشافعيِّ، ولا يؤخذ به، وزعم بعض أنَّ للوليِّ العفو في ذلك ولو كانت وليَّته كبيرة كارهة للعفو، وأنَّه لا ضمان عليه، وهو مردود.
11. ﴿وَلَا تَنسَوا﴾ أيُّها الرجال والنساء، لا تتركوا ﴿الْفَضْلَ﴾ فعل الخير، ﴿بَيْنَكُم﴾ تفعل له الخير ويفعل لها الخير بعد الطلاق والفداء، مسَّها أو لم يمسَّها، ومن ذلك أن يتمَّ لها الصداق أو يزيد دون تمام بحيث يجب النصف؛ وأن تترك النصف الذي لها أو بعضه وأن تترك له الصداق كلَّه أو بعضه إذا وجب كلُّه لها، والرجال أحقُّ بالمسارعة لذلك لأنَّهم قوَّامون وأقوى منهنَّ وأعقل، حتَّى إنَّه لا يبعد كون الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تَنسَوا﴾ لهم، وفي ﴿بَيْنَكُمْ﴾ لهم ولهنَّ، والظرف متعلِّق بمحذوف حال من (الْفَضْل)، أو بمحذوف معرَّف نعت له، أي: الفضل الواقع بينكم قبل الطلاق بل ابقوا عليه، وأجاز بعض تعليقه بـ (تَنسَوْا).
12. ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم على ما فعلتم من الفضل بينكم وسائر أعمالكم دنيًا وأخرًى.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/79.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ قالوا: المراد بالجناح المنفي هنا هو التبعة من المهر ونحوه، لا الإثم والوزر، وأوردوا هذا وجها ضعيفا وجهوه بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان كثيرا ما ينهى عن الطلاق، فظن الناس أن فيه جناحا فنفته الآية، وهو كما ترى يتبرأ منه السياق، وقال محمد عبده: المراد بنفي الجناح نفي المنع، وهو مقيد بقيدين: عدم المسيس، وعدم تسمية مهر، والمسيس اسم مصدر لمسه مسا ـ من باب تعب ونصر ـ إذا لمسه بيده من غير حائل، هكذا قيدوه كما في المصباح، ويعبر عن إصابة كل شيء للإنسان من خير وشر ونفع وضر، ويكنى به وبالمماسة والملامسة كالمباشرة عن الغشيان المعلوم بين الزوجين.
2. قرأ الجمهور ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بالفعل الثلاثي، وقرأ حمزة والكسائي (تماسوهن) بالصيغة الدالة على المشاركة هنا وفي سورة الأحزاب؛ لأن كلا منهما يشترك فيه بحسب حاله، فهذه القراءة بيان للواقع، وتلك بيان لفعل الرجل الذي يجب به ما يجب من المهر والعدة، وآية الأحزاب التي فيها القراءتان هي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 49] وأجمعوا على قراءة واحدة في قوله تعالى من سورة مريم حكاية عنها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ لأنه نفي لسبب الولد من قبل الرجال لا معنى للمشاركة فيه، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والآية تدل على أن عقد النكاح يصح بغير مهر، قالوا: ويجب حينئذ مهر المثل، قال محمد عبده: والفرض هنا يصدق بما يكون بعد العقد كأن يقول: أمهرتك ألفا مثلا.
3. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ أي: لا يلزمكم شيء من المال تأثمون بتركه في حال طلاقكم للنساء ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي: مدة عدم مسكم إياهن وتسمية المهر لهن، فـ ﴿أَوْ﴾ هنا بمعنى الواو أو المعنى: إلى أن تفرضوا لهن، أو إلا أن تفرضوا لهن، أي: فحينئذ يجب عليكم شيء وهو ما يذكر في الآية التالية لهذه، والمعنى إذا تحقق الشرطان أو القيدان فلا تدفعوا لهن مهرا ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن شيئا يتمتعن به، ولتكن هذه المتعة على حسب حالكم في الثروة.
4. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ الموسع وصف؛ من أوسع الرجل إذا صار ذا سعة؛ وهي البسطة والغنى، والمقتر من أقتر الرجل إذا قل ماله وافتقر، وقتر على عياله (من باب قعد وضرب) وأقتر: ضيق عليهم في النفقة، ولعله من القتار ـ بالضم ـ وهو دخان الشواء والطبيخ وبخاره ورائحته، والقتر من النفقة: الرمقة من العيش، ويقال: أقتر أيضا إذا قتر عمدا فعاش عيشة الفقير، وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان ﴿قَدْرِهِ﴾ بفتح الدال، والباقون بسكونها وهما لغتان بمعنى، وقيل: القدرة بالتسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، والمراد لا يختلف، وهو أن المتعة تختلف باختلاف ثروة الرجل وبسطته ولذلك لم تحدد، بل تركت لاجتهاد المكلف؛ لأنه أعرف بثروة نفسه، وقد علم أن الله فرضها عليه وأكدها بقوله: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾
5. المعروف هو ما يتعارف الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم وأحوال معايشهم وشرفهم، وأما كونه ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فمعناه أنها واجبة حاقة، على أنها إحسان في التعامل لا عقوبة، فإن الحكمة فيها كما قالوا: جبر إيحاش الطلاق؛ كأن المعنى إن كنتم مؤمنين بالله محسنين في طاعته فعليكم أن تجعلوا هذا المتاع لائقا مؤديا إلى الغرض منه.
6. قال محمد عبده مبينا الحكمة في شرع هذه المتعة: إن في هذا الطلاق غضاضة وإيهاما للناس أن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه منها شيء، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة ويكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، والاعتراف بأن الطلاق كان من قبله؛ أي: لعذر يختص به، لا من قبلها؛ أي: لا لعلة فيها؛ لأن الله تعالى أمرنا أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، فجعل هذا التمتيع كالمرهم لجرح القلب لكي يتسامع به الناس، فيقال: إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو آسف عليها معترف بفضلها؛ لأنه رأى عيبا فيها أو رابه شيء من أمرها، ويقال: إن سيدنا الحسن السبط متع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم وقال: (متاع قليل من حبيب مفارق) لهذا وكل الله تعالى الأمر في ذلك إلى أريحية المؤمنين فلم يحدده، بل وصفه بالمعروف، وذكر المطلق عند إيجابه بالإحسان هنا وبالتقوى في الآية الآتية.
7. من المعروف أن الإقدام على عقد الزوجية يتقدمه تعارف وتواد بين بيت الرجل وبيت المرأة، ثم تكون الخطبة فالعقد، فإذا طلق الرجل قبل الدخول فإن الناس يظنون بالمرأة من الظنون ما لا يظنون بها إذا طلقت بعد الدخول؛ لأن المعاشرة هي التي تكشف لكل واحد عن طباع الآخر، فيحمل الطلاق على تنافر الطباع، وعدم المشاكلة في الأخلاق والعادات، وهذا وجه لجعل بعض العلماء متعة غير المدخول بها واجبة ومتعة غيرها مستحبة، وإذا كانت الغضاضة في الطلاق قبل الدخول على ما ذكرناه، فلا جرم أن ذلك التواد الذي ظهرت بوادره قبل الخطبة وتمكن بالعقد يتحول إلى عداء وتباغض، إلا أن يدفع المطلق ذلك بالتي هي أحسن وهي المتعة اللائقة، ولا تتحقق هذه الحكمة إلا بجعل مقدار المتعة موكولا إلى اختيار الرجل، مع العلم بأنها واجبة على حسب الحال في السعة، وأن الغرض منها كذا، فلا يتحقق الامتثال إلا بتحري إصابته، ومما روي عن الحسن السبط أيضا أنه متع (بعشرين ألفا وزقاق من عسل)، وكذلك كانوا يفعلون.
8. هذا هو المتبادر من الآية، ولكن من الفقهاء من قال: إن المتعة تستحب ولا تجب؛ لأنها جعلت حقا على المحسنين، كأن القيام بالواجب لا يوصف بالإحسان، ويكفي في إثبات الوجوب قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ وقوله: ﴿حَقًّا عَلَى﴾ وإنما حسن ذكر الإحسان هنا؛ لأن المفروض غير محدود، والشارع يحب بسط الكف فيه، فذكر بالإحسان لأجل ذلك، وليبين أن المتعة ليست من قبيل الغرامة، إذ لو كانت غرامة لا اختيار في قدرها كما أنه لا اختيار في أصلها لما تحققت بها الحكمة التي تقدم شرحها، وآية الأحزاب المتقدمة آمرة بالتمتيع أمرا لم يذكر معه لفظ المحسنين، على أن الله تعالى ذكر الإحسان والمحسنين في مقام الأعمال الواجبة كقوله في سورة التوبة: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ والنصح لله ورسوله واجب حتم، وقوله في هذه السورة أيضا: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وذكر هذا اللفظ كثيرا بعد ذكر الصبر في مواضع اليأس وهو واجب، وبعد ذكر محاولة إبراهيم ذبح ولده ـ وكان واجبا عليه ـ لولا ما افتداه الله تعالى، وقال تعالى في سورة الزمر عند ذكر الجزاء: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهل يصح أن يقال: إن النفس تعذب على ترك النوافل فتتمنى الرجعة لتؤديها؟ ومن تتبع الآيات التي ذكر فيها الإحسان يرى أن منها ما يراد به الأعمال المفروضة أولا بالذات، ومنها ما يراد به ما زاد عن الفرض من العمل الصالح، ومنها ما يراد به إحسان العمل وإتقانه مطلقا، وممن صرح بوجوب المتعة من علماء السلف: علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك وغيرهم، واختلفوا أيضا في مقدارها وقد علمت المختار فيه، واختلفوا أيضا هل تشرع لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم لا وسيأتي ذلك في تفسير ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾
9. ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ الآية الماضية في حكم غير الممسوسة إذا لم يفرض لها، وهذه في حكمها وقد فرض لها المهر، وهو أن لها نصف المهر المفروض، قال الجلال: فنصف ما فرضتم يجب لهن ويرجع لكم النصف، قال محمد عبده: وهذا جرى على أن الذي كان عليه العمل هو سوق المهر كله للمرأة عند العقد، خلافا لما استحدثه الناس بعد من تأخير ثلث المهر أي في الغالب، وقد يؤخرون أكثر من الثلث أو أقل حتى كأن ذلك من سنن الدين، وما هو إلا عادة من العادات، والظاهر أن سببها حب الظهور بكثرة المهر والفخر به، مع اجتناب الإرهاق بدفعه كله، وقدر غير الجلال: فالواجب نصف ما فرضتم ـ أو ـ فادفعوا نصف ما فرضتم، والمعنى ظاهر على كل تقدير.
10. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي: النساء المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، وهو حق البالغة الرشيدة ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ قيل: هو الولي مطلقا وعليه جماعة من المفسرين، أو الولي المجبر وهو الأب أو الجد فيعفو له عن النصف الواجب كله أو بعضه، والشيعة لا تبيح له العفو عن كله، وقال كثير منهم: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج الذي بيده حلها، قال محمد عبده: عبر عنه بهذا للتنبيه على أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى وإن كان الواجب المحتم نصفه، فذلك تمهيد لقوله: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، والخطاب على هذا خاص بالرجال، وفيه وجه آخر أنه عام للنساء والرجال، أي من عفا فهو المتقي، ويروى عن جبير بن مطعم أنه تزوج بنتا لسعد بن أبي وقاص ثم طلقها قبل الدخول وأعطاها جميع المهر، فسئل عن هذا فقال: أما التزوج فلأنه عرضها علي فما رأيت أن أرده، وأما العفو فأنا أحق بالفضل، هكذا قال من روى القصة بالمعنى، وفي التفسير الكبير أن جبيرا قال: أنا أحق بالعفو، وإذا كان هذا لفظه فهو دليل على أن الخطاب عام على سبيل التغليب، ويرجحه اختلاف الأحوال، ففي بعض الأحوال تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر، وفي بعضها تكون في عفو المرأة عن النصف الواجب لها؛ ذلك لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا علة منها وقد يكون بالعكس، والذي تراه في عامة كتب التفسير أن المراد بالتقوى هنا تقوى الله تعالى المطلوبة في كل شيء؛ وذلك أن العفو أكثر ثوابا وأجرا.
11. قال محمد عبده: إن التقوى في هذا المقام اتقاء الريبة وما يترتب على الطلاق من التباغض وآثار التباغض، ولا يخفى ما في السماح بالمال من التأثير في تغيير الحال؛ ولذلك قال بعد ذلك: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ فسروا الفضل بالتفضل والإحسان، وجعلوه للترغيب في العفو، وقال محمد عبده: المراد به المودة والصلة، أي ينبغي لمن تزوج من بيت ثم طلق ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، قال: فأين هذا مما نحن عليه اليوم من التباغض والضرار!؟
12. على هذا السياق جرى في تفسير الآية، وهو مما لا يقف الذهن فيه إلا من كان مطلعا على وجوه الخلاف في الذي بيده عقدة النكاح، يقول القائلون بأنه الولي: إنه هو الذي يتولى العقد شرعا وعرفا، وقد يتولى العفو عن نصف المهر بالنيابة عن موليته إذا هي طلقت، ولا سيما إذا كانت غير مدخول بها، ولا حديث بينها وبين الزوج ولا معاملة، وإن تبرع الزوج بالنصف الآخر من المهر لا يسمى عفوا وإنما يسمى هبة، وإنه كان من مقتضى السياق أن يقال ـ لو أريد الزوج ـ: (إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم)، وإن عقدة النكاح لم تبق في يد الزوج بعد الطلاق، ويقول الذاهبون إلى أنه الزوج: إن الولي بيده عقد النكاح لا عقدته التي هي أثر العقد، وإنه ليس للولي أن يسمح بشيء من مال موليته؛ لأنها هي المالكة المتصرفة من دونه، وأنت ترى الجواب من كل جانب عما أورده الآخر سهلا، والخطب أسهل، فالمعنى المراد أن الواجب نصف المهر إلا أن يسمح الرجل به كله، وسمى سماحه بالنصف الآخر عفوا؛ لأن المعهود أنهم كانوا يسوقون جميع المهر عند العقد كما تقدم، أو تعفو المرأة بنفسها أو بواسطة وليها عما يجب لها فلا تأخذ منه شيئا، فأي الفريقين عفا فعفوه أقرب إلى التقوى، والقائلون بأن الذي بيده عقد النكاح هو الزوج أكثر كما تشعر به العبارة السابقة، ويروى فيه حديث مرفوع عند ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي.
13. ختمت الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ جريا على السنة الإلهية بالتذكير والتحذير بعد تقرير الأحكام؛ لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذي الإيمان وتبعث على الامتثال، وفي التذكير باطلاع الله تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا ترغيب في المحاسنة والفضل، وترهيب لأهل المخاشنة والجهل.
14. قال محمد عبده بعد تفسير هذه الآيات ما معناه: من تدبر هذه الآيات وفهم هذه الأحكام يتجلى له نسبة مسلمي هذا العصر إلى القرآن، ومبلغ حظهم من الإسلام، قال: وأخص المصريين بالذكر؛ فإن الروابط الطبيعية في النكاح والصهر وسائر أنواع القرابة صارت في مصر أرث وأضعف منها في سائر البلاد، فمن نظر في أحوالهم وتبين ما يرجى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات والمضارات، وما يكيد بعضهم لبعض، يخيل إليه أنهم ليسوا من أهل القرآن، بل يجدهم كأنهم لا شريعة لهم ولا دين بل آلهتهم أهواؤهم، وشريعتهم شهواتهم، وأن حال المماكسة بين التجار في السلع هي أحفظ وأضبط من حال الزواج، وأقوى في الصلة من روابط الأزواج، وسرد في الدرس وقائع تؤيد ما ذكره، منها أن رجلا هجر زوجته ـ وهي ابنة عمه وله منها بنت ـ بغير ذنب غير الطمع في المال، فكان كلما كلموه في شأنها قال: لتشتر عصمتها مني، ومنها ما هو أدهى من ذلك وأمر كالذين يتركون نساءهم بغير نفقات حتى قد يضطروهن إلى بيع أعراضهن، وكالمطلقات المعتدات بالقروء يزعمن أن حيضهن حبس، فتمر السنون ولا تنقضي عدتهن بزعمهن، وما الغرض إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، وكالذين يذرون أزواجهم كالمعلقات لا يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان، أو يفتدين منهم بالمال، فأين الله وأين كتاب الله وشرعه من هؤلاء وأين هم منه؟ إنهم ليسوا من كتاب الله في شيء، ولكن المسرفين أهواءهم يتبعون.
__________
(1) تفسير المنار: 2/429.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لا يلزمكم شيء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء قبل الدخول بهن إلا إذا سميتم لهن مهرا، فإن حصل المساس فعليه تمام المسمى في حال التسمية، ومهر مثلها إن لم يسمّ لها مهرا، وفي حال الطلاق قبل المسيس مع الفرض، عليه نصف ما فرض وسمى.
2. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ أي وأعطوا المطلقات شيئا من مالكم يتمتعن به بحسب حالكم في الثروة والغنى، ولم يحدده الله تعالى، بل وكله إلى اجتهاد المرء لأنه أدرى بثروته، إلا أن الشارع حبب في بسط الكف والسخاء للمطلقة تطييبا لنفسها وعوضا عما لحقها من الضرر.
3. ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أي وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم، وهذه المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر وهى المذكورة في الآية، ومستحبة لسائر المطلقات، والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شيء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبا، أو رابه من أمرها شيء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق، وقد أثر عن الحسن السبط أنه متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
4. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي وإن حصل الطلاق قبل المسيس وقد سمى لهن مهر فلهن نصف المسمى المفروض، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني، وهذا جار على ما كان يعمله الناس من سوق المهر كله للمرأة حين العقد، لا على ما استحدثوه من تأخير ثلث المهر أو أكثر منه أو أقلّ لرغبتهم في حبّ الظهور والتفاخر بكثرة المهر مع اجتناب إرهاق الزوج بدفعه كله، وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وجب المهر كله للزوجة إذا مات الزوج، أو لوارثها إذا ماتت هي لأن الموت كالدخول بها يوجب المهر كله، إن كان هناك مهر مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر.
5. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا؟ فيسقط حينئذ ما وجب عليه، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة.
6. ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أي أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرما منه، وحينئذ تأخذ الصداق كاملا، النصف الواجب عليه، والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف، وعبر بقوله: بيده عقدة النكاح للتنبيه إلى أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده، لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى، وإن كان الواجب المحتّم نصفه، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقى، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها، وقد يكون بالعكس، والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب، وهذا ما بينه سبحانه بقوله:
7. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي ينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة، وإنك لو رأيت ما يجرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن أحيانا إلى بيع أعراضهن، أو يذرونهن كالمعلقات، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال، والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن، فتمضى السنة أو أكثر منها ولا تنقضي عدتهن بزعمهن، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية (354 يوما)، وإذا حدث طلاق ـ كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوى الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شيء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في المحاسنة والفضل، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّى الإيمان وتبعث على الامتثال.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/196.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول، وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل، وهي حالة كثيرة الوقوع، فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما:
أ. والحالة الأولى: هي حالة المطلقة قبل الدخول، ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم، والمهر فريضة، فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها، أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع، ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعا من التعويض.. إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشئ جفوة ممضة في نفس المرأة، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة، ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة؛ ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى، فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية، واحتفاظا بالذكرى الكريمة، وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق، فعلى الغني بقدر غناه، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾.. ويلوّح بالمعروف والإحسان فيندّي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾
ب. والحالة الثانية: أن يكون قد فرض مهرا معلوما، وفي هذه الحالة يجب نصف المهر المعلوم، هذا هو القانون، ولكن القرآن يدع الأمر بعد ذلك للسماحة والفضل واليسر، فللزوجة ـ ولوليها إن كانت صغيرة ـ أن تعفو وتترك ما يفرضه القانون، والتنازل في هذه الحالة هو تنازل الإنسان الراضي القادر العفوّ السمح، الذي يعف عن مال رجل قد انفصمت منه عروته، ومع هذا فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترف وتخلو من كل شائبة: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.. يلاحقها باستجاشة شعور التقوي، ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل، ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله.. ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة، ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية، موصولة بالله في كل حال.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/257.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ تبين الآية الكريمة هنا حكم المرأة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مهر، إذا أريد طلاقها، وأن شأنها في الطلاق شأن المرأة المدخول بها والمسمى لها مهرا، فللزوج أن يطلّق إذا لم يكن له بد من الطلاق! وللمرأة المطلقة هنا نصف مهر مثلها، منظورا فيه إلى يسار الرجل وإعساره، فذلك مما يخفف عن المرأة من تلك الصدمة، ويضمد جراحها.
2. فى قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ ما يشير إلى تلك المواساة، التي ينبغي أن يسمح بها الرجل في كرم ورضى، وأن يستدعى لها مروءته، ورجولته، ودينه، فلا يطعن المرأة هذه الطعنة، ثم لا يمد لها يد الرحمة والمواساة! إذ ليس ذلك من الإحسان في شيء، والنبيّ الكريم يقول في قتل الحيوان المؤذى: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة)! فكيف بإنسان؟
3. إنّها المتعة المفروضة للمرأة المطلقة قبل الدّخول بها ولكن قد سمّى لها مهر! فلها نصف المهر المسمّى، للاعتبارات التي أشرنا إليها في الآية السابقة.
4. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ إشارة إلى أن هذا الحكم لا يمنع التراضي بين الزوجين، فإنه ـ مع هذا ـ يجوز للمرأة أن تنزل عن حقّها في نصف المهر، فقد تكون في سعة، ويكون الزوج في حال يضيره فيه المهر الذي قدمه، فتعيده إليه، واضعة في اعتبارها ـ إلى هذا الاعتبار ـ أن الزوج لم ينل شيئا منها، وأنه ربما اضطر إلى الطلاق لظروف خارجة عن إرادته.. فكان هذا الفضل منها داعية إلى الحفاظ على الروابط الإنسانية بينه وبينها، وبين أهله وأهلها، وربما كان ذلك داعيا إلى حسن الأحدوثة عنها والرغبة فيها من زوج آخر.. ولولىّ المرأة مثل هذا الحق الذي لها في التنازل عن نصف المهر المسمّى، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾.
5. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ خطاب للأزواج، وتحريض لهم على التنازل عن نصف المهر من جهتهم، فتذهب المرأة بالمهر كلّه، وذلك على سبيل التسامح والتفضل، وبين التسامح من جهة الزوجة أو وليها، والتسامح من جهة الزوج، يلتقى الطرفان على طريق سواء، لا مشاحّة فيه، ولا كيد، ولا عداوة، فيفترقان من غير أن تتصدع روابط الإنسانية في مجتمعهما الأسرىّ، الذي هو أساس البناء للمجتمع كله.
6. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ دعوة للطرفين معا أن ييسّرا ولا يعسّرا، وأن يحسنا ولا يسيئا، فذلك هو الأقرب إلى التقوي، والأليق بالمتقين: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازى الفضل بالفضل والإحسان بالإحسان، أضعافا مضاعفة: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/284.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر، كله أو بعضه، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، ومناسبة موقعها لا تخفى، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة، وهو طلاق المدخول بهن، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول، وهو الذي في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ الآية، في سورة الأحزاب [49]، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه.
2. حقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158]، ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق، ووقع في (الكشاف) تفسير الجناح بالتبعة فقال: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا تبعة عليكم من إيجاب المهر ثم قال والدليل على أن الجناح تبعة المهر، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فقوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ إثبات للجناح المنفي ثمة، وقال ابن عطية وقال قوم: لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن الزمخشري مسبوق بهذا التأويل، وهو لم يذكر في (الأساس) هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازا، فإنما تأوله من تأوله تفسيرا لمعنى الكلام كله لا لكلمة ﴿جُنَاحَ﴾ وفيه بعد، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر، والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح، وهو معناه المتعارف، وفي (تفسير ابن عطية) عن مكي بن أبي طالب: (لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصدا للذوق، وذلك مأمون قبل المسيس) وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في (تفسيره)
3. المقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه، وكأن قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء، قال ابن عطية وغيره: إنه لكثرة ما خص الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرما، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر.
4. النساء: الأزواج، والتعريف فيه تعريف الجنس، فهو في سياق النفي للعموم، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج، و(ما) ظرفية مصدرية، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة، و(أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ عاطفة على ﴿تَمَسُّوهُنَّ﴾ المنفي، و(أو) إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوف عليه معا، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في (أماليه) وصرح به التفتازاني في (شرح الكشاف)، وقال الطيبي: إنه يؤخذ من كلام الراغب، وهو التحقيق؛ لأن مفاد (أو) في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعا، ولهذا كان المراد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24] النهي عن طاعة كليهما، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي: هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي، وجعل الزمخشري (أو) في قوله تعالى: ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ بمعنى إلا أو حتى، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي، على انتفاء كلا المتعاطفين؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين: وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده، وقبل فرض الصداق، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية، لا للعطف، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهورا لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطورا بالأذهان، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية.
5. أفادت الآية حكما بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة، ثم اختلفوا في وجوبها، وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقدا لازما بالقول، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه، وهي تعيين مقداره بالقول، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات، وفيه نظر، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل.
6. الآية دلت على مشروعية أصل الطلاق، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه: بالتصدي لبيان أحكامها، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية، فنحن نبسط القول في ذلك: إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال، وقد وجدنا المعاشرة نوعين:
أ. أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة، وهي معاشرة النسب، المختلفة في القوة والضعف، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء، والإخوة بعضهم مع بعض، وأبناء العم والعشيرة، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان، فنجد في قصر زمن المعاشرة، عند ضعف الآصرة، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيرا في مقدار الملاءمة؛ لأنه بمقدار قرب النسيب، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول، فنشأ من السببين الجبلي، والاصطحابي، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة، وحكم التعود والإلف، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.
ب. الثاني: معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر، وتستمر أو تغب، بحسب قوة الداعي وضعفه، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة، والتقصير في ذلك، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع.
7. معاشرة الزوجين في التنويع، هي من النوع الثاني، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها، وفي ميله إلى التي يراها، مذ انتسبت به واقترنت، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير، تقوم مقام السبب الجبلي، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل، بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
8. قد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أسد، ولا أشد احتمالا لأذى وصبرا على سوء خلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج، وهذا التخلص هو المسمى: بالطلاق، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي، وقد تسأله المرأة من الرجل، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه:
تلك عرساي تنطقان على عم...د إلى اليوم قول زور وهتر
سالتاني الطلاق أن رأتا ما...لي قليلا قد جئتماني بنكر
وقال عبيد بن الأبرص:
تلك عرسي غضبى تريد زيالي...ألبين تريد أم لدلال
إن يكن طبّك الفراق فلا أح...فل أن تعطفي صدور الجمال
وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرّ من عشرته، بعد ثبوت موجباته، أن يطلقها عليه، فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفي برضا واحد: وهو الزوج، تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه.
9. مقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعا؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف، أسهل منه بعد التعارف.
10. قرأ الجمهور ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ـ بفتح المثناة الفوقية ـ مضارع مس المجرد، وقرأ حمزة والكسائي وخلف، (تماسوهن) ـ بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر.
11. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ الآية عطف على قوله تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ عطف التشريع على التشريع، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو: ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا﴾، كما هو الظاهر، أي متعوا المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، ولا أحسب أحدا يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية.
12. الأمر في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأن أصل الصّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ وقوله بعد ذلك، في الآية الآتية: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ لأن كلمة ﴿حَقًّا﴾ تؤكد الوجوب، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر.
13. جعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعد: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضيه، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان، وهو قول مالك وشريح، فجعلها حقا على المحسنين، ولو كانت واجبة لجعلها حقا على جميع الناس، ومفهوم جعلها حقا على المحسنين أنها ليست حقا على جميع الناس، وكذلك قوله ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ في الآية الآتية، لأن المتقي هو كثير الامتثال، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم، وفي (تفسير الأبي) عن ابن عرفة: (قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك: المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنّه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض، وأنه الأصح عند الأصوليين، قلت: فيه نظر، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا، على أن لمذهب مالك أن المتعة عطية ومؤاساة، والمؤاساة في مرتبة التحسيني، فلا تبلغ مبلغ الوجوب، ولأنها مال بذل في غير عوض، فيرجع إلى التبرعات، والتبرعات مندوبة لا واجبة، وقرينة ذلك قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح، إلا أن يقال: إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندب المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمّى لها مهرا، قال فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصرها على ذلك، رفقا بالمطلق، أي فلا تندب لها ندب خاصا، بأمر القرآن، وقد قال مالك: بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف.
14. ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قتر وهو ضيق العيش، والقدر ـ بسكون الدال وبفتحها ـ ما به تعيين ذات الشيء أو حاله، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام، ويطلق على ما يساويه في القيمة، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة، وهو الطبقة من القوم، والطاقة من المال، وقرأه الجمهور بسكون الدال، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بفتح الدال.
15. ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ مبتدأ محذوف الخبر إيجازا لظهور المعنى، أي فنصف ما فرضتم لهن بدليل قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ﴾ لا يحسن فيها إلا هذا الوجه، والاقتصار على قوله تعالى: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ يدل على أنها حينئذ لا متعة لها.
16. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف، وتسمية هذا الإسقاط عفوا ظاهرة، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها، أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضر، فإسقاطه عفو لا محالة، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح.
17. أل في النكاح للجنس، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج، وإن كان كلاهما سمي عقدا، فهو غير النساء لا محالة لقوله تعالى: ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ فهو ذكر، وهو غير المطلق أيضا، لأنه لو كان المطلق، لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر، وقيل: جيء بالموصول تحريضا على عفو المطلق، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق، فكان جديرا بأن يعفو عن إمساك النصف، ويترك لها جميع صداقها، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها؛ إذ لا ينعقد نكاحها إلا به، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان، إذ لا يحتمل غير ذلك، وإن كان المراد مطلق الولي، فكونه بيده عقدة النكاح، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة، والاتصاف بالصلة مجاز، وهذا قول مالك؛ إذ جعل في (الموطأ): الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته، وهو قول الشافعي في القديم، فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة والمولّى عليها، ونسب ما يقرب من هذا القول إلى جماعة من السلف، منهم ابن عباس وعلقمة والحسن وقتادة، وقيل: الذي بيده عقدة النكاح هو المطلق لأن بيده عقد نفسه وهو القبول، ونسب هذا إلى علي وشريح وطاووس ومجاهد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، ومعنى ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أن بيده التصرف فيها بالإبقاء، والفسخ بالطلاق، ومعنى عفوه: تكميله الصداق، أي إعطاؤه كاملا، وهذا قول بعيد من وجهين:
أ. أحدهما أن فعل المطلق حينئذ لا يسمى عفوا بل تكميلا وسماحة؛ لأن معناه أن يدفع الصداق كاملا، قال في (الكشاف): (وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيه نظر) إلا أن يقال: كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق، فإذا ترك ذلك فقد عفا، أو سماه عفوا على طريق المشاكلة.
ب. الثاني أن دفع المطلق المهر كاملا للمطلقة إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص، بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.
18. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول، والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب، وليس خطابا للمطلقين، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق، لأنه عبر عنه بعد بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ وهو ظاهر في المذكر، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله تعالى: ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128].
19. معنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه.
20. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ تذييل ثان، معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل، فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.
21. النسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [السجدة: 14] وهو كثير في القرآن، وفي كلمة ﴿بَيْنَكُمْ﴾، إشارة إلى هذا العفو، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض.
22. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه، ونظيره قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48].
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/436.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين سبحانه آثار الفراق بين الزوجين بالطلاق أو الموت؛ فقد بين العدة، وهى في معناها حق الزواج وحق الزوج وحق الولد؛ وقد ذكر بعد ذلك حق المرأة الخالص، وهو المهر أو المتعة؛ وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء المهر في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء] ووجوبه كاملا في حال الطلاق بعد الدخول في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء].
2. فى هذه الآية يبين سبحانه المهر الواجب أو ما يقوم مقامه في الصورة التي قد يتوهّم الناس أنه لا مهر فيها، لأنه لم يفض أحدهما إلى صاحبه؛ إذ لم يحصل مساس بينهما؛ فقال تعالى: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ الجناح معناه الإثم، ومعنى تمسوهن هنا أي لم تباشروهن ولم تدخلوا بهن، وهو كناية جميلة من كنايات القرآن الكريم التي هذبت الألفاظ العربية، وعلمت الناس الأدب في التعبير، ليتهذب الذوق الخلقي، والبياني، والاجتماعى.
3. المس في أصل معناه اللغوي اللمس، فهو يطلق على كل ما يكون فيه إدراك بحاسة اللمس، ثم أطلق على سبيل الكناية على كل ما يكون فيه إصابة حسية أو معنوية ولها مظهر حسى؛ ولذا كنى به القرآن الكريم عما يكون بين المرء وزوجه، كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب]، وقوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [آل عمران]، وكنى بالمس عما يصيب العقل أو الجسم من مرض أو أذى؛ فقد قال تعالى: ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة]، وقال تعالى: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ [البقرة]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ [يونس]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة].. وهكذا.
4. الفريضة معناها المهر المقدر، وأصل الفرض معناه التقدير؛ فمعنى لم تفرضوا لهن فريضة: لم تقدروا لهن تقديرا.
5. معنى الآية الكريمة بعد ذلك التفسير اللفظي أنه لا إثم على من يطلق قبل الدخول إذا لم يكن ثمة فريضة مقدرة.
6. نفى الجناح أو الإثم عن الطلاق قبل المسيس لا عن مطلق طلاق؛ ولقد فهم بعض العلماء أن نفى الإثم هو عن مجرد الطلاق، لا عن الطلاق المقيد، واستنبط من هذا أن الطلاق مباح في ذاته من غير نظر إلى دواعيه؛ وذلك النظر لا نحسب أنه الصواب، لسببين:
أ. أحدهما: أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، وأن الله ما أحل شيئا أبغضه كالطلاق، فلا يمكن أن يكون الأصل فيه الحل من غير نظر إلى دواعيه وبواعثه؛ لأنه شرع للحاجة النفسية إليه، وذلك إذا تعذر قيام المودة في الحياة الزوجية؛ ولذا قال سبحانه بعد محاولة الإصلاح بين الزوجين بكل الطرق وتعذر الإصلاح: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء].
ب. ثانيهما: إن من المقررات اللغوية أن أداة النفي إذا دخلت على شيء مقيد بوصف أو حال، فإن النفي لا يكون منصبا عليه مقيدا بذلك القيد، ويكون القيد هو موضع النفي لا أصل الشيء في ذاته؛ وكذلك هنا؛ فالنفي منصب على الطلاق المقيد بأنه قبل الدخول وقبل فرض فريضة، أو بالأحرى هو منصب على الطلاق قبل المسيس، سواء أكان ثمة فريضة أم لم تكن، ولكنه في حال الفرض للمهر قدر مخصوص، وفى حال عدم الفرض للمرأة حق آخر معلوم.
7. ننتهي من ذلك إلى أن موضوع الآية الكريمة هو حق المرأة في حال الطلاق قبل الدخول، سواء أكان ثمة فرض أم لم يكن فرض؛ وإذا كان ثمة نفى للإثم فهو عن الطلاق في هذه الحال، وإن نفى الإثم عن الطلاق في هذه الحال؛ لا يقتضى نفى الإثم في غيرها، وإن الفرق بين الحالين واضح؛ فإن الفرقة قبل الدخول يكون الضرر الواقع فيها على المرأة أقل، ولم يستوف فيها شيء من أحكام الزواج، ولم توثق الصلة فيها بأولاد، وإقامة بيت، يتهدم بالطلاق؛ أما الطلاق بعد الدخول، فإن جل أو كل أحكام الزواج فيها تكون قد استوفيت، والضرر فيها أشد، وقد يتعدى الضرر إلى ثمرات الزواج؛ فنفى الإثم في الحال الأقل ضررا، أو التي لا ضرر فيها لا يستلزم نفى الإثم في الحال الأشد ضررا.
8. سؤال وإشكال: إن الطلاق قبل المسيس قد يسيء إلى سمعة المرأة، ويقول الناس إنه ما طلقها إلا من شيء، وقد يكون اختياره لها مفوتا لزوج كفء ربما لا يمكن تداركه، وذلك حق في بعض الأحوال، والجواب: بأن حسن سمعة الأسرة التي تنتمى إليها الزوجة، وكرم محتدها قد يردّ كل إيهام أو اتهام، وإن ما يعروها من ألم بسبب ذلك الفراق المعجل يخففه التمتيع، وهو إعطاء المتعة؛ وفوق كل هذا إن الاختلاف الذي أدّى إلى الافتراق قبل الدخول يدل على أن الاختيار في الزواج لم يكن موفقا، فكان إنهاؤه قبل الدخول من المصلحة الحقيقية للزوج، ويهون بجواره كل ألم في سبيل تلك المصلحة؛ لأنه يكون الأمر بعد ذلك عيشة كلها مضارة، أو افتراق في غير الوقت المناسب، وإذا كانت المرأة قد تألمت فالرجل قد أصابه غرم مالي.
9. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ هذا بيان لما تعوض به المرأة إذا حصلت فرقة قبل الدخول وقبل أن يقدّر لها شيء من المهر؛ فذكر الله سبحانه أن الواجب هو المتعة؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ والمعنى أعطوهن متعة ينتفعن بها ويكون فيها تسرية عن أنفسهن، وبعض التعويض عما نالهن، وما فاتهن في هذا الزواج، فتطيب نفوسهن، والتمتيع مأخوذ من المتاع، وأصل المتاع الامتداد في الارتفاع، يقال متع النهار إذا ارتفع؛ ثم انتقل إلى الانتفاع الممتد، ثم إلى الشيء المنتفع به انتفاعا ممتدا يعلو به الشخص في الحياة الدنيا، ثم أطلق على كل ما ينتفع به؛ ومنه المتعة في الزواج، وهو ما يعطى للمطلقة لتنتفع به مدة عدتها؛ ويلاحظ أن يكون الانتفاع مما يمتد زمنا، ومما يعلو به الشخص؛ ولذا عرّفها الشافعي بأنها: شيء نفيس يعطيه المطلق للمرأة لتنتفع به أمدا.
10. جعل الله سبحانه المتعة تابعة لحال الرجل، فقال: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ الموسع: القادر المطيق للإنفاق عن سعة، فهو ذو السعة أي القدرة الكبيرة، كما قال تعالى في الإنفاق: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق] والمقتر هو من كان قليل المال، مأخوذ من أقتر الرجل بمعنى قل ماله؛ والقدر: الطاقة، أو المقدار؛ والمعنى؛ على الموسع قدر طاقته، وعلى المقل قدر طاقته؛ وقرئ ﴿قَدْرِهِ﴾ وهما بمعنى واحد، وبعض العلماء يفرق بينهما فيجعل (القدر) بالتحريك المقدار، و(القدر) بالتسكين الطاقة، والمؤدى واحد بلا ريب؛ إذ المراد والله أعلم: أن ذلك المال الكثير يكون عطاؤه متناسبا مع ما آتاه الله من بسطة في الرزق؛ وذو المال القليل يكون عطاؤه بقدر طاقته، لكن مع هذه الرخصة التي أعطيت للمقتر يجب أن يكون ما يعطيه مقدارا يكون الانتفاع به ممتدا زمنا؛ ولذا قال سبحانه: ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي يكون شيئا ينتفع به انتفاعا ممتدا في الزمان بالقدر المتعارف بين الناس، الذي لا يستنكره عرفهم، ولا الطبقة التي يكون فيها الزوجان بين الناس، والناس أصناف وألوان، وكل بقدر ما يتعارفه.
11. أكد سبحانه وتعالى الطلب في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أكده بصيغة تفيد أن التمتيع لازم لا مساغ من التخلص من لزومه، فقال سبحانه عزّ من قائل: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أي أن التمتيع هو حق أي أمر ثابت لازم واجب على المحسنين الذين يتحرون الإحسان إلى معاشريهم ومخالطيهم والمتصلين بهم؛ فالتعبير بالمحسنين؛ للإشارة إلى أن ذلك الواجب هو من قبيل الإحسان في المودة، والإشعار بالقربى في وقت الانفصال، ومنع الغضاضة والألم، وتطييب القلوب؛ وذلك لا ينافى الوجوب واللزوم.
12. قال بعض العلماء: إن التعبير بالمحسنين يدل على أن المتعة غير واجبة، وذلك لاعتقاده أن الإحسان تبرع غير واجب، وكان ذلك حقا على المحسنين الذين يلزمون أنفسهم بما لا يلتزم به الناس، ولكن الظاهر غير ذلك القول؛ لأن الإحسان لا ينافى الوجوب الذي دلّ عليه الأمر في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ وتأكد ذلك الأمر بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ لأن الإحسان في ذاته: الإجادة والإتقان وتحرى الحق وأداؤه على الوجه الأكمل، وذلك يتلاقى مع معنى الوجوب؛ وقد ورد الإحسان في القرآن في معنى الواجب فقد قال تعالى عن نفوس الكافرين يوم القيامة: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر] أي يكون ممن يؤدون الواجبات كلها فيكون من المحسنين، وذلك لا يتصور فيه معنى التبرع، بل وفوق ذلك فإن قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ يؤكد معنى الوجوب؛ إذ فيه التعبير بعلى التي تفيد اللزوم؛ وفيه أن المقل والمكثر عليهما أداء بطاقتهما؛ ولو كانت المتعة تبرعا لأعفى منه المقل، واستحسنت من المكثر.
13. مع أن المتعة واجبة إذا لم يكن ثمة مهر مسمى في العقد، ولم يكن دخول؛ فإن الشارع قد ترك تقديرها إلى نظر المطلق، وتقديره وطاقته، ولم يكن لها حد معلوم؛ وقد قدرها الحنفية بكسوة كاملة للمرأة وهى لباس الخروج، فإن المرأة تلبس عادة عند خروجها أكمل ثيابها، وتركوا نوع الثياب إلى طاقة الرجل وتقديره، واشترطوا ألا تقل عن خمسة دراهم، وهى نصف الحد الأدنى للمهر عندهم، وإذا اختلف الرجل والمرأة في تقديرها، كان الحكم في ترجيح قول أحدهما على الآخر نصف مهر مثلها؛ فإن كان أقل مما ادعى الزوج كان القول قوله، وإن كان أكثر مما تدعى الزوجة كان القول قولها، والمتعة عند الشافعي شيء نفيس يقدمه المطلق لمن طلقها قبل الدخول، ويكون في طاقته، وأحمد بن حنبل يتبع ما روى عن ابن عباس من أنه يرى أن المتعة تكون على حسب حال الرجل من يسار وإعسار؛ ونوعها يختلف باختلاف اليسر والعسر؛ وقد قال ابن عباس: أرفع المتعة الخادم (أي عبد أو أمة يعطيها أياها) وأوسط المتعة الكسوة، وأدناها النفقة، وروى عكرمة عن ابن عباس أنّه قال متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق (أي الدراهم تعطاها) ودون ذلك الكسوة، وقد كان الصحابة والتابعون من بعدهم يبالغون في العطاء على قدر طاقتهم ليقوموا بالتسريح بإحسان، وتطيب نفس مطلقاتهم؛ حتى إن الحسن بن على ما قد متع امرأة طلقها بعشرة آلاف درهم، فقالت المرأة: متاع قليل من حبيب مفارق.
14. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ بيّن سبحانه في الآية السابقة، ما يجب عند الطلاق قبل الدخول إن لم يكن قد سمّى مهر وقت العقد، وفى هذه الآية يبين المطلوب إذا سمّى مهر، وكان الطلاق قبل الدخول أيضا، وقد قدم حكم الحال الأولى؛ لأن عدم ذكر المهر مظنة ألا تعطى شيئا إذا كان الطلاق قبل الدخول، فسيقت الآية الكريمة ببيان هذا الوجوب ليزول من الأفهام ما يسبق إليها، وقد بيّنا معنى الفرض فيما سبق؛ ومعنى الآية الكريمة: إن طلق أحدكم المرأة وقد قدر لها مهرا وقت العقد، فالواجب عليه هو نصف المهر الذي تراضيا عليه وقت العقد، وقد صرحت الآية بوجوب النصف، ولم تصرح بوجوب دفعه؛ لأنه ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ عسى أن يكون قد قدم لها المهر كله أو بعضه، بل إن ظاهر الحال أنه يكون قد قدم المهر كله، أو نصفه، أو أكثر منه؛ فكان التعبير بالوجوب ليبين حق المطلق في استرداد ما دفعه أكثر من النصف، وليشمل وجوب الأداء ومقداره إن لم يكن قد أدى شيئا أو أدى أقل من النصف.
15. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هذا استثناء من الوجوب الذي قدره الله سبحانه وتعالى بالنصف، وهذا الاستثناء يبين الله سبحانه وتعالى فيه أن وجوب المهر إنما هو لحق العاقدين، وأن العفو عنه بابه متسع لمن يريد أن يصل إلى رحابه الفسيح، والعفو معناه: الإبراء والتنزل عن المطالبة سماحا؛ فإن كان الزوج أدى المهر كله فقد فتح له الشارع باب العفو بأن يترك لها حقه مبالغة في مرضاتها، وقد أرمض نفسها بالطلاق؛ وإن كان الزوج لم يقدم لها مهرا، وحدث الطلاق برغبة منها فإنه يحسن العفو منها وترك المطالبة، حتى لا تصيبه الخسارة في عقد لم ينل منه مأربا؛ وقد يكون مظهر العفو بالعطاء بأن يقدم الرجل كل صداقها إن لم يكن قد أعطاها شيئا منه، وفى الجملة إن العفو مستحسن من كل منهما في موضعه، فيستحسن منها إن كانت راغبة في الطلاق غير راضية بالبقاء، ويحسن منه إن كان الطلاق بغير طلبها.
16. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ معناه: إلا أن يعفو النساء عن صداقهن، أو عن حقهن، فالنون هنا نون النسوة، ووزن يعفون يفعلن.
17. معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ أي يعفو الزوج الذي بيده عقدة النكاح؛ فيستطيع فكها بالطلاق إن شاء، وإبقاءها إن شاء، وقيل: إن المراد به الولي الذي عقد الزواج؛ وذلك لأن الولي على مقتضى مذهب جمهور الفقهاء هو الذي تولى عقد الزواج، فهو الذي بيده عقدته، وإن الذي نختاره هو أن المراد الزوج لا الولي؛ وذلك لأمور ثلاثة:
أ. أولها: إن العقدة ليس معناها العقد؛ لأن العقد هو الربط الذي يتم به الاتفاق بين الرجل والمرأة ويكون به النكاح، وهو الزواج؛ أما العقدة، فهي الرابطة التي تكون بعد العقد أو الأثر الذي ينتجه العقد، ولا شك أن العقدة بهذا المعنى يملكها الزوج، ولا يملكها الولي.
ب. ثانيها: إن مقتضى الآية أن من بيده عقدة النكاح أي الزواج يستطيع أن يعفو عن مقدار من المهر؛ ومن المقررات الفقهية أن الولي على النفس ليس له أن يسقط حقا ماليا، خصوصا إذا كان في وقت الطلاق.
ج. ثالثها: إن العفو من جانب النساء يثبت بقوله تعالى: ﴿يَعْفُونَ﴾ والعفو مستحسن من الرجل، كما هو مستحسن من المرأة، وكل له موضع، فإذا ذكر الله سبحانه عفوهن، فمقتضى السياق أن يذكر عفو الرجل، ولو فسر قوله تعالى: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ بولي الزوجة لكان معنى هذا أن العفو هو المستحسن من النساء دائما، مع أن الله يقول مخاطبا الجميع: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
18. التعبير بقوله تعالى عن الزوج بأنه بيده عقدة النكاح يشير إلى أن الزوج هو الذي يملك فك الزواج بالطلاق، فكان العفو من جانبه أحق وألزم.
19. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال؛ ولذلك صرح سبحانه بأن العفو: أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت، أقرب لتقوى الله سبحانه، وأدنى إلى رضاه، لكى يكون الافتراق بمفرده، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين، وتكون الإحن ومن ورائها المحن.
20. ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ أي لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء، وإرادة للتفضل والعطاء.
21. الفضل في أصل معناه: الزيادة في كل شيء، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة؛ ولذا صار يطلق بمعنى العلو، فيقال: فضل هذا على ذاك كذا، ومنه الفضيلة؛ لما فيها من خير زائد، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو، فالله سبحانه وتعالى، حين ذكّر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات؛ ليكونوا هم الأعلين دائما.
22. لقد كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم يتجهون ذلك الاتجاه السامي فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة، وطلقها قبل أن يدخل بها، فأعطاها الصداق كاملا، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أحق بالعفو منها، ويروى أن جبير بن مطعم تزوج ابنة سعد بن أبى وقاص، ثم طلقها قبل الدخول وبعث لها المهر كاملا؛ فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها على فكرهت رده، قيل: فلم بعثت بالصداق؟ فقال: وأين الفضل؟
23. ذيّل الله سبحانه وتعالى أوامره الحاسمة، وإرشاده الحكيم بقوله عزّ من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ للإشارة إلى أنه مطلع على حركات الجوارح، وخلجات النفوس، ونيات القلوب، وما تخفى الصدور؛ فليعلموا ذلك، فإن العلم به يربى فيهم المهابة منه سبحانه وتعالى؛ إذ يشعرون برقابته، فيكفكفون من حدتهم وقت الطلاق، حتى لا يذهب بهم فرط الغضب إلى نسيان المعروف، وتجاهل الفضل؛ فلا يسرّحوا بإحسان بعد أن فات الإمساك بمعروف.
24. سؤال وإشكال: لماذا كان المهر في الزواج من جانب الزوج؟ والجواب: أن المهر شرع في الزواج على أنه ثمرة من ثمرات العقد، وأثر من آثاره، وليس ركنا من أركانه، وليس شرطا من شروطه، فليس هو كالثمن في البيع كما فهم بعض الذين لا يفقهون المعاني الشرعية على وجهها؛ وشرعيته على أنه هدية واجبة من الرجل لزوجته؛ لأن المرأة إذ تنتقل من بيت أبيها إلى بيت زوجها، تستقبل حياة جديدة، وهى تحتاج في سبيلها إلى ثياب، وزينة وعطر وغيرها بالقدر الذي يليق بحالها، فكان من اللازم أن يقوم لها الزوج ببعض ما يعينها على ذلك؛ ولذا أوجب الله لها المهر، وأوجب العرف أن يقدم بعضه على الزفاف إليه، وقد جرى عرف الناس على أن المرأة هي التي تعد أثاث البيت، وما يحتاج إليه من فراش، فكان من الواجب أن يعينها الزوج على ذلك ببعض المال يقدمه، فكان هو المهر، أو بعبارة أدق معجلة، وإن تقديم المهر من جانب الرجل هو النظام الفطري لأن الرجل هو الكادح العامل الكاسب للمال، وقد خالفت أوربا ذلك النظام الفطري فجعلت المرأة تقدم مالا؛ هي فكانت الفتاة تسعى إليه، فتتعثر فطرتها، وتنحرف عن الفضيلة، وتقع في حمأة الرذيلة قبل أن تصل إلى المال الذي تعده لخطيبها، فكان ذلك جزاء كل جماعة خالفت فطرة الله التي فطر الناس عليها.
25. سؤال وإشكال: لما ذا وجب النصف أو ما في معناه، وهو المتعة إن حصل الطلاق قبل الدخول؟ والجواب: إن إعطاء نصف المهر أو المتعة من قبيل التسريح بإحسان كما أشرنا من قبل؛ وقد قال تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب] وإن التفرقة قبل الدخول تجرح إحساس المرأة إن لم تكن بطلبها، فأوجب سبحانه نصف المهر، ثم حث الرجل على إعطائها النصف الثاني فضلا وسماحا، وذلك شرع الله، وهديه الحكيم، وإرشاده السامي.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/826.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ لا جناح عليكم، أي لا يلزمكم، وأو معناها هنا الا ان كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي الا ان تقضيني، ومحصل المعنى ان من عقد على امرأة، ولم يسم لها مهرا في متن العقد، ثم طلقها قبل الدخول فلا مهر لها، وإنما تستحق عليه المتعة، وهي عبارة عن منحة يقدمها المطلق لمطلقته، ويراعى فيها حال الزواج يسرا وعسرا، فالغني يقدم لها قلادة بألف ـ مثلا ـ والمتوسط سوارا ب 500، والفقير ثوبا ب 20، أو أقل يسيرا أو أكثر، والى هذا أشار تعالى بقوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين يحسنون الى أنفسهم بطاعة الله سبحانه.
2. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، أما إذا عقد عليها وذكر لها مهرا في متن العقد، ثم طلقها قبل المسيس فلها نصف المهر المسمى بالاتفاق، ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾، أي لا يجوز أن يمنعها عن نصف المهر، أو عن شيء منه إلا إذا سمحت عن طيب نفس ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾، الذي بيده عقد النكاح هو الزوج، والمراد ان المطلقة قبل الدخول لا تستحق أكثر من نصف المهر المسمى إلا أن يتكرم الزوج ويتفضل عليها بالجميع، أو بما زاد عن النصف فالأمر اليه، ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، هذا خطاب لكل من الرجل والمرأة، وحث لهما على التساهل والتسامح.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/366.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، المس كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: أن عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر.
2. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ التمتيع إعطاء ما يتمتع به، والمتاع والمتعة ما يتمتع به، ومتاعا مفعول مطلق لقوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾، اعترض بينهما قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنه من الأفعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد.
3. معنى الآية: يجب عليكم أن تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف وإنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع، وعلى المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، والدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.
4. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، أي حق الحكم حقا على المحسنين، وظاهر الجملة وإن كان كون الوصف أعني الإحسان دخيلا في الحكم، وحيث ليس الإحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا أن النصوص من طرق أهل البيت تفسر الحكم بالوجوب، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ الآية فأوجب الإحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم ـ المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون.
5. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، أي وإن أوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور أيضا، أو الزوج فإن عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لأن من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الإعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه أقوى وأقدر.
6. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، الفضل هو الزيادة كالفضول غير أن الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي أن يؤثره الإنسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الإحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ الآية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/245.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي لا حرج ولا تكليف يشق في طلاق غير المسمى لها إذا لم يكن قد دخل بها فلا يجب لها مهر ولا نصف مهر ولا نفقة عدة ولا عدة، والمس كناية عن الجماع والفريضة تسمية المهر.
2. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ بقدر لا يشق عليه ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ فلا يقل بحيث يعاب لقلته ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فهي إحسانٌ لأنها لا موجب لها من عقد أو دخول؛ ولكن جبرٌ لخاطر المطلقة وإحسان لتسريحها، وكونها إحساناً لا يمنع وجوبها من حيث هي حق لله بدليل قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ فلعله أوجبها تكرمة للمؤمنين، وتنزيهاً لهم عن مشابهة الجفاة والبخلاء.
3. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي يجزي عن كله ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ فيسقط النصف الواجب؛ بعفوهن وإسقاطهن له ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الزوج إذا ترك لها المهر كله أو سلمه لها كله فتعين النصف مشروط على ظاهر الآية بما ذكر.
4. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا﴾ أيها الأزواج وأيتها الزوجات ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ لأنه تمرين للنفس على فعل الخير والرفق والإحسان، والمسلمون مع الإحسان فيما بينهم أقرب إلى التحابّ في الله؛ الذي هو من التقوى لأنه واجب وهم معه أبعد عن التظالم والتحاسد والتفرق.
5. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ وهذا عام للمسلمين ليس خاصاً بالمطلِّق والمطلَّقة؛ ولذلك خرج الكلام عن الغيبة إلى الخطاب وقال: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ليعم المخاطبين، وفي (نهج البلاغة) و(صحيفة الإمام الرضا) عن آبائه واللفظ لـ (نهج البلاغة): عن أمير المؤمنين علي عليه السلام وقال عليه السلام: (يأتي على الناس زمان يعضُّ المؤسر فيه على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ تَنْهَدُ فيه الأشرار، وتستذل فيه الأخيار، ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضطرين)
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجعل لكل عمل ما يليق به من ثواب أو عقاب، أو صلاح حال عاجل أو سوء حال عاجل، أو بركة أو نزع بركة، أو شفاء مرض أو تلف مال، أو غير ذلك، ما شاء كما شاء فهو ﴿بَصِيرٌ﴾ بأعمال العباد حسنها وقبيحها، وما يعذَر فيه صاحبه وما لا يعذر وغير ذلك، وقد حكى الهادي عليه السلام عن العرب استعمال (بصير) بهذا المعنى حيث قال (من ذلك قول العرب: فلان بصير بالفقه، والنحو، والحساب، بصير بالشعر والكلام في كل الأسباب..) انتهى المراد، ومحله في (المجموعة الفاخرة)
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/354.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ربما يتبادر إلى الوهم أن الطلاق لا يكون قبل الدخول، على أساس أن الزواج لا يكون كاملا بدون الدخول، وقد يظنّ أنه لا يتحقق في صورة إغفال ذكر المهر في العقد، فنزلت هذه الآية لتدل على أن ذلك لا علاقة له بالعلاقة الزوجية التي تتحقق بالعقد، أما الدخول فإنه من نتائجها لا من مقوّماتها، وأما المهر، فهو تابع للشرط، ولا علاقة له بصحة العقد، فقد يصح العقد الخالي منه وهذا ما يؤكد على أن الجانب المالي لا يعتبر أساسا في الزواج، بل هو رمز محبة ومودّة، وعطيّة لا تخضع لطبيعة المعاوضة.. ولكن الله أراد للإنسان أن لا ينهي العلاقة بالطلاق من دون أن يقدم لها إمتاعا ماليا بالمستوى المعروف بين الناس بحسب حالة من الإقتار أو اليسار، كنوع من أنواع التعويض المعنوي، وهو أمر واجب ينطلق من موقع الحق الذي أراده الله منطلقا من روح الإحسان الذي يتحرك فيه الطلاق، وبهذا لا يتنافى جانب الإحسان مع جانب الوجوب، وهذا مختص بالطلاق قبل الدخول.. أما إذا كان هناك دخول من دون فرض فريضة، فإن الحكم هو دفع مهر المثل كما ذكره الفقهاء.
2. ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ لأن العقد بين الزوجين هو الذي يحقق العلاقة الزوجية بينهما، من خلال مدلوله الذي يجعل أحدهما مرتبطا بالآخر من خلال التراضي بينهما، وليس للدخول وعدمه تأثير فيه، إيجابا أو سلبا، فإن الدخول متفرع على شرعية العقد وليس قيدا في الشرعية، كما أن المهر لا علاقة له بصحته، كما في المعاوضات المالية التي لا تصح إلا مع ذكر العوض، فلا يصح البيع بلا ثمن، والإجارة بدون أجرة.. فإن الزواج يمثل ارتباطا بين شخصين من خلال إرادتهما الحرة القائمة على التراضي، بحيث يعطي كل منهما الآخر من نفسه، في مقابل ما يعطيه الآخر من نفسه في نطاق الدائرة التي يملك فيها أحدهما الآخر من خلال الحقوق المفروضة بالعقد أو بالشرط، فلا علاقة للمال في الموضوع، ولذلك عبر الله عن المهر بأنه (نحلة)، وهي العطية من دون مقابل في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]، وإذا كان قد عبّر عنه في بعض الآيات بالأجر، فإنها واردة على سبيل المجاز أو المسامحة، من حيث إيحاء الجانب الشكلي بذلك عندما يذكر في المهر أو يتحقق الاستمتاع بالمرأة، وفي ضوء ذلك، لا مانع من الطلاق حتى في حالة عدم المواقعة وعدم فرض المهر، لأنه يتضمن فسخ العقد الذي شرع العلاقة في الواقع،
3. ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن من مالكم ما يفتح قلوبهن، ويوحي إليهن بالمحبة، تماما كما هي الهدية التي يقدّمها الإنسان للإنسان تدليلا على اهتمامه به، فلا يشعرن بأن هذه العلاقة التي بدأت من موقع الإخلاص للأشخاص الذين ارتبطن بهم، ولذلك لم يشترط المهر في العقد، فأقدمن على زواج لا مهر فيه، سوف تنتهي من دون أن يقدم لهن هؤلاء الرجال أي شيء يوحي بعرفان الجميل، ولو كان ذلك بشكل رمزي.
4. هكذا أراد الله لهذه العلاقة أن تنتهي بمبادرة إنسانية، يقدمها الزوج لزوجته بعد الطلاق كهدية يمتعها بها روحيا وماديا، بحسب الحجم المادي للزوج، ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ فيعطي بالكمية التي تتناسب مع إمكاناته المادية الجيّدة، ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾، فتكون المتعة رمزية في دلالتها على الاهتمام بها تبعا لحاله، ﴿حَقًّا﴾ مفروضا ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين عاشوا الإحسان في حياتهم، فهم يتحركون من موقع الإحسان الذي يتقربون به إلى الله في علاقتهم بعباده بما الزمهم الله به أو استحبه لهم من ذلك كله.
5. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ إذا كان الطلاق قبل الدخول، وكان العقد مشتملا على المهر، فإن الحكم الشرعي أن ينتصف بالطلاق، فيجب عليه أن يدفع لها نصف المهر إلا إذا أسقطت المرأة حقها بالإبراء أو الهبة أو غيرهما، أو عفا وليّ العقد، من الأب أو الجد، أو من فوّضت إليه المرأة أمرها في هذا الموضوع بشكل مطلق.. وقد اعتبر البعض الزوج داخلا فيمن بيده عقدة النكاح، باعتبار أنه يملك أمره بالإبقاء أو بالإنهاء، وبذلك تكون الآية متضمنة لعدم رجوع الزوج عليها بالنصف في حال قبضها للكل إذا عفا عن حقه، وهذا أمر محتمل، ولكن الظاهر أنه في مقام الحديث عن حق الزوجة في ما يجب على الزوج دفعه لها بلحاظ حالة الطلاق، وقد عقّب الله على ذلك بالتشجيع على أخذ المبادرة بالعفو، باعتبار أنه أقرب للتقوى، وربما يدل عليه من روحية العطاء من جهة، ومن روح التقرب إلى الله من جهة أخرى، ومن إبعاده الموقف عن طبيعة الخلاف والمشاحنة التي تستدعيها حالة استيفاء الحق وإقراره وإعطائه، ثم يدعو الأزواج إلى عدم نسيان الفضل في ما بينهم عند إنهاء العلاقة، لتبقى لهم علاقة الصداقة والفضل إذا انقطعت علاقة الزواج، وذكّرهم بعد ذلك بأن الله بصير مطلع على كل ما يعملونه، أو يقومون به من حسنات تقرب إليه في علاقاتهم مع بعضهم، أو سيئات تبعد عنه، لأنه العالم بكل الأمور.
6. ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بحيث كان الطلاق قبل الاتصال الجنسي، ﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ فكان العقد مبنيا على المهر، ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ من المهر، باعتبار أن الزواج لم يكن من ناحية واقعية عملية كاملا، فلم يحدث هناك أي استمتاع للرجل بزوجته بإزاء ما قدّمه من المهر، كما أن لها الحق عليه من خلال ما ملكته نفسها بالعقد، فكان التنصيف جمعا بين الحقين، فلا يشعر أي واحد منهما بالغبن، وهذا هو حق المرأة الذي يجب على الرجل أن يدفعه إليها بعد الطلاق لأنها استحقته بالعقد، لكن الطلاق كان بمنزلة الفسخ بالنسبة إلى النصف.
7. ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أي: المطلقات، بحيث تسامح الرجل بما تستحقه عليه بشكل مباشر، ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ وهو الّذي يملك الولاية بالذات من خلال التشريع كالأب أو الجد، أو الذي يملكه من خلال تولية المرأة أمر العقد إليه، كالوكيل المفوض ـ سواء أكان قريبا أم بعيدا ـ فإن له أن يعفو عن الزوج إذا رأي ذلك مصلحة للمولى عليه، أو كان التفويض شاملا لذلك.
8. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ فإن الله يريد للإنسان أن ينتصر على حب المال في نفسه، وأن يتنازل عن حقه من خلال إرادة القرب من الله، وأن لا يرتبط بالأمور من خلال الحسابات المادية التي تضع المال في مقابل المال، والمصلحة في مواجهة المصلحة، لأن ذلك قد يحقق للإنسان الدقة في حساباته في شؤون حياته، ولكنه لا يحقق له السموّ الروحي الذي يتعالى فيه على الذات، فيبقى مشدودا إلى النوازع الذاتية والوساوس الشيطانية والهواجس المرضية، مما يبعده عن دائرة التوازن في نطاق المادة والروح، ولذلك كان العفو عن الآخر وسيلة من وسائل تحصيل القوة ضد الذين يريدون إثارته في انفعالاته من أجل إيقاعه في الخطأ والخطيئة، فيملك من خلال ذلك نفسه، فلا يستطيع الآخرون إبعاده عن الخط المستقيم.
9. إن أيّ انتصار على الذات في جانب ما يمنح الإنسان قوة في الانتصار عليها في الجوانب الأخرى، ولذلك يتحوّل العفو ليكون حركة تدريبية في تجربة الإنسان على تجاوز نفسه إلى الانفتاح على مواقع رضى الله، مما يقرّبه من الانضباط الواعي في آفاق التقوى التي تمثل الثبات على المبدأ والإصرار على البقاء في الخط، وهكذا نجد أن العفو هو السلوك العملي، المنطلق من عمق روحي في داخل الشخصية التي تتعالى عن الأخذ بالحق لنفسها، مما يجعلها أكثر قدرة على التعالي عما ليس لها بحق، وعلى الانضباط في ما يلزمها من الحق لله وللناس.
10. ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ في علاقاتكم ببعضكم وفي معاملاتكم الدائرة بينكم، ليكون الحق هو الحد الفاصل مما تأخذون به أو تتركونه، لتستوفوا الحق الذي لكم بكل دقة وشمولية بعيدا عن القيم الروحية والأخلاقية التي تمثل حركة العلاقات الإنسانية في خط الخير والمحبة والانفتاح، فتنسوا الأوضاع الحميمة التي عشتموها في ما استلفتموه من الصلة بينكم، وتهملوا الفضل الذي قدمه بعضكم لبعض من عمق الخير في النفس، والمحبة في القلب، وعلى ضوء ذلك، فليكن العنصر الإنساني هو الذي يحدد لكم علاقاتكم التي تستقبلونها في الحقوق التي يملكها بعضكم على البعض الآخر، من دون أن تؤثر السلبيات التي فصلت بينكم على ذلك، وليكن الفضل القائم على روحية العطاء، المنفتح على الذكريات الطيبة في الماضي، هو العنوان لما تأخذونه أو تتركونه، ولتنفصلوا على وفاق لا يتعقد من الفراق.
11. ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ مما تقدمونه من أعمالكم في اتجاه مسئولياتكم ﴿بَصِيرٌ﴾ لأنه العليم بكل شيء من شؤون خلقه، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وجاء في المجمع أنه (روي عن سعيد بن المسيب، أن هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الأولى، وقال أبو القاسم البلخي: وهذا ليس بصحيح، لأن الآية تضمنت حكم من لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا طلقها، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها المهر ولم يدخل بها إذا طلقها، وأحد الحكمين غير الآخر)
__________
(1) من وحي القرآن: 4/348.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام أخرى للطّلاق استمرارا للأبحاث السّابقة، تقول الآية في البداية ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسيّة وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرّجل أو كلا الزّوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزّوجيّة هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذّات، لأنّ الطّلاق في المراحل اللّاحقة سيكون أصعب، وعلى كلّ حال فهذا التعبير في الآية جواب على من يتصوّر أنّ الطّلاق قبل المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحا، فالقرآن يقول أنّ هذا الطّلاق صحيح ولا إثم عليه (وقد يمنع من كثير من المفاسد).
2. ذهب البعض أن (جناح) في هذه الآية بمعنى (المهر) الّذي يثقل على الزّوج، يعني أنّ الرّجل حين الطّلاق وقبل المقاربة الزوجيّة وتعيين المهر ليس مكلّفا بدفع أي شيء بعنوان المهر إلى المرأة، وبالرّغم من أنّ بعض المفسّرين أورد كلاما طويلا حول هذا التفسير، ولكن استعمال كلمة (جناح) بمعنى المهر يعتبر غريبا وغير مأنوس، واحتمل آخرون أنّ معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة الجنسيّة في جميع الأحوال (سواء كانت في العادة الشهريّة أو لم تكن) والحال أنّ الطّلاق بعد المواقعة الجنسيّة يجب أن يكون في الزّمان الطّهر الّذي لم يواقعها فيه حتما، ولكن هذا التفسير بعيد جدّا لأنّه لا ينسجم مع جملة ﴿أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾.
3. ثمّ تبيّن الآية حكما آخرا في هذا المجال وتقول: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي يجب أن تمنح المرأة هديّة تناسب شؤونها فيما لو جرى الطّلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار قدرة الزّوج الماليّة في هذه الهديّة، ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، (الموسع) بمعنى المقتدر والثّري و(المقتر) بمعنى الفقير (من مادّة قتر وكذلك وردت بمعنى البخل أيضا) كقوله تعالى ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾.
4. جملة ﴿مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه، أي أنّ الهديّة لا بدّ أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل، ومناسبة لحال المهدي والمهدى إليه.
5. لمّا كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الانتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعقد نفسيّة بسبب فسخ عقد الزّواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان ﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ أي أن يكون ممزوجا بروح الإحسان واللّطف، ولا حاجة إلى القول بأنّ تعبير (المحسنين) لم يأت ليشير إلى أنّ الحكم المذكور ليس إلزاميّا، بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيّرة في الناس للقيام بهذا الواجب الإلزامي.
6. الملاحظة الأخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية الّتي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللّغة هو كلّ ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالبا على غير النقود، لأنّ الأموال لا يمكن التمتّع بها مباشرة، بل لا بدّ أوّلا من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع، ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيرا ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المهدى إليهم لا يبلغه أبدا أثر الهديّة النقديّة، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمّة الأطهار عليهم السّلام تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعيّة.
7. كذلك يتّضح من هذه الآية أنّ تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم ليس ضروريّا إذ يمكن للطرفين أن يتّفقا على ذلك بعد إذ كما تفيد الآية أيضا أنّه إذا حصل الطّلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر، بل يستعاض عنه بالهديّة المذكورة، ويجب الالتفات إلى أنّ الزّمان والمكان مؤثّران في مقدار الهديّة المناسبة.
8. تتحدّث الآية التالية عن حالة الطّلاق الّذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتبيّن أنّ الحكم في هذا اللّون من الطّلاق الّذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزّوج دفع نصف المهر المعيّن ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾، وهذا هو حكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة، ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقيّة والعاطفيّة وتقول: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾.
9. المراد من ضمير (يعفون) هم الأزواج، أمّا في قوله ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ هو وليّ الصغير أو السفيه، ومن الواضح أنّ الوليّ ليس له الحقّ من أن يعفو أو يتنازل عن حقّ الصغير إلّا إذا تضمّن مصلحة الصغير، فعلى هذا يكون حكم دفع نصف المهر بغض النظر عن مسألة العفو والتنازل عن الحقّ، وممّا تقدّم يتّضح أن من له العفو هو الولي للصّغير أو السفيه لأنّه هو الّذي بيده أمر زواج المولّى عليه، ولكن بعض المفسّرين تصوّروا أنّ المراد هو الزّوج، بمعنى أنّ الزوج متى ما دفع تمام المهر قبلا (كما هو المتعارف عند الكثير من العرب) فله الحقّ في أن يسترجع نصف المهر إلّا أن يعفو ويتنازل عنه، أمّا مع الملاحظة الدقيقة في مضمون الآية يتبيّن أنّ التفسير الأوّل هو الصحيح، وأنّ المخاطب في هذه الآية هم الأزواج حيث تقول: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ في حين أنّ الضمير في جملة ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ جاء حكاية عن الغائب ولا يتناسب ذلك مع عوده إلى الأزواج.
10. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، من الواضح أنّ المخاطب في هذه الجملة هم الأزواج، فتكون النتيجة أنّ الحديث في الجملة السّابقة كان عن عفو الأولياء، وفي هذه الجملة تتحدّث الآية عن عفو الأزواج، وجملة ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ خطاب لعموم المسلمين أن لا ينسوا المثل الإنسانية في العفو والصفح والإيثار في جميع الموارد، وهذا ما ورد في الروايات الّتي وصلتنا من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام في تفسير هذه الآية، وكذلك نرى أنّ المفسّرين الشّيعة قد اختاروا هذا الرّأي بالتّوجه إلى مضمون الآية والرّوايات الشريفة، فذهبوا إلى أنّ المقصود في هذه العبارة هم أولياء الزّوجة، ومن الطبيعي أن تطرأ ظروف تجعل الاضطرار إلى أخذ نصف المهر حتّى قبل الدّخول أمرا قد يثير مشاعر الرّجل وأقرباءه ويجرح عواطفهم وقد ينزعون إلى الانتقام، ويحتمل أن تتعرّض سمعة المرأة وكرامتها إلى الخطر، فهنا قد يرى الأب أنّ من مصلحة ابنته أن يتنازل عن حقّها.
11. جملة ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ تبيّن جانبا آخر من واجبات الزّوج الإنسانيّة، وهو أن يظهر الزّوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئا من المهر إن كان قد دفعه، وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملا متنازلا عن النصف الّذي هو من حقّه، وذلك لأنّ المرأة الّتي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسيّة شديدة، ولا شكّ أنّ تنازل الرجل عن حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.
12. نلاحظ تأكيدا في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و(الإحسان) فحتّى بالنّسبة إلى الطّلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترنا بروح الانتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرّجل والمرأة، لأنّ الزوجين إذا لم يتمكنّا من العيش سويّة وفضّلا الافتراق بدلائل مختلفة، فلا دليل حينئذ لوجود العداوة والبغضاء بينهما.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/188.
110. المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى والقنوت
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈110⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: القانت: الذي يطيع الله ورسوله(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٩.
سلمان:
روي عن طارق بن شهاب: أنه بات عند سلمان الفارسي (ت 34 هـ)؛ لينظر ما اجتهاده، فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم ير الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة(1)، فإذا صلى الناس العشاء صدروا عن ثلاث منازل: منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه؛ فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس، فركب فرسه في المعاصي، فذلك عليه ولا له، ومن له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي، فذلك له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل صلى ثم نام، فذلك لا له ولا عليه، إياك والحقحقة، وعليك بالقصد، وداوم(2)
__________
(1) هذا مردود بسبب معارضته لما ورد في حرمة الدماء، وأنها من الذنوب المتعدية، والتي لا تكفي في التوبة منها الأعمال الصالحة، أو حتى الاستغفار والتوبة، بل لابد من إبراء الذمة من المعتدى عليه.
(2) الطبراني في المعجم الكبير: ٦٠٥١.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة الوسطى، فقال: (هي صلاة العصر التي فرط فيها نبي الله سليمان صلّى الله عليه وآله وسلم)(1).
__________
(1) أورده يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/٢٤٠.
أبو هريرة:
روي عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي، أنه سأل أبا هريرة (ت 58 هـ) عن الصلاة الوسطى، فقال: سأقرأ عليك القرآن حتى تعرفها، أليس يقول الله في كتابه: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ الظهر ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ المغرب [الإسراء: ٧٨]، ﴿وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ [النور: ٥٨] العتمة، ويقول: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨] الصبح، ثم قال ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ هي العصر، هي العصر(1).
__________
(1) عبد الرزاق في المصنف: ٢٠٤٠.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، والسهو عنها: السهو عن وقتها(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١/٣١٦.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، يعني: المكتوبات(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ كانوا يتكلمون في الصلاة، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة، فيكلمه بحاجته، فنهوا عن الكلام(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ مطيعين(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ مصلين(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ كانوا يتكلمون في الصلاة، ويأمرون بالحاجة، فنهوا عن الكلام والالتفات في الصلاة، وأمروا أن يخشعوا إذا قاموا في الصلاة قانتين خاشعين، غير ساهين ولا لاهين(5).
6. روي عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾(6).
7. روي أنّه صلى الغداة في جامع البصرة، فقنت في الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه، فقال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾(7).
8. روي عن أبي رجاء العطاردي: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنت فيها، ورفع يديه، ثم قال هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين(8).
9. روي أنّه قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح(9).
10. روي أنّه قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح، تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار، وهي أكثر الصلوات تفوت الناس(10).
11. روي أنّه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر(11).
12. روي أنّه قال: الصلاة الوسطى المغرب(12).
13. روي أنّه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة(13).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٤٩.
(2) لم نجد هذا الحديث بهذا الإسناد.
(3) ابن جرير: ٤/٣٧٥ ـ: ٣٧٦.
(4) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٩.
(5) الأصبهاني في الترغيب والترهيب: ٢/٤٢٠.
(6) ابن جرير: ٤/٣٨٣.
(7) ابن جرير: ٤/٣٦٨ ـ: ٣٦٩.
(8) عبد الرزاق: ٢٢٠٧.
(9) سعيد بن منصور: ٤٠٢ ـ تفسير.
(10) ابن عبد البر في التمهيد: ٤/٢٨٥.
(11) سعيد بن منصور في سننه: ٤٠٣ ـ تفسير.
(12) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٨.
(13) مسلم.
البراء:
روي عن البراء بن عازب (ت 72 هـ) أنّه قال: نزلت: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر)، فقرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله، فأنزل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، فقيل له: هي إذن صلاة العصر؟ فقال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله(1).
__________
(1) مسلم.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الصلاة الوسطى، فقال: هي فيهن؛ فحافظوا عليهن كلهن(1).
2. روي أنّه سئل عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة؛ الظهر(2).
3. روي عن هشام بن سعد، قال: كنا عند نافع، ومعنا رجاء بن حيوة، فقال لنا رجاء: سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى، فسألناه، فقال: قد سأل عنها ابن عمر رجل، فقال: هي فيهن؛ فحافظوا عليهن كلهن(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٧١.
(2) الطبراني في الأوسط.
قبيصة:
روي عن قبيصة بن ذؤيب (ت 86 هـ) أنّه قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب؛ ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤخرها عن وقتها، ولم يعجلها(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٦٧.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنّه قال: بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سبعين رجلا لحاجة ـ يقال لهم القراء ـ فعرض لهم حيان من سليم رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقتلوهم، فدعا عليهم صلّى الله عليه وآله وسلم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت، فاسأل أنس عن القنوت: أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال لا، بل عند فراغ القراءة(1).
__________
(1) البخاري: 4088.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) أنّه قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٧٢.
السجاد:
روي عن الإمام الصادق أنّه قال: كان علي بن الحسين سيّد العابدين (لإمام السجاد) (ت 94 هـ) يقول: العفو العفو ثلاثمائة مرّة في الوتر في السحر(1).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 1/310/1411.
أبو قلابة:
روي عن أبو قلابة (ت 104 هـ) أنّه قال: كانت في مصحف أبي بن كعب: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر)(1).
__________
(1) الطحاوي في شرح المعاني: ١/١٧٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾: من القنوت: الركوع، والخشوع، وطول الركوع ـ يعني: طول القيام ـ، وغض البصر، وخفض الجناح، والرهبة لله، كان الفقهاء من أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم إذا قام أحدهم في الصلاة يهاب الرحمن أن يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يشد بصره، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا، حتى ينصرف(1).
__________
(1) سعيد بن منصور: ٤٠٦ ـ تفسير.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: القنوت: هو الدعاء في الصلاة حال القيام(1).
2. روي أنّه سئل عما فرض الله عز وجل من الصلاة، فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلت: فهل سماهن الله وبينهن في كتابه؟ قال (نعم،قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، ودلوكها: زوالها، ففي ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سماهن وبينهن ووقتهن، وغسق الليل: هو انتصافه، ثم قال تبارك وتعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، فهذه الخامسة، وقال الله تعالى في ذلك: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾، وطرفاه: المغرب والغداة ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، وهي صلاة العشاء الآخرة، وقال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، وهي صلاة الظهر، وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة، وصلاة العص.. ونزلت هذه الآية يوم الجمعة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سفره، فقنت فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وتركها على حالها في السفر والحضر، وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة، فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام)(2)
3. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، فقال: (صلاة الظهر وفيها فرض الله الجمعة، وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه الله إياه)(3)
4. روي أنّه قال: إذا أقيمت الصلاة حرم الكلام على الإمام وأهل المسجد إلا في تقديم إمام(4).
5. روي أنّه سئل عن رجل نسي القنوت، فذكره وهو في بعض الطريق، فقال: يستقبل القبلة، ثمّ ليقله، ثمّ قال إنّي لأكره للرجل أن يرغب عن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أو يدعها(5).
6. روي أنّه قال: القنوت في كلّ الصلوات(6).
__________
(1) مجمع البيان: 2/600.
(2) الكافي: 3/271.
(3) تفسير العيّاشي: 1/127.
(4) من لا يحضره الفقيه: 1/185/879.
(5) الكافي: 3/340/10.
(6) من لا يحضره الفقيه: 1/208/935.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ الصلوات قد أمر الله عز وجل بحفظها: أن تؤدى لميقاتها، وعدد ركوعها وسجودها، وتمامها على ما فرض الله عز وجل، وقد قال بعض المفسرين: هي العصر.. وقال آخرون: هي الظهر.. وقالوا: الصبح.. وهي عندنا: المغرب)(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/112.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ القنوت في هذه الآية: السكوت(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٧٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ القنوت: الركود(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٨٢ وفي آخره: يعني: القيام في الصلاة.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لمّا خفّف الله عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حتى صارت خمس صلوات أوحى الله إليه: يا محمّد، خمس بخمسين(1).
2. روي أنّه قال: (صلاة الوسطى صلاة الظهر، وهي أول صلاة أنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم)(2).
3. روي أنّه قال: (الصلاة الوسطى: الظهر ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ إقبال الرجل على صلاته، ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء)(3).
4. روي أنّه قال: (الصلاة الوسطى: هي الوسطى من صلاة النهار، وهي الظهر، وإنما يحافظ أصحابنا على الزوال من أجلها)(4).
5. روي أنّه قال: لا تتكلم إذا أقمت الصلاة، فإنك إذا تكلمت أعدت الإقامة(5).
6. روي أنّه سئل: أيتكلم الرجل في الأذان؟ فقال: لا بأس، قيل: في الإقامة، قال لا(6).
7. روي أنّه قال: إذا أقام المؤذن الصلاة فقد حرم الكلام، إلا أن يكون القوم ليس يعرف لهم إمام(7).
8. روي أنّه سئل عن المؤذن، أيتكلم وهو يؤذن؟ فقال: لا بأس حين يفرغ من أذانه(8).
9. روي أنّه سئل عن الرجل، يتكلم في الإقامة، فقال: نعم، فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، فقد حرم الكلام على أهل المسجد، إلا أن يكونوا قد اجتمعوا من شتى وليس لهم إمام، فلا بأس أن يقول بعضهم لبعض تقدم يا فلان(9).
10. روي أنّه سئل عن الرجل يتكلم في أذانه أو في إقامته؟ فقال: لا بأس(10).
11. روي أنّه قال: لا بأس أن يتكلم الرجل وهو يقيم الصلاة، وبعد ما يقيم إن شاء(11).
12. روي أنّه سئل: أيتكلم الرجل بعدما تقام الصلاة؟ فقال: لا بأس(12).
13. روي عن صفوان الجّمال قال: صلّيت خلف الإمام الصادق أيّاماً فكان يقنت في كلّ صلاة يجهر فيها أو لا يجهر(13).
14. روي أنّه قال: القنوت في جميع الصلوات سنّة واجبة في الركعة الثانية قبل الركوع وبعد القراءة(14).
15. روي أنّه سئل عن القنوت، فقال: في كلّ صلاة فريضة ونافلة(15).
16. روي أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾: الصلوات: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين، والوسطى: أمير المؤمنين(16) ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] طائعين للأئمة(4).
__________
(1) الخصال: 270/7.
(2) معاني الأخبار: 331/1.
(3) تفسير العيّاشي: 1/127.
(4) تفسير العيّاشي: 1/128.
(5) التهذيب: 2/55/191.
(6) التهذيب: 2/54/182.
(7) التهذيب: 2/55/190.
(8) التهذيب: 2/54/183.
(9) التهذيب: 2/55/189.
(10) التهذيب: 2/54/186.
(11) التهذيب: 2/55/188.
(12) مستطرفات السرائر: 94/4.
(13) من لا يحضره الفقيه: 1/209/934.
(14) الخصال: 604.
(15) الكافي: 3/339/5.
(16) وهو غير صحيح النسبة له لعدم اعتبار المصدر، ولمعارضته أحاديثه الكثيرة في هذا.
الأعمش:
روي عن سليمان بن مهران الأعمش (ت 148 هـ) قال في قراءة عبد الله بن مسعود: (حافظوا على الصلوات وعلى الصلاة الوسطى)(1).
__________
(1) ابن أبي داوود في المصاحف: ص٥٨.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، يعني: مواقيتها، ووضوءها، وتلاوة القرآن فيها، والتكبير، والركوع، والتشهد، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فمن فعل ذلك فقد أتمها، وحافظ عليها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٤٧.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ الخمس في مواقيتها(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠١.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) عند ذكره قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾: (المحافظة على الصلوات: ألا يعمل فيها عمل ليس منها، وأن لا يشتغل بشغل غير شغلها)(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/112.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ (المحافظة) هو المفاعلة والمفاعلة هي فعل اثنين، فهو أنه إذا حفظها على وقتها ولم يسهو عنها حفظته، وهو كما ذكر في آية أخرى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وفى حرف ابن مسعود: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، فعلى ذلك إذا حفظها على أوقاتها مع أحكامها وسننها، ولم يدخل ما ليس فيها ـ من الكلام، والالتفات، وغير ذلك مما نهى عنه ـ حفظته، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ [آل عمران: 133]، وقوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ [الحديد: 21]، من المفاعلة، فإذا بادر إليها بدرت إليه.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾:
أ. قال بعضهم: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ أراد كل الصلاة لا صلاة دون صلاة، وهو أن الصلاة هي الوسطى، هي من الدين، وهو على ما جاء: الإيمان كذا كذا بضعة، أعلاها كذا كذا، وأدناها كذا، فعلى ذلك قوله: والصلاة هي الوسطى من الدين، ليست بأعلاها ولا بأدناها، ولكنها الوسطى من الدين.
ب. وقال آخرون: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ هي صلاة العصر، وعلى ذلك روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: هي العصر)، وذكر في حرف حفصة: أنها هي صلاة العصر.
ج. وقال قائلون: هي الفجر؛ ذهبوا في ذلك إلى أن النهار يجمع الصلاتين، والليل بطرفيه كذلك، فالفجر أوسطها، وكذلك روى عن ابن عباس أنّه قال هي الفجر.
د. وقال آخرون: هي الظهر؛ ذهبوا في ذلك إلى أنها إنما تقام وسط النهار، فسميت بذلك، وكذلك روى عن ابن عمر أنّه قال هي صلاة الظهر.
3. من قال هي العصر، ذهب في ذلك إلى ما روى من الخبر، وإلى أن العصر هي الواسطة من صلاتي النهار وصلاتي الليل؛ لأن صلاتين بالنهار قبلها، وصلاتين بالليل بعدها، فهي الواسطة.
4. القياس: أن تكون هي المغرب؛ لأن الظهر سميت أولى، والعصر تكون الثانية، فالمغرب هي الواسطة، لكن لم يقولوا به.
5. وفيه دلالة أن الصلاة وتر؛ لأن الشفع مما لا وسطى له.
6. ثم جهة الخصوصية ـ أيها كانت؟
أ. فإن كانت عصرا: فهو ما ذكر أن الكفرة حملوا على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في صلاة العصر، فلم يتهيأ لهم إقامتها، فقالوا: احفظوا عليهم صلاة هي أكرم عليهم من أنفسهم وأموالهم، فظهر بهذا أن لها فضلا وخصوصية من عند الله ورسوله، وما روى في الخبر أيضا من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من فاتته العصر وتر أهله وماله).
ب. فإن كانت فجرا؛ فلأن الكتاب ذكرها بقوله: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]، ولما قيل: إن ملائكة الليل والنهار يشهدونها، فظهرت لها الخصوصية والفضل.
ج. ومن قال إنها ظهر، ذهب إلى خصوصيتها وفضيلتها ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلى قبل الظهر أربعا إذا زالت الشمس، وقال: إن أبواب السماء تفتح في ذلك الوقت.
7. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن الصلاة هي الوسطى، من أمر الدين فهي على أن الأرفع من أمر الدين هو التوحيد والإيمان وذلك هو الذي لا يرتفع بعذر، ولا يسقط بسقوط المحنة، إذ ذلك في الدارين جميعا وهو الإخلاص، ونفى جميع معانى الخلق به عمن يوحده ويؤمن به وسائر العبادات قد يقدم مع وجود أمور الدنيا والدين والمعاش معها وفى حالها بالذي به قوامها، والتوحيد لا، ثم الصلاة مما بها ترك جميع ما ذكرت في حال فعلها فيما به فعلها، فهي تشبه الإيمان من هذا الوجه، ثم تسقط هي للأعذار، ولا تجب في غير دار المحنة على ما عليه أمر غيرها من العبادات؛ فصارت بذلك الوسطى من أمر الدين.
ب. الثاني: أن تكون هي صلاة من جملتها، فتذكر بحرف التخصيص لها من الجملة، لوجهين:
أ. أحدهما: لبيان جملة الفرائض أنها وتر، لا الشفع؛ إذ لا وسطى للشفع، فيكون في ذلك بطلان قول قوم أنكروا العدد لها، وقوم زعموا أنها صلاتان في الجملة.
ب. الثاني: أن يراد بذلك التفضيل للصلاة من الصلوات في الحث على فعلها والترغيب في محافظتها، ويجيء أن تكون تلك معروفة عند الذين خوطبوا، إما بالاسم أو بحال من النوازل؛ لأنه لا يحتمل أن يرغب في فعل لا يعلم حقيقة ذلك.
8. ثم يكون لاختلاف من لم يشهد النوازل التي عرفت المراد، فقال كل مبلغ جهده فيما أدى إليه رأيه من الترغيب في الفعل أنه على ذلك، لكنهم اختلفوا:
أ. فمنهم من اعتبر بالركعات، فقال: أكثرها أربع، وأقلها ركعتان، والوسطى منها ثلاث، فصرف التأويل إلى المغرب، واستدل في الترغيب [بما جاء (إن الله وتر يحب الوتر) وبما جاء من الترغيب] في تعجيلها والمبادرة في فعلها، حتى لم يؤذن بالاشتغال عنها عند هجوم وقتها لنافلة وللحاجة، وذلك بعض ما يعرف من معنى المحافظة، وهى أن الصلوات جعلن متصلات الأوقات، وهى الوسطى منهن.
ب. وقوم ردوا إلى صلاة الفجر بما في ذلك من الترغيب والتخصيص بالأمر، كقوله: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]، وما أخبر من شهود ملائكة الليل والنهار، ولأن وقتها الوسط من أحوال الخلق، إذ أحوالهم تكون سكونا مرة، وانتشارا ثانيا، وبذلك ختم أوقات السكون وافتتاح أحوال الانتشار، ووسط الشيء: هو الذي فيه حظ الحواشي، وقد وجد ذلك في وقت هذه الصلاة.
ج. ومنهم من صرف إلى العصر بما جاء في ذلك من الترغيب ومن الوعيد في ترك ذلك، وبها ختم أحوال الزلات التي تدخل في المكاسب، فتكون بها التوبة عنها والاستغفار منها، ولا قوة إلا بالله.
9. ﴿حَافِظُوا﴾ على مخاطبة الجملة على الاشتراك؛ إذ المفاعلة اسم ذلك على تضمن الترغيب في الجماعات، أو على لزوم كثرة عدد الصلاة، أو على ما خرج الأمر بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة لها، وكل في ذلك على أن الظهر سميت أولى، فعلى ذلك تكون المغرب الوسطى.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾:
أ. قيل: خاشعين خاضعين فيها، لا يدخل فيها ما ليس منها؛ وعلى ذلك روى عن زيد ابن أرقم، أنّه قال كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما نزل قوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، مطيعين أمرنا بالسكوت في صلاتهم خاضعين خاشعين، ونهينا عن الكلام؛ وعلى ذلك سمى الدعاء قنوتا.
ب. وقال آخرون: ﴿قَانِتِينَ﴾، أي مطيعين، وذلك ما قيل: إن أهل الأديان يقومون فى صلاتهم خاضعين ساهين، فأمر أهل الإسلام أن يقوموا مطيعين.
11. (القنوت) هو القيام، على ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عن أفضل الصلوات، فقال: طول القنوت، وأصل القنوت ـ ما ذكرنا ـ هو القيام، غير الذي يقوم لآخر، يقوم على الخضوع والخشوع والسكوت، وليس في الآية أنه أمر بذلك في الصلاة، غير أن أهل التأويل صرفوا إلى ذلك؛ لأنها ذكرت على أثر ذكر الصلاة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/210.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾: أي حافظوا على الصلوات ولا توانوا ولا تفرطوا، ثم وَكَّدَ في صلاة الجمعة وهي الصلاة الوسطى(1).
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 287.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وإنما خص الوسطى بالذكر وإن دخلت في جملة الصلوات لاختصاصها بالفضل، وقد روينا عن أمير المؤمنين أنّه قال هي صلاة العصر، وروي عنه أنه لم يصل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد غروب الشمس فقال: (ما لهم ملأ الله قلوبهم وقبورهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس)، وروينا أنها صلاة الظهر وكلتا الروايتين جائز شائع(1).
2. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أي داعيين طائعين لأن أصل القنوت الدعاء(1).
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/118.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في معنى في المحافظة عليها في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ وقولان:
أ. أحدهما: ذكرها.
ب. الثاني: تعجيلها.
2. ثم قال تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وإنما خص الوسطى بالذكر وإن دخلت في جملة الصلوات لاختصاصها بالفضل، وفيها أقاويل:
أ. أحدها: أنها صلاة العصر، وهو قول عليّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وأم حبيبة، روى عمرو بن رافع، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني، حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فلما أخبرها قالت: أكتب، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وهي صلاة العصر)، وروى محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن عليّ قال لم يصلّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس فقال: (ما لهم ملأ الله قلوبهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصّلاة الوسطى حتّى غابت الشّمس)، وروى التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الصّلاة الوسطى صلاة العصر).
ب. الثاني: أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت، وابن عمر، قال ابن عمر: هي التي توجه فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة، وروى ابن الزبير عن زيد بن ثابت قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها، قال فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
ج. الثالث: أنها صلاة المغرب، وهو قول قبيصة بن ذؤيب لأنها ليست بأقلها ولا بأكثرها ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها.
د. الرابع: أنها صلاة الصبح، وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، قال ابن عباس يصليها بين سواد الليل وبياض النهار، تعلقا بقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ ولا صلاة مفروضة يقنت فيها إلا الصبح، ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
هـ. الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها، ليكون أبعث لهم على المحافظة على جميعها، وهذا قول نافع، وابن المسيب، والربيع ابن خثيم.
و. السادس: أن الصلاة الوسطى صلاة الجمعة خاصة.
ز. السابع: أن الصلاة الوسطى صلاة الجماعة من جميع الصلوات.
3. في تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: لأنها أوسط الصلوات الخمس محلا، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
ب. الثاني: لأنها أوسط الصلاة عددا، لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان.
ج. الثالث: لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله، وتكون الوسطى بمعنى الفضلى.
4. في قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ ستة تأويلات:
أ. أحدها: يعني طائعين، قاله ابن عباس، والضحاك، والشعبي، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء.
ب. الثاني: ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، والسدي، وابن زيد.
ج. الثالث: خاشعين، نهيا عن العبث والتفلت، وهو قول مجاهد، والربيع ابن أنس.
د. الرابع: داعين، وهو مروي عن ابن عباس.
هـ. الخامس: طول القيام في الصلاة، وهو قول ابن عمر.
و. السادس:. وهو مروي عن ابن عمر أيضا.
5. اختلف في أصل القنوت، على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن أصله الدوام على أمر واحد.
ب. الثاني: أصله الطاعة.
ج. الثالث: أصله الدعاء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/308.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحفظ ضبط الشيء في النفس، ثم يشبه به ضبطه بالمنع من الذهاب، والحفظ خلاف النسيان تقول: حفظ حفظاً، وحافظ محافظة، وحفاظاً، واحتفظ به احتفاظاً، وتحفظ تحفظاً، واستحفظ استحفاظاً، وأحفظه إحفاظاً: إذا أغضبه، لأنه حفظ عليه ما يكرهه، ومنه الحفيظة: الحمية، والحافظ: خلاف المضيع، والحفيظ: الموكل بالشيء، لأنه وكّل به ليحفظه وأهل الحفاظ: أهل الذمام، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾، ومعنى الآية الحث على مراعات الصلوات، ومواقيتهن، وألا يقع فيها تضييع وتفريط.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾:
أ. قيل: هي العصر فيما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وابن عباس، والحسن.
ب. وقال زيد بن ثابت، وابن عمر: إنها الظهر، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ج. وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب.
د. وقال جابر ابن عبد الله هي الغداة، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
هـ. وروي عن ابن عمر أنّه قال واحدة من الخمس غير متميزة.
و. وقال الحسين بن علي المغربي: المعني فيها صلاة الجماعة، لأن الوسط العدل، فلما كانت صلاة الجماعة أفضلها خصت بالذكر، وهذا وجه مليح غير أنه لم يذهب إليه أحد من المفسرين.
3. سبب القول بهذه الأقوال:
أ. من جعلها العصر قال لأنها بين صلاتي النهار، وصلاتي الليل، وإنما حضّ عليها، لأنها وقت شغل الناس في غالب الأمر.
ب. ومن قال إنها الظهر قال لأنها وسط النهار، وقيل: هي أول صلاة فرضت، فلها بذلك فضل.
ج. ومن قال هي المغرب قال لأنها وسط في الطول، والقصر من بين الصلوات، فهي أول صلاة الليل الذي رغّب في الصلاة فيه.
د. وأما من قال هي الغداة قال لأنها بين الظلام والضياء، وصلاة لا تجمع مع غيرها، وقد جمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر بعرفة، وجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فهذه متواخية وتلك مفردة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾:
أ. قال ابن عباس، والحسن: معناه طائعين.
ب. وقال عبد الله بن مسعود: ساكتين، لأنهم نهوا بذلك عن الكلام في الصلاة.
ج. وقال مجاهد: معناه خاشعين فنهوا عن العبث، والتلفت في الصلاة.
د. وقال ابن عباس في رواية: داعين ولذلك قال هي صلاة الصبح، لأنه لا صلاة فرض فيها قنوت إلا هي، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام مثل ذلك إلا أنهما قالا: القنوت في كل ركعتين قبل الركوع.
5. أصل القنوت الدوام على أمر واحد، وقيل أصله الطاعة، وقيل أصله الدعاء في حال القيام، وقال الرماني والوجه الأول أحسن بصرفه في الباب، لأن المداوم على الطاعة قانت، وقال المداوم في صلاته على السكوت إلا عن الذكر المشروع له، وكذلك المداوم، ويقال: فلان يقنت عليه أي يدعو عليه دائماً.
6. الصلاة الوسطى مخفوضة بالعطف على الصلوات، وكان يجوز النصب على ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ فخصوها بالمحافظة، ومن حمل الصلاة الوسطى على صلاة الجماعة جعل قوله تعالى: ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ على عمومه، ومن حملها على واحدة من الصلوات على الخلاف فيه اختلفوا، فمنهم من قال أراد بقوله ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ ما عدا هذه الصلاة وإلا كان يكون عطف الشيء على نفسه، ومنهم من قال لا يمتنع أن يريد بالأول جميع الصلوات، وخص هذه بالذكر تعظيما لها وتأكيداً لفضلها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/276.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحفظ: ضبط الشيء في النفس، وهو ضد النسيان، ثم شبه به ضبط الشيء والمنع من الذهاب، والحافظ خلاف المُضَيِّعِ.
ب. الوسطى تأنيث الأوسط، ووسط الشيء خيره، وأعدله، ومنه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
ج. القنوت الطاعة:
• وقيل: هذا أصله ثم تسمى القراءة في الصلاة قنوتًا، وطول القيام قنوتًا، والسكون فيها قنوتًا.
• وقيل: أصله الدوام على أمر واحد، فحسن تصرفه في الباب؛ إذ المداوم على الطاعة قانت، عن علي بن عيسى.
• وقيل: أصله الدعاء.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾:
أ. عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم)، فنزلت هذه الآية.
ب. وعن زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ويسألهم كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب، فنزل قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، فأُمِرْنَا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام.
3. لما حث الله تعالى على الطاعة خص الصلاة بالمحافظة عليها؛ لأنها معظم الطاعات فقال تعالى: ﴿حَافِظُوا﴾
أ. قيل: داوموا.
ب. وقيل: حفظها تمام أركانها ومواقيتها.
4. ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ يعني المكتوبات، ثم خص الوسطى تفخيمًا لشأنها، فقال تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ كقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ﴾، ثم قال: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾:
أ. ويعني الوسطى الأوسط، وعليه أكثر المفسرين.
ب. وقيل: الوسطى العظمى والكبرى، عن أبي مسلم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾:
أ. قيل: هي الفجر، عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد، وهو قول الشافعي؛ لأنها بين صلاتي الليل والنهار، وبين الظلام والضياء، وصلاة لا تجمع مع غيرها، وهي منفردة بين مجتمعتين ولأنها لا تقصر، ولقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ في موضع آخر، ولقوله تعالى: ﴿قَانِتِينَ﴾ ولا قنوت إلا في الفجر.
ب. وقيل: إنها الظهر، عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة وعائشة وابن عمر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وذكر الهادي في الأحكام أنها الجمعة يوم الجمعة والظهر في سائر الأيام، ورواه عن أمير المؤمنين علي؛ لأنها وسط النهار، وأول صلاة فرضت وسبب نزول الآية.
ج. وقيل: إنها العصر، عن ابن عباس والحسن، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي هريرة والنخعي وقتادة والضحاك، وروي ذلك عن أبى حنيفة، وروي مرفوعًا: أنها صلاة العصر، رواه علي وعائشة، وحفصة؛ ولأنها بين صلاتي نهار وليل.
د. وقيل: إنها المغرب عن قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط ليس بأكثرها ولا أصغرها، ولا تقصر في السفر.
هـ. وقيل: صلاة العشاء الآخرة.
و. وقيل: إنها إحدى الصلوات، لا تُعْرَفُ بعينها حثًا على محافظة جميعها، عن الربيع بن خثيم وأبي بكر الوراق.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾:
أ. قيل: مطيعين، عن ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاووس وقتادة والضحاك ومقاتل.
ب. وقيل: ساكنين، عن ابن مسعود وزيد بن أرقم؛ لأنهم نهوا عن الكلام في الصلاة.
ج. وقيل: خاشعين، عن مجاهد، نهوا عن العبث والتلفت في الصلاة.
د. وقيل: داعين، عن ابن عباس.
هـ. وقيل: الدعاء هو القنوت.
و. وقيل: قيامًا في الصلاة، والقنوت طول القيام، عن الربيع.
ز. وقيل: هو إتمام ما فرض في الصلاة، عن أبي مسلم، قال: هو أن يتم ركوعها وسجودها، ويأتيها بشرائطها.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب المحافظة على الصلوات الخمس، ولا بد أن يكون منزلاً بعد بيان أركانها وشرائطها؛ ليصح أن يأمر بالمحافظة عليها.
ب. اختصاص الوسطى، وقد بينا ما قيل فيه، ولا دليل في الآية على أحدها فوجب الرجوع إلى غيرها، فإن ثبت عن الرسول أنها العصر فذاك، وإلا فالأقرب أنها الظهر، واستدل جماعة بالآية على أن الوتر ليس بواجب؛ إذ لو وجبت لم يكن للصلاة وسطى، واختلف القائلون بوجوبه في الجواب:
• فقيل: إنها وجبت بعد الآية.
• وقيل: الآية في المكتوبات، والوتر ليس بفرض.
• وقيل: شدد أبو علي وأبو مسلم في نفي وجوبه، وهو مذهب الأكثر إلا أنه ليس في الآية ما يمنع وجوبه.
ج. استدل علي بن موسى القمي بالآية على أن الكلام يفسد الصلاة من حيث ثبت أنه أمر بالسكوت عند نزول الآية.
8. قرأ نافع برواية قالون (الوصطى) بالصاد لمجاورة الطاء لقرب مخرجيهما، وقرأ الباقون بالسين، وهما كالصراط والسراط، والقراءة الظاهرة الصلاة الوسطى) بالكسر عطفا على الصلاة، وعن عائشة بالنصب على الإغراء.
9. حذف ناصب الصلاة الوسطى من قراءة النصب على تقدير: والصلاة الوسطى، فخصوها بالمحافظة، و﴿قَانِتِينَ﴾ محله نصب بـ (قوموا).
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/29.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
الحفظ: ضبط الشيء في النفس، ثم يشبه به ضبطه بالمنع من الذهاب، والحفظ: خلاف النسيان، وأحفظه: أغضبه، لأنه حفظ عليه ما يكرهه، ومنه الحفيظة: الحمية، والحفاظ: المحافظة.
الوسطى: تأنيث الأوسط وهو الشيء بين الشيئين على جهة الاعتدال.
أصل القنوت: الدوام على أمر واحد، وقيل: أصله الطاعة، وقيل: أصله الدعاء في حال القيام، قال علي بن عيسى: والأول أحسن لحسن تصرفه في الباب، لأن المداوم على الطاعة قانت، وكذلك المداوم في صلاته على السكوت إلا عن الذكر المشروع، وكذلك المداوم على الدعاء، ويقال: فلان يقنت عليه أي: يدعو عليه دائما.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾: عن زيد بن ثابت: إن النبي كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، فقال: لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم)، فنزلت هذه الآية.
3. لما حث الله سبحانه على الطاعة، خص الصلاة بالمحافظة عليها، لأنها أعظم الطاعات، فقال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أي: داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها، ثم خص الوسطى تفخيما لشأنها، فقال: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ كقوله سبحانه: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ أي: والصلاة الوسطى خاصة، فداوموا عليها.
4. اختلف في الصلاة الوسطى على أقوال:
أ. أحدها: إنها صلاة الظهر، عن زيد بن ثابت وابن عمر وأبي سعيد الخدري وأسامة وعائشة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وذكر بعض أئمة الزيدية أنها الجمعة يوم الجمعة، والظهر سائر الأيام، ورواه عن علي، ويدل عليه سبب نزول هذه الآية، وهو أنها وسط النهار، وأول صلاة فرضت، وروي عن علي قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (إن لله في السماء الدنيا حلقة تزول فيها الشمس، فإذا زالت الشمس سبح كل شيء لربنا، فأمر الله سبحانه بالصلاة في تلك الساعة، وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء، فلا تغلق حتى يصلى الظهر ويستجاب فيها الدعاء).
ب. وثانيها: إنها صلاة العصر، عن ابن عباس والحسن، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وقتادة والضحاك، وروي ذلك عن أبي حنيفة، وروي مرفوعا إلى النبي قالوا: لأنها بين صلاتي النهار، وصلاتي الليل، وإنما خصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس في غالب الأمر، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله)، وروى بريدة قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله).
ج. وثالثها: إنها المغرب، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: لأنها وسط في الطول والقصر من بين الصلوات، وروى الثعلبي بإسناده عن عائشة قالت: قال رسول الله:) إن أفضل الصلوات عند الله، صلاة المغرب، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة الليل، وختم بها صلاة النهار، فمن صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، بنى الله له قصرا في الجنة، ومن صلى بعدها أربع ركعات، غفر الله له ذنب عشرين، أو أربعين سنة).
د. ورابعها: إنها صلاة العشاء الآخرة، عن بعضهم قال: لأنها بين صلاتين لا تقصران، وروي عن النبي أنه قال: من صلى العشاء الآخرة في جماعة، كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى صلاة الفجر في جماعة، كان كقيام ليلة.
هـ. وخامسها: إنها صلاة الفجر، عن معاذ وابن عباس وجابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة ومجاهد، وهو قول الشافعي قالوا: لأنها بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار، وبين الظلام والضياء، ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها، فهي منفردة بين مجتمعين، ويدل عليه من التنزيل قوله: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وهو مكتوب في ديوان الليل وديوان النهار، قالوا: ويدل عليه آخر الآية وهو قوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ يعني: وقوموا فيها لله قانتين، قال أبو رجاء العطاردي: صلى بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة، فقنت فيها قبل الركوع، ورفع يديه، فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين، أورده الثعلبي في تفسيره، وروي بإسناده مرفوعا إلى أنس بن مالك قال: ما زال رسول الله يقنت في صلاة الغداة، حتى فارق الدنيا.
و. وسادسها: إنها إحدى الصلوات الخمس، لم يعينها الله وأخفاها في جملة الصلوات المكتوبة، ليحافظوا على جميعها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسمه الأعظم في جميع الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، عن الربيع بن خيثم، وأبي بكر الوراق.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾:
أ. قال ابن عباس: معناه داعين، والقنوت هو الدعاء في الصلاة في حال القيام، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله.
ب. وقيل: معناه طائعين، عن الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة والضحاك وطاووس، وإحدى الروايتين عن ابن عباس.
ج. وقيل: معناه خاشعين، عن مجاهد قال: نهوا عن العبث والالتفات في الصلاة.
د. وقيل: ساكنين، عن ابن مسعود وزيد بن أرقم.
6. الأصل في القنوت الإتيان بالدعاء، أو غيره من العبادات، في حال القيام، ويجوز أن يطلق في سائر الطاعات، فإنه وإن لم يكن فيه القيام الحقيقي، فان فيه القيام بالعبادة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/599.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، المحافظة: المواظبة والمداومة، والصّلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود، والمراد: الصّلوات الخمس.
2. ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ قال الزّجّاج: هذه الواو تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصّصة، فهي دالّة على فضل الذي تخصّصه، كقوله تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ قال سعيد بن المسيّب: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبّك بين أصابعه.
3. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنها العصر، روى مسلم في أفراده من حديث عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ قبورهم وبيوتهم نارا)، وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنها صلاة العصر، وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وهذا قول عليّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبيّ، وأبي أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية عطيّة، وأبي سعيد الخدريّ، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس والضحّاك، والنّخعيّ، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش، وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا(2).
ب. الثاني: أنها الفجر، روي عن عمر، وعليّ في رواية، وأبي موسى، ومعاذ، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة، وابن عمر في رواية مجاهد، وزيد بن أسلم، في رواية أبي رجاء العطارديّ، وعكرمة، وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وعطاء، وطاووس في رواية ابنه، وعبد الله بن شدّاد، ومجاهد، ومالك، والشّافعيّ، وروى أبو العالية قال صلّيت مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الغداة فقلت لهم: أيّما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صلّيت قبل.
ج. الثالث: أنها الظّهر، روي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد الخدريّ، وعائشة في رواية، وروى عاصم بن ضمرة عن عليّ عليه السلام قال هي صلاة الجمعة، وهي سائر الأيام الظّهر.
د. الرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس، وقبيصة بن ذؤيب، و.
هـ. الخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ في (تفسيره).
4. في المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها أوسط الصلوات محلا.
ب. الثاني: أوسطها مقدارا.
ج. الثالث: أفضلها، ووسط الشيء: خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
5. إن قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى، جاز أن يدّعي هذا كلّ ذي مذهب فيها، وإن قلنا: إنها أوسطها مقدارا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعا، وإن قلنا: أوسطها محلّا، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى، ومن قال هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباريّ: هي وسط بين الليل والنهار، وقال: وسمعت أبا العبّاس يعني، ثعلبا يقول: النهار عند العرب أوّله: طلوع الشمس، قال ابن الأنباريّ: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل، قال وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار، لأن أول وقتها أول وقت الصوم، قال والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنّهار المحض أوّله: طلوع الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشّمس يجوز أن يسمى نهارا، ويجوز أن يسمّى ليلا، لما يوجد فيه من الظّلمة والضّوء، فهذا قول يصحّ به المذهبان، قال ابن الأنباريّ: ومن قال هي الظّهر، قال هي وسط النهار، فأمّا من قال هي المغرب، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت، الظّهر، فصارت المغرب وسطى، ومن قال هي العشاء، فإنه يقول: هي بين صلاتين لا تقصران.
6. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾، المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة، فأمّا القنوت، فقد شرحناه فيما تقدم، وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الطّاعة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والشّعبيّ، وطاووس والضّحّاك، وقتادة في آخرين.
ب. الثاني: أنه طول القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والرّبيع بن أنس، وعن عطاء كالقولين.
ج. الثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصّلاة، قال زيد بن أرقم: كنّا نتكلّم في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام.
__________
(1) زاد المسير: 1/215.
(2) يقصد الحنابلة.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين الله تعالى للمكلفين ما بين من معالم دينه، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه:
أ. أحدها: أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى، وزوال التمرد عن الطبع، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه، كما قال ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
ب. الثاني: أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45].
ج. الثالث: أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا، فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة.
2. أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة، وهذه الآية التي نحن في تفسيرها دالة على ذلك، لأن قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة، ثم إن قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ يدل على شيء أزيد من الثلاثة، وإلا لزم التكرار، والأصل عدمه، ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة، وإلا فليس لها وسطى، فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط، وأقل ذلك أن يكون خمسة، فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق، وهذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى.
3. هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها، والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع:
أ. الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: 17، 18] وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون، أراد به صلاة المغرب والعشاء ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ أراد صلاة الصبح ﴿وَعَشِيًّا﴾ أراد به صلاة العصر ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ صلاة الظهر.
ب. الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: 78] أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ أراد صلاة الصبح.
ج. الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه: 130] فمن الناس من قال هذه الآية تدل على الصلوات الخمس، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين.
د. الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: 114] فالمراد بطرفي النهار: الصبح، والعصر، وقوله تعالى: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ المغرب والعشاء، وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر، لأن لفظ زلفا جمع فأقله الثلاثة.
4. الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها، أعني طهارة البدن، والثوب، والمكان، والمحافظة على ستر العورة، واستقبال القبلة، والمحافظة على جميع أركان الصلاة، والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان، أو من أعمال الجوارح، وأهم الأمور في الصلاة، رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14] فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظا على الصلاة وإلا فلا.
5. سؤال وإشكال: المحافظة لا تكون إلا بين اثنين، كالمخاصمة، والمقاتلة، فكيف المعنى هاهنا؟ والجواب: من وجهين:
أ. أحدهما: أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب، كأنه قيل له: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152] وفي الحديث: (احفظ الله يحفظك)
ب. الثاني: أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة.
6. حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه:
أ. الأول: أن الصلاة تحفظه عن المعاصي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء.
ب. الثاني: أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن، قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153] وقال تعالى: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة: 12] ومعناه: إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة.
ج. الثالث: أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 110] ولأن الصلاة فيها القراءة، والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافع مشفع وفي الخبر: (إنه تجيء البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان)، وأيضا في الخبر (سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه)
7. اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب:
أ. الأول: أنها مبهمة غير محددة، ومن أدلتهم:
• أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها، ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي:وإنما قلنا: إنه لم يبين لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال: إنه تعالى بينها بطريق قطعي، أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية، أو بطريق آخر قاطع، أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلا في هذه الآية، لأن عدد الصلوات خمس، وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها، وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال: إنما هي الوسطى، وإما أن يقال: بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر، وذلك مفقود، وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز، لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات، وهذه المسألة ليست كذلك، فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي.
• ثم قالوا: والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد، مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعيا إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام، ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا من الموت في كل الأوقات، فيكون آتيا بالتوبة في كل الأوقات.
• وهذا القول اختاره جمع من العلماء، قال محمد بن سيرين: إن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات كلها تصبها، وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها، فقال: يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظا على الوسطى ثم قال الربيع: لو علمتها بعينها لكنت محافظا لها ومضيعا لسائرهن، قال السائل: لا قال الربيع: فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى.
ب. الثاني: هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين.
ج. الثالث: أنها صلاة الصبح، وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام، وعمر وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي أمامة الباهلي، ومن التابعين قول طاووس، وعطاء، وعكرمة ومجاهد، وهو مذهب الشافعي والذي يدل على صحة هذا القول وجوه:
• الأول: أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار.
• الثاني: أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح، وقبل طلوع الشمس، وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة، ولا يكون الضوء أيضا تاما، فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما.
• الثالث: أنه حصل في النهار التام صلاتان: الظهر والعصر، وفي الليل صلاتان: المغرب والعشاء، وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار.
• الرابع: أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق، وفي السفر عند الشافعي، وكذا المغرب والعشاء، وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتا واحدا ووقت المغرب والعشاء وقتا واحدا، ووقت الفجر متوسطا بينهما، قال القفال: وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون: فلان وسط، إذا لم يمل إلى أحد الخصمين، فكان منفردا بنفسه عنهما.
• الخامس: قوله تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر، وإنما جعلها مشهودا لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار، إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين:
● أحدهما: أن الله تعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر، فدل هذا على مزيد فضلها، ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد، فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية، وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية.
● الثاني: أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار، فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر، فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه، فكانت كالشيء المتوسط.
• السادس: أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ قرن هذه الصلاة بذكر القنوت، وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح، فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح.
• السابع: لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد، ولا شك أن صلاة الصبح أحوج الصلوات إلى التأكيد، إذ ليس في الصلاة أشق منها، لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم، حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها، ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت، والعدول إلى استعمال الماء البارد، والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس، فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد.
• الثامن: أن صلاة الصبح أفضل الصلوات، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح، إنما قلنا: إنها أفضل الصلوات لوجوه:
● أحدها: قوله تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17] فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار، ثم يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه تعالى (لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم) وذلك يقتضي أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح.
● ثانيها: ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها.
● ثالثها: أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين: مرة قبل طلوع الفجر، ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء.
● رابعها: أن الله تعالى سماها بأسماء، فقال في بني إسرائيل: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء: 78] وقال في النور: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾ [النور: 58] وقال في الروم: ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] وقال عمر بن الخطاب: المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ [الطور: 49] صلاة الفجر.
● خامسها: أنه تعالى أقسم به فقال: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1، 2] ولا يعارض هذا بقوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1، 2] فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد، وهو قوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [هود: 114] وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر.
● سادسها: أن التثويب في أذان الصبح معتبر، وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين: الصلاة خير من النوم مرتين، ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات.
● سابعها: أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوما، ثم صار موجودا، أو كان ميتا، ثم صار حيا، بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتا، فصاروا أحياء، فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل، وظلمة النوم والغفلة، وظلمة العجز والخيرة، وأبدل الكل بالإحسان، فملأ العالم من النور، والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة، فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية، وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة، فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات، فكان حمل الوسطى عليها أولى.
• التاسع: ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نرى أنها الفجر، وعن ابن عباس أنه صلى صلاة الصبح ثم قال هذه هي الصلاة الوسطى.
• العاشر: أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى، فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح.
د. الرابع: قول من قال إنها صلاة الظهر، ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واحتجوا عليه بوجوه:
• الأول: أن الظهر كان شاقا عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى، وعن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلى بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان، فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم) فنزلت هذه الآية.
• الثاني: صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها.
• الثالث: أنها بين صلاتين نهاريتين: الفجر والعصر.
• الرابع: أنها صلاة بين البردين: برد الغداة وبرد العشي.
• الخامس: قال أبو العالية: صليت مع أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الظهر، فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى، فقالوا التي صليتها.
• السادس: روي عن عائشة أنها كانت تقرأ: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى، والمعطوف عليه قبل المعطوف، والتي قبل العصر هي الظهر.
• السابع: روي أن قوما كانوا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة.
• الثامن: روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كانت في صلاة الظهر، فدل هذا على أنها أشرف الصلوات، فكان صرف التأكيد إليها أولى.
• التاسع: أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات، وهي صلاة الظهر، فصرف المبالغة إليها أولى.
هـ. الخامس: قول من قال إنها صلاة العصر، وهو من الصحابة مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، ومن الفقهاء: النخعي، وقتادة، والضحاك، وهو مروي عن أبي حنيفة، واحتجوا عليه بوجوه:
• الأول: ما روي عن علي عليه السلام أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم الخندق: (شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة، وهو عظيم الوقع في المسألة، وفي صحيح مسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)، ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال: العصر وسط، ولكن ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر، وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة، كما أن الحرم حرمان: حرم مكة بالقرآن، وحرم المدينة بالسنة، وهذا الجواب متكلف جدا.
• الثاني: قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال صلّى الله عليه وآله وسلم: (من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)، وأيضا أقسم الله تعالى بها فقال: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1، 2] فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى
• الثالث: أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر، والسبب فيه أمران:
● أحدهما: أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات، لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بظهور الزوال، ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق، أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل، فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر.
● الثاني: أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات، فكان الإقبال على الصلاة أشق، فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى.
• الرابع: في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه:
● أحدها: أنها متوسطة بين صلاة هي شفع، وبين صلاة هي وتر، أما الشفع فالظهر، وأما الوتر فالمغرب، إلا أن العشاء أيضا كذلك، لأن قبلها المغرب وهي وتر، وبعدها الصبح وهو شفع.
● ثانيها: العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر، وليلية وهي المغرب.
● ثالثها: أن العصر بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.
و. السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني، وقبيصة بن ذؤيب، والحجة فيه من وجهين:
• الأول: أنها بين بياض النهار وسواد الليل، وهذا المعنى وإن كان حاصلا في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه أخر، وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح، وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء، فهي وسط في الطول والقصر.
• الثاني: أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها، وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة.
ز. السابع: أنها صلاة العشاء، قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران، المغرب والصبح، وعن عثمان بن عفان، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة)
8. هذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة، وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلا عظيما.
9. احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب، قال الوتر لو كان واجبا لكانت الصلوات الواجبة ستة، ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى، والآية دلت على حصول الوسطى لها.
10. سؤال وإشكال: الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143] أي عدولا وقال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم: 28] أي أعدلهم، وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع، وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء؟ والجواب:
أ. أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطا لا من حيث إنه خلق فاضل، بل من حيث إنه يكون متوسطا بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطا بحسب العدد ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطا بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
ب. أما قوله: نحمله على ما يكون وسطا في الزمان وهو الظهر، فجوابه: أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة، لأنها تؤدى بعد الزوال، وهنا قد زال الوسط.
ج. وأما قوله: نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطا بين وقت الظلمة وبين وقت النور، أو على المغرب لكون عددها متوسطا بين الإثنين والأربعة، فجوابه: أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضا محتمل، فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان.
11. في قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ وجوه:
أ. أحدها: وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر، واحتج عليه بوجهين:
• الأول: أن قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أمر بما في الصلاة من الفعل، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر، فمعنى الآية: وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه.
• الثاني: أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء، بدليل قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ [الزمر: 9] وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر، وهو المفهوم من قولهم: قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
ب. الثاني: ﴿قَانِتِينَ﴾ أي مطيعين، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاووس وقتادة والضحاك ومقاتل، الدليل عليه وجهان:
• الأول: ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: كل قنوت في القرآن فهو الطاعة)
• الثاني: قوله تعالى في أزواج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 34] وقال في كل النساء: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ﴾ [النساء: 34]/ فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزئ وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأسا، لأنه يقال: كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
ج. الثالث: ﴿قَانِتِينَ﴾ ساكتين، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه، ويسألهم: كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب، فنزل الله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
د. الرابع: وهو قول مجاهد: القنوت عبارة عن الخشوع، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى، ولا يبعث بشيء من جسده، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.
هـ. الخامس: القنوت هو القيام، واحتجوا عليه بحديث جابر قال سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: (أي الصلاة أفضل؟ قال طول القنوت) يريد طول القيام، وهذا القول عندي ضعيف، وإلا صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين اللهم إلا أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذ يصير القنوت مفسرا بالإدامة لا بالقيام.
و. السادس: وهو اختيار علي بن عيسى: أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصا بالمداومة على طاعة الله تعالى، والمواظبة على خدمة الله تعالى، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون، ويحتمل أن يكون المراد: وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/483.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا﴾ خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه.
2. الوسطى تأنيث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ وقد تقدم، وقال أعرابي يمدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم... وأكرم الناس أما برة وأبا
ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم.
3. أفرد الصلاة الوسطى بالذكر، وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾، وقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾، وقرأ أبو جعفر الواسطي ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ بالنصب على الإغراء، أي والزموا الصلاة الوسطى: وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالون عن نافع (الوصطى) بالصاد لمجاورة الطاء لها، لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه.
4. اختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال:
أ. الأول: أنها الظهر، لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام، وممن قال إنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعائشة، ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) بالواو، وروي أنها كانت أشق على المسلمين، لأنها كانت تجئ في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم، وروى أبو داوود عن زيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منها، فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين، وروى مالك في موطئه وأبو داوود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر، زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يصليها بالهجير.
ب. الثاني: أنها العصر، لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل، قال النحاس: وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض، وممن قال إنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال: وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول، واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة الوسطى صلاة العصر) خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ج. الثالث: إنها المغرب، قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة، والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر، وروي من حديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة ـ أو قال ـ أربعين سنة)
د. الرابع: صلاة العشاء الآخرة، لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها.
هـ. الخامس: إنها الصبح، لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما، ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل، وممن قال إنها وسطى علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، أخرجه الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبد الله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري، والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح، وقد استدل من قال إنها الصبح بقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح، قال أبو رجاء: صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين، وقال أنس: قنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع، وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في آل عمران عند قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾
و. السادس: صلاة الجمعة، لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا، ذكره ابن حبيب ومكي، وروى مسلم عن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)
ز. السابع: إنها الصبح والعصر معا، قاله الشيخ أبو بكر الأبهري، واحتج بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) الحديث، رواه أبو هريرة، وروى جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها) يعني العصر والفجر: ثم قرأ جرير ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾، وروى عمارة بن رويبة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يعني الفجر والعصر، وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة) كله ثابت في صحيح مسلم وغيره، وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد.
ح. الثامن: إنها العتمة والصبح، قال أبو الدرداء في مرضه الذي مات فيه: اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين ـ يعني في جماعة ـ العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم، قاله عمر وعثمان، وروى الأئمة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ـ وقال ـ إنهما أشد الصلاة على المنافقين) وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة، ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داوود والترمذي عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة) وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم.
ط. التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها، قال معاذ بن جبل، لأن قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر، العاشر ـ إنها غير معينة، قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خثيم، فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات، ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال: (نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم، فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم، وهذا اختيار مسلم، لأنه أتى به في آخر الباب، وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، لتعارض الأدلة وعدم الترجيح، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها.
5. هذا الاختلاف في الصلاة الوسطى يدل على بطلان من أثبت (وصلاة العصر) المذكور في حديث أبي يونس مولى عائشة حين أمرته أن يكتب لها مصحفا قرآنا، قال علماؤنا: وإنما ذلك كالتفسير من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، يدل على ذلك حديث عمرو ابن رافع قال: أمرتني حفصة أن أكتب لها مصحفا، الحديث، وفيه: فأملت علي (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ـ وهي العصر ـ وقوموا لله قانتين)، وقالت: هكذا سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقرءوها، فقولها: (وهي العصر) دليل على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فسر الصلاة الوسطى من كلام الله تعالى بقوله هو (وهي العصر)، وقد روى نافع عن حفصة (وصلاة العصر)، كما روي عن عائشة وعن حفصة أيضا (صلاة العصر) بغير واو، وقال أبو بكر الأنباري: وهذا الخلاف في هذا اللفظ المزيد يدل على بطلانه وصحة ما في الإمام مصحف جماعة المسلمين، وعليه حجة أخرى وهو أن من قال: والصلاة الوسطى وصلاة العصر جعل الصلاة الوسطى غير العصر، وفي هذا دفع لحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الذي رواه عبد الله قال: شغل المشركون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى ملا الله أجوافهم وقبورهم نارا) الحديث.
6. في قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ دليل على أن الوتر ليس بواجب، لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة، وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة، والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة، وفي حديث الإسراء هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي).
7. ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ معناه في صلاتكم، واختلف الناس في معنى قوله ﴿قَانِتِينَ﴾:
أ. فقال الشعبي: طائعين، وقال جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة، وقاله أبو سعيد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون عاصين، فقيل لهذه الأمة فقوموا لله طائعين.
ب. وقال مجاهد: معنى قانتين خاشعين، والقنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح.
ج. وقال الربيع: القنوت طول القيام، وقاله ابن عمر وقرأ ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت) خرجه مسلم وغيره، وقال الشاعر:
قانتا لله يدعو ربه... وعلى عمد من الناس اعتزل
د. وروي عن ابن عباس ﴿قَانِتِينَ﴾ داعين، وفي الحديث: قنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان، قال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طول قيامه.
هـ. وقال السدي: ﴿قَانِتِينَ﴾ ساكتين، دليله أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام، وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم وغيره عن عبد الله ابن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: (إن في الصلاة شغلا)، وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت.
8. قال أبو عمر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روى عن الأوزاعي أنه قال: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك، وهو قول ضعيف في النظر، لقول الله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ وقال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ الحديث، وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة)، وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستئناف، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو مال أو ما كان بسبيل ذلك استأنف صلاته ولم يبن، هذا هو الصحيح في المسألة.
9. ذكر هنا بعض الفروع الفقهية المرتبطة بالكلام في الصلاة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
10. القنوت: القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما، وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما ) الحديث، أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام، فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم في الإمام: (وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون) وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى، وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته.
11. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية الفرعية المرتبطة بالقيام في الصلاة، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/209.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المحافظة على الشيء: المداومة والمواظبة عليه، والوسطى: تأنيث الأوسط، وأوسط الشيء ووسطه: خياره، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.. ووسط فلان القوم يسطهم، أي: صار في وسطهم: وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفا لها، وقرأ أبو جعفر: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ بالنصب على الإغراء؛ وكذلك قرأ الحلواني؛ وقرأ قالون عن نافع: الوصطى، بالصاد لمجاورة الطاء، وهما لغتان: كالسراط والصراط.
2. اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولا أوردتها في شرحي للمنتقى، وذكرت ما تمسكت به كل طائفة:
أ. وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر، لما ثبت عند البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم من حديث علي قال كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا)، وأخرج مسلم، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعا مثله، وأخرجه أيضا ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا، وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعا، وأخرجه أيضا البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعا، وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعا، وورد في تعيين أنها العصر من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، منها: عن ابن عمر عند ابن مندة، ومنها: عن سمرة عند أحمد، وابن جرير، والطبراني، ومنها: عنه أيضا عند ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وصححه ابن جرير، والطبراني، والبيهقي، وعن أبي هريرة عند ابن جرير، والبيهقي، والطحاوي، وأخرجه عنه أيضا ابن سعيد، والبزار، وابن جرير، والطبراني، وعن ابن عباس عند البزار بأسانيد صحيحة، وعن أبي مالك الأشعري عند ابن جرير، والطبراني، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مصرحة بأنها العصر، وقد روي عن الصحابة في تعيين أنها العصر آثار كثيرة، وفي الثابت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره.
ب. وأما ما روي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إنها صلاة الصبح، كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وكذلك أخرجه عنه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وكذلك أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عمر، وكذلك أخرجه ابن جرير عن جابر، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة، وكل ذلك من أقوالهم، وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا تقوم بمثل ذلك حجة، لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلم ثبوتا يمكن أن يدعى فيه التواتر، وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة؛ لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين، وتابعيهم بالأولى.
ج. وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنّه قال: صلاة الوسطى المغرب.
د. وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة: أنها الظهر، أو غيرها من الصلوات، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر، كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعا: (إنّ الصّلاة الوسطى صلاة الظهر)، ولا يصح رفعه، بل المرويّ عن زيد بن ثابت ذلك من قوله، واستدل على ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالهاجرة، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه؛ وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وهكذا الاعتبار بما روي عن ابن عمر من قوله: إنها الظهر، وكذلك ما روي عن عائشة، وأبي سعيد الخدري وغيرهم، فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
هـ. وأما ما رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وغيرهما أن حفصة قالت لأبي رافع مولاها ـ وقد أمرته أن يكتب لها مصحفا: إذا أتيت على هذا الآية: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ فتعال حتى أمليها عليك، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ وصلاة العصر، وأخرجه أيضا عنها مالك، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في سننه وزادوا: وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأخرج مالك، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن أبي يونس مولى عائشة: أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ قال فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأخرج وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أم سلمة: أنها أمرت من يكتب لها مصحفا، وقالت له كما قالت حفصة وعائشة، فغاية ما في هذه الروايات عن أمهات المؤمنين الثلاث نّ أنهنّ يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر أو غيرها، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلم ثبوتا لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه، فالحاصل أن هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين بإثبات قوله: (وصلاة العصر) معارضة بما أخرجه ابن جرير عن عروة قال كان في مصحف عائشة: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وهي صلاة العصر، وأخرج وكيع عن حميدة قالت: قرأت في مصحف عائشة: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ صلاة العصر، وأخرج ابن أبي داوود عن قبيصة بن ذؤيب مثله، وأخرج سعيد بن منصور وأبو عبيد عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن يكتب وقالت: إذا بلغتم ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ فلا تكتبوها حتى تؤذنوني، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا قالت: اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر، وأخرج ابن جرير، والطحاوي، والبيهقي عن عمرو بن رافع: قال كان مكتوبا في مصحف حفصة: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وهي صلاة العصر، وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر عن أبي ابن كعب أنه كان يقرؤها: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر، وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطحاوي عن ابن عباس أنه كان ليقرؤها: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر، وأخرج المحاملي عن السائب بن يزيد: أنه تلاها كذلك فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ونقل القراءة، ويبقى ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من التعيين صافيا عن شوب كدر المعارضة، على أنه قد ورد ما يدل على نسخ القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة، وأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وأبو داوود في ناسخه، وابن جرير، والبيهقي عن البراء بن عازب قال نزلت حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله ثم نسخها الله، فأنزل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ فقيل له: هي إذن صلاة العصر؟ قال قد حدثتك كيف نزلت وكيف نسخها الله، وأخرج البيهقي عنه من وجه آخر نحوه.
3. إذا تقرر لك هذا وعرفت ما سقناه تبين لك: أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به، لأنه لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء، وبعض القائلين عوّل على أمر لا يعوّل عليه فقال: إنها صلاة كذا، لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات، وهذا الرأي المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوّة والثبوت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؟ ويا لله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله، والتجرؤ على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى، فجاؤوا بما يضحك منه تارة ويبكى منه أخرى.
4. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ القنوت: قيل: هو الطاعة، أي: قوموا لله في صلاتكم طائعين، قاله جابر بن زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والضحاك، والشافعي، وقيل: هو الخشوع، قاله ابن عمر ومجاهد.. وقيل: هو الدعاء، وبه قال ابن عباس، وفي الحديث: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان، وقال قوم: إن القنوت طول القيام؛ وقيل: معناه: ساكتين، قاله السدي، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، وقيل: أصل القنوت في اللغة: الدوام على الشيء، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه، وقد ذكر أهل العلم: أن للقنوت ثلاثة عشر معنى، وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى، والمتعين هاهنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/294.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أمر تعالى ـ إثر ما تقدم ـ بقوله سبحانه: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، أي: داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها.
2. ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، أي: الوسطى بين الصلوات بمعنى المتوسطة أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط:
أ. فعلى الأول: يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين، وهل هي الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين.
ب. وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر، أقوال أيضا عن كثير من الأعلام، والقول الأخير جيد جدا كما لو قيل بأنها ذات الخشوع لآية: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
ج. وأما علماء الأثر فقد ذهبوا إلى أن المعنيّ بالآية صلاة العصر لما في (الصحيحين) عن عليّ ؛ أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب (وفي رواية يوم الخندق): (ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، وفي رواية: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وذكر نحوه وزاد في أخرى: ثم صلّاها بين المغرب والعشاء، أخرجاه في (الصحيحين) ورواه أصحاب السنن والمسانيد والصحاح من طرق يطول ذكرها، وأجاب عن هذا الاستدلال من ذهب إلى غيره بأنه لم يرد الحديث مورد تفسير الآية حتى يعيّنها، وإنما فيه الإخبار عن كونها وسطى، وهو كذلك لأنها متوسطة وفضلي من الصلوات، وما رواه مسلم عن أبي يونس ـ مولى عائشة ـ قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، قال فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليّ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وروى ابن جرير عن حفصة نحو ذلك، قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو، وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير، أنهما قرءا كذلك، فهذا من عائشة إعلام بالمراد من (الوسطى) عندها، ضمّت التأويل إلى أصل التنزيل لأمن اللبس فيه، لأن القرآن متواتر مأمون أن يزاد فيه أو ينقص، وكان في أول العهد بنسخه ربما ضمّ بعض الصحابة تفسيرا إليه، أو حرفا يقرؤه، ولذا لمّا خشي عثمان أن يرتاب في كونه من التنزيل ـ مع أنه ليس منه ـ أمر بأن تجرد المصاحف في عهده مما زيد فيها من التأويل وحروف القراءات التي انفرد بعض الصحب، وأن يقتصر على المتواتر تنزيله وتلقّيه من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم.
3. هذا وقد أيّد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر بأنها خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة عليها، والتغليظ لمن ضيعها، فقد قال أبو المليح: كنا مع بريدة في غزوة، فقال في يوم ذي غيم: بكّروا بصلاة العصر فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قال (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، أخرجه البخاريّ، وقوله: بكروا بصلاة العصر، أي قدّموها في أوّل وقتها، وروى الشيخان عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله!) أي: نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا، فاقدهما، والمعنى: ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله، وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطيّ في كتابه (كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل:
أ. فمنها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم غلّظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم.
ب. ومنها؛ حبوط عمل تاركها المضيّع لها في الحديث السالف أيضا.
ج. ومنها؛ أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم!
د. ومنها قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كان له أجرها مرتين)، رواه مسلم.
هـ. ومنها؛ أنّ انتظارها بعد الجمعة كعمرة ـ رواه أبو يعلى، وروى الحاكم: كمن أتى بحجّة وعمرة.
و. ومنها قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم.. ـ إلى أن قال ـ ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا، فجاء رجل فصدقه فاشتراها)، متفق عليه، ثم قال قلت وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ﴾ [المائدة: 106]، قال عامة المفسّرين: بعد صلاة العصر، ولذلك غلّظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر لشرفه ومزيته.
ز. ومنها؛ أن سليمان عليه السلام أتلف مالا عظيما من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس، فمدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه بقوله تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ﴾ [ص: 30 ـ 31] الآيات.
ح. ومنها؛ أن الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل: إنها بعد العصر.
ط. ومنها؛ أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال.
ي. ومنها؛ الحديث المرفوع: إنّ الله تعالى يوحي إلى الملكين: لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة.
ك. ومنها؛ ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1]، قال مقاتل: العصر هي الصلاة الوسطى أقسم بها ـ حكاه ابن عطية.
ل. ومنها؛ ما روي في الحديث، أنّ الملائكة تصفّ كل يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا فينادى الملك: ألق تلك الصحيفة، فيقول: وعزّتك ما كتبت إلّا ما عمل، فيقول الله عزّ وجلّ: لم يرد به وجهي، وينادى الملك الآخر: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول الملك: وعزّتك إنه لم يعمل ذلك، فيقول الله عزّ وجلّ: إنه نواه.
م. ومنها؛ أنّ وقتها وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم في الغالب.
وقد أفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات، وذكر العلّامة الفاسي ـ شارح (القاموس) ـ فيما نقله عنه الزبيدي، أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين.
4. سنح لي وقوي بعد تمعّن ـ في أواخر رمضان سنة 1323 ـ احتمال قوله تعالى: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ بعد قوله ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ لأن يكون إرشادا وأمرا بالمحافظة على أداء الصلاة أداء متوسطا، لا طويلا مملّا ولا قصيرا مخلّا، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلّى الله عليه وآله وسلم في ذلك، قولا وفعلا، ثمّ مر بي في القاموس ـ في 23 ربيع الأول سنة 1324 ـ حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وس ط) الأقوال في الآية، ومنها قوله (أو المتوسطة بين الطول والقصر)؛ قال شارحه الزبيدي: وهذا القول ردّه أبو حيّان في (البحر)، ثم سنح لي احتمال وجه آخر: وهو أن يكون قوله ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي: ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وتوسيط (الواو) بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشريّ واستدلّ له بكثير من الآيات، وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى، وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلّا قطرة من بحر، ولعلّ هذا الوجه هو ملحظ من قال هي الصلوات الخمس، وهو معاذ بن جبل، فكأنه أشار إلى أنّ المعطوف عين المعطوف عليه، إلّا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف.
5. ﴿وَقُومُوا لله﴾ ـ في الصلاة ـ ﴿قَانِتِينَ﴾ خاشعين ساكتين، روى الشيخان عن زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم: عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فمررت برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فسلّمت عليه، فلم يرد عليّ، فوقع في نفسي إنه نزل فيّ شيء، فلما قضى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم صلاته قال وعليك السلام ـ أيها المسلّم ـ ورحمة الله، إنّ الله يحدث في أمره ما يشاء، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا، وروى الطبرانيّ في (الأوسط) والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في (مسنديهما) وابن حبان في (صحيحه) عن أبي سعيد قال (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: كل حرف ذكر من (القنوت) في القرآن فهو الطاعة)
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/164.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ الخمس بتحسين الطهارة والأداء أوَّل الوقت، وإحضار القلب والخشوع والمداومة، ولتأكيد ذلك قال: ﴿حَافِظُوا﴾ بصيغة المفاعلة التي أصلها أن تكون بين متغالبين كلٌّ يجهد نفسه، وذكره بين ذكر الأزواج والأولاد وبين الأزواج أيضًا، لئلَّا يشغلهم ذلك عن الصلاة.
2. ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ صلاة العصر توسَّطت بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، أو الصبح توسَّطت بين صلاة الليل وصلاة النهار ولا تجمع مع غيرها، أو الظهر في وسط النهار، أو المغرب توسَّطت في القصر والطول، أو العشاء توسَّطت بين صلاتين لا تقصران، أو الوتر أو سنَّة الفجر، أو سنَّة المغرب، أو صلاة الجنازة، أو واحدة من الخمس لا بعينها، أو صلاة الجمعة، أو صلاة الجماعة، وخصَّت من عموم الصلوات لفضلها، أو الوسطى: صلاة الفرض كلُّها، والصلوات: الفرض والنفل، وخصَّت لذلك، أو صلاة الضحى، أو صلاة الخوف، أو صلاة الأضحى، أو صلاة الفطر، أو صلاة الليل الواجبة، أو صلاة الليل النفل، وما فيه توسُّط في الزمان فظاهر، وما لم يكن فيه فمعنى توسُّطه فضله، والأكثر على أنَّها العصر، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم نارًا)، وعن عائشة أنَّها تقرأ: (والصلاةِ الوسطى صلاةِ العصر)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والصلاة الوسطى وصلاة العصر)، بعطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى، فهي إمَّا غير العصر، وإمَّا هي، والعطف تفسير بإعادة العاطف محاكاة له في قوله: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، فضِّلت العصر لأنَّ الناس مشتغلون عندها بالمكاسب، كما أنَّ لصلاة الفجر مزيَّة القيام من لذَّة النوم، وأمَّا اجتماع الملائكة فقيل: عند الفجر وعند العصر لأنَّها من المساء، وأولى منه اجتماعهم عند المغرب، والوسطى من معنى الفضل فقبل الزيادة، وهو مؤنَّث اسم التفضيل، لا من التوسُّط بين شيئين كالكون بين صلاة النهار والليل؛ لأنَّه لا يقبل الزيادة، إِلَّا أن يقال بخروجه عن التفضيل، والتوسُّط المذكور واقع في الفجر أيضًا، ووَقَع للعشاء أيضًا باعتبار كونها بين جهريَّتين، أي: المغرب والفجر.
3. واعترض حديث التفسير بصلاة العصر بأنَّ في إسناده مقالاً، وبأنَّ ذكر صلاة العصر مدرج، لقول عليٍّ: (حبسونا عن الصلاة الوسطى حتَّى غربت الشمس)؛ الجواب أنَّه لا يكون هذا ردًّا بل تقوية إذ لا صلاة تلي الغروب إِلَّا صلاة العصر، فهو بيان لما زعموا أنَّه مدرج، وما ردَّ به التفسير بصلاة العصر أنَّهم حبسوهم يوم الأحزاب عن صلاة الظهر والعصر معًا، كما في رواية، ويجاب بأنَّه خصَّ العصر بالذكر لمزيد فضلها، وزعم بعض أنَّ الأصل: (شغلونا عن الصلاة وصلاة العصر) فحذف العاطف، وهو تكلُّف بعيد، وعورض ذلك أيضًا بحديث أحمد وأبي داود أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلِّي الظهر بالهاجرة، فهي أشدُّ صلاة على الصحابة، فنزل: ﴿حَافِظُوا﴾، وحديث أحمد: كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلِّي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إِلَّا الصفُّ والصفَّان والناس في تجارتهم وقائلتهم، فنزل ﴿حَافِظُوا﴾.
4. وفي مصحف عائشة بإملائها على الكاتب مولاها أبي يونس، ومصحف حفصة بإملائها على عمرو بن رافع، ومصحف أمِّ سلمة بإملائها على عبد الله بن رافع: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) فقيل لذلك: هي الظهر، قال أبيُّ بن كعب: هي كذلك، أوليس أشغل ما نكون وقت الظهر في عملنا ونواضحنا؟، وقيل: الصلاة الوسطى أخفاها الله ليحافظ على جميع الصلوات، وليلة القدر ليُجتهد في جميع رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهد فيه كلِّه، وبسطتُ الكلام على ذلك في آخر وفاء الضمانة في جزء التفسير.
5. ﴿وَقُومُواْ لِلهِ﴾ في الصلاة، ويجوز تعليق (لِلهِ) بقوله: ﴿قَانِتِينَ﴾ كقوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: 116]، فإنَّ (لَهُ) متعلِّق بـ (قَانِتُونَ)، أي: مطيعين، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (كلُّ قنوتٍ في القرآن طاعة)، رواه أحمد، أو ﴿قَانِتِينَ﴾: ذاكرين، أي: قوموا لله ذاكرين له، أو قوموا ذاكرين لله، أو خاشعين على الوجهين، أو ساكتين، ففي البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم: (كنَّا نتكلَّم في الصلاة حتَّى نزلت الآية)، قال البخاري: أي ساكتين، وعن عكرمة عن زيد بن أرقم: (كنَّا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكلِّم أحدنا صاحبه في جنبه في الصلاة حتَّى نزل ﴿وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾)، سلَّم ابن مسعود عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصلاة فلمَّا سلَّم قال: (لم أردَّ عليك لأنَّا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلَّم في الصلاة)، والقيام في الصلاة واجب في صلاة الفرض لمن أطاق والآية لذلك.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/83.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت الآيات السابقة أحكاما بعضها في العبادات، وبعضها في الحدود والمعاملات، آخرها معاملة الأزواج، ورأينا من سنة القرآن أن يختم كل حكم أو عدة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه، والتذكير بعلمه بحال العبد وبما أعد له من الجزاء على عمله، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال وإشرابها حقيقة الإخلاص، ولكن هذا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها قد يغفل المرء عن تدبره، ويغيب عن الذهن تذكره، بانهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا، أو ما يلذ لهم من نعيمها، ولهذه الضروب من المكافحات، والفنون من التمتع باللذات سلطان قاهر على النفس، وحاكم مسخر للعقل والحس، ينتكب بالمرء سبيل الهدى، حتى تتفرق به سبل الهوى، فمن ثم كان المكلف محتاجا في تأديب الشهوات الحيوانية، إلى مذكر يذكره بمكانته الروحانية التي هي كمال حقيقته الإنسانية، وهذا المذكر هو الصلاة، فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لا بد له منها، وتوجهه إلى ربه جل وعلا، فتكثر له مراقبته، حتى تعلو بذلك همته، وتزكو نفسه، فتترفع عن البغي والعدوان، وتتنزه عن دناءة الفسق والعصيان، ويحبب إليها العدل والإحسان، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الامتنان فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود، وزيادة ما يحب الله تعالى من الكرم والجود، ذلك أن الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثرات وأكبر، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلي المصلين، إذا كانوا على الصلاة الحقيقية محافظين، لهذا قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
2. قال بعض المفسرين في وجه اختيار لفظ المحافظة على الحفظ: إن الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ وهي هنا بين العبد وربه، كأنه قيل: احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها، كقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ أو بين المصلي والصلاة نفسها؛ أي: احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾، وقال محمد عبده: قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ ولم يقل: احفظوها؛ لأن المفاعلة تدل على المنازعة والمقاومة، ولا يظهر قول بعضهم: إن المفاعلة للمشاركة؛ لأن الصلاة تحفظه كما يحفظها، إلا لو كانت العبارة حافظوا الصلوات، ولكنه قال: ﴿عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أي: اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها.
3. لا يريد محمد عبده بهذا أن الصلاة لا تحفظ مما ذكر، وإنما يريد أن لفظ ﴿حَافِظُوا﴾ لا يدل على هذا المعنى الثابت في نفسه، والذي أفهمه في المفاعلة في الشيء هو فعله المرة بعد المرة، ومنه حافظ عليه، وواظب عليه، ودوام عليه، إلا إذا كانت ﴿عَلَى﴾ للتعليل كقاتله على الأمر؛ أي: لأجله، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصح هنا، وحفظ الصلاة المرة بعد المرة على الاستمرار عبارة عن الإتيان بها كل مرة كاملة الشرائط والأركان العملية، كاملة الآداب والمعاني القلبية، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائما هو الذي لا يلحقه النقص وإلا لم يكن محفوظا دائما.
4. الصلوات هي الخمس المعروفة ببيان من بين للناس ما نزل إليهم، ونقلت عنه بالتواتر العملي، وأجمع عليها المسلمون من جميع الفرق، فهم على تفرقهم في كثير من المسائل متفقون على أن جاحد صلاة من الخمس لا يعد مسلما، على أنهم استنبطوا كونها خمسا من ذكر الوسطى في الجمع كما في تفسير الرازي، قال محمد عبده: وهو من قبيل التماس النكتة، ومن آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾، وسيأتي بيان كل شيء في محله إن شاء الله تعالى، وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح، ويقولون: سبح الغداة مثلا؛ أي صلى الفجر.
5. الصلاة الوسطى هي إحدى الخمس، والوسطى مؤنث الأوسط، ويستعمل بمعنى المتوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون؛ ولذلك اختلفوا في أي الصلوات أفضل وأيتها المتوسطة؟ وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولا أوردها الشوكاني في (نيل الأوطار) أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعا: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ورواه أحمد والشيخان عنه بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) ولم يذكر العصر، ولذلك قال بعضهم: إنها الظهر لأنه شغل يوم الأحزاب عنها وعن العصر جميعا وهي متوسطة، وكانت تشق عليهم؛ لأنها تؤدى في وقت الحر والعمل، وفي رواية عن علي عند عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (كنا نعدها الفجر فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: هي صلاة العصر) ووجه ما رواه أولا توسطها وقوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ فقد أشار في الآية إلى الصلوات، وجعل لصلاة الفجر مزية خاصة بها، وهي كون قرآنها مشهودا، وورد في معناه أنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، وفي الحديث التصريح بأن صلاة العصر تشارك صلاة الفجر بهذه المزية، ولأصحاب الأقوال الأخرى في تعيين الصلاة الوسطى أحاديث لا تصل إلى درجة ما ورد في صلاة العصر، فقيل: هي الفجر، وقيل: هي الظهر كما مر، وقيل: هي المغرب، وقال الأخفش: هي صلاة الجمعة، وقال بعضهم: إنها غير معروفة، وإن الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر لنحافظ على كل صلاة.
6. قال محمد عبده: ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ أن المراد بالصلاة الفعل، وبالوسطى الفضلى؛ أي: حافظوا على أفضل أنواع الصلاة؛ وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى وتخشع لذكره وتدبر كلامه، لا صلاة المرائين ولا الغافلين، ويقوي هذا قوله بعدها: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له، إذ قالوا: إن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع؛ أي: قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقية ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلا بهذا، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة وخشوعه، لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة.
7. إنه ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره محمد عبده في الصلاة الوسطى، فقد قال بعض المحدثين: إن لفظ (صلاة العصر) في حديث علي مدرج من تفسير الراوي، قالوا: ولولا ذلك لما اختلف الصحابة فيها، وأيدوا ذلك ببعض الروايات كرواية مسلم: (شغلونا عن الصلاة حتى غربت الشمس؛ يعني صلاة العصر) وما قاله في القنوت هو لباب الأقوال الكثيرة التي أوصلها ابن العربي إلى عشرة، نظمها في قوله:
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد مزيدا ...... على عشر معاني مرضية
دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة ...... إقامتها إقرارنا بالعبودية
سكوت، صلاة، والقيام، وطوله ...... كذاك دوام الطاعة الرابح النية
وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)، وذلك أن القنوت عبارة عن الانصراف عن شئون الدنيا إلى مناجاة الله تعالى والتوجه إليه لدعائه وذكره، وحديث الناس مناف له، فيلزم من القنوت تركه، ويدل على ذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: (كنا نسلم على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد، فقلنا ـ أي بعد الصلاة ـ يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال: إن في الصلاة شغلا)، وقال سعيد بن المسيب: المراد بالقنوت هنا القنوت المعروف في صلاة الصبح وهو إن صح يرجح أنها الصلاة الوسطى.
8. المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى، وقد جعل الشرع الصلاة والزكاة شرطا لصحة الإسلام وأخوة الدين وما له من الحقوق، قال تعالى في أوائل سورة التوبة في الكلام على المشركين المعتدين: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾، والأحاديث في منطوق الآية ومفهومها كثيرة، منها حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)، والمراد بالناس هنا المشركون أهل الأوثان لا أهل الكتاب الذين تقبل منهم الجزية ومن في حكمهم كالمجوس، ذلك أنهم هم الذين كانوا يقاومون دعوة الإسلام ما لا يقاومها سواهم، وكان استقرار الدين من غير دخول مشركي جزيرة العرب في الإسلام ضربا من المحال، والكلام هنا في مكانة الصلاة من الإسلام لا في الدعوة وحمايتها، وروى أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم من حديث بريدة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) صححه النسائي والعراقي، وروى أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: (من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) وفي الآثار ما يشعر بأن الصحابة كانوا متفقين على ذلك؛ فقد روى الترمذي والحاكم ـ وقال صحيح على شرط الشيخين ـ عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: (كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) .
9. أرأيت هذه الآيات العزيزة، والأحاديث الناطقة بالعزيمة، قد نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر، حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون، وقل عدد المصلين الساهين وندر المصلون المحافظون؟ ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين، الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية، إلى كونه جنسية سياسية، آية الاستمساك به والمحافظة عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكامه وإن كانوا لا يقيمون حدوده ولا ينفذون أحكامه، بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام، فلا غرو أن يعد الذي يلغو بمدح دولته أو بذم عدو لها من أكبر أنصار الإسلام، وإن كان لا يعرف حقيقة عقيدته ولا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة، ولا يحفل بغير ذلك مما أنزل الله، ولا يشترط أن يكون مخلصا في دفاعه يتحرى به وجه المنفعة العامة لا تتبع طرق المال والجاه، أرأيت هؤلاء المسلمين سياسة؟ وإن أحدهم لتتلى عليه تلك الآيات والأحاديث فيصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا، فمنهم من يصده عنها عدم إيمانه بها وهو الذي قد يصف نفسه أو يصفه أقرانه (بالمتمدن والمتنور) ومنهم من يصدف به عنها الاتكال على شفاعة الشافعين، والغرور بالانتساب إلى الإسلام، والاعتقاد بأن النسبة إليه كافية في نيل سعادة الآخرة وعدم المؤاخذة فيها على شيء، ولا سيما الذي يسمي نفسه (محسوبا على أحد الصالحين) وهذا اعتقاد أكثر العامة، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدهم في غيهم ويستدرجهم في غرورهم، وما أعظم غرور من يأخذ منهم العهد ويحافظ على الورد.
10. نعم إن للإسلام دولة وإن كان هو في نفسه دينا لا جنسية، ووظيفة دولته أو حكومته إنما هي نشر دعوته، وحفظ عقائده وآدابه، وإقامة فرائضه وسننه، وتنفيذ أحكامه في داره، فمن ينصر حكومة الإسلام فإنما ينصرها بمساعدتها على ذلك بالعمل به في نفسه، وبحمل غيره من حاكم ومحكوم عليه؛ لأنه هو المقوم والمعزز للأمة، وإنما الدولة بالأمة، وإن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أعظم شعائر الإسلام، فالصلاة هي الركن الركين لصلاح النفوس، والزكاة هي الركن الركين لصلاح الاجتماع، فإذا هدما فلا إسلام في الدولة.
11. ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم حتى في ليالي رمضان، ليالي الذكر والقرآن، وعبد الناس المال، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير، وانبسطت في أفعال الشر، وزال التعاطف والتراحم، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض، فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي، وغير ذلك من فساد الأخلاق وقبح الفعال في الأفراد، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية، بل تقطع أكثرها، حتى كادت الأمة تخرج عن كونها أمة حقيقية متكافلة بالمصالح الاجتماعية والتعاون على الأعمال المشتركة التي تحفظ وحدتها، وطفق بعض هؤلاء (المتمدنين) الذين قطعوا روابطها بأيديهم، يفكرون في جعل الرابطة الوطنية لأهل كل قطر بدلا من الرابطة الملية الجامعة لأهل الأقطار الكثيرة، فلم يفلحوا، ولكن أثر كلامهم أردأ التأثير في مصر؛ فالأمة الآن في دور الانسلاخ عما كانت به أمة بسيرة سلفها الصالحين، فتنكبها هؤلاء الذين قال الله فيهم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ وهذا الانسلاخ هو الغي الذي توعدهم الله تعالى به في الدنيا.
12. أما أثر ذلك في القرى والمزارع فاستحلال جماهير الفلاحين لإهلاك الحرث والنسل عملا لا قولا، وذلك باعتداء بعضهم على زرع بعض بالقلع قبل ظهور الثمرة وبالسرقة بعدها، وعلى بهائمه بالقتل بالسم أو السلاح، بل باعتدائهم على أنفسهم بالسلب والنهب والقتل، حتى أعيا ذلك الحكومة على اهتمامها بأمرهم، فبلاد الأرياف المصرية لا أمن فيها على النفس والمال بتأمين الحكومة؛ لأنها صارت كالبوادي التي ليس فيها حكام، لا يعتمد أحد على غير نفسه وعصبته في حفظ نفسه وحقيقته، ولو حافظ هؤلاء وأولئك على الصلوات كما أمر الله تعالى لانتهوا عن الفحشاء والمنكر بالوازع النفسي، فإن الصلاة كما يقول مختار باشا الغازي، كالبوليس (المحتسب) الملازم يمنع من عمل السوء، وأنى يحافظون عليها ومنهم الذي كفر بالله تقليدا، ومنهم الذي آمن تقليدا بما وجد عليه آباءه، وهو أن مرضاة الله تعالى بالنجاة من عذابه والفوز بنعيم الآخرة عنده لا تحصل إلا بواسطة أحد الأولياء الميتين وإنما يتوسطون لمن يحتفل بموالدهم، أو يسيب لهم السوائب من البقر وغير البقر، ويقدم لأضرحتهم الهدايا والنذور، ومنهم الذي يتعلم كيفية أقوال الصلاة وأعمالها البدنية يؤدونها وهم عن الله ساهون، يراءون الناس ويمنعون الماعون، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، وإنما المحافظون على الصلاة هم الذين قال فيهم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، إلخ الآيات.
13. المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر، فلا يرضى لنفسه أن يكون حلسا من أحلاس بيوت القمار ومعاهد اللهو والفسق.. المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون، بل يبذل معونته ورفده لمن يراه مستحقا لهما.. المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه، وإن كان حقا فرضه على نفسه، أو التزمه برا بغيره، كالاشتراك في الجمعيات الخيرية.. المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا حقوق معامليه وإخوانه.. المحافظ على هذه الصلاة يعظم الحق وأهله، ويحتقر الباطل وجنده، فلا يرضى لنفسه ولا لأمته بالذل والهوان، ولا يغتر بأهل البغي والعدوان.. المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب، ولا تفل غرار عزمه المصائب، ولا تبطره النعم، ولا تقطع رجاءه النقم، ولا تعبث به الخرافات والأوهام، ولا تطير به رياح الأماني والأحلام، فهو الإنسان الكامل الذي يؤمن شره، ويرجى في الناس خيره، ولو أن فينا طائفة من المصلين الخاشعين لأقمنا بهم الحجة على المارقين والمرتابين.
14. لكن المحافظ على الصلوات والصلاة الوسطى مع القنوت والخشوع قد صار أندر من الكبريت الأحمر، ومن عرفه لا يصدق أن للصلاة يدا في آدابه العالية، واستقامته في السر والعلانية، وكأني ببعض القارئين لما تقدم وقد ملوا منه، ورموا الكاتب بالغلو فيه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 2/436.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج، وقد جرت سنة القرآن أن يأتي عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله، والتذكير بعلمه بحال عباده، وما أعدّ لهم من جزاء على العمل، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه، لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهماكها في مشاغل الحياة، أو في تمتعها باللذات، فتتنكّب عن جادة الهدى، وتتفرّق بها السبل، ومن ثم كانت في حاجة إلى مذكّر يرقى بها إلى العالم الروحي، ويخلعها من عالم الحس، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها حتى تطهر من تلك الأرجاس والأدران، وتترفع عن البغي والعدوان، وتميل إلى العدل والإحسان، ذلك المذكر هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتنفى الجزع والهلع عند المصائب، وتعلّم البخيل الكرم والجود، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث في النفس آثارها.
2. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ أي داوموا على الصلوات جميعها لما فيها من مناجاة الله والتوجه إليه بالدعاء له والثناء عليه كما جاء في الحديث (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وإذا أديت على الوجه الحق وأقيمت كما أمر به الدين نهت عن الفحشاء والمنكر، وحفظت النفوس من الشرور والآثام، ولا سيما صلاة العصر حين ينتهى الإنسان من أعمال الدنيا فيضرع إلى الله أن وفقه لخدمة نفسه وعياله وأهله ووطنه، ويشكره على ذلك حق الشكر.
3. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أي قوموا خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه، روى أحمد والشيخان من حديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ـ لأن حديث الناس مناف له، فيلزم من القنوت تركه.
4. المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى والشرط في صحة الإسلام والأخوّة في الدين وحفظ الحقوق، روى أحمد وأصحاب السنن من حديث، بريدة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر، وروى أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم (أنه ذكر الصلاة يوما فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف)، وروى الترمذي قال كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
5. أرأيت بعد هذا كيف أعرض جمهرة المسلمين عن الصلاة، وكثر التاركون الغافلون عنها، وقلّ عدد المصلين، أرأيت أن أحدهم لتتلى عليه الآيات والأحاديث فيصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرا، اتكالا على شفاعة الشافعين، وغرورا بالانتساب إلى الإسلام، واعتقادا بأن ذلك كاف في نيل السعادة في الآخرة، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدّهم في غيهم، ويستدرجهم في غرورهم.
6. قد كان من أثر ترك الصلاة والتهاون في شئون الدين في المدن والقرى، أن فشت الفواحش والمنكرات، وكثرت حانات الخمور، ومواخر الفجور والرقص، وبيوت القمار، وتكالب الناس على جمع المال، لا يبالون أمن حلال جاء أم من حرام، وانقبضت الأيدي عن فعل الخير، وزال التراحم والتعاطف، وقلّت الثقة بين بعض الناس وبعض، واعتدى بعض الزراع على بعض بقلع المزروعات قبل النّضج، وبالسرقة بعده، وبقتل الماشية بالسم أو بالسلاح، وتزعزع الأمن على النفس والمال؛ ولو حافظوا على الصلوات كما أمر الله لانتهوا عن كل هذا بالوازع النفسي، فالصلاة حارس وديدبان يمنع من عمل السوء، فالمحافظ عليها لا يرضى أن يكون من روّاد بيوت القمار ومحالّ اللهو والفسوق، ولا يمنع الماعون، بل يبذل معونته لمن يراه مستحقا لها، ولا يخلف موعدا، ولا ينتقص حقا لغيره، ولا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا يجزع من النوائب، ولا تفلّ عزمه المصائب، ولا تبطره نعمة، ولا تقطع رجاءه نقمة، والمحافظ عليها هو الذي يؤمن شره، ويرجى خيره، ولا غرو فللصلاة يد في الآداب الكاملة، والأخلاق السامية، والاستقامة في السرّ والعلن.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/200.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذا الجو الذي يربط القلوب بالله، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله، يدس حديثا عن الصلاة ـ أكبر عبادات الإسلام ـ ولم ينته بعد من هذه الأحكام، وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة ـ يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة، ومن جنسها، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن، وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر، بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله، والغاية منه طاعة الله.
2. الأمر هنا بالمحافظة على الصلوات، يعني إقامتها في أوقاتها، وإقامتها صحيحة الأركان، مستوفية الشرائط، أما الصلاة الوسطى فلأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا).. وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة، وقد تفوت المصلي.
3. الأمر بالقنوت، الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة، وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة، حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/257.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ الدعوة إلى الصّلاة في هذا المقام استحضار للدعوة الإسلامية كلها، وتذكير بالله، وبجلاله وعظمته ورحمته، وبما يبعث هذا التذكير في نفس المؤمن من استجابة لأوامره، وامتثال لأحكامه، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وأكثر العبادات أثرا في تثبيت مغارس الإيمان، وفى النهى عن الفحشاء والمنكر، كما يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾
2. اختلف في الصلاة الوسطى على وجوه شملت الصلوات الخمس لمفروضة كلها، حيث لم تحددها الآية.. فالصلوات المفروضة خمس، وأي صلاة منها هي وسط بين اثنتين واثنتين! وقالوا في تعليل إشاعة الصلاة الوسطى بين الصلوات الخمس: إن ذلك من أجل أن يحرص المصلّى على الصلوات جميعها، وأن يؤدى كل صلاة منها على أنها الصلاة الوسطى، فيحرص على أدائها جميعها في وقتها، ويستحضر لها مشاعره كلها.
3. أقول إن الصلاة الوسطى هي الصلوات الخمس جميعها، وهى صلاة المسلمين، التي هي وسط بين الصلوات المفروضة على أهل الكتاب، كما أن الشريعة الاسلامية هي الشريعة الوسطى بين الشرائع السماوية، والأمة الإسلامية هي الأمة الوسط بين الأمم.
4. العطف على الصلوات بقوله تعالى ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ هو عطف بيان، والتقدير حافظوا على الصّلوات وهى الصلاة الوسطى، أي الصلاة المحمودة التي رضيها الله لكم على الوجه المفروض عليكم من عدد الركعات، والركوع والسجود.
5. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أي استحضروا وجودكم كله عند الصلاة، وأدوها قياما في خشوع، وخضوع، وسكون!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/286.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد.
2. إذا أبيت ألّا تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين:
أ. أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقا وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنبا فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
ب. الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.
3. ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي: (أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها)، وقال بعضهم: (لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله) وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 239] أي من قوانين المعاملات النظامية.
4. على هذين الوجهين الآخرين تكون جملة ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45] بين جملة ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: 40]، وبين جملة ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 122] وكموقع جملة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153] بين جملة ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة: 150] الآية وبين جملة: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: 154] الآية.
5. ﴿حَافِظُوا﴾ صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها، والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يخشى التفريط فيه، والمراد: الصلوات المفروضة، (وأل) في الصلوات للعهد، وهي الصلوات الخمس المتكررة؛ لأنها التي تطلب المحافظة عليها.
6. ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف وموصوفة بأنها وسطى، فسمعها المسلمون وقرؤوها، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع، فلما تذاكروها بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولا، بالتفريق والجمع، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى، أو من الوصاية بالمحافظة عليها:
أ. فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى: فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] وحديث عائشة: (أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب).
ب. ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط: وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين، لأن ابتداء الأوقات اعتباري، ذهبوا يعينون المبدأ فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضى بأن الوسطى العصر، ومنهم من جعل المبدأ الظهر، لأنها أول صلاة فرضت؛ كما في حديث جبريل في (الموطأ)، فجعل الوسطى: المغرب.
ج. وأما الذين تعلقوا بدليل الوصاية على المحافظة، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس تكثر المثبطات عنها، فقال قوم: هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة، كانوا أهل شغل، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم، وربما كانوا في إكمال أعمالهم، وقال قوم: هي العشاء؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين، وقال بعضهم: هي العصر لأنها وقت شغل وعمل؛ وقال قوم: هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف، ووقت تطلب الدفء في الشتاء.
7. أصح ما في هذا الخلاف: ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان:
أ. أحدهما أنها الصبح، هذا قول جمهور فقهاء المدينة وهو قول عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وعائشة وحفصة وجابر بن عبد الله، وبه قال مالك، وهو عن الشافعي أيضا، لأن الشائع عندهم أنها الصبح، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو قرينة حال.
ب. الثاني: أنها العصر، وهذا قول جمهور من أهل الحديث، وهو قول عبد الله بن مسعود، وروي عن علي أيضا، وهو الأصح عن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، ونسب إلى عائشة وحفصة والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية، ومال إليه ابن حبيب من المالكية، وحجتهم ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال يوم الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق، حتى غربت الشمس فقال: (شغلونا ـ أي المشركون ـ عن الصلاة الوسطى، أضرم الله قبورهم نارا).
8. الأصح من هذين القولين أولهما:
أ. لما في (الموطأ) و(الصحيحين) أن عائشة وحفصة أمرتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر.
ب. وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن، قال تعالى مخصصا لها بالذكر ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] وفي الصحيح أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون عند صلاة الصبح، وتوسطها بالمعنى الحقيقي ظاهر، لأن وقتها بين الليل والنهار، فالظهر والعصر نهاريتان، والمغرب والعشاء ليليتان، والصبح وقت متردد بين الوقتين، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار فشرع فيها الإسرار، وفريضته معاملة فرائض الليل فشرع فيها الجهر.
ج. ومن جهة الوصاية بالمحافظة عليها، هي أجدر الصلوات بذلك لأنها الصلاة التي تكثر المثبطات عنها، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول.
9. من الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات، وهذا قول باطل؛ لأن الله تعالى عرّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة، هذا خلاصة ما يعرض هنا في تفسير الآية.
10. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أمر بالقيام في الصلاة بخضوع، فالقيام الوقوف، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر، وأما القنوت: فهو الخضوع والخشوع قال تعالى: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: 12] وقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا﴾ [النحل: 120] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أو في صلاة المغرب، على خلاف بينهم، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع، وفي الصحيح عن ابن مسعود (كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: إن في الصلاة لشغلا)، وعن زيد بن أرقم: كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، فليس ﴿قَانِتِينَ﴾ هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتا استرواحا من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس (دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهرا وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت).
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/444.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ توسطت الآيات التي تبين أحكام الأسرة، وعلاقات الزوجين عند الافتراق بالطلاق، أو عند التفريق بينهما بالموت ـ آيتان كريمتان تدعوان إلى الصلاة والمحافظة عليها، والإتيان بها على وجهها الكامل: من قنوت لله، وخضوع له، وخشوع وابتهال وضراعة؛ ولذلك التوسط مغزاه ومرماه؛ ذلك بأن الله سبحانه وتعالى دعا إلى العفو والتسامح، وعدم نسيان الفضل عند الافتراق، ومنع المشاحنة والمنازعة حيث تتوقعان؛ ولقد بيّن سبحانه بعد ذلك ما يربى في النفس نزوع التسامح، والبعد عن التجافي وهو ذكر الله سبحانه وتعالى، والإحساس بالخضوع له والانصراف إليه، ومحبته وطلب رضاه؛ فإن من يحب الله ورضوانه يحب الناس ولا ينازعهم؛ لأن الله سبحانه رب الناس وخالق الناس، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء، والمحبة في الله والبغض في الله ركن الإيمان، ولا يكون ذلك كله إلا بالقيام بالصلاة وأدائها على وجهها؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت]، وإن أداء الصلاة على وجهها والقيام بحقها ليس أمرا صغيرا، بل إنه أمر كبير خطير، له نتائجه العليا في الاتجاه بالنفس الإنسانية نحو السمو والتعالي عن متنازع الأهواء في هذه الحياة؛ ولذلك قال تعالى في الاستعانة على التغلب على الأهواء في حياتنا الدنيا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة].
2. سؤال وإشكال: أفما كان الأولى أن تذكر آيات الصلاة بعد بيان أحكام الأسرة كلها؟ والجواب: إن الحق الذي لا ريب فيه هو فيما سلكه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كتاب الله ليس مؤلفا ينهج مناهج التأليف من حيث التبويب والتقسيم، بل إن كتاب الله تعالى كتاب عظة واعتبار، وبيان شرع، وإرشاد، ولترتيب منهاجه وحده، ولا يضارعه كتاب فيه، فهو يتتبع في ترتيبه تداعى المعاني في النفس، وتواردها على الفكر، ويأتي بالحكم حيث تتطلع النفوس إليه، فيملؤها ببيانه الرائع، وحكمه الخالد، ولا شك أن العقل البشرى يتطلع ويستفهم كيف يمكن تذكر الفضل في وقت تلك الفرقة التي في أغلب أحوالها تكون نتيجة للبغض الشديد، وكيف يكون التسامح والعفو في موطن تحكم البغض؛ فأجاب الله سبحانه داعية العقل، وتطلع الفكر، بأن الصلاة على وجهها حيث يخاطب العبد ربه، وينصرف إليه خاشعا ضارعا محسا بعظمته وتجليه، ومتجها إليه سبحانه في علو سلطانه؛ إن ذلك كله هو الذي يعلو بالنفس عن شهواتها، ويصعد بها في سموها؛ تعالت كلمات الله العلى القدير، وتسامت حكمة العليم الخبير.
3. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ الصلوات جمع صلاة، والصلاة لها معنى إسلامي، وهى تلك الهيئة المعروفة، ومعنى آخر وهو الدعاء والتسبيح؛ والمراد هنا المعنى الإسلامي، وهذا أمر صريح بالمحافظة على الصلاة؛ وحفظ الصلاة معناه: المداومة عليها، والاستمرار على أدائها، وعدم التهاون في ركن من أركانها فالمحافظة على الصلاة تقتضى لا محالة أمرين:
أ. أولهما: أداؤها باستمرار في أوقاتها من غير تخلف ولا تفريط، وهذا هو الحد الأدنى من المحافظة.
ب. ثانيهما: هو الإتيان بها كاملة الأركان مستوفية للشروط، تشترك فيها النفس مع حركات الجسم، ويشترك فيها القلب مع حركات الجوارح وما ينطق به اللسان؛ فإن قال في صلاته: (الله أكبر) أحس بجلال الألوهية، وعظم الربوبية، وأخلص قلبه للعبودية؛ وإذا قال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ استشعر معانى الشكر والثناء على ذات الله العلية بما هو في طاقة العبد الأرضية؛ وهكذا في كل ما ينطق به، وفى كل ما يعمل من ركوع وسجود، حتى إنه لا ينته من صلاته إلا وقد صار كله لله، وامتلأت نفسه بهيبته، وقلبه بعظمته، وعقله بنوره؛ وبذلك يتحقق المعنى السامي في الصلاة، وهو نهيها عن الفحشاء والمنكرات، والتسامي بصاحبها عن متنازع الأهواء.
4. سؤال وإشكال: الله سبحانه وتعالى عبر عن إقامة الصلاة المطلوبة بالمحافظة عليها فلم عدل عن التعبير بإقامة الصلاة إلى التعبير بالمحافظة؟ ولما ذا قال سبحانه وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ ولم يقل: احفظوا الصلوات؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن المحافظة أو الحفظ تتضمن مع الأداء والإقامة معنى الصيانة والحياطة، فهي فوق ما تدل عليه من طلب الإقامة على وجهها، تدل على أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس عزيز تجب حياطته وصيانته، وأن من نال فضل الصلاة فقد نال أمرا عظيما وخطيرا، وقيّما في ذات نفسه.
ب. الثاني: وهو التعبير بالمحافظة بدل الحفظ ـ فهو: أن التعبير بالمحافظة يدل على المداومة، والاستمرار؛ ولأن الأصل فيه أنه يكون للأفعال التي تكون من جانبين مشتركين، لأنه من مادة المفاعلة التي تدل على المشاركة، وقد تتضمن المنازعة أو المقابلة؛ والمداومة على الصلاة فيها هذا المعنى الجليل، وقد وضحه الراغب الأصفهاني بقوله في المفردات: (إنهم يحفظون الصلاة بمراعاتها في أوقاتها ومراعاة أركانها والقيام بها في غاية ما يكون من الطوق، وإن الصلاة تحفظهم الحفظ الذي نبه الله سبحانه وتعالى عليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت] فالمشاركة في الحفظ بين الصلاة وبين من يؤديها: يحفظها هو بأدائها على الوجه الأكمل وتحفظه هي نفسه بإبعاده عن السوء)، وقد قيل إن المحافظة بين العبد والرب؛ العبد يحفظ الصلاة ويصونها ويؤديها على وجهها، والرب يحفظه ويصونه عن المعاصي وهذا في معنى الأول أو قريب منه.
5. يصح أن يكون معنى المحافظة هو المداومة عليها بمغالبة دواعي التفريط مما توسوس به النفس في الطاعات؛ فصيغة المحافظة ليست للدلالة على المشاركة في الحفظ، بل تدل على المغالبة في سبيله، كالمصابرة؛ وذلك لأن من يديم الصلاة مقيما لها على وجهها تقاومه نوازع النفس الأمارة بالسوء، وإن ذلك يقتضى مغالبة نفسية، فكان التعبير بالمحافظة دالا على ذلك أو مشيرا إليه، وإلى هذا المعنى أشار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما رواه عنه السيد رشيد رضا من تفسير.
6. لقد قال سبحانه بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عامة: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ في التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين اتجاهان واضحان:
أ. أحدهما: اتجاه الجمهور وهو أن الصلاة الوسطى واحدة من الخمس الصلوات المفروضة وإن اختلفوا في تعيينها؛ وكثرتهم على أنها صلاة العصر؛ لوصف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم الصلاة العصر بأنها الوسطى؛ ولأنها تقع في وسط الصلوات الخمس؛ فقبلها اثنتان وبعدها اثنتان؛ ولأنها وسط بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، فمعنى التوسط فيها واضح؛ وخصت بالمحافظة عليها، لأنها مظنة التفريط، إذ تجيء بعد القيلولة، فيكون كسل، فخصت بالذكر لهذا المعنى لا لأنها أفضل من غيرها، فجميعها قربات تزكى النفس وتطهر القلب.
ب. الثاني: وليس عليه الجمهور من التابعين ـ أن المراد بالصلاة الوسطى الصلاة كلها، والوسطى ليس معناها المتوسطة، بل الوسطى معناها الفضلى؛ وذلك لأن الوسطى مؤنث أوسط، والأوسط في أكثر استعمال القرآن الأمثل والأفضل؛ ولذا قال سبحانه: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم]، والمعنى على ذلك الاتجاه: حافظوا على الصلوات كلها بالمداومة عليها، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها من النوع الأمثل الفاضل بإقامة الأركان خاشعين متبتلين خاضعين منصرفين في أدائها عن كل شئون الدنيا متجهين إلى رب العالمين دون سواه، وهنا يرد سؤال: لماذا جمع الصلوات في الأول، وأفرد الصلاة في الثاني؟ والجواب عن ذلك أن المراد من الصلوات في الأول الفرائض الخمس بأعيانها، والمعنى في الصلاة في الثاني هو الفعل، فكان المؤدى: داوموا على الصلوات وأن تكون صلاتكم كلها من النوع الأمثل الفاضل، وقد روى هذا الاتجاه عن عبد الله بن عمر، وعن معاذ بن جبل، وقد اختار ذلك الاتجاه الحافظ أبو عمر بن عبد البر إمام الأندلس في الحفظ والآثار، وإنا نميل إلى ذلك، وخصوصا أن الروايات في كونها صلاة معينة من الخمس متضاربة، فقيل العصر، وقيل الظهر، وقيل الصبح، وقيل الجمعة، وقيل الظهر والعصر، وقيل الصبح والعصر؛ وإزاء ذلك نميل إلى ما اختاره ابن عبد البر، وهو الثقة الثبت في الحفظ ونقد المتن والرجال.
7. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ القنوت في معناه المداومة على الفعل، وقد خصه القرآن الكريم بمعنى الدوام على الطاعة والملازمة لها وأدائها على وجهها؛ ومن ذلك قوله تعالى في وصف نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا﴾ [النحل] وقال سبحانه مخاطبا نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ﴾ [الأحزاب] وقال في وصف المؤمنين والمؤمنات: ﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾ [الأحزاب].
8. القنوت على هذا المعنى الإسلامي الرائع: ملازمة الطاعة والقيام بالعبادة في خشوع ضارع، وانصراف كامل، وشعور بالعبودية الحقة لله رب العالمين؛ فمعنى قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ قوموا بعبادتكم على وجهها الكامل ملازمين للخضوع والخشوع، غير مفرطين، ولا منصرفين عن رب العالمين، مستشعرين عظمته، قد ملأت قلوبكم هيبته، ونرى من هذا أن قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ يزكى ما اختاره ابن عبد البر ويقويه، وهو أن معنى الصلاة الوسطى، الصلاة الفضلى والمثلى، وهى التي تؤدى على الوجه الأكمل.
9. لهذا المعنى السامي في الصلاة، كانت أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله، فإن كانت (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي الفارق بين الإسلام والكفر، فالصلاة ثمرتها الأولى، والدعامة من بعد ذلك لكل الطاعات والفرائض؛ بها إن أديت على وجهها تستعصم النفس عند الشهوات، وبها إن أديت على وجهها يلتزم العبد ما أمر الله، وينته عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، وبها يكون التعامل الفاضل بين الناس بعضهم مع بعض؛ لأنها ذكر دائم لله سبحانه وتعالى، فتمتلئ النفس البشرية بعظمة الله، وتستنير البصيرة، ويتجه المؤمن إلى الخير؛ ولقد قال بعض العلماء إن ترك الصلاة كفر وروى أبو داوود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال عندما ذكر الصلاة: (من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبى بن خلف)
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/837.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها تكون بتأديتها في أوقاتها وعلى وجهها، ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، ذكرها سبحانه بالخصوص بعد العموم للتنبيه الى أهميتها، كأهمية جبريل وميكال بين الملائكة، حيث خصهما بالذكر بعد أن جمعهما مع سائر الملائكة في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾
2. اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى: ما هي؟، وتعددت الأقوال فيها الى ثمانية عشر قولا، كما نقل عن نيل الأوطار.. والأكثر الأشهر على انها صلاة العصر، وفي ذلك رواية.. وقيل: انها سميت الوسطى لأنها بين صلاتي الليل، وهما المغرب والعشاء، وصلاتي النهار، وهما الصبح والظهر، أما سبب تخصيصها بالذكر فلأنها تقع وقت اشتغال الناس في الغالب.
3. نقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه قال: لولا الإجماع على تفسير الوسطى بالواحدة من الخمس، لا الخمس بكاملها لفسرها بجميع الصلوات دون استثناء، وان المراد بالوسطى الفضلى مؤنثة الأفضل من الفضل والفضيلة، لا المتوسطة مؤنثة الأوسط بين شيئين، وان الله سبحانه حث واهتم بالصلاة الفضلى، وهي التي يحضر فيها القلب، وتتجه بها النفس خالصة الى الله وذكره وتدبر كلامه، لا صلاة المرائين أو الغافلين، وهذا أحسن ما قرأته في تفسير هذه الآية، ويؤيده قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
4. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾، أي داعين الله في صلاتكم بخشوع مستشعرين هيبته وعظمته، منصرفين عما يشغل القلب عن التوجه اليه سبحانه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/367.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ إلى آخر الآية، حفظ الشيء ضبطه وهو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنث الأوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنما تفسيره السنة، وسيجيء ما ورد من الروايات في تعيينه.
2. اللام في قوله تعالى: {قُومُوا لِلَّهِ}، للغاية والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ﴾، فمحصل المعنى: تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولأجله.
3. في الكافي، والفقيه، وتفسير العياشي، والقمي،: في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ الآية ـ بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليه السلام: أن الصلاة الوسطى هي الظهر.. هذا هو المأثور عن أئمة أهل البيت في الروايات المروية عنهم لسانا واحدا، نعم في بعضها أنها الجمعة إلا أن المستفاد منها أنهم أخذوا الظهر والجمعة نوعا واحدا لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي، وتفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام واللفظ لما في الكافي: قال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، وهي صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر، قال ونزلت هذه الآية ورسول الله في سفره، فقنت فيها رسول الله وتركها على حالها في السفر والحضر ـ وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة ـ للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام ـ فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة ـ فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام، الحديث، والرواية كما ترى تعد الظهر والجمعة صلاة واحدة وتحكم بأنها هي الصلاة الوسطى ولكن معظم الروايات مقطوعة، وما كان منها مسندا فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي، وهي مع ذلك غير واضحة الانطباق على الآية، والله العالم.
4. في الدر المنثور: أخرج أحمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشي والضياء من طريق الزبرقان: أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت ـ وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم ـ يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير ـ فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهن.. أقول: وروي هذا السبب عن زيد بن ثابت وغيره بطرق أخرى.
5. الأقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم: فقيل إنها صلاة الصبح ورووه عن علي عليه السلام وبعض الصحابة، وقيل: إنها صلاة الظهر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقيل: إنها صلاة العصر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقد روى السيوطي في الدر المنثور، فيه بضعا وخمسين رواية، وقيل: إنها صلاة المغرب، وقيل إنها مخفية بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي، وروي فيهما روايات عن الصحابة، وقيل: إنها صلاة العشاء وقيل: إنها الجمعة.
6. في المجمع، في قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾، قال: هو الدعاء في الصلاة حال القيام، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام، وروي ذلك عن بعض الصحابة، وفي تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام: في الآية: إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها ـ حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء.. ولا منافاة بين الروايتين وهو ظاهر.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/247.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ وهي الخمس: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والمحافظة عليها: إقامتها في أوقاتها بكل حال؛ لا تترك لشغل، ولا لنوم، ولا لمرض، ولا لسفر، ولا لخوف.
2. سؤال وإشكال: كيف قلت: ولا نوم، وقد جاء في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة؛ وذكر من الثلاثة؛ النائم حتى يستيقظ)؟ والجواب: أن الذي يسهر اختياراً ثم ينام عند الفجر وهو يعلم أنه لا يستيقظ في وقت الفجر، يكون غير محافظ عليها؛ لأنه يستطيع أن ينام في النصف الأول من الليل ليستيقظ، وهذه عُدَّةُ من أراد الصلاة؛ والله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ [التوبة:46] فلم يعذر من فقد العدة وقت الخروج لأنه كان متمكناً من إعدادها من قبل، فإذا أمرنا أن نحافظ على الصلاة فذلك يلزم منه إعداد العدة لها.
3. سؤال وإشكال: فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم نام فلم يستيقظ إلا من حر الشمس هو وأصحابه فصلوا الفجر بعد الشروق؛ وسبب ذلك التعب وتأخر النوم؟ والجواب: إن في الحديث أنّه قال: (مَن يكلؤُنا الليلة) فقال رجل: أنا يا رسول الله، فبات الرجل مرة قاعداً، ومرة قائماً، حتى غلبه النوم؛ فكان سبب تأخير الصلاة هو نوم الكالئ؛ لأنه لو لم ينم لنبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومن معه فلا تفريط، وكذلك لو أن رجلاً سهر واتخذ وسيلة ليستيقظ بها في وقت الفجر؛ كأن يطلب ممن يستيقظ أن يوقظه، ويثق به أنه يوقظه، فينام فينسى من وثق به أو ينام فهذا لا تفريط منه ولا إخلال بالمحافظة.
4. سؤال وإشكال: أنه غير مكلف بصلاة الفجر قبل دخول وقتها؟ والجواب: أما التكليف فإنه فقد كُلِّف من حين حمل عقله، وأما الصلاة قبل وقتها فلم يكلف أن يصلي قبل الوقت، لكنه قد كلف أن يصلي في الوقت، فليس له أن ينام على صفة تفوته الصلاة متعمداً لأنه مكلف قبل النوم، وإن لم يكن مكلفاً حال النوم، ألا ترى أن الذي ينام في الدار المغصوبة آثم بنفس بقائه فيها حال النوم، لأنه تعمده قبل النوم، وإن لم يكن مكلفا حال النوم، وسبب إثمه أنه مكلف قبل النوم أن لا ينام فيها.
5. ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ الفضلى؛ قال تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ [القلم:28] واختلف فيها أيّ الصلوات هي؟ وقد روى الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): عن علي عليه السلام: (أنها الجمعة في يومها، والظهر في سائر الأيام) ويؤكد هذا أن الله خص الجمعة بالحث عليها في (سورة الجمعة).
6. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أي قوموا في الصلوات لله، فالقيام منها؛ ولا تتم إلا به في حق من أمكنه القيام، وقوله تعالى: ﴿قَانِتِينَ﴾ حال، والقنوت استعمل في القرآن في مواضع يجمعها الخضوع، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ الآية [الزمر:9] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ﴾ [الأحزاب:31] وقال تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ﴾ [النساء:34] وقال تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران:17] وقال تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ﴾ [التحريم:5]، قال الشرفي في (المصابيح): (قال الهادي عليه السلام: القانتون: فهم الداعون إلى الله، المسلمون لأمر الله، القائمون بحكم الله)
7. لعل كلام الإمام الهادي عليه السلام وقع في تفسير (آية آل عمران) وهو يعني: أن الخضوع لله ليس معناه الانشغال بالذكر والصلوات النوافل، بل منه: القيام بحكم الله، والجهاد في سبيله؛ فهو أعظم الخضوع لله، وقد جعل (صاحب القاموس) من معاني (القنوت) التواضع لله، وهو مناسب للخضوع، وقال في (اللسان) بعد ذكر معانٍ مختلفة: (وقنت له؛ ذَلّ) قال في (لسان العرب) أيضاً: (وفي التنزيل: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام؛ فأمسكنا عن الكلام، فالقنوت هاهنا: الإمساك عن الكلام في الصلاة)، يمكن أن زيد بن أرقم فهمه من الخضوع لله كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (إن في الصلاة لشغلاً) فهو يعني: أن الخاضع لله في صلاته ينشغل بذلك عن كلام الناس، وعلى هذا تكون تسمية الدعاء قنوتاً لأن فيه خضوعاً لله زائداً، قال في (اللسان): (ويرد بمعانٍ متعددة: كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه)، الراجح: أنه مشترك معنوي، وأنما ذكروه إنما هو قنوت حيث يكون خضوعاً، ألا ترى أن القيام لغير العبادة لا يسمى قنوتاً، لأنهم إنما أرادوا القيام في الصلاة؛ ولذلك قال في (اللسان): (والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت: أنه القائم بأمر الله، فالداعي إذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت، لأنه ذاكر لله وهو قائم على رجليه، فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله عز وجل في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين فهو قيامٌ بالشيء بالنية، ابن سيدة: والقانت: القائم بجميع أمر الله)، فظهر: أنهم أرادوا قيام الطاعة لا مجرد القيام، فالمعاني مشتركة في الخضوع، وظهر من قول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ [الزمر:9] أن القيام ليس من مفهوم القنوت؛ ولذلك صح في حال السجود، فظهر أنه الخضوع، وهو معنى قول (صاحب القاموس): (قنت لله: تواضع له) وقول (صاحب اللسان): (قنت له: ذلَّ)، والتعبير بـ (الخضوع) أحسن من التعبير بـ (التواضع) هذا والقيام هو الانتصاب مع البقاء في مكان واحد أي الوقوف، فلا تصح الصلاة مع المشي إلا في حال الضرورة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/356.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخرج أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو داوود، والبيهقي، وابن جرير الطبري، عن زيد بن ثابت (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فنزلت: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾)، وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر، وأخرج أحمد، والنسائي، وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت (أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لينتهين رجال أو لأحرقنّ بيوتهم)، وفي روايته ـ كما في المجمع ـ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (لقد هممت أن أحرق على قوم ـ لا يشهدون الصلاة ـ بيوتهم)
2. نلاحظ تعليقا على هذه الرواية، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يؤكد على حضور صلاة الجماعة، حتى في الحالات التي يكون الحضور فيها ثقيلا على المصلين لشدة الحر أو لانشغالهم عنها بأعمالهم وتجاراتهم، بحيث يتمثل هذا التأكيد في تهديد المتخلفين بإحراق بيوتهم عليهم.
3. نستفيد من ذلك قيمة صلاة الجماعة في الإسلام وأثرها في حياة المسلمين، فإن الإسلام يعطي أهمية للجانب الاجتماعي في الواقع الإسلامي، ليتشاوروا بينهم في كل أمورهم، وليتعاونوا على البر والتقوى، وليتحركوا في خط الجهاد في سبيل الله، فذلك ما يمنحهم صفة (المجتمع الإسلامي) في مرحلة، و(الأمة الإسلامية) في مرحلة أخرى.
4. قد تكون صلاة الجماعة من أقوى المناسبات التي تحقق هذا الهدف، وتؤكد هذا العنوان، وتقوي هذه الروح، لأنها تجسد الاجتماع بين المسلمين أمام الله في الأجواء الروحية، التي توحي بها الصلاة التي أراد الله لها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن تكون معراج المؤمن ـ بروحه ـ إلى الله، وبذلك يتحسس المسلمون الجانب الاجتماعي في دينهم من خلال الله في مضمون صلاتهم، كما يتمثلون في نظام الإمامة في الصلاة والمأمومين فيها معنى القيادة التي لا بد للمسلمين من أن يطيعوها، فيتحركون عندما تتحرك ويقفون عندما تقف، كما تتمثل القيادة معنى أتباعها لتحفظ لهم أوضاعهم، فلا يطيل الإمام صلاته رحمة بالمأمومين.
5. هذا ما ينبغي للمسلمين أن يحافظوا عليه في جميع صلواتهم، لأنه هو الذي يمثل الإيحاء اليومي الدائم بالمعنى العميق للرابطة الاجتماعية بينهم، ويدفعهم إلى الاستفادة من هذه المناسبة العفوية العبادية للتشاور في أمورهم، وللتعاون في ما بينهم، في ما يتصل بقضاياهم العامة أو الخاصة، وليستمعوا إلى الإمام الواعي للإسلام وللواقع بما يحدثهم عن مشاكل الواقع الإسلامي وأخطاره، ليكون لهم وعي المسؤولية في ذلك، وربما كان هذا هو السر في زيادة ثواب صلاة الجماعة على صلاة الفرادى، حتى ورد في بعض الأحاديث: أنها إذا زاد المصلون فيها على العشرة، لا يحصي ثوابها إلا الله.
6. ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ إن في الآية دعوة إلى المحافظة على الصلاة بشكل عام، وذلك بالقيام بأدائها في أوقاتها، وأكد الله على ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ للدلالة على أهميتها في حساب القرب إلى الله والدخول في رحمته، واختلف في تعيينها بين المفسرين، فقيل: إنها صلاة الظهر باعتبار أنها في وسط النهار كما أنها واقعة بين صلاتين في النهار، وهما الصبح والعصر، كما هو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام في ما رووه عن صلاة رسول الله، ورواه جماعة عن زيد بن ثابت كما عن تفسير الدر المنثور، وقيل: إنها صلاة الصبح لتوسطها بين الليل والنهار، أو بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل، وقيل: إنها صلاة العصر، للسبب نفسه في صلاة الصبح، وقيل: إنها صلاة المغرب، كما قيل: إنها صلاة العشاء.. وقيل: إن الله أخفاها كما أخفى ليلة القدر، ليهتم الناس بها، وربما ذكر أنها الجمعة.. والخلاف يرجع إلى الخلاف في الروايات، أو في الاجتهاد في تطبيق المعنى اللغوي على المناسبات الواقعية للتسمية.
7. ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ القنوت في اللغة هو الدعاء، أو مطلق العبادة في حال القيام، وربما يطلق على مطلق الطاعة، وقد روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام، أن المراد به ـ هنا ـ الدعاء في الصلاة حال القيام وهي دعوة للمؤمنين بأن يكون قيامهم، في حياتهم، لله لا لغيره، لتكون حياتهم في كل منطلقاتها ومعطياتها لله سبحانه، بحيث يتحركون في خط الله ولأجله في كل أعمالهم وأقوالهم، وأن يداوموا على الطاعة في صلاتهم وفي دعائهم وفي كل مواقع الطاعة، في كل قضايا الحياة التي يتعلق بها حكم لله من حرام أو واجب، وجاء عن زيد بن أسلم قال كنا نتكلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/357.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تذرّع جمع من المنافقين بحرارة الجو لإلقاء التفرقة في صفوف المسلمين، فلم يكونوا يشتركون في صلاة الجماعة، فتبعهم آخرون وأخذوا يتخلّفون عن صلاة الجماعة، فقلّ بذلك عدة المصلّين، فتألّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لذلك كثيرا حتّى أنّه هدّدهم بعقاب أليم، وفي حديث عن زيد بن ثابت قال إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يؤدّي صلاة الظهر جماعة والحرّ على أشدّه ممّا كان يثقل على أصحابه كثيرا بحيث أنّ صلاة الجماعة أحيانا لم تتجاوز صفا واحدا أو صفّين، فهنا هدّد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هؤلاء المنافقين ومن لم يشترك صلاة الجماعة بإحراق منازلهم، فنزلت الآية الكريمة وبيّنت أهميّة صلاة الظهر جماعة بصورة مؤكّدة، وهذا التأكيد يدلّ على أنّ مسألة عدم المشاركة في صلاة الجماعة لم تكن بسبب حرارة الجو فقط، بل أنّ جماعة أرادوا تضعيف الإسلام بهذه الذّريعة وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين بحيث دعي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أن يتّخذ مثل ذلك الموقف الحازم من هؤلاء.
2. بما أن الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، وإذا أقيمت على وجهها الصحيح ملأت القلب بحبّ الله واستطاع الإنسان بتأثير أنوارها أن يتجنّب الذنوب والتلوّث بالمعصية، لذلك ورد التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾، فلا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذا الأمر المهم بحجّة البرد والحرّ ومشكلات الحياة ودوافع الزوجة والأولاد والأموال.
3. ذكر المفسّرون معان مختلفة للمراد من الصلاة الوسطى، وذكر صاحب تفسير مجمع البيان ستّة أقوال، والفخر الرّازي ذكر في تفسيره سبعة أقوال، وبلغ بها القرطبي في تفسيره إلى عشرة أقوال، أمّا تفسير روح المعاني فذكر لها ثلاثة عشر قولا، فالبعض يرى أنّها صلاة الظهر، وآخر صلاة العصر، وبعض صلاة المغرب، وبعض صلاة العشاء، وبعض صلاة الصبح، وبعض صلاة الجمعة، وبعض صلاة اللّيل أو خصوص صلاة الوتر، وذكروا لكلّ واحد من هذه الأقوال أدلّة وتوجيهات مختلفة، ولكنّ القرائن المختلفة المتوفّرة تثبت أنّها صلاة الظهر، لأنّها فضلا عن كونها تقع في وسط النّهار، فإنّ سبب نزول هذه الآية يدلّ على أنّ المقصود بالصّلاة الوسطى هو صلاة الظهر التي كان الناس يتخلّفون عنها لحرارة الجو، كما أنّ هناك روايات كثيرة تصرّح بأنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظّهر، والتأكيد على هذه الصّلاة كان بسبب حرارة الجو في الصّيف، أو بسبب انشغال الناس في امور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهميّة، فنزلت الآية آنفة الذكر تبيّن أهميّة صلاة الوسطى ولزوم المحافظة عليها.
4. ﴿قَانِتِينَ﴾ من مادّة (قنوت) وتأتي بمعنيين: الطاعة والإتّباع.. والخضوع والخشوع والتّواضع.. ولا يبعد أن يكون المعنيان مرادين في هذه الآية، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير الآية ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ قال: (إقبال الرّجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء).
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/194.
111. صلاة الخوف
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈111⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى:﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 239]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، يعني: كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته، والراجل على رجليه(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٠.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥١.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه، فذلك قوله تعالى: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٤/٣٨٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ إذا طردت الخيل فأومئ إيماء(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٢/٤٦٦.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان وجهه، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع، فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا؛ هذا في المطاردة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومئ إيماء(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٢/٤٦٠.
(2) سفيان الثوري في تفسيره: ص٨٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ ذلك عند القتال، يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا، إذا كان يطلب، أو يطلبه سبع، فليصل ركعة يومئ إيماء، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ رخص لهم أن يصلوا وهم يقاتلون، ركعتين أينما توجه، يومئ إيماء إن لم يقدر على الركوع والسجود(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٨٧.
(2) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ هذا في العدو، يصلي الراكب والماشي يومئون إيماء حيث كان وجوههم، والركعة الواحدة تجزئك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة(2).
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(2) ابن جرير: ٤/٣٩٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومئ إيماء(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ ركعة وأنت تمشي، وأنت يوضع بك بعيرك، ويركض بك فرسك، على أي جهة كان(2).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٨٧.
(2) ابن جرير: ٤/٣٨٨.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ ذلك في الموقف، وهم مصافو العدو، ركعة وسجدتين، يومئ برأسه إيماء(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن صلاة الموافقة، فقال: (فإذا لم يكن النصف من عدوك صليت إيماء، راجلا كنت أو راكبا، فإن الله يقول: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ تقول في الركوع: لك ركعت وأنت ربي، وفي السجود: لك سجدت وأنت ربي، أينما توجهت بك دابتك، غير أنك توجه حين تكبر أول تكبيرة)(1).
2. روي أنّه قال: ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير، ولا على المكاري والجمال(2).
3. روي أنّه قال: الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء(3).
4. روي أنّه قال: رجل صلى في السفر أربعا، أيعيد أم لا؟ فقال: إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه(4).
5. روي أنّه سئل: ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101]، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر.. قيل: إنما قال الله عز وجل: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح﴾ [النساء: 101] ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك؟ فقال: أو ليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: 158] ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وذكر الله في كتابه(5).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/128.
(2) الكافي: 3/437/2.
(3) التهذيب: 2/14/34.
(4) التهذيب: 3/226/571.
(5) من لا يحضره الفقيه: 1/278/1266.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 239] كيف يصلي، وما يقول إذا خاف من سبع أو لص، كيف يصلي؟ قال (يكبر ويومئ إيماء برأسه)(1).
2. روي أنّه قال: (فات الإمام علي والناس يوما بصفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأمرهم الإمام علي أن يسبحوا ويكبروا ويهللوا، وقال: قال الله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ فأمرهم علي فصنعوا ذلك ركبانا ورجالا)(2).
3. روي أنّه سئل عن قول الله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ كيف يفعل، وما يقول، ومن يخاف سبعا أو لصا، كيف يصلي؟ قال (يكبر ويومئ إيماء برأسه)(2).
4. روي أنّه قال في صلاة الزحف: (يكبر ويهلل يقول: الله أكبر، يقول الله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾)(3).
5. روي أنّه قال: سافر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، إلى ذي خشب وهو مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلا، فقصر وأفطر فصار سنة(4).
__________
(1) الكافي: 3/457.
(2) تفسير العيّاشي: 1/128.
(3) تفسير العيّاشي: 1/129.
(4) من لا يحضره الفقيه: 1/278/1266.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من العدو(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ صلوا كما علمكم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ٢/٤٥٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ يقول: فصلوا لله: ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/٢٠١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾: فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم، إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٩٠.
ابن وهب:
روي عن عبد الله بن وهب (ت 197 هـ) أنّه قال: قال مالك بن أنس ـ وسألته عن قول الله: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ ـ قال راكبا وماشيا، ولو كانت إنما عنى بها: الناس، لم يأت إلا رجالا، وانقطعت الآية، إنما هي: رجال مشاة، وقرأ: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] قال يأتون مشاة وركبانا(1).
__________
(1) ابن جرير: ٤/٣٩٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ ليس فيه أن ذلك في الصلاة، لكنهم صرفوا إليها ذلك؛ لأنه ذكر على أثر ذلك الصلاة، ثم اختلف فيه، قالوا: ﴿رُكْبَانًا﴾ على الدواب، حيثما توجهت بهم الدواب يصلون عليها في حال السير والوقوف، وعلى ذلك جاءت الآثار من فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وفعل الصحابة في النوافل، فتكون الفرائض عند العذر به مرادة بالآية، بل على ما ظهر فعل النوافل في غيره بالسنة.
2. أما قوله تعالى: ﴿فَرِجَالًا﴾ فمما اختلف فيه: قال ما يكون ﴿فَرِجَالًا﴾ فمشاة، وهو من الرجل وترجّل: مشى راجلا، وأما عندنا(2): فهو على المعروف من الصلاة على الأرجل والأقدام قياما وقعودا، لا يزال عن الظاهر، والمعروف الذي عرف الفعل به على ما عرف من الصلاة على الأرجل.
3. ﴿رُكْبَانًا﴾ على ما عرف عن الركوب، وهو في حال السير، ولم نر الصلاة تقوم مع المشي فيها.
4. سؤال وإشكال: صلاة الخوف فيها مشى، فقامت، والجواب: إن المشي ليس في فعل الصلاة؛ لأنهم في الوقت الذي يمشون لا يفعلون فعل الصلاة، وهو كما يقال: إن الصلاة لا تقوم مع الحدث، فإذا أحدث فيها فذهب ليتوضأ، ليس هو في وقت الحدث مصليا، وإن بقى في حكم الصلاة، فعلى ذلك المشي في صلاة، ليس هو في فعل الصلاة، وإن كان باقيا على حكم الصلاة.
5. قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: قوله ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ وقوله ﴿فَاذْكُرُوا﴾ يحتمل: أن يصرف إلى الصلاة، أي صلوا كما علمكم أن تصلوا في حال الأمر.
ب. ويحتمل: أن يصرف إلى غيره من الأذكار، كقوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45].
ج. ويحتمل: أن يصرف إلى الشكر، أي اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واشكروها بي، كقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، وفى قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [الفلق: 5]، وقوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: 2]، و﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ دليل أن الله تعالى صنع في فعل العباد حيث أضاف التعليم إلى نفسه، وهو أن خلق فعل التعليم منه؛ إذ لو لم يكن منه فيه صنع لكان أضيف ذلك المعلم دون البيان؛ فدل إضافته إليه على أن له فيه فعلا، نعوذ بالله من السرف في القول والزيغ عن الهدى، وفي قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ أي صلوا له كما علمكم من الصلاة في حال الأمن، إذ معلوم تقدم الأمر بالصلاة وتعليم حدودها، ﴿وَقُومُوا﴾ في الرخصة في التخفيف بحال العذر.
د. ويحتمل: اذكروا الله بشكر أنما أمنكم كما علمكم من الشكر له في النعم، وأي ذلك كان فهو الذي علمهم، وكذلك في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 4]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ [يس: 69]، إليه على وجود الأسباب من الله تعالى له في الأمرين على أن كان من الله تعالى في أحد الأمرين ما ليس منه في الآخر، ومعنى الأسباب فيهما واحد؛ ثبت أنه على خلق فعل التعليم ونفيه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/214.
(2) يقصد الحنفية.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ الرجال جمع راجل والركبان جمع راكب مثل قائم وقيام، يعني فإن خفتم من عدوكم فصلوا على أرجلكم وركابكم وقوفاً ومشاة إلى قبلة وغير قبلة مؤتماً أو غير مؤتم على حسب قدرته فإن كان الخوف في السفر والفرض ركعتان مما نقص منه وإن كان في الحضر فالصلاة تامة وليس على من صلى على الوجه الذي ذكرنا الإعادة مع خروج الوقت فإن بقي الوقت استحبت الإعادة.
2. ثم قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي إذا أمنتم فصلوا الصلاة على شروطها وأحيانها كما علمكم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/118.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ الرجال جمع راجل، والركبان جمع راكب، مثل قائم وقيام، يعني فإن خفتم من عدوّكم، فصلوا على أرجلكم أو ركائبكم، وقوفا ومشاة، إلى القبلة وغير القبلة، مومئا أو غير مومئ، على حسب قدرته.
2. اختلف في قدر صلاته:
أ. فذهب الجمهور إلى أنها على عددها تصلّى ركعتين.
ب. وقال الحسن: تصلّى ركعة واحدة إذا كان خائفا.
3. اختلفوا في وجوب الإعادة عليه بعد أمنه:
أ. فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإعادة عنه لعذره.
ب. وذهب أهل العراق إلى وجوب الإعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها.
4. في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم، وهو قول ابن زيد.
ب. الثاني: يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له، كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/311.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: (فرجالا) أي على أرجلكم، لأن الراجل: هو الكائن على رجله واقفاً كان، أو ماشياً، وأحد الرجال: راجل وجمعه رجّال، مثل تاجر وتجّار، وصاحب، وصحّاب، وقائم، وقيام.
2. واحد الركبان: راكب، وجمعه ركبان، وركاب، كفارس، وفرسان، وتقول: ركب يركب ركوباً، وأركبه إركاباً، وارتكب ارتكاباً، وتراكب الشيء تراكباً، وتركب تركيباً، وركبه تركيباً، واستركب استركاباً، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، وركبه الدين، ونحوه، والركبة معروفة، لروب البدن لها، وركبة البعير في يده، والركاب: المطي، وركاب السرج، لأنه يركب، والركبان: أصلا الفخذين الذين عليهما لحم الفرج لركوبه إياهما، وفرس أركب، والأنثى ركبى: إذا عظمت ركبتيهما وهو عيب، وأركب المهر: إذا أمكن أن يركب، ورجل مركب: الذي يغزوا على فرس غيره، والراكبة: فسيلة تتعلق بالنخلة لا تبلغ الأرض، وركبت الرجل أركبه ركباً: إذا ضربته بركبتك، والركوب: كل دابة تركب، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾ وأصل الباب الركوب: العلو على الشيء.
3. العامل في قوله: (فرجالا) محذوف، وتقديره: فصلوا رجالا أو ركباناً.
4. كيفية صلاة الخوف من العدّو:
أ. ركعتان كيف توجه إنما يجعل السجود أخفض من الركوع ـ في قول ابراهيم، والضحاك ـ فان لم يستطع، فليكن بتكبيرتين.
ب. وروي أن علياً عليه السلام صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء وقيل بالتكبير، وإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الأحزاب إيماء، وروي أنه قضاها بعد أن فاتت بالليل.
ج. وقال ابن عباس والحسن: يجوز في صلاة الخوف ركعة واحدة.
د. وقال الحسن، وقتادة، وابن زيد: يجوز أن يصلي الخائف ماشياً.
هـ. وقال أهل العراق: لا يصلي ماشياً، لأن المشي عمل.
و. الذي نقوله: إن الخائف إن صلى منفرداً صلاة شدة الخوف صلى ركعتين يومئ إيماء، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يتمكن كبر عن كل ركعة تكبيرة، وهكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة، وإن صلوا جماعة غير صلاة شدة الخوف، فقد بينا الخلاف فيه وكيفية فعلها في خلاف الفقهاء.
5. الذكر في الآية قيل في معناه قولان:
أ. أحدهما: أنه الصلاة، أي فصلوا صلاة الأمن كما علمكم الله، هذا قول الحسن، وابن زيد.
ب. الثاني: اذكروه بالثناء عليه، والحمد له كما علمكم ما لم تعلموا من أمر دينكم، وغير ذلك من أموركم، والأولى حمل الآية على عمومها في الأمرين.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/277.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخوف: ضد الأمن.
ب. الرجال جمع راجل، نحو تاجر وتجار وقائم وقيام وصاحب وصحاب.
ج. الركوب: العلو على الشيء يقال: راكب وركبان جمع راكب، كفارس وفرسان.
2. ثم بَيَّنَ تعالى الرخصة حال العدو في الصلاة لَمَّا تقدم الأمر بالمحافظة عليها فقال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ يعني لم يمكنكم أداء الصلاة بشرائطها موفين حقها قانتين فيها؛ لخوف العدو فصلوا رجالًا:
أ. قيل: مشاة على أرجلكم: ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ على ظهور دوابكم.
ب. وقيل: على أرجلكم أو ظهور دوابكم، وهو صلاة الخوف.
3. اختلفوا في كيفية عدد ركعات صلاة الخوف:
أ. قيل: يجوز ركعة، عن الحسن.
ب. فأما أهل العراق فقالوا: لا يؤثر الخوف في عدد الركعات، ففي السفر ركعتان، وفي الحضر أربع، وهو الصحيح؛ لأن الركعة الواحدة لا تكون صلاة، ولذلك لا يقصر الفجر.
4. اختلفوا في حال المشي والمسايفة إذا صلى بالإيماء حيث توجه:
أ. قال الحسن: يجوز، وهو قول الشافعي.
ب. قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز.
5. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ زال الخوف: ﴿فَاذْكُرُوا الله﴾:
أ. قيل: صلوا صلاة الآمن بتمام أركانها ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾، عن الحسن وابن زيد والأصم.
ب. وقيل: اذكروا الله بالحمد له والثناء عليه ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من أمور دينكم.
6. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن حكم الخائف بخلاف حال المقيم الآمن، فإذا وجب في الأول الإتمام جاز في الثاني النقصان بحسب التعذر والإمكان، فإذا جاز للمريض الاقتصار على ما يمكنه من الصلاة فكذلك الخائف، والكلام في صلاة الخوف يأتي في سورة النساء.
ب. تأكيد وجوب الصلاة؛ لأن مع هجوم الخوف يجب أداؤها على أي وجه أمكن.
ج. قال القاضي: وتدل على نسخ ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم أخر الصلاة يوم الخندق، وقيل: لا يصح ذلك؛ لأنه أخره لأنه كان حال قتال ومسايفة وهو حكم ثابت عن أبي حنيفة وأصحابه.
د. أن استيفاء حق الوقت واجب وإن أخل بكثير من شرائط الصلاة.
هـ. أنه متى أداها على الوجه الممكن فلا إعادة بخلاف ما يقوله بعضهم.
و. أن الرخص تدخل في الأفعال دون النيات؛ إذ لو دخلت لأفسدت طريق فعل الصلاة.
ز. أن تعليم الدين نعمة عظيمة من الله سبحانه، وتعليمه يكون بوجوه: منها: نصب الأدلة، ومنها: فعل الألطاف ليتعلم، ومنها: التمكين من الاستدلال والتعليم، ومنها: خلق العلم كالعلم بالمحفوظات فإنه من فعل الله تعالى، وأما الاستدلال فيضاف إليه للوجوه الثلاثة دون الرابع؛ لأنه فعل فاعل النظر، خلاف ما يقوله أصحاب المعارف.
7. ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا الله﴾ نصبًا على الحال، والعامل فيه محذوف، وتقديره: فصلوا رجالاً أو ركبانًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/33.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الرجال: جمع راجل، مثل تجار، وصحاب، وقيام في جمع تاجر، وصاحب، وقائم، والراجل: هو الكائن على رجله، واقفا كان أو ماشيا.
ب. الركبان: جمع راكب، كالفرسان جمع فارس، وكل شيء علا شيئا فقد ركبه، والركاب: المطي، وركبت الرجل أركبه ركبا أي: ضربته بركبتي، وأصبت ركبته أيضا، وهذا قياس في جميع الأعضاء نحو: رأسته، وبطنته، وظهرته.
2. لما قدم سبحانه وجوب المحافظة على الصلاة، عقبه بذكر الرخصة عند المخافة فقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أي: إن لم يمكنكم أن تقوموا قانتين، موفين الصلاة حقها لخوف عرض لكم: ﴿فَرِجَالًا﴾ أي: فصلوا رجالا على أرجلكم، وقيل: مشاة: ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ أي: على ظهور دوابكم.
3. عنى بها صلاة الخوف، وصلاة الخوف من العدو:
أ. قيل: ركعتان في السفر والحضر، إلا المغرب، فإنها ثلاث ركعات.
ب. ويروى أن عليا صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء.
ج. وقيل: بالتكبير، وإن النبي صلى يوم الأحزاب إيماء.
4. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ من الخوف، ﴿فَاذْكُرُوا الله﴾:
أ. أي: فصلوا صلاة الأمن.
ب. وقيل: اذكروا الله بالثناء عليه، والحمد له.
5. ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ من أمور دينكم، وغير ذلك من أموركم ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
6. مسائل نحوية:
أ. ﴿رِجَالًا﴾: منصوب على الحال تقديره: فصلوا رجالا، ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾: الكاف يتعلق باذكروا.
ب. ما: مصدرية في (ما علمكم).
ج. ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ موصول وصلة في موضع المفعول الثاني لعلم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/599.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا﴾، أي: خفتم عدوا، فصلّوا رجالا، وهو جمع راجل، والرّكبان جمع راكب، وهذا يدلّ على تأكيد أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كلّ حال، وقيل: إنّ هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النّساء، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾، ثم أنزل هذه الآية: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، أي: خوفا أشدّ من ذلك، فصلّوا عند المسايفة كيف قدرتم.
2. سؤال وإشكال: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين ما روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنه صلّى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟ والجواب: أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، قال أبو بكر الأثرم: فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ.
3. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، في هذا الذّكر قولان:
أ. أحدهما: أنه الصّلاة، فتقديره: فصلّوا كما كنتم تصلّون آمنين.
ب. الثاني: أنه الثّناء على الله، والحمد له.
__________
(1) زاد المسير: 1/217.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
4. لما أوجب الله تعالى المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف، فقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾
5. اختلف في معنى قوله تعالى ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾:
أ. قال الواحدي: معنى الآية فإن خفتم عدوا فحذف المفعول لإحاطة العلم به.
ب. قال صاحب الكشاف: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره.
ج. وفيه قول ثالث وهو أن المعنى: فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالا أو ركبانا، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود.
6. في الرجال قولان:
أ. أحدهما: رجالا جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشيا كان أو واقفا ويقال في جمع راجل: رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال.
ب. الثاني: ما ذكره القفال، وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع، لأن راجلا يجمع على راجل، ثم يجمع رجل على رجال، والركبان جمع راكب، مثل فرسان وفارس، قال القفال: ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل، فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس.
7. صلاة الخوف قسمان:
أ. أحدهما: أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية.
ب. الثاني: في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء: 102] وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين.
8. إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد:
أ. فمذهب الشافعي أنهم يصلون ركبانا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها، واحتج الشافعي بهذه الآية من وجهين:
• الأول: قال ابن عمر: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
• الثاني: وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال، فصار قوله تعالى: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يدل على الترخص في ترك التوجه، وأيضا يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود، فصح بما ذكرنا دلالة رجالا أو ركبانا على جواز ترك الاستقبال، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود.. فاعتماده في هذا الباب على قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم)
ب. وقال أبو حنيفة: لا يصلي الماشي بل يؤخر، واحتج أبو حنيفة بأنه صلّى الله عليه وآله وسلم أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضا، والجواب: أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلّى الله عليه وآله وسلم أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل.
9. لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة:
أ. أحدها: فعل القلب وهو النية، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك.
ب. الثاني: فعل اللسان وهي القراءة، وهي لا تسقط عند الخوف، ولا يجوز له أيضا أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها.
ج. الثالث: أعمال الجوارح.
10. ما يسقط وما لا يسقط من هذه الأركان:
أ. أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة.
ب. وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه.
ج. وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع، لأن هذا القدر ممكن.
د. وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه، والأصح أنه يجوز، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك.
11. اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول: الخوف إما أن يكون في القتال، أو في غير القتال، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب، أو مباح، أو محظور، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلتحق به قتال أهل البغي، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9] وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر: أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام، إذا عرفت هذا فنقول:
أ. أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف، أما قصد أخذ ماله، أو إتلاف حاله، فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف، فيه قولان:
• الأصح أن يجوز، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس.
• الثاني: لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة.
ب. أما الخوف الحاصل لا في القتال، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس، عاجزا عن بينة الإعسار، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة، لأن قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ مطلق يتناول الكل، فإن قيل: قوله: ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة، قلنا: هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعا للضرر، وهذا المعنى قائم هاهنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعا.
12. روي عن ابن عباس أنّه قال فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع، وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن، وأن قول ابن عباس متروك.
13. أما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾، وفيه قولان.
أ. الأول: فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] وكما بينه بشروطه وأركانه، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل، والصلاة قد تسمى ذكرا لقوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9].
ب. الثاني: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن، طعن القاضي في هذا القول وقال: إن هذا الذكر لما كان معلقا بشرط مخصوص، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعا على حد واحد، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر، كما يلزم مع الأمن، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة، والخوف هاهنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى، فالواجب حمل قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ على ذكر يختص بهذه الحالة.
ج. الثالث: أنه دخل تحت قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ الصلاة والشكر جميعا، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
14. أما قوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف، وأن ذلك من نعمه تعالى، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك، ثم إن أصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل، وفعل الألطاف.
15. قوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من زمان الجهالة والضلالة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 6/490.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ من الخوف الذي هو الفزع، ﴿فَرِجَالًا﴾ أي فصلوا رجالا، ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ معطوف عليه، والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل ـ بضم الجيم ) وهي لغة أهل الحجاز، يقولون: مشى فولان إلى بيت الله حافيا رجلا، حكاه الطبري وغيره ـ ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلى ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجلة بفتح الجيم ) وأرجلة وأراجل وأراجيل، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال.
2. لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.
3. هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.
4. اختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا:
أ. فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف، فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل: يعيدون، وهو قول أبي حنيفة، قال أبو عمر: فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه، وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله تعالى.
ب. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء.
5. اختلف في صلاة الخوف وكيفيتها وركعاتها:
أ. قيل: لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء.
ب. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء.
ج. روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، قال ابن عبد البر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين.
د. وقال الضحاك ابن مزاحم: يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين.
هـ. وقال إسحاق بن راهويه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه، ذكره ابن المنذر.
6. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان، وقال مجاهد: (أمنتم خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة)، ورد الطبري على هذا القول، وقالت فرقة: ﴿أَمِنْتُمْ﴾ زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.
7. اختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن:
أ. فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني.
ب. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن، فإن صلى خائفا ثم أمن بنى.
ج. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب.
د. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شي من هذا كله.
8. ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء، ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه، فالكاف في قوله ﴿كَمَا﴾ بمعنى الشكر، تقول: افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا، و﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا لَمْ﴾ مفعولة بـ ﴿عَلَّمَكُمُ﴾.
9. قال علماؤنا: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء، فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال.. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص، قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل، لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها، أصله الشهادتان.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/209.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ الخوف: هو الفزع، والرجال: جمع رجل أو راجل، من قولهم رجل الإنسان يرجل راجلا: إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل، يقول أهل الحجاز: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا، حكاه ابن جرير الطبري وغيره، لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال الركوب، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان، وقد اختلف أهل العلم في حدّ الخوف المبيح لذلك، والبحث مستوفى في كتب الفروع.
2. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أي: إذا زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة، مستقبلين القبلة، قائمين بجميع شروطها وأركانها، وهو قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ وقيل: معنى الآية: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة، وهو خلاف معنى الآية.
3. ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾ أي: مثل ما علمكم من الشرائع ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ والكاف صفة لمصدر محذوف، أي: ذكرا كائنا كتعليمه إياكم، أو: مثل تعليمه إياكم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/297.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، أي: فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره ﴿فَرِجَالًا﴾، أي: فصلّوا راجلين، أي: ماشين على الأقدام ـ يقال: رجل ـ كفرح ـ فهو راجل، ورجل ـ بضمّ الجيم ـ ورجل ـ بكسرها ـ ورجل ـ بفتحها ـ ورجيل ورجلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه، والجمع رجال ورجّالة ورجّال ـ كرمّان ـ ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾، أي: راكبين، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة.
2. هذا من رخص الله تعالى التي رخّص لعباده، ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد رويت صلاة الخوف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على صفات مختلفة مفصّلة في كتب السنة، وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يتحرى في كل موطن ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، قال الرازيّ: صلاة الخوف قسمان: أحدهما أن تكون في حال القتال ـ وهو المراد بهذه الآية؛ الثاني: في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء: 102]، وقد روى مالك عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف، وصفها ثم قال فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلّوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلّا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، ورواه الشيخان، ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال فإن كان خوف أشدّ من ذلك فصلّ راكبا أو قائما تومئ إيماء، وأخرج أحمد وأبو داوود، بإسناد جيّد، عن عبد الله بن أنيس الجهنيّ قال بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى خالد بن سفيان الهذليّ ـ وكان نحو عرنة وعرفات ـ فقال: اذهب فاقتله، قال فرأيته ـ وحضرت صلاة العصر ـ فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلّي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك، قال إني لفي ذلك، فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد (وهذا نص أبي داوود)، وأخرج الطيالسيّ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائيّ وأبو يعلى والبيهقيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق فشغلنا عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك، وذلك قوله تعالى: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ [الأحزاب: 25]، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بلالا فأقام لكلّ صلاة إقامة، وذلك قبل أن ينزل عليه ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾.
3. هذه الآية قد أطلقت الخوف، فيدخل فيه أيّ مخافة من عدوّ أو سبع أو جمل صائل، وهذا قول الأكثر، وشذّ قول الوافي وبعض الظاهرية: إنّ الخوف مختص بأن يكون من آدميّ، وقد أفادت هذه الآية أن فعلها بالإيماء هو فرضهم، فلا قضاء عليهم بعد الأمن، قال في (التهذيب) خلاف ما يقوله بعضهم، ولكن هذا إذا أتوا بما يسمى صلاة فإن لم يمكنهم شيء من الأفعال، وإنما أتوا بالذكر فقط، فقال الناصر زيد وابن أبي الفوارس وأبو جعفر: هذا لا يسمى صلاة فيجب القضاء، وقال الراضي بالله والأمير الحسين: هو بعض الصلاة، فلا قضاء لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وإذا ثبت الترخيص في هذه الصلاة ـ بترك كمال الفروض ـ رخص فيها بفعل ما تحتاج إليه، وبلباس ما فيه نجس إذا احتيج إليه ـ كذا في تفسير بعض علماء الزيدية.
4. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، أي: زال خوفكم ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، أي: فصلّوا صلاة الأمن، عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقوله ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، أي: مثل ما علمكم من صلاة الأمن، أو لأجل إنعامه عليكم، فالكاف للتعليل، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، والفائدة في ذكر المفعول فيه، وإن كان الإنسان لا يعلم إلّا ما لم يعلم، التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقلوا عنها، فإنه أوضح في الامتنان.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/168.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ورتَّب على صلاة الأمن صلاة الخوف بقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ من عدوٍّ أو سبع أو سيل حتَّى لا يمكنكم إتمام حدودها من ركوع وسجود تامَّينِ وخشوع ﴿فَرِجَالاً﴾ فصلُّوا رجالاً جمع راجل أو رَجُِل بفتح فضمٍّ أو فتح فكسر بمعنى ماش، ﴿اَوْ رُكْبَانًا﴾ على الإبل أو غيرها، وأصل اللُّغة أنَّ راكب الفرس فارس، والحمار أو البغل حَمَّار وبغَّال، والأجود: صاحب الحمار وصاحب البغل، صلُّوا ماشين أو راكبين للقبلة وغيرها بالإشارة للركوع والسجود كيفما أمكن، فرادى أو بجماعة، وفي المسايفة والسَّفينة عندنا وعند الشَّافعية، وعن أبي حنيفة لا يصلَّى حال المشي والمسايفة، واحتجَّ بأنَّه أخَّرها صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الخندق وقضاهنَّ كلَّهنَّ في اللَّيل كلٌّ بأذانها، الجواب أنَّ صلاة الخوف هذه شرعت بنزول هذه الآية بعد الخندق، وقيل: في ذات الرقاع قبل الخندق فيكون تأخيرهنَّ يوم الخندق ناسخا لهذه الآية، وهو ضعيف فإنَّها بعد الخندق، وفيه كان الخوف الشَّديد فلا يضرُّ التَّأخير، فإذا لم يشتدَّ صلَّى طائفة وقاتلت أخرى، وإن لم يمكن ذلك صلَّوْا كما أمكن ولا يؤخِّروا.
2. ﴿فَإِذَآ أَمِنتُم﴾ كنتم في أمن بعد خوف أو بدون تقدُّم خوف، والفاء تدلُّ للأوَّل، ﴿فَاذْكُرُواْ اللهَ﴾ صلُّوا له صلاة الأمن، والذكر الجزء الأعظم منها فسمِّيت به.
3. ﴿كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون﴾ من صلاة الخوف والأمن وسائر الدين، هذا إشارة للشكر على الأمن كما تقول: (أكرم زيدًا كما علَّمك العلم)، فإنَّه مفيد للشكر ولو لم تذكر الشكر ولم تقدِّره، وذكَرَ هنا (إِذَا) لتحقُّق الأمن غالبا، وهناك: (إِنْ) لقلَّة الخوف وندوره، حتَّى إنَّه كالمشكوك فيه هل يقع، تعالى الله؛ وذكَرَ: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ مع أنَّ التعليم لا يتصوَّر إِلَّا لمن لا يعلم وإِلَّا لزم تحصيل الحاصل تذكيرا بأنَّهم كانوا في حال سوء وهو الجهل فنجَّاهم الله منه.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 2/87.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ أي: فإن خفتم أن تقوموا لله فيها قانتين مجتمعين فيفتنكم الأعداء بهجومهم عليكم، أو إن خفتم أي خطر أو ضرر من قيامكم قانتين فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين، فالرجال جمع راجل وهو الماشي، والركبان جمع راكب، قال محمد عبده: هذا تأكيد للمحافظة، وبيان أن الصلاة لا تسقط بحال؛ لأن حال الخوف على النفس، أو العرض، أو المال هو مظنة العذر في الترك، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام، وكالأعذار الكثيرة لترك صلاة الجمعة، واستبدال صلاة الظهر بها، والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي، وإنما فرضت فيها تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، وهو تذكر سلطان الله تعالى المستولي علينا وعلى العالم كله، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملا قلبيا يجتمع فيه الفكر، ويصح فيه توجه النفس، وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل.
2. لا ريب أن هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه، وتذكر كرمه، وإحسانه، فإن قولك: ﴿اللَّهِ أَكْبَرُ﴾) في فاتحة الصلاة، وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء تشغل به نفسك، وتوجه إليه همك ما يغمر روحك، ويستولي على قلبك وإرادتك، وفي قراءة الفاتحة من الثناء على الله تعالى، وتذكر رحمته، وربوبيته، ومعاهدته على اختصاصك إياه بالعبادة والاستعانة، ومن دعائه: لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه من سبقت لهم منة النعمة من عباده الصالحين ما فيها مما تقدم شرحه في تفسيرها، وكل ما تقرؤه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية، والحكمة البالغة، والعبر العظيمة، والهداية القويمة، وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوي في النفس معنى العبودية، وتذكر، عظمة الألوهية، ونعم الربوبية، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج، عن المألوف، وما شرع فيهما من تسبيح الله، وتذكر عظمته، وعلوه جل ثناؤه.
3. فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض تلك الأعمال البدنية، فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية التي هي روح الصلاة، وغيرها، وهي الإقبال على الله تعالى، واستحضار سلطانه، مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس، أو عدو مغتال، أو لص محتال، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال خوف وهو يساعد على الخروج منه، أو تخفيف وقعه؟ فالآية تعلمنا أنه يجب ألا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء، ولا يشغلنا عنه شاغل، ولا خوف في حال من الأحوال، ولذلك قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ أي: فصلوا مشاة أو راكبين كيفما اتفق، وهذا في حالة الملاحمة في القتال، أو مقاومة العدو، ودفع الصائل، أو الفرار من الأسد؛ أي: ممارسة ذلك بالفعل، فإن كان الوقت وقت الصلاة صلى المكلف راجلا أو راكبا لا يمنعه من صلاته الكر، والفر، ولا الطعن، والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي مع الحضور والذكر، ويومئ بالركوع، والسجود بقدر الاستطاعة، ولا يلتزم التوجه إلى القبلة، وأما صلاة الخوف في غير هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء.
4. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي: زال خوفكم واطمأننتم فاذكروا الله؛ لأنه علمكم كيف تعبدونه وتصلون له في حال الخوف، فيكون ذلك عونا لكم على دفعه؛ أي: تذكروا نعمه عليكم بهذا التعليم واشكروه له، هذا إذا قيل: إن الكاف للتعليل، وإذا قلنا: إن الكاف للبدلية فالمعنى: فاذكروه على الطريقة التي علمكم إياها من قبل؛ أي: فصلوا على السنة المعروفة في الأمن بإتمام القيام، والاستقبال، والركوع، والسجود.
__________
(1) تفسير المنار: 2/436.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ أي فإن خفتم أي ضرر من قيامكم قانتين لله، فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين، وفي هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة وبيان أنها لا تسقط بحال، إذ حال الخوف على النفس أو المال أو العرض مظنّة العذر في تركها، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام.
2. السبب في عدم سقوطها عن المكلف في كل حال، أنها عمل مذكّر بسلطان الله المستولى علينا وعلى العالم كله، وما الأعمال الظاهرة إلا مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، إذ من شأن الإنسان أنه إذا أراد عملا قلبيا يحتاج إلى جمع الفكر وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل، فإذا تعذر بعض الأعمال البدنية فلا تسقط العبادة القلبية وهى الإقبال على الله مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر المستطاع، ويكون ذلك حين قتال العدو أو الفرار من أسد فيصلى المكلف راجلا أو راكبا إن حال وقت الصلاة لا يمنعه من ذلك الكرّ والفرّ والطعن والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة وأفعالها بما يستطاع من ركوع وسجود ولا يلتزم التوجه للقبلة، وستأتي صلاة الخوف كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة في سورة النساء.
3. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي فإذا زال الخوف وأمنتم فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه، كيف تصلون حين الأمن وحين الخوف.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/204.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالا لإقامة الصلاة تجاه القبلة، فإن الصلاة تؤدى ولا تتوقف، يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله، ويومئ إيماءة خفيفة للركوع والسجود، وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء، فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه، ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولا يحرسه.. أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلا، فتكون الصلاة المشار إليه هنا في سورة البقرة.
2. هذا الأمر عجيب حقا، وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة، ويوحي بها لقلوب المسلمين، إنها عدة في الخوف والشدة، فلا تترك في ساعة الخوف البالغ، وهي العدة، ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان، والسيف في يده، والسيف على رأسه، يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده، وهي جنة له كالدرع التي تقيه، يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للاتصال به، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله.
3. إن هذا الدين عجيب، إنه منهج العبادة، العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها، وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته، وعن طريق العبادة يثبته في الشدة، ويهذبه في الرخاء، وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان.. ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب!
4. فإذا كان الأمن فالصلاة المعروفة التي علمها الله للمسلمين، وذكر الله جزاء ما علمهم ما لم يكونوا يعلمون: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.. وما ذا كان البشر يعلمون لولا أن علمهم الله؟ ولولا أنه يعلمهم في كل يوم وفي كل لحظة طوال الحياة!؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/257.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا بيان لصلاة الخوف، أو الصلاة في غير حال السكن والاستقرار، كأن يصلى الإنسان في طائرة، أو على ظهر دابة، أو في مواجهة عدو.. والرّجال: هم المشاة، والركبان: هم الراكبون..
2. فليصلّ المصلّى في مثل هذه الأحوال ماشيا أو راكبا.. وذلك حتى لا تفوته الصلاة على أي حال كان عليها! وفى هذا ما فيه من تعظيم شأن الصلاة، والحرص على أدائها في أي ظرف، وفى أي حال.. حيث لا رخصة تدخل عليها بالإسقاط أبدا، إلا في حال المرأة مدة الحيض.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/286.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ تفريع على قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذرا في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه.
2. الخوف هنا خوف العدو، وبذلك سميت صلاة الخوف، والعرب تسمي الحرب بأسماء الخوف فيقولون الرّوع ويقولون الفزع، قال عمرو بن كلثوم: (وتحملنا غداة الروع جرد البيت)، وقال سبرة بن عمر الفقعسي:
ونسوتكم في الروع باد وجوهها......يخلن إماء والإماء حرائر
وفي الحديث: (إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع)، ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155]، والمعنى: فإن حاربتم أو كنتم في حرب، ومنه سمى الفقهاء صلاة الخوف الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو في ساحة الحرب وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو وخوف السباع وقطاع الطريق، وغيرها.
3. ﴿فَرِجَالًا﴾ جمع راجل كالصحاب و﴿رُكْبَانًا﴾ جمع راكب وهما حالان من محذوف أي فصلوا رجالا أو ركبانا وهذا في معنى الاستثناء من قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لله قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238] لأن هاته الحالة تخالف القنوت في حالة الترجل، وتخالفهما معا في حالة الركوب.
4. الآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها الخشوع، لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال ولا يشترط فيها القيام، وهذا الخوف يسقط ما ذكر من شروط الصلاة، وهو هنا صلاة الناس فرادى، وذلك عند مالك إذا اشتد الخوف وأظلهم العدو ولم يكن حصن بحيث تتعذر الصلاة جماعة مع الإمام، وليست هذه الآية لبيان صلاة الجيش في الحرب جماعة المذكورة في سورة النساء، والظاهر أن الله شرع للناس في أول الأمر صلاة الخوف فرادى على الحال التي يتمكنون معها من مواجهة العدو، ثم شرع لهم صلاة الخوف جماعة في سورة النساء، وأيضا شملت هذه الآية كل خوف من سباع أو قطاع طريق أو من سيل الماء، قال مالك: وتستحب إعادة الصلاة، وقال أبو حنيفة: يصلون كما وصف الله ويعيدون، لأن القتال في الصلاة مفسد عنده.
5. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أراد الصلاة أي ارجعوا إلى الذكر المعروف، وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بأنّ بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن.
6. ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ الكاف للتشبيه أي اذكروه ذكرا يشابه ما من به عليكم من علم الشريعة في تفاصيل هذه الآيات المتقدمة، والمقصود من المشابهة المشابهة في التقدير الاعتباري، أي أن يكون الذكر بنية الشكر على تلك النعمة والجزاء، فإن الشيء المجازى به شيء آخر يعتبر كالمشابه له، ولذلك يطلق عليه اسم المقدار، وقد يسمون هذه الكاف كاف التعليل، والتعليل مستفاد من التشبيه، لأن العلة على قدر المعلول.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/444.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
لأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة، ولا تجب على فريق دون فريق، فلها عموم الوحدانية، ولها لزوم الشهادتين، فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة، فإنه لا رخصة لسقوطها؛ ولذا وجبت في حال الأمن والخوف، وقال تعالى في حال الخوف: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف، وهى أعم من حال الحرب، وأخص منها؛ فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه؛ فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس؛ وحال الحرب ليست دائما حال خوف؛ فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلى آمنا مؤديا الأركان بالجوارح.
1. إيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين:
أ. أحدهما: أن الصلاة ركن لا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل، وبيّنا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك.
ب. ثانيهما ـ أن الصلاة في لب معناها هي اتجاه القلب، وعمل الحركات مظهر ذلك الاتجاه القلبي، والنزوع الروحي السامي فإذا حالت الأحوال دون القيام ببعض هذه الحركات من ركوع وسجود كاملين أغنت عنهما الإشارات إليهما، وهو ما يسمى الصلاة بالإيماء والمعنى متحقق في الحالين، ولكن لا ينتقل المصلى من حال كمال الحركات إلى ما دونها إلا عند تعذر الإتيان بها كاملة في نحو خوف أو مرض.
2. رخص الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في حال الخوف أن يصلوا رجالا، أي راجلين مشاة على أقدامهم، أو وقوفا في أماكنهم، وأن يصلوا ركبانا أي راكبين، وركبان جمع لراكب، وأما رجالا فهي كما يقول الزمخشري جمع راجل كقيام جمع لقائم، أو جمع رجل يقال رجل رجل أي راجل، وتوجيه قول الزمخشري أنه يقال رجل الإنسان يرجل إذا لم يكن معه ما يركبه ومشى على قدميه فهو رجل ورجل بضم الجيم ورجلان ورجيل ورجل بسكون الجيم، ويجمع في الأحوال كلها على رجال، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: (اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي بالرجل، ورجل.. ويقال رجل راجل أي قوى على المشي، جمعه رجال).
3. الخلاصة: أن الصلاة كما تؤدى بالحركات كاملة، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به؛ وذلك لأن الصلاة كما قلنا في لب معناها؛ اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
4. سؤال وإشكال: إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلما ذا كانت تلك الحركات؟ وألا يغنى فيها الاتجاه القلبي، وحصر الذهن والنفس لله، وفى ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته؟ والجواب: قد يقول قائل ذلك، وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة، واتبعوا من زعموا أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي، وقد يكون ذلك القول مجديا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار؛ فـ (الله أكبر) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله، والآيات التي تتلى هي حمد لله وثناء على الله سبحانه وتعالى وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وتجنب طريق الضالين؛ والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع، والقيام بحق الربوبية.. وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى، وذكر الله العلى القدير، اللطيف الخبير، ولا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها؛ بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار؛ فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا، وخر الإنسان ساجدا صاغرا لله رب العالمين.
5. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي إذا زال الخوف، وأقبل الأمن، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان، أي تأتون بحركاتها كاملة؛ وذلك في معنى قوله تعالى بعد بيان صلاة الخوف: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء].
6. الذكر المراد به هنا الصلاة الكاملة المستوفية الأركان، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب، وأن الصلاة بغيره لا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة؛ وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لا يمكن أن تغنى عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين؛ ولذا يقول الصوفية: إن الصلاة بغير هذه المعاني الروحية لا تكون صحيحة مهما تكن كاملة من حيث الأقوال والأفعال.
7. ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أشار فيه الزمخشري إلى تفسيرين، على أن النص الكريم يحتملهما:
أ. أحدهما: أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علمكم على لسان رسوله الكريم، وبأفعاله، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين؛ فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله، وبين ما علمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبيّ الأمين إذ قال (صلوا كما رأيتموني أصلى).
ب. ثانيهما: أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في اتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم، وفى الآخرة بالزلفى لرب العالمين؛ ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة بين النعم التي أسبغها عليكم، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وهذا معنى قول بعض العلماء: إن الكاف هنا للتعليل، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة.
8. لعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها؛ لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما علّم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه؛ فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل، هي كذلك شكر للمنعم على ما علّم وأنعم وهدى.
9. فى الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها: ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ معبرا سبحانه بأنّ الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة، وفى حال الأمن قال ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ معبرا بإذا الدالة على التحقيق والكثرة؛ وفى ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة، وهى الأمر المحقق الثابت، وأن حال الخوف هي القلة وهى ليست أمرا مؤكدا ثابتا، وفى ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان، فقد وهب الله الإنسان العقل، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف، فإذا غلبته شقوته فبدّل من الأمن حربا، ومن السلام خصاما، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته، والله من ورائهم محيط.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/843.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، ان الصلاة لا تسقط بحال، فان تعذر الإتيان ببعض أفعالها أتى المكلف بما تيسر، فان تعذرت جميع الأفعال صلى بالنطق والإيماء، فان تعذرا استحضر صورة الصلاة في قلبه.
2. أشار سبحانه بقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الى ان المكلف قد يأتي عليه وقت الصلاة، وهو في ميدان القتال، أو وهو فار من عدو لا يستطيع مقاومته، وما الى ذلك من العوارض التي لا يستطيع معها تأدية الصلاة على وجهها.. فان عرض شيء من هذا صلى المكلف كيفما تيسر ماشيا أو راكبا الى القبلة أو غيرها، قال صاحب مجمع البيان: صلاة الخوف من العدو ركعتان في السفر والحضر الا المغرب فإنها ثلاث ركعات، ويروى ان عليا عليه السلام صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء، وقيل بالتكبير، وان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الأحزاب بالإيماء.
3. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، أي إذا زال الخوف صلوا صلاة المختار الآمن على الطريقة التي علمكم إياها من قبل.
4. أثبتت التجارب ان ترك الصلاة كثيرا ما يؤدي من حيث العمل الى مظاهر الكفر ولوازمه وآثاره من ان الكافر لا يبالي بارتكاب المحرمات والمنكرات، كذلك تارك الصلاة يرتكب المحرم والمنكر بلا اكتراث، وحيثما تجد الكفر تجد الفحش والفسق والفجور.. وهذه بعينها من آثار ترك الصلاة، وليس أدل على هذه الحقيقة من انتشار الفساد في هذا العصر الذي نعيش فيه.. فما هذه الحانات، ومواخير الدعارة، وبيوت القمار في بلادنا نحن المسلمين، وما هذا التفرنج والتبرج في فتياتنا، وهذا الفساد والانحلال في أخلاق أبنائنا الا نتيجة لترك الصلاة بدليل ان هذه الموبقات لم يكن لها عين ولا أثر حين كانت الصلاة معروفة مألوفة عند الأبناء والبنات.. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف: (العهد بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ولا يجديه قوله: أنا مسلم، ولا كلمة: لا إله إلا الله، واشهد ان محمدا رسول الله، ما دامت أعماله أعمال الكافر الملحد.
5. ان الملحد لا يخجل ولا يحس بوخز الضمير، لترك الصلاة، ويعلن ذلك على الملأ، لأنه لا يدين بها وبمن أوجبها، وكذلك أكثر شباب هذا العصر يجاهرون بترك الصلاة دون مبالاة، بل يسخرون منها ومن المصلين.. اذن، لا فرق بينهم وبين الملحدين.
6. بالمناسبة ننقل هذه العظة البالغة عن كتاب (الإسلام خواطر وسوانح) للفرنسي الكونت هنري دي كاستري، قال: (قمت برحلة على الخيل في جوف الصحراء بولاية حوران، وكان معي ثلاثون فارسا يتسابقون جميعا الى خدمتي، وبينما نحن نسير إذ بصوت ينادي جاء وقت العصر، فما أسرع أن ترجلت الفرسان، واصطفوا جماعة للصلاة، وكنت أسمعهم يكررون بصوت مرتفع: الله أكبر، الله أكبر، فكان هذا الاسم الإلهي يأخذ مني مأخذا أعظم مما أخذه في ذهني درس علم الكلام، وكنت أشعر بحرج لا سبب له إلا الحياء والاحساس بأن أولئك الفرسان الذين كانوا يعظمون من شأني قبل لحظة يشعرون الآن، وهم في صلاتهم أنهم أرفع مني مقاما، وأعز نفسا، ولو اني أطعت نفسي لصحت فيهم: أنا أيضا أعتقد بالله، وأعرف الصلاة.. فما أجمل منظر أولئك القوم في صلاتهم، وخيولهم بجانبهم، أرسنتها على الأرض، وهي هادئة كأنها خاشعة للصلاة، تلك هي الخيل التي كان يحبها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حبا ذهب به إلى أن يمسح خياشيمها بطرف إزاره.. لقد وقفت جانبا أنظر الى المصلين، وأرى نفسي وحيدا تلوح عليّ سمات عدم الايمان، كأنني من الكلاب أمام الذين يكررون الى ربهم صلوات خاشعة، تصدر عن قلوب، ملئت صدقا وإيمانا).
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/369.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ إلى آخر الآية، عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف.
2. الفاء في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾، للتفريع أي إن المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئا وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدد الأمن ثانيا عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه.
3. الكاف في قوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ﴾، للتشبيه وقوله تعالى: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين.
4. في الكافي، عن الصادق: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ الآية، إذا خاف من سبع أو لص يكبر ويومئ إيماء، وفي الفقيه، عنه عليه السلام: في صلاة الزحف، قال تكبير وتهليل ثم تلا الآية، وفيه، عنه عليه السلام: إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا ـ فصل الفريضة وأنت على دابتك، وفيه، عن الباقر عليه السلام: الذي يخاف اللصوص يصلي إيماء على دابته.. والروايات في هذه المعاني كثيرة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/247.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ فاضطررتم إلى السير ﴿فَرِجَالًا﴾ صلوا ﴿أَوْ رُكْبَانًا﴾ سائرين كما في حال المسايفة والفرار من عدوّ يجوز الفرار منه، والفرار من سَبُعٍ أو نحوه، وعلى الجملة؛ حالة الخوف الملجئ إلى السير.
2. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أي فصلوا قياماً ذاكرين لله شكراً على نعمته بتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، وفهم الأمر بالقيام مما تقدم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/359.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، إذا خاف الإنسان على نفسه من لص أو سبع أو غير ذلك، جاز له أن يصلي راجلا أو راكبا بما يستطيع من الصلاة، ولو بالإيماء، وتلك هي صلاة الخوف من العدو التي تقصر في الحرب والسفر، إلا في المغرب فإنها ثلاث ركعات، فقد روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الأحزاب إيماء ـ كما رواه في المجمع ـ وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنّه قال: فات الناس مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم صفين، يعني صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء الآخرة، فأمرهم عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام فكبّروا وهلّلوا وسبّحوا رجالا وركبانا، لقول الله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ فأمرهم علي عليه السّلام فصنعوا ذلك، وروى عنه عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: سألته عن قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ كيف يفعل، وما يقول؟ ومن يخاف سبعا ولصا كيف يصلّي؟ قال يكبّر ويومئ إيماء برأسه.
2. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ فإذا ارتفع الخوف وحصل الأمان، ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بالثناء عليه ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من شرائعه وعودوا إلى ما وجب عليكم من الصلاة.
3. سؤال وإشكال: لماذا هذا الإلحاح على أداء الصلاة بطريقة معينة حتى في حالات الخوف، التي قد يشغل الإنسان فيها بالأخطار المحدقة به، فلا يكون له مجال للتفكير بأي شيء خارج الواقع الصعب المحيط به؟ أليس ذلك حرجا في التكليف!؟ والجواب: إن الله يريد للإنسان أن يبقى معه في وجدانه الروحي، وفي وعيه لعبوديته لله وربوبيته له، وارتباطه به، وحاجته إليه، وتوكله عليه في كل أموره.. حتى يكون مع ربه دائما، ليعصمه ذلك من السقوط تحت تأثير الضعف والانحراف تحت تأثير الغفلة، والاهتزاز النفسي والعملي تحت ضغط الهزاهز الروحية والواقعية.. ولذلك أراده أن يأتي بالصلاة في جميع الأحوال، حتى في حالات الخوف التي تتجمع فيها الأخطار من حوله، لأن ذلك ما يثبته ويقويه، ويوحي إليه أن الله فوق ذلك كله، لأن القوة له جميعا.
4. وهذا ما نستوحيه من قول الله تعالى في حديثه عن الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40]، وفي حديثه عن المؤمنين المجاهدين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
5. إن اللجوء إلى الصلاة في حالات الخوف يمنح الإنسان قوة روحية معنوية تمنعه عن الضعف، والاهتزاز، والسقوط تحت تأثير الضغوط القاسية التي تفرضها عناصر الخوف عليه، وبذلك قد نجد تشريع الصلاة في هذه الحالات أشد ضرورة من تشريعها في الحالات الأخرى، لأنها هي الحالات التي يشعر الإنسان فيها بالحاجة إلى قوة غير عادية تحميه وتخلصه مما فيه، أو تعينه على الثبات في خط المجابهة عندما تضعف قوته الطبيعة، ولعل هذا ما يلتقي بالطبيعة الإنسانية التي يلجأ الإنسان ـ من خلالها ـ إلى الله في حالات الخوف من الغرق عند اشتداد الأمواج واهتزاز السفينة، وذلك هو قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22].
6. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الله الذي شرّع الصلاة خمس مرات في اليوم ليرتبط الإنسان به في كل أوقاته، وليبقى في وجدانه الروحي دائما، أراد لهذه الصلاة أن تبقى في مسئولية الإنسان حتى في أشد الحالات صعوبة، لأن كل شيء من أنواع المسؤوليات يمكن تمجيده أو تأجيله، إلا الصلاة التي تمثل سرّ العلاقة بالله، فلا مجال لتجميدها أو تأجيلها، لأن اللقاء بالله لا بد من أن يكون شاملا لكل مواقع حياة الإنسان اليومية من خلال شمولية الحاجة إلى الله والعبودية له في جميع الأحوال، ولذلك فإن الصلاة لا تسقط بحال.
7. قد يلفت النظر ورود هاتين الآيتين في سياق أحكام الطلاق والعلاقة الزوجية، ولكن قد يكون السبب في ذلك بعض مناسبات الحديث عن الطاعة في ما تقدم من الآيات، لأن الصلاة هي الوجه البارز في خضوع الإنسان لله وطاعته له، والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/362.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية الكريمة تؤكّد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتّى في أصعب الظروف والشّرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصّلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالاتّجاه نحو القبلة وأداء الرّكوع والسّجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾، سواء كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصّلاة يجب أداءها بالإيماء والإشارة للرّكوع والسّجود، سواء كنتم مشاة أو راكبين.
2. ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ ففي هذه الصّورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصّلاة بالصّورة الطبيعيّة مع جميع آدابها وشرائطها.
3. من الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصّلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.
4. (رجال) جمع (راجل) و(ركبان) جمع (راكب) والمقصود هو أنّكم إذا خفتم العدو في ميدان القتال لكم أن تؤدّوا الصلاة راجلين أو راكبين في حالة الحركة.
5. ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه في بعض الحروب أمر المقاتلين أن يصلّوا بالتّسبيح والتكبير وقول (لا إله إلّا الله)، وكذلك ورد عن الإمام الكاظم عليه السّلام جواز أداء الصلاة في حالة الخوف إلى غير جهة القبلة ويومي للرّكوع والسجود في حال القيام.
6. هذه الصلاة هي صلاة الخوف التي شرحها الفقهاء في كتبهم شرحا مفصّلا، وعليه فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والارتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقّق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصّل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على الله، فتكون مبعث الأمل والرّجاء في الحياة وتعينه في التغلّب على جميع المصاعب والمشكلات.
7. قد يحسب البعض أنّ هذا الإصرار والتوكيد على الصلاة ضرب من التعسير، ولربّما منع ذلك الإنسان من القيام بواجبه الخطير في الدّفاع عن نفسه في مثل ظروف القتال الصّعبة، في حين أنّ هذا الكلام اشتباه كبير، فالإنسان في مثل هذه الحالات أحوج إلى تقوية معنويّته من أي شيء آخر، لأنّه إذا ضعفت معنويّته واستولى عليه الخوف والفزع فإنّ هزيمته تكاد تكون حتميّة، فأيّ عمل أفضل من الصّلاة والاتّصال بالله القادر على كلّ شيء وبيده كلّ شيء من أجل تقويّة معنويّات المجاهدين أو من يواجه الخطر.
8. لو تركنا الشواهد الكثيرة في جهاد المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام فإنّنا نقرأ عن حرب الصهاينة الرّابعة مع العرب في شهر رمضان عام 1393 ه، ق أنّ توجّه الجنود المسلمين إلى الصّلاة والمبادئ الإسلام كان له أثر فعّال في تقوية عزائمهم وفي التالي انتصارهم على عدوّهم، وعلى أي حال فإنّ أهميّة الصلاة وتأثيرها الإيجابي في الحياة أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر، فلا شكّ في أنّ الصّلاة إذا روعيت معها آدابه الخاصّة وحضور القلب فيها فإنّ لها تأثيرا إيجابيّا عظيما في حياة الفرد والمجتمع، وبإمكانها أن تحل الكثير من المشاكل وتطهّر المجتمع من الكثير من المفاسد، وتكون للإنسان في الأزمات والشدائد خير معين وصديق.
__________
(1) تفسير الأمثل: 2/196.