...
9. أكل مال اليتامى والخشية والتقوى
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈9⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 9 ـ 10]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ الآية، هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته، فيسمعه يوصي وصية يضر بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة(1).
2. روي أنّه قال: يعني: الرجل يحضره الموت، فيقال له: تصدق من مالك، وأعتق، وأعط منه في سبيل الله، فنهوا أن يأمروا بذلك، يعني: أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق، أو في الصدقة، أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع، يقول: يسر أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ـ يعني: صغارا ـ أن يتركهم بغير مال؛ فيكونون عيالا على الناس!؟ ولا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم، ولكن قولوا الحق من ذلك(1).
3. روي أنّه قال: يعني بذلك: الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف، يخاف عليهم العيلة والضيعة، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم، يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا(2).
4. روي أنّه قال: إذا حضر الرجل عند الوصية فليس ينبغي أن يقال: أوص بمالك؛ فإن الله رازق ولدك، ولكن يقال له: قدم لنفسك، واترك لولدك، فذلك القول السديد، فإن الذي يأمر بهذا يخاف على نفسه العيلة(3).
5. روي أنّه قال: في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ذلك أن الله ـ جل وعز ـ لما أنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ الآية؛ كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء، وسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه؛ فأنزل الله ـ جل وعز ـ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ إلى قوله: ﴿لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]: لأحرجكم، وضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر، فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾(4).
6. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ جعل كل رجل في حجره يتيم يعزل ماله على حدة، فشق ذلك على المسلمين؛ فأنزل الله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، فأحل لهم خلطتهم(5).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٤٧.
(2) ابن جرير ٦/٤٥١.
(3) ابن أبي حاتم ٣/٨٧٨.
(4) القاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ ص ٢٣٨، والطبراني في الكبير ١٢/٢٥١.
(5) أبو داود ٤/٤٩٣.
ابن عمر:
روي عن عبد الله بن عمر (ت 73 هـ) أنّه قال: لما نزلت الموجبات التي أوجب الله عليها النار لمن عمل بها نحو هذه الآية: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ كنا نشهد على من فعل شيئا من هذا أن له النار، حتى نزلت: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فلما نزلت كففنا عن الشهادة، ولم نشهد أنهم في النار، وخفنا عليهم بما أوجب الله لهم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٧٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ يعني: من بعد موتهم ﴿ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ يعني: عجزة لا حيلة لهم ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ يعني: على ولد الميت الضيعة، كما يخافون على ولد أنفسهم، فليتقوا الله، وليقولوا للميت إذا جلسوا إليه ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾ يعني: عدلا في وصيته، فلا يجور(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ظُلْمًا﴾، يعني: استحلالا بغير حق(2).
3. روي أنّه قال: السعير: واد من فيح في جهنم(3).
4. روي عن حبيب بن أبي ثابت أنّه قال: انطلقت أنا والحكم بن عتيبة إلى سعيد بن جبير، فسألته عن قول الله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾، قال: الشهود الذين يحضرونه يقولون: اتق الله، صلهم، برهم، أعطهم، ولو كانوا هم ما فعلوا، ولأحبوا أن يبقوا لأولادهم، يأمرونه ولا يفعلون هم.. وفأتينا مقسما، فقال ما قال سعيد، فأخبرناه، فقال: لا، ولكن يقولون: اتق الله، لا توص، أمسك على ولدك، ولو كان الذي يوصي له أولادهم لأحبوا أن يوصي لهم(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٧٧.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٧٩.
(3) ابن أبي شيبة ١٣/٥٣٩.
(4) تفسير الثوري ص ٩٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿سَعِيرًا﴾، يعني: وقودا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٨٢.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنّار تلتهب في بطنه حتّى يخرج لهب النّار من فيه حتّى يعرفه كلّ أهل الجمع، أنّه آكل مال اليتيم(1).
2. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: سيبعث ناس من قبورهم يوم القيامة تأجّج أفواههم نارا، فقيل له: يا رسول الله، من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية(2).
3. روي أنّه قال: إنّ الله عزّ وجل أوعد في أكل مال اليتيم عقوبتين أمّا أحدهما فعقوبة الآخرة بالنّار، وأمّا عقوبة الدّنيا فهو قوله عزّ وجل: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، يعني بذلك: ليخش إن أخلفه في ذرّيّته كما صنع هو بهؤلاء اليتامى(3).
4. روي أنه قيل له: في كم تجب لآكل مال اليتيم النار؟ قال: في درهمين(4).
5. روي أنّه قال: انزل في مال اليتيم من أكله ظلما: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ وذلك أن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه، ويعرفه أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم(5).
__________
(1) الكافي 2 /31 ـ 32، ضمن حديث 1.
(2) تفسير العياشي 1 /224، ح 41.
(3) ثواب الأعمال /278، ح 2.
(4) تفسير العيّاشي 1/223/40.
(5) الكافي 5/126.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ من حضر ميتا فليأمره بالعدل والإحسان، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ إذا حضرت وصية ميت فمره بما كنت آمرا نفسك بما تتقرب به إلى الله، وخف في ذلك ما كنت خائفا على ضعفة لو تركتهم بعدك، يقول: فاتق الله، وقل قولا سديدا إن هو زاغ(2).
3. روي أنّه قال: ذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم، والمرأة، أيتمه ثم أوصى به، وابتلاه وابتلى به(3).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٤٧.
(2) عبد الرزاق ١/١٥٠.
(3) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٦ مرسلًا.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ معناه قول صادق(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: هذا الخطاب لولاة اليتامى، يقول: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، وليأت إليه في حقه ما يجب أن يفعل بذريته من بعده(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٦٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لمّا أسري بي إلى السّماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النّار وتخرج من أدبارهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما(1).
2. روي أنّه سئل عن رجل أكل مال اليتيم، هل له توبة؟ قال يردّ به إلى أهله، ذلك بأنّ الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ الآية(2).
3. روي عن المعلّى بن خنيس، عن الإمام الصادق أنّه قال: دخلنا عليه فابتدأ فقال: من أكل مال اليتيم سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، فإنّ الله عزّ وجل يقول في كتابه: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾(3).
4. روي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد الله مبتدئا: من ظلم يتيما، سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال قلت: هو يظلم فيسلّط الله على عقبه أو على عقب عقبه؟ فقال: إنّ الله عزّ وجل يقول: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾: ظالمين، أو على وجه الظّلم، أو بالظّلم(4).
5. روي عن عليّ ابن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله: إنّ لي ابنة أخ يتيمة، فربّما أهدي لها الشيء فآكل منه ثمّ أطعمها بعد ذلك الشيء من مالي، فأقول: يا ربّ، هذا بذا، فقال: لا بأس، (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ): ملء بطونهم(5).
6. روي أنّه سئل عن آكل مال اليتيم، هل له توبة؟ قال: يرده إلى أهله ذلك بأن الله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾(6).
7. روي أنّه قال: مال اليتيم إن عمل به من وضع على يديه ضمنه، ولليتيم ربحه، قيل له: فقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾؟ قال إنما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتخذ لنفسه، فليأكل بالمعروف من مالهم(7).
8. روي أنّه قال: وعد الله تبارك وتعالى في مال اليتيم عقوبتين: إحداهما عقوبة الآخرة النار، وأما عقوبة الدنيا فقوله عز وجل: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية، يعني ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى(8).
9. روي أنّه سئل عن آكل مال اليتيم، فقال: (هو كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، ثم قال عليه السلام من غير أن أسأله: من عال يتيما حتى ينقطع يتمه، أو يستغني بنفسه، أوجب عز وجل له الجنة كما أوجب النار لمن أكل مال اليتيم(8).
10. روي أنّه قال: مال اليتيم إن عمل به من وضع على يديه ضمنه، ولليتيم ربحه، قالا: قلنا له، قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: إنما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتخذ لنفسه، فليأكل بالمعروف من مالهم(9).
11. روي أنه قيل له: من أكل مال اليتيم؟ فقال: هو كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ وقال هو من غير أن أسأله: من عال يتيما حتى ينقضي يتمه، أو يستغني بنفسه أوجب الله له الجنة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار(9).
12. روي أنّه سئل عن الكبائر، فقال: (منه أكل مال اليتيم ظلما)(10).
__________
(1) تفسير القمي 1 /132.
(2) نفس المصدر 1 /225، ح 46.
(3) ثواب الأعمال /278، ح 2.
(4) الكافي 2 /332، ح 13.
(5) الكافي: 5 /128، ح 3.
(6) تفسير العيّاشي 1/224/41.
(7) تفسير العيّاشي 1/224/43.
(8) الكافي 5/128.
(9) تفسير العيّاشي 1/224.
(10) تفسير العيّاشي 1/225.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نسخت هذه الآية: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، فرخص في المخالطة، ولم يرخص في أكل أموال اليتامى ظلما(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾: بغير حق(1).
3. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وذلك أن خازن النار يأخذ شفتيه، وهما أطول من مشفري البعير، وطول شفتيه أربعون ذراعا، إحداهما بالغة على منخره، والأخرى على بطنه، فيلقمه جمر جهنم، ثم يقول: كل بأكلك أموال اليتامى ظلما(1)، نرى رد هذا الأثر لعدم اعتبار المصدر، ولمعارضته لما ورد في القرآن الكريم من النهي عن البحث عن التفاصيل التي لا جدوى منها
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٠.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ يقول قولا سديدا يذكر هذا المسكين وينفعه، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدي، ولا يضر به؛ لأنه صغير، لا يدفع عن نفسه، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارا(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٥٣.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرّجل يكون في يده مال لأيتام، فيحتاج إليه، فيمد يده فيأخذ وينوي أن يردّه، فقال: لا ينبغي له أن يأكل إلّا القصد لا يسرف، فإن كان من نيّته أن لا يردّه عليهم فهو بالمنزل الّذي قال الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾(1).
2. روي عن أحمد بن محمد، قال سألت أبا الحسن عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج فيمد يده فينفق منه عليه وعلى عياله، وهو ينوي أن يرده إليهم، أهو ممن قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية؟ قال: لا، ولكن ينبغي له ألا يأكل إلا بقصد، ولا يسرف، قلت له: كم أدنى ما يكون من مال اليتيم إن هو أكله وهو لا ينوي رده حتى يكون يأكل في بطنه نارا؟ قال: قليله وكثيره واحد، إذا كان من نفسه ونيته أن لا يرده إليهم(2).
3. روي أنّه سئل عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج إليه، فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده؟فقال: (لا ينبغي له أن يأكل إلا بقصد، ولا يسرف، فإن كان من نيته أن لا يرده عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾(3).
__________
(1) الكافي: 5 /128، ح 3.
(2) تفسير العيّاشي 1/224/42.
(3) الكافي 5/128.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: كم أدنى ما يدخل به آكل مال اليتيم تحت الوعيد في هذه الآية؟ فقال: قليله وكثيره واحد، إذا كان من نيّته أن لا يردّه إليهم(1).
2. روي أنّه قال: حرّم أكل مال اليتيم ظلما لعلل كثيرة من وجوه الفساد، أوّل ذلك أنّه إذا أكل الإنسان مال اليتيم ظلما فقد أعان على قتله، إذ اليتيم غير مستغن ولا محتمل لنفسه ولا عليم بشأنه ولا له من يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه، فإذا أكل ماله فكأنّه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما خوّف الله تعالى وجعل من العقوبة في قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾ ولقول أبي جعفر: (إنّ الله تعالى وعد في أكل مال اليتيم عقوبتين: عقوبة في الدّنيا وعقوبة في الآخرة)، ففي تحريم مال اليتيم، استبقاء مال اليتيم واستقلاله بنفسه والسّلامة للعقب أن يصيبه ما أصابه لما وعد الله تعالى فيه من العقوبة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدرك ووقوع الشّحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا(2).
3. روي عن محمد بن سنان، أن الإمام الرضا كتب إليه فيما كتب إليه من جواب مسائله: حرم أكل مال اليتيم ظلما لعلل كثيرة من وجوه الفساد: أول ذلك إذا أكل مال اليتيم ظلما فقد أعان على قتله، إذ اليتيم غير مستغن، ولا محتمل لنفسه، ولا قائم بشأنه، ولا له من يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه، فإذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيره إلى القتل والفاقة مع ما خوف الله تعالى من العقوبة في قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾ ولقول الإمام الباقر أنّه قال: إن الله عز وجل وعد في أكل مال اليتيم عقوبتين: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، ففي تحريم مال اليتيم استبقاء اليتيم واستقلاله بنفسه، والسلامة للعقب أن يصيبه ما أصابهم، لما وعد الله فيه من العقوبة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدركه، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا(3).
__________
(1) الكافي 2 /31 ـ 32، ضمن حديث 1.
(2) عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ 2 /92.
(3) علل الشرائع: 480/1.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾:
أ. قيل: هو الرجل يحضره الموت، وله ولد صغار، فيقول له آخر: أوص بكذا، أو أعتق كذا، أو افعل كذا، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده؛ فخوف هذا القائل بقوله: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله عزّ وجل: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، وهو قول ابن عباس.
ب. وقيل: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له من يحضره: اتق الله، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء، ليس أحد أحق بمالك منهم، ولا توص من مالك شيئا، فنهي أن يقال له ذلك؛ لما لو كان هو الموصي، وله ورثة صغار ضعفاء، أحبّ بألّا يقال له ذلك؛ فكذلك لا يقول هو له، والأول أشبه.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾:
أ. قيل: عدلا؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدّين والوصية، ولا يجور في الوصية.
ب. وعن ابن عباس قال نهي من حضر منهم مريضا عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة، أو في سبيل الله؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾:
أ. أي: استحلالا، فإذا استحل كفر؛ فذلك الوعيد له.
ب. وقيل: ﴿ظُلْمًا﴾: أي: غصبا.
4. الأكل: هو عبارة عن الأخذ؛ كقوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130] إنما هو نهي عن أخذه، وكذلك قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، وقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 278] ـ إنما هو نهي عن قبض الربا؛ فعلى ذلك الأكل ـ في هذه الآية ـ:
أ. عبارة عن الأخذ والاستحلال، ومن حمل الآية على الغصب جعل الوعيد عليه، إلا أن يتوب؛ إذ لله أن يعذب من شاء ممن ارتكب من عباده جرما، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب.
ب. وقيل: إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل نارا؛ لخبثه ولشدته.
5. عن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: اليتيم والمرأة؛ فإن الله أيتمه وأوصى به، وابتلاه وابتلى به.
6. قيل في قوله: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا﴾: للميت إذا جلس إليه ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾، أي: عدلا في وصيته ولا يجور، ومن عدل في وصيته عند موته، فكأنما وجه ماله في سبيل الله؛ فقال سعد بن أبي وقاص: فسئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كم يوصي الرجل من ماله؟ فقال: (الثّلث، والثّلث كثير، لأن تدع عيالك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكفّفون الناس)، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله تعالى تصدّق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم عند وفاتكم)
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/34.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عزوجل: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أي قولاً سديداً، أي قولاً حسناً مصيباً، قال الشاعر: وإن قال قولاً كان فيه مسددا.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/236.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أي وليحذر الذين يحضرون ميتاً يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده كما لو كان هو الموصي لا بد أن يبقي ماله لولده ويجوز أن يكون ذلك أمراً من الله عز وجل ولاة الأيتام أن يلونهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم كما يجوز أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم وفي الإحسان إليهم لو ماتوا وتركوا أولادهم صغاراً يتامى.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ أي يأخذون فعبر عن الأخذ بالأكل ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ الصلا لزوم النار والسعير إسعار النار.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/165.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أن معناه وليحذر الذين يحضرون ميّتا يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمروه أن يبقي ماله لولده، كما لو كان هو الموصي لآثر أن يبقى ماله لولده، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي.
ب. الثاني: أن معناه وليحذر الذين يحضرون الميت وهو يوصي أن ينهوه عن الوصية لأقربائه، وأن يأمروه بإمساك ماله والتحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقرباء الموصى، لآثروا أن يوصي لهم، وهو قول مقسم، وسليمان بن المعتمر.
ج. الثالث: أن ذلك أمر من الله تعالى لولاة الأيتام، أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، كما يحبون أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم في الإحسان إليهم لو ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا، وهو مروي عن ابن عباس.
د. الرابع: أن من خشي على ذريته من بعده، وأحب أن يكف الله عنهم الأذى بعد موته، فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا، وهو قول أبي بشر بن الديلمي.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ عبر عن الأخذ بالأكل لأنه مقصود الأخذ.
3. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني أنهم يصيرون به إلى النار.
ب. الثاني: أنه تمتلئ بها بطونهم عقابا يوجب النار.
4. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ الصلاء لزوم النار، والسعير إسعار النار، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ [التكوير: 12]
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/456.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل في معنى الآية أربعة أقوال:
أ. أحدها: النهي عن الوصية بما يجحف بالورثة، ويضر بهم، هذا قول ابن عباس، في بعض الروايات، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، والضحاك، ومجاهد.
ب. الثاني: قال الحسن: كان الرجل يكون عند الميت فيقول: أوص بأكثر من الثلث من مالك، فنهاه الله عن ذلك.
ج. الثالث: روي عن ابن عباس: أنه خطاب لولي مال اليتيم، يأمره بأداء الأمانة فيه، والقيام بحفظه، كما لو خاف على مخلفيه، إذا كانوا ضعافا، وأحب أن يفعل بهم.
د. الرابع: قال مقسم: هي في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم، بأن يقول الحاضر للوصية: لا توص لأقاربك، ووفر على ورثتك.
2. الذرية: على وزن فعلية، منسوبة إلى الذر، ويجوز أن يكون أصلها ذرورة، لكن الراء أبدلت ياء، وأدغمت الواو فيها، وهي بضم الذال، ويجوز فيها كسرها، وقد قرئ به في الشواذ، ومن كسر الذال فلكسرة الراء، كما قالوا في عنى عتي وعصي، وضعاف: جمع ضعيف وضعيفة، وكقولك: ظريف وظريفة وظراف، وخبيث وخباث، ويجمع أيضاً ضعفاء، وأصل الضعاف من الضعف، وهو النقص، في القوة، ومنه المضاعف، لأنه ينفي الضعف، ومنه الضعف.
3. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾ يعني: فليتقوا معاصيه، ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ وهو السليم من خلل الفساد، وذلك الحق بالدعاء إلى العدل في القسم بما لا يجحف بالورثة، ولا يحرم ذوي القربي، وأصل السديد من سد الخلل، تقول: سددته أسده سدا، والسداد: الصواب، والسداد ـ بكسر السين ـ من قولهم: فيه سداد من عوز، وسدد السهم: إذا قومه، والسد الردم، والسدة في الأنف.
4. معنى الآية، أنه ينبغي للمؤمن الذي لو ترك ذرية ضعافا بعد موته، خاف عليهم الفقر والضياع، أن يخشى على ورثة غيره من الفقر والضياع، ولا يقول لمن يحضر وصيته أن يوصي بما يضر بورثته، وليتق الله في ذلك، وليتق الإضرار بورثة المؤمن.. وليقل قولا سديدا، ولذلك نهي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يوصى بأكثر من الثلث، وقال: (والثلث كثير) وقال لسعد (لأن تدع ورثتك أغنياء أحب الى من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم)
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ هُوَصالِ الْجَحِيمِ﴾ ومن ضم الياء ذهب إلى أصلاه الله إذا أحرقه بالنار.
6. إنما علق الله تعالى الوعيد في الآية لمن يأكل أموال اليتامى ظلماً، لأنه قد يأكله على وجه الاستحقاق، بأن يأخذ منه أجرة المثل، على ما قلناه، أو يأكل منه بالمعروف على ما فسرناه، أو يأخذه قرضاً على نفسه.
7. سؤال وإشكال: إذا أخذه قرضاً على نفسه، أو أجرة المثل، فلا يكون أكل مال اليتيم، وإنما أكل مال نفسه، والجواب: ليس الامر على ذلك، لأنه يكون أكل مال اليتيم، لكنه على وجه التزم عوضه في ذمته، أو استحقه بالعمل في ماله، فلم يخرج بذلك من استحقاق الاسم بانه مال اليتيم، ولو سلم ذلك، لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من التأكيد وبياناً، لأنه لا يكون أكل مال اليتيم إلا ظلماً.
8. نصب ظلماً على المصدر، وتقديره: إن من أكل مال اليتيم فإنه يظلمه ظلماً.
9. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: ما قاله السدي من أن من أكل مال اليتيم ظلماً يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، ومن أذنيه وأنفه وعينيه، ويعرفه من رآه، بأكل مال اليتيم.
ب. الثاني: أنه على وجه المثل، من حيث أن فعل ذلك يصير إلى جهنم، فتمتلئ بالنار أجوافهم، عقابا على ذلك الأكل منهم، كما قال الشاعر:
çوان الذي أصبحتم تحلبونه...دم غير أن اللون ليس باحمراé
يصف أقواماً أخذوا الإبل في الدية، يقول: فالذي تحلبون من ألبانها ليس لبناً، إنما هو دم القتيل.
10. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ فالصلاة لزوم النار، للإحراق، أو التسخن، أو الإنضاج، يقال: صلي بالنار يصلى صلا بالقصر، قال العجاج: (وصاليات للصلا صلي) ويقال الصلا بالكسر والمد، قال الفرزدق:
çوقاتل كلب الحي عن نار أهله...ليربض فيها والصلا متكنفé
واصطلى صلى بالنار اصطلاء، وأصليته النار أصلا، إذا ألقيته فيها، وفي التنزيل: ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ والصالي بالشر الواقع فيه قال الشاعر:
çلم أكن من جناتها علم الله...واني بحرها اليوم صاليé
ومنه شاة مصلية، أي مشوية، والسعير بمعنى مسعورة، مثل كف خضيب، بمعنى مخضوبة.
11. السعر إشعال النار تقول سعرتها أسعرها سعراً، ومنه قوله: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ واستعرت النار في الحطب استعاراً، واستعرت الحرب والشر استعاراً، ومنه سعر السوق، لاستعارها به في النفاق.
12. أكل مال اليتيم على وجه الظلم، وغصبه متساويان في توجه الوعيد إليه، ولا يدل على مثل ذلك في غير مال اليتيم، لأن الزواجر عن مال اليتيم أعظم:
أ. وقال الجبائي: هما سواء، ومن غصب من مال اليتيم خمسة دراهم فان الوعيد يتوجه إليه.
ب. وقال الرماني: لا يتوجه إليه، لأن أقل المال مائتا درهم.
ج. وقال الجبائي: يلزمه كما يلزم مانع الزكاة، وقال الرماني: هذا ليس بصحيح، لأنه يجوز أن يكون منع الزكاة أعظم.
د. وما قلناه أولا أولى بعموم الآية، وقوله: لا يسمى المال إلا مائتا درهم دعوى محضة، لا برهان عليها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/125.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخشية: الخوف، ورجل خَشْيان، وقيل: الخشية بمعنى العلم.
ب. الذرية قيل: وزنها فُعْلِيَّة منسوبة إلى الذر عن الزجاج، وقيل: فُعُّولة على تقدير ذُرُّورة، إلا أن الراء الأخيرة قلبت ياء ثم أدغمت، ويجوز ذِرية بكسر الذال لأجل الكسرة، وقيل: الياء المشددة نحو عِصِيٍّ، والضم أجود للفصل بالراء الساكنة.
ج. السديد أصله سد الخلل من سَدَدْتُه أسده سدًا، والسداد: الصواب بسده خلل الفساد، والسديد من القول السليم من الفاسد.
د. الضعاف جمع ضعيف وهو نقصان القوة.
هـ. البطن خلاف الظهر.
و. الصلا: لزوم النار للإحراق صَليَ يَصْلِي صَلْي بالقصر وفتح الصاد، ويقال: صِلاء بالمد وكسر الصاد، وصَلَيْتُ اللحم: شويته، وشاة مصلية مشوية، فإذا أردت أحرقته قلت: أصْلَيْتُه، وأصليته النار ألقيته فيها، ومنه ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ والصالي بالشيء الواقع فيه، قال الشاعر:
çلَمْ أكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ الله... وإنِّي بَحرِّهَا اليومَ صَالِيé
ز. السَّعْر: إشعال النار، سعرت النار أسعرها سعرًا، ومنه ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ والسَّعِيرُ معدول من مَسْعور نحو: خضيب معدول عن مخضوب.
2. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾: قال أبو علي: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا إذا حضورا الموصي وله ذرية ضعفاء قالوا: أوص لفلان بكذا، ولفلان بكذا حتى يستغرق المال، فنهوا عن ذلك.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: إنه معطوف على قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ فأمر بالتقوى، ثم فسر ذلك بما بين من الأحكام، ثم قال عطفًا عنى ما تقدم ﴿وَلْيَخْشَ﴾ وهو التقوى وإن اختلفا في اللفظ فقد اتفقا في المعنى عن أبي مسلم.
ب. وقيل: لما أمر بقسمة التركة حذر في ذلك ما يجحف بحق الميت في الوصية، أو الورثة في زيادة الوصية، فيتصل بقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية.
ج. وقيل: أمر بالقول المعروف فنهى عن خلافه، وأمر بالقول السديد في حق الميت والورثة.
د. وقيل: لما أمر بإيتاء ذي القربى واليتامى نهى من حضر الميت أن يحثه على حرمانهم.
هـ. وقيل: إنه يتصل بما تقدم من الأمر في باب اليتامى، أي: وليخش الَّذِينَ يلون اليتامى.
4. اختلفوا في المعني بقوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾، والمأمور بالخشية والتقوى على أقوال:
أ. قيل: هو خطاب لمن يحضر الميت عند الوصية فيحضه على الوصية بما يجحف بالورثة بأن يقول: انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئًا أعتق تصدق واجعل كذا، حتى يأتي على التركة، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يأمروه أن يبقي لورثته ولا يزيد وصيته على الثلث، كما لو كان هذا القائل هو المُوصَي فإنه يسره أن يحثه مَنْ حَضَرَهُ، على حفظ ماله لورثته، ولا يدعهم عالة مع ضعفهم، وقيل لهم كما تحبون لورثتكم فأحبوا لورثة غيركم، وهذا معنى قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد.
ب. وقيل: هو خطاب لمن يحضر المريض فيقول: اتق الله ولا توص وأمسك مالك على ولدك، وينهاه عن الوصية، وذوي القربى واليتامى والمساكين ولو كان هو الموصي يسره أن يوصي فنهوا عن ذلك عن مقسم وأبي مالك الحضرمي.
ج. وقيل: هو خطاب للولاة، يقول: من كان في حجره اليتيم فليخش الله وليقل خيرًا، وليفعل خيرًا، وليَأْتِ لله ما يحب أن يُفْعل بذريته من بعده عن ابن عباس بخلاف.
5. معنى الآية ﴿وَلْيَخْشَ﴾ أي وليخف ﴿الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾:
أ. قيل: الموصي إلى اليتيم.
ب. وقيل: الذي يحضر الموصي عند الوصية.
6. ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ أولادًا ﴿ضِعَافًا﴾ أي صغارًا لا يمكنهم القيام بأمورهم ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾:
أ. قيل: الضياع.
ب. وقيل: العيلة.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾:
أ. قيل: في ذرية الغير ما يتقون في ذرية أنفسهم.
ب. وقيل: فليتقوا الله في النهي عن الوصية.
8. ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أي سليمًا عدلاً لا يكون فيه بخس لحق الميت ولا لحق الورثة.
9. اختلف في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾:
أ. قيل: نزلت الآية في مرثد بن زيد، رجل من غطفان، أكل مال ابن أخيه وهو يتيم صغير في حجره عن مقاتل.
ب. وقيل: نزلت في المشركين الَّذِينَ كانوا لا يورثون اليتامى أموالهم، وكانوا يأكلونها بغير حق.
ج. وقيل: نزلت في الأوصياء والحكام والقائمين بأمور اليتامى.
ثم عقب الله تعالى ذكر اليتامى بالوصي في أكل مالهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾:
أ. قيل: الأولياء.
ب. وقيل: الأوصياء والحكام.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يَأْكُلُونَ﴾:
أ. قيل: خص الأكل بالذكر وإن كان سائر التصرفات كالأكل في المنع؛ لأنه معظم التصرف والمنافع.
ب. وقيل: لأن عامة مال اليتامى في ذلك الوقت كان الأنعامَ التي يؤكل لحمها ويشرب لبنها فخرج الكلام على عادتهم.
ج. وقيل: لأن عادتهم أنهم يقولون فيمن أنفق ماله على وجوه خير أو شر: قد أكل ماله، والمراد سائر وجوه الإنفاق، ذكره القاضي.
11. ﴿أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ الذي لا أب لهم، وخصهم بالذكر لضعفهم واحتياجهم إلى القوام بأمرهم ﴿ظُلْمًا﴾ يعني حرامًا بغير حق.
12. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: أن ذلك يؤديهم إلى النار والعقاب، كما يقال: هذا الموت أي يؤدي إليه.
ب. الثاني: أن غير ما يأكلون يصير نارًا في بطونهم فيعذبون لقوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾
ج. الثالث: أن آكل مال اليتيم ظلمًا يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه وعينه وأنفه، يعرفه من رآه بأنه آكل مال اليتامى عن السدي.
13. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ يعني يدخلون النار ويعاينون حرها، ويعذبون فيها، وبضم الياء يحرقون بالنار.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. تأديب المريض ومن يحضره وولي اليتيم بأن يتقي الله، وأن يصور نفسه بدلاً منه حتى ينزل به الموت وله ذرية ضعفاء فينصحه بما لا يكون فيه بخسٌ بحق الورثة والميت، والأولى أن يحمل على الجميع؛ إذ لا تنافي بينهما.
ب. أنه ينبغي أن يقول الجميع القول السديد، والقول السديد ما يوافق الشرع.
ج. أن الواجب أن يحب للمسلمين ما يحب لنفسه ويحب لغيره، وأن يؤثر إلى ذريتهم ما يحب لنفسه وذريته.
د. وعيد أهل الصلاة لأن ولي اليتيم لا يكون إلا منهم.
هـ. زجر الأولياء عن مال اليتامى، وغلظ حال من خان فيه حتى روي أن عند نزول هذه الآية تحذر مَنْ عِنْدَهُ يتيمٌ من خَلْطِ مالِهِ بمال نفسه.
و. تدل من حيث المعنى على المنع من صرف مال اليتيم في سائر الوجوه؛ لأنه كالأكل.
ز. أن الوعيد يتناول أكل أموال اليتامى ولم يفصل فتدل على تناوله القليل والكثير، فلا يطلق اسم المال على الشيء التافه، ولا بد من مقدار، ولا شبهة أن القليل والكثير ممنوع منه، واختلفوا في القدر الذي يقطع على أنه كثير، فقال أبو علي: خمسة دراهم، قياسًا على مانع الزكاة، وقال أبو هاشم: عشرة دراهم، قياسًا على القطع في السرقة، ولا شبهة أن الوعيد يتناوله بشرط عدم التوبة، وفيما دون خمسة أو عشرة، إلا أن يكون معها طاعة أعظم منها.
ح. أن القيم في مال اليتامى يتصرف فيه؛ لذلك منعه عن أكله، وأولياء الأيتام ستة: الأب، والجد، ووصي الأب والجد، ووصي الأم، والقاضي، وأمين القاضي، فأما الأب فلا خلاف أنه تام الولاية يتصرف في النفس والمال حتى لو باع من نفسه أو من غيره ماله بثمن مثله جاز، ولو زوج الصغير والصغيرة جاز، فإن كان فيه غبن لم يجز البيع، واختلفوا إذا زوج بغبن في المهر، فعند أبي حنيفة يجوز، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز، وما يفعله الأب من العقود إذا بلغ فلا اعتراض للصغير عليه، وأما الجد فهو كالأب إذا لم يكن أب، فأما وصي الأب فإنه يتصرف في المال دون النفس، فلا يُزَوِّج، فأما وصي الأم فينفق عليهم، ولا يبيع العقار، فأما العم وابن العم والأخ وسائر العصبات فيلي التزويج ولا يتصرف في المال، فأما القاضي وأمينه فيتصرف في النفس والمال.
ط. أن الأكل فِعْلُهم؛ لذلك أوعدهم عليه، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
15. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة وخلف ﴿ضِعَافًا﴾ بكسر العين قليلاً دلالة على الياء، وروي عن حمزة بفتح العين والتفخيم، وهو قراءة سائر القراء.
ب. قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم سَيُصْلَوْنَ) بضم الياء أي يُدخلون النار ويحرقون فيها على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون بفتح الياء أي يدخلون، أضاف الفعل إليهم، وفي الشواذ عن بعضهم أنه قرأ: سَيُصَلَّوْن) بضم الياء وتشديد اللام من التصلية لكثرة ذلك مرة بعد مرة.
16. مسائل لغوية ونحوية:
أ. اللام في قوله: ﴿وَلْيَخْشَ﴾ لام الأمر، وهو الغائب كقولهم لِيَضْرِبْ زيد، وعلامة الجزم سقوط الياء، ليخش) يقتضي مفعولاً، وهو مضمر.
ب. قوله: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾ معطوف عليه، وتقديره: ليخش الله ولْيَقُلْ قولاً سديدًا، وقيل: تقديره ليخش الموصي إذا ترك ذرية ضعافًا وليتق الله ولا يوصي بأكثر من الثلث.
ج. ﴿قَوْلًا﴾ نصب على المصدر، و﴿سَدِيدًا﴾ نعته.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/542
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. ضعاف: جمع ضعيف وضعيفة.
ب. السديد: السليم من خلل الفساد، وأصله من سد الخلل، تقول: سددته أسده سدا، والسداد الصواب، وفيهم سداد من عوز بالكسر، وسدد السهم: إذا قومه، والسد: الردم.
ج. صلى الرجل النار يصليها صلى وصلاء وصليا: أي لزمها، وأصلاه الله إصلاء وهو صال النار: من قوم صلي وصالين، ويقال: صلي الأمر: إذا قاسى حره وشدته، قال العجاج (وصاليات للصلى صلي)، وقال الفرزدق:
çوقاتل كلب الحي عن نار أهله...ليربض فيها والصلا متكنفé
وشاة مصلية: أي مشوية.
د. سعير: بمعنى مسعورة، مثل كف خضيب،والسعر: اشتعال النار، واستعرت النار في الحطب، ومنه سعر السوق: لاستعارها به في النفاق.
2. لما أمر الله تعالى بالقول المعروف، ونهاهم عن خلافه، أمر بالأقوال السديدة، والأفعال الحميدة فقال: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾، فيه أقوال:
أ. أحدها أنه كان الرجل إذا حضرته الوفاة، قعد عنده أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: أنظر لنفسك، فإن ولدك لا يغنون عنك من الله شيئا،فيقدم جل ماله، فقال: وليخش الذين لو تركوا من بعدهم أولادا صغارا ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الفقر، وهذا نهي عن الوصية بما يجحف بالورثة، وأمر لمن حضر الميت عند الوصية، أن يأمره بأن يبقي لورثته، ولا يزيد وصيته على الثلث، كما أن هذا القائل، لو كان هو الموصي، لأحب أن يحثه من حضره على حفظ ماله لورثته، ولا يدعهم عالة: أي كما تحبون ورثتكم فأحبوا ورثة غيركم، وهذا معنى قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك.
ب. ثانيها: إن الأمر في الآية لولي مال اليتيم، يأمره بأداء الأمانة فيه، والقيام بحفظه، كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا، وأحب أن يفعل بهم، عن ابن عباس أيضا، فيكون معناه: من كان في حجره يتيم، فليفعل به ما يحب أن يفعل بذريته من بعده، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن موسى بن جعفر قال: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين ثنتين أما إحداهما: فعقوبة الدنيا قوله ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ الآية قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.
ج. وثالثها: أنها وردت في حرمان ذوي القربى أن يوصى لهم، بأن يقول الحاضر: لا توص لأقاربك، ووفر على ورثتك، وقوله ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾: معناه خافوا من جفاء يلحقهم، أو ظلم يصيبهم، أو غضاضة، أو ضعة.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾:
أ. قيل: أي فليتق كل واحد من هؤلاء في يتامى غيره أن يجفوهم ويظلمهم، وليعاملهم بما يحب أن يعامل به يتاماه، بعد موته.
ب. وقيل: فليتقوا الله في الإضرار بالمؤمنين.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾:
أ. قيل: أي مصيبا عدلا موافقا للشرع والحق.
ب. وقيل: انه يريد قولا لا خلل فيه.
ج. وقيل: معناه فليخاطبوا اليتامى بخطاب حسن، وقول جميل.
5. في معنى الآية ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من سره أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فليأته منيته، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)، ونهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يوصى بأكثر من الثلث، وقال: (والثلث كثير)، وقال لسعد: (لأن تدع ورثتك أغنياء، أحب إلي من أن تدعهم عالة، يتكففون الناس)
6. ثم أوعد الله آكلي مال اليتيم نار جهنم، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾: أي ينتفعون بأموال اليتامى، ويأخذونها ظلما بغير حق، ولم يرد به قصر الحكم على الأكل، الذي هو عبارة عن المضغ والابتلاع، وفائدة تخصيص الأكل بالذكر أنه معظم منافع المال المقصودة، فذكره الله تنبيها على ما في معناه من وجوه الانتفاع، وكذلك معنى قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
7. إنما علق الوعيد بكونه ظلما، لأنه قد يأكله الانسان على وجه الاستحقاق، بأن يأخذ منه أجرة المثل، أو يأكل منه بالمعروف، أو يأخذه قرضا على نفسه، على ما تقدم القول في ذلك، فلا يكون ظلما.
8. سؤال وإشكال: إذا أخذه قرضا، أو أجرة المثل، فإنما أكل مال نفسه، ولم يأكل مال اليتيم؟ والجواب: لا، بل يكون آكلا مال اليتيم، لكن لا على وجه يكون ظلما، بأن ألزم عوضه على نفسه، أو استحقه بالعمل، ولو سلمنا ذلك لجاز أن يكون إنما ذكر كونه ظلما لضرب من التأكيد والبيان، لان أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما،وسئل الرضا: كم أدنى ما يدخل به آكل مال اليتيم تحت الوعيد في هذه الآية؟فقال: (قليله وكثيره واحد إذا كان من نيته أن لا يرده إليهم)
9. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: إن النار ستلتهب من أفواههم، وأسماعهم، وآنافهم يوم القيامة، ليعلم أهل الموقف أنهم آكلة أموال اليتامى، عن السدي، وروي عن الباقر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يبعث ناس من قبورهم يوم القيامة، تأجج أفواههم نارا، فقيل له: يا رسول الله! من هؤلاء؟ فقرأ هذه الآية.
ب. والآخر: أنه ذكر على وجه المثل، من حيث إن من فعل ذلك يصير إلى جهنم، فتمتلئ بالنار أجوافهم، عقابا على أكلهم مال اليتيم، كما قال الشاعر:
çوإن الذي أصبحتم تحلبونه...دم غير أن اللون ليس بأحمراé
يصف أقواما أخذوا الإبل في الدية يقول: إنما تحلبون دم القتيل منها، لا الألبان.
10. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾: أي سيلزمون النار المسعرة للإحراق، وإنما ذكر البطون تأكيدا، كما يقال: نظرت بعيني، وقلت بلساني، وأخذت بيدي، ومشيت برجلي، وروى الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: إن في كتاب علي بن أبي طالب أن من أكل مال اليتيم ظلما، سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده، ويلحقه وبال ذلك في الآخرة، أما في الدنيا فإن الله يقول ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ الآية، وأما في الآخرة، فإن الله يقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية.
11. قرأ ابن عامر وأبو بكر، عن عاصم (سيصلون) بضم الياء، والباقون بفتحها.. قال أبو علي حجة من فتح الياء: قوله ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا﴾ و﴿جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾، و﴿إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾، وحجة من ضم الياء أنه من أصلاه الله النار كقوله ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾
12. ظلما: نصبه على المصدر، لأن معنى قوله ﴿يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾: يظلمونهم، ويجوز أن يكون في موضع الحال، كقولهم: جاءني فلان ركضا، أي يركض.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/20.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا في المخاطب بقوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي، وفي معنى الآية على هذا القول قولان:
• أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرّقه ويترك ورثته، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل.
• الثاني: على الضّدّ من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصيّة لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التّيميّ في آخرين.
ب. الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، متعلّق بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن ولّيتم من اليتامى، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السّائب.
ج. الثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه التي عيّنها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذّرّية الضّعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فأمر الوصي، بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحقّ أن يستعمل قضيّة الشّرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا عليّ بن عبيد الله، وغيره في (النّاسخ والمنسوخ)، فعلى هذا تكون الآية منسوخة، وعلى ما قبله تكون محكمة.
2. (الضّعاف): جمع ضعيف، وهم الأولاد الصّغار، وقرأ حمزة: ضعافا، بإمالة العين، قال أبو عليّ: ووجهها: أنّ ما كان على (فعال) وكان أوّله حرفا مستعليا مكسورا، نحو ضعاف، وقفاف، وخفاف؛ حسنت فيه الإمالة، لأنه قد يصعّد بالحرف المستعلي، ثم يحدر بالكسر، فيستحبّ أن لا يصعّد بالتّفخيم بعد التّصوّب بالكسر، فيجعل الصّوت على طريقة واحدة، وكذلك قرأ حمزة.
3. ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ بإمالة الخاء، والإمالة هاهنا حسنة، وإن كانت (الخاء) حرفا مستعليا، لأنه يطلب الكسرة التي في (خفت) فينحو نحوها بالإمالة، والقول السّديد: الصّواب.
4. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ رجلا من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن حيّان.
ب. الثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين.
5. إنما خصّ الأكل بالذّكر:
أ. قيل: لأنه معظم المقصود
ب. وقيل: عبّر به عن الأخذ.
6. معنى الظّلم: قال سعيد بن جبير: أن يأخذه بغير حقّ، وأما ذكر (البطون) فللتوكيد، كما تقول: نظرت بعيني، وسمعت بأذني.
7. في المراد بأكلهم النّار قولان:
أ. أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا، فسمّي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ قال السّدّيّ: يبعث آكل مال اليتيم ظلما، ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم.
ب. الثاني: أنه مثل، معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النّار، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي: رأيتم أسبابه.
8. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ، (وسيصلون) بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضمّ الياء، ووافقهما ابن مقسم، إلا أنه شدّد، والمعنى: سيحرّقون بالنّار، ويشوون، والسّعير: النار المستعرة، واستعار النّار: توقّدها.
9. توهّم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أنّ هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لمّا نزلت، تحرّج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ وهذا غلط، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة الظّلم.
__________
(1) زاد المسير: 1/377.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الجملة الشرطية وهو قوله: ﴿لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ هي صلة لقوله: ﴿الَّذِينَ﴾ والمعنى: وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه، وسنذكر وجوه المفسرين فيه.
2. لا شك أن قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ يوجب الاحتياط للذرية الضعاف، وللمفسرين فيه وجوه:
أ. الأول: أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون: ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا، فأوص بمالك لفلان وفلان، ولا يزالون يأمرونه بالوصية الى الأجانب الى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا، فقيل لهم: كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله، وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم، عن أنس قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
ب. الثاني: قال حبيب بن أبي ثابت: سألت مقسماً عن هذه الآية فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب، فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك، مع أن ذلك الإنسان يجب أن يوصى له.
ج. الثالث: يحتمل أن تكون الآية خطاباً لمن قرب أجله، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث، كان المراد منها أن يوصي أيضاً بالثلث، بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك، وكانوا يقولون: الخمس أفضل من الربع، والربع أفضل من الثلث، وخبر سعد يدل عليه وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)
د. الرابع: أن هذا أمر لأولياء اليتيم، فكأنه تعالى قال وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا، قال القاضي: وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.
3. في القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية، والأولى أولى، لأن قوله: ﴿لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ أشبه بالوجه الأول وأقرب إليه.
4. ﴿ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ قال الزمخشري: قرئ ضعفاء، وضعافي، وضعافي: نحو سكارى وسكارى، قال الواحدي: قرأ حمزة ﴿ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ بالامالة فيهما ثم قال ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال، وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف، وغلاب، وخباب، يحسن فيه الإمالة، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة، وأما الإمالة في ﴿خَافُوا﴾ فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت، ثم قال ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ وهو كالتقرير لما تقدم، فكأنه قال فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل، والقول السديد هو العدل والصواب من القول.
5. ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً﴾ قال الزمخشري: القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا: يا بني، يا ولدي، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا: إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسعد، والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالإكرام.
6. ثم إنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك، كقوله: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ [النساء: 9]، ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.
7. دل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
8. في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ قولان:
أ. الأول: أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي: إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ليلة أسري بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء: فقال: (هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)
ب. الثاني: ان ذلك توسع، والمراد: ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى: /﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40] قال القاضي: وهذا أولى من الأول لأن قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ الإشارة فيه إلى كل واحد، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى.
9. سؤال وإشكال: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، والجواب: أنه كقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
10. الله تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الإتلافات، فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه:
أ. أحدها: أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها، فخرج الكلام على عادتهم.
ب. ثانيها: أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا، أنه يقال: إنه أكل ماله.
ج. ثالثها: أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات.
11. اختلف في دلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾:
أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل، سواء كان مسلما أو لم يكن؛ لأن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة.
ب. جواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ: لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254]
12. اختلف في دلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾:
أ. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية، وإذا كان كذلك، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله، فقال أبو علي الجبائي: قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة، هذا جملة ما ذكره القاضي.
ب. يقال له: فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين: أحدهما: أنك زدت فيه شرط عدم التوبة، والثاني: أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم التوبة.. والثاني: أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ أقصى ما في الباب أن يقال: ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو، لكنا نجيب عنه من وجهين:
• أحدهما: أنا لا نسلم عدم دلائل العفو، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة.
• الثاني: هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود، بل يبقى الاحتمال، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم.
13. ذكر الله تعالى وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة: 35] وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار، ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله، أما هاهنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح، فكان الوعيد أشد، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب، أما اليتيم فإنه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
14. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ بضم الياء، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال: صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء، وهو صالي النار، وقوم صالون وصلاء قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ هُوَصالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 163] وقال: ﴿أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا﴾ [مريم: 70] وقال: ﴿جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا﴾ [إبراهيم: 29/56، المجادلة: 8] قال الفراء: الصلي: اسم الوقود وهو الصلاة إذا كسرت مدت، وإذا فتحت قصرت، ومن ضم الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار اصلاء، قال ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾ [النساء: 30] وقال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: 26] قال الزمخشري: قرئ ﴿سَيَصْلَوْنَ﴾ بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها.
15. السعير: هو النار المستعرة يقال: سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة، وإنما قال ﴿سَعِيرًا﴾ لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى.
16. روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ [البقرة: 220] ومن الجهال من قال صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الإثم كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/505.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ﴾ حذفت الألف من ليخش) للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم، وأنشد الجميع:
محمد تفد نفسك كل نفس...إذا ما خفت من شيء تبالا
أراد لتفد، ومفعول (ليخش) محذوف لدلالة الكلام عليه، و﴿خَافُوا﴾ جواب ﴿لَوْ﴾، التقدير لو تركوا لخافوا، ويجوز حذف اللام في جواب ﴿لَوْ﴾
2. هذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها:
أ. فقالت طائفة: هذا وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم، قاله ابن عباس، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾
ب. وقالت طائفة: المراد جميع الناس، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجورهم، وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان، فقلت له: يا أبا بشر، ودي ألا يكون لي ولد، فقال لي: ما عليك! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية، وفي رواية: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ فقلت: بلى! فتلا هذه الآية ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ إلى آخرها، ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته)
ج. وقول ثالث قاله جمع من المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته: إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدق وأعتق، حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته، فنهوا عن ذلك، فكأن الآية تقول لهم: (كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله)، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللهَ﴾
د. وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك على ورثتك، وابق لولدك فليس أحد أحق بما لك من أولادك، وينهاه عن الوصية، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له، فقيل لهم: كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم.
3. هذان القولان(2) مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث، روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب، قال ابن عطية: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس صنفان، يصلح لأحدهما القول الواحد، ولآخر القول الثاني، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه، قلت: وهذا التفصيل صحيح، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسعد: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فإن لم يكن للإنسان ولد، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه، فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح، فيكون وزره عليه.
4. ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ السديد:
أ. قيل: العدل والصواب من القول، أي مروا المريض بأن يخرج من ما له ما عليه من الحقوق الواجبة، ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار.
ب. وقيل: المعنى قولوا للميت قولا عدلا، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله، ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن، هكذا قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) ولم يقل مروهم، لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد.
ج. وقيل: المراد اليتيم، أن لا ينهروه ولا يستخفوا به.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان، ولهذا قال الجمهور: إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم، وقال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا، لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء، وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق، وسمى المأكول نارا بما يئول إليه، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ أي عنبا، وقيل: نارا أي حراما، لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه، وروى أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ليلة أسري به قال: رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر فيها وأكل مال اليتيم)
6. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله، من أصلاه الله حر النار إصلاء، قال الله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ قرأ أبو حياة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى، دليله قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾، ومنه قولهم: صليته مرة بعد أخرى، وتصليت: استدفأت بالنار، قال: وقد تصليت حر حربهم...كما تصلى المقرور من قرس وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاء، قال الله تعالى: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾، والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها علم الله...وإني لحرها اليوم صالوالسعير: الجمر المشتعل.
7. هذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى، روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)، فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان يرعى بالبادية.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/51.
(2) يقصد الأخيرين
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ هم الأوصياء، كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم؛ وقالت طائفة: المراد: جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام، وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجورهم؛ وقال آخرون: إن المراد بهم: من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، وبأن يقولوا للمحتضر قولا سديدا، من إرشاده إلى التخلص عن حقوق الله، وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقرّبة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله، وإحرام ورثته، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس؛ وقال ابن عطية: الناس صنفان، يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء، حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدّم لنفسه، وإذا ترك ورثته ضعفاء مفلسين، حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح.
2. ﴿لَوْ تَرَكُوا﴾ صلة الموصول، والفاء في قوله: ﴿فَلْيَتَّقُوا﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ والمعنى: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا، وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، ثم أمرهم بتقوى الله، والقول السديد للمحتضرين، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء والأوصياء، وانتصاب قوله: ﴿ظُلْمًا﴾ على المصدرية، أي: أكل ظلم، أو على الحالية، أي: ظالمين لهم.
4. ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ أي: ما يكون سببا للنار، تعبيرا بالمسبب عن السبب، وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية.
5. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ قراءة عاصم وابن عامر: بضم الياء، على ما لم يسم فاعله، وقرأ أبو حيوة: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، من التصلية، بكثرة الفعل مرة بعد أخرى، وقرأ الباقون: بفتح الياء، من: صلى النار، يصلاها، والصلي: هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:
çلم أكن من جناتها علم اللّ...ه وإنّي لحرّها اليوم صاليé
والسعير: الجمر المشتعل.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/494.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ قاربوا الترك بقرب موتهم كالمحتضر؛ لأنَّه لو ماتوا وتركوا لم يخشوا، إِلَّا أنَّه قد يكون اعتناء الميِّت من الآخرة على ولده، أو كأنَّه قيل: لو علموا أنَّهم يتركون ولو قبل الاحتضار ونحوه من أمارات الموت ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ بعد موتهم ﴿ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ بالطفوليَّة، أو الجنون أو المرض.
2. ﴿خَافُواْ عَلَيْهِمْ﴾ من الضياع وذلك أَمرٌ للورثة بالشفقة على من حضر القسمة فيعطوهم، كما يشفقون على أولادهم مثلاً، وأَمْرٌ للأوصياء بِأَن يفعلوا في نحو يتامى غيرهم ما يحبُّون أن يَفعل في نحو يتاماهم غيرُهم، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا يُؤمنُ العَبدُ حتَّى يحِبَّ لأخيه ما يحِبُّ لنفسه)؛ فمن لا يحِبُّ الجوع والعري لأولاده فكيف يحبُّهما لأولاد غيره؟، وأَمَرَ الحاضرين المريضَ عند الإيصاء أن يخشوا الله، ويشفقوا على أولاده، وسائر الورثة أن يضرَّهم بصرفه المال إلى غيرهم، كما يشفقون على أولادهم.
3. في الآية نهيٌ للذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إنَّ أولادك لا يغنون عنك شيئًا، فيجحف ماله بالوصايا، والصواب أن يأمروهم بأداء الفرض، وبما تيسَّر معه، وقيل أمرٌ للمؤمنين أن لا يسرفوا في الوصيَّة، وقد استحبَّ السلف أن لا تبلغ الثلث، ويقولون: الخمس أفضل من الربع، والربع أفضل من الثلث، وقد جاء الحديث: (لأَنْ تَذَر ورثَتَكَ أَغنِياءَ خَيرٌ لَكَ مِنْ أَن تَذَرَهُم عَالة يَتَكَفَّفونَ النَّاسَ)، وما تركه الميِّت صدقة على ورثته.
4. ﴿فَلْيَتَّقُواْ اللهَ﴾ تفريع على ما قبل أمرهم بالتقوى، أوَّلاً وآخرًا تعميمًا، ولأنَّ الأُولى لا تنفع بدون الأخرى، الاتِّقاءُ ثمرة الخشيةِ، أعني أنَّها توصل إلى الاتقاء فهو غايتها ﴿وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا﴾ لنحو اليتامى، كما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب، أو ليقولوا قولاً سديدًا للمريض بما يصدُّه عن السَّرَف في الوصيَّة، أو الخيانة، كما يوصي لوارث في حقٍّ له بأكثر منه، أو لغيره بأكثر من الثلث، موهمًا أنَّه تباعة، وبتذكير التوبة والإيصاء بالتباعات، وبكلمة الشهادة، أو يحسنون القول لحاضر القسمة، والسَّداد (بالفتح): الاستقامة، والصواب، والعدل، وأمَّا الكفاية فيقال فيها بالفتح والكسرِ، والكسرُ أفصح.
5. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ مفعول مطلق، أي: أكلَ ظلمٍ، أو حال، أي: مصاحبي ظلم، أو يقدَّر بالوصف، أي: ظالمين، لا تعليل أو تمييز كما قيل، ﴿إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ الأكل لا يكون إِلَّا في البطن، لكنَّ المعنى أنَّ الذين يتلفون أموال اليتامى ظلمًا، بطعم أو غيره كالإعطاء والتضييع، ما هم إِلَّا كالطاعم نارًا في بطنه، أو أراد مَلْءَ بطونهم؛ لأَنَّ العرب تقول: (أكل في بطنه) إذا ملأه، وإلَّا قالوا في بعض بطنه كقوله:
çكُلُوا في بَعضِ بَطنكِم تَعفُّوا...فإنَّ زَمانَكم زَمنٌ خَميصُé
ويناسبه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر في سبعة أَمعَاء) والبطن محتوٍ على سبعة أمعاء وغيرها، وذكر البطن تأكيد بعد ذكر الأكل، كقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: 167]، ﴿وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، ﴿يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]
6. ﴿نَارًا﴾ موجب نارٍ، أو ما يصير نارًا، أو سبب نار، وذلك مجاز بالحذف، أو مرسل، وقيل: ذلك حقيقة، بمعنى أنَّهم يأكلون نارًا يوم القيامة تخلق لهم يأكلونها، قال أبو بردة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يـبعث الله قومًا من قبورهم تَتَأَجَجُ أفواهُهم نارًا)، فقيل: مَن هم؟ فقال: (ألم تر أنَّ الله يقول: ﴿اِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا اِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، وجاء الأثر أنَّهم تملأ أفواههم جمرًا فيقال لهم: كلوا ما أكلتم في الدنيا، ثمَّ يدخلون النار الكبرى، وفي حديث الإسراء: (نظرت إلى قوم لهم مشافر كمشافر الإبل، تجعل في أفواههم صخر من نار، وتخرج من أسافلهم في خوار وصياح، هم الآكلون لأموال اليتامى ظلمًا)
7. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ يدخلون، وقيل: أصل الصلي القرب من النار، وَإنَّ استعماله في دخولها مجاز ﴿سَعِيرًا﴾ نار مسعورة، أي: موقدة وملهبة، قيل: نزلت الآية في رجل من غطفان اسمه مرثد بن زيد أكل مال ابن أخ له يتيم، فامتنعوا من خلطة مال اليتامى فنزل: ﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ﴾ إلخ [البقرة: 220]
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/124.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية وجوه:
أ. الأول: أنها أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريّهم الضعاف بعد وفاتهم.
ب. الثاني: أنها أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم:
ج. الثالث: أنها أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين، متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم، هل يجوّزون حرمانهم؟
د. الرابع: أنها أمر للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال لا، قال فالشطر؟ قال لا، قال فالثلث، قال الثلث، والثلث كثير، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وفي الصحيح عن ابن عباس قال لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال الثلث: والثلث كثير (أو كبير)
2. الوجه الأول حكاه ابن جرير من طريق العوفيّ عن ابن عباس، قال ابن كثير: وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما، ونقل الرازيّ عن القاضي: إن هذا الوجه أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.
3. القول السديد: قال الزمخشريّ: والقول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بـ (يا بنيّ) ويا ولدي، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له، إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لسعد: إنك أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، ومن المتقاسمين ميراثهم أن يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
4. لا بد من حمل قوله تعالى: (تركوا) على المشارفة: ليصح وقوع (خافوا) خيرا له، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، ونظيره: ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231]، أي شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز، في التعبير عن المشارفة على الترك، بالترك، سرّ بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذبّ عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي، وإن كانت من الدنيا، إلا أنها لقربها من الآخرة، ولصوقها بالمفارقة، صارت من حيّزها، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، كذا في الانتصاف.
5. قال بعض المفسرين: إنه يجب أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته، وأن على وليّ اليتيم أن لا يؤذي اليتيم، بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوا اليتيم: يا بنيّ، يا ولدي، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة.
6. في الآية إشارة إلى إرشاد الآباء، الذي يخشون ترك ذرية ضعاف، بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع، وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف، كما في آية: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82]، إلى آخرها، فإن الغلامين حفظا، ببركة صلاح أبيهما، في أنفسهما ومالهما.
7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ أي على وجه الظلم من الورثة، أو أولياء السوء وقضاته، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته، كما تقدم ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ أي ما يجرّ إلى النار ويؤدّي إليها ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ أي في القيامة ﴿سَعِيرًا﴾ أي نارا مستعرة، روى ابن حبان في (صحيحه) وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال ألم تر أن الله قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾، الآية.
8. في بطونهم: قال الزمخشريّ: في بطونهم، أي ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه، قال الشاعر:
çكلوا في بعض بطنكمو تعفوا...فإن زمانكم زمن خميصé
قال الناصر: ومثله: قد بدت البغضاء من أفواههم أي شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله، خص الأكل، لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها.
9. روى أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى أكله أو يفسد، فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله تعالى: ﴿يسألونك عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة: 220] الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، قال الرازيّ: ومن الجهال من قال صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد، لأن هذه الآية في المنع من الظلم، وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى، إن كان على سبيل الظلم، فهو من أعظم أبواب الإثم، كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والإحسان، فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، وقال قبل ذلك: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/35.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ﴾ أمر من الخشية وهى كما في المعاجم الخوف وقال الراغب هي خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ولذلك خص العلماء بها في قوله ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، والقيد الذي ذكره لا يظهر في كل الشواهد التي وردت من هذا الحرف في القرآن وكلام العرب فلم يكن عند عنترة خوف مشوب بتعظيم ولا علم فيما عبر عنه بقوله:
çولقد خشيت بأن أموت ولم تكن...للحرب دائرة على ابنى ضمضمé
فان كان بين الخوف والخشية فرق فالاقرب عندي أن تكون الخشية هي الخوف في محل الامل، ومن دقق النظر في الآيات التي ورد فيها حرف الخشية يجد هذا المعنى فيها، ولعل أصل الخشية من مادة خشت النخلة تخشو إذا جاء تمرها دقلارديئا)، وهى مما يرجى منها الجيد، ولم يرد في الآية ذكر مفعول ﴿لْيَخْشَ﴾ فالظاهر أن المراد منه الامر بالتلبس بالخشية كقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَيَخْشى﴾ أو حذف المفعول لتذهب النفس في تصوره إلى كل ما يخشى في ذلك، وقال الراغب أي ليستشعروا خوفا من معرته، وقال الأستاذ الامام: ليخشوا الله
2. ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾ قال المفسرون السديد هو العدل والصواب، وهو لا يكون من المتدين إلا موافقا لحكم الشرع، وقالوا سدّ قوله يسد (بكسر السين) إذا كان سديدا، وهو يسد في القول إسدادا: يصيب السداد (بالفتح) وهو القصد والصواب والاستقامة، والسداد (بكسر) البلغة وما يسد به الشيء كالثغر والقارورة، وقولهم (سداد من عوز) ورد بفتح السين وبكسرها وهو الافصح، وإذا كان السديد مأخوذ من سد الثغر ونحوه فالقول السديد هو المحكم الذي تدرأ به المفسدة وتحفظ المصلحة كما أن سداد الثغر يمنع استطراق شيء منه يضر ما وراءه.
3. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ قال محمد عبده: في الآية وجهان:
أ. أحدهما: إن المطالبين بالقول السديد في هذه الآية هم المطالبون بالقول المعروف في الآية التي قبلها فتكون هذه الآية معللة للأمر بالقول المعروف في تلك متصلة بها مباشرة، ذلك أنه يجوز أن ينهى بعض حاضري القسمة عن رزق اليتامى والمساكين الذين يحضرونها وهذا يكثر في الناس لا سيما إذا كان الورثة من الأغنياء الوجهاء فإن الناس يتحببون إليهم بما يوهم الغيرة على أموالهم، فإن الله تعالى يذكر هؤلاء الذين يحولون دون عمل البر بأن يخافوا الله أن يتركوا بعد موتهم ورثة ضعفاء يحتاجون ما يحتاجوا حاضروا القسمة وطالبوا البر من اليتامى والمساكين فيعاملوا بالحرمان والقسوة ـ فهو يرشدهم إلى معاملة هؤلاء الضعفاء مثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم إذا تركوهم ضعافا.
ب. الثاني: إن الخطاب للأوصياء الأولياء الذين يقومون على اليتامى فهو بعد الوصية بحفظ أموالهم وحسن تربيتهم بابتلائهم واختبارهم بالعمل ليعرف رشدهم أمرهم بإحسان القول لهم أيضا فإن اليتيم يجرحه أقل قول يهين لا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء، وقد جرت العادة بتساهل الناس في مثل هذه الأقوال وإن كانوا عدولا حافظين للأموال محسنين في المعاملة، فقلما يوجد يتيم في بيت إلا ويمتهن ويقهر بالسوء من القول وذكر والديه بما يشينهما ولذلك ورد التأكيد بالوصية باليتامى في الكتاب والسنة.
4. للمفسرين في الآية أقوال أخر:
أ. وقد اختار ابن جرير منها ـ لاختياره أن ما قبلها في قسمة الوصايا ـ إنها في الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله ويكون له ذرية ضعفاء، فالله تعالى يأمر هؤلاء أن يخافوا على ذرية هذا الرجل مثل ما يخافون على ذريتهم لو تركوا ذرية ضعافا فلا يقولوا في الوصية ما يمكن أن يضر بذرية الموصي كالترغيب في تكثير الوصية للغرباء بل يقولوا قولا سديدا بأن يرغبوه فيما يرضون مثله لأنفسهم ولذريتهم من بعدهم، وروى ابن جرير مثل هذا الرأي عن ابن عباس وقتادة والسدي وسعيد بن جبير ومجاهد.
ب. وروي عن غيرهم أن الآية في ولاة اليتامى يأمرهم الله أن يحسنوا معاملتهم كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم الضعاف لو تركوهم وماتوا عنهم، وروي عن ابن عباس أنه قال فيها: (يعني الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة (أي الفقر) والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم، يقول فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يكفيهم أمر ذريتهم بعدهم) وهذا موافق للوجه الثاني مما قاله محمد عبده إلا أنه لم يبين هنا معنى القول السديد الذي يجب أن يقال كما بين هناك.
ج. وهناك قول ثالث: هو أنها أمر للورثة بحسن معاملة من يحضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين كما يحبون أن يحسن الناس معاملة ذريتهم لو كانوا مثلهم وعلى هذا يكون معنى الأمر بالتقوى أن يتقوا الله فيما أمرهم به من رزق هؤلاء عند القسمة، ويكون الأمر بالقول المعروف مؤكدا لمثله في تلك الآية.
د. وفيها قول رابع: وهو أنها أمر للمؤمنين كافة أن يتبصروا في أمر ذريتهم فلا يسرفوا في الوصية، فقد كان بعضهم يحب أن يوصي بجميع ماله كما في حديث سعد ابن أبي وقاص المتفق عليه وفيه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأذن له بالثلث إلا بعد المراجعة المرة بعد المرة وقال: (والثلث كثير، لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أي فليتقوا الله في ذريتهم وليقولوا في تقرير الوصية قولا سديدا أي قريبا من العدل والمصلحة، بعيدا من استطراق المضرة، ويجوز أن تشمل كل ما ذكره.
5. حاصل معنى الآية: ليكن من أهل الخشية ـ أو ليخش العاقبة، أو الله ـ الذين لو تركوا بعدهم ذرية ضعافا خافوا أن يسيء الناس معاملتهم ويهينوهم فلا يقولوا ما يترتب عليه ضرر بذرية أحد بل ليقولوا قولا محكما يسد منافذ الضرر فكما يدين المرء يدان.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ أي ظالمين في أكلها أو أكلا على سبيل الظلم وهضم الحق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة أو اقتراضا أو تقديرا لأجرة العمل كما أذن الله للفقير في آية سابقة وكما أباحت الشريعة بدلائل أخرى ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ أي ملء بطونهم، فقد شاع هذا الاستعمال في الظرفية كأن الأصل فيها أن يكون المظروف مالئا للظرف، ويصح أن يكون ذكر البطون للتأكيد وتمثيل الواقع بكمال هيئته كقوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 11]
7. ﴿نَارًا﴾ أي ما هو سبب لعذاب النار أو ما يشبه النار في ضررها وروى أن أفواههم تملأ يوم القيامة جمرا وأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رآهم ليلة المعراج يجعل في أفواههم صخر من نار فيقذف في أجوافهن، أي مثل له عذابهم بما سيكون عليه، وقد جعل بعض المفسرين هذا تفسيرا للآية يجعل أكل النار حقيقة لا مجازا وهو إنما يصح إذا صحت الرواية بجعل ﴿يَأْكُلُونَ﴾ للاستقبال والمتبادر منه أنه للحال بقرينة عطف الفعل المستقبل عليه وهو قوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، يقال (صلى اللحم صليا) بوزن رماه رميا شواه، فإذا رماه في النار يريد إحراقه يقال: أصلاه إصلاء وصلاة تصلية، وجعل بعضهم معنى الثلاثي والرباعي واحدا كل منهما يستعمل في الشيء وفي الإلقاء لأجل الإحراق والإفساد، وصلى يده بالنار سخنها وأدفأها واصطلى استدفأ، وأصلاه النار وصلاه إياها أدخله إياها، وأصلاه فيها أدخله فيها، وصليت النار قاسيت حرها، والصلى ـ بالفتح والقصر ـ والصلاء ـ بالكسر والمد ـ الوقود ويطلق الصلاء على الشواء أي ما يشوى، قال السيد الآلوسي وقال بعض المحققين إن أصل الصلى القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا اه.
8. (السعير) النار المستعرة أي المشتعلة يقال سعرت النار سعرا وسعرتها تسعيرا أشعلتها؛ قال الرازي والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة وإنما قال (سعيرا) لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله.. فهو يعني أن التنكير للتهويل ويحتمل أن يكون للتنويع أي يصلون أو يصليهم ملائكة العذاب سعيرا خاصا من السعر لا يصلاها إلا من هضم حقوق اليتامى وأكل أموالهم ظلما، وهو قرينة لفظية وحجة معنوية من حيث دخلوها أي دخول دار الجزاء التي سميت باسمها لأن جل العذاب فيها يكون بها، فلو كان ما ذكروه هو معنى الآية لكان لفظها هكذا: (فسيألكون نارا ويصلون سعيرا) فالأكل عذاب باطن البدن لأن معظم اغتيال المال يكون للأكل، والصلى عذاب ظاهره فهو جزاء اللباس وسائر التصرفات، ولكنه لما ذكر (يأكلون) غفلا من علامة الاستقبال وعطف عليه (يصلون) مقرونا بالسين التي هي علامة الاستقبال علم أن المعنى أنهم إنما يأكلون الآن ما لا خير لهم في أكله لأنه في قبحه وما يترتب عليه من العقاب كالنار أو لأنه سبب لدخول النار؛ ثم بين ما يجزون به في المستقبل الذي يشير إليه المجاز في أكل النار فقال: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ولم أر أحدا حقق هذا البحث وليس عندنا في الآية شيء عن محمد عبده.
__________
(1) تفسير المنار: 4/393.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ لا يزال الكلام مع الأوصياء الأولياء الذين يقومون على اليتامى والقول السديد منهم أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بنىّ ويا ولدي ونحو ذلك، وقوله تركوا أي قاربوا أن يتركوا، وقوله من خلفهم: أي من بعد موتهم، وقوله خافوا عليهم أي الإهمال والضياع.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ظلما أي على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك أو تقدير الأجرة العمل، وقوله في بطونهم: أي ملء بطونهم، وقوله نارا: أي ما هو سبب لعذاب النار.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/194.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في محضر الموت، وبمشهد من الاستبداد بمال الميت، الذي جمعه، واجتهد في جمعه، ثم صار إلى يد غيره، وربما إلى يد من كان يبغض أو يعادى من ورثته ـ يتمثل للحريصين على جمع المال من كل وجه، والمترصدين له بكل سبيل، غير متحرجين ولا متأثمين ـ يتمثل لهم مصير هذا المال الذي ركبوا له هذه الطرق، وجنوا به تلك المآثم، فيخفّ وزنه عندهم، ويقلّ حرصهم عليه، وإلقاء أنفسهم إلى التهلكة من أجله.. وهنا تصغى الآذان للنصح، وتتفتح القلوب للعظة فيما يتصل بالمال، والتعفف في كسبه وجمعه!.
2. لا يدع القرآن هذه الفرصة تمرّ، دون أن ينتهزها، ليبلغ من القلوب الغاية التي يريدها، لحفظ حقوق اليتامى، وصيانة أموالهم، وحراستها من طمع الطامعين، وخيانة الخائنين، لهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ ـ جاء مذكرا الأحياء بهذا الذي هم صائرون إليه هم وأموالهم، عارضا عليهم في هذا الموقف ما يهزّ مشاعرهم، ويثير أشجانهم.. إنهم سيموتون كما مات هذا الميت الذي تقاسموا تركته، أو تقاسمها ورثته وهم يشهدون.. وإنهم سيتركون من بعدهم أطفالهم، الذين سينضمون إلى موكب الأيتام، كما ترك هذا الميت أطفاله، وانضموا إلى جماعة الأيتام، ممن مات آباؤهم قبله، فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه في هؤلاء اليتامى الذين في أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم.
3. إنه ليس هناك من صورة مثل هذه الصورة، التي يعرضها القرآن هنا، في إثارة العواطف، وفي استجلاء العبرة والعظة، حيث يتمثل منها للحى خاتمه مطافه في هذه الحياة، ومصير هذا المال الذي جمعه، والذي يكاد يذهب بدينه ومروءته جميعا.
4. في قوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ نداء سماوى كريم، يلتقى مع تلك المشاعر التي حركتها الصورة التي يتمثلها من يقرأ الآية الكريمة وينظر فيما يطلع عليه منها، من مشاهد الموت، وما بعد الموت، والقول السديد، الذي تدعو إليه الآية، هو القول الذي يحمل النصح، والتوجيه، والتسديد، لليتامى، وإعدادهم إعدادا صالحا للحياة.. تماما كما يفعل الأب مع أبنائه، وإلا فهو قول غير سديد، وخيانة للأمانة التي اؤتمن الأوصياء عليها.
5. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ تحذير بعد نصح، وتهديد بعد عظة.. فمن لم يفتح عينه على هذا الخطر، ويتجنب الهاوية التي بين يديه، فلا يلومنّ إلا نفسه، إن مال اليتيم هو (نار) تحرق كل من يمدّ إليه يدا خائنة، أو يدسّه في بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به في الدنيا، وصلى به عذاب جهنم في الآخرة.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/708.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ موعظة لكلّ من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة، في شأن أموال اليتامى وأموال الضعاف من النساء والصبيان، فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه، ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذرّيتهم بأن ينزّلوا أنفسهم منزلة الموروثين، الذين اعتدوا هم على أموالهم، وينزّلوا ذرّياتهم منزلة الذريّة الذين أكلوا هم حقوقهم، وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)
2. وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أنّ المعتدي عليهم خلق ضعاف بقوله: ﴿ضِعَافًا﴾، ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى، بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا، فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأنّ نصيب أبناءهم مثل ما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أنّ مفعول (يخش) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كلّ مذهب محتمل، فينظر كلّ سامع بحسب الأهم عنده ممّا يخشاه أن يصيب ذرّيّته.
3. جملة ﴿لَوْ تَرَكُوا﴾ إلى ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ جواب ﴿لَوْ﴾، وجيء بالموصول لأنّ الصلة لمّا كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله، وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كلّ سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له، إذ هي أمر يتصوّره كلّ الناس.
4. وجه اختيار ﴿لَوْ﴾ هنا من بين أدوات الشرط أنّها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرّض لإمكانه، فيصدق معها الشرط المتعذّر الوقوع والمستبعدة والممكنة: فالذين بلغوا اليأس من الولادة، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنّهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم، والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر.
5. فعل ﴿تَرَكُوا﴾ ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240] وقوله تعالى: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [الشعراء: 201] وقول الشاعر:
çإلى ملك كاد الجبال لفقده...تزول زوال الراسيات من الصخرé
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنّما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت، فالمعنى: لو شارفوا أن يتركوا ذرّيّة ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء.
6. المخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة: من الأوصياء، ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهن، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم، كلّ أولئك داخل في الأمر بالخشية، والتخويف بالموعظة، ولا يتعلّق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله: ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النساء: 8] لأنّ تلك الجملة وقعت كالاستطراد، ولأنّه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف.
7. في الآية ما يبعث الناس كلّهم على أن يغضبوا للحقّ من الظلم، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم، لأنّهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك، وأن يأكل قويّهم ضعيفهم، فإنّ اعتياد السوء ينسي الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله، وتقدّم تفسير الذرّيّة عند قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ في سورة آل عمران [34]
8. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ فرّع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين: لأنّ الأمر الأول لمّا عضّد بالحجّة اعتبر كالحاصل فصحّ التفريع عليه، والمعنى: فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول.
9. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى، جرّته مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم، فقلّما يخلو ميّت عن ورثة صغار، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة.
10. ﴿ظُلْمًا﴾ حال من ﴿يَأْكُلُونَ﴾ مقيّدة ليخرج الأكل المأذون فيه بمثل قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]، فيكون كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، ثم يجوز أن يكون ﴿نَارًا﴾ من قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ مرادا بها نار جهنّم، كما هو الغالب في القرآن، وعليه ففعل ﴿يَأْكُلُونَ﴾ ناصب ﴿نَارًا﴾ المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار، فأطلق النار مجازا مرسلا بعلاقة الأول أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم، وعلى هذا فعطف جملة: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ عطف مرادف لمعنى جملة ﴿يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾
11. يجوز أن يكون اسم النار مستعارا للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديدا بعذاب دنيوي أو مستعارا للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه، والمعنى إنّما يأخذون أموالا هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه، فيكون هذا تهديدا بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ [البقرة: 276] ويكون عطف جملة ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ جاريا على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة.
12. ذكر ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة ﴿يَأْكُلُونَ﴾ لمعنى يأخذون ويستحوذون.
13. السين في ﴿سَيَصْلَوْنَ﴾ حرف تنفيس أي استقبال، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال، سوءا كان استقبالا قريبا أو بعيدا، وهي مرادفة سوف، وقيل: إنّ سوف أوسع زمانا، وتفيدان في مقام الوعد تحقيق الوعد وكذلك التوعّد، ويصلون مضارع صلي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة، كما هنا، يقال: صلى بالنار، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض، قال حميد بن ثور:
çلا تصطلي النار إلّا يجمرا أرجا...قد كسّرت من يلنجوج له وقصاé
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد، وقرأ الجمهور: وسيصلون ـ بفتح التحتية ـ مضارع صلي، وقرأه ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم ـ بضم التحتية ـ مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب.
14. السعير النار المسعّرة أي الملتهبة، وهو فعيل بمعنى مفعول، بني بصيغة المجرّد، وهو من المضاعف، كما بنى السميع من أسمع، والحكيم من أحكم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/42.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ واضح أن هذا النص وارد في اليتامى، ويحتمل أن يكون المراد الحث على إعطاء اليتامى غير الوارثين مقدارا يعين على إصلاحهم، ويكون تخصيصهم بالذكر للحث على إكرام اليتيم، وذلك سنن القرآن الكريم دائما، ويحتمل وهو الراجح أن يكون الكلام في شأن نصيب اليتامى في التركات، ويكون المخاطبون غير المخاطبين فيما مضى أو هم، ولكن لعمل آخر وهو المحافظة على حق اليتيم في الميراث فلا يضيع، وقد حث سبحانه على المحافظة على حق اليتيم بأبلغ تعبير، فقال ما معناه: على الذين يتحكمون في مال اليتيم فيطفّفونه أو تكون عندهم هذه النية أن يخافوا على أنفسهم، ويخشوا أن يكون لهم من بعدهم ذرية ضعاف أي أولاد لا حول لهم ولا طول، ويكونوا يتامى كهؤلاء الذين يتحكمون فيهم، وإذا كانوا كذلك، فليتقوا الله في مال اليتيم ولا ينقصوه ولا يضيعوا له حقا؛ فإن القصاص سيكون في أولادهم، وقد جعل الله تعالى من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم، وخير الناس من يجعل من شعوره بالمحافظة على العزيز عنده شعورا مثله لمن يكونون في مثل أمره.
2. فسر بعضهم القول السديد هنا بما يقارن القول المعروف، ونحن نرى أن القول السديد هو القول المسدد نحو الحق المصيب للهدف، وذلك بأن يقول القول لا تطييبا لليتامى فقط، بل يقوله للمحافظة على حقوقهم، فإن رأى من المقتسمين رغبة في نقصهم سدد القول وقال الحق ومنع الظلم حتى لا يؤكل نصيب اليتيم في التركة، أو يضيع حقه في أي تصرف من التصرفات.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ إن اليتامى مظنة أن يبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلما هو بخسهم حظهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم سماه الله تعالى أكلا لما فيه من معنى الأخذ وأن يقصد به تنمية ماله كما ينمى جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مآلها البوار (ومن نبت لحمه من حرام فالنار أولى به)
4. قال سبحانه ﴿ظُلْماً﴾ لكمال التشنيع على الأكل، إذ هم يظلمون ضعيفا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: ﴿إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ وهذا تصوير لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه أي يملأ بطنه بها فهو في ألم دائم حتى يهلك، وكذلك دائما من يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون أكلا هنيئا ولا مريئا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتا خربت لأنها أكلت مال اليتيم، وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة فقال: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها، اللهم ارزقنا رزقا حسنا، وجنبنا ما حرمت، واقنعنا بالحلال الطيب، إنك سميع الدعاء.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1598.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، الأمر في (ليخش) موجه إلى ولي اليتيم، والمعنى ان على ولي اليتيم أن يفعل بماله ما يحب الولي أن يفعل بأموال أيتامه الولي الذي يقوم على شؤونهم من بعده، تماما مثل عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وكما تدين تدان، وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ان الله أعد لمن يسيء التصرف في مال اليتيم عقوبتين: الأولى في الدنيا، وهي اساءة التصرف في مال أيتامه، الثانية في الآخرة، وهي نار الحريق، قال الإمام علي عليه السلام: أحسنوا في عقب غيركم تحسن الناس في عقبكم.
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، المراد بأكل النار أكل ما يوجب العذاب في النار، فهو من باب اطلاق المسبب، وهو النار، على السبب، وهو أكل الحرام، وفي الحديث أشد الناس عذابا حاكم جائر، وآكل مال اليتيم، وشاهد زور.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/260.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية، الخشية التأثر القلبي مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم وإكبار، وسداد القول وسدده كونه صوابا مستقيما، ولا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث، ويكون حينئذ قوله: ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ كناية عن اتخاذ طريقة التحريم والعمل بها وهضم حقوق الأيتام الصغار، والكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ الآية:، ويؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف واللين ونحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد والعمل به لا قابلا لأن يحفظ به كرامة الناس وحرمتهم.
2. كيف كان فظاهر قوله: ﴿الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ إنه تمثيل للرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولي لهم يتكفل أمرهم ويذود عنهم الذل والهوان، وليس التخويف والتهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله ﴿لَوْ تَرَكُوا﴾، ولم يقل: لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال، والمراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية ورأفة وشفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم وهم الأيتام والذين من صفتهم كذا هم الناس وخاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا: وليخش الناس وليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويعتنى بشأنهم ولا يضطهدوا ولا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب وكل يخاف ذلك.
3. لم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله وليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما بأيتام أنفسهم بعدهم، وارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم.
4. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجري العملي ومن الممكن أن يراد به الرأي.
5. كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه:
أ. من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه، وهذا من الحقائق العجيبة القرآنية، وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الأعمال الحسنة والسيئة وبين الحوادث الخارجية ارتباطا، وقد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب، الناس يتسلمون في الجملة أن الإنسان إنما يجني ثمر عمله وأن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته، والظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله، وفي القرآن الكريم آيات تدل على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾، وقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وكذا قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقوله: ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾، وقوله ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير والشر من العمل له نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا.
ب. السابق إلى أذهاننا ـ المأنوسة بالأفكار التجربية الدائرة في المجتمع ـ من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الأمر أوسع من ذلك، وأن عمل الإنسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾، فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما، وقال تعالى ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ الآية، وعلى هذا فأمر انعكاس العمل أوسع وأعم، والنعمة أو المصيبة ربما تحلان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.
ج. التدبر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الإنسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه، وأن ما مهده من مقدمة وداخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث والمسببات قال تعالى: ﴿يسأله مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَفِي شَأْنٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ولم يقل: وإن تعدوه لا تحصوه لأن فيما سألوه ما ليس بنعمة، والمقام مقام الامتنان بالنعم واللوم على كفرها ولذا ذكر بعض ما سألوه وهو النعمة.
د. ثم إن ما يفعله الإنسان لنفسه ويوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه وهو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه ويسأله لشخصه فليس هناك إلا الإنسانية ومن هاهنا يتضح للإنسان أنه إن أحسن لأحد فإنما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجابا وسؤالا غير مردود، وإن أساء على أحد أو ظلمه فإنما طلب ذلك لنفسه وارتضاه لها وما يرتضيه لأولاد الناس ويتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه ويسأله لهم من خير أو شر، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَمُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾، فإن معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا.
هـ. والاشتراك في الدم ووحدة الرحم يجعل عمود النسب وهو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد، وأي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنما عرضت ونزلت على متنه وهو في حساب جميع الأطراف، وقد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة.
و. فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله، وإنما استثنينا لأن في الوجود عوامل وجهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان، ومن الممكن أن تجري هناك عوامل وأسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى: ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ الآية يقال: أكله وأكله في بطنه وهما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح والآية كسابقتها متعلقه للمضمون بقوله ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية وهي تخويف وردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث.
7. الآية مما يدل على تجسم الأعمال على ما مر في الجزء الأول من هذا الكتاب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، كلام على الحقيقة دون المجاز وعلى هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين: أن قوله: ﴿يَأْكُلُونَ﴾ أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل ـ ووقته يوم القيامة ـ لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازي، وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا وهو غفلة عن معنى تجسم الأعمال.
8. أما قوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ فهو إشارة إلى العذاب الأخروي، والسعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى وصليا أي احترق بها وقاسى عذابها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/201.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلْيَخْشَ﴾ حذف مفعوله؛ لدلالة السياق عليه أي: ليخشوا الله، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا﴾ عامٌّ في الأوصياء فعليهم أن يتقوا الله في اليتامى وأن يقولوا قولاً سديداً، وكذا فيمن حضر حين الوصية، فعليه أن يتقى الله ولا يأمر بخلاف الحق في الورثة بتحويزهم بإقرارٍ كاذب أو وصيةٍ غير جائزة، وكذا فيمن يتصل باليتامى أو بأموالهم ولو غير الأوصياء، فعليهم أن يتقوا الله في اليتامى فلا يظلموهم بضرب أو أذية أو دَعٍّ عن حق من حقوقهم أو تغريم بدعوى في مالهم أو دعوى دين على مورثهم أو غصب أو أي ظلم لهم.
2. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾ لأنه رقيب عليهم وسيجزيهم بما ظلموا، وكذا في ضعاف الورثة من النساء والشيوخ والمرضى وغيرهم ﴿وَلِيَقُولُوا﴾ لهم وفيهم ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أي قولاً صواباً، ليس فيه ظلم، ولا أذى، ولا غلظة، ولا جفاء، بل قول معروف حق.
3. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ هذا وعيد مؤكد لما تقدم من الأمر والنهي في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ وقوله تعالى: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ الآية، وفي قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ الآية، ولعل سبب التأكيد أمور:
أ. الأول: أنهم كانوا يأكلون أموال اليتامى في الجاهلية وكانت عادةً يحمل عليها الحرص وحب المال، ومثل ذلك لا يتركه الحريص إلا بالتأكيد والوعيد.
ب. الثاني: أن من اليتامى يتامى الشهداء والمؤمنين، وكان ذلك كثيراً في وقت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لكثرة الشهداء والمؤمنين، ولا ينبغي إلا أن تحسن لهم الخلافة في يتاماهم فضلاً عن أن يظلموا.
ج. الثالث: أن الحرص على المال شديد ثابت في الإنسان كالغريزة كما قال تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20] ومال اليتيم يكون معَرّضاً للأخذ لضعفه عن الدفاع، مع مجاورة ماله لمال قرابته أو مخالطتها في الغالب، أو تزوج أمه بمن يسبب زواجها به لأكل ماله كما قد يسبب لظلم اليتيم باستخدامه بغير فائدة له، أو شغله بالخدمة عن قراءة ما ينفعه من الدروس والقرآن.
4. ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ أي أن عاقبة ما يأكلونه أن يكون ناراً في بطونهم إما بنفسه كما في الكنز أو بسببه كما قال الشاعر:
çإن لنا أحمرةً عجافاً... يأكلن كل ليلة إكافاé
أي ثمن إكاف، ويمكن اجتماع الأمرين فما أتلفه الظالم من كسوة أو غيرها من غير المأكول يكون ناراً في بطنه حقيقة أو بسببه، ولا إشكال أن قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ مجاز باعتبار الحال العاجلة؛ لأن المراد: أنه إنما سيكون ناراً في الآخرة في بطنه ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ناراً ذات لهب، قال الشرفي في (المصابيح): (قال الإمام عليه السلام ـ يعني القاسم بن محمد ـ: دلت الآية الكريمة على تحريم أموال اليتامى، وأن أخذه ظلم من الكبائر)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/17.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الآية الكريمة عالجت بعض الحالات القلقة، عند ما يترك بعض الناس أولادا صغارا ضعافا؛ وربما يستغلّ الأولياء السلطة على الأولاد بطريقة سيئة فيسيئون إليهم، ويواجهونهم بالقهر والقسوة والإذلال، ويتصرفون في أموالهم تصرفا غير شرعي، فجاءت هذه الآية لتعالج هذه الناحية من موقع إثارة العاطفة الذاتية في ما يمكن للإنسان مواجهته في هذه التجربة في أولاده الذين قد يتركهم للآخرين، وهم ذرية ضعاف، كما ترك الآخرون ذريتهم له، فإذا أحسن التصرف مع أولاد الآخرين، كان ذلك موجبا لإحسان الآخرين لأولاده من بعده، وإذا أساء، كانت النتيجة إساءة لعقبه من بعده، وقد أجملت الآية المسألة بكلمتين: التقوى، التي تمثل الممارسة العملية على خط الله؛ والقول السديد، الذي يمثل الكلمات الطيبة الصادقة في التوجيه والإحسان.
2. سؤال وإشكال: أثار بعض الناس سؤالا: إذا أساء إنسان ما التصرف في أولاد الآخرين، فما ذنب عقبه، ليبتليه الله بأناس يسيئون التصرف معهم من بعده، والله يقول: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وهُوَرَبُّ كُلِّ شيء ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام: 164]؟ والجواب: المسألة تنطلق من قاعدة اجتماعية، وهي أن السلوك المنحرف من بعض أفراد المجتمع، في موقع من المواقع، يتحول تدريجيا إلى وضع اجتماعي عام، قد ينقلب عليه أو على من يتعلق به في نهاية المطاف، كما أن السلوك الجيد المستقيم يتحرك في خط المصلحة له ولمن بعده، من خلال النتائج الإيجابية التي يحققها للمجتمع ككل، وربما كان هذا هو المعنى الذي نستوحيه من قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25]، والحديث المأثور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، فإن طبيعة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى تسلّط الأشرار على الأخيار، لامتداد الشرّ، بامتناع الناس من الوقوف بوجهه وملاحقته؛ واستسلامهم للأمر الواقع، فيتحوّل الأشرار إلى قوّة في المجتمع، ويعيش الأخيار في مراكز الضعف، وقد جاء في الحديث الشريف عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الوجه الإيجابي من المسألة: (وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم..)، فإن رعاية الأيتام من قبلنا يترك تأثيره على المجتمع، ليعود ـ بعد ذلك ـ في حجم الظاهرة الاجتماعية التي نستفيد منها ـ في نهاية المطاف ـ في أنفسنا وأولادنا، وربما نستوحي ذلك من الكلمة المأثورة: (كما تكونون يولّى عليكم)، فإن المجتمع إذا كان خيرا، فإن الولاة سوف يخرجون إلى الولاية متّسمين بأخلاق المجتمع وصفاته الحسنة؛ أما إذا كان شريرا، فإن أخلاق الشر هي التي تصبغ شخصيتهم، فيسيئون إلى المجتمع من خلال الجو الذي شارك في تربيتهم السلبية؛ فإن شخصية القيادة هي غالبا النتيجة الطبيعية للواقع الاجتماعي في المفاهيم والتربية والأوضاع، وبهذا نفهم هذه الآية الكريمة، على أساس أن السلوك المنحرف في أيتام الآخرين يوحي للمجتمع بالسير في هذا الاتجاه، لأن الخطوة الأولى من شخص أو أشخاص تتبعها خطوة أو خطوات من غيره، فليتقوا الله في ذلك من موقع المسؤولية من جهة، ومن موقع الشعور العاطفي تجاه ذريتهم؛ وليقدّموا العمل الإيجابي من خلال الاهتمام والتحنّن على أيتام الآخرين، لينعكس ذلك على تصرف الآخرين تجاه أيتامهم في المستقبل، لما يحققه ذلك من وضع اجتماعي منسجم وشامل في نهاية المطاف.
3. ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ ليفكر هؤلاء الذين يتولون شؤون الأيتام ممن قد تدفعهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة في أموالهم والإساءة إلى مشاعرهم وتحطيم نفسياتهم بالتعسف والقسوة، ماذا لو فارقوا الحياة وخلفوا وراءهم أيتاما ضعافا لا يملكون أيّ عنصر من عناصر القوة الذاتية في حماية أنفسهم وأموالهم؟ ألا يخشون على مستقبلهم ويعيشون القلق عليهم والخوف من إهمال الآخرين من الأولياء لهم وأكلهم لأموالهم مما يجعلهم في قبضة الضياع والفساد؟ فإذا كانوا يعيشون هذا الهاجس النفسي ـ وهم أحياء ـ فإن عليهم أن يتصوروا واقع الأيتام في ولايتهم ممن فقدوا رعاية الآباء فيعيشوا الرحمة لهم والعطف عليهم والتوفر على رعايتهم وحفظ أموالهم من أنفسهم ومن غيرهم، فإن للقضية بعدين:
أ. الأول: هو مسئوليتهم الشرعية الإنسانية عنهم باعتبار ارتباط حياتهم في حركة طفولتهم في اتجاه المستقبل بمسؤوليتهم أمام الله والناس مما يجب عليهم القيام بها بكل أمانة وإخلاص.
ب. الثاني: أن سلوكهم في اتجاه الأمانة في العناية بالأيتام يتحوّل ـ بانضمام أولياء الآخرين إلى ذلك ـ إلى سنّة اجتماعية تترك نتائجها الإيجابية على الواقع كله فيمتد إلى أيتامهم في المستقبل في رعاية الآخرين لهم، تماما كما هي السنّة الحسنة التي يبدأ الإنسان في السير وفقها فيستفيد منها في القضايا المنفتحة عليها.
4. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾ في هذه الأمانة الإلهية التي حمّلهم الله مسئولياتها وليراقبوه في ذلك كله إذا دعتهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة، ووسوس لهم الشيطان باستغلال قدرتهم الذاتية على التصرف المطلق في أموال اليتيم ليدفعهم إلى أكلها بدون حق.
5. ﴿وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ منفتحا على البرنامج الشرعي في التجربة العملية والانفتاح الواعي، والعاطفة النقية والكلمة الطيبة الحلوة، التي تغمر اليتيم بالمشاعر الحميمة التي توحي له بالثقة وتدفعه إلى الاطمئنان، وتعوّضه عما فقده من حنان الأبوة أو عاطفة الأمومة.
6. وقد جاءت الآية توجيها لكل الناس في رعاية اليتامى بأمانة وإخلاص حتى الذين ليس لهم ذرية يخافون عليهم، لأن المسألة جارية على طريقة ضرب المثل في الفرضيّات الواقعية في حركة الإنسان في الحياة التي تؤكد الترابط في السلوك الاجتماعي من خلال التزام الناس بالقيمة الأخلاقية في العناية بالفئات الضعيفة المحرومة في المجتمع من موقع المسؤولية الدينية والإنسانية، فإن القضية في سلبياتها وإيجابياتها تنعكس على واقع الناس بأجمعهم سلبا أو إيجابا بشكل مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي يوحي بأن الخير أو الشر الصادر من الإنسان لا يؤثر في حياة الآخرين، بل يمتد إلى حياة الإنسان نفسه في كل واقعه وفي كل علاقاته العامة والخاصة.
7. ثم جاءت الآية التالية لتعالج هذه المسألة من زاوية أخرى، وهي زاوية الترهيب والتهديد؛ فإن الله ينذر هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وبدون حق، انطلاقا من القوة التي يشعرون بها تجاه ضعف اليتيم الذي لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه، كما يحدث في حالات كثيرة، بأن هذه الأموال ستتحول إلى نار تحرق داخلهم؛ وذلك على سبيل الكناية في ما ينتظرهم من نتائج سلبية في الدنيا والآخرة.
8. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فيحوزونها لأنفسهم، ويتصرفون بها في حياتهم الخاصة مستغلّين ضعف اليتيم وفقدان الجهة التي تراقبهم وتحاسبهم وتمنعهم من ذلك، فيبادرون إلى استعمالها وإبقاء اليتيم من دون مال بفعل عمليّة النهب والاستغلال؛ الأمر الذي يمثّل أبشع أنواع الظلم، وقد جاء: أن (ظلم الضعيف أعظم الظلم)، ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ فإن هذا الظلم الوحشي الذي يعبر عن فقدان المشاعر الإنسانية في شخصيات هؤلاء الأولياء سوف يتحوّل إلى نار تشتعل في بطونهم عذابا من الله وعقابا لهم على ذلك، وربما كانت المناسبة في هذه الاستعارة أن الإنسان يأكل الطعام ـ عادة ـ ليتغذى وليقوى به وليحصل على الراحة الجسدية بفعل اللذة التي يحس بها، فجاءت الآية لتصور النتائج في أكل مال اليتيم كمن يأكل نارا فتشتعل في بطنه لتحرقه وتثير فيه كل آلام الحريق.
9. جاء في تفسير الميزان أن (الآية مما يدل على تجسّم الأعمال، ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ كلام على الحقيقة دون المجاز، وعلى هذا لا يرد عليه بما أورده بعض المفسرين، أن قوله ﴿يَأْكُلُونَ﴾ أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال، فلو كان المراد به حقيقة الأكل ـ ووقته يوم القيامة ـ لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا، فالحق أن المراد به المعنى المجازي وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا)، وهو غفلة عن معنى تجسّم الأعمال، والظاهر أن ما ذكره هذا البعض هو الأقرب لأن التجسم في مضمونه الفكري، لا معنى له في الواقع الذي يعيشه الإنسان بالنسبة إلى هذه المسألة، بل هو أمر ترك إلى يوم القيامة، فلا معنى للحديث عنه في مرحلة الحياة الدنيا حتى لو كان المراد به تجسّد العمل في طبيعته إلى ذات النار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا الرأي خاضع للاستغراق في حرفيّة الكلام القرآني بعيدا عن جانب الاستعارة والكناية ونحوهما مما يفهمه العرب بشكل طبيعيّ جدّا بالطريقة التي يفهمون بها التعابير الفنية على أساس القواعد البلاغية بنحو التبادر الذي يسبق إليه الذهن الأول مرّة، وإذا كانت بعض الأحاديث توحي بذلك فإن علينا أن نعرضها على القرآن الذي يؤصّل المفاهيم الإسلامية لتكون الأحاديث خاضعة لعناوينه وظواهره بدلا من العكس.
10. ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ في يوم القيامة فيحترقون في النار ويقاسون عذابها، وقد جاء في تفسير العياشي عن أبي عبد الله أو أبي الحسن عليه السّلام: إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين: أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار، وأما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ قال يعني بذلك ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع هو بهؤلاء اليتامى.
11. قد نلاحظ في هذه المتابعة القرآنية لموضوع علاقة الإنسان بالأيتام بأسلوب الترغيب والترهيب، في أكثر من آية، أن الله يريد أن يحقق في داخل كل منا حالة نفسية ضاغطة، ضد النوازع الذاتية التي قد تدفعه إلى استغلال جانب الضعف المتمثل في حياة الأيتام الذين لا يملكون أمر حماية أنفسهم من الظلم والاضطهاد، لتكون تلك الحالة سبيلا من سبل حمايتهم من نوازعنا الشريرة؛ وهذه طريقة قرآنية إسلامية مستخدمة في جميع الحالات التي نلتقي فيها بواقع القوة والضعف، في المجالات التي لا يملك فيها الضعيف أمر الدفاع عن نفسه؛ فإن القرآن يواجه المسألة بشكل قوي جدا، ليخلق التوازن بين واقع الضعف الموجود لدى الفئات الضعيفة، وبين واقع القوة الموجود في الجانب الآخر، ليضعف الشعور بالقوة في هذا، ويقوّي جانب الضعف هناك، فيمنع القوي من ظلم الضعيف، أمّا في الحالات العادية فإن القرآن يثير التهديد بشكل عادي بالأسلوب المألوف.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/102.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يشير القرآن الكريم ـ بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى ـ إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحيانا، وتلك الحقيقة هي: إن على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه، تصوروا مشهد أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم يعيشون تحت كفالة شخص قاسي القلب خائن لا يرعى مشاعرهم، كما لا يراعي جانب العدالة في حقّهم، أجل تصوروا هذا المشهد المؤلم، كم يؤلمكم ويحزنكم ذلك؟ هل تحبّون مثل ذلك لأبنائكم الصغار من بعدكم؟ كلا حتما، فكما تحبّون ورثتكم فأحبّوا ورثة غيركم ويتاماهم، وأحزنوا لما يحزنهم.
2. على هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ﴾ هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.
3. أساسا: إنّ القضايا الاجتماعية تنتقل في شكل سنة من السنن ـ من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد، فالذين يروّجون في المجامع سنة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإن ذلك سيكون سببا لسريان هذه السنة على أولادهم وأبنائهم أيضا، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد أذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضا، لهذا وجب أن يتجنب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية، ويتقوا الله في اليتامى ويقولوا لهم قولا عدلا موافقا للشرع والحق، قولا ممزوجا بالعواطف الإنسانية والمشاعر الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب أولئك من الجراح، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: فَلْيَتَّقُوا اللهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً.
4. إنّ هذا التعليم الإسلامي الرفيع المذكور في العبارة السابقة إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى ـ جديرة بالاهتمام والرعاية، وهي: إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم القلبية هو الأهم، وهو ذو تأثير كبير جدّا في بناء مستقبلهم، لأن الطفل اليتيم إنسان كغيره، يجب أن يحصل على غذائه اللازم من الناحية العاطفية، فيجب أن يحظى بالحنو والرعاية كما يحظى بذلك أي طفل آخر في حضن أبيه وأمّه، أنه ليس (حمل) يخرج مع القطيع للرعي عند الصباح، ويعود عند الغروب، بل هو إنسان يجبـ مضافا إلى الرعاية الجسدية ـ أن يحظى بالرعاية الروحية، والعناية العاطفية، وإلّا نشأ قاسيا مهزوما، عديم الشخصية، بل وحاقدا خطيرا، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال قال أبو عبد الله عليه السّلام مبتدءا: (من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه، قال: أي الراوي) فذكرت في نفسي فقلت: يظلم (و) هو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إن الله يقول: ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ﴾
5. سؤال وإشكال: إنّ السؤال الذي خالج ذهن الراوي يخالج نفسه أذهان كثيرين، فيتساءلون: كيف يحمل البارئ تعالى جزاء شخص على شخص آخر، بل وما ذا فعل أبناء العاصي حتى يبتلوا بمن يظلمهم، ويتحملوا وزر ما جناه والدهم؟ والجواب: يتضح من الإيضاح الذي ذكر في الحديث السابق وهو أن ما يرتكبه الأشخاص في المجتمع من أعمال تتخذ شكل السنة شيئا فشيئا، وينتقل إلى الأجيال اللاحقة، وعلى هذا الأساس فإن الذين يظلمون اليتامى في المجتمع، ويرسون قواعد هذا السلوك الظالم سيصاب أبناؤهم بلهيب هذه البدعة يوما ما أيضا، ويعدّ هذا في الحقيقة أحد الآثار الوضعية التكوينية لمثل هذا العمل، وأمّا نسبته إلى الله فهي لأجل أن جميع الآثار التكوينية وكل خواص العلّة والمعلول منسوبة إلى الله ومستندة إليه تعالى، ولا يظلم ربّك أحدا أبدا.. وخلاصة القول: إذا ساد الظلم في المجتمع فإنّه سوف يسري ويصيب الظالم وأولاده أيضا.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ لقد ذكرنا في مطلع هذه السّورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع صالح وسليم، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما تبقّى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام من العادات السيئة أوّلا، لتتهيأ الأرضية لإقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود، وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفا غير مشروع، وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.
7. ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن الذين يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ، ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾
8. ثمّ إنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: ﴿وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾، و(يصلى) من (الصلى) بمعنى الدخول في النار والاحتراق بلهيبها، وأمّا (السعير) فبمعنى النار المشتعلة، ويقصد القرآن من هذه الجملة إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى مضافا إلى أنّهم يأكلون النار ـ في الحقيقة ـ في هذه الدنيا سيدخلون عمّا قريب نارا مشتعلة الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.
9. يستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافا إلى وجهها الظاهري وجها واقعيا أيضا، وجها مستورا عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنّه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإسلامية.
10. إنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وجورا، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.
11. إنّ بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسبا وتشابها دائما، فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم، ويؤذي روحه، فكذا يكون الوجه الواقعي للعمل نارا محرقة.
12. إنّ الانتباه إلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع للذين يؤمنون بهذه الحقائق، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب، فهل يوجد ثمّة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار، ويضعها في فمه ويبتلعها؟
13. إنّه من غير الممكن ـ والحال هذه ـ أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم ظلما، ولو أنّنا وجدنا ثمّة من لا يقدم على هذا الفعل، بل ولا يفكر في المعصية أبدا (كالأولياء)، فلأنهم يرون ـ بفضل ما لديهم من الإيمان والعلم، وما حصلوا عليه من تربية خلقية ـ حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية، فلا يفكرون في اقتراف هذه الأعمال السيئة، فضلا عن الهمّ باقترافها، إنّ الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إليها، ولكن الإنسان العاقل الذي جرب حرارة النار وذاق ألمها، كيف يمكن أن يفكر يوما بذلك.
14. هذا وقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدّة عن أكل مال اليتيم والعدوان على حقوقه، وتؤكد على أنّها كبيرة موبقة، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا النوع مشمولا لهذا الحكم الصارم وموضوعا لهذه العقوبة القاسية، ففي حديث عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر عليه السّلام لما سئل في كم يجب لأكل مال اليتيم من النار؟ قال: في درهمين.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/118.
10. ميراث الأولاد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈10⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ [النساء: 11]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين؛ كرهها الناس، أو بعضهم، وقالوا: نعطي المرأة الربع أو الثمن، ونعطي الابنة النصف، ونعطي الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة!؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ صغيرا أو كبيرا(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٥٨.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٠.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا أعقل شيئا، فدعا بماء، فتوضأ منه، ثم رش علي، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي، يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعودني وأنا مريض، فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا؛ فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾(2).
3. روي أنّه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: (يقضي الله في ذلك)، فنزلت آية الميراث: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية(3).
__________
(1) البخاري ٦/٤٣.
(2) الترمذي ٤/١٧٥.
(3) أحمد ٢٣/١٠٨.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ يعني: بنات ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ يعني: أكثر من اثنتين، أو كن اثنتين ليس معهن ذكر ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ الميت، والبقية للعصبة، ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً﴾ يعني: ابنة واحدة ﴿فَلَهَا النِّصْف﴾(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٠.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة له يقال لها: أم كجة، وترك خمس جوار، فجاءت الورثة، فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فأنزل الله هذه الآية: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، ثم قال في أم كجة: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿حَظٍّ﴾ نصيب(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٥٧.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال: ابنك أولى بك من ابن ابنك، وابن ابنك أولى بك من أخيك، وأخوك لأبيك وامك أولى بك من أخيك لأبيك، وأخوك لأبيك أولى بك من أخيك لامك، وابن أخيك لأبيك وامك أولى بك من ابن أخيك لأبيك، وابن أخيك من أبيك أولى بك من عمك، وعمك أخو أبيك من أبيه وامه أولى بك من عمك أخي أبيك من أبيه، وعمك أخو أبيك من أبيه أولى بك من عمك أخي أبيك لامه، وابن عمك أخي أبيك من أبيه وامه أولى بك من ابن عمك أخي أبيك لأبيه، وابن عمك أخي أبيك من أبيه أولى بك من ابن عمك أخي أبيك لامه(1).
__________
(1) الكافي 7/76.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: لأيّ علّة صار الميراث للذّكر مثل حظّ الأنثيين؟ فقال: لما جعل الله لها من الصّداق(1).
2. روي عن أبي جميلة المفضل بن صالح عن بعض أصحابه، عن أحدهما، قال إن فاطمة انطلقت إلى أبي بكر فطلبت ميراثها من نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: إن نبي الله لا يورث، فقالت: أكفرت بالله وكذبت بكتابه؟ قال الله: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(2).
روي عن هشام، أنّ ابن أبي العوجاء قال لمحمّد بن النّعمان الأحول: ما بال المرأة الضّعيفة لها سهم واحد وللرّجل القوي الموسر سهمان؟ قال فذكرت ذلك للإمام الصادق فقال: إنّ المرأة ليس لها عاقلة، وليس عليها نفقة ولا جهاد ـ وعدد أشياء غير هذا ـ وهذا على الرّجل.. فجعل له سهمان ولها سهم(3).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه 4 /253، ح 815.
(2) علل الشرائع/570/1، عيون أخبار الرّضا 2/98/1.
(3) نفس المصدر والموضع، ح 816.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: كيف صار الرّجل إذا مات وولده من القرابة سواء ترث النّساء نصف ميراث الرّجال، وهنّ أضعف من الرّجال وأقلّ حيلة؟ فقال: لأنّ الله ـ تبارك وتعالى فضّل الرّجال على النّساء بدرجة، ولأنّ النّساء يرجعن عيالا على الرّجال(1).
2. روي عن محمد بن سنان، أن أبا الحسن الرضا كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث، لأن المرأة إذا تزوجت أخذت، والرجل يعطي، فلذلك وفر على الرجال، وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى، لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفر على الرجال لذلك، وذلك قول الله عز وجل: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾(2).
__________
(1) الكافي 7 /84، ح 1.
(2) علل الشرائع/570/2.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾:
أ. قيل: قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ أي: يفرضكم الله، وقد سمى الله تعالى الميراث فريضة في غير آي من القرآن بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾ ثم قال ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]، وقال ـ أيضا ـ في آخر هذه الآية: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، ولأنه شيء تولى الله إيجابه من غير اكتساب أهله؛ فهو كالفرائض التي أوجبها الله على عباده من غير اكتساب أهلها؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة؛ لأن الله تعالى أوجبه
ب. وقيل: قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، أي: يبين الله في أولادكم.. إلى آخر ما ذكر.
2. فيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180]، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ الله تعالى أعطى كلّ ذي حقّ حقّه؛ فلا وصيّة للوارث)
3. ثم قيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث في الميراث؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة؛ فنزل قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ﴾ الآية [النساء: 7]؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث، وكذلك قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعا.
4. وقيل: تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك، وإن الآيات التي بعدها من قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ إلى آخر الآيات التي فيها ذكر المواريث ـ فسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه الله للنساء والرجال في الآية الأولى مجملا، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولدا ذكورا وإناثا؛ فالمال بينهم ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
5. قوله تعالى: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أولاد موتاكم، وهذا جائز في اللغة؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي؛ دلّ أنه أراد أولاد الموتى.
ب. أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم؛ فخاطب الجملة بذلك؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم.
6. في قوله ـ أيضا ـ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، أي: في أولاد من مات منكم؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده؛ فهذا إن كان تأويل (يوصى): يفرض أو يأمر، وإن كان تأويل ذلك: يبيّن، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيّن الله في أولاده بعد موته في ماله، وذلك يمنع الوصية؛ لأنه يزيل حق البيان، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض، وذلك بعيد؛ إذ لا يملك في غيرهم.
7. قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]: فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثمّة أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثلي ما جعل للأنثى، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر؛ بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلى ما جعل للأنثى عند الجمع، إنما جعل له ذلك بحق الكل، ففي حال الانفراد له الكل.
8. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ قال بعضهم: بين الحق لما فوق الثنتين، ولم يبين للاثنتين، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة، وهو قول ابن عباس، وأما عندنا: فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعدا؛ فيكون بيان الحق للثلاث بيانا للاثنتين؛ لأن الله تعالى جعل حق ميراث الواحدة من الأخوات: النصف؛ بقوله: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ [النساء: 176]، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: 176]، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعدا؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين، قيل: يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما، ما كان معلوما أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه؛ أيّد ذلك أن بنات ابنه قد يرثن، وبنات ابن أبيه لا؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين، وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هؤلاء، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل ـ لم يصرف إلى أولاد الأب؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هؤلاء، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار، واجتمع عليه أهل الفتوى.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/37.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ روي أن الجاهلية كانوا لا يورثون الجواري ولا الضعفاء فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
2. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ ففرض الثلاث من البنات من غير ذكر الثلثين وفرض الواحدة إذا انفردت النصف وفرض البنتين الثلثان ولا مراعاة لقول من جعل لهما النصف اعتباراً بالأخوات.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/166.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ روى السدي قال كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، لا يورثون الرجل من ولده إلّا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كجّة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ ففرض للثلاث من البنات، إذا انفردت عن ذكر، الثلثين، وفرض الواحدة إذا انفردت النصف، واختلف في الثنتين، فقال ابن عباس النصف، من أجل قوله تعالى: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ وذهب الجماعة إلى أن فرضهما الثلثان كالثلاث فصاعدا اعتبارا بالأخوات.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/459.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: يوصى ـ بفتح الصادـ الباقون بكسرها، وهو الأقوى، لقوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فتقدم ذكر الميت، وذكر المفروض مما ترك، ومن فتحها فلأنه ليس لميت معين، وإنما هو شائع في الجميع.
2. قيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أ. أحدهماـ قال السدي، وابن عباس: إن سبب نزولها، أن القوم لم يكونوا يورثون النساء والبنات والبنين الصغار، ولم يورثوا إلا من قاتل وطاعن، فأنزل اللَّه الآية، وأعلمهم كيفية الميراث.
ب. وقال عطاء، عن ابن عباس، وابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، إنهم كانوا يورثون الولد، وللوالدين الوصية، فنسخ اللَّه ذلك.
ج. وقال محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: كنت عليلا مدنفا، فعادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونضح الماء على وجهه فأفاق، وقال: يا رسول اللَّه، كيف أعمل في مالي: فأنزل اللَّه الآية.
د. وروي عن ابن عباس أنه قال: كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين، فنسخ ذلك بهذه الآية.
3. هذه الآية عامة في كل ولد يتركه الميت، وان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك حكم البنت والبنتين. والبنت لها النصف، ولهما الثلثان على كل حال، إلا من خصه الدليل من الرق، والكفر، والقتل، فانه لا خلاف أن الكافر، والمملوك، والقاتل عمداً، لا يرثون، وإن كان القاتل خطأ، ففيه الخلاف وعندنا (2) يرث من المال دون الدية، فأما المسلم فانه عندنا يرث الكافر، وفيه خلاف، ذكرناه في مسائل الخلاف، والعبد لا يورث لأنه لا يملك شيئاً، والمرتد لا يرث وميراثه لورثته المسلمين، وهذا قول علي عليه السلام، وقال سعيد بن المسيب: نرثهم ولا يرثونا وبه قال الحسن، وعبد اللَّه بن معقل، ومسروق وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتوارث أهل ملتين) معناه: لا يرث كل واحد منهما صاحبه، فانا نقول: المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، فلم تثبت حقيقة التوارث بينهما.
4. معنى﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ فرض عليكم، لأن الوصية من اللَّه فرض، كما قال: ﴿وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ يعني فرض، عليكم، ذكره الزجاج، وإنما لم يعد قوله: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ إلى (مثل) فينصبه، لأنه كالقول في حكاية الجملة بعده، والتقدير: قال اللَّه: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ولأن الغرض بالآية الفرق بين الموصى به والموصى له، في نحو أوصيت زيداً بعمرو.
5. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ فالظاهر يقتضي أن الثنتين لا يستحقان الثلثين، وإنما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين، لكن أجمعت الأمة أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات، فتركنا له الظاهر، وقال أبو العباس المبرد، واختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي: إن في الآية دليلا على أن للبنتين الثلثين، لأنه إذا قال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وكان أول العدد ذكراً وأنثى، للذكر الثلثان وللأنثى الثلث علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، وأعلم اللَّه أن ما فوق البنتين لهن الثلثان. وحكى الزجاج عمن قال: ذلك معلوم، بقوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، فجعل للاخت النصف، كما جعل للبنت النصف، ثم قال: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ فأعطيت البنتان الثلثين، كما أعطيت الأختان الثلثين وأعطي جملة الأخوات الثلثين، فكذلك جملة البنات.
6. ذكر عن ابن عباس: أن البنتين بمنزلة البنت، وإنما استحق الثلثين الثلاث بنات فصاعداً، وحكى النظام، في كتاب النكت، عن ابن عباس: أن للبنتين نصفاً وقيراطاً، قال: لأن للبنت الواحدة النصف، وللثلاث بنات الثلثين، فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما، ثم يشتركان في النصف وقيراطا بالسوية.
7. قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ يدل على أن فاطمة عليه السلام كانت مستحقة للميراث، لأنه عام في كل بنت، والخبر المدعي في أن الأنبياء لا يورثون خبر واحد، لا يترك له عموم الآية لأنه معلوم لا يترك بمظنون.
8. مسائل المواريث وفروعها بسطناها في النهاية والمبسوط، وأوجزناها في الإيجاز، في الفرائض، لا نطول بذكرها في الكتاب، غير أنا نعقد هاهنا جملة تدل على المذهب (2) فنقول:
أ. الميراث يستحق بشيئين: نسب وسبب، فالسبب الزوجية، والولاء، والولاء على ثلاثة أقسام: ولاء العتق، وولاء تضمن الجريرة، وولاء الامامة، ولا يستحق الميراث بالولاء إلا مع عدم ذوي الأنساب.
ب. والميراث بالزوجية ثابت مع جميع الوراث، سواء ورثوا بالفرض أو بالقرابة، ولا ينقص الزوج عن الربع في حال، ولا يزاد على النصف، والزوجة لا تزاد على الربع، ولا تنقص من الثمن على وجه.
ج. والميراث بالنسب يستحق على وجهين: بالفرض، والقرابة، فالميراث بالفرض لا يجتمع فيه إلا من كانت قرباه واحدة إلى الميت، مثل البنت أو البنات مع الوالدين أو أحدهما، فانه متى انفرد واحد منهم أخذ المال كله، بعضه بالفرض، والباقي بالرد، وإذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له، والباقي يرد عليهم، إن فضل. على قدر سهامهم، وان نقص، لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم، كان النقص داخلا على البنت أو البنات، دون الأبوين، أو أحدهما، ودون الزوج والزوجة.
د. ولا يجتمع مع الأولاد، ولا مع الوالدين، ولا مع أحدهما أحد ممن يتقرب لهما، كالكلالتين فإنهما لا تجتمعان مع الأولاد، ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولا مع الوالدين، ولا مع أحدهما أباً كان أو أماً، بل تجتمع كلالة الأب وكلالة الأم، فكلالة الأم إن كان واحداً كان له السدس، وإن كانا إثنين فصاعداً كان لهم الثلث، لا ينقصون منه، والباقي لكلالة الأب، فان زاحمهم الزوج أو الزوجة دخل النقص على كلالة الأب دون كلالة الأم، ولا تجتمع كلالة الأب والأم مع كلاله الأب خاصة، فان اجتمعا كان المال لكلالة الأب والأم، دون كلالة الأب، ذكراً كان أو أنثى، أو ذكوراً، أو أناثاً، أو ذكوراً وأناثا.
هـ. ومن يورث بالقرابة دون الفرض لا يجتمع إلا مع من كانت قرباه واحدة، وأسبابه ودرجته متساوية، فعلى هذا لا يجتمع مع الولد للصلب ولد الولد، ذكراً كان ولد الصلب أو أنثى، لأنه أقرب بدرجة، وكذلك لا يجتمع مع الأبوين ولا مع أحدهما من يتقرب بهما من الاخوة والأخوات، والجد والجدة على حال، ولا يجتمع الجد والجدة مع الولد للصلب، ولا مع ولد الولد وإن نزلوا، ويجتمع الأبوان مع ولد الولد وإن نزلوا، لأنهم بمنزلة الولد للصلب، إذا لم يكن ولد الصلب، والجد والجدة يجتمعان مع الاخوة والأخوات، لأنهم في درجة واحدة.
و. والجد من قبل الأب بمنزلة الأخ من قبله، والجدة من قبله بمنزلة الأخت من قبله، والجد من قبل الأم بمنزلة الأخ من قبلها، والجدة من قبلها بمنزلة الأخت من قبلها، وأولاد الاخوة والأخوات يقاسمون الجد والجدة، لأنهم بمنزلة آبائهم، ولا يجتمع مع الجد والجدة من يتقرب بهما من العم والعمة، والخال والخالة، ولا الجد الأعلى، ولا الجدة العليا، وعلى هذا تجري جملة المواريث، فان فروعها لا تنحصر، وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره.
ز. أما المسائل التي اختلف قول الصحابة فيها، فقد ذكرناها في خلاف الفقهاء، فلا وجه لذكرها هاهنا، لأنه يطول به الكتاب.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/128
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الوصية: الأمر المؤكد، ومنه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ومنه: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ﴾ وقال الأصم: الوصية الفريضة، ووصيت وأوصيت لغتان، يقال: وصيت توصية وأوصيته أيضًا.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فعادني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه أبو بكر فأغمي عليّ، فدعا بماء فصبه عليَّ، فلما أفقت قلت: يا رسول الله أوصي في مالي كيف أصنع في مالي؟ فنزلت آية المواريث.
ب. وعن عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع يوم أحد، وترك ابنتين وامرأة وأخًا، فأخذ الأخ المال، فأتت المرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالت: إن هاتين ابنتا سعد، وإن سعدًا قتل، وإن عمهما أخذ مالهما، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك)، فأقامت حينًا، ثم عادت وبكت، فنزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمهما، وقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك)، فهذا أول ميراث قسم في الإسلام.
ج. وعن مقاتل: نزلت الآية في قصة أم كجة، وقد مضى ذكر ذلك.
د. وعن السدي أنها نزلت في عبد الرحمن بن أخي حسان، وذلك أنه مات وترك، امرأة وخمس أخوات، فجاءت الورثة وأخذوا المال ولم يعطوا المرأة شيئًا، فشكت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت آية المواريث.
هـ. وعن ابن عباس كانت المواريث للأولاد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله ذلك، وأنزل الله آية المواريث فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله لم يرض بملك مقرب ولا رسول مرسل حتى تولى قسمة التركات، وأعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)
و. وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون الميراث بين أولاد الميت بل يجعلونه لمن يقاتل ويحارب، وَيذُبُّ عن الحريم، فنهوا عن ذلك، فنزلت آية المواريث.
ز. وقيل: كانت المواريث في الجاهلية بالقوة، فيورثون الرجال دون النساء والأطفال، فأبطل الله تعالى ذلك بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية، ثم كانت في ابتداء الإسلام بالمخالفة لقوله: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ ثم صارت بالهجرة، ثم نسخ كله بآية المواريث، وصارت المواريث بنسب وسبب.
3. اختلف في علاقة الآية الكريمة بما قبلها:
أ. قيل: تتصل آية المواريث بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾ فَأجْمَلَ هناك، وفَصَّلَ في آية المواريث.
ب. وقيل: يتصل بما قبله، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ فإنها نزلت في أهل الجاهلية الَّذِينَ كانوا لا يُوَرِّثُونَ الأطفال، فنهوا عن ذلك، وبين قسمة المواريث.
4. ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ أي يأمركم ويفرض عليكم ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وفي الكلام حذف:
أ. قيل: تقديره: يوصيكم الله في توريث أوْلادكم.
ب. وقيل: يوصيكم فيمن مات وترك أموالاً وأولادًا، فالقسمة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
ج. وقيل: في أمر أولادكم إذا متم.
5. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ يعني فإن كن أي المتروكات أو الوارثات أو النساء فوق اثنتين ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ من الميراث، قيل ﴿فَوْقَ﴾ صلة كقوله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾:
أ. أي فإن كن اثنتين فما فوقهما فلهما الثلثان.
ب. وقيل: أراد فإن كن نساء أكثر من ثنتين، ثم اختلف هَؤُلَاءِ في الثنتين:
• فالذي عليه الصحابة والتابعون والفقهاء أن لهما الثلثين.
• وعن ابن عباس لهما النصف، والذي يفسد قوله أنه تعالى جعل للأختين عند الانفراد الثلثين في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ فالابنتان أولى بذلك، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل لابنتي سعد الثلثين على ما روينا.
6. اختلفوا في حكم الابنتين:
أ. فقال الأكثر: لم يبين حكم البنتين، وبين حكم ما فوقه، وبين في الأختين حكم اثنتين، ولم يبين حكم ما فوقهما ليستدل بكل واحد منهما على الآخر؛ ليعلم أنه لما كان للأختين الثلثان مع بُعدهما فالابنتان أولى، ومتى لم تزد البنات مع قربهن على الثلثين، فَلأَنْ لا يزاد الأخوات مع بعدهن أولى، واستدلوا عليه بالسنة والإجماع، وذكر أبو مسلم أن ذلك غلط، وأن حظ الأنثيين مذكور في الكتاب؛ لأن قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ دليل واضح على أمر الابنتين؛ لأنه إذا مات وترك ابنًا وبنتًا، فللابن الثلثان وللابنة الثلث، فإن كان للواحدة الثلث فللابنتين الثلثان، وهو مثل حظ الأنثيين فعلم أن للابنتين الثلثين ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ يعني إن كانت البنت واحدة فلها النصف من تركة المورث، وهذا إذا انفردت ولم يكن معها وارث آخر، وفيه إجماع.
ب. وقيل: بين تعالى حكم البنت المنفردة، والابن والبنت، وبقي حكم الابن المنفرد، فقيل: إنه معلوم بالنص؛ لأنه لما بين أن للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم بين أن للابنة المفردة النصف كان للابن جميع المال، وقيل: بل علم بالسنة، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر)
ج. وقيل: كانوا لا يورثون النساء والصغار، ويورثون العصبات، فنقلهم عما كانوا عليه وقررهم في العصبات.
7. تدل الآية الكريمة على أن نصيب الذكر مثلا نصيب الأنثى، سؤال وإشكال: وقد طعنت الملحدة فيه فقالوا: النساء أضعف فكيف جعل حقها أقل؟ والجواب:
أ. الإرث تَفَضُّلٌ من الله تعالى على عباده، وله أن يتفضل على واحد دون آخر، كذلك في حق الإرث للمصلحة.
ب. وقيل: كما زِيدَ حظُّه زِيدَ في الحقوق عليه كالمهر والنفقة وغيرها، ولو قيل: لَمَّا أوجب الله تعالى على الأزواج من المهر والنفقة وغيرها من المؤن، وخفف الكلفة عليهن في ذلك جاز أن ينتقص حقهن في الميراث لكان أقرب.
8. مسائل في المواريث:
أ. الإرث يستحق بثلاثة أشياء: بالنسب، والنكاح، والولاء، والوارثون ثلاثة: أصحاب السهام، والعصبات، وذوو الأرحام.
ب. المانع من الإرث بعد وجود سبب وجوبه ثلاثة: القتل، والرق، واختلاف الدينين.
ج. سهام الفرائض ستة: الثلثان، والثلث، والسدس، والنصف، والربع، والثمن، فإن كان المال يزيد على السهام ولا عصبة يُرَدُّ عليهم على قدر سهامهم إلا الزوج والزوجة فقال الشافعي: لا يرد، وأكثر الصحابة يقول بالعول سوى ابن عباس، وأكثرهم يرى توريث ذوي الأرحام غير زيد، وإليه يذهب الشافعي.
د. فرض الأولاد: ولد الميت على ثلاثة أوجه: إما أن يكونوا بنين أو بنات، أو بنين وبنات، فإن كانوا بنين فالمال بينهم بالسوية، وإن كانوا ذكورًا وإناثًا قسم المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كن بنات فللواحدة النصف، وللثنتين وما فوقهما الثلثان، وقد بينا خلاف ابن عباس في البنتين، فأما ولد الابن إذا لم يكن ولد صلب، هل يدخل في الآية؟ فيه ثلاثة أقوال: قيل: يتناولهم جميعا على السواء، وقيل: يتناولهم على بعض الترتيب إذا لم يكن ولد صلب، وقيل: بل يعلم حكمهم بالمعنى لا بالنص، وحكمهم كحكم أولاد الصلب، والصحيح أنهم يدخلون في الآية مجازًا لا حقيقة، ويجوز حمل الآية عليها، فأما إذا اجتمع الولد وولد الابن، فإن كان للميت ابن سقط حكم أولاد الابن معه، فإن لم يكن ابن وكانت بنت فلها النصف، والباقي لولد الابن إن كانوا ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا، فإن كانوا إناثًا فلهن السدس لا يزاد بنات الابن مع بنت الصلب على السدس وإن كثرن، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان والباقي لولد الابن إن كانوا ذكورًا، أو ذكورًا وإناثا، وإن كانوا إناثًا فلا شيء لهن، وهذا قول عامة الصحابة غير ابن مسعود، فإنه يقول: إن البنات إذا استكملن الثلثين فالباقي لبني الابن ولا شيء لبنات الابن.
هـ. اختلف في الكافر:
• قيل: لا يتوارث أهل ملتين.
• وقيل: المسلم يرثه وهو لا يرث المسلم، والأكثر على القول الأول.
و. سؤال وإشكال: هل يدخل الكافر في الآية:
أ. قيل: هو مخصوص منها بدليل ولولا ذلك لدخل فيه، وهو الوجه.
ب. وقيل: بل قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ﴾ خطاب للمسلمين.
ز. المملوك والمكاتب والمدبر، فإنهم لا يرثون، وهو مخصوص من الآية، وكذلك القاتل.
ح. أما المرتد: فيرثه المسلمون ما اكتسبه في حال الإسلام، وما اكتسبه في حال الردة فهو فيء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: هما ميراث عنه، وقال الشافعي: هما فيء، ويكون مخصوصًا من الآية.
9. قرأ أبو جعفر ونافع ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً﴾ بالرفع، والباقون بالنصب، أما النصب فعلى خبر ﴿كَانَ﴾، تقديره: وإن كانت المتروكة واحدة، وأما الرفع فعلى تقدير: وإن وقعت واحدةٌ، وحينئذ لا خبر له.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/547.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روى محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر، وهما يمشيان، فأغمي علي، فدعا بماء، فتوضأ ثم صبه علي، فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله، فنزلت آية المواريث في.
ب. وقيل: نزلت في عبد الرحمن، أخي حسان الشاعر، وذلك أنه مات، وترك امرأة وخمسة إخوان، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، ولم يعطوا امرأته شيئا، فشكت ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله آية المواريث، عن السدي.
ج. وقيل: كانت المواريث للأولاد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله ذلك، وأنزل آية المواريث، فقال رسول الله: (إن الله لم يرض بملك مقرب، ولا نبي مرسل، حتى تولى قسم التركات، وأعطى كل ذي حق حقه) عن ابن عباس.
2. ثم بين تعالى ما أجمله فيما قبل من قوله ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية، بما فصله في هذه الآية فقال ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾: أي يأمركم ويفرض عليكم، لأن الوصية منه تعالى أمر وفرض، يدل على ذلك قوله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ وهذا من الفرض المحكم علينا.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾:
قيل: أي في ميراث أولادكم، أو في توريث أولادكم.
وقيل: في أمور أولادكم إذا متم.
4. ثم بين ما أوصى به فقال ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾: أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين.
5. ثم ذكر نصيب الإناث من الأولاد فقال: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾: أي فإن كانت المتروكات أو الأولاد نساء فوق اثنتين، ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ من الميراث، ظاهر هذا الكلام يقتضي أن البنتين لا يستحقان الثلثين، لكن الأمة أجمعت على أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات، وذكر في الظاهر وجوه:
أ. أحدها: إن في الآية بيان حكم البنتين فما فوقهما، لأن معناه فإن كن اثنتين فما فوقهما، فلهن ثلثا ما ترك، إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام، إلا ومعها زوجها، أو ذو محرم لها) ومعناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها.
ب. ثانيها: ما قاله أبو العباس المبرد: إن في الآية دليلا على أن للبنتين الثلثين، لأنه إذا قال للذكر مثل حظ الأنثيين، وكان أول العدد ذكرا وأنثى، وللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، ثم أعلم الله بأن ما فوق البنتين لهن الثلثان.
ج. ثالثها: إن البنتين أعطيتا الثلثين بدليل لا يفرض لهما مسمى، والدليل قوله تعالى: ﴿ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك﴾ فقد صار للأخت النصف، كما أن للبنت النصف، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، وأعطيت الابنتان الثلثين، كما أعطيت الأختان الثلثين، وأعطيت جملة الأخوات الثلثين، كما أعطيت البنات الثلثين.
د. ويدل عليه أيضا الاجماع على أن حكم البنتين حكم البنات في استحقاق الثلثين، إلا ما روي عن ابن عباس: إن للبنتين النصف، وإن الثلثين فرض الثلث من البنات، وحكى النظام في كتاب النكت عن ابن عباس أنه قال: للبنتين نصف وقيراط، لأن للواحدة النصف، وللثلاث الثلثين، فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما.
6. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً﴾: أي وإن كانت المولودة أو المتروكة واحدة ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾: أي نصف ما ترك الميت.
7. في هاتين الآيتين دلالة على تقدير سهام أصحاب المواريث، ونحن نذكر من ذلك جملة موجزة منقولة عن أهل البيت دون غيرهم، فإن الاختلاف في مسائل المواريث بين الفقهاء كثير، يطول بذكره الكتاب، فمن أراده وجده في مظانه:
أ. الإرث يستحق بأمرين: نسب وسبب، فالسبب الزوجية والولاء، فالميراث بالزوجية يثبت مع كل نسب، والميراث بالولاء لا يثبت إلا مع فقد كل نسب.
ب. وأما النسب فعلى ضربين: أحدهما: أبو الميت، ومن يتقرب به، والآخر: ولده، وولد ولده، وإن سفل.
ج. والمانع من الإرث بعد وجود سبب وجوبه ثلاثة: الكفر، والرق، وقتل الوارث من كان يرثه، لولا القتل.
د. ولا يمنع الأبوين، والولد، والزوج، والزوجات، من أصل الإرث مانع، ثم هم على ثلاثة أضرب، الأول: الولد يمنع من يتقرب به ومن يجري مجراه من ولد إخوته وأخواته عن أصل الإرث، ويمنع من يتقرب بالأبوين، ويمنع الأبوين عما زاد على السدس إلا على سبيل الرد مع البنت أو البنات، والأبوان يمنعان من يتقرب بهما، أو بأحدهما، ولا يتعدى منعهما إلى غير ذلك، والزوج والزوجة، لاحظ لهما في المنع، وولد الولد، وإن سفل، يقوم مقام الولد الأدنى عند فقده في الإرث والمنع، ويترتبون الأقرب فالأقرب، وهذه سبيل ولد الأخوة والأخوات، وإن سفل عند فقد الأخوة والأخوات مع الأجداد والجدات.
هـ. ثم إن الميراث بالنسب يستحق على وجهين: بالفرض والقرابة، فالفرض ما سماه الله، ولا يجتمع في ذلك إلا من كانت قرابته متساوية إلى الميت، مثل البنت، أو البنات مع الأبوين، أو أحدهما، لأن كل واحد منهم يتقرب إلى الميت بنفسه، فمتى انفرد أحدهم بالميراث، أخذ المال كله: بعضه بالفرض، والباقي بالقرابة.
و. وعند الاجتماع يأخذ كل واحد منهم ما سمي له، والباقي يرد عليهم على قدر سهامهم، فإن نقصت التركة عن سهامهم لمزاحمة الزوج، أو الزوجة لهم، كان النقص داخلا على البنت أو البنات دون الأبوين، أو أحدهما، ودون الزوج والزوجة، ويصح اجتماع الكلالتين معا، لتساوي قرابتيهما، فإذا فضل التركة عن سهامهم، يرد الفاضل على كلالة الأب، والأم، أو الأب، دون كلالة الأم، وكذلك إذا نقصت عن سهامهم، لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم، كان النقص داخلا عليهم دون كلالة الأم، والزوج، والزوجة، لا يدخل عليهم النقصان على حال،فعلى هذا إذا اجتمع كلالة الأب مع كلالة الأم، كان لكلالة الأم للواحد السدس، وللاثنين فصاعدا الثلث، لا ينقصون منه، والباقي لكلالة الأب، ولا يرث كلالة الأب مع كلالة الأب والأم، ذكورا كانوا أو إناثا.
ز. فأما من يرث بالقرابة دون الفرض فأقواهم الولد للصلب، ثم ولد الولد، يقوم مقام الولد، ويأخذ نصيب من يتقرب به ذكرا كان، أو أنثى، والبطن الأول يمنع من نزل عنه بدرجة، ثم الأب يأخذ جميع المال إذا انفرد، ثم من يتقرب به،أما ولده، أو والده، أو من يتقرب بهما من عم، أو عمة، فالجد أب الأب مع الأخ الذي هو ولده في درجة، وكذلك الجدة مع الأخت فهم يتقاسمون المال، للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن له سببان يمنع من له سبب واحد، وولد الأخوة والأخوات يقومون مقام آبائهم وأمهاتهم في مقاسمة الجد والجدة، كما يقوم ولد الولد مقام الولد للصلب مع الأب، وكذلك الجد والجدة، وإن عليا يقاسمان الإخوة والأخوات وأولادهم، وإن نزلوا على حد واحد.
ح. وأما من يرث بالقرابة ممن يتقرب بالأم فهم الجد والجدة، أو من يتقرب بهما من الخال والخالة، فإن أولاد الأم يرثون بالفرض أو بالفرائض دون القرابة، فالجد والجدة من قبلها يقاسمان الإخوة والأخوات من قبلها، ومتى اجتمع قرابة الأب مع قرابة الأم مع استوائهم في الدرجة، كان لقرابة الأم الثلث بينهم بالسوية، والباقي لقرابة الأب للذكر مثل حظ الأنثيين، ومتى بعد إحدى القرابتين بدرجة، سقطت مع التي هي أقرب، سواء كان الأقرب من قبل الأب، أو من قبل الأم، إلا في مسألة واحدة، وهو ابن عم للأب، فإن المال لابن العم.
ط. هذه أصول مسائل الفرائض، ولتفريعها شرح طويل، دونه المشائخ في كتب الفقه.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. الاختيار في ﴿وَاحِدَةٌ﴾ النصب، لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾: أي وإن كانت الورثة واحدة، ووجه الرفع إن وقعت واحدة، أوجدت واحدة، أي إن حدث حكم واحدة، لأن المراد حكمها، لا ذاتها.
ب. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾: جملة من مبتدأ وخبر تفسير لقوله ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾، وإنما لم يقل للذكر مثل حظ الأنثيين بنصب لام مثل، فيعدي قوله ﴿يُوصِيكُمُ﴾ إليه لأنه في تقرير القول في حكاية الجملة بعده، فكأنه قال، قال الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/24.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنّ جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، رواه البخاريّ ومسلم.
ب. الثاني: أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله قتل أبو هاتين معك يوم أحد، وقد استفاء عمّهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد الله أيضا.
ج. الثالث: أنّ عبد الرحمن أخا حسّان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السّدّيّ.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ﴾:
أ. قال الزجّاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصيّة منه فرض.
ب. وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين:
• أحدهما: أن الوصيّة تزيد على الأمر، فكانت آكد.
• الثاني: أن في الوصيّة حقا للموصي، فدلّ على تأكيد الحال بإضافته إلى حقّه.
3. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يعني، للابن من الميراث مثل حظّ الأنثيين، ثم ذكر نصيب الإناث من الأوّل فقال ﴿فَإِنْ كُنَّ﴾ يعني: البنات ﴿نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿فَوْقَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾
ب. الثاني: أنها بمعنى الزّيادة، قال القاضي أبو يعلى: إنما نصّ على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينصّ على الاثنتين، لأنه لمّا جعل لكلّ واحدة مع الذّكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.
5. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً﴾ قرأ الجمهور بالنّصب، وقرأ نافع بالرّفع، على معنى: وإن وقعت، أو وجدت واحدة.
__________
(1) زاد المسير: 1/378.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: أحدهما: النسب، والآخر العهد، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث، وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة، وأما العهد فمن وجهين:
أ. الأول: الحلف، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت.
ب. الثاني: التبني، فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة.
2. لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية، ومن العلماء من قال: بل قررهم الله على ذلك فقال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 33] والمراد التوارث بالنسب، ثم قال ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ [النساء: 33] والمراد به التوارث بالعهد، والأولون قالوا المراد بقوله: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية.
3. أما أسباب التوارث في الإسلام، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني، وزاد فيه أمرين آخرين:
أ. أحدهما: الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر، وان كان أجنبيا عنه، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه.
ب. الثاني: المؤاخاة، كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤاخي بين كل اثنين منهم، وكان ذلك سببا للتوارث، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 6]
4. الذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء.
5. روى عطاء قال استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا، فأخذ الأخ المال كله، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، وإن سعدا قتل وان عمهما أخذ مالهما، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ارجعي فلعل الله سيقضي فيه) ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمهما وقال: (أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، فهذا أول ميراث قسم في الإسلام.
6. في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
أ. الأول: أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام، وما على الأولياء فيه، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالإرث، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث.
ب. الثاني: أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالإجمال في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 7] فذكر عقيب ذلك المجمل، هذا المفصل فقال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾
7. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ قال القفال: أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الإيصاء هو الإيصال يقال: وصى يصي إذا وصل، وأوصى يوصي إذا أوصل، فإذا قيل: أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج: معنى قوله هاهنا: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ أي يفرض عليكم، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
8. سؤال وإشكال: انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، والجواب: لما كانت الوصية قولا، لا جرم ذكر بعد قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ خبرا مستأنفا وقال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ونظيره قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29] أي قال الله: لهم مغفرة لأن الوعد قول.
9. بدأ الله تعالى بذكر ميراث الأولاد، وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاطمة بضعة مني) فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.
10. للأولاد حال انفراد، وحال اجتماع مع الوالدين: أما حال الانفراد فثلاثة، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا، وإما أن يخلف الإناث فقط، أو الذكور فقط:
أ. الأول: ما إذا خلف الذكران والإناث معا، وقد بين الله الحكم فيه بقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وهذا يفيد أحكاما:
• أحدهما: إذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم.
• ثانيها: إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان، ولكل أنثى سهم.
• ثالثها: إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يفيد هذه الأحكام الكثيرة.
ب. الثاني: ما إذا مات وخلف الإناث فقط: بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين، فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة فلها النصف، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح، واختلفوا:
• عن ابن عباس أنه قال الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا، وأما فرض البنتين فهو النصف.
• سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان.
ج. الثالث: وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط، وسنذكر تفاصيله.
11. عن ابن عباس أنه قال: الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا، وأما فرض البنتين فهو النصف، واحتج عليه بأنه تعالى قال: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ وكلمة (إن) في اللغة للاشتراط، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعدا، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين، والجواب من وجوه:
أ. الأول: أن هذا الكلام لازم على ابن عباس، لأنه تعالى قال ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ فجعل حصول النصف مشروطا بكونها واحدة، وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله.
ب. الثاني: أنا لا نسلم أن كلمة (ان) تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين، لأن الإجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف، وإما الثلثان، وبتقدير أن يكون كلمة (إن) للاشتراط وجب القول بفسادهما، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا، ولأنه تعالى قال ﴿وَإِنَّ﴾.. ﴿لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283] وقال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء: 101]، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
ج. الثالث: في الجواب: هو أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس.
12. سائر الأمة أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان، قالوا: وإنما عرفنا ذلك بوجوه:
أ. الأول: قال أبو مسلم الاصفهاني: عرفناه من قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين، ونصيب الذكر هاهنا هو الثلثان، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين.
ب. الثاني: قال أبو بكر الرازي: إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى، لأن الذكر أقوى من الأنثى.
ج. الثالث: أن قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص، وإذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان، لأنه لا قائل بالفرق.
د. الرابع: أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين، وذلك يدل على ما قلناه.
هـ. الخامس: أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم الثنتين، وقال في شرح ميراث الأخوات: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾.. ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: 176] فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملًا من وجه ومبيناً من وجه، فنقول: لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك، لأنهما أقرب إلى الميت من الأختين، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك، لأن البنت لما كانت أشد اتصالًا بالميت امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقوى، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب، فالوجوه الثلاثة الأول مستنبطة من الآية، والرابع: مأخوذ من السنة، والخامس: من القياس الجلي.
13. إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط، فإن الابن الواحد فإنه إذا انفرد أخذ كل المال، وبيانه من وجوه:
أ. الأول: من دلالة قوله تعالى: ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176] فإن هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين، ثم قال تعالى في البنات: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال.
ب. الثاني: أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر) ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر، ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل.
ج. الثالث: ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن، وليس له بالإجماع قدر معين من الميراث، فإذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد، فوجب أن يأخذ الكل.
14. سؤال وإشكال: حظ الأنثيين هو الثلثان فقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال، والجواب: المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد، ويدل عليه وجهان:
أ. أحدهما: ان قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ يقتضي حصول الأولاد، وقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك.
ب. الثاني: أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية.
15. سؤال وإشكال: لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه:
أ. أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز، فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك.
ب. وأما ثانيا: فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها.
ج. وأما ثالثا: فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل.
16. والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أن خروج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها، وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته، ومن كان خروجه أكثر فهو إلى المال أحوج.
ب. الثاني: أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية، مثل صلاحية القضاء والامامة، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد.
ج. الثالث: ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر:
çإن الفراغ والشباب والجده...مفسدة للمرء أي مفسدهé
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6، 7] وحال الرجل بخلاف ذلك.
د. الرابع: أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، نحو بناء الرباطات، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك.
هـ. الخامس: روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال: إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها، فجل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل.
17. سؤال وإشكال: لم لم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام، ولو قال كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل، ولهذا قال ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرة واحدة.
ج. الثالث: أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود هذه الآية، فقيل: كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى، فلا ينبغي له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم.
18. سؤال وإشكال: لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف: 26] وقال للذين كانوا في زمان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: 40] الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازا أو حقيقة، فان قلنا: إنه مجاز فنقول: ثبت لي أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ ولد الصلب وولد الابن معا، والجواب: الطريق في دفع هذا الأشكال أن يقال: انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس، وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول: الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين، إما عند عدم ولد الصلب رأسا، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث، فحينئذ يقتسمون الباقي، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب، فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحدا، أما إذا قلنا: ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة، فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الأشكال، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لإفادة معنييه معا، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس، والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ [النساء: 23] وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن، فعلمنا أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن، وعلى هذا التقدير يزول الأشكال.
19. سؤال وإشكال: هذا البحث في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات؟ والجواب: لا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: 133] والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة، فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم.
20. عموم قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ زعموا أنه مخصوص في صور أربعة:
أ. أحدها: أن الحر والعبد لا يتوارثان.
ب. ثانيها: أن القاتل على سبيل العمد لا يرث.
ج. ثالثها: أنه لا يتوارث أهل ملتين، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض.
21. اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهل يرث من الكافر؟
أ. ذهب الأكثرون إلى أنه أيضا لا يرث.. والحجة عموم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتوارث أهل ملتين)
ب. وقال بعضهم: إنه يرث قال الشعبي: قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين، والحجة ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الإسلام يزيد ولا ينقص)، ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يقتضي توريث الكافر من المسلم، والمسلم من الكافر، إلا أنا خصصناه بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتوارث أهل ملتين) لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية، والخاص مقدم على العام فكذا هاهنا، قوله: (الإسلام يزيد ولا ينقص) أخص من قوله: (لا يتوارث أهل ملتين) فوجب تقديمه عليه، بل هذا التخصيص أولى، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية، والخبر الأول ليس كذلك، وأقصى ما قيل في جوابه: أن قوله: (الإسلام يزيد ولا ينقص) ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الأحوال.
22. المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث، بل يكون لبيت المال، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان: قال الشافعي: لا يورث بل يكون لبيت المال، وقال أبو حنيفة: يرثه ورثته من المسلمين، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يتوارث أهل المتين) على عموم قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين، فوجب أن لا يحصل التوارث.
23. سؤال وإشكال: لا يجوز أن يقال: إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث، وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر، والجواب: لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته:
أ. الأول باطل، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: 6] وهو بالإجماع باطل.
ب. الثاني: باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين، وهو خلاف الخبر، ولا يبقى هاهنا إلا أن يقال: إنه يرثه بعد موته مستندا إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، إلا أن القول بالاستناد باطل، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي، وذلك باطل في بداهة العقول، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد، وقد أبطلناه والله أعلم.
24. من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، ثم ان الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز هاهنا، وبيانه من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه على خلاف قوله تعالى: حكاية عن زكريا عليه السلام ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 6] وقوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16] قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة بل يكون كسباً جديداً مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.
ب. ثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يليق بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة.
ج. ثالثها: يحتمل أن قوله: (ما تركناه صدقة) صلة لقوله: (لا نورث) والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث، سؤال وإشكال: فان قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك، والجواب: بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
25. جواب أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال(2).
26. من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ معناه للذكر منهم، فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم، كقولك: السمن منوان بدرهم، أما قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن، وقوله: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان، وأن يكون صفة لقوله: ﴿نِسَاءٌ﴾ أي نساء زائدات على اثنتين.
27. سؤال وإشكال: قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف يحسن إرادته بقوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ وهو لبيان حظ الإناث، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أنا بينا أن قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ على معنى: فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت، فثبت أن هذا العطف متناسب.
ب. الثاني: أنه قد تقدم ذكر الأنثيين، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
28. سؤال وإشكال: هل يصح أن يكون الضميران في (كن) و(كانت) مبهمين ويكون (نساء) و(واحدة) تفسيراً لهما على ان (كان) تامة؟ والجواب: ذكر الزمخشري: أنه ليس ببعيد.
29. سؤال وإشكال: النساء: جمع، وأقل الجمع ثلاثة، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين؟ والجواب: من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته، ومن يقول: هو ثلاثة قال هذا للتأكيد، كما في قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10] وقوله: ﴿لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَإِلهٌ واحِدٌ﴾ [النحل: 51]
30. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ فنقول: قرأ نافع (واحدة) بالرفع، والباقون بالنصب، أما الرفع فعلى كان التامة، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ والتقدير: فإن كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا هاهنا، التقدير: وإن كانت المتروكة واحدة، وقرأ زيد بن علي: النصف، بضم النون.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/509.
(2) الدليل الصحيح الوارد في الأحاديث يخالف ذلك
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين تعالى هذه الآية ما أجمله في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال، وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر حتى إنها ثلث العلم، وروي نصف العلم، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى:
أ. رواه الدارقطني عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شي ينسى وهو أول شي ينتزع من أمتي)
ب. وروي أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما.
2. إذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جل علم الصحابة، وعظيم مناظرتهم، ولكن الخلق ضيعوه:
أ. وقد روى مطرف عن مالك، قال عبد الله ابن مسعود: من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية؟
ب. وقال ابن وهب عن مالك: كنت أسمع ربيعة يقول: من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها، قال مالك: وصدق.
ج. روى أبو داوود والدارقطني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة)، قال الخطابي أبو سليمان: الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الإحكام، لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه، والسنة القائمة هي الثابتة مما جا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من السنن الثابتة، وقوله: (أو فريضة عادلة) يحتمل وجهين من التأويل:
• أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة، فتكون معدلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة.
• الآخر: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما، فتكون هذه الفريضة تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا:
● روى عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها، قال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأي؟ قال: أقوله برأي، لا أفضل أما على أب، قال أبو سليمان: فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص، وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه، وهو قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، فلما وجد نصيب الأم الثلث، وكان باقي المال هو الثلثان للأب، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم، فقسمه بينهما على ثلاثة، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي، وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال، وللأب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل، وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم، وبخس الأب حقه برده إلى السدس، فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد.
● قال أبو عمر: وقال عبد الله بن عباس في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وقال في امرأة وأبوين: للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، والباقي للأب، وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداوود ابن علي، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا، وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة، وقال في موضع آخر: إنه قد روي ذلك عن علي أيضا، قال أبو عمر: المعروف المشهور عن علي وزيد وعبد الله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك، ومن الحجة لهم على ابن عباس: أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة، ليس معهما غيرهما، كان للأم الثلث وللأب الثلثان، وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين، وهذا صحيح في النظر والقياس.
3. اختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث:
أ. فروى الترمذي وأبو داوود وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها في مجلسها ذلك، ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ادع لي أخاه) فجاء فقال له: (ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي)، لفظ أبي داوود في روا الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث، قال: هذا حديث صحيح.
ب. وروى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت، فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، أخرجاه في الصحيحين، وأخرجه الترمذي، وفيه فقلت: يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الآية، قال: حديث حسن صحيح.
ج. وفي البخاري عن ابن عباس أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة، وقد ذكرناها.
د. قال السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان ابن ثابت.
هـ. وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه.
و. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع، ولذلك تأخر نزولها، والله أعلم، قال الكيا الطبري: (وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية)، ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع، وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس، والأول أصح عند أهل النقل، فاسترجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه، ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم)، وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال: (ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة، وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه، لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما، لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت)، قاله ابن العربي.
4. ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ قالت الشافعية: قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ حقيقة في أولاد الصلب، فأما يدخل فيه بطريق المجاز، فإذا حلف أنلا ولد له وله ولد ابن لم يحنث، وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده، وأبو حنيفة يقول: إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب، ومعلوم أن الا لفاظ لا تتغير بما قالوه.
5. قال ابن المنذر: لما قال تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: لا يرث المسلم الكافر علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث.
6. لما قال تعالى: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار، فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام، وبه قال كافة أهل العلم، إلا النخعي فإنه قال: لا يرث الأسير، فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود.
7. لم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقوله: (لا نورث ما تركنا صدقة)، وسيأتي بيانه في مريم إن شاء الله تعالى، وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أوجده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الأمة، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا، على ما تقدم بيانه في البقرة، فإن قتله خط فلا ميراث له من الدية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي، من المال ولا من الدية شيئا، حسبما تقدم بيانه في البقرة، وقول مالك أصح، وبه قال إسحاق وأبو ثور، وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر، لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع، وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث.
8. الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب: منها الحلف والهجرة والمعاقدة، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ إن شاء الله تعالى، وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) رواه الأئمة، يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى، وهي ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والزوج، وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه، والربع فرض الزوج مع الحاجب، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه، والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب، والثلثان فرض أربع: الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات الأشقاء، أو للأب، وكل هؤلاء إذا انفردن عمن يحجبهن عنه، والثلث فرض صنفين: الأم مع عدم الولد، وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم، وهذا هو ثلث كل المال، فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة زوج أو زوجة وأبوان، فللأم فيها ثلث ما يبقى، وقد تقدم بيانه، وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له، والسدس فرض سبعة: الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى، وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من السنة.
9. الأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت، ونكاح منعقد، وولاء عتاقة، وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها، وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر، مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو زوجها وابن عمها، فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد: نصفه بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب، ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته، فيكون لها أيضا جميع المال إذا انفردت: نصفه بالنسب ونصفه بالولاء.
10. لا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة، وجملتهم سبعة عشر، عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة، ويرث من النساء سبع: البنت وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة وهي المعتقة.
11. لما قال تعالى: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، دنيا أو بعيدا، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم، قال بعضهم: ذلك حقيقة في الأذنين مجاز في الأبعدين، وقال بعضهم: هو حقيقة في الجميع، لأنه من التولد، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه، قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا سيد ولد آدم) قال: (يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا) إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة.
12. إن كان في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شي، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدئ بالبنات للصلب، فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات، للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال: إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الولد الأنثى رد عليها، وإن كان أسفل منها يرد عليها، مراعيا في ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين، قلت: هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه: أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن، ولم يفصلا، وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور، ونحوه حكى أبو عمر، قال أبو عمر: وخالف في ذلك ابن مسعود فقال: وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم، ودون من فوقهم من بنات الابن، ومن تحتهم، وإلى هذا ذهب أبو ثور وداوود بن علي، وروي مثله عن علقمة، وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) خرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ومن حجة الجمهور قول الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ لأن ولد الولد ولد، ومن جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال، كأولاد الصلب، فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن أخته، كما يشرك الابن للصلب أخته، فإن احتج محتج لأبي ثور وداوود أن بنت الابن لما لم ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها، فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه، وظاهر قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ وهي من الولد.
13. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ الآية، فرض الله تعالى للواحدة النصف، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصا في كتابه، فتكلم العلماء في الذليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو؟
أ. فقيل: الإجماع وهو مردود، لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف، لأن الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ وهذا شرط وجزاء، قال: فلا أعطي البنتين الثلثين.
ب. وقيل: أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وقال تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين، واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك.
ج. وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين الثلثين، احتج بهذه الحجة، وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد، قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة، فيقول مخالفه: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهم.
د. وقيل: ﴿فَوْقَ﴾ زائدة أي إن كن نساء اثنتين، كقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ أي الأعناق، ورد هذا القول النحاس وابن عطية وقالا: هو خطأ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى، قال ابن عطية: ولأن قوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ هو الفصيح، وليست فوق زائدة بل هي محكمة للمعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعنان الأبطال.
هـ. وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول.
14. لغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر، ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر، ويقال: ثلث القوم أثلثهم، وثلثت الدراهم أثلثها إذا تممتها ثلاثة، وأثلثت هي، إلا أنهم قالوا في المائة والألف: أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت.
15. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ قرأ نافع وأهل المدينة ﴿وَاحِدَةٌ﴾ بالرفع على معنى وقعت وحدثت، فهي كانت التامة، كما قال الشاعر:
çإذا كان الشتاء فأدفئوني...فإن الشيخ يهرمه الشتاءé
والباقون بالنصب، قال النحاس: وهذه قراءة حسنة، أي وإن كانت المتروكة أو المولودة ﴿وَاحِدَةٌ﴾
16. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾، فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض، لأنه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين، فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين، لأنه فرض يرثه البنتان فما زاد، وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن، وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث، فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت الابن، وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى، على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف، والنصف الثاني للأخت، ولا حق في ذلك لبنت الابن، وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك، رواه البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل يقول: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني، فاسأل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم، فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها، فكان النصف الثاني بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ ـ خلافا لابن مسعود على ما تقدم ـ إذا استوفى بنات الصلب، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين، وكذلك يقول في الأخت لأب وأم، وأخوات وإخوة لأب: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي للإخوة والأخوات، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس، فإن أصابهن أكثر من السدس أعطاهن السدس تكملة الثلثين، ولم يزدهن على ذلك، وبه قال أبو ثور.
17. إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع، وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل، وقالوا جميعا: إذا خرج ميتا لم يرث، فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل، هذا قول مالك والقاسم ابن محمد وابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة، وقالت طائفة: إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي، هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي، قال ابن المنذر: الذي قاله الشافعي يحتمل النظر، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان يستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه)، وهذا خبر، ولا يقع على الخبر النسخ.
18. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بالخنثى، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/56.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية، وقد استدلّ لذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات، لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم الصحابة، وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله.
2. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ أي: في بيان ميراثهم، وقد اختلفوا: هل يدخل أولاد الأولاد أم لا، فقالت الشافعية: إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافرا، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمدا، ويخرج أيضا بالسنة والإجماع.
3. هذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة، وقد أجمع العلماء: على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) إلّا إذا كان ساقطا معهم، كالأخوة لأم.
4. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ جملة مستأنفة، لبيان الوصية في الأولاد، فلا بدّ من تقدير ضمير يرجع إليهم: ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم حظ الأنثيين، والمراد: حال اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد: فللذكر جميع الميراث، وللأنثى النصف، وللاثنتين فصاعدا الثلثان.
5. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي: فإن كنّ الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر، أو البنات، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين، أي: زائدات على اثنتين، على أن: فوق، صفة لنساء، أو يكون خبرا ثانيا لكان ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ الميت، المدلول عليه بقرينة المقام.
6. ظاهر النظم القرآني: أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا، ولم يسم للاثنتين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور: إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين، وذهب ابن عباس: إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين؛ وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كانا للابنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد، قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضا للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور: بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين، وقيل: إن: فوق، زائدة، والمعنى: وإن كنّ نساء اثنتين كقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ أي: الأعناق، ورد هذا النحاس، وابن عطية فقالا: هو خطأ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى، قال ابن عطية: ولأن قوله: ﴿فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ هو الفصيح، وليست فوق زائدة، بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ، وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال.. وأيضا: لو كان لفظ فوق زائدا كما قالوا: لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به للجمهور: ما أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في سننه عن جابر قال جاءت امرأة سعد بن الربيع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلّا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي: ولا يعرف إلّا من حديثه.
7. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ قرأ نافع، وأهل المدينة: (واحدة) بالرفع، على أن: كان، تامة بمعنى: فإن وجدت واحدة أو حدثت واحدة، وقرأ الباقون: بالنصب، قال النحاس: وهذه قراءة حسنة، أي: وإن كانت المتروكة أو المولودة واحدة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/497.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ إلخ، قال الحافظ ابن كثير: (هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة، هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك)، والمعنى: يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم ﴿لِلذِّكْرِ﴾ أي منهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي نصيبهما اجتماعا وانفرادا، أما الأول فإنه يعدّ كل ذكر بأنثيين، في مثل ابن مع بنتين، وابن ابن مع بنتي ابن، وهكذا في السافلين، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين، كما أن لهما سهمين، وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر، عند انفراده، مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقا، مجتمعا مع الإناث ومنفردا، كما حققه صاحب (الانتصاف)
2. استدلّ بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ (الأولاد) للإجماع على إرثهم، دون أولاد البنت.
3. وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فهو إلى المال أحوج، ولأنه لو كمل نصيبها، مع أنها قليلة العقل، كثيرة الشهوة لأتلفته في الشهوات إسرافا، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط، وهو على نفسه وزوجته.
4. لم يقل: للذكر ضعف نصيب الأنثى، لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعدا، فلا يكون نصّا، ولم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، ولا للأنثى نصف حظ الذكر، تقديما للذكر بإظهار مزيته على الأنثى، ولم يقل: للذكر مثلا نصيب الأنثى، لأنه المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص، ولم يعتبر هاهنا.
5. إيثار اسمي (الذكر والأنثى) على ما ذكر أولا من الرجال والنساء، للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورّثون الأطفال، كالنساء.
6. استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا، يا رسول الله، قال فو الله! لله أرحم بعباده من هذه بولدها.
7. ﴿فَإِنْ كُنَّ﴾ أي الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى: ﴿نِسَاءٌ﴾ يعني بنات خلصا ليس معهن ذكر ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ خبر ثان أو صفة لنساء، أي نساء زائدات على اثنتين ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام.
8. ظاهر النظم القرآنيّ أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا حيث لا ذكر معهن ولم يسم للبنتين فريضة، وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما، إذا انفردتا عن البنين، الثلثين، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾، فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات، إذا زدن على اثنتين، بالبنات، في الاشتراك في الثلثين.
9. قيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث، كان للابنتين، إذا انفردتا، الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرّد، قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضا للمخالف أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت، بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، كان فرض البنتين، إذا انفردتا، فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين، وقيل إن (فوق) زائدة، والمعنى: إن كن نساء اثنتين، كقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ [الأنفال: 12]، أي الأعناق، ورد هذا النحاس وابن عطية، فقالا: هو خطأ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى، قال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح وليست (فوق) زائدة بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، انتهى، وأيضا لو كان لفظ (فوق) زائدا كما قالوا، لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقيّ في (سننه) عن جابر قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم (أحد) شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلّا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر، قال الترمذيّ: هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه، كذا في (فتح البيان)
10. ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ أي المولودة ﴿وَاحِدَةٌ﴾ أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ أي نصف ما ترك، ولم يكمل لها لأنها ناقصة، ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/38.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَولادِكُمْ﴾ يعهد إليكم في شأن إرث أولادكم، أو يفرض عليكم، كقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَالِكُمْ وَصَّاكُم به﴾ [الأنعام: 151]، أي: فرض عليكم، أوْ لأولادكم كحديث: (دخلت امرأة النار في هرَّة)، أي: لهرَّة.
2. الإيصاء لغة: طلب الشيء من غيره ليفعله في غيبته، حال حياته أو بعد موته، أو الإيصاء أن يقدِّم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنًا بوعظ، والخطاب للمؤمنين، أي: يُوصِيكُم الله فِي أَولاد موتاكم، فإيصاء الله تعالى أمر لعباده، بإطلاق المُقيَّد على المطلق، ثمَّ على المُقيَّد فيكون مجازًا بمرتبتين، أو بإطلاق اسم الملزوم على اللَّازم فيكون مجازًا بمرتبة.
3. ﴿لِلذَّكَرِ﴾ منهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ﴾ حين اجتمع الصِّنفان، لم يقل للأنثيين مثل حظِّ الذكر، أو للأنثى نصف الذكر، مع أنَّ الآية لبيان استحقاق الإناث الميراث إذ حرموهنَّ، تلويحًا بأنَّه يكفي في الذكر تفضيلاً أن يجعل ضعف أنثى، لا أن تحرم البتَّة؛ لأنَّها جزء من الميِّت، ومن صلبه ومائه كما هو.
4. ﴿فَإِن كُنَّ﴾ ضمير الإناث للأولاد هكذا بقطع النظر عن كونهم ذكورًا أو إناثًا، وساغ لتأنيث الخبر، ومقتضى الظاهر: (فإن كانت)، أي: الأنثى، والمراد الجنس، وجيء بضمير جماعة الإناث، لأنَّ الخبر في معنى ذلك، أو اثنتان جمع وأخبر عنه بمعنى الجمع لزيادة قيد الفوقيَّة، ولا يصحُّ ما قيل من أنَّ المراد: فإن كانت المولودات؛ لأنَّهنَّ نساء، أي: إناث، فلا يصحُّ الشرط.
5. ﴿نِسَآءً﴾ إناثًا بلَّغًا أو غير بلَّغ، وممَّا قيل ـ ولا دليل له ـ : إنَّ حوَّاء أكلت حفنة من حنطة، وخبَّأت أخرى، وأعطت آدم حفنة فعكس الله أمرها، بأنَّ للإناث حصَّة وللذكر حصَّتين، ولم ترث فاطمة # من أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئًا، لشهادة الإمام عليٍّ وغيره من الصحابة بحديث: (إنَّا معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه صدقة)، والقرآن يُخصَّص بالمتواتر إجماعًا وبالآحاد على الصحيح، وأمَّا ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]، و﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنَ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 6] فإرث علم وحكمة ونبوءة، كما قال جعفر الصادق: (العلماء ورثة الأنبياء)
6. ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ ثلاثًا فصاعدًا، ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ وللواحدة والاثنتين النصف، وهو قول ابن عبَّاس، وقال الجمهور: للاثنتين الثلثان أخذًا من أنَّ حظَّ الذكر حظُّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان، فإنَّما ذكر الفوقيَّة دفعًا لتوهُّم الزيادة على الثلثين بزيادة الإناث على الاثنتين، وأخذًا من أنَّ للأخت الثلث مع أخيها، فأولى أن تستحقَّه مع أخت لها، وأنَّ البنتين أقرب من الأختين، وقد فرض لهما الثلثان في قوله تعالى : ﴿فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ [النساء: 176] فأولى أن يفرض للبنتين.
7. مات سعد وأخذ أخوه ماله كلَّه، فشكت زوجه إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أعط ابنتيه الثلثين، وأمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك)، روي أنَّ ابن عبَّاس رجع إلى قول الجمهور لهذا الحديث إذْ بلغه.
8. ﴿وإِن كَانَتْ وَاحِدَةٌ﴾ بنت واحدةٌ، أي: حصلت، ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ مِمَّا ترك كما ذكر قبل، وبنت الابن كالبنت، وبناته كبنات الصلب وإن سفل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/127.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال محمد عبده: الخطاب في الآية عام موجه إلى جميع المكلفين في الأمة لأنهم هم الذين يقسمون التركة، وينفذون الوصية ولتكافل الأمة في الأمور العامة، وقال غيره: إن الآية وما بعدها تفصيل للإجمال في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ الآية، وقالوا إنه يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا حجة لهم فيها على هذا القول، إذا الظاهر أنها نزلت هي وما قبلها ـ ومنها تلك الآية المجملة ـ في وقت واحد، وما ذكر في سبب النزول لا يدل على التراخي والتأخير عن وقت الحاجة، ويجوز على فرض التأخر والتراخي أن تكون الآية الأولى أبطلت هضم حق المرأة والطفل لما فيه من الظلم والقسوة، ولم يكن المسلمون وقت نزولها قد كثروا وكثر أقاربهم منهم واستعدوا بذلك لنسخ أسباب الإرث الأولى الموقتة بأسباب الإرث الدائمة، فلما استعدوا لذلك نزل التفصيل بعد غزوة أحد كما في رواية جابر.
2. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ من الإيصاء والاسم الوصية وهي كما أفهم من ذوق اللغة واستعمال أهلها في القديم والحديث أنها ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل القريب أو البعيد يقولون يسافر فلان إلى بلد كذا وأوصيته أو وصيته بأن يحضر لي معه كذا؛ ويقولون وصيت المعلم بأن يراقب آداب الصبي ويؤدبه على ما يسيء به، ولكنهم لا يقولون في طلب الشيء الحاضر أو العمل أوصيت ولا وصيت، وما كنت أظن أن هذا الحرف يحتاج إلى تفسير لولا أنني رأيت الرازي ينقل عن القفال أن الإيصاء بمعنى الإيصال، يقال وصى من الثلاثي بمعنى وصل يصل وأوصى يوصي بمعنى أوصل يوصل، وأن معنى الجملة في الآية يوصلكم الله إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وعن الزجاج أن معناها يفرض عليكم، ثم رجعت إلى الراغب فرأيته يقول: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، من قولهم أرض واصية متصلة النبات، وهذا أظهر من القولين قبله ولكنه لم يرجعني عن فهمي الأول.
3. ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ أي في شأن أولادكم من بعدكم أو ميراثهم وما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء أكانوا ذكورا أم إناثا كبارا أم صغارا، واختلف العلماء في أولاد الأولاد فقالت الشافعية إنهم يدخلون في مفهوم الأولاد مجازا لا حقيقة، وقالت الحنفية إن لفظ الأولاد يتناولهم حقيقة إذا لم يكن للميت أولاد من صلبه، ولا خلاف بين المسلمين في قيام أولاد البنين مقام والديهم عند فقدهم وعدم إرثهم مع وجودهم لأن النسب للذكور كما قال الشاعر:
çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا...بنوهن أبناء الرجال الأباعدِé
وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحسن ابن بنته فاطمة: (ابني هذا سيد) كما في الصحيح مبني على خصوصيته في جعل ذريته من بنته أو من صلب علي كما ورد في حديث آخر، وأما الخنثى فينظر في علامات الذكورة والأنوثة فيه، فأيهما رجح حكم به، والمرجع في ذلك للأطباء الثقات العارفين.
4. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ استئناف لبيان الوصية في إرث الأولاد وقدمه لأنه الأهم في بابه كما سيأتي بيانه، أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا، قال محمد عبده: جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب واختير فيها هذا التعبير للإشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء كما تقدم، فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه؛ يعرف بالإضافة إليه، ولولا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر، وإذا لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق بعده كما ترى.
5. ويؤيد هذا ما تراه في بقية الفرائض في الآيتين من تقديم بيان ما للإناث بالمنطوق الصريح مطلقا أو مع مقابلته بما للذكور كما ترى في فرائض الوالدين والأخوات والإخوة وليس عندنا في هاتين الآيتين في الفرائض شيء عن محمد عبده غير بيان هذه النكتة وما تقدم من نكتة الخطاب في مجموع الأمة.
6. الحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين هي أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فكان له سهمان، وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها وبهذا الاعتبار يكون نصيب الأنثى من الإرث أكثر من نصيب الذكر في بعض الحالات بالنسبة إلى نفقاتهما.
7. ما ذكره بعض المفسرين في بيان الحكمة من نقص عقولهن وغلبة شهوتهن المفضية إلى الإنفاق في الوجوه المنكرة فهو قول منكر شنيع:
أ. وضعف عقولهن لا يقتضي نقص نصيبهن بل ربما يقال إنه يقتضي زيادته كضعف أبدانهن لقلة حيلتهن في الكسب وعجزهن عن الكثير منه ولذلك روي عن بعض السلف أن الميراث جاء على خلاف القياس المعقول، وما أرى الرواية صحيحة كما أن معناها غير صحيح لما علمت من الحكمة التي بيناها.
ب. أما ما يزعمون من كون شهوتهن أقوى من شهوة الرجال وما بنوه عليه من إفضائه إلى كثرة إنفاق المال فهو باطل بني على باطل وإننا نعلم بالاختبار أن الرجال هم الذين ينفقون الكثير من أموالهم في سبيل إرضاء شهواتهم وقلما نسمع أن امرأة أنفقت شيئا من مالها في مثل ذلك فهن يأخذن ولا يعطين والرجال هم الذين يبذلون لأنهم أقوى شهوة وأشد ضراوة، نعم إن النساء يملن إلى الإسراف في الزينة وهي تستلزم نفقات كثيرة، والشرع ينهى عن الإسراف فلا تكون أحكامه مبنية عليه، ولكن علم بالاختبار أنهن كثيرا ما يرجحن الاقتصاد إذا كان أمر النفقة موكولا إليهن فإن كانت من الوالد أو الزوج فلا يكاد إسرافهن يقف عند حد، ولهذا نرى بعض الرجال المقتصدين يكلون أمر النفقة في بيوتهم إلى أزواجهم فتقل النفقة ويتوفر منها ما لم يكن يتوفر من قبل.
8. قال المفسرون: ويدخل في عموم الأولاد من كان منهم كافرا ويخرج بالسنة إذ تبين فيها أن اختلاف الدين مانع من الإرث وهو ما عليه عمل المسلمين من الصدر الأول إلى الآن، وقد يقال: إن الكافر لا يدخل في هذا العموم لما علم من أن كفره قطع الصلة بينه وبين والده المؤمن كما علم من سورة هود المكية قال تعالى: ﴿ونادى نوح ربه فقال رب أن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم﴾ [هود: 45 ـ 46] فقد أخرجه من أهله بكفره على الوجه المشهور في الآية: فالمراد بالأولاد المؤمنون كما أن المخاطبين بها هم المؤمنون أو يقال إن لفظ) أولادكم) من العام الذي أريد به الخصوص ابتداء لا من العام الذي خصصته السنة.
9. قالوا: إنه يدخل في عمومها القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع وأقول: إن حرمانه من الإرث عقوبة مالية فيجوز أن يثبت بالسنة أو بالإجماع أن يعاقب أي مذنب بعقوبة مالية أو بدنية كما هو معهود في جميع شرائع الأمم أي أنه لا مانع منه عقلا ولا قبح فيه، فمنعه من الميراث هو فرع استحقاقه له فهو لا ينافي القرآن، وإذا قيل إنه ليس من باب التخصيص لعمومه لم يكن بعيدا إذ قال إن له حقه من الإرث بنص الآية ثم إن الشريعة عاقبته على قتله لوالده بحرمانه من حقه في تركته ليرتدع أمثاله وتعد ذريعة الفساد على الأشرار الطامعين الذين يستعجلون التمتع بما في أيدي والديهم فيقتلونهم لأجل ذلك ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
10. يدخل فيه الرقيق أيضا والرق مانع من الإرث بالإجماع لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال يكون لسيده ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئا لكنا معطين ذلك لسيده فيكون السيد هو الوارث بالفعل، ولما كان الرق عارضا وخلاف الأصل ومرغوبا عنه في الشرع جعل كأنه غير موجود فهو بهذا الاعتبار لا ينافي عموم الآية وإطلاقها، ولا تعد منافاته للإرث خروجا من حكمها.
11. أما الميراث من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد قيل أنه لا يدخل في عموم الآية لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يدخل في العموم الوارد على لسانه سواء كان من كلامه أو من كلام الله عز وجل المأمور هو بتبليغه، وقيل إنه يدخل فيه وإنه استثني من هذا العموم بحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وفي المسألة خلاف الشيعة، وقد فصل القول فيه السيد الآلوسي في روح المعاني فرأينا أن ننقل كلامه فيه بنصه قال: (استثنى من العموم الميراث من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بناء على القول بدخوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في العمومات الواردة على لسانه صلّى الله عليه وآله وسلّم المتناولة له لغة والدليل على الاستثناء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر حيث لم يورث الزهراء من تركة أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى قالت له بزعمهم: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا!؟ وقالوا: إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى: (اسكنوهن) فقال كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول امرأة، فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله؛ وأيضا العام وهو الكتاب قطعي، والخاص وهو خبر الآحاد ظني؛ فيلزم ترك القطعي بالظني، وقالوا أيضا إن ما يدل على كذب الخبر قوله تعالى: ﴿وورث سليمان داود﴾ [النمل: 16] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام ﴿هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب﴾ [مريم: 5 ـ 6] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون)
12. والجواب(2):
أ. أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا نورث ما تركناه صدقة)؟ قالوا: اللهم نعم، ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قال ذلك؟ قالا اللهم نعم، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر لا يلتفت إليه.
ب. وفي كتب الشيعة ما يؤيده فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر، وكلمة) إنما) مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.
ج. وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا.
د. فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا، وإن لم يثبت وبقي الخبر من الآحاد فنقول إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة، ويدل على جوازه أن الصحابة خصصوا به من غير نكير، فكان إجماعا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: 24] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها﴾ والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد، فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر، ويستندون في ذاك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ولذلك قال: بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني.
هـ. وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه، وأيضا إن داود عليه السلام على ما ذكره أهل التاريخ كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم، فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة، وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه، فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام؟
و. ومما يدل على أن الورثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى!! وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا، وهذا أفحش من الأول، وإن كان المراد بعض الأولاد أو أريد من يعقوب غير المتبادر وهو ابن اسحاق عليهما السلام يقال أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته؟ والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف، وليس المقام مقام تأكيد.
ز. وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحظائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته، أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب، على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرف ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم، فما مراد ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة، فإنه عليه السلام خشي من أشرار بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا عمله ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية.
ح. سؤال وإشكال: إن قيل الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة فما الضرورة هنا؟ والجواب: بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية، سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾ [فاطر: 32] و﴿أُورِثُوا الْكِتَابَ﴾ [الشورى: 14] إلى غير ما آية.
13. سؤال وإشكال: من الشيعة من أورد هنا بحثا وهو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟ والجواب: أن ذلك مغالطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل ذلك لفاطمة وأسامة وسلمه إليهما وكان كل من بيده شيء مما بناه له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن الإمام الحسن لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة وسألها أن تعطيه موضعا للدفن في جوار جده المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنه لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى، وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 33] فأضاف البيوت إليهن ولم يقل في بيوت الرسول.
14. من أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص أبو بكر جناب الأمير بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل مع أن الأمير لم يرث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بوجه، وقد صح أيضا أنه أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما لم يعط فاطمة صلى الله على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا انحرف مزاج رضاها رضي الله عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة(3) وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ولم تكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.
15. تحقيق الكلام في هذا المقام: أن أبا بكر خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخبره صلّى الله عليه وآله وسلّم في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة، والعمل بسماعه واجب عليه سواء سمعه غيره أو لم يسمع.
16. أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلي من لم يشاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع منه بلا واسطة، فخبر (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه والقطعي يخصص القطعي اتفاقا، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت، ودعوى الزهراء رضي الله عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا، بل المتحقق دعوى الإرث، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن أبا بكر رد شهادتهم بل لم يقض بها، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا، على أن أبا بكر استرضاها مستشفعا إليها بعلي فرضيت عنه كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهولي وغيرها (4).
17. بقي الكلام في سبب عدم تمكينها من التصرف فيها وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب أو تضييق الأمر على المسلمين وقد ورد (المؤمن إذا ابتلى ببليتين اختار أهونهما) على أن رضا الزهراء ا بعد على أبي بكر سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب.
18. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ أي فإن كان الأولاد ـ وأنث الضمير باعتبار الخبر ـ وقيل المولودات أو الوارثات نساء ليس معهن ذكر ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ أي زائدات على اثنتين مهما بلغ عددهن ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ والدهن المتوفى أو والدتهن ﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ المولود أو الوراثة امرأة ﴿وَاحِدَةٌ﴾ ونصب (واحدة) هو قراءة الجمهور وقرأها نافع بالرفع على إن كان تامة أي فإن وجدت امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت، ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ مما ترك، والباقي لسائر الورثة يعرف حق كل منهم من محله.
19. هذا ما ذكره تعالى في إرث الأولاد وهم أقرب الطبقات إلى الميت وقد فصل فيه فروض الإناث منهم، وهو أنهن إذا كن مع الذكور كان للذكر مثل حظ الأنثيين منهن، فإذا كانا ذكرا وأنثى مثلا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث، وإذا كانوا ذكرا وأنثيين أخذ الذكر النصف والأنثيان النصف الآخر لكل منهما نصفه وهو ربع التركة وعلى هذا القياس، وإذا كن منفردات بالإرث كان الحكم فيهن ما ذكروه وهو النصف للواحدة والثلثان للجمع وسكت عن الثنتين، فاختلف فيهما، فروي عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة، والجمهور على أن لهما الثلثين كالجمع وعليه العمل من عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في حديث جابر الذي تقدم واستدلوا له بوجوه أظهرها اثنان:
أ. أحدهما: ما قاله أبو مسلم من أنه يستفاد من قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، فهو يرى أن حكمها مأخوذ من منطوق الآية ويدل له عطف حكم الجمع منهن وما يتلوه من حكم الواحدة بالفاء.
ب. وثانيهما: القياس على الأخوات فإنه ذكر حكمهن في آخر السورة ومنه قوله: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ وأقول يمكن أن يؤخذ ذلك من مجموع الكلام على إرث البنات هنا والأخوات في آخر السورة بطريق آخر فقد ترك هناك حكم الجمع من الأخوات كما ترك هنا حكم الاثنتين من البنات فيؤخذ من كل من الآيتين حكم المتروك من الأخرى فهو من قبيل الاحتباك، وسنعيد بيانه في حجب الأخوة للأم، ولست أرضى قول من قال إن كلمة (فوق) زائدة ولا قول من قال إن المعنى اثنتين ففوق.
20. علم من هذا التفصيل في الإناث أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة وفهم منه أن الولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة كلها وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت التركة بينهما أو بينهم بالمساواة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/403.
(2) كل الكلام في هذه المسألة للألوسي، وللأسف فيه نبز وكلمات شديدة على الزهراء، وهي نتيجة لتأثره بالمدرسة السلفية، وقد ذكرنا ما ذكره والردود عليه مفصلة في كتب الإمامية
(3) هذه دعوى خطيرة وإساءة بالغة لمن هي بضعة أبيها، ولكن أحقاد الطائفية تفعل فعلها
(4) هذا غير صحيح كما في الأحاديث الصحيحة
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه حكم الميراث مجملا في قوله: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، ذكر هنا تفصيل ذلك المجمل فبين أحكام المواريث وفرائضها لإبطال ما كان عليه العرب من نظام التوارث في الجاهلية من منع الأنثى وصغار الأولاد، وتوريث بعض من حرمه الإسلام من الميراث، وقد كانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثة:
أ. النسب، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شيء.
ب. التبني ـ فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد في الميراث وغيره.
ج. الحلف والعهد ـ فقد كان الرجل يقول لآخر دمى دمك وهدمى هدمك (أي إذا أهدر دمى أهدر دمك) وترثنى وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحى ما اشترط من مال الميت.
2. لما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ والمراد به التوارث بالنسب وقال: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ والمراد به التوارث بالعهد، وقال ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ والمراد به التوارث بالتبني، وزاد شيئين آخرين:
أ. الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وودّ ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.
ب. المؤاخاة ـ كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤاخى بين كل اثنين من الرجال وكان ذلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب والنكاح والولاء.
3. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ الوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل كما تقول أوصيت المعلم أن يراقب آداب الصبى ويؤدبه على ما يسيء فيه، وهى في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه له، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم.
4. ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ أي في شأن أولادكم من بعدكم، أو في ميراثهم ما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء كانوا ذكورا أو إناثا كبارا أو صغارا، ولا خلاف في أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه، قال:
çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا...بنوهن أبناء الرجال الأباعدé
5. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا، واختير هذا التعبير ولم يقل للأنثى نصف حظ الذكر إيماء إلى أن إرث الأنثى كأنه مقرر معروف وللذكر مثله مرتين، وإشارة إلى إبطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من منع توريث النساء.
6. الحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين، أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فجعل له سهمان، وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها فحسب، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.
7. يدخل في عموم الأولاد:
أ. الكافر لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانع من الإرث، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا يتوارث أهل ملتين)
ب. القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع.
ج. الرقيق وقد ثبت منعه بالإجماع، لأن المملوك لا يملك، بل كل ما يصل إلى يده من المال فهو ملك لسيده ومالكه، فلو أعطيناه من التركة شيئا كنا معطين ذلك للسيد يكون هو الوارث بالفعل.
د. الميراث من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد استثنى بحديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)
8. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي فإن كانت المولودات نساء ليس معهن ذكر زائدات على ثنتين مهما بلغ عددهن فلهن ثلثا ما ترك والدهن المتوفى أو والدتهن ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ أي وإن كانت المولودة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف مما ترك والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث.
9. خلاصة ذلك ـ إنه إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا كان للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف، وإن كن ثلاثا فصاعدا كان لهن الثلثان ولم يذكر حكم الثنتين، ومن ثم اختلفوا فيهما، فروى عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة، والجمهور على أن لهما الثلثين كالعدد الكثير، وقد علم من ذلك أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة، والولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة، وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت قسمة التركة بينهما أو بينهم بالمساواة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/403.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية ـ في الغالب ـ إلا التافه القليل، لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرسا، ولا يردون عاديا! فإذا شريعة الله تجعل الميراث ـ في أصله ـ حقا لذوي القربى جميعا ـ حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد ـ وذلك تمشيا مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي التكافل الإنساني العام، وحسب قاعدة: الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج، والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح، فعدل إذن أن يرثه ـ إن ترك مالا ـ بحسب درجة قرابته وتكليفه به، والإسلام نظام متكافل متناسق، ويبدو تكامله وتناسقه واضحا في توزيع الحقوق والواجبات.
2. هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة.. وقد نسمع هنا وهناك لغطا حول مبدأ الإرث، لا يثيره إلا التطاول على الله ـ سبحانه ـ مع الجهل بطبيعة الإنسان، وملابسات حياته الواقعية!
3. إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي، يضع حدا لهذا اللغط على الإطلاق، إن قاعدة هذا النظام هي التكافل.. ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية، هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثا في الفطرة، إنما خلقها لتؤدي دورا أساسيا في حياة الإنسان.
4. ولما كانت روابط الأسرة ـ القريبة والبعيدة ـ روابط فطرية حقيقية؛ لم يصطنعها جيل من الأجيال؛ ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام.. لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام، وجعل الإرث مظهرا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة، فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.
5. فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة، لتكملها وتقويها، فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة، جهود الأسرة، وجهود الجماعة المحلية المحدودة.. وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة.. أولا لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة، تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نموا طبيعيا غير مصطنع ـ فضلا على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث ـ أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشئ آثارا طبيعية تلائم الفطرة.. فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته ـ وبخاصة ذريته ـ يحفزه إلى مضاعفة الجهد، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر، لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة، فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عند ما تحتاج.
6. هذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهدا ـ كما يقال! ـ فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة، ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجا وذاك ذا مال، ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عند ما تحتاج، تمشيا مع قاعدة التكافل العام.
7. ثم إن العلاقة بين المورث والوارث ـ وبخاصة الذرية ـ ليست مقصورة على المال، فإذا نحن قطعنا وراثة المال، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى، والوراثات الأخرى بينهما، إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة، لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده، إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة، والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة، والانحراف والاستقامة، والحسن والقبح، والذكاء والغباء.. إلخ، وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم، ولا تتركهم من عقابيلها أبدا، فمن العدل إذن أن يورثوهم المال، وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء، ولا تملك الدولة ـ بكل وسائلها ـ أن تعفيهم من هذه الوراثات.
8. من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية ـ ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى ـ شرع الله قاعدة الإرث: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، هذا هو المبدأ العام، الذي أعطى الإسلام به (النساء) منذ أربعة عشر قرنا، حق الإرث كالرجال ـ من ناحية المبدأ ـ كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم، لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج، أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني، ينظر إلى (الإنسان) ـ أولا ـ حسب قيمته الإنسانية، وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال! ثم ينظر إليه ـ بعد ذلك ـ حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة.
9. الآن نجيء إلى نظام التوارث، حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم؛ فتدل هذه الوصية على أنه ـ سبحانه ـ أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم؛ كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه؛ فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم، وبين الأقرباء وأقاربهم، وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه، وأن ينفذوا وصيته وحكمه.. وأن هذا هو معنى (الدين) الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا.. كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
10. ثم يأخذ في التفريع، وتوزيع الأنصبة، في ظل تلك الحقيقة الكلية، وفي ظل هذا المبدأ العام.. ويستغرق هذا التفصيل آيتين: أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع الثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة، ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالا لبعض حالات الكلالة.
11. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ هذا الافتتاح يشير ـ كما ذكرنا ـ إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض، وإلى الجهة التي صدرت منها، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد، وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان.
12. إن الله هو الذي يوصي، وهو الذي يفرض، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس ـ كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة ـ ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم ـ وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم ـ وهذا هو الدين، فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده؛ وليس هناك إسلام، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور ـ جل أو حقر ـ من مصدر آخر، إنما يكون الشرك أو الكفر، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس.
13. إن ما يوصي به الله، ويفرضه، ويحكم به في حياة الناس ـ ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم ـ لهو أبر بالناس وأنفع لهم، مما يقسمونه هم لأنفسهم، ويختارونه لذرياتهم.. فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا، وإنما نحن أعرف بمصالحنا.. فهذا ـ فوق أنه باطل ـ هو في الوقت ذاته توقح، وتبجح، وتعالم على الله، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول! قال العوفي عن ابن عباس: (﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.. وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض، للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها الناس ـ أو بعضهم ـ وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يجوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينساه، أو نقول له فيغير! فقالوا: يا رسول الله، تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث، وليس يغني شيئا ـ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر).. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
14. هذا كان منطق الجاهلية العربية، الذي كان يحيك في بعض الصدور اليوم ـ وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكمية.. ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم ـ وهي تواجه فريضة الله وقسمته ـ لعله يختلف كثيرا أو قليلا عن منطق الجاهلية العربية، فيقول: كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري؟ وهذا المنطق كذاك.. كلاهما لا يدرك الحكمة، ولا يلتزم الأدب؛ وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب!
15. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، حين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث، فإنهم يأخذون جميع التركة، على أساس أن للبنت نصيبا واحدا، وللذكر نصيبين اثنين، وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة، وهي معه، وهي مطلقة منه.. أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء، وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال.. فالرجل مكلف ـ على الأقل ـ ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي، ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم، ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسريّ لا تستقيم معها حياة.
16. ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، فإذا لم يكن له ذرية ذكور، وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان، فإن كان له بنت واحدة فلها النصف.. ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له: الأب أو الجد، أو الأخ الشقيق، أو الأخ لأب، أو العم، أو أبناء الأصول، والنص يقول: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾.. وهذا يثبت الثلثين للبنات ـ إذا كن فوق اثنتين ـ أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة، فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن جابر، قال (جاءت امرأة سعد بن الربيع، إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا؛ وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا؛ ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال فقال: (يقضي الله في ذلك) فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عمهما، فقال: (أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك)، فهذه قسمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للبنتين بالثلثين، فدل هذا على أن البنتين فأكثر، لهما الثلثان في هذه الحالة.
17. هناك أصل آخر لهذه القسمة؛ وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾.. كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى، قياسا على الأختين، وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة.
18. ثم لا بد كذلك من إضافة كلمة مجملة عن نظام الإرث في الإسلام؛ بعد ما ذكرناه عن هذا النظام عند ما تعرضنا للآية التي تقرر المبدأ العام: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾.. وما ذكرناه كذلك عن مبدأ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾:
أ. إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء؛ ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال، يبدو هذا واضحا حين نوازنه بأي نظام آخر، عرفته البشرية في جاهليتها القديمة، أو جاهليتها الحديثة، في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق.
ب. إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملا، ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل، فعصبة الميت هم أولى من يرثه ـ بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة ـ لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به، ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم، فهو نظام متناسق، ومتكامل.
ج. وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة، فلا يحرم امرأة ولا صغيرا لمجرد أنه امرأة أو صغير، لأنه مع رعايته للمصالح العملية ـ كما بينا في الفقرة الأولى ـ يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة، فلا يميز جنسا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي.
د. وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة، فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة، لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع، فهو أولى بالرعاية ـ من وجهة نظر الفطرة الحية ـ ومع هذا فلم يحرم الأصول، ولم يحرم بقية القرابات، بل جعل لكل نصيبه، مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل.
هـ. وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي ـ وبخاصة الإنسان ـ في أن لا تنقطع صلته بنسله، وأن يمتد في هذا النسل، ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة، ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله، إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل، وأن جهده سيرثه أهله من بعده، مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد، ومما يضمن للأمة النفع والفائدة ـ في مجموعها ـ من هذا الجهد المضاعف، مع عدم الإخلال بمبدإ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام.
و. وأخيرا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة، على رأس كل جيل، وإعادة توزيعها من جديد، فلا يدع مجالا لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة ـ كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر، أو تحصره في طبقات قليلة ـ وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة، ورده إلى الاعتدال، دون تدخل مباشر من السلطات.. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح، فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد؛ فيتم والنفس به راضية، لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/587.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية والآية التي بعدها بيان، لأحكام الميراث، التي أجملتها الآية من هذه السورة، والوصية التي يوصى بها الله سبحانه في ميراث الأبناء، هي على سبيل الوجوب الإلزام، وإنما جاءت بلفظ (الإيصاء) لأنها تتعلق بأمر يقع بعد الموت، وهو الميراث، فهي وصية من الله، ينبغي نفاذها في تركة المتوفّى، كما يجب نفاذ وصية الموصى بعد موته! ويؤكد وجوب هذه الوصية قوله تعالى في خاتمة الآية: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾
2. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ بيان لنصيب كل من الولد والبنت في تركة والدهما المتوفّى.. فللذكر ضعف الأنثى، أو مثل نصيب الأنثيين.
3. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي إن كان المتوفّى لم يعقب ذكرا، وكانت ذريته إناثا، فإن كنّ اثنتين فأكثر، فلهما أو لهن الثلثان ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/710.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تتنزّل آية ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ منزلة البيان والتفصيل لقوله ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 7] وهذا المقصد الذي جعل قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: 7].. بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل.
2. من الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت، وصية، وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة(2).
3. بيّن الله في هذه الآيات فروض الورثة، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة، سواء كانت جبلّية وهي النسب، أو قريبة من الجبلّية، وهي عصمة الزوجية، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ، وكونها المرأة المعيّنة يحصل بالإلف، وهو ناشئ عن الجبلّة، وبيّن أهل الفروض ولم يبيّن مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضهم، وذلك لأنّه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميّت، وقد بيّن هذا المقصد قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، ألا ترى قوله تعالى بعد هذا ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فلم يبيّن حظّ الأب، لأنّ الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقرّرة، وهي احتواء المال فاحتيج إلى ذكر فرض الأم.
4. ابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنّهم أقرب الناس، والأولاد جمع ولد بوزن فعل مثل أسد ووثن، وفيه لغة ولد ـ بكسر الواو وسكون اللام ـ وكأنه حينئذ فعل الذي بمعنى المفعول كالذّبح والسّلخ، والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد.
5. ﴿فِي﴾ هنا للظرفية المجازية، جعلت الوصية كأنّها مظروفة في شأن الأولاد لشدّة تعلّقها به كاتّصال المظروف بالظرف، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه، لظهور أنّ ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصيّة، فتعيّن تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء، وتقديره: في إرث أولادكم، والمقام يدلّ على المقدّر على حدّ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] فجعل الوصيّة مظروفة في هذا الشأن لشدّة تعلقها به واحتوائه عليها.
6. جملة: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ بيان لجملة ﴿يُوصِيكُمُ﴾ لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية، فهي مثل البيان في قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ﴾ وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولا حظّ للإناث، كما تقدّم آنفا في تفسير قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 7]
7. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به، فعلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحا لأن يؤدّى بنحو: للأنثى نصف حظّ ذكر، أو للأنثيين مثل حظّ ذكر، إذ ليس المقصود إلّا بيان المضاعفة، ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد علم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات.
8. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾.. معاد الضمير هو لفظ الأولاد، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث، فلمّا كان ما صدقه هنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث.
9. معنى: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ أكثر من اثنتين، ومن معاني ﴿فَوْقَ﴾ الزيادة في العدد، وأصل ذلك مجاز، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلّا للبنات الثلاث فصاعدا لأنّ تقسيم الأنصباء لا ينتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيد منه إلّا عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول.
10. الوصف بـ ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين، وزاد فقال: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة، وأحسن ما وجّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق: (إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلث مع أختها) يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه، وعلّله ووجّهه آخرون: بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما، وقال ابن عباس: للبنتين النصف كالبنت الواحدة، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محملا في الآية، ولو أريد ذلك لما قال ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾، ومنهم من جعل لفظ ﴿فَوْقَ﴾ زائدا، ونظّره بقوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ [الأنفال: 12]، وشتّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل، قال ابن عطية: وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها، وردّ القرطبي دعوى الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف، قلت: لعلّ الإجماع انعقد بعد ما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثا.
11. ﴿فَلَهُنَّ﴾ أعيد الضمير إلى نساء، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة.
12. قرأ الجمهور: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً﴾ ـ بنصب واحدة ـ على أنّه خبر كانت، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ من مفرد ولد، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة، وقرأ نافع، وأبو جعفر ـ بالرفع ـ على أنّ كان تامّة، والتقدير: وإن وجدت بنت واحدة، لما دلّ عليه قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾
13. صيغة ﴿أَوْلَادُكُمْ﴾ صيغة عموم لأنّ أولاد جمع معرّف بالإضافة، والجمع المعرّف بالإضافة من صيغ العموم، وهذا العموم، خصّصه أربعة أشياء:
أ. الأوّل: خصّ منه عند أهل السنّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما رواه عنه أبو بكر أنّه قال: لا نورث ما تركنا صدقة) ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمّهات المؤمنين، وصحّ أنّ عليا وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في (الصحيحين)
ب. الثاني: اختلاف الدين بالإسلام وغيره، وقد أجمع المسلمون على أنّه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
ج. الثالث: قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء.
د. الرابع: قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/45.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين الله سبحانه وتعالى الواجب بالنسبة لليتامى ورعاية حقوقهم، في الأموال التي يرثونها، والأموال التي تئول إليهم، كما بين سبحانه حق الفقراء والمساكين وذوى القرابة الذين لا ميراث لهم عند تقسيم التركات، وفي هذه الآية يبين حقوق أكثر الوارثين، وهى تقسيم الله سبحانه وتعالى.
2. إن الميراث قد تولّى القرآن بيان أكثر أحكامه، ولم يفصّل أحكاما كما فصّل أحكام الميراث، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)، وقد عده نصف العلم، وهذا العدد دليل على مقدار وجوب العناية به، فقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وأول شيء ينتزع من أمتى)
3. الميراث هو وصية الله تعالى بتوزيع التركات على مستحقيها؛ فإنه إذا كان للعبد وصايا في أمواله من بعد وفاته، فالميراث هو وصيته سبحانه وتعالى ووصية الله تعالى أولى بالإيجاب وأحق بالتنفيذ، ولكى تكون وصية الله تعالى لها مكانتها فإنه قد جعل لها الثلثين، ولوصية صاحب المال الثلث، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى قد تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم)، وقد أراد بعض الصحابة أن يوصى بماله كله، فمنعه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أراد أن يوصى بالثلث فأجازه، وقال: (والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، أو كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
4. في هذه الآيات بيان حقوق طائفة من الوارثين، وهم الأولاد والآباء، والأزواج وأولاد الأم، وقد مزج بين الآباء الأولاد في الحقوق؛ لأن الأولاد لا يحجبون الآباء أي لا يمنعونهم من الميراث، ولذلك يعدون طبقة واحدة، وقد قال تعالى في ذلك: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ هذا النص الكريم يبين ميراث الأولاد، وقد ذكر لهم ثلاث أحوال:
أ. الحال الأولى: إذا كانوا ذكورا وإناثا فإن الميراث بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، والحظ هنا النصيب، والتعبير بالحظ إشارة إلى أن عطاء الأنثى، ولو كان نصف عطاء الرجل، قدر كبير لها فيه حظ، أي عطاء فيه كرم وسخاء؛ لأن التكليفات المالية عليها دون التكليفات المالية على الرجل بقدر كبير يعدّ أكثر من النصف.
ب. الحال الثانية: أن الأولاد إن كن نساء فقط، يكون نصيبهن الثلثين، والنص الكريم يقول: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ يفيد بيان نصيب الأكثر من اثنتين، ولم يبين الاثنتين، ولكن يفهم من آية أخرى أن نصيب الثنتين هو الثلثان أيضا؛ لأن الله تعالى قال في توريث الإخوة والأخوات: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَيَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء] ففي الأخوات نص على أن نصيب الأختين الثلثان، وبالأولى يكون نصيب البنتين الثلثين؛ لأن البنتين أقوى قرابة وأكثر اتصالا، وأجدر بالرعاية، فإذا كانت الأختان تأخذان الثلثين فأولى أن تأخذ البنتان الثلثين، فما حذف في آية البنات وجد ما يدل عليه في آية الأخوات، وكذلك حذف في آية الأخوات نصيب الأكثر من أختين، وصرح به في آية البنات، ففهم بطريق الأولى أن الأكثر من أختين تأخذان الثلثين؛ لأنه إذا كان الأكثر من بنتين يأخذ الثلثين فقط، فأولى أن يأخذ الأكثر من أختين الثلثين، والمعنى أنه حذف من آية البنات ما يفهم بالأولى من آية الأخوات، وحذف من آية الأخوات ما يفهم بالأولى من آية البنات، وذلك بلاغة الإيجاز، وهو من سر الإعجاز.
ج. الحال الثالثة: أن يترك الشخص بنتا واحدة، وهى في هذه الحال تستحق النصف بصريح الآية: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ هذا توريث الأولاد.
5. يلاحظ ما يأتي:
أ. أولا: أن نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد أن يأخذ الأبوان والأجداد والجدات وأحد الزوجين أنصبتهم، فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات، فإن القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد أخذ الأب والزوجة نصيبهما.
ب. ثانيا: أن الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه، أي أبناؤه وأبناء أبنائه، وبنات أبنائه، أما بنات بناته، فإنهن لا يكن من أولاده، وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون، أي لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط.
ج. ثالثا: أن أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه، أي أن الطبقة الأولى تمنع من يليها.
د. رابعا: إن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولاد قط، لا ذكور ولا إناث، بل إن جمهور الفقهاء يجعل لبنات الابن السدس، وإذا كان للمتوفى بنت واحدة تأخذ النصف، وذلك لحديث ابن مسعود الذي سئل فيه عن رجل توفى عن بنته وبنت ابن ابنه وأخته.. فأعطى البنت النصف، وبنت الابن السدس، والأخت الباقى، وقال: ذلك قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1601.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثة:
أ. الأول النسب في حدود الرجال الذين يحملون السلاح، ويستطيعون القتال، أما الإناث والضعفاء من الذكور فلا ارث لهم.. وقد عمم الإسلام الإرث للجميع.
ب. الثاني التبني، وهو ان يتبنى الرجل ولد غيره، ويكون له حكم الابن الشرعي في الإرث وغيره، وألغى الإسلام ذلك بقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾
ج. الثالث العهد، وهو أن يقول الرجل لآخر: دمي دمك، وترثني وأرثك، وأقره الإسلام على وجه يأتي بيانه عند الاقتضاء، وكان من هاجر مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة إلى المدينة يرث من مهاجر مثله إذا كان بينهما مخالطة وود، ولا يرث من المهاجر غير المهاجر، وان كان قريبا، وأيضا بعد ان آخى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين كل اثنين من أصحابه كان المتآخيان يتوارثان، ثم نسخ الإسلام هذين السببين، الهجرة والتآخي، نسخهما بقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
2. استقر موجب الإرث في الإسلام على أمرين: نسب وسبب، والسبب أمران: زوجية وولاء، ويأتي البيان حسب ترتيب الآيات، وفيما يلي نشير إلى مداليل ألفاظ الآيتين اللتين نحن بصددهما: وهما وما بعدهما من الآيات المتعلقة بالإرث تفصيل لما أجمله تعالى في قوله السابق: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ﴾
3. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، إذا اجتمع أبناء الميت وبناته معا اقتسموا للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا انضم اليهم غيرهم في الميراث كالزوج أو الزوجة، أو الأب أو الأم أو هما معا أخذ كل نصيبه حسب التفصيل الآتي، والباقي يقتسمه البنون والبنات، للبنت نصف ما يأخذه الابن باتفاق المذاهب الاسلامية، دون استثناء، وأيضا اتفقت المذاهب على ان الميت إذا ترك ابنا، وأولاد أولاد فالابن يحجب عن الإرث أولاد الأولاد، سواء أكانوا ذكورا، أم أناثا.. واختلف فقهاء المذاهب فيما إذا ترك بنتا واحدة، أو بنتين فأكثر، ولم يترك ابنا، قال فقهاء المذاهب الأربعة: تأخذ البنت الواحدة النصف فقط، والبنتان فأكثر الثلثين فقط، والباقي يعطى لغيرهن، وقال الشيعة الامامية: التركة كلها للبنت أو البنات، ولا شيء لغيرها، والتفصيل في كتابنا الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة.
4. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، قال صاحب مجمع البيان: (ظاهر قوله تعالى: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ ان البنتين لا تستحقان الثلثين لكن الأمة أجمعت على ان حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات)، هذا هو الصحيح، وكل ما قيل من التعليل والتأويل حول ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ فهو من نسج الخيال.
5. ليس هذا بالشيء المهم، وإنما المهم بيان ما اختلفت فيه المذاهب الاسلامية من ميراث البنت والبنات إذا لم يكن للميت ولد ذكر.. وقد اتفق الفقهاء قولا واحدا على ان الميت إذا ترك بنتا واحدة أخذت النصف بالفرض، وان ترك بنتين فأكثر أخذن الثلثين، واختلفوا في النصف الباقي بعد فرض البنت، وفي الثلث الباقي بعد فرض البنتين، لمن يعطى؟
أ. قال السنة: يعطى الباقي لأخي الميت، مستندين إلى رواية عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي لاولي عصبة ذكر.
ب. وأنكر الشيعة حديث طاوس لأنه كذاب وقالوا: يرد النصف على البنت، فتنفرد بالتركة كلها، تأخذ النصف بالفرض، والنصف الثاني بالرد، وأيضا يرد الثلث الباقي على البنتين فأكثر، فينفردن بجميع التركة الثلثين بالفرض، والثلث الباقي بالرد، واستدلوا بأن القرآن الكريم فرض الثلثين للبنتين فأكثر، وفرض النصف للبنت الواحدة، ولا بد من وجود شخص ما يرد عليه الباقي بعد الفرض، والقرآن لم يعيّن هذا الشخص بالذات، وإلا لم يقع الخلاف، فلم يبق لتعيين من يرد عليه الباقي إلا الآية 75 من سورة الأنفال، و6 من سورة الأحزاب: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾، حيث دلت على ان الأقرب أولى ممن هو دونه في القرابة، وليس من شك ان البنت أقرب من الأخ.
6. هذا، إلى أن الشيعة لم ينفردوا بالقول: ان التركة بكاملها للبنت أو للبنات، فلقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك بنتا أو بناتا، ولم يوجد واحد من أصحاب الفروض والعصبات فالمال كله للبنت، النصف بالفرض، والباقي بالرد، وكذلك البنتان تأخذان جميع التركة، الثلثين فرضا، والثلث الباقي ردا، مع العلم بأن الآية قالت: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، فإذا كانت هذه الآية لا تمنع ان تأخذ البنت أو البنات جميع التركة في الصورة التي ذكرها الحنفية والحنابلة فكذلك أيضا لا تمنع أن تأخذ البنت أو البنات التركة كلها في صورة أخرى، والفرق تحكم، لأن دلالة الآية واحدة لا يمكن تجزؤها بحال، وأيضا قال الحنفية والحنابلة: إذا ترك الميت أما، وليس معها واحد من أصحاب الفروض والعصبات تأخذ التركة كلها الثلث بالفرض، والثلثين بالرد، مع العلم بأن الله يقول: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فإذا جاز للام أن تأخذ التركة كلها مع قوله تعالى: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ جاز أيضا للبنت أن تأخذ التركة كلها، وكذلك البنات، مع قوله: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ على النحو الذي قدمناه، وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة، والجزء السادس من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق، وأصدر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر كتابا ضخما باسم (دعوة التقريب)، أدرج فيه بحثنا هذا بكامله.. وتجدر الاشارة إلى أن ما نقلناه عن الحنفية والحنابلة كان مصدره كتاب المغني لابن قدامة، وميزان الشعراني، باب الفرائض.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/263.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الإيصاء والتوصية هو العهد والأمر، وقال الراغب في مفردات القرآن: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ.
2. في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة، وأما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به، وأما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد، أما قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.
3. أما قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه، ولولا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معهـ كما ترى ـ هذا ما ذكره بعض العلماء ولا بأس به، وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء وإن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية والآية التي في آخر السورة.
4. بالجملة قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ في محل التفسير لقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، واللام في الذكر والأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين، وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وأنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما ولم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيء، وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.
5. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ إنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل: هذا إذا كانوا نساء ورجالا فإن كن نساء (إلخ) وهو شائع في الاستعمال، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾: وقوله: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ والضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر، والضمير في قوله: ﴿تَرَكَ﴾ راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.
6. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ الضمير إلى الولد المفهوم من السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه، ولم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإن ذكرا وأنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا وليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذي في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين، فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين، على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجرى العمل عليه منذ عهده صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس، وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين، قال الكليني في الكافي: إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين وهو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين، انتهى، ونقل مثله عن أبي مسلم المفسر: أنه يستفاد من قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، انتهى وإن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه.
7. هناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾، الاثنتان وما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين، والنساء فوق اثنتين جميعا، ومثل قول بعضهم: إن حكم البنتين هاهنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/208.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ هذا الخطاب لمن أشرف على الموت فهو نسخ لأمره بالوصية في قوله تعالى: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180] وهذا مفهوم من توجيه الخطاب إلى المأمورين بالوصية ومن تسمية هذه الفرائض ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ في أولها وآخر الآية الثانية فهي مثل صبغة الله.
2. ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ حيث كان الأولاد ذكوراً وإناثاً أو ذكراً وأنثيين أو ذكرين ومعهما أنثى أو أكثر، فالمراد: للأنثى مثل نصف حظ الذكر، وللذكر مِثلا حظِّ الأنثى، ولكن جعلت الأنثى أي نصيبها أصلاً تأكيداً لإرثها.
3. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي لم يكن معهن ذكر حتى يكون لكل اثنتين مثل حظه بل انفردن فكنَّ نساءً، وقوله تعالى: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ أي: ولو فوق اثنتين ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ وترك النص على اثنتين لظهوره من حيث: أن للواحدة الثلث إذا كان معها ابن وله الثلثان، ومن حيث أن الواحدة لها النصف إذا انفردت، فلا بد أن تكون طريقة الإثنتين مثل طريقة ما فوق الإثنتين؛ لأنا لو جعلنا طريقتهن طريقة الواحدة لزم أن يأخذن المال كله لكل واحدة نصف، فإذا كان ما فوق الإثنتين ليس لهن إلا الثلثان، فبالأولى الإثنتان مع أن الله قد فرض للأختين الثلثين في آخر السورة فلا ينقص البنتان عنهما، لأن البنتين أقرب، فظهر: أن لهما الثلثين.
4. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ أي نصف ما ترك أبوها، وانتهى التقسيم بين الأولاد فظهر منه: حكم الأولاد إذا كانوا ذكوراً وإناثاً، وحكم ما فوق الأثنتين من البنات المنفردات، وحكم الواحدة، واكتفى بذلك عن ذكر ميراث الإبن إذا انفرد عن الإناث والإبنين والأبناء، كما اكتفى بذكر فوق اثنتين عن ذكر اثنتين؛ لأن ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فالواحد له الكل، والإثنان فما فوق لم يمكن لهما أكثر من الكل، فللواحد الكل ولما فوقه الكل، ولأن الله قد نص في آخر السورة ما يفيد: أن الأخ يرث الكل فالإبن أقرب، وهذا إيجاز محكم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/20.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن جابر قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت، فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ الآية، رواه البخاري ومسلّم.. هذه الرواية تدل على أن الآية نزلت في سؤال جابر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عما يصنعه في ماله ـ وهو حيّ ـ بينما تدل الآية على حكم المال بعد الموت فليس له مدخلية في تقسيمه، فكيف تكون الآية جوابا عن سؤاله؟
ب. جاء في رواية عن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس ـ أو قالت سعد بن الربيع ـ قتل معك يوم أحد وقد استفاد عمهما مالهما وميراثهما، فلم يدع لهما مالا إلّا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله ما ينكحان أبدا إلّا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت سورة النساء وفيها: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ إلى آخر الآية، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ادع لي المرأة وصاحبها، فقال لعمهما: أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك.. هذه الرواية تتضمن ثبوت حكم الإرث في نزول الآية من خلال مناسبة الشكوى التي قامت بها المرأة، لأن أخا زوجها الميت أخذ المال كله ولم يجعل لها ولا بنتي أخيه شيئا منه، مما ينافي الرواية الأولى، وربما كانت الرواية الثانية أقرب إلى المضمون لنزولها في الإرث بعد الموت.
ج. جاء عن ابن عباس قال لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا من قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر.. هذه الرواية توحي بأن آيات الإرث كانت تمثل صدمة عنيفة للذهنية التي كانت سائدة في الواقع الإسلامي الممتد في كثير من مفاهيمه من الواقع العربي الجاهلي الذي ينطلق من اعتبار مال الميت حقا لمن يحمي العائلة ويقاتل في سبيلها ويحوز الغنيمة لها ويتحمّل مسئوليتها، باعتبار أنه هو الذي يقوم مقام الميت ويمتد في دوره، ليستطيع بالإرث القيام بمسؤولياته التي تمثّل رعاية العائلة في كل حاجاتها، وكانت هذه الذهنية متجذرة في أفكارهم وتقاليدهم، الأمر الذي لم يملك فيه هؤلاء أنفسهم من القيام بردّة فعل صارخة في الاعتراض على التشريع بطريقة لا شعورية أو التساؤل عن الأساس في ذلك، باعتبار أن هذا التشريع يهزّ قاعدة التفكير الاجتماعي ليحوّله إلى اتجاه آخر وقاعدة جديدة ترتكز على أن الولد الأكبر أو الشخص المقاتل لا يمثّل أية قاعدة في حجم الواقع الحركي العائلي في الواقع الاجتماعي العام.
2. هذه بعض التفاصيل التي قرّر فيها الإسلام حكم الإرث، الذي ركزه على أساسين: النسب، والسبب، والسبب نوعان: زوجية وولاء، وقد عرض القرآن لبعض موارده تاركا التفاصيل الشاملة لما بيّنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحاديثه من حكم الفرائض.
3. ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أشرنا في ما سبق إلى مسئولية الرجل، داخل العلاقة الزوجية، عن دفع المهر، والإنفاق على الزوجة الأولاد، ممّا نفهمه من سرّ اعتبار حصة الرجل ضعف حصة المرأة، من خلال ما أراده الله من التوازن بين الحقوق والواجبات، بعيدا عن كل إساءة للمرأة في إنسانيتها وكرامتها؛ ونشير هنا، إلى وجوب الجهاد على الرجل كفريضة، مما قد يفرض عليه تحمّل بعض مصاريف الجهاد، إذا لم تستطع الدولة أن توفّر له ذلك، كما كان يحدث في الحروف الأولى في صدر الدعوة الإسلامية، وفي دية الخطأ التي تثبت على عائلة القاتل التي يتحملها الرجل بنسبة أكثر من المرأة، وبهذا كانت حصة المرأة من الإرث ـ في النتيجة ـ تفوق حصة الرجل أو تعادلها، بلحاظ ما يبقى منها بعد القيام بالالتزامات المالية الواجبة عليه، أما كرامة المرأة وإنسانيتها، فقد احتفظ الإسلام لها بهما من خلال المسؤوليات العامة في التشريع؛ فلم يجعل الإسلام للمرأة تشريعا يختلف عما جعله للرجل، مما يجعل من قضية المساواة بينهما قضية تطبع أكثر جوانب الحياة، ما عدا بعض الموارد التي لاحظ الإسلام فيها الخصوصيات الذاتية للمرأة، تماما كما هي خصوصياتها في عالم التكوين، وذلك من خلال ما اختص الله به المرأة من القدرة على الحمل والإرضاع ونحو ذلك.
4. ينبغي لنا أن نشير هنا إلى ما نبهنا عليه في بداية السورة، من أنه لا حلّ مطلقا في الحياة، بحيث يكون إيجابيا في جميع موارده؛ بل الحل الأفضل هو الذي تتقدم فيه مسألة الإيجابيات على السلبيات، من خلال ما يحيط بالمسألة من ظروف، وما ترتكز عليه من أنظمة وقوانين، وفي ضوء ذلك، كانت الآية تقريرا للمبدأ؛ فإذا ترك الإنسان أولادا ذكورا وإناثا، فإن التركة تقسيم على أساس حصتين للذكر في مقابل حصة واحدة للأنثى.
5. هناك ملاحظة أشار إليها السيد العلامة الطباطبائي في الميزان قال وفي العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة، وأمّا أولاد الأولاد فنازلا، فحكمهم حكم من يتصلون به، فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد، إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم، كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به، وأما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة، كما أن الأب أعم من الوالد، وأما قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد، ونلاحظ على هذه الاستفادة، أن الظاهر من استعمال كلمة الولد وكلمة الابن أنهما بمعنى واحد في ظهورهما في المتولد من الأب بشكل مباشر بحسب المعنى الحقيقي لهما، كما يمكن استعمالهما في صيغة الجمع (الأولاد والأبناء) في الأعم من ذلك، فيمكن إطلاق الأولاد على ما يعم أولاد الأولاد، وإطلاق الأبناء على أبناء الأبناء، بحسب المناسبة العرفية من حيث الإلحاق المجازي بشكل شائع، أما إطلاق (الابن أو الولد) بصيغة المفرد على ولد الابن أو الولد، فهو بحاجة إلى عناية مفصلة بقرينة واضحة لصرف اللفظ عن ظاهره.
6. هناك نكتة تعبيرية قد توحي بها الفقرة ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وهي أن الحديث جاء عن سهم الذكر متفرعاً على سهم الأنثى، كما لو كانت الأنثى هي الأصل في الإرث، باعتبار أن حصته مثل حصة أنثيين، وبذلك كانت تقاس بها بدلا من العكس وإلّا يقال: للأنثى نصف حظ الذكر.
7. ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ ظاهر هذه الفقرة، أن المراد بها هي حالة ارتفاع عدد البنات إلى أكثر من اثنتين كما توحيه كلمة (فوق)، ولكن المقصود منها هو اثنتان فما فوق، وهذا مما جرى عليه التعبير عند العرب، فإنهم يقولون في بعض الحالات (فوق اثنتين) قاصدين (اثنتين فما فوق)؛ كما يدل عليه مقابلتها بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، وقد يستفاد ذلك من الحديث عن إرث الأخوات في آخر هذه السورة من حيث جعل نصيب الأخت الواحدة النصف في مقابل نصيب البنت الواحدة، وجاء بعدها قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ مما يدل على أن ذلك في مقابل سهم البنتين وهو الثلثان، وهناك وجوه أخرى في تفسيرها.
8. على كل حال، فإن المسلمين متفقون على الحكم في صورة تعدد البنات من اثنتين فما فوق، انطلاقا من هذه الآية أو من أحاديث السنة النبوية الشريفة؛ فإذا ترك الميت ابنتين فصاعدا، ولم يكن له أولاد ذكور، فلهن الثلثان؛ أما الثلث الباقي، فإن كان هناك أبوان للميت، فلكل واحد منهما السدس؛ فإذا لم يكن له أبوان، فإن الإمامية يذهبون إلى أنه يرد إلى البنات ولا يعطى إلى العصبة من إخوانه وأعمامه؛ أما أهل السنة، فإنهم يردونه الى العصبة انطلاقا من حديث يناقش الإمامية في صحة سنده وهو حديث طاوس اليماني عن أبيه، عن ابن عباس عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ألحقوا الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر، وفي رواية أخرى: فما بقي فلرجل ذكر، وعلى هذا الأساس فقد أجمعوا على أن الرجل إذا مات عن بنت فلهما النصف بالفرض، فإن كان له أخ، يختص بالنصف الآخر، لأنه أقرب رجل إليه، وإذا مات ولم يكن له ولد وله أخت وعم؛ فللأخت النصف والباقي للعم، وكذلك إذا كان له أختان فإن الثلث الباقي لأخيه أو عمه.
9. وقد رد الشيعة الإمامية على هذا الحديث بضعف سنده ـ كما ذكروه ـ فقد ذكر بعض علمائهم ـ وهو السيد محسن الأمين في كتابه (نقض الوشيعة) أن طاوس أنكر أن يكون راويا لهذا الحديث وقال ـ أي طاوس ـ إن الشيطان ألقاه على لسان من نسب إلىّ هذا القول، وقد استدلّ الإمامية على بطلان التعصيب بقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7] وقد ذكروا في تقريب الاستدلال بها، أن الآية قد ساوت بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث، لأنها جعلت لكل منهما نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون في حين أن القائلين بالتعصيب قد فرقوا بين الرجال والنساء، فورثوا الرجال وتركوا النساء، حيث التزموا صورة ما لو كان للميت بنت وأخ وأخت بأن البنت تأخذ النصف المفروض لها والنصف الآخر للأخ ولا شيء للأخت مع أنهما متساويان في الدرجة، كما التزموا بأنه لو كان للميت أخت وعم وعمة، بأن التركة للأخت وللعم ترث نصفها الأخت بالفرض ويرث العم نصفها بالتعصيب ولم يجعلوا للعمة شيئا مع أنها شقيقة العم وفي رتبته.
10. وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك بنتا أو بناتا، ولم يوجد واحد من أصحاب الفروض والعصبات، فالمال كله للبنت، النصف بالفرض والباقي بالرد، وكذلك البنتان تأخذان جميع التركة، الثلثين فرضا والثلث الباقي ردا، مع العلم بأن الآية قالت: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، فإذا كانت الآية تمنع أن تأخذ البنت أو البنات جميع التركة في هذه الصورة، فكذلك لا تمنع أن تأخذ البنت أو البنات التركة كلها في صورة أخرى، لأن الصورتين ترجعان في حكم الرد إلى قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75]، و[الأحزاب: 6]، حيث دلت على أن الأقرب أولى ممن هو دونه بالقرابة، وليس من شك أن البنت أقرب من الأخ، والأخت أقرب من العم.
11. وفي ضوء ذلك تبطل حجة القائلين بالتعصيب بالآيتين ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَيَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ﴾، فقد قالوا: إن القرآن في الآية الأولى أعطى النصف للبنت والثلثين للبنتين، وفي الآية الثانية أعطى النصف للأخت والثلثين للأختين، فإعطاؤهنّ التركة بكاملها ـ كما يذهب الإمامية ـ مخالف لصريح القرآن، ويقول الإمامية في الرد: إن القرآن لم يتحدث عن النصف الآخر أو الثلث الآخر، ولم يذكر الوارث الذي يستحق الباقي، ولم تتعرض السنة النبوية لذلك، إلا ما كان من حديث طاوس اليماني الذي لم يعاصر النبي محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا أدرك الصحابة، ولو كان الحديث صحيحا لرواه أكثر الصحابة في جملة ما رووه من التشريعات، لا سيما أن هذا الأمر مما يكثر فيه الابتلاء لاتصاله بحياة الناس بشكل عام، ولذلك فلا بد من الرجوع إلى القرآن لتحديد صاحب الحصة الأخرى، وليس هناك إلا آية ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾
12. هناك ملاحظة أخرى في إضعاف حجة أهل السنة، وهي أن أصحاب المذاهب الأربعة ـ الحنفية والمالكية والحنابلة والشافعية ـ قد اتفقوا على أن الميت إذا ترك أبا وبنتا، كان للأب السدس بالفرض، وللبنت النصف بالفرض أيضا، والباقي يرد على الأب وحده مع أنه من أصحاب الفروض بمقتضى الآية ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فإذا كان الفرض لا يمنع من رد الباقي على الأبـ كما يدعون ـ فينبغي أن لا يمنع من الرد على البنت، وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك أمّا وليس معها واحد من أصحاب الفروض والعصبات تأخذ التركة كلها الثلث بالفرض والثلثين بالرد، مع العلم أن الله يقول: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، فإذا جاز للأم أن تأخذ التركة كلها مع قوله تعالى: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ جاز أيضا للبنت أن تأخذ التركة كلها، وكذلك البنات مع قوله تعالى: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾
13. خلاصة الفكرة أن فقهاء السنة لم يعتمدوا إلّا على رواية طاوس اليماني التي لا تثبت أمام النقد الحديثي، فلا يعود لهم حجة على التعصيب، كما أشرنا إليه، وتمام الكلام موكول إلى الفقه.
14. ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ اتفق المسلمون على أن حصة البنت الواحدة بالفرض هي النصف؛ أما النصف الآخر، فلم يتحدث عنه القرآن بصراحة، كما لم يتحدث عن الثلث الباقي بعد أخذ حصة البنتين أو البنات وقد اختلف رأي الشيعة الإمامية مع رأي أهل السنة، فذهب فقهاء الإمامية إلى إعطاء النصف الآخر للبنت، انطلاقا من الآية الكريمة التي وضعت القاعدة العامة لإرث أولي الأرحام: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75] حيث أفادت بأن الأقرب يمنع الأبعد في كل طبقة، مما يجعل الحصة للبنت دون غيرها لأنها الأقرب؛ وقد أقر فقهاء أهل السنة هذا الحكم بشكل جزئي في مورد انعدام العصبة للميت، فجعلوا التركة كلها للبنت، مما يوحي بأن المبدأ وارد من حيث الأساس.
15. هناك نقطة لا بد من إثارتها لأنها وقعت موضعا للجدل بين المسلمين بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي أن ظاهر إطلاق الآية عدم الفرق في نظام الإرث بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسائر الناس، فلم يرد فيها ولا في غيرها من الآيات أي تقييد يؤدي إلى خروج النبي عن هذا الحكم بحيث لا يرثه أقرباؤه، فإن هذه الآية تلتقي في هذا الإطلاق والعموم بقوله تعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 7]، وربما قيل إن آيات القرآن العامة لا تشمل النبي لأنها جرت على لسانه، ولكن هذا ليس صحيحا، لأننا نلاحظ أن النبي كان مخاطبا بكل الأحكام الإسلامية العامة في القرآن، من الواجبات والمحرمات وهو أمر واضح باعتباره (أوّل المسلمين)، وقد جرى جدال بين أبي بكر والسيدة فاطمة الزهراء عليها السّلام حول هذا الموضوع عند مطالبتها له بإرثها من أبيها في قصة فدك، فروى رواية تقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) وقد أنكرت السيدة الزهراء صحة هذه الرواية لأن النبي لم يبلغها ذلك، مع أن القضية في هذا الحكم سلبا أو إيجابا محصورة بها لأنها الوارث الوحيد للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أشرنا إلى هذا الموضوع استكمالا للبحث القرآني باعتبار أنه من متعلقاته.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/112.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يشير إلى حكم الطبقة الأولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والأمهات)، ومن البديهي أنّه لا رابطة أقوى وأقرب من رابطة الأبوة والبنوة ولهذا قدموا على بقية الورثة من الطبقات الأخرى.
2. من الجدير بالاهتمام من ناحية التركيب اللفظي جعل الأنثى هي الملاك والأصل في تعيين سهم الرجل، أي أن سهمها من الإرث هو الأصل، وإرث الذكر هو الفرع الذي يعرف بالقياس على نصيب الأنثى من الإرث إذ يقول سبحانه: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث، حرمانا كاملا.
3. ثمّ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهن الثلثان أي قسم الثلثان بينهن، ثمّ قال ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.
4. سؤال وإشكال: القرآن يقول في هذا المجال (فوق اثنتين) أي لو كانت بنات الميت أكثر من بنتين استحققن ثلثي التركة يقسّم بينهن، وهذا يعني أن القرآن ذكر حكم البنت الواحدة، وحكم البنات فوق اثنتين، وسكت عن حكم (البنتين)، فلماذا؟ والجواب: بملاحظة المقطع الأوّل من الآية الحاضرة يتضح جواب هذا السؤال، ونعني قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ولو إجمالا، لأن ورثة الميت إن انحصروا في ابن واحد وبنت واحدة كان للابن الثلثان وللبنت الثلث، فإذا كانتا بنتين كان لهما الثلثان حسب هذه العبارة.
5. خلاصة القول: أنّه إذا قال للذكر مثل حظ الأنثيين وكان أوّل العدد ذكرا وأنثى وللذكر الثلثان وللأنثى الثلث، علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، ولعل لوضوح هذا الأمر لم تتعرض الآية لبيانه (أي لذكر سهم الأختين) واكتفت بذكر سهم البنات المتعددات فوق اثنتين، وهو الثلثان.
6. على أن هذا المطلب يتّضح أيضا بمراجعة الآية الأخيرة من سورة النساء، لأنّها جعلت نصيب الأخت الواحدة النصف (مثل نصيب البنت الواحدة) ثمّ تقول: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ﴾ فمن هذا يتضح أن سهم البنتين هو الثلثان أيضا، هذا مضافا إلى ورود مثل هذا التعبير في الأدب العربي، إذ يقول العرب أحيانا (فوق اثنتين) ويكون مرادهم هم (اثنتان فما فوق)
7. بغض النظر عن كل ما قيل أنّ الحكم المذكور من الأحكام القطعية المسلمة من وجهة نظر الفقه الإسلامي والأحاديث الشريفة، والرجوع إلى السنة المطهرة (أي الأحاديث) كفيل برفع أي إبهام في الجملة المذكورة إن كان.
8. سؤال وإشكال: لماذا يرث الرّجل ضعف المرأة؟ والجواب: مع أنّ ما يرثه الرجل هو ضعف ما ترثه المرأة، إلّا أنّه بالإمعان والتأمل يتّضح أنّ المرأة ترث ـ في الحقيقة ـ ضعف ما يرثه الرجل إذا لا حظنا القضية من جانب آخر، وهذا إنّما هو لأجل ما يوليه الإسلام من حماية لحقوق المرأة، توضيح ذلك: إن هناك وظائف أنيطت بالرجل (وبالأحرى كلّف بأدائها تجاه المرأة) تقتضي صرف وإنفاق نصف ما يحصل عليه الرجل على المرأة، في حين لا يجب على المرأة أي شيء من هذا القبيل، إنّ على الرجل (الزوج) أن يتكفل نفقات زوجته حسب حاجتها من المسكن والملبس والمأكل والمشرب وغير ذلك من لوازم الحياة كما أن عليه أن ينفق على أولاده الصغار أيضا، في حين أعفيت المرأة من الإنفاق حتى على نفسها، وعلى هذا يكون في إمكان المرأة تدخر كل ما تحصله عن طريق الإرث، وتكون نتيجة ذلك أن الرجل يصرف وينفق نصف مدخوله على المرأة، ونصفه فقط على نفسه، في حين يبقى سهم المرأة من الإرث باقيا على حاله.
9. لمزيد من التوضيح نلفت نظر القارئ الكريم إلى المثال التالي: لنفترض أنّ مجموع الثروات الموجودة في العالم والتي تقسم تدريجا ـ عن طريق الإرث ـ بين الذكور والإناث هو ميليارد دينار، والآن فلنحاسب مجموع ما يحصل عليه الرجال ونقيسه بمجموع ما تحصل عليه النساء عن طريق الإرث، فلنفترض أن عدد الرجال والنساء متساو فتكون حصة الرجال هو ميلياردا، وحصة النساء هي ميلياردات، وحيث أن النساء يتزوجن ـ غالبا ـ فإن الإنفاق عليهنّ يكون من واجب الرجال، وهذا يعني أن تحتفظ النساء بـ ميلياردات (وهو سهمهنّ من الإرث)، ويشاركن الرجال في العشرين ميلياردا، لأن على الرجال أن يصرفوا من سهمهم على زوجاتهم وأطفالهم، وعلى هذا يصرف الرجال ميلياردات على النساء (وهو نصف سهمهم من الإرث) فيكون مجموع ما تحصل عليه النساء ويملكنه هو ميلياردا وهو ثلثا الثروة العالمية في حين لا يعود من الثروة العالمية على الرجال إلّا ميلياردات، أي ثلث الثروة العالمية (وهو المقدار الذي يصرفه الرجال على أنفسهم)، وتكون النتيجة أنّ سهم المرأة التي تصرفه وتستفيد منه وتتملكه واقعا هو ضعف سهم الرجل، وهذا التفاوت إنّما لكونهنّ أضعف من الرجال على كسب الثروة وتحصيلها (بالجهد والعمل)، وهذا ـ في حقيقته ـ حماية منطقية وعادلة قام بها الإسلام للمرأة، وهكذا يتبيّن أنّ سهمها الحقيقي أكثر ـ في النظام الإسلامي ـ وإن كان في الظاهر هو النصف.
10. من حسن الصدف أنّنا نقف على هذه النقطة إذا راجعنا التراث الإسلامي حيث أنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان، فكان الناس يسألون أئمّة الدين عن سرّ ذلك بين حين وآخر، وكانوا يحصلون على إجابات متشابهة في مضمونها ـ على الأغلبـ وهو أن الله إذ كلف الرجال بالإنفاق على النساء وأمهارهنّ، جعل سهمهم أكثر من سهمهنّ، إن أبا الحسن الرضا عليه السّلام كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله علّة إعطاء النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت، والرجل يعطي، فلذلك وفرّ على الرجال، وعلة أخرى في إعطاء الذكر مثل ما يعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفرّ على الرجال لذلك.
11. بعض الحكم المتعلقة بالميراث في الشريعة الإسلامية:
أ. قد يتصور كثيرون أنّ من الأفضل أن تعود أموال الشخص بعد وفاته إلى الملكية العامّة، وأن تضاف إلى بيت مال المسلمين، ولكن الإمعان في هذا العمل يكشف لنا عن كونه خلاف العدل، لأن مسألة الإرث والتوارث مسألة طبيعية منطقية جدا، فكما أن الآباء والأمهات ينقلون قسما من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم ـ حسب قانون الوراثة الطبيعي ـ فلما ذا يستثنى من ذلك أموالهم فلا تنتقل إلى أبنائهم؟ هذا مضافا إلى أنّ الأموال المشروعة هي نتاج جهود الإنسان المضنية، ومساعيه وأتعابه فهي في الحقيقة طاقاته المتجسدة في صورة المال وهيئة الثروة، ولهذا لا بدّ من الاعتراف بأن كل شخص هو المالك الطبيعي لحاصل جهوده وثمرة أتعابه، وهذا هو حكم فطري، وعلى هذا، فعند ما يمتنع أن يتصرف الشخص في أمواله بعد وفاته ويحال بينه وبين ثروته بسبب الموت، تصبح هذه الأموال من حق أقرب الناس إليه، والذين يعتبرون ـ في الحقيقة ـ بشخصيتهم ووجودهم امتدادا لشخصيته ووجوده.
ب. على هذا الأساس نجد الكثيرين لا يتركون الكد والعمل، والكسب والتجارة حتى آخر لحظة من حياتهم رغم ما يملكون من ثراء طائل، وذلك لبغية أن يوفروا لأبنائهم مستقبلا زاهرا ويقيموا لهم حياة سعيدة بعدهم، وهذا يعني أن الإرث وقانون التوريث قادر على إعطاء العجلة الاقتصادية دفعة قوية ويزيد من حركتها ودورانها ونشاطها، وأمّا إذا عرف الشخص أنّ أمواله بعد موته، وامتناع تصرفه في تلك الأموال بسبب الوفاة تعود إلى الملكية العامة، فإنّه قد يفقد قسطا كبيرا من نشاطه الاقتصادي، ويصاب بالفتور والكسل.
ج. ويشهد بهذا الأمر ما وقع في فرنسا قبل حين، عند ما أقدم مجلس النواب الفرنسي ـ كما قيل ـ على إلغاء قانون الإرث قبل مدّة وأقرّ بدل ذلك إلحاق أموال الأشخاص بعد موتهم إلى خزانة الدولة، وصيرورتها أموالا عامّة، فتؤخذ من قبل الدولة وتصرف في المصارف العامّة بحيث لا يحصل ورثة الميت على أي شيء من التركة، فكان لهذا القانون أثر سيء وظاهر على الحركة الاقتصادية، فقد لوحظ اختلال كبير في أوضاع التصدير والاستيراد، كما خف النشاط الاقتصادي هناك بشكل ملحوظ، فأقلق ذلك بال الحكومة، وكان السبب الوحيد وراء هذه الحالة هو (إلغاء قانون الإرث) ممّا دفع بالدولة إلى إعادة النظر في هذا القرار، وعلى هذا لا يمكن إنكار أن قانون الإرث ومبدأ التوريث مضافا إلى كونه قانونا طبيعيا فطريا، له أثر قوي وعميق في تنشيط الحركة الاقتصادية.
12. الإرث في الأمم السابقة:
أ. لما كان لقانون الإرث جذورا فطرية فإنّه شوهد وجود الإرث والتوريث في الشعوب والأمم السابقة في أشكال وصور مختلفة، أمّا بين اليهود ـ وإن ادعى البعض عدم وجود مبدأ التوارث عندهم ـ ولكننا حينما نراجع التوراة نجدها تذكر هذا القانون في سفر الأعداد بصورة صريحة إذ يقول: وتكلم بني إسرائيل قائلا: أيّما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى ابنته، وإن لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لإخوته، وإن لم يكن له أخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه أخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرّب موسى يدور لدى بني إسرائيل، ويستفاد من هذه العبارات أنّ مبدأ التوارث كان على محور النسب فقط، ولهذا لم يرد ذكر عن سهم الزوجة في الميراث.
ب. وأمّا في الدين النصراني فالمفروض أن يكون مبدأ الإرث المذكور في التوراة معتبرا أيضا، وذلك لما نقل عن المسيح عليه السّلام من أنّه قال: أنا لم أبعث لأغير من أحكام التوراة شيئا) ولهذا لا نجد في كتابات الفتاوى الدينية أي كلام حول الإرث، نعم ورد في هذه الكتب بعض مشتقات الإرث في بعض الموارد، ولكنها تعني جميعا الإرث المعنوي الأخروي.
ج. هذا وقد كان التوارث لدى العرب الجاهليين يتحقق بإحدى هذه الطرق الثلاث:
• بالنسب، وكان المقصود منه عندهم هم الأبناء الذكور والرجال خاصّة، فلا يرث الصغار والنساء أبدا.
• بالتبني، وهو من طرده أهله من الأبناء، فتكفله وتبناه شخص آخر أو عائلة أخرى، وفي هذه الصورة يتحقق التوارث بين المتبني والمتبني له.
• بالعهد، يعني إذا تعاهد شخصان أن يدافع كل واحد منهما عن الآخر طيلة حياتهما ويرث أحدهما الآخر بعد وفاته، فإنّه يقع التوارث بينهما بعد وفاة أحدهما.
13. حرّر الإسلام قانون الإرث الطبيعي الفطري مما علق به من الخرافات، ولحق به من رواسب التمييز العنصري الظالم الذي كان يفرق بين الرجل والمرأة حينا، وبين الكبار والأطفال حينا آخر، وجعل ملاك التوارث في ثلاثة أمور لم تكن معروفة إلى ذلك الحين:
النّسب وذلك بمفهومه الوسيع، وهم كل علاقة تنشأ بين الأشخاص بسبب الولادة في مختلف المستويات من دون فرق بين الرجال والنساء والصغار والكبار.
السبب وهي العلاقات الناشئة بين الأفراد بسبب المصاهرة والتزاوج.
الولاء وهي العلاقات الناشئة بين شخصين من غير طريق القرابة (السبب والنسب) مثل ولاء العتق، يعني إذا أعتق رجل عبده، ثمّ مات العبد وخلف من بعده مالا ولم يترك أحدا ممن يرثونه بالسبب أو النسب، ورثه المعتق، وفي هذا حيث على التحرير والإعتاق، وكذلك ولاء ضمان الجريرة، وهو أن يركن شخص إلى آخر ـ لا سبب بينهما ولا نسبـ ويتعاهدان أن يضمن كل منهما جناية الآخر ويدافع كل منهما عن الآخر، ويكون إرث كل منهما للآخر، و(ولاء الإمامة) يعنى إذا مات أحد ولم يترك من يرثونه ممن ذكر ورثه الإمام عليه السّلام، أي أن أمواله تنتقل إلى بيت المال الإسلامي، وتصرف في شؤون المسلمين العامّة.
14. هذا، ولكل واحدة من هذه الطبقات أحكام وشرائط خاصّة مذكورة في الكتب الفقهية المفصلة.
15. في قانون الإرث عموما، وفي نظام الإرث الإسلامي خاصّة مزايا نشير إلى قسم منها في ما يلي:
أ. في نظام الإرث الإسلامي، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإرث، فليس في الإسلام ما كان متعارفا (أو لا يزال) عند العرب الجاهليين، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك، بل يشمل نظام الإرث الإسلامي كل من يمتّ إلى المتوفى بوشيجة القربى.
ب. يلبي هذا النظام الحاجات الإنسانية الفطرية والمشروعة، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره امتدادا لوجوده وشخصيته، ولهذا يكون سهم الأبناء ـ حسب هذا النظام ـ أكثر من سهام غيرهم، في حين تكون سهام الآباء والأمهات وغيرهم من الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاما وأنصبة محترمة وجديرة بالاهتمام أيضا.
ج. إنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة، وتشغيل عجلة الإقتصاد، وذلك لأنّ الإنسان إذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إلى من يحبّهم ويودّهم، فإنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه، ومهما كانت ظروفه وملابساته، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقا، وقد أشرنا في ما مضى ـ كيف أنّ إلغاء قانون الإرث والتوارث في بعض البلاد، وتأميم أموال الموتى، وحيازتها من قبل الدولة أدى إلى آثار سيئة في المجال الاقتصادي، وظهر في صورة ركود اقتصادي مخيف دفع بالدولة إلى إعادة النظر في إلغاء قانون الإرث وحذفه.
د. إنّ قانون الإرث الإسلامي يمنع من تراكم الثّروة، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة ـ بعد كلّ جيل ـ بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة، كما يساعد على التوزيع العادل لها، هذا والجدير بالاهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة، والتي ترافق غالبا سلسلة من المضاعفات والآلام الاجتماعية السيئة، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.
هـ. إنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإرث الإسلامي لم تنظم على أساس الارتباط والانتساب إلى المتوفى برابطة النسب خاصّة، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة، فإذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإناث، أو يرث الأبـ في بعض الموارد ـ أكثر من الأمّ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسئولية مالية أكبر في النظام الإسلامي، ولأنّ عليهم أن يتحملوا الإنفاق على زوجاتهم وعوائلهم، ولهذا لا بدّ أن يسهم لهم ـ في الإرث ـ أكثر من الإناث.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/126.
11. ميراث الأبوين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈11⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ [النساء: 11]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فأرسل إليه ابن عباس أنّه قال: أفي كتاب الله تجد هذا؟ قال لا، ولكن أكره أن أفضل أما على أب.. وقال: وكان ابن عباس يعطي الأم الثلث من جميع المال(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٩٠٢٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن محمد بن مسلم، قال أقرأني الإمام الباقر صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخط الإمام علي بيده فوجدت فيها: (رجل ترك ابنته وامه فلابنته النصف ثلاثة أسهم، وللام السدس سهم، يقسم المال على أربعة أسهم، فما أصاب ثلاثة أسهم فللابنة، وما أصاب سهما فهو للأم)، قال وقرأت فيها: (رجل ترك ابنته وأباه فللابنة النصف ثلاثة أسهم، وللأب السدس سهم، يقسم المال على أربعة أسهم، فما أصاب ثلاثة أسهم فللابنة، وما أصاب سهما فللأب)، قال محمد: ووجدت فيها: (رجل ترك أبويه وابنته، فللابنة النصف ثلاثة أسهم، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، يقسم المال على خمسة أسهم، فما أصاب ثلاثة فللابنة، وما أصاب سهمين فللأبوين(1).
2. روي أنّه قال في رجل مات وترك أبويه: للأب سهمان، وللام سهم(2).
3. روي أنّه قال: إن تبارك وتعالى أدخل الوالدين على جميع أهل المواريث فلم ينقصهما من السدس(3).
4. روي أنّه قال في قول الله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾: يعني إخوة لأب وام، أو إخوة لأب(4).
__________
(1) الكافي 7/93/1.
(2) الكافي 7/91.
(3) تفسير العيّاشي 1/225/50.
(4) تفسير العيّاشي 1/226/54.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ أضروا بالأم، ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث لأن أباهم يلي نكاحهم والنفقة عليهم دون أمهم(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٦٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن عمر بن أذينة، قال قلت لزرارة إن أناسا حدثوني عنه ـ يعني أبا عبد الله ـ وعن أبيه بأشياء في الفرائض، فأعرضها عليك، فما كان منها باطلا فقل: هذا باطل، وما كان منها حقا، فقل: هذا حق، ولا تروه واسكت، وقلت له: حدثني رجل عن أحدهما في أبوين وإخوة لام أنهم يحجبون ولا يرثون، فقال: والله هذا هو الباطل، ولكني سأخبرك ولا أروي لك شيئا، والذي أقول لك هو والله الحق، إن الرجل إذا ترك أبويه فللام الثلث، وللأب الثلثان في كتاب الله، فإن كان له إخوة ـ يعني للميت اخوة لأب وام، أو إخوة لأبـ فلامه السدس وللأب خمسة أسداس، وإنما وفر للأب من أجل عياله، وأما الإخوة للام ليسوا للأب، فإنهم لا يحجبون الام عن الثلث ولا يرثون، وإن مات رجل وترك أمه وإخوة وأخوات لأب وام وإخوة وأخوات للأب، وإخوة وأخوات لأم، وليس الأب حيا، فإنهم لا يرثون ولا يحجبونها، لأنه لا يورث كلالة(1).
2. روي أنّه قال: إذا ترك الميت أخوين فهم اخوة من الميت حجبا الام عن الثلث، وإن كان واحدا لم يحجب الام ـ وقال ـ إذا كن أربع أخوات حجبن الام عن الثلث، لأنهن بمنزلة الأخوين، وإن كن ثلاثا لم يحجبن(2).
3. روي أنّه قال: لا يحجب الام عن الثلث إذا لم يكن ولد إلا أخوان أو أربع أخوات(3).
4. روي عن زرارة، قال قال لي الإمام الصادق أنّه قال: يا زرارة، ما تقول في رجل ترك أبويه وإخوته من امه؟ قال قلت: السدس لامه وما بقي فللأب، فقال: من أين قلت هذا؟ قلت: سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، فقال لي: ويحك، يا زرارة، أولئك الإخوة من الأب، وإذا كان الاخوة من الام لم يحجبوا الام عن الثلث(4).
روي عن أبي بصير، عن الإمام الصادق، قال في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأباها وإخوتها، قال هي من ستة أسهم، للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللأب الثلث سهمان، وللام السدس سهم، وليس للاخوة شي ء نقصوا الام وزادوا الأب، إن الله تعالى قال: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾(5).
5. روي أنّه قال: الولد والإخوة هم الذين يزادون وينقصون(6).
6. روي أنّه قال: لا يحجب من الثلث الأخ والاخت حتى يكونا أخوين أو أخا وأختين، فإن الله يقول: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾(7).
7. روي أنّه سئل عن ام وأختين، فقال: الثلث، لأن الله يقول: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ ولم يقل: فإن كان له أخوات(8).
__________
(1) الكافي 7/91/.
(2) الكافي 7/92/2.
(3) الكافي 7/92/4.
(4) الكافي 7/93/7.
(5) التهذيب 9/283/1023.
(6) تفسير العيّاشي 1/226/51.
(7) تفسير العيّاشي 1/226/52.
(8) تفسير العيّاشي 1/226/53.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ الميت ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، وبقية المال للأب(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٠.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال: الأمر المجتمع عليه عندنا، الذي لا اختلاف فيه، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا: أن الكلالة على وجهين: فأما الآية التي أنزلت في أول سورة النساء التي قال الله ـ تبارك وتعالى ـ فيها: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، فهذه الكلالة التي لا يرث فيها الإخوة للأم حتى لا يكون ولد ولا والد، وأما الآية التي في آخر سورة النساء التي قال الله ـ تبارك وتعالى ـ فيها: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، قال مالك: فهذه الكلالة التي تكون فيها الإخوة عصبة إذا لم يكن ولد، فيرثون مع الجد في الكلالة، فالجد يرث مع الإخوة؛ لأنه أولى بالميراث منهم، وذلك أنه يرث مع ذكور ولد المتوفى السدس، والإخوة لا يرثون مع ذكور ولد المتوفى شيئا، وكيف لا يكون كأحدهم وهو يأخذ السدس مع ولد المتوفى!؟ فكيف لا يأخذ الثلث مع الإخوة وبنو الأم يأخذون معهم الثلث!؟ فالجد هو الذي حجب الإخوة للأم، ومنعهم مكانه الميراث، فهو أولى بالذي كان لهم؛ لأنهم سقطوا من أجله، ولو أن الجد لم يأخذ ذلك الثلث أخذه بنو الأم، فإنما أخذ ما لم يكن يرجع إلى الإخوة للأب، وكان الإخوة للأم هم أولى بذلك الثلث من الإخوة للأب، وكان الجد هو أولى بذلك من الإخوة للأم(1).
__________
(1) الموطأ: ٢/١٧.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾:
أ. قال بعضهم: أراد بالولد الذكور خاصة؛ لأنه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكرا، أما إذا كان الولد أنثى فللأب يكون الثلث.
ب. وأمّا عندنا: فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعا.
2. وبعد: فإنه إن كان الولد ـ هاهنا ـ ذكرا وأنثى؛ فينظر:
أ. إن كان ذكرا يكون لكل واحد من الأبوين السدس، والباقى للولد، وإن كان أنثى فلها النصف، وللأبوين السدسان، والباقي للأب؛ على ما جاء في الخبر: (ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)
ب. وقالت الروافض: الباقي للابنة.
3. ثم في الآية دلائل، أحدها: يخرج الخطاب على العموم، والمراد منه خاص؛ لأنه ذكر الأولاد، والولد قد يكون على غير دينه؛ فلا يرث، وقد يكون مملوكا فلا يرث، على ما روي في الخبر: (لا يتوارث أهل ملّتين)، وما روي: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم إلا العبد مولاه)، وذلك في الحقيقة ليس بميراث، ولكن ما للعبد يكون لمولاه، وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه؛ حيث استثنى العبد، وذلك في الحقيقة ليس بميراث.
4. في الآية دليل جواز القياس، والفكر فيها، والاعتبار؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما، غير منصوص، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير منصوص، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص، وما يستحق بالفريضة فهو منصوص عليه، وهكذا كل من يستحق شيئا بحق الفريضة فهو منصوص عليه؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد، والتفكر فيه، والاعتبار.
5. وفيه دليل أنه يجوز ألا يطلع الله عباده على الأشياء بقوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ إذ لم يبين أيهم أقرب نفعا؛ دل قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾؛ إذ ذكر وراثتهما، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل، فيظهر للأب بهذه الآية من قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ إلى آخرها ـ أمران:
أ. أحدهما: حق العصبة.
ب. الثاني: حق الفرض بقوله: ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾
6. ثم بعد هذا فيه أمران:
أ. أحدهما: أنه إذا ثبت له حق العصبة، وقد بين الله تعالى نصيب الابنة إلا النصف، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض، ولم يجعل الابنة؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر، ثم حرمت الأمّ بالابنة؛ إذ هي تحرم بالأخوات، فالبنات أحق؛ إذ هن أقرب.
ب. الثاني: أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين، ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده، وبين لأولاد الأب الحق، وإبقاء حق الجدّ لما بين لولده؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى؛ لأن حق العصّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين، وحق الفرائض لا، حتى يبين، ثم صار الجدّ أبا في حقّه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة.
ج. ثم فيه وجه آخر: أنه أتبع ذلك الذّكر ذكر الزوجين، وذكرهما مع الولد، ولم يذكر معهما الولدان؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان، لا في حالهما، أي: الزوجين، وأيّد ذلك قوله: إنه بقى حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل، كما ذكر في قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان.
7. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة:
أ. قال بعضهم: لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان، حتى يكون ثلاثة؛ لأن الله تعالى قال ﴿إِخْوَةٌ﴾، وأقل الإخوة ثلاثة، وهو قول ابن عباس .
ب. وقال آخرون: يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم، ولا تحجب الإناث؛ لأن الله تعالى ذكر الإخوة، والإخوة اسم للذكور منهم دون للإناث؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث.
ج. وأمّا عندنا: فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعا في الحكم، وإن لم يكن اسما لهما جميعا في الحقيقة:
أ. ألا ترى أن الله تعالى ذكر الإخوة، ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 176]، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكورا كانوا أو إناثا، وأما قولنا: بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث: ما روى عن على وعبد الله وزيد بن ثابت أنهم قالوا: يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة، وجعلوا الأخوين إخوة، والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر؛ فكذلك في حق الحجاب
ب. وحجة أخرى: وهي أنّ الله تعالى حكم في ﴿الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176] إذا كان واحدا أن له السدس، ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحدا يشتركون في الثلث؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة من الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء.
ج. وحجة أخرى: وهي أن الله تعالى جعل للأختين من الأب والأم الثلثين، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث؛ فعلى ذلك يجب أن يستوى حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث.
8. ثم المسألة بيننا وبين الروافض:
أ. زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث؛ لأنهم منها، فمن البعيد أن يحجبوها، ويمنعوا ذلك عنها، ويجعلون ذلك لغيرها، يضرون بالأم وينفعون غيرها؛ وقد قال تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، والثاني: أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك، وأمّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب في النصف الباقي؛ دل أنه على الابتداء.
ب. ونقول في الإخوة في الأم: إنهم في الحجاب كالإخوة من الأب والأم، وإن كان الحق لغيرهم؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت، وكذلك الأولاد، فلو كان الحجاب يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر، ولا أصل له في هذا بالتفريق؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق؛ ثبت أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت، لا بحق الأبوين؛ لأنه لم يعرف إيجاب حق ممن لا حق له، ولا حق لهم مع الأب؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب، والمعنى منه واحد، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم، فإذا كان هو لا يحجب بان أن ولدها لا يحجبونها؛ إذ هو بحق الميت.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/41.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ ثم قال: ﴿مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فسوى بين كل واحد من الأبوين مع وجود الولد في أن فرض كل واحد منهما السدس ثم فاضل بينهما مع عدم الولد في أن جعل للأم الثلث والباقي للأب وإنما كان هذا لأن الأبوين يرثان بالولادة مع الولد الذي قد استويا فيها فسوى بين فرضيهما وإذا عدم الولد ورثت الأم فرضاً لعدم التعصيب فيها وورث الأب بالتعصيب لأنه أقوى ميراثاً وجعل فرضها شطر ما حاز الأب بتعصيبه ليميز للذكر مثل حظ الأنثيين.
2. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ فعندنا أن الاثنين من الأخوة والأخوات يحجبونها من الثلث الذي هو أعلى فرضها إلى السدس الذي هو أقل فرضهما ويكون الباقي بعد سدسها للأب فقال قوم إن الباقي يعود على الإخوة دون الأب ليكون ما حجبوها عائد عليهم لا على غيرهم وهذا خطأ من وجهين أحدهما: أن الأب يسقط من أدلى به كالجد، والثاني: أن العصبة لا يتقدر لهم في الميراث فرض كالأبناء.. فأما حجب الأم بالأخوات فقد منع منه بعض الفقهاء وقال إن أقل الجمع ثلاثة ولا يحجب هذا القائل إلا بثلاثة من الأخوة والأخوات وعندنا أن لفظ الجمع لا يمتنع أن يوضع موضع التثنية كـ ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم:4]، ومنع الاثنين في الفرائض يقومان مقام الجمع الكامل كالأخوات وولد الأم.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/167.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ قال ابن عباس: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله تعالى ذلك، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس.
2. ثم قال ﴿مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فسوّى بين كل واحد من الوالدين مع وجود الولد في أن لكل واحد منهما السدس، ثم فاضل بينهما مع عدم الولد في أن جعل للأم الثلث والباقي للأب، وإنما كان هكذا لأن الأبوين مع الولد يرثان فرضا بالولادة التي قد استويا فيها، فسوّى بين فرضهما، وإذا عدم الولد ورثت الأم فرضا لعدم التعصب فيها، وورث الأب بالتعصيب، لأنه أقوى ميراثا، وجعل فرضها شطر ما حازه الأب بتعصيبه، ليصير للذكر مثل حظ الأنثيين.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ فلا خلاف أن الثلاثة من الأخوة يحجبونها من الثلث الذي هو أعلى فرضها إلى السدس الذي هو أقله، ويكون الباقي بعد سدسها للأب، وحكي عن طاوس أنه يعود على الإخوة دون الأب ليكون ما حجبوها عنه عائدا عليهم لا على غيرهم، وهذا خطأ من وجهين:
أ. أحدهما: أن الأب يسقط من أدلى به كالجد.
ب. الثاني: أن العصبة لا يتقدر لهم في الميراث فرض كالأبناء.
4. فأما حجب الأم بالأخوين، فقد منع منه ابن عباس تمسكا بظاهر الجمع في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ وخالفه سائر الصحابة محجّبوا الأم بالأخوين فصاعدا، وإن لم تحجب بالأخ الواحد لأن لفظ الجمع لا يمنع أن يوضع موضع التثنية نحو قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] مع أن الاثنتين تقومان في الفرائض مقام الجمع الكامل، كالأخوات، وولد الأم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/459.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ليس في ذلك خلاف، وكذلك إن كان واحد من الأبوين مع الولد، كان له السدس بالتسمية، بخلا خلاف، ثم ينظر، فان كان الولد ذكراً، كان الباقي للولد واحداً كان أو أكثر، بلا خلاف، وكذلك إن كانوا ذكوراً أو اناثاً فالمال بينهم،﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وإن كانت بنتاً كان لها النصف، ولأحد الأبوين السدس، والباقي عندنا يرد على البنت وأحد الأبوين على قدر سهامهما، أيهما كان، لأن قرابتهما سواء، ومن خالفنا يقول: إن كان أحد الأبوين اباً كان الباقي له، لأنه عصبة وإن كانت أماً ففيهم من يقول بالرد على البنت وعلى الأم ومنهم من يقول: الباقي لبيت المال، وإنما رددنا عليهما لقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ وهاهنا هما متساويان، لأن البنت تتقرب بنفسها إلى الميت، فكذلك أحد الأبوين، والخبر المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر، خبر ضعيف، بينا وجهه في تهذيب الأحكام، لا يخص به عموم القرآن.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/131
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يعني الأب والأم، والهاء كناية عن غير مذكور تقديره: ولأبوي الميت كل واحد منهما السدس مما ترك.
2. ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فللأب السدس مع الولد ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا كان أو أكثر، وكذلك مع ولد الابن، وكذلك للأم السدس ههنا، والأب ههنا صاحب فرض.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ﴾ يعني للميت ابن ولا بنت ولا ولد ابن ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾:
أ. والباقي للأب؛ لأنه عصبة وفيه إجماع.
ب. وقيل: عرف بالقرآن؛ لأنه لما أفرز نصيب الأم الثلث، وههنا أب وأم علم أن الباقي للأب.
ج. وقيل: بل علم بالسنة، وهو: ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر.
4. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ﴾ يعني للميت ﴿إِخْوَةٌ﴾ من أي جهة كان؛ لأنه أطلق من غير فصل، وفيه اتفاق ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ لا خلاف أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس، وأن الثلاثة تحجب، واختلفوا في الثنتين:
أ. فجعل الصحابة والتابعون والفقهاء على أنهما كالثلث في ذلك عن ابن عباس، فإنه لا تحجب بهما، وقد سقط خلافه بإجماع التابعين.
ب. وقيل: المراد بالإخوة الأخوان؛ لأن لفظ الجمع والتثنية جائز كقوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
5. سؤال وإشكال: كيف حجبوا الأم، ولم يرثوا المال؟ والجواب: الأكثر على أنه يحجب وإن لم يرث معونة للأب؛ لأنه يقوم بإنكاحهن، والنفقة عليهن دون الأم عن قتادة، وعن ابن عباس أنهن يحجبنها عن السدس وترثه وهذا بعيد، وأجمعت الفقهاء على خلافه قال القاضي: وما قاله قتادة لقريب، والصحيح أنه فرض وكذلك للمصلحة.
6. اختلفوا في المواضع التي ذكر الله تعالى فيه الولد هل يدخل فيه ولد الابن فقيل: يتناولهما حقيقة، وقيل: بل يتناول ذلك ولد الصلب حقيقة، وولد الابن مجازًا، ولذلك يصح فيه النفي.
7. فرض الأب: للأب ثلاثة أحوال في حال صاحب فرض، وهو أن يكون للميت، أو لابنه ولد ذكر، وفي حال عصبة، وهو ألا يكون للميت ولا لابنه ولد، وفي حال صاحب فرض وعصبة، وهو أن يكون للميت أو لابنه ولد أنثى، فيكون لها النصف وللأب السدس بالفرض، والباقي له بالتعصيب، وإذا كان صاحب فرض ففرضه السدس، واختلفوا في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين:
أ. فقال عامة الصحابة والفقهاء: للزوج النصف، وللزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الثلثان.
ب. وعن ابن عباس ثلث جميع المال في الحالين.
8. اختلفوا في الجد فقيل: إنه كالأب، عن أبي بكر وابن عباس وعائشة، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال علي وابن مسعود وزيد: يرث الأخ والأخت مع الجد، وهو قول الشافعي، واختلفوا في كيفية التوريث، وهل يدخل الجد في الآية، الخلاف فيه كالخلاف في الابن، والصحيح أنه يدخل توسعًا، روي عن ابن عباس أنه قال: ألا يتقي الله زيد!؟ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أبا الأب أبًا.
9. سؤال وإشكال: لم لم يذكر نصيب الأب في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾؟ والجواب: لفائدة؛ وهو ألا يظن أنه يأخذ بالتسمية، فصار فَقْدُ الذِّكْرِ دلالة على أن ما عدا الثلث يأخذه بالتعصيب.
10. فرض الأم: للأم ثلاثة أحوال: ترث فيها السدس: إذا كان للميت ولد، أو لابنه ولد، أوله اثنان من الإخوة والأخوات من أي جهة كن، وما عدا ذلك ففرض الثلث، والإخوة يحجبون ولا يرثون، وقد بينا خلاف ابن عباس فيه، وفي الابنتين هل يحجبانها؟.
11. فرض الجدة: السدس علم ذلك بالسنة؛ ولذلك لما طلبوا حكمها لم يرجع أحد إلى النص.
12. قرأ حمزة والكسائي ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ بكسر الهمزة والميم، وكذلك ﴿أُمِّ الْكِتَابِ﴾ بكسر الألف إذا كان قبلها حرف مكسور و﴿بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ قرأها حمزة بكسر الألف والميم، والكسائي بكسر الألف وفتح الميم، وقرأ الباقون: بضم الهمزة، أما الأول فلأنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة، وأما الضم فعلى الأصل، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/547
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم ذكر ميراث الوالدين فقال ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يعني بالأبوين الأب والأم، والهاء الذي أضيف إليه الأبوان كناية عن غير مذكور تقديره ولأبوي الميت.
2. ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فللأب السدس مع الولد، وكذلك الأم لها السدس معه ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو أكثر، ثم إن كان الولد ذكرا، كان الباقي له، وإن كانوا ذكورا، فالباقي لهم بالسوية، وإن كانوا ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كانت بنتا، فلها النصف بالتسمية، ولأحد الأبوين السدس أو لهما السدسان، والباقي عند أئمتنا يرد على البنت وعلى أحد الأبوين، أو عليهما على قدر سهامهم بدلالة قوله: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾، وقد ثبت أن قرابة الوالدين، وقرابة الولد متساوية لأن الولد يتقرب إلى الميت بنفسه، كما أن الوالدين يتقربان إليه بأنفسهما، وولد الولد يقوم مقام الولد للصلب مع الوالدين، كل منهم يقوم مقام من يتقرب به، وفي بعض هذه المسائل خلاف بين الفقهاء.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ﴾: يعني للميت ﴿وَلَدَ﴾: أي ابن، ولا بنت، ولا أولادهما، لأن اسم الولد يعم الجميع ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ وظاهر هذا يدل علي أن الباقي للأب، وفيه إجماع، فإن كان في الفريضة زوج، فإن له النصف وللأم الثلث والباقي للأب، وهو مذهب ابن عباس وأئمتنا، ومن قال في هذه المسألة: إن للأم ثلث ما يبقى، فقد ترك الظاهر، وكذلك إن كان بدل الزوج الزوجة، فلها الربع، وللأم الثلث، والباقي للأب.
4. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ قال أصحابنا: إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب، ويدل عليه ما تقدمه من قوله ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ فإن هذه الجملة معطوفة على قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ وتقديره: فإن كان له إخوة، وورثه أبواه، فلأمه السدس، وقال بعض أصحابنا (2): إن لها السدس مع وجود الأخوة، وإن لم يكن هناك أب، وبه قال جميع الفقهاء.
5. اتفقوا على أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا تحجب الأم عن الثلث إلى السدس، بأقل من ثلاثة من الأخوة والأخوات كما تقتضيه ظاهر الآية، وأصحابنا يقولون: لا تحجب الأم عن الثلث إلى السدس إلا بالأخوين، أو أخ وأختين، أو أربع أخوات من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب خاصة دون الأم، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء، قالوا: والعرب تسمي الاثنين بلفظ الجمع في كثير من كلامهم، حكى سيبويه أنهم يقولون: (وضعا رحالهما) يريدون رحلي راحلتيهما، وقال تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾: يعني حكم داود وسليمان، وقال قتادة: إنما تحجب الأخوة الأم مع أنهم لا يرثون من المال شيئا، معونة للأب، لان الأب يقوم بنفقتهم ونكاحهم دون الأم، وهذا يدل على أنه ذهب إلى أن الاخوة للأم لا يحجبون على ما ذهب إليه أصحابنا، لان الأب لا يلزمه نفقتهم بلا خلاف.
6. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾: أي تقسم التركة على ما ذكرنا بعد قضاء الديون، وإقرار الوصية، ولا خلاف في أن الدين مقدم على الوصية والميراث، وإن أحاط بالمال، فأما الوصية:
أ. فقد قيل إنها مقدمة على الميراث.
ب. وقيل: بل الموصى له شريك الوارث له الثلث، ولهم الثلثان، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إنكم تقرأون في هذه الآية الوصية قبل الدين، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية.
7. الوجه في تقديم الدين على الوصية في الآية: إن لفظ ﴿أَوْ﴾ إنما هو لأحد الشيئين، أو الأشياء، ولا يوجب الترتيب، فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا، أو مضموما إلى الآخر، وهذا كقولهم جالس الحسن، أو ابن سيرين: أي جالس أحدهما مفردا، أو مضموما إلى الآخر.
8. قرأ حمزة والكسائي ﴿فَلِأُمِّهِ﴾، وفي ﴿أُمِّهَا﴾ ونحوه بكسر الهمزة والميم، وحمزة ﴿بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ و﴿بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ بكسرهما، والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، والباقون بضم الهمزة في الجميع، وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم.. وجه قراءة حمزة والكسائي ﴿فَلِأُمِّهِ﴾ بكسر الهمزة: إن الهمزة حرف مستثقل، بدلالة تخفيفهم لها، فأتبعوها ما قبلها من الكسرة والياء، ليكون العمل فيها من وجه واحد،ويقوي ذلك أنها تقارب الهاء، وقد فعلوا ذلك بالهاء في نحو عليه وبه.
9. قوله: الثلث والسدس والربع ونحوها، يجوز فيها التخفيف، لثقل الضم، فيقال: ثلث وسدس، وربع، وثمن، قال الزجاج: ومن زعم أن الأصل التخفيف فيها فثقل فخطأ، لأن الكلام موضوع على الإيجاز، لا على التثقيل، وإنما قيل للأب والأم أبوان تغليبا للفظ الأب، ولا يلزم أن يقال في ابن وابنة ابنان، لأنه يوهم، فإن لم يوهم جاز ذلك ذكره الزجاج.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/26.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ قال الزجّاج: أبواه تثنية أب وأبة، والأصل في الأمّ أن يقال لها: أبة، ولكن استغني عنها بأمّ، والكناية في قوله (لأبويه) عن الميت وإن لم يجر له ذكر.
2. ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أي: إذا لم يخلّف غير أبوين، فثلث ماله لأمّه، والباقي للأب، وإنما خصّ الأمّ بالذّكر، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ ظنّ الظّانّ أن المال يكون بينهما نصفين، فلما خصّها بالثلث، دلّ على التفضيل، وقرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: ﴿فَلِأُمِّهِ﴾ و﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ و﴿فِي أُمِّهَا﴾ و﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ بالرّفع، وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا، وحجّتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ أي: مع الأبوين، فإنّهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردّونها إلى السّدس، واتّفقوا على أنّهم إذا كانوا ثلاثة إخوة؛ حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعليّ، وزيد، والجمهور.
ب. الثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتجّ بقوله: إخوة، والإخوة: اسم جمع.
4. اختلفوا في أقلّ الجمع، فقال الجمهور: أقلّه ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأوّل: أصحّ، وإنما حجب العلماء الأمّ بأخوين لدليل اتّفقوا عليه، وقد يسمّى الاثنان بالجمع، قال الزجّاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أنّ العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون: رحلي راحلتيهما.
__________
(1) زاد المسير: 1/380.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين، وللأبوين ثلاثة أحوال:
أ. الأولى: أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية، ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه:
• أحدها: أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد، أو أكثر من واحد، فههنا الأبوان لكل واحد منهما السدس.
• ثانيها: أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر، وهاهنا الحكم ما ذكرناه أيضا.
• ثالثها: أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف، وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية، والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب، وهاهنا سؤالات.
ب. الثانية: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد، ولا يكون هناك وارث سواهما، وهو المراد من قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ فههنا للأم الثلث، وذلك فرض لها، والباقي للأب، وذلك لأن قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما، وإذا كان كذلك كان مجموع المال لهما، فإذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب، فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان:
• الأول: أن الآية السابقة دلت على أن فرض الأب هو السدس، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه هاهنا يأخذ السدس بالفريضة، والنصف بالتعصيب.
• الثاني: لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد.
ج. الثالثة: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الأخوة، والأخوات، واتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون، واختلفوا في الأختين، فالأكثرون من الصحابة على القول بإثبات الحجب كما في الثلاثة، وقال ابن عباس: لا يحجبان كما في حق الواحدة، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة، ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه، فإذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب، فوجب أن لا يحصل الحجب، روي أن ابن عباس قال لعثمان: بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس؟ وإنما قال الله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار، وفي هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان، وعثمان ما أنكره، وهما كانا من صميم العرب، ومن علماء اللسان، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
2. سؤال وإشكال: لا شك أن حق الوالدين على الإنسان أعظم من حق ولده عليه، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟ والجواب: عن هذا في نهاية الحسن والحكمة، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق.
3. سؤال وإشكال: الضمير في قوله: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ إلى ماذا يعود؟ والجواب: أنه ضمير عن غير مذكور، والمراد: ولأبوي الميت.
4. سؤال وإشكال: ما المراد بالأبوين؟ والجواب: هما الأب والأم، والأصل في الأم أن يقال لها أبة، فأبوان تثنية أب وأبة.
5. سؤال وإشكال: كيف تركيب هذه الآية؟ والجواب: قوله: ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا﴾ بدل من قوله: ﴿لِأَبَوَيْهِ﴾ بتكرير العامل، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه، سؤال وإشكال: فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس، والجواب: لأن في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، والسدس مبتدأ وخبره: لأبويه، والبدل متوسط بينهما للبيان.
6. اختلفوا إذا ورث الميت أبواه مع أحد الزوجين:
أ. ذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم، ويدفع الباقي الى الأب.. وحجة الجمهور وجوه:
• الأول: أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وأيضاً الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176] وأيضاً الأم مع الأب كذلك، لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث، وللأب الثلثان، إذا ثبت هذا فنقول: إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا، للذكر مثل حظ الأنثيين.
• الثاني: أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول.
• الثالث: أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة، فأشبه الوصية في قسمة الباقي.
• الرابع: أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف، فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وهذا خلاف قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
الوجوه الثلاثة الأول: يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس، وأما الوجه الرابع: فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني.
ب. وقال ابن عباس: يدفع الى الزوج نصيبه، والى الأم الثلث، ويدفع الباقي الى الأب، وقال: لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين، وخالفه في الزوج والأبوين، لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وأما في الزوجة فإنه لا يفضي الى ذلك.
7. قرأ حمزة والكسائي فلأمه بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسوراً أو ياء، أما الأول: فكقوله: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [الزمر: 6] وأما الثاني: فكقوله: ﴿فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [القصص: 59] وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: 50] وأما الباقون فإنهم قرؤوا بضم الهمزة، أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج: أنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله: ﴿فَلِأُمِّهِ﴾ وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة، وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين، فلا جرم جعلت الضمة كسرة، وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللام في حكم المنفصل والله أعلم.
8. للعلماء في أقل الجمع قولين:
أ. الأول: أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني، والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين، واحتجوا فيه بوجوه:
• أحدها: قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] ولا يكون للإنسان الواحد أكثر من قلب واحد.
• ثانيها: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ والتقييد بقوله: فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين.
• ثالثها: قوله: (الاثنان فما فوقهما جماعة)
ب. الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين، وإنما الموجب لذلك هو القياس، وتقريره أن نقول: الأختان يوجبان الحجب، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا، إنما قلنا إن الأختين يحجبان، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة، فثبت أن الأختين يحجبان، وإذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين، لأنه لا قائل بالفرق، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع، ويمكن أن يقال: لا يتمسك به على طريقة القياس، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم، واعلم أنه تأكد هذا بإجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس، والأصح في أصول الفقه أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم.
9. الاخوة إذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة، بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس، سدس بالفرض، والباقي بالتعصيب، وقال ابن عباس: الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين، كما كان قبل ذلك والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/516.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ أي لأبوي الميت، وهذا كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، كقوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ و﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ و﴿السُّدُسُ﴾ رفع بالابتداء، وما قبله خبره: وكذلك الثلث، والسدس)، وكذلك ﴿نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وكذلك ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾، وكذلك ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾، و﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾ وكذلك فلكل واحد منهما السدس.
2. الأبوان تثنية الأب والأبة، واستغني بلفظ الأم عن أن يقال لها أبة، ومن العرب من يجري المختلفين مجرى المتفقين، فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته، جاء ذلك مسموعا في أسماء صالحة، كقولهم للأب والأم: أبوان، وللشمس والقمر: القمران، ولليل والنهار: الملوان، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر، غلبوا القمر على الشمس لخفة التذكير، وغلبوا عمر على أبي بكر لان أيام عمر امتدت فاشتهرت، ومن زعم أنه أراد بالعمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فليس قوله بشيء، لأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يروا عمر بن عبد العزيز.
3. قال ابن الشجري، ولم يدخل في قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ من علا من الآباء دخول من سفل من الأبناء في قوله ﴿أَوْلَادُكُمْ﴾، لأن قوله: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ لفظ مثنى لا يحتمل العموم والجمع أيضا، بخلاف قوله ﴿أَوْلَادُكُمْ﴾، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ والأم العليا جدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع، فخروج الجدة عن هذا اللفظ مقطوع به، وتناوله للجد مختلف فيه:
أ. فممن قال هو أب وحجب به الإخوة أبو بكر ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته، فممن قال إنه أب ابن عباس وعبد الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة، كلهم يجعلون الجد عند عدم الأب كالأب سواء، يحجبون به الإخوة كلهم ولا يرثون معه شيئا، وقاله عطاء وطاوس والحسن وقتادة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق، والحجة لهم قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا)
ب. وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد، وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وكان علي يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفرائض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة.
4. أجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب وأن الابن يحجب أباه، وأنزلوا الجد بمنزلة الأب في الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أبا أقرب منه في جميع المواضع، وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث، إلا ما روي عن الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة، والحجة لقول الجمهور إن هذا ذكر لا يعصب أخته فلا يقاسم الجد كالعم وابن العم، قال الشعبي: أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب، مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بمال فاستشار عليا وزيدا في ذلك فمثلا له مثلا فقال: لولا أن رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أكون أباه، روى الدارقطني عن زيد ابن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يوما فأذن له، ورأسه في يد جارية له ترجله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دعها ترجلك، فقال: يا أميرا لمؤمنين، لو أرسلت إلي جئتك، فقال عمر إنما الحاجة لي، إني جئتك لتنظر في أمر الجد، فقال زيد: لا والله! ما تقول فيه، فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شي تراه، فإن رأيته وافقني تبعته، وإلا لم يكن عليك فيه شي، فأبى زيد، فخرج مغضبا وقال: قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي، ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الأولى، فلم يزل به حتى قال: فسأكتب لك فيه، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلا، إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة، فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن، فإن قطعت الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول، فأتى به فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال: إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد أمضيته، قال: وكان عمر أول جد كان، فأراد أن يأخذ المال كله، مال ابن ابنه دون إخوته، فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب.
5. أما الجدة فأجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأم الأب، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم، واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فقالت طائفة: لا ترث الجدة وابنها حي، روي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقالت طائفة: ترث الجدة مع ابنها، روي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الأشعري، وقال به شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم، وروى الترمذي عن عبد الله قال في الجدة مع ابنها: إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سدسا مع ابنها وابنها حي، والله أعلم.
6. اختلف العلماء في توريث الجدات، فقال مالك: لا يرث إلا جدتان، أم أم وأم أب وأمهاتهما، وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي، وقال به جماعة من التابعين، فإن انفردت إحداهما فالسدس لها، وإن اجتمعتا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما، وكذلك إن كثرن إذا تساوين في القعدد، وهذا كله مجمع عليه، فإن قربت التي من قبل الأم كان لها السدس دون غيرها، وإن قربت التي من قبل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعدت، ولا ترث إلا جدة واحدة من قبل الأم، ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال، هذا مذهب زيد بن ثابت، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك، وهو قول مالك وأهل المدينة، وقيل: إن الجدات أمهات، فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن، كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم و، فكذلك البنون والإخوة، وبنو الإخوة وبنو العم إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم، فكذلك الأمهات، قال ابن المنذر: وهذا أصح، وبه أقول، وكان الأوزاعي يورث ثلاث جدات: واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب، وهو قول أحمد بن حنبل، رواه الدارقطني عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسلا، وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا، أنه كان يورث ثلاث جدات: ثنتين من جهة الام وواحدة من قبل الأب، وقول علي كقول زيد هذا، وكانا يجعلان السدس لأقربهما، من قبل الأم كانت أو من قبل الأب، ولا يشركها فيه من ليس في قعددها، وبه يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور، وأما عبد الله بن مسعود وابن عباس فكانا يورثان الجدات الأربع، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، قال ابن المنذر: وكل جدة إذا نسبت إلى المتوفى وقع في نسبها أب بين أمين فليست ترث، في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
7. ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس، وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء، فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلأبويه لكل واحد منهما السدس، وما بقي فللابن، فإن ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان، وما بقي فلا قرب عصبة وهو الأب، لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين: التعصيب والفرض، ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فأخبر جل ذكره أن الأبوين إذا ورثاه أن للأم الثلث، ودل بقوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ وإخباره أن للأم الثلث، أن الباقي وهو الثلثان للأب، وهذا كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول ل أحدهما: أنت يا فلان لك منه ثلث، فإنك حددت للآخر منه الثلثين بنص كلامك، ولأن قوة الكلام في قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ يدل على أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره، وليس في هذا اختلاف، قلت: وعلى هذا يكون الثلثان فرضا للأب مسمى لا يكون عصبة، وذكر ابن العربي أن المعنى في تفضيل الأب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة، ووجوب المئونة عليه، وثبتت الأم على سهم لأجل القرابة، قلت: وهذا منتقض، فإن ذلك موجود مع حياته فلم حرم السدس، والذي يظهر أنه إنما حرم السدس في حياته إرفاقا بالصبي وحياطة على ماله، إذ قد يكون إخراج جزء من ماله إجحافا به، أو أن ذلك تعبد، وهو أولى ما يقال، والله الموفق.
8. سؤال وإشكال: إن قيل: ما فائدة زيادة الواو في قوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾، وكان ظاهر الكلام أن يقول: فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه، والجواب: قيل له: أراد بزيادتها الإخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت فيخبر عن ثبوته واستقراره، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الإخوة كالولد، وهذا عدل في الحكم، ظاهر في الحكمة، والله أعلم.
9. ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ قرأ أهل الكوفة ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ وهي لغة حكاها سيبويه، قال الكسائي: هي لغة كثير من هوازن وهذيل، ولأن اللام لما كانت مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة، فأبدلوا من الضمة كسرة، لأنه ليس في الكلام فعل، ومن ضم جاء به على الأصل، ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم، قال جميعه النحاس.
10. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، وسواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم، ولا سهم لهم، وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: السدس الذي حجب الإخوة الأم عنه هو للإخوة، وروي عنه مثل قول الناس إنه للأب، قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم، لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم، وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم، أو من أب أو من أم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، إلا ما روي عن ابن عباس أن الاثنين من الإخوة في حكم الواحد، ولا يحجب الأم أقل من ثلاث، وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس، لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق، قال الكيا الطبري: ومقتضى أقوالهم ألا يدخلن مع الإخوة، فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات، وذلك يقتضي ألا تحجب الأم بالأخ الواحد والأخت من الثلث إلى السدس، وهو خلاف إجماع المسلمين، وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة كن مرادات على الانفراد، واستدل الجميعبأن أقل الجمع اثنان، لان التثنية جمع شي إلى مثله، فالمعنى يقتضي أنها جمع، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الاثنان فما فوقهما جماعة)، وحكي عن سيبويه أنه قال: سألت الحليل عن قوله (ما أحسن وجوههما)؟ فقال: الاثنان جماعة، وقد صح قول الشاعر:
çومهمهين قذفين مرتين...ظهراهما مثل ظهور الترسينé
وأنشد الأخفش:
çلما أتتنا المرأتان بالخبر...فقلن إن الأمر فينا قد شهرé
وقال آخر:
çيحيى بالسلام غني قوم...ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء...إذا ماتوا وصاروا في القبورé
ولما وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان: إن قومك حجبوها ـ يعني قريشا ـ وهم أهل الفصاحة والبلاغة، وممن قال: إن أقل الجمع ثلاثة ـ وإن لم يقل به هنا ـ ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/68.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ أي: لأبوي الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ بدل من قوله: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ بتكرير العامل للتأكيد والتفصيل، وقرأ الحسن، ونعيم بن ميسرة (السدس) بسكون الدال، وكذلك قرءا: الثلث، والربع إلى العشر: بالسكون، وهي لغة بني تميم وربيعة، وقرأ الجمهور: بالتحريك ضما، وهي لغة أهل الحجاز وبني أسد في جميعها، والمراد بالأبوين: الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب: للتغليب.
2. اختلف العلماء في الجد: هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته، فقال بقول أبي بكر ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعطاء، وطاووس والحسن وقتادة، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وإسحاق، واحتجوا بمثل قوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ارموا يا بني إسماعيل)، وذهب علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود: إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب، ولا ينقص معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد، ومالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وقيل: يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس، ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة، وذهب الجمهور: إلى أن الجد يسقط بني الإخوة، وروى الشعبي عن علي: أنه أجرى بني الإخوة في القاسمة مجرى الإخوة، وأجمع العلماء: على أن الجد لا يرث مع الأب شيئا، وأجمع العلماء: على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا: على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا: على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ.
3. اختلفوا في توريث الجدة وابنها حيّ، فروي عن زيد بن ثابت، وعثمان، وعلي: أنها لا ترث وابنها حيّ، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وروي عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى: أنها ترث معه، وروي أيضا: عن عليّ، وعثمان، وبه قال شريح، وجابر بن زيد، وعبيد الله ابن الحسن، وشريك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.
4. ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ الولد: يقع على الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود من الذكر من الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم: فليس للجد إلّا السدس، وإن كان الموجود أنثى: كان للجد السدس بالفرض، وهو عصبة فيما عدا السدس، وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.
5. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي: ولا ولد ابن، لما تقدّم من الإجماع ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ منفردين عن سائر الورثة، كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلّا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين: فليس للأم إلّا ثلث الباقي بعد الموجودين من الزوجين، وروي عن ابن عباس: أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين.
6. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ إطلاق الإخوة يدل: على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو ل أحدهما، وقد أجمع أهل العلم: على أن الاثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى السدس، إلّا ما يروى عن ابن عباس: أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب، وأجمعوا أيضا: على أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب الأم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/498.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى بعد ميراث الأولاد، ميراث الوالدين فقال: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ أي الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، والمراد بالأبوين الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ من المال ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ذكر أو أنثى.
2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ﴾ للميت ﴿وَلَدَ﴾ ذكر أو أنثى ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أي ثلث المال مما ترك، والباقي للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن، لا منفردة، حطّا لها عن درجتها، لقيام البنت مقام الميت في الجملة، قاله المهايميّ.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ﴾ أي للميت ﴿إِخْوَةٌ﴾ من الأب والأم، أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ يعني لأم الميت سدس التركة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/41.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلأَبَوَيْهِ﴾ أبوي الميِّت ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ﴾ بدل بعض من (لأَبَوَيْهِ) والبعضيَّة باعتبار ما بعد اللام ﴿مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ لو قال: (لأبويه السدسان) لكان ظاهرًا في قسمتهما سواء بينهما محتملاً للمفاضلة، ولو قال: (لأبويه السدس) لكان ظاهرًا في اشتراكهما في السدس، ولو قال: (لِكُلِّ واحد من أبويه السدس) فاتت نكتة الإجمال والتفصيل من بيان بعد إجمال، وهو أدخل في النفس، ومن الذِّكْر مرَّتين.
2. ﴿إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ مفرد أو متعدِّد، ذكر أو أنثى أو خنثى، ومثله ولد الابن ولو سفل، بل قد يدخل في الآية، والباقي عن نصف البنت أو ثلثي البنتين للأب بالعصبة مع سدسه، وإن كان الولد ذكرًا أو مع أنثى فما للأب إلَّا سدس والباقي للأولاد، وكالأب الجدُّ، ﴿فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ﴾ ذكر ولا أنثى ولا ولد ابن كذلك ولو سفل ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ فقط ﴿فَلأُمِّهِ الثُّلثُ﴾ والباقي للأب بالعصبة وهو الثلثان.
3. فإِن ورثه أحد الزوجين أو الأزواج معهما كان للأمِّ ثلث ما بقي عن فرض الزوج الذكر، أو عن فرض الزوج الأنثى، أو الزوجين الأنثيين فصاعدًا، حتَّى يكون ميراث الأب والأمِّ أثلاثًا بينهما كذلك، وقال ابن عبَّاس: لها ثلث كامل، ووافقه ابن سيرين في الزوج الأنثى مع الأبوين؛ لأنَّه لا يفضي إلى أن يكون للأنثى أكثر من حظِّ الذكر، بخلاف الزوج الذكر فيفضي إلى أن يكون لها أكثر مِمَّا له مع تساويهما في الأبوَّة والقرب، وألَّفتُ رسالة في تصحيح مذهب ابن عبَّاس ولو كان لا يُفتى به، وإن أُفتي به نُقض عند بعض شرَّاح الزقاق والجمهور، ولا ينقضه أبو عبد الله الغرناطي، كيف ينقض مع أنَّه الحقُّ!؟ وليس زيد بن ثابت جبريل الفرائض، ولا نحن حمر الفرائض!.
çشَمِّر وكن في أمور الدِّين مجتهدًا...ولا تكن مثل عيرٍ قِيدَ فانقادَاé
وبسطت المسألة في شرح النيل وشرح الدعائم، وإن ورثه الجدُّ وأحد الزوجين فللأم ثلث المال.
4. ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ شقيقون أو أبويُّون أو أُميُّون ذكور أو ذكور وإناث أو إناث، وصحَّ اللفظ لهنَّ لأنَّه لم يقصد لهنَّ على استقلال، وأمَّا اثنان أو اثنتان، أو أخ وأخت فللأم معهما الثلث لظاهر الجمع عند ابن عبَّاس، وقال الجمهور: إنَّ لها السدس، وإنَّ المراد بالإخوة اثنان فصاعدًا، ﴿فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ والباقي للأب أو الجدِّ، وإن لم يكونا فللأشقَّاء، وإن لم يكونوا فللأبويِّـين، إِلَّا الثلث فللأمِّـيِّين اثنين فصاعدًا، وقال ابن عبَّاس: ثلاثة مع الأشقَّاء أو الأبويِّـين، وقال: إنَّ للإخوة السدس الذي حجبوا عنه الأمَّ، وإنَّ الأخوات الإناث وحدهنَّ لا يحجبنها إلى السدس، وقال ابن عبَّاس لعثمان: (الأَخَوَانِ في لسان قومك غير الإخوة، وكذلك الإخوة غير الأخوات) فأجاب بـ (إنِّي لا أستطيع ردَّ قضاء قُضيَ به في الأمصار، وقُضي به قبلي)
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/129.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم انتقل من حكم الأولاد إلى حكم الوالدين، وهم في المرتبة الثانية من مستحقي الأقربين الذين يتصلون بالميت بغير واسطة فقال: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ أي أبوي الميت وهو معلوم من السياق لا يتوقف الذهن في ذلك ﴿ولكل واحد منهما السدس مما ترك﴾ فهما سواء في هذه الفريضة لا يتفاضلان فيها كما يتفاضل الذكور والإناث من الأولاد والأخوات والأزواج وذلك لعظم مقام الأم بحيث تساوي الأب بالنسبة إلى ولدهما وإن كانا يتفاضلان في الزوجية وغيرها.
2. وهذا ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي كان للميت ولد واحد فأكثر، وما زاد عن الثلث الذي يتقاسمه الوالدان يكون لأولاده على التفصيل المتقدم فيهم ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ﴾ ما لا ولد صلب ولا ولد ابن أو ابن ابن الخ ﴿وورثاه أبواه﴾ فقط ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما.
3. وههنا يدخل الأبوان في قاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين) كل في طبقته، وإنما تساويا مع وجود الأولاد ليكون احترامهم لهما على السواء على أن الأب لا يفضل الأم هنا بالفرضية بل له السدس فرضا ويأخذ الباقي بالتعصيب إذ لا عصبة هنا سواه، وإنما كان حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد لأنهما يكونان في الغالب أقل حاجة من الأولاد إما لكبرهما وقلة ما بقي من عمرهما وإما لاستقلالهما وتمولهما وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء، وأما الأولاد فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقة الزواج وتربية الأطفال فلهذا وذاك كان حظهم من الإرث أكثر من حظ الوالدين.
4. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ أي الميت مع إرث أبويه له ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ مما ترك سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو من أحدهما كل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس ولا يحجبها الواحد، واختلفوا في الأخوين أو الأختين فأكثر الصحابة على أنهما كالجمع في حجب الأم من الثلث إلى السدس وعليه العمل من الصدر الأول، وخالف فيه ابن عباس فقد روي أنه قال لعثمان: ثم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار، فقول ابن عباس إن الاثنين لا يعدان جمعا وإجازة عثمان له حجة على أن أقل الجمع ثلاثة؛ وهو المختار عند جمهور علماء الأصول وقال بعضهم إن أقله اثنان وهو مذهب أبي بكر الباقلاني واحتجوا له بقوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] وليس للمخاطبتين بهذا إلا قلبان، وهو احتجاج ضعيف فالعرب إنما تجمع المثنى إذا أضافته إلى ضميره كراهة الجمع بين تثنيتين، واحتجوا بحديث (الاثنان فما فوقهما جماعة) وهو حديث ضعيف رواه ابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث أبي موسى، ويقويه حديث أبي أمامة عند أحمد (هذان جماعة) وما أورده البخاري في معناه ولكن الكلام في هذه الأحاديث ليس في الجمع اللغوي وإنما هو في أقل ما تحصل به فضيلة صلاة الجماعة، وهو إمام ومأموم، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ [النساء: 11] فوصف النساء بالزيادة على اثنتين يفيد أن لفظ النساء يطلق على الاثنتين، وهو كما ترى ليس بقوي ولو كان القرآن يدل على ذلك لما قال ابن عباس ما قاله ووافقه عليه عثمان، جرى على ذلك جمهور الأصوليين فقالوا إن صيغة الجمع وحقيقته في الثلاثة فما فوق، فإن استعملت في الاثنين كانت مجازا.
5. إذا ما هو دليل الجمهور على حجب الأم بالأخوين وبالأختين، وهو ما قضى به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء، وليس ابن عباس بأعلم منهم ولا أدق فهما في القرآن؟ الظاهر لنا أن اللغة إذا لم تدل في أصلها على دخول الاثنين في إطلاق صيغة الجمع ولو على قلة، بمثل ما ذكرناه آنفا من الشواهد، فلنا أن نقول: إن الشرع قد جعل للاثنين حكم الجمع في صلاة الجماعة والإرث، إذ جعل للأختين والبنتين الثلثين كالجمع من البنات والأخوات إذا لم يكن هنالك ذكر كما تقدم آنفا؛ وإذا جاز لنا أن نقول: إن البنتين المسكوت عنهما كالأختين المنصوص عليهما، والأخوات المسكوت عنهن كالبنات المنصوص عليهن، لأنه تعالى بين في أحكام كل منهما ما حذف نظيره من مقابله وحذف من كل منهما ما بين نظيره في الآخر على طريقة الاحتباك كقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾ [الجن: 20] أي لا ضرا ولا نفعا ولا رشدا ولا إغواء، وقوله: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان: 12] أي لا شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا ـ إذا جاز هذا وعددناه من منطوق القرآن أو مفهومه، أفلا يجوز لنا أن نقول: إن الأخوين والأختين لهما حكم الإخوة والأخوات في حجب الأم أيضا لأنه تقرر عدم الفصل في هذا المقام بين المثنى والجمع؟ بلى، وبهذا عمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء ومن بعدهم، فخلاف ابن عباس بناء على ظاهر استعمال اللغة لا ينافي هذا الاصطلاح الشرعي واللغة على وضعها، ولا مشاحة في الاصطلاح.
6. لكن له ههنا رأيا آخر يخالف فيه الجمهور، ربما كان أقرب مما قالوا إلى المعقول، وهو أن الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس يأخذون السدس الذي حجبوها عنه وما بقي يكون للأب، فهو يرى أنه لا معنى لحجبهم إياها إلا أخذهم لما نقص من فرضها وهو المعهود في سائر مسائل الحجب، فإن من لا يرث لا يحجب، ولا يعقل أن يكون وجودهم سببا لزيادة نصيب الأب فقط وأما الجمهور فيقولون: إن الآية بينت أنهم يحجبون وليس فيها أنهم يأخذون شيئا فيكون ما بقي ـ وهو خمسة أسداس ـ كله للأب، سدس منه بالفرض لأن فرضه كفرضها والباقي بالتعصيب، فقول الجمهور هنا أقرب إلى لفظ القرآن، وقولهم السابق أقرب إلى معناه، وقول ابن عباس بالعكس في الموضعين.
7. ذكرت الآية حكم الأبوين مع الولد وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر وحكمهما مع الإخوة، وبقي حكمهما مع الزوج وإن شئت فقل أحد الزوجين، وفي هذه المسألة خلاف بين جمهور الصحابة وابن عباس فالجمهور على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا والربع إن كان أنثى، ويكون الباقي للأبوين ثلثه للأم وباقيه للأب، وقال ابن عباس: يأخذ الزوج نصيبه وتأخذ الأم الثلث أي ثلث التركة كلها ويأخذ الأب ما بقي، وقال: لا أجد في كتاب الله الثلث الباقي، وفي المسألة صورتان أو هما مسألتان، ويسميهما الفرضيون بالعمريتين وبالغراوين بالغريبتين:
أ. إحداهما: زوجة وأبوان للزوجة الربع وهو 3 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور وهو 3 وللأب الباقي وهو 6 فيجري حظ الأبوين على قاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين)، وللأم ثلث الأصل على رأي ابن عباس وهو 4 من 12 وللأب الباقي وهو 5 فلا يجري على القاعدة.
ب. الثانية: زوج وأبوان، للزوج النصف 6 من 12 وللأم ثلث الباقي عند الجمهور 2 من 12 وللأب الباقي 4 على القاعدة، وأما على رأي ابن عباس فللأم ثلث الأصل وهو 4 من 12 وللأب الباقي وهو اثنان، فيكون على عكس القاعدة إذ يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، فرأي الجمهور هو الموافق للقرآن في القاعدة التي تقررت في كل من الأولاد والإخوة وفي الوالدين مع الإخوة كما تقدم وفي الزوجين كما في الآية التالية؛ وابن عباس وافق ظاهر اللفظ فقط.
8. من الاعتبار في هذا: أن حقوق الزوجية مقدمة في الإرث على حقوق الوالدين، فإن الوالدين إنما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته، قال بعضهم في توجيه هذا: إن الزوجين لما كانا يتوارثان بالزوجية العارضة لا بالقرابة كان فرضهما من قبيل الوصية له التقديم ويؤخذ من أصل التركة ويقسم الباقي بين الوالدين الوارثين بالقرابة، ونقول: لو كان كذلك لاطرد تقديم فرض الزوج مع الأولاد والإخوة فقدم كالوصية وقسم الباقي بين الأولاد أو الإخوة وليس الأمر كذلك وإنما وجهه عندي أن حق الأزواج في الأموال والنفقات آكد من حق الوالدين وإن كانا أشرف وأجدر من الزوج بالاحترام، ذلك أن الوالدين يكونان عند زواج الولد عريقين في الاستقلال بأنفسهما في المعيشة من جهة وأقل حاجة إلى المال من الأولاد وأزواجهم الذين أو اللواتي في سنهم غالبا لانصرام أكثر أعمارهما ولأنهما إذا احتاجا إلى مال الأولاد كان ذلك على مجموع أولادهما، وأما الزوجان فإنهما يعيشان مجتمعين كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف ماهيته ويكون ذلك بانفصال كل منهما عن والديه لاتصاله بالآخر، فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ولهذا تقرر في الشريعة أن يكون حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأول فإذا لم يجد إلا رغيفين وسد رمقه بأحدهما وجب عليه أن يجعل الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه، فصلة الزوجية أشد وأقوى صلة حيوية اجتماعية حتى أن صلة البنوة فرع منها وإن كان حق الأولاد أقوى من جهة أخرى كما تقدم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/416.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي ولكل من أبوى الميت السدس مما ترك الولد على السواء في هذه الفريضة إن كان لهذا الميت ولد فأكثر والباقي بعد هذا الثلث يقسمه الأولاد بحسب التفصيل المتقدم.
2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أي فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما، والسر في تساوى الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد، الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء، وفي أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد، أنهما يكونان في الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد، إما لكبرهما وإما لتمولهما، وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء؛ وأما الأولاد، فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب، وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقات كثيرة في الحياة كالزواج وتربية الأطفال ونحو ذلك.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ أي فإن كان للميت مع إرث أبويه له إخوة فلأمه السدس مما ترك، سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو أحدهما، فكل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس، وحكم الأخوين أو الأختين حكم الإخوة عند أكثر الصحابة، وخالف في ذلك ابن عباس فقد أثر عنه أنه قال لعثمان: بم صار الأخوان يردّان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ والأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار (يريد عثمان أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء أقاموا الاثنين مقام الجماعة في اعتبار الشرع لا في اعتبار اللغة) والخلاصة ـ إن الآية ذكرت حكم الأبوين مع الولد، وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر، وحكمهما مع الإخوة، ولم يبق إلا حكمهما مع أحد الزوجين، وجمهور الصحابة على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا، والربع إن كان أنثى، والباقي للأبوين، ثلثه للأم وباقيه للأب، وقال ابن عباس يأخذ الزوج نصيبه، وتأخذ الأم ثلث التركة كلها، ويأخذ الأب ما بقي، وقال لا أجد في كتاب الله ثلث الباقي.
4. من هذا تعلم أن حقوق الزوجية في الإرث مقدمة على حقوق الوالدين، إذ أنهما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته، وسرّ هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة، ذاك أنهما يعيشان مجتمعين وجود كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف شخصه، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال، فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأول، فإذا لم يجد الرجل إلا رغيفين سدّ رمقه بأحدهما ووجب عليه أن يعطى الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/198.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين ـ عند وجودهما ـ في الحالات المختلفة، مع وجود الذرية ومع عدم وجودها: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، والأبوان لهما في الإرث أحوال:
أ. الحال الأول: أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته: للذكر مثل حظ الأنثيين، فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب، أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين، ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس.
ب. والحال الثاني: ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة، وينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب، فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين، فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف، أو الزوجة الربع، وأخذت الأم الثلث (إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم.
ج. والحال الثالث: هو اجتماع الأبوين مع الإخوة ـ سواء كانوا من الأبوين أو من الأب، أو من الأم ـ فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا، لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر؛ ولكنهم ـ مع هذا ـ يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها معهم السدس فقط، ويأخذ الأب ما تبقى من التركة، إن لم يكن هناك زوج أو زوجة، أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث، فيفرض لها الثلث معه، كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/592.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي ويوصيكم الله أن تفرضوا لأبوى المتوفّى، لكل واحد منهما السّدس من التركة، وذلك ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ذكرا كان أو أنثى.
2. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أي إن لم يكن للمتوفّى فرع كاين أو بنت، أو ابن ابن، ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ أي انحصر الميراث فيهما ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ وللأب الباقي وهو الثلثان.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ اثنان فأكثر.. أشقاء، أو لأب.. ذكورا أو إناثا، ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ أي أن نصيبها مع وجود الإخوة ينتقل من (الثلث) إلى (السّدس)، وهذا الانتقال لصالح الأب، لأن الأخوة لا يأخذون مع وجود الأب شيئا.. وإنما هم يؤثّرون على نصيب الأم فقط، ويحجبونها حجب نقصان، والعلة في هذا أن الأب هو الذي من شأنه أن يرعى إخوة المتوفّى، الذين هم أبناء هذا الأب، فانتقل ما كان يمكن أن يكون لهم إلى أبيهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/711.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ الضمير المفرد عائد إلى الميّت المفهوم من قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ إذ قد تقرّر أنّ الكلام في قسمة مال الميّت، وجاء الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان، فلذلك لم يقل: ولكلّ من أبويه السدس، وهو كقوله السابق: ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾
2. ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ زاده للدلالة على الاقتصار أي: لا غيرهما، ليعلم من قوله: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أنّ للأب الثلثين، فإن كان مع الأمّ صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها، واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين: فقال ابن عباس: للزوج أو الزوجة فرضهما وللأمّ ثلثها وما بقي للأب، حملا على قاعدة تعدّد أهل الفروض، وقال زيد بن ثابت: لأحد الزوجين فرضه وللأمّ ثلث ما بقي وما بقي للأب، لئلا تأخذ الأمّ أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء، وفي (سنن ابن أبي شيبة): أنّ ابن عباس أرسل إلى زيد (أين تجد في كتاب الله ثلث ما بقي) فأجاب زيد: (إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي)، وقد علم أنّ للأب مع الأمّ الثلثين، وترك ذكره لأنّ مبني الفرائض على أنّ ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أنّ الإخوة يحجبون الأمّ فينقلونها من الثلث إلى السدس، والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنّها لا ينقلها إلى السدس إلّا جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعدا ذكورا أو مختلطين، وقد اختلف فيما دون الجمع، وما إذا كان الإخوة إناثا: فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأمّ، والأختان أيضا، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية، أمّا الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأمّ والله أعلم بحكمة ذلك، واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأمّ: هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب، فقال بالأوّل ابن عباس وهو أظهر، وقال بالثاني الجمهور بناء على أنّ الحاجب قد يكون محجوبا، وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظّا مع وجود الأبوين في حالة خاصّة، ولو كان الإخوة مع الأمّ ولم يكن أب لكان للأمّ السدس وللأخوة بقية المال باتّفاق، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/48.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ هذا ميراث الأبوين، وقد ذكر القرآن الكريم حالا يشترك فيها الأب والأم، وهى أن يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد، والمراد من الولد الفرع الذي لا يتوسط بينه وبين المتوفى أنثى، وذلك عند الجمهور، وعند الشيعة الإمامية: كل من يتصل إلى الميت من الفروع بطريق الإناث أو الذكور فهو ولد.
2. والأب قد يأخذ مع السدس باقى التركة إذا كان للمتوفى فروع من الإناث فقط، فإنه عند الجمهور يأخذ السدس مع الباقى، والباقى ثبت بقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما بقى بعد أصحاب الفروض فلأقرب رجل ذكر) فبهذا الحديث يأخذ الباقى، وبنص الآية يأخذ السدس.
3. وحالا ثانية ذكرها للأم صراحة، وللأب ضمنا، فقال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فإن هذا النص يفيد أمرين:
أ. أحدهما ـ أن الميراث للأبوين إن لم يكن أولاد.
ب. وثانيهما: أنه يكون للأم الثلث، وما دام الميراث منحصرا في الأبوين؛ فإنه يكون للأم الثلث والباقى للأب.
4. سؤال وإشكال: إذا كان معهما زوج أو زوجة، فهل الآية تفيد الحكم؟ والجواب: إنها لا تفيده صراحة، بل تفيده ضمنا، وذلك أنها قررت أنه في حال انحصار الإرث في الأبوين يكون نصيب الأم الثلث، ونصيب الأب الثلثين فهذه الآية قد حدّدت النسبة، أي أن نصيب الأم يكون على النصف من نصيب الأب، وبتطبيق ذلك على حال وجود أحد الزوجين، فإن أحدهما يأخذ فرضه وتأخذ الأم ثلث الباقى، ويأخذ الأب ثلثيه، وهذا رأى ابن مسعود وزيد، وعلى، على أرجح الروايتين عنه، وعمر وعثمان، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار، وهناك رأيان آخران:
أ. أحدهما: أنها تأخذ ثلث التركة كلها، وقد أخذ هذا القول من صريح الآية، وهو يؤدى إلى ألا يكون نصيب الأم على النصف من نصيب الأب، بل يؤدى إلى أن الأب يأخذ أقل من الأم، كأن يكون زوج وأم وأب، فإن الزوج يأخذ النصف والأم تأخذ الثلث، والأب يأخذ الباقى وهو السدس، أي أن الأب يأخذ نصف نصيب الأم، وهذا الرأي رأى الإمامية، وفيه شذوذ كما ترى، وقد نسب إلى ابن عباس، وقيل إنه روى عن على ومعاذ بن جبل.. وهو أسلم الآراء، وهو أوضحها وأعدلها.
ب. الثاني: أنها تأخذ ثلث الكل في حال ما إذا كانت زوجة وأب وأم، وتأخذ ثلث الباقى إذا كانت المسألة فيها زوج بدل الزوجة، وذلك لكى لا يأخذ الأب أقل من الأم.
5. وحالا ثالثة بالنسبة للأم أنها تأخذ السدس إذا كان هناك إخوة أو أخوات زادوا على واحد، فإنها تأخذ السدس، وهذه الحال خاصة بالأم؛ لأن الأب لا يؤثر في نصيبه على الإخوة والأخوات، بل إنهم لا يرثون معه.
6. هذا ميراث الأولاد والأبوين، وقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ حكمة ذلك وأكد تقسيمه بقوله سبحانه: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ يبين الله أن هذه قسمته، ولا يصح أن تحكّموا أهواءكم في أموالكم بعد وفاتكم، فإنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، آباؤكم أو أبناؤكم؛ لأنه عند حكم الهوى يفقد العقل تقديره وميزانه فلا يدرى أين يكون النفع، وقد صدر الآية بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم، ومع ذلك لا يعلمون النافع منهم، وقد أكد الله معنى هذا التقسيم بتأكيدين:
أ. أحدهما: قوله سبحانه ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي فرض الله ذلك فريضة وقدره تقديرا فلا يجوز خلافه، لأنه تقدير الله وقسمته، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله جلت قدرته ـ التأكيد
ب. الثاني: قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فإن الله تعالى ذيل النص الكريم بهذه الآية تأكيدا للنفع في هذا التقسيم؛ لأن الله هو الذي قسّم تلك القسمة العادلة، وهو كان دائما عليما حكيما، يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وهو يدبر الأمر على مقتضى هذا العلم، وبحكمته سبحانه، وهو العزيز الحكيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1604.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾، يطلق الولد على الذكر والأنثى، لأن لفظه مشتق من الولادة الشاملة للابن والبنت، وقد استعمل القرآن لفظ الأولاد في الذكور والإناث، قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وقال: ﴿ما كان لله أن يتخذ ولدا﴾، والمراد بأبويه هنا خصوص الأب والأم، ولا يدخل فيهما الجد والجدة.
2. فإذا ترك الميت أبوين وأولادا ينظر: فإن كان في الأولاد ذكر أخذ كل من الأبوين السدس، والباقي للأولاد، حتى ولو لم يكن إلا ذكر واحد، وان لم يكن ذكر، وكان الأولاد بنتين فأكثر أخذ الأبوان الثلث، والثلثان للبنات باتفاق المسلمين جميعا، وان كان مع الأبوين بنت واحدة فلكل منهما السدس، وللبنت النصف بالفرض، يبقى سدس، يرد على الأب فقط عند السنة، وعلى الأب والأم والبنت عند الشيعة، إذا لم تحجب الأم بالاخوة، ويقتسمون التركة أخماسا، واحدا منها للأب، وواحدا للأم، وثلاثة للبنت، وان حجبت الام بالاخوة يرد على الأب والبنت فقط أرباعا، أي ان الزائد يقسّم أربعة أسهم، واحد منها للأب، وثلاثة للبنت.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، إذا لم يكن للميت ولد، ولا ولد ولد، وانحصر ميراثه بأمه وأبيه أخذت الأم الثلث ان لم يكن للميت أخوة يحجبونها عما زاد عن السدس، فإن كان له أخوة أخذت السدس فقط، والباقي في الحالين للأب، واختلفت المذاهب في عدد الاخوة الذين يحجبون الأم.. قال المالكية: أقل ما يحجبها اثنان من الاخوة، دون الأخوات، وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: اثنان من الاخوة أو الأخوات، وقال الامامية: اخوان أو أخ واختان، أو أربع أخوات، على شريطة أن يكونوا أخوة أو أخوات للميت من أبيه وأمه، أو من أبيه فقط، وان يكونوا منفصلين عند موت المورّث لا حملا، وان يكون الأب حيا، وهؤلاء الاخوة يحجبون عن الميراث، ولا يرثون.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/266.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ إلى قوله: ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، وقوله: وورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما.
2. في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ إلخ بعد قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾، دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/210.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أبويه لأبيه وأمه إن كان له ولد ذكر أو أنثى ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فإن ورثه مع الأبوين غيرُهما ـ ولا يتصور ذلك إلا إذا كان الزوج ـ فإنه ينقص ميراث الأم عن الثلث؛ لأن الزوج يأخذ ميراثه كما يأتي والباقي تأخذ الأم ثلثه وللأب الباقي.
2. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ مع أنه لا شيء للإخوة مع وجود الأب لكنه يعود لهم إذا مات الأب قبلهم، قال الشرفي في (المصابيح): (لا خلاف أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس وأن الثلاث يحجبن، واختلفوا في الثنتين فكل الصحابة والتابعين على أنهما كالثلاث، غير ابن عباس فإنه لا يحجب بهما، وقد سقط خلافه بإجماع التابعين)، وهذا مشكل ففي (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) من حديثٍ: عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام: (وكان يحجب الأم بالأخوين ولا يحجبها بالأختين، وكان لا يحجبها بأخ وأخت، وكان لا يحجب بالأخوات إلا أن يكون معهن أخ لهن)، قال في شرحه في (تتمة الروض النضير): (وقد قال زيد بن ثابت لما أنكر ـ أي ابن عباس ـ حجبها بالأخوين: إن العرب تسمي الأخوين إخوة كما أخرجه الحاكم وصححه وقال هو على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، ورواه البيهقي في (سننه) ثم احتج صاحب التتمة بقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾، فقوله: ﴿أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ يصدق بالإثنين، وقد تناولهما ضمير الجمع، وقوله تعالى: ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾
3. من استعمال لفظ الجمع في المثنى قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: 4] ولعله بسبب الإضافة إلى المثنى فأغنت، وهناك فرق بين استعمال الجمع في عموم الثلاثة فأكثر والإثنين وفي الإثنين وحدهما، فدخولهما في العموم لا يبعد أنه حقيقة بخلاف استعمال الجمع فيهما وحده، وهذا إذا كانا ذكرين، فأما إذا كانا أخاً وأختا أو أختين، فظاهر الحديث في المجموع: أنهما لا يحجبان، وما ذلك إلا لأنهما لا يسميان إخوة؛ لأن فيه جهتين من التغليب: تغليب الجمع على المثنى، والمذكر على المؤنث، واللغة لا تثبت بالقياس، فالعمدة ما صح من النقل، قال في (تتمة الروض): (وقد روى في (الجامع الكافي): أن علياً، وابن مسعود، وزيد بن ثابت: كانوا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس بالإثنين من الإخوة والأخوات)، وقد نص الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) على حجب الأم بالثلاث الأخوات وحدهن، وقد جعل المؤيد بالله حجب الأختين وحدهما للأم بطريق النظر، واعتمد النظر في جعل الإثنين بمنزلة الجمع، قال: لأن إلحاقهما بالثلاثة أقرب من إلحاقهما بالواحد)، وبيَّن لذلك نظائر في المواريث، وطريقة المؤيد بالله عليه السلام أحسن من تحميل القرآن خلاف الظاهر في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/21.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الفقرة من الآية ثلاثة فروض:
أ. أن يكون للميت أبوان وله ولد، واحدا كان أو أكثر؛ فللأبوين السدس والباقي للولد، ويطلق الولد على الذكر والأنثى، لأن اللفظ مأخوذ من الولادة الشاملة للابن والبنت، وقد جاء في القرآن إطلاق كلمة الأولاد على الذكور والإناث، قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وقال تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] والمراد بأبويه هنا خصوص الأب والأم، فلا يشمل الجد والجدة، فإذا كان الميت قد ترك أبوين وأولادا، يلاحظ أنه إن كان في الأولاد ذكر واحد أو أكثر كان للأبوين الثلث والباقي للأولاد وإن كان الأولاد بنتين أو أكثر من دون ذكور، أخذ الأبوان الثلث وكان الثلثان للبنتين، وإن كان مع الأبوين بنت واحدة فلكل منهما السدس وللبنت النصف بالفرض، ويبقى سدس يرد على الأب فقط عند السنة وعلى الأب والأم والبنت عند الشيعة.
ب. أن لا يكون له ولد، فإن الأم ترث الثلث والأب يرث الباقي.
ج. الصورة نفسها مع وجود إخوة للميت، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث ضمن شروط خاصة، واختلف علماء المذاهب الأربعة في عدد الإخوة الذين يحجبون الأم، قالت المالكية: أقل ما يحجبها اثنان من الإخوة دون الأخوات، وقالت الحنفية والشافعية والحنابلة: اثنان من الإخوة والأخوات، وقال الإمامية: أخوان أو أخ وأختان، على شريطة أن يكونوا إخوة للميت من أبيه وأمه، أو من أبيه فقط، وأن يكونوا منفصلين عند موت المورّث ولا حملا، وأن يكون الأب حيا، وهؤلاء الإخوة يحجبون عن الميراث ولا يرثون، فترث الأم سدس التركة والباقي للأب، ولا يرث الإخوة منها شيئا.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/120.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أمّا ميراث الآباء والأمهات الذين هم من الطبقة الأولى، وفي مصاف الأبناء أيضا، فإن له كما ذكرت الآية الحاضرة (أي الآية الأولى من هذه المجموعة) ثلاث حالات هي:
أ. الحالة الأولى: إنّ الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب والأمّ السدس: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾
ب. الحالة الثّانية: إن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والأمّ، ورثت الأمّ ثلث ما ترك، يقول سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ وإذا كنّا لا نجد هنا أي ذكر عن سهم الأب فلان سهمه واضح وبيّن وهو الثلثان، هذا مضافا إلى أنّه قد يخلف الميت زوجة فينقص في هذه الصورة من سهم الأب دون سهم الأم، وبذلك يكون سهم الأب متغيّرا في الحالة الثانية.
ج. الحالة الثالثة: إذا ترك الميت أبا وأمّا وأخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم يترك أولادا، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الأم إلى السدس، وذلك لأن الأخوة يحجبون الأم عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول الله سبحانه: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، وفلسفة هذا الحكم واضحة، إذ وجود أخوة للميت يثقل كاهل الأب، لأن على الأب الإنفاق على أخوة الميت حتى يكبروا، بل عليه أيضا أن ينفق عليهم بعد أن يكبروا، ولهذا يوجب وجود أخوة للميت من الأبوين أو من الأب خاصّة تدني سهم الأمّ، ولا يوجب تدني سهم الأب، ولا يحجبونها عن إرث ما زاد على السدس إذا كانوا من ناحية الأمّ خاصّة، إذ لا يجب لهم على والد الميت شيء من النفقات، كما هو واضح.
2. سؤال وإشكال: يرد هنا سؤال، وهو أن القرآن استعمل في المقام صيغة الجمع إذ قال ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ ونحن نعلم أن أقل الجمع هو ثلاثة، في حين يذهب جميع الفقهاء إلى أن الأخوين يحجبان أيضا، فكيف التوفيق بينهما؟ والجواب: إنّ الجواب يتّضح من مراجعة الآيات القرآنية الأخرى، وإذ لا يلزم أن يكون المراد كلّما استعملت صيغة الجمع، الثلاثة فما فوق، بل استعملت أحيانا على شخصين فقط كما في الآية من سورة الأنبياء ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾، والآية ترتبط بقضاء داود وسليمان، وقد استخدم القرآن الكريم ضمير الجمع في شأنهما، فقال (لحكمهم)، ومن هنا يتّضح أنّه قد تستعمل صيغة الجمع في شخصين أيضا، ولكن هذا يحتاج طبعا إلى قرينة وشاهد، والشاهد في المقام هو ورود الدليل من أئمّة الدين على ذلك، وإجماع المسلمين، إذ أجمع فقهاء المسلمين سنة وشيعة (إلّا ابن عباس) إن الحكم المذكور في الآية يشمل الأخوين أيضا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/133.
12. الوصية والدَّين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈12⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 11]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات(1).
2. روي أنّه قال: إن الدين قبل الوصية، ثم الوصية على أثر الدين، ثم الميراث بعد الوصية، فإن أولى القضاء كتاب الله عز وجل(2).
3. روي أنّه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك(3).
__________
(1) أحمد ٢/٣٣.
(2) من لا يحضره الفقيه 4/143/489.
(3) ابن أبي شيبة ١١/٢٠٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ لأن الله شفع المؤمنين بعضهم في بعض(1).
2. روي أنّه قال: الميراث للولد، فانتزع الله منه للزوج والوالد(2).
3. روي أنّه قال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الثلث كثير(3).
4. روي أنّه قال: الضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾(4).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧١.
(2) عبد الرزاق (١٩٠٣٠.
(3) البخاري ٤/٣.
(4) ابن أبي شيبة في المصنف ١١/٢٠٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿حَكِيمًا﴾ حكيم في أمره(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٤.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾، يعني: ما ذكر من قسمة الميراث(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ حكم قسمه(1).
3. روي أنّه قال في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ فيما بينه وبين الثلث، لغير الورثة، [ولا تجوز وصية لوارث؟]، ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ يعني: يقسم الميراث للورثة من بعد دين على الميت(2).
4. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾، يعني: من غير ضرار، لا يقر بحق ليس عليه، ولا يوصي بأكثر من الثلث مضار للورثة(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٤.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٠.
(3) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٩.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: من أوصى بوصية لم يحف فيها، ولم يضار أحدا؛ كان له من الأجر ما لو تصدق في حياته في صحته(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ١١/٢٠٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ يبدأ بالدين قبل الوصية(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ في الدنيا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ في الميراث لأهله(3).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧٠.
(2) ابن جرير ٦/٤٧١.
(3) ابن جرير ٦/٤٨٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لا تدرون بأيهم أنتم أسعد في الدين والدنيا(1).
2. روي أنّه قال: هو أن يوصي بدين ليس عليه(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٦٩.
(2) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٠.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ وإن الله ـ تبارك وتعالى ـ كره الضرار في الحياة، وعند الموت، ونهى عنه، وقدم فيه، فلا تصلح مضارة في حياة ولا موت(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٨٦، كما أخرج نحوه عبد بن حميد من طريق شيبان كما في قطعة من تفسيره ص ٧٧.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، قال بعضهم: في نفع الآخرة، وقال بعضهم: في نفع الدنيا(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧٢.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠]، فنسختها آية الميراث(1).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ علوم القرآن ٣/٦٦.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أول شي ء يبدأ به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾، قال إنما عنى بذلك: اُولي الارحام في المواريث، ولم يعن أولياء النعمة، فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها(2).
3. روي عن حسين الرزاز، قال: أمرت من يسأل أبا عبد الله المال، لمن هو؟ للاقرب؟ أو العصبة؟ فقال: المال للاقرب، والعصبة في فيه التراب(3).
4. روي أنّه قال: إذا التفت القرابات فالسابق أحق بميراث قريبه، فإن استوت قام كل واحد منهم مقام قريبه(4).
__________
(1) التهذيب 9/171/698.
(2) الكافي 7/76.
(3) الكافي 7/75.
(4) الكافي 7/77.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، يعني: إلى الثلث، أو دين عليه، فإنه يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد الكفن، ثم الوصية بعد ذلك، ثم الميراث(1).
2. روي أنّه قال: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، يعني: في الآخرة، فيكون معه في درجته، وذلك أن الرجل يكون عمله دون عمل ولده، أو يكون عمله دون عمل والده، فيرفعه الله ـ عز وجل ـ في درجته لتقر أعينهم(1).
3. روي أنّه قال: لا يوصي لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة، فذلك قوله سبحانه: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾، يعني: هذه القسمة فريضة من الله(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦١.
(2) تفسير مقاتل ١/٣٦١.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ أيهم خير لكم في الدين والدنيا، الوالد أو الولد الذين يرثونكم؟ لم يدخل عليكم غيرهم، فرضي لهم المواريث، لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧٢.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ذكر الله تعالى الوصية قبل الدين، وأجمع أهل العلم أن الدين يبدأ به قبل الوصية والميراث، روى عن على قال تقرؤون الوصية قبل الدين، وقضى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدين قبل الوصية، وروى عن على قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدّين قبل الوصيّة، والوصيّة قبل الميراث، ولا وصيّة لوارث)
2. أجمعوا أنه إذا قضى الدين ـ دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث؛ إن لم يجز الورثة، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض الله تعالى.
3. ليس معنى قول الله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ـ أن يخرج الثلث، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة؛ لأن الموصى له شريك الورثة؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم، ولكن معناه: من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا، ثم لم يذكر في الآية قدر الدين والوصية، ومن قولهم: إن الدين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية، وإذا لم يحط لم يمنع.
4. الوصية تجوز قدر الثلث، ولا تجوز أكثر من الثلث، إلا أن يجيز الورثة، والآية لم تخص قدرا من الدّين دون قدر، وكذلك الوصية، لكن تفسيره ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: الثّلث والثّلث كثير)، وما روي في خبر آخر: (إنّ الله تعالى تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم لم يجعل له أكثر من ذلك)، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر وعمر وعثمان ـ ـ: (الخمس اقتصاد، والرّبع جهد، والثّلث حيف)
5. ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من الله تعالى، والقياس يبطلها؛ وذلك أن الله تعالى لم يملك الخلق أعين الأموال؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها؛ ألا ترى أنهم نهوا عن إضاعتها، ولو كان أعين المال لهم لكان لا معنى للنّهى عن إضاعتها؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم، وبالموت ينقطع الانتفاع بها؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت: الغريم صاحب الدين، أو الوارث، وإلا جواز الوصية الإفضال من الله تعالى على عباده بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم)؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده.
6. قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ـ يدل على أن ما ليس بدين ولم يوص به الميت ـ فإنه لا يخرج من ماله، ويدخل عندنا في هذا الجنس: الحج يكون على الرجل، والنذر، والزكاة، وأشباه ذلك، ليس بشيء منها دين، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن ينفذها الورثة.
7. سؤال وإشكال: فإن قال قائل: هي دين كسائر الديون، والجواب: قيل له: أرأيت إن كان عليه دين وزكاة: يبدأ بالدين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله؟ فإن قال يبدأ بالدين؛ قيل له: لو كانت الزكاة دينا كديون الناس كانت في القضاء، فإن قال أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون؛ قيل له: ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون: هل يقسم ماله بين غرمائه؟ فإن قال نعم؛ قيل: فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم؟ فإن قال لا؛ قيل: كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله، ولم تضرب لها بسهم في الحياة، إن كانت كسائر الديون بعد الموت!؟ فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه، وليس يجوز له تأخير قضاء الدين، وفي إقرارك أنك تبدأ بالدين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدين قبل الزكاة بعد الموت.
8. سؤال وإشكال: فإن قيل: قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للمرأة التي سألت: هل تحج عن أبيها؟: (أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيتيه ألم يجز عنه؟) يدل على أن الحج دين، والجواب: قيل له: ليس فيه دلالة الوجوب عليها؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحا؛ فالحج الذي هو دون ذلك في التأكيد أحرى أن يقبل؛ كأنه أراد هذا ودليل آخر: أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي، والنية عمل القلب، ولا خلاف في أنه لا يصلّى عن الميت ولا يصام عنه؛ فلما لم يجز أن يقضى عن الميت على الأبدان، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت.
9. في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ظاهره أنه يقدم الوصية على الميراث، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث، ولكن يوزع؛ فيخرج التأويل على وجوه:
أ. أحدها: أن قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ ـ كأنه سوى، أي: سواء مالكم: أن توصوا، أوصاكم الله فيه ـ بكذا.
ب. الثاني: أن يكون ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، أي: من بعد ما أوصيتم، ويكون الميراث بعد الإيصاء.
ج. ويحتمل: من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدّين ـ أمركم بالمواريث؛ فيكون فيه نسخ قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله عزّ وجل: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل، ويحتمل ألا تبطل؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا﴾ [البقرة: 231] في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك، لكن الإضرار في الرجعة مقصود، وفي هذا مفضول، فيمكن التفريق بين الأمرين، فقال عزّ وجل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ الآيتين، وأوعد جهنم على تعدي هذه الحدود لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة، أو يمتنعون من المداينات، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضى الأجل، وهو به مأمور؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة؛ فلم تجيء منهم التركة، وليس كالعبادات؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات، والديون في الأصول، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات؛ فإنما هي بحق القرب، وهي عمل الأحياء، فإذا ماتوا زال الإمكان، وجرت في الأموال المواريث، وكذا المعروف من الدين المذكور في القرآن من قوله عزّ وجل: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ـ أن العبادات لا توصف بالديون، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل، وهو الحقيقة؛ ألا يكون للمولى على عبده دين؛ فيكون المذكور دينا في الأفعال؛ كما ذكرت العدات دينا في الأخلاق، لا في حقيقة الذمم، مع ما كانت هي لله، وقد جعل الله له فريضة لأقوام بأعيانهم، لا تمنع عنهم إلا بالوصية، كما جعل للموصى، وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض، وسائر الديون تجوز دونه؛ فعلى ذلك بعد الوفاة، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدّت به الوصية، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة، والديون تحتمل، فهي حقوقهم في الحالين.
10. ثم قد ذكر في الدين ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾؛ بل الدين أقرب إلى حرف الثنيا، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع، يقع في الغرماء؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز، فقال أصحابنا (2): لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه؛ لأنه وقت الإيثار، والسخاء بما عنده من المال، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن؛ إذ أخبر أن لهذا نفعا في مال هذا ولهذا نفعا في مال هذا، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من ينتفع بشهادته؛ ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه، أو ابنه، أو والدته له أن يبيع مرابحة، إلا أن يبين؛ لأنه ينتفع به، وقيل: هذا في الآخرة.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾:
أ. روي عن ابن عباس: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء: أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ [لأنه تعالى] يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض.
ب. وقيل: قوله: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ﴾ أنتم في الدنيا ﴿أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، يقول: أخصّ لكم نفعا في الآخرة في الدرجات الوالد لولده، أو الولد لوالده؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعا في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله تعالى إليه ولده في درجته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع الله تعالى الوالدين إلى الولد في درجته؛ لتقر بذلك أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل، وهو كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21]، يعني: بإيمان الآباء، ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ [الطور: 21]، يعني الآباء ﴿مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة، أو لا يدري ما ذلك النفع وما مقداره.
ج. أو يحتمل قوله: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾: ليس على حقيقة القرب؛ ولكن على الكبر والعظم؛ وقد يتكلم بهذا كقوله: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ [الزخرف: 48]: ليس على أن آية هي أكبر من أخرى، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم؛ فعلى ذلك قوله: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ على وصف كل منهم بالنفع؛ على الإعظام والإكبار
د. ويحتمل قوله تعالى: ﴿أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، أي: أوجب؛ كقوله: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56] أي: واجب للمحسنين، وغيره من الآيات.
12. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ سمى الله تعالى المواريث فرائض موضعه، والظالم: هو واضع الشيء في غير موضعه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/48.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، هذا من التقديم والتأخير، والمعنى فيه من بعد دين أو وصية يوصي بها.
2. معنى قوله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، أي آباؤكم وأبناؤكم مشتبهون في النفع لكم، والعرب إذا اشتبهت الأشياء عندهم قالوا: ما ندري أي هذه الأشياء أنفع؟، ويقولون: ما ندري أي هذه الخيل أجود إذا اشتبهت في الجود، قال الشاعر:
çفليته لو أرسلت فيهن مطلقاً... وقالوا تخير ما عليك جناح
لحُرتُ فلا أدري أَبِكْرٌ عزيزة... هتكته ربا العظام رواح
وإلا فغيدا ذات بعل مليحة... لها أرج يشفي الصدا ورياحé
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/236.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ فقدم الدين والوصية على الميراث لأن الدين حق على الميت والوصية حق له وهما مقدمان على حق ورثته ثم قدم الدين على الوصية وإن كان في التلاوة مؤخراً لأن ما على الميت من حق أولى من أن يكون مقدماً على ما له من حق.
2. وقد روينا عن أمير المؤمنين علي: إنكم تقرأون هذه الآية ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية، ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ يعني في الدين والدنيا.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/168.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ فقدم الدين والوصية على الميراث، لأن الدين حق على الميت، والوصية حق له، وهما مقدمان على حق ورثته، ثم قدم الدين على الوصية وإن كان في التلاوة مؤخرا، لأن ما على الميت من حق أولى أن يكون مقدما على ما له من حق، وقد روى ابن إسحاق عن الحارث الأعور عن علي عليه السّلام قال: إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية فإن قيل: فلم قدم ذكر الوصية على الدين إن كان في الحكم مؤخرا؟ قيل لأن ﴿أَوْ﴾ لا توجب الترتيب وإنما توجب إثبات أحد الشيئين مفردا أو مصحوبا، فصار كأنه قال من بعد أحدهما أو من بعدهما.
2. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ يعني في الدين أو الدنيا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/460.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ مفهومه أن الباقي للأب وليس فيه خلاف، فان كان في الفريضة زوج كان له النصف، وللأم الثلث بالظاهر، وما بقي فللأب.
2. من قال: للأم ثلث ما يبقي، فقد ترك الظاهر، وبمثل ما قلناه (2) قال ابن عباس، فان كان بدل الزوج زوجة، كان الأمر مثل ذلك، للزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للأب، وبه قال ابن عباس، وابن سيرين.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ في أصحابنا من يقول: إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب لأن التقدير: فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فان كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس، ومنهم من قال: إن لها السدس مع وجود الاخوة، سواء كان هناك أب أو لم يكن، وبه قال جميع الفقهاء، غير أنا نقول: إن كان هناك أب، كان الباقي للأب، وإن لم يكن أب كان الباقي رداً على الأم، ولا يرث ـ أحد من الاخوة والأخوات مع الأم شيئاً، سواء كانوا من قبل أب وأم أو من قبل أب، أو من قبل أم ـ على حال، لأن الأم أقرب منهم بدرجة، ولا يحجب عندنا من الاخوة إلا من كان من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب، فأما من كان من قبل الأم فحسب، فانه لا يحجب على حال، ولا يحجب أقل من أخوين، أو أخ وأختين، أو أربع أخوات، فأما الأختان فلا يحجبان على حال، وخالفنا جميع الفقهاء في ذلك.
4. فأما الأخوان فلا خلاف أنه تحجب بهما الأم عن الثلث إلى السدس، إلا ما قال ابن عباس: أنه لا يحجب بأقل من ثلثة، لقوله: (إخوة) والثلاثة أقل الجمع، وحكي عن ابن عباس أيضاً: أن ما يحجبه الاخوة من سهم الأم من الثلث إلى السدس، يأخذه الاخوة دون الأب، وذلك خلاف ما أجمعت الأمة عليه، لأنه لا خلاف أن أحداً من الاخوة لا يستحق مع الأبوين شيئاً، وإنما قلنا إن اخوة بمعنى أخوين للإجماع من أهل العصر على ذلك، وأيضاً فانه يجوز وضع لفظ الجمع في موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة، كما قال: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ويقول القائل: ضربت الرجلين أرؤسهما، ومن أخويك ظهورهما.
5. سؤال وإشكال: لم حجب الاخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب؟ والجواب: قال قتادة: معونة للأب، لأنه يقوم بنفقتهم، ونكاحهم، دون الأم، وهذا بعينه رواه أصحابنا، وهو دال على أن الاخوة من الأم لا يحجبون، لأن الأب لا يلزمه نفقتهم على حال.
6. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ معناه: لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدين والدنيا، واللَّه يعلمه، فاقسموه على ما بينه من يعلم المصلحة فيه. وقال بعضهم: الأب يجب عليه نفقة الابن إذا احتاج إليها، وكذلك الابن يجب عليه نفقة الأب مع الحاجة، فهما في النفع في هذا الباب سواء، لا تدرون أيهم أقرب نفعاً. وقيل: لا تدرون أيكم يموت قبل صاحبه، فينتفع الآخر بماله.
7. سؤال وإشكال: كيف قدم الوصية على الدين في هذه الآية وفي التي بعدها، مع أن الدين يتقدم عليها بلا خلاف؟ والجواب: لأن (أو) لا توجب الترتيب، وإنما هي لأحد الشيئين، فكأنه قال: من بعد أحد هذين، مفرداً أو مضموماً إلى الآخر كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس أحدهما مفرداً أو مضموماً إلى الآخر ويجب البدأة بالدين، لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها، فكذلك حال الدين، وجب رده أولًا، ثم يكون بعده الوصية، ثم الميراث، وما قلناه اختاره الجبائي، والطبري، وهو المعتمد عليه في تأويل الآية.
8. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ نصب على الحال من قوله: (لأبويه) وتقديره: فلهؤلاء الورثة ما ذكرناه مفروضاً، فـ (فريضة) مؤكدة لقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ هذا قول الزجاج، وقال غيره: هو نصب على المصدر من قوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فرضاً مفروضاً. وقال غيره: يجوز أن يكون نصباً على التمييز من قوله: ﴿فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ فريضة، كما تقول: هو لك صدقة، أو هبة.
9. الثلث، والربع، والسدس، يجوز فيه التخفيف والتثقيل، فالتخفيف لثقل الضمة، وقال قوم: الأصل فيها التخفيف، وإنما ثقل للاتباع، قال الزجاج: هذا خطأ لأن الكلام وضع على الإيجاز بالتخفيف عن الثقيل.
10. في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علماً: وحكمة، ومغفرة، وتفضلا، فقيل لهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ لم يزل على ما شاهدتم عليه.
ب. الثاني: قال الحسن: كان اللَّه عليما بالأشياء قبل حدوثها، حكيما فيما يقدره ويدبره منها.
ج. الثالث: قال بعضهم: الخبر عن هذه الأشياء بالمضي، كالخبر بالاستقبال والحال، لأن الأشياء عند اللَّه على كل حال فيما مضى وما يستقبل.
11. إنما قال في تثنية الأب والأم: أبوان تغليباً للفظ الأب، ويقال أيضاً للأم أبة، ولا يلزم على ذلك أن يقال: في ابن وابنة: ابنان، لأنه يوهم، فان لم يوهم جاز ذلك ذكره الزجاج.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/132
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ يعني تقسم التركة على ما ذكرنا بعد قضاء الديون وإفراز الوصية، ولا شبهة أن الدَّين مقدم على الميراث والوصية وإن أحاط بالمال، فأما الوصية:
أ. فقيل: تقدم على الإرث.
ب. وقيل: بل الموصى له شريك الوارث له الثلث ولهم الثلثان، وعن أمير المؤمنين: إنكم تقرؤون هذه الآية الوصية للوالدين قبل الدَّين، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدَّين قبل الوصية، وهذا إجماع.
ج. وقيل: إن هذا استثناء الوصية والدَّين من الميراث، ولا ترتيب فيه، فأما الترتيب في التنفيذ فقيل ﴿أَوْ﴾ لا يوجب الترتيب، وإنما قال: أو، ولم يذكر الواو؛ ليعلم أن الإرث يؤخر عنهما، وعن كل واحد منهما، ولو ذكر الواو لجاز أن يتوهم أنه يؤخر عنهما عند الاجتماع، وهذا كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، فتناول إباحة مجالستهما ومجالسة كل واحد منهما، ولو قلت: جالس الحسن وابن سيرين لكانت الإباحة تتناولهما معًا، ولا تتناولهما على الانفراد.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾:
أ. قيل: يعني لا تدرون بأيهم أنتم أسعد في الدين والدنيا، والله تعالى يعلمه، فاقسموا على ما بَيَّنَهُ مَنْ يَعْلمُ المصلحة فيه عن الحسن.
ب. وقيل: أقرب نفعًا في الدنيا عن مجاهد.
ج. وقيل: لا تدرون أيهم أسرع موتًا فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت المورَث عن أبي مسلم.
د. وقيل: لا تدرون أي نفعكم بتربية آبائكم لكم أكثر، أم نفع آبائكم بخدمتكم إياهم وإنفاقكم عليهم عند كبرهم أكثر عن أبي علي.
هـ. وقيل: لا تدرون أن الأب يشفع في ابنه أم الابن يشفع في الأب.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾:
أ. قيل: يعني ما قسم لكل واحد شيئًا معلوما واجبًا لهم، والمراد الميراث.
ب. وقيل: الميراث والنفقة عن الأصم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:
أ. قيل: عليم بمصالح خلقه، حكيم فيما دبرهم به.
ب. وقيل: عليم بالأشياء قبل خلقه، حكيم فيما قضى وقدره، عليم لا يخفى عليه إن خالفتم فيما حد لكم، حكيم فيما يجازي كل أحد بعمله.
5. إنما دخل ﴿كَانَ﴾ ليعلم أن الله تعالى عالم لم يزل، وإذا كان عالمًا لم يزل يكون عالمًا في الحال ولا يزال.
6. تدل الآية الكريمة على أن الدَّين والوصية يقدمان على الإرث، ويدل قوله: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أنه ليس للموصي أن يوصي بأكثر من الثلث، ولا أن يقر بدين ليس عليه، وعلى أنه ليس لبعض الورثة إضرار بالبعض، وعلى تقدير أصحاب سهام الفرائض، ونبين ذلك فصلاً فصلاً على سبيل الإيجاز.
7. تدل الآية على أن الدَّين يقدم على الإرث، ولا خلاف أنه يقدم على الوصية أيضًا، ولا خلاف أن ما يحتاج إليه في تجهيز الميت مقدم على الجميع، ولا خلاف في ديون الناس، واختلفوا في الزكاة والحج والكفارات فقال أبو حنيفة: إن أوصى بها تقضى من الثلث، وإن لم يوصِ سقط، ولا تقضى، ويتعلق بظاهر الآية في استحقاق الورثة للتركة، وقال الشافعي: هو كديون الناس، وهو قول الحسن وأبي علي وأبي هاشم، ويتعلقون بخبر الخثعمية أنْ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فدَين الله أحق أن يقضى) وبأنه وجب عليه، ويجزي النيابة فيه، فأما ترتيب الديون:
أ. فدَين الصحة يقدم على دين المرض.
ب. وقيل: هما سواء، وإذا اجتمع ديون العباد وديون الله على قول من يجعله دينًا فقيل: هما سواء.
ج. وقيل: بل دَين الله مقدم.
د. وقيل: بل دَين الآدمي مقدم.
8. المعتبر في الوصية أربعة أشياء:
أ. المُوصي يجب أن يكون حرًا عاقلاً بالغًا، فلا تصح وصية الصبي خلاف ما يقوله الشافعي.
ب. والوصي يجب أن يكون أمينًا.
ج. والموصى له يجب أن يكون معلومًا كزيد وعمرو.
د. ومن جهة معلومة كالوصية للفقراء، أو أنواع القرب.
هـ. والموصى به، ومحل الوصية وهو الثلث إلا أن يجيز الورثة أكثر من الثلث، وجميع ذلك مبين في كتب الفقه.
و. ولا تجوز الوصية لوارث، ولا لقاتل عند جل الفقهاء، واختلفوا في الإقرار للورثة، فعند أبي حنيفة لا يجوز، وعند الشافعي يجوز.
9. ﴿يُوصَى﴾ بفتح الصاد في الحرفين على ما لم يسم فاعله، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد في الحرفين إضافة إلى الموصي، وهو الاختيار لقوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ وقرأ حفص الأول بكسر الصاد، الثاني: بفتح الصاد اعتبارا في الأول بقوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ وفي الثاني بقوله: ﴿يُورَثُ﴾
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿نَفْعًا﴾ نصب على التفسير.
ب. ﴿فَرِيضَةً﴾ قيل: نصب على المصدر أي فرض الله في أولادكم فريضة، وقيل: على الصرف من الكلام الأول والخروج معه إلى جنس آخر كقوله: هو لك هبة أو صدقة، وقيل: نصب على التوكيد، وقيل: على الحال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/548
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ وجوه:
أ. أحدها: إن معناه لا تدرون أي هؤلاء أنفع لكم في الدنيا، فتعطونه من الميراث، ما يستحق، ولكن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، عن مجاهد.
ب. ثانيها: إن معناه: لا تدرون بأيهم أنتم أسعد في الدنيا والدين، والله يعلمه، فاقتسموه على ما بينه من المصلحة فيه، عن الحسن.
ج. ثالثها: إن معناه لا تدرون أن نفعكم بتربية آبائكم لكم، أكثر أم نفع آبائكم بخدمتكم إياهم، وإنفاقكم عليهم، عند كبرهم، عن الجبائي.
د. رابعها: إن المعنى أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء، أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده، رفع الله إليه ولده في درجته، لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه، رفع الله والديه إلى درجته، لتقر بذلك أعينهم، عن ابن عباس.
هـ. خامسها: إن المراد لا تدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتا، فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت الموروث، ولا تستعجلوه، عن أبي مسلم.
2. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي فرض حمله ذلك فريضة، أو كما ذكرنا في الإعراب، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾: أي لم يزل عليما بمصالحكم، حكيما فيما يحكم به عليكم، من هذه الأموال وغيرها، قال الزجاج في كان هنا ثلاثة أقوال:
أ. قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علما، وحكمة، ومغفرة، وتفضلا، فقيل لهم إن الله كان كذلك على ما شاهدتم.
ب. وقال الحسن: كان عليما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر تدبيره منها.
ج. وقال بعضهم: الخبر من الله في هذه الأشياء بالمضي، كالخبر بالاستقبال، والحال، لأن الأشياء عند الله في حال واحدة، ما مضى، وما يكون، وما هو كائن.
3. ﴿يُوصَى﴾ بفتح الصاد في الموضعين، وقرأ حفص: الأولى بكسر الصاد، والثانية بالفتح، والباقون بكسرهما.. من قرأ ﴿يُوصِي﴾ فلأن ذكر الميت قد تقدم في قوله ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ ومن قرأ ﴿يُوصَى﴾ فإنما يحسنه أنه ليس بميت معين، إنما هو شائع في الجميع، فهو في المعنى يؤول إلى ﴿يُوصِي﴾
4. ﴿فَرِيضَةً﴾: منصوب على التأكيد والحال من قوله (لأبويه)، ولهؤلاء الورثة ما ذكرنا مفروضا، ففريضة مؤكدة لقوله ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾، ويجوز أن يكون نصبا على المصدر من ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ لأن معناه: يفرض عليكم فريضة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/27.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ أي: هذه السّهام إنما تقسم بعد الوصيّة والدّين، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم (يوصى بها) بفتح الصّاد في الحرفين، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيّ: (يوصي) فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر. والثانية بالفتح.
2. الدّين مؤخّر في اللفظ، مقدّم في المعنى، لأن الدّين حق عليه، والوصيّة حق له، وهما جميعا مقدّمان على حقّ الورثة إذا كانت الوصيّة في ثلث المال، و(أو) لا توجب الترتيب، إنما تدلّ على أن أحدهما إن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا.
3. في قوله تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه النّفع في الآخرة، ثمّ فيه قولان:
• أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
• الثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، والقول
ب. الثاني: أنه النّفع في الدّنيا، قاله مجاهد، ثمّ في معناه قولان:
• أحدهما: أن المعنى: لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر.
• الثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النّفع، حتى لا يدرى أيّهم أقرب نفعا، لأنّ الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو يعلى.
4. قال الزجّاج: معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيّهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة.
5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بما يصلح خلقه، ﴿حَكِيمًا﴾ فيما فرض، وفي معنى (كان) ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناها: كان عليما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر تدبيره منها، قاله الحسن.
ب. الثاني: أن معناها: لم يزل، قال سيبويه: كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة، فقيل له: إنّ الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث.
ج. الثالث: أن لفظة (كان) في الخبر عن الله عزّ وجلّ يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجّاج.
__________
(1) زاد المسير: 1/379.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى أنصباء الأولاد والوالدين، قال مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله.
2. روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: (إنكم لتقرؤون الوصية قبل الدين، وإن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية)، ومراده التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة (أو) لا تفيد الترتيب ألبتة.
3. الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين:
أ. الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في إخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة (أو) على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.
ب. الثاني: أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث، وليس كذلك الدين، فإنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث، وليس كذلك الدين، فإنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا، فالوصية تشبه الإرث من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالإرث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم.
4. سؤال وإشكال: ما معنى (أو) هاهنا وهلا قيل: من بعد وصية يوصى بها أو دين، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن (أو) معناها الاباحة كما لو قال قائل: جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فان جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لو قال من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما إذا ذكره بلفظ (أو) كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما.
ب. الثاني: أن كلمة (أو) إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24] وقوله: ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ [الأنعام: 146] فكانت (أو) هاهنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
5. قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يوصى بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى: ﴿مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾
6. ﴿آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه، فنقول: إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الإله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فكأنه قيل: أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم:
أ. فقوله: ﴿آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة.
ب. وقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها.
7. ذكروا في المراد من قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ وجوها:
أ. الأول: المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة، قال ابن عباس: إن الله ليشفع بعضهم في بعض، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه، فقال: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك.
ب. الثاني: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه.
ج. الثالث: المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
8. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾ هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها، وهذا نظير قوله للملائكة: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]
9. سؤال وإشكال: لم قال: ﴿كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ مع أنه الآن كذلك؟ والجواب: قال الخليل: الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان، وقال سيبويه: القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا، فقيل لهم: إن الله كان كذلك، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/519.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ حتى بلغ ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه، لان ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء، وفي المذهب قوله: أن ذلك مضارة ترد، وبالله التوفيق.
2. ﴿وَصِيَّةٍ وَصِيَّةٍ﴾ نصب على المصدر في موضع الحال والعامل ﴿يُوصِيكُمُ﴾ ويصح أن يعمل فيها ﴿مُضَارٍّ﴾ والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا، قاله ابن عطية، وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً﴾ بالإضافة، كما تقول: شجاع حرب، وبضة) يعنى حكيم بقسمة الميراث والوصية.
3. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ و﴿تِلْكَ﴾ بمعنى هذه، أي هذه أحكام الله بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ جملة في موضع نصب على النعت لجنات، قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ أي يخالف أمره ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما، كما تقول: خلد الله ملكه، وقال زهير: (ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا)، وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع، وقرأ نافع وابن عامر (ندخله) بالنون في الموضعين، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه، الباقون بالياء كلاهما، لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/82.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم: (يوصى) بفتح الصاد، وقرأ الباقون: بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد، وأبو حاتم لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله: ﴿يُوصِينَ﴾ و﴿تُوصُونَ﴾
2. اختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع:
أ. فقيل: المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما.
ب. وقيل: لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدّمت اهتماما بها.
ج. وقيل: قدّمت لكثرة وقوعها، فصارت كالأمر اللازم لكل ميت.
د. وقيل: قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان.
هـ. وقيل: لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت، بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر.
و. وقيل: قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين؛ فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه.
3. هذه الوصية مقيدة بقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ كما سيأتي إن شاء الله.
4. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ قيل: خبر قوله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ مقدر، أي: هم المقسوم عليهم، وقيل: إن الخبر قوله: ﴿لَا تَدْرُونَ﴾ وما بعده، ﴿أَقْرَبُ﴾ خبر قوله: ﴿أَيُّهُمْ﴾ و﴿نَفْعًا﴾ تمييز، أي: لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم، والصدقة عنكم، كما في الحديث الصحيح (أو ولد صالح يدعو له)، وقال ابن عباس والحسن: قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه، وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه، وقيل: المراد النفع في الدنيا والآخرة، قاله ابن زيد، وقيل: المعنى: إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، أمن أوصى منهم، فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعا، أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف، قال لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه.
5. ويناسبه قوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ يفرض عليكم، وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، والعالم يوصيكم، والأوّل أولى.
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بقسمة المواريث ﴿حَكِيمًا﴾ حكم بقسمتها وبينها لأهلها، وقال الزجاج:
﴿عَلِيمًا﴾ بالأشياء قبل خلقها ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يقدّره ويمضيه منها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/499.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث، ومن بعد قضاء دين على الميت، وقرئ في (السبع): يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.
2. قال الحافظ ابن كثير: أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدّين مقدم على الوصية، وروى أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق عن الحارث بن عبد الله الأعور عن عليّ بن أبي طالب قال إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه، ثم قال الترمذيّ: لا نعرفه إلا من حديث الحارث، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب، فالله أعلم.
3. قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا، وفيها مشروعية الوصية، واستدل بتقديمها في الذّكر من قال بتقديمها على الدين في التركة، وأجاب من أخرها بأنها قدمت لئلا يتهاون بها، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال، ومن أجازها للوارث والكافر، حربيّا أو ذميّا، واستدل بها من قال إن الدّين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث، ومن قال إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث، لعموم قوله: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾
4. روى الإمام أحمد وابن ماجة بسند صحيح عن سعد بن الأطول إن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه، فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه، إلّا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال فأعطها فإنها محقة.
5. وصف الوصية بقوله: ﴿يُوصِي بِهَا﴾، هو الترغيب في الوصية والندب إليها، وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: أو دين، على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين، وتقديم الوصية على الدّين، ذكرا مع تأخرها عنه حكما، ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها، لكونها مظنة التفريط في أدائها، ولاطرّادها، بخلاف الدين ـ أفاده أبو السعود ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ أي لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، والمعنى: فرض الله الفرائض، على ما هو، على حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، وردّ لما كان في الجاهلية.
6. قال السمرقنديّ: ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر، انتهى، ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي فرض الله ذلك فرضا، أو لقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾، فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ أي بالمصالح والرتب ﴿حَكِيمًا﴾ أي في كل ما قضى وقدر، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى، دخولا أوليّا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/42.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ أي: ما ذكرت من قولي: ﴿يُوصِيكُم﴾، إلى قوله ﴿فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ ثابت من بعد وصيَّة، أو يتعلَّق بـ (يُوصِيكُم) ﴿يُوصِي﴾ أي: الميِّت ﴿بِهَا﴾ تخرج من الثلث، ولو وصيَّة الأقرب، أو حجٌّ أو زكاة ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ تباعة من معاملة أو تعدية أو غلط أو خطأ.
2. قدَّم الوصيَّة مع أنَّها من الثلث ومؤخَّرة عن الدَّيْن تبطل باستغراقه المال لأنَّها مشبَّهة بالميراث، إذ كانت بلا عوض، والآية سيقت للميراث، ولأنَّها شاقَّة على الورثة، ومندوب إليها الجميع، والدَّيْن إِنَّمَا يكون على تكلُّف، وأنَّه مكروه، وأنَّ مالكه متعيِّن غالبًا يطالبه، وعطف بـ (أَوْ) لا بالواو للتنويع، فيفيد أنَّ أيَّهما كان قُدِّم على الإرث، فيتحصَّل أنَّ اجتماعَهُما كانفراد أحدهما، فقُدِّم، وكذا إن جعلناها للإباحة على جوازها في الأخبار، أو لأنَّ (يُوصِيكُم) بمعنى الأمر.
3. ﴿ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمُ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ دنيًا وأخرًى أو إحداهما، أي: أقرب من الأخرى، وكلاهما نافع، أو أيُّهم قريب نفعًا والآخر بعيد النفع، أي: ممتنعه، فاللائق بكم أن تتبعوا ما أنزل عليكم من الميراث في الأولاد والآباء والأمَّهات، ولا تخالفوه إلى ما تراه أهواؤكم من أخذ الأب وحده ومنع الصبيان والمجانين والضعفاء من الأولاد، ومنع النساء أمَّهاتٍ أو أزواجٍ، والآباءِ المجانين والضعفاء، فأعطوا كُلًّا حقَّه من الميِّت، ولعلَّ الذي تحرمونه نافع لكم، والذي تعطونه ضارٌّ أو غير نافع، فقد يرفع الأب إلى درجة ابنه في الآخرة مع أنَّه لم يعمل عمله بشفاعته، ويرفع الولد إلى درجة أبيه كذلك كما رواه الطبراني، وقد ينفع الطفل بعد بلوغه أو المرأة وغيرهما بالإنفاق والذَّبِّ عنهم، فدعوهما يأخذا ما فرض لهما، فقد ينفعانكم في الدُّنيا بذلك، وقد ينفعانكم بعد موتكم بالدعاء والذكر والصدقة، وقد ينفعان موروثهم بذلك، فأعطوهما من ماله ما فرض لهما، وأيضًا لا تورِّثوا من شئتم وتتركوا من شئتم، مثل أن يعهد أنَّ ما يتركه يرثه أبوه فقط، أو ابنه فقط فقد ينفعكم المتروك دون المعطى في الآخرة، أو في الدُّنيا، بالقيام بالعيال بعدكم، والصدقة عليكم، وأنفذوا أيضًا وصايا الآباء والأبناء فإنَّهم ينتفعون في الآخرة بوصاياهم، ولا تعطِّلوها مع أنَّه ربَّما نفعوكم في الآخرة ولكم الثوَّاب بإنفاذها وقد لا يوصون فيوفِّرون لكم مالهم.
4. ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ﴾ مفعول مطلق لمحذوف، أي: فرض الله منه ذلك فريضة، فحُذف وأخِّر (مِنَ اللهِ)، أو لـ (يُوصِيكُم)؛ لأنَّ معناه: فرض عليكم، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بالمصالح في الميراث والوصايا، ومراقب ذلك وكلَّ شيء ﴿حَكِيمًا﴾ فيما قضى وقدَّر في ذلك وغيره.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/131.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ أي يوصيكم الله ويعهد إليكم أيها المؤمنون بأن لأولاد من يموت منكم كذا ولأبويه كذا من بعد وصية ﴿يُوصَى بِهَا﴾ أي يقع الإيصاء بها من الميت، هكذا قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم (يوصى) بفتح الصاد مبنيا للمفعول مخففا وقرأه الباقون (يوصي) بكسر الصاد بالبناء للفاعل، ووصف الوصية بأنها يوصي بها لتأكيد أمرها والتحقق من نسبتها إلى الميت لأن الحقوق يجب التثبت فيها، هذا ما تبادر إلى فهمي وقيل إن فائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها وقيل فائدته التعميم.
2. ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ أي ومن بعد دين يتركه عليه، وقدمت الوصية على الدين في الذكر لأنها شبيهة بالميراث شاقة على الورثة وإن كان الدين مقدما عليها في الوفاء، فهو أول ما يجب في التركة ويليه الوصية فهي مما فضل عن الدين وما بقي بعد أدائهما هو الذي يقسم على الوارثين، وعطف الدين على الوصية بأو دون الواو للإيذان بأنهما متساويان في الوجوب متقدمان على القسمة مجموعين أو منفردين.
3. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ جاءت هذه الجملة بين بيان ما فرض الله للأولاد والوالدين من تركة الميت وما اشترط فيه من كونه فاضلا عن الوصية والدين وبين قوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي فرض ما ذكر من الأحكام فريضة من الله لا هوادة في وجوب العمل بها، ومعنى هذه الجملة المعترضة: أنكم لا تدرون أي الفريقين أقرب نفعا لكم، أأباؤكم أم أبناؤكم فلا تتبعوا في قسمة تركة الميت ما كانت عليه الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به في الدنيا مصالحكم؛ وتعظم به في الآخرة أجوركم.
4. ذهب بعضهم إلى أن الجملة متعلقة بالوصية أي لا تدرون أي آبائكم وأبنائكم أقرب لكم نفعا أمن يوصي ببعض ماله فيمهد لكم طريق المثوبة في الآخرة بإمضاء وصيته وذلك من أعمال البر تباشرونه فتكونون جديرين بأن تفعلوا مثله والخير داعية الخير؟ أم من لم يوص بشيء فيوفر لكم عرض الدنيا؟ بل الله أعلم بذلك منكم فعليكم أن تمتثلوا أمره؛ وتقفوا عند حدوده، ولا تتبرموا بإمضاء الوصية وإن كثرت، ولا تذكروا الموصي إلا بالخير.
5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فهو لعلمه المحيط بشؤونكم ولحكمته البالغة التي يقدر بها الأشياء قدرها؛ ويضعها في مواضعها اللائقة بها، لا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه المصلحة والمنفعة لكم، إذ لا يخفى عليه شيء من وجوه المصالح والمنافع، وهو منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء في موضعه؛ وإعطاء الحق لمستحقه.
6. أمر الله تعالى فيما قبل هاتين الآيتين من أوائل السورة بإعطاء اليتامى والنساء أموالهم إلا من كان سفيها لا يحسن تثمير المال ولا حفظه، فيثمره له الولي ويحفظه له إلى أن يرشد، ونهى عن أكل أموالهم، وأبطل ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريثهم، فناسب بعد هذا أن يبين أحكام الميراث وفرائضه، فكان بيانه في هاتين الآيتين وآية في آخر السورة، فهذه هي الفرائض التي جرى عليها العمل بعد نزولها فبطل بها وبقوله ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض﴾ ما كان من نظام التوارث في الجاهلية وفي أول الإسلام، أما الجاهلية فكانت أسباب الإرث عندها ثلاثة:
أ. أحدها: النسب وهو خاص بالرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون الأعداء ويأخذون الغنائم ليس للضعيفين الطفل والمرأة منه شيء.
ب. ثانيها: التبني، فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيرثه ويكون له غير ذلك من أحكام الدين الصحيح وقد أبطل الله التبني بآيات من سورة الأحزاب ونفذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك بذلك العمل الشاق وهو التزوج بمطلقة زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه قبل الإسلام.
ج. ثالثها: الحلف والعهد، كان الرجل يقول للرجل: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدوا على ذلك فمات أحدهما قبل الآخر كان للحي ما اشترط من مال الميت، وقيل إن هذا لم يبطل إلا بآيات الميراث.
7. أما الإسلام فقد جعل التوارث أولا بالهجرة والمؤاخاة فكان المهاجر يرث المهاجر البعيد، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان قريبا، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤاخي بين الرجلين فيرث أحدهما الآخر، وقد نسخ هذا وذاك واستقر الأمر عند جميع المسلمين بعد نزول أحكام الفرائض أن أسباب الإرث ثلاثة النسب والصهر والولاء، وحكمة ما كان في أول الإسلام ظاهرة فإن ذوي القربى والرحم للمسلمين كان أكثرهم مشركين وكان المسلمون لقلتهم وفقرهم محتاجين إلى التناصر والتكافل بينهم ولا سيما المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وترك ذو المال منهم ماله فيها.
8. ذهب كثير من العلماء إلى أن الوصية للوالدين والأقربين قد نسخت أيضا بآيات الميراث ولكنك ترى أن هاتين الآيتين المفصلتين لأحكام الإرث قد جعلتا الوصية مقدمة على الإرث وأكدت ذلك بتكراره عند كل نوع من أنواع الفرائض فيها، وترى أن الوصية للوالدين والأقربين في سورة البقرة مؤكدة تأكيدا ينافي النسخ، وتقدم ذلك في سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 182]، وقد ذكر ذلك محمد عبده في الدرس، وأعاد ما قاله في تفسير تلك الآية فتركنا إعادته استغناء عنه بالإحالة عليه في محله.
__________
(1) تفسير المنار: 4/420.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي يوصيكم بأن لأولاد من يموت منكم كذا من التركة ولأبويه كذا منها من بعد وصية يقع الإيصاء بها من الميت، ويتحقق نسبتها إليه ومن بعد قضاء دين يتركه عليه، وقدمت الوصية على الدين في الذكر مع أن الدين مقدم عليها وفاء كما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه علىّ كرم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة، لا تؤخذ كالميراث بلا عوض فتشق على الورثة.
2. جاء عطف الدين على الوصية بأو دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان في الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين أو منفردين، ثم أتى بجملة معترضة للتنبيه إلى جهل المرء بعواقب الأمور فقال: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ أي إنكم لا تدرون أيّ الفريقين أقرب لكم نفعا آباؤكم أو أبناؤكم، فلا تتبعوا في قسمة التركات ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به، فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به في الدنيا مصالحكم وتعظم به في الآخرة أجوركم ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي فرض الله ما ذكر من الأحكام فريضة لا هوادة في وجوب العمل بها.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي إنه تعالى لعلمه بشئونكم ولحكمته العظيمة لا يشرع لكم إلا ما فيه المنفعة لكم، إذ لا تخفى عليه خافية من وجوه المصالح والمنافع ـ إلى أنه منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء في غير موضعه، ومن إعطاء الحق لمن يستحقه.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/199.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، قال ابن كثير في التفسير: (أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية).. وتقديم الدين مفهوم واضح، لأنه يتعلق بحق الآخرين، فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان، ما دام قد ترك مالا، توفية بحق الدائن، وتبرئة لذمة المدين، وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين؛ كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير، ومن الثقة في المعاملة، ومن الطمأنينة في جو الجماعة، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته، حتى بعد وفاته: عن أبي قتادة قال قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر)، ثم قال: كيف قلت؟) فأعاد عليه، فقال: (نعم، إلا الدين، فإن جبريل أخبرني بذلك)، (أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي)، وعن أبي قتادة كذلك: أتي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم برجل ليصلي عليه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صلوا على صاحبكم فإن عليه دينا) فقلت: هو عليّ يا رسول الله، قال: بالوفاء؟) قلت: بالوفاء، فصلى عليه.
2. أما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها، وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضا، وقد يكون المحجوبون معوزين؛ أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة؛ وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت، ولا وصية لوارث، ولا وصية في غير الثلث، وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية.
3. في نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾:
أ. اللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض، فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء، لأن الضعف الفطري تجاه الأبناء أكبر، وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء، وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله، ولما يفرضه الله؛ بإشعارها أن العلم كله لله؛ وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعا، ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾
ب. اللمسة الثانية لتقرير أصل القضية، فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة، إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء، والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال، والله هو الذي يفرض، وهو الذي يقسم، وهو الذي يشرع، وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم، ولا أن يحكموا هواهم، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم!
ج. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب، تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس ـ مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره ـ فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة، فالله يحكم لأنه عليم ـ وهم لا يعلمون ـ والله يفرض لأنه حكيم ـ وهم يتبعون الهوى.
4. هكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث، لرد الأمر إلى محوره الأصيل، محوره الاعتقادي، الذي يحدد معنى (الدين) فهو الاحتكام إلى الله، وتلقي الفرائض منه، والرضى بحكمه: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/593.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذلك كلّه من بعد أن ينفذ في مال المتوفّى ما أوصى به، وأن يؤدّى ما عليه من دين، ولو استغرق الدين، كل ما ترك، وأداء الدّين مقدّم على كل شيء، يتصل بتركة المتوفّى، من وصية، أو ميراث.
2. هذا، ويلاحظ أن النظم القرآني قد التزم تقديم الوصية على الدّين في الآيات التي تضمنت أحكام المواريث، فكان يختم الحكم هكذا: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، ولا بد لهذا التقديم الملتزم من حكمة، فتقديم أمر حقّه التأخير، والتزام هذا التقديم في كل مرة ـ أمر لا يكون إلا عن قصد وتدبير.
3. يرى (الزمخشري) أن تقديم الوصية على الدّين هنا للإلفات إليها، والتحريض على إنفاذها، دون تهاون أو تفريط، ذلك أن (الوصية) تبرع وإحسان بدون عوض، وإذ كانت على تلك الصفة فربما رآها الورثة بعين الاستخفاف، فلم يمضوها كما أرادها الموصى، أو لم يمضوها أصلا.. أما الدّين فهو حق للدائن، إن سكت عنه الورثة لم يسكت عنه صاحبه، فإذا قدمت الوصية على الدين كان ذلك غير مفوّت على الدين مكانته، في حين أن هذا التقديم يقوّى من شأن الوصية، ويلحقها بالدّين في القوة والإلزام.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/711.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، المجرور في موضع الحال، فهو ظرف مستقرّ، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدّمة: أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكلّ نصيبه حالة كونه من بعد وصيّة أو دين.
2. جيء بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ بعد ذكر صنفين من الفرائض: فرائض الأبناء، وفرائض الأبوين، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر، والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيّة وتقدّمها، وإنّما ذكر الدين بعدها تتميما لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضا لأنّه حقّ سابق في مال الميّت، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلّا ما هو فاضل عن دين دائنه، فموقع عطف ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.
3. وصف الوصية بجملة ﴿يُوصِي بِهَا﴾ لئلا يتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض، وهي التي في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180]، وقرأ الجمهور: ﴿يُوصِي بِهَا﴾ في الموضعين في هذه الآية ـ بكسر الصاد ـ والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميّت، كما عاد ضمير ﴿مَا تَرَكَ﴾ [النساء: 7] وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، في الموضعين أيضا: يوصى ـ بفتح الصاد ـ مبنيا للنائب أي يوصى بها موص.
4. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين، وهي أصول الفرائض بقوله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ الآية، فهما إمّا مسند إليهما قدّ ما للاهتمام، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال، وذلك عند ما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر:
çفتى غير محجوب الغنى عن صديقه...ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّتé
بعد قوله:
çسأشكر عمرا إن تدانت منيّتي...أيادي لم تمنن وإن هي جلّتé
أي: المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلك.
5. ثم قال: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ فهو إما مبتدأ وإما حال، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتا يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات، فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الاعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم، فاعتمدوا أحوالا غير منضبطة ولا موثوقا بها، ولذلك قال تعالى: ﴿لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة، ففرض الفريضة لهم نظرا لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء.
6. التذييل بقوله: ﴿اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ واضح المناسبة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/49.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، إذا ترك الميت مالا فيبدأ قبل كل شيء بما يحتاج اليه من كفنه وجهازه الى قبره، ثم بوفاء ديونه المالية، حتى الحج والزكاة، والخمس والنذورات، ثم بتنفيذ وصيته من ثلث ما يفضل عن تجهيزه ودينه، ثم بالميراث، لأنه أشبه بإعطاء ما زاد عن الحاجة.
2. سؤال وإشكال: إذا كان الدين مقدما على الوصية، فلما ذا قدمها في الذكر واللفظ؟ والجواب: ان التقديم في الذكر واللفظ لا يقتضي التقديم في الحكم والتنفيذ، لأن العطف بـ (أو) لا يفيد الترتيب، كما ذكرنا في فقرة الاعراب، وإنما يفيد المساواة في أصل الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، فكأنه قال من بعدهما.. أما التقديم عملا فيستفاد من دليل آخر، وقد ثبت عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقام الإجماع على أنه لا وصية ولا ميراث إلا بعد وفاء الدين، بالاضافة الى أحاديث كثيرة ان الميت مرتهن بديونه.
3. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، هذه جملة معترضة، تشير إلى أن تقدير المواريث وأسرارها لا تصاب بالعقول، وإنما يدركها خالق الإنسان، وهو وحده يعلم ما يضره وينفعه.
4. هذه الآية تصلح للاستدلال على ان الأحكام الإلهية شرّعت لمصلحة الإنسان وسعادته وهنائه، ومن هنا نستدل على ايمان الإنسان بصالح أعماله، وعلى فسقه وإلحاده بضرره وفساده.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ الحق، لا من الإنسان الذي تتحكم به الميول والأهواء، وقد رأينا أكثر الهيئات التشريعية والمجالس البرلمانية تضع القوانين لصالح الأقوياء، واستغلالهم الضعفاء.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/267.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أما الوصية فهي التي تندب إليها قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ الآية: ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لأن الأهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد، ومنه التقديم، وعلى هذا فقوله: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ في مقام الإضراب والترقي طبعا.
2. بذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله: ﴿يُوصِي بِهَا﴾ ففيه دلالة على التأكيد، ولا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ الآية.
3. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم، وهو كلام ملقى للإيماء إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والأبناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان ﴿لَا تَدْرُونَ﴾ وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان، على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله: ﴿أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.
4. تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾: وقد مرت الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال أبدأ بما بدأ الله الحديث.
5. الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الإنسانية فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاء لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطا وأمس وجودا به من أبنائه، وإذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا وإن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس.
6. هذه الآية ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإسلامية، على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾: تدل على ذلك، وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة.
7. ربما يمكن أن يستشم من الآية ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ إلخ، تقدم أولاد الأولاد على الأجداد والجدات فإن الأجداد والجدات لا يرثون مع وجود الأولاد وأولاد الأولاد.
8. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾.. الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا أو الزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة معينة لا تتغير عما وضعت عليه.
9. هذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى وهي الأولاد والأب والأم على جميع تقاديرها:
أ. إما تصريحا كسهم الأب والأم وهو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد، والثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف، وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان، وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحلق بها سهم البنتين وهو الثلثان كما تقدم.
ب. وإما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وقوله في البنت: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، وكذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، أن الأبناء متساوون في السهام، وأمر الآية في إيجازها عجيب.
10. مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وو إمتاع الورثة بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾، الآية، وما ربما قيل: إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه.
11. نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة ومنشؤه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب ولذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/210.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في جميع هذه الفروض يتقدم الدّين والوصية على الإرث، فلا إرث قبل إخراجهما أو ملاحظتهما في الحساب، على تفاصيل مذكورة في كتب الفقه، وتبقى ملاحظة أخرى وهي أن الآية لم تتضمن تقديم أحدهما ـ الوصية والدّين ـ على الآخر، ومجرد التقديم في الذكر ـ في الوصية ـ لا يعني التقدم في الحكم والتنفيذ، لأن العطف يدل على المشاركة لا على الترتيب، ولكن استفيد تقديم الدّين على الوصية من السنة الشريفة مما ورد عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأئمة أهل البيت عليهم السّلام وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام أنّه قال: (إنّ الدّين قبل الوصية، ثم الوصية على أثر الدّين، ثم الميراث بعد الوصية، فإن أول القضاء كتاب الله)، والإجماع على أنه لا وصية ولا ميراث إلّا بعد وفاء الدّين، بالإضافة إلى ما دلّ على أن الميت مرتهن بديونه.
2. ﴿آباؤُكُمْ وأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ إن الله الذي قدّر الإرث وحدّد ما يرثه الآباء والأبناء من بعضهم، هو الذي يعرف حدود الأشياء مما يصلح الإنسان أو يفسده، وذلك في القوانين الحكيمة في تنظيم موضوع الإرث على سبيل الفرض اللازم اتباعه ومراعاته في الواقع العملي، لأن مصدره هو الله الذي يعرف عمق الأشياء في حركة الإنسان في نفسه، ومع الآخرين، وهو الذي ينبغي تسليم الأمر إليه في الشريعة، لأن الإنسان لا ينظر، في ما يعطي وما يمنع، إلا إلى ظواهر الأشياء، مما يخضع له مزاجه أو تتأثر به عواطفه.
3. وهذا ما نلاحظه في ما يقوم به بعض الناس من حرمان البنت من الميراث بطريقة شرعية في صورتها وشكلها، ولكنها بعيدة عن الإسلام في روحها ومعناها؛ وذلك بأن يملّك الوارث الذكور كل ماله في حياته ليموت بلا تركة، فيلغي بذلك إرث البنت بشكل طبيعي، وليس ذلك إلا ملاحظة للعقلية الباقية من رواسب الجاهلية في بقاء الإرث في الفئة التي تحفظ اسم العائلة، وهي فئة الأولاد الذكور؛ أما البنت، فإنها لا تقوم بهذا الدور، لأن أولادها هم عائلة الزوج الذي قد يكون من غير عائلتها؛ كما قال الشاعر:
çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا... بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدé
4. وهذا المفهوم بعيد كل البعد عن روح الإسلام الذي اعتبر البنت كالولد، في الأساس الذي يقوم عليه الإرث، وهو صلة القرابة والرحم، بعيدا عن كل عنوان آخر مما يتسمّى به الناس من أسماء عائليّة، وعلى هذا الأساس، كان المبدأ الأخلاقي الإسلامي يتسع لكل العلاقات الرحمية من جهة الأم أو من جهة الأب، لأن الإسلام لا يجد فرقا بينهما في ما تحققه العلاقة من معنى، وينبغي للإنسان المسلّم أن يصوغ تفكيره صياغة إسلامية على هدى المفاهيم الإسلامية العامة المتحركة مع مفردات التشريع، لتكون روحيته منطلقة من روحية الإسلام، كما يكون إطاره العملي منطلقا من الإطار الإسلامي للعمل.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/121.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي هذه الفرائض إنما تكون للورثة من بعد وصية يوصي بها أو دين، وفي تنكير وصية إشعار بأنها غير الوصية المعهودة التي كانت شرعت للوالدين والأقربين؛ لأنها لو كانت هي المراد لقال تعالى: ﴿من بعد الوصية﴾
2. ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ أي على الميت ولا يشترط أن يوصي به بل يكفي ثبوته ولعله أخر الدين ليكون فرض الدين على الميت مستبعداً، إشارة إلى أنه ينبغي للمؤمن الحذر من تخليف الدين بقدر المستطاع، وقوله تعالى: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ مطلقٌ يصدق بالقليل والكثير، حتى لو لم يبقَ من التركة إلا أقل القليل.
3. فأما الوصية فقد دل الدليل على أنها لا تزاد على الثلث، إلا بإذن الورثة أو إجازتهم، فإن زاد ولم يرضوا لم يصح منها إلا الثلث، ولعله يستفاد من قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ بخلاف الدين؛ لأنه واجب على الميت ولا خيار له فيه بعد ثبوته في ذمته، فيلزم الوفاء به كله.
4. ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ الأرجح عندي: أن الخطاب للمورثين الذين خوطبوا في أول الآية، فالمشرف على الموت لا يدري من هو الأنفع له بعد موته أبوه أم ابنه ليقضي دينه وينفذ وصيته، ويرفق بمن يخاف عليه من الورثة الضعاف، فلا يدري من الأحق بميراثه، وعلى هذا فعليه أن يرضى بقسمة الله ويتكل عليها ولا يلتفت إلى عاطفةٍ لابنه أو أبيه.
5. ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ فلا يسأل عنها الميت في تفضيل وارث على وارث؛ لأنها قسمة الله التي فرضها وأوجبها ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فهو أعلم بما هو الخير من القسمة وما هو مقتضى الحكمة، وهو الحكيم الذي كل أحكامه على الحكمة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/23.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إنّ الله سبحانه يقول: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ فلا بدّ من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أوّلا، ثمّ تقسيم البقية بين الورثة، وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصى بأمور في مجال الثلث الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلّا أن يأذن الورثة بذلك.
2. ثمّ قال سبحانه: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ وهذه العبارة تفيد أن قانون الإرث المذكور قد أرسى على أساس متين من المصالح الواقعية، وأن تشخيص هذه المصالح بيد الله، لأن الإنسان يعجز عن تشخيص مصالحه ومفاسده جميعا، فمن الممكن أن يظن البعض أنّ الآباء والأمهات أكثر نفعا لهم، ولذلك فهم أولى بالإرث من الأبناء وإن عليه أن يقدمهم عليهم، ومن الممكن أن يظن آخرون العكس، ولو كان أمر الإرث وقسمته متروكا إلى الناس لذهبوا في ذلك ألف مذهب، ولآل الأمر إلى الهرج والمرج والفوضى، وانتهى إلى الاختلاف والتشاجر، ولكن الله الذي يعلم بحقائق الأمور كما هي أقام قانون الإرث على نظام ثابت يكفل خير البشرية ويتضمّن صلاحها.
3. لأجل أن يتأكد كل ما ذكر من الأمور، ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/135.
13. ميراث الأزواج
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈13⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 12]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ الآية، للرجل نصف ما تركت امرأته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد من زوجها الذي ماتت عنه، أو من غيره، فإن كان لها ولد ذكر أو أنثى فللزوج الربع مما تركت من المال، من بعد وصية يوصي بها النساء، أو دين عليهن، والدين قبل الوصية، فيها تقديم، ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾ الآية، يعني: للمرأة الربع مما ترك زوجها من الميراث إن لم يكن لزوجها الذي مات عنها ولد منها، ولا من غيرها، فإن كان للرجل ولد ذكر أو أنثى فلها الثمن مما ترك الزوج من المال(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٨٤.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللام الثلث، وللأب ما بقي، وقال في امرأة وأبوين: للمرأة الربع وللام الثلث، وما بقي للأب(1).
2. روي أنّه قال في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللام الثلث، وما بقي للأب(1).
3. روي عن محمد بن مسلم، أن الإمام الباقر أقرأه صحيفة الفرائض التي إملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخط الإمام علي بيده، فقرأت فيها: امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها، فللزوج النصف ثلاثة أسهم، وللام الثلث تاما سهمان، وللأب السدس سهم(2).
4. روي أنّه قال: إن الله أدخل الزوج والمرأة على جميع أهل المواريث، فلم ينقصهما من الربع والثمن(3).
5. روي عن عمر بن أذينة، قال قلت لزرارة: إني سمعت محمد بن مسلم وبكيرا يرويان عن الإمام الباقر في زوج وأبوين وبنت: (للزوج الربع، ثلاثة أسهم من اثني عشر سهما، وللأبوين السدسان، أربعة أسهم من اثني عشر، وبقي خمسة أسهم فهو للبنت، لأنها لو كانت ذكرا لم يكن لها غير خمسة من اثني عشر، وإن كانتا اثنتين فلهما خمسة من اثني عشر سهما، لأنهما لو كانا ذكرين لم يكن لهما غير ما بقي، خمسة)، فقال زرارة: هذا هو الحق إذا أردت أن تلقي العول فتجعل الفريضة لا تعول، فإنما يدخل النقصان على الذين لهم الزيادة من الولد والأخوات من الأب والام، فأما الزوج والإخوة من الام فإنهم لا ينقصون مما سمى الله شيئا(4).
6. روي أنّه قال في امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها وابنتها: للزوج الربع، ثلاثة أسهم من اثني عشر سهما، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، سهمان من اثني عشر سهما، وبقي خمسة أسهم فهي للبنت، لأنه لو كان ذكرا لم يكن له أكثر من خمسة أسهم من اثني عشر سهما، لأن الأبوين لا ينقصان كل واحد منهما من السدس شيئا، وإن الزوج لا ينقص من الربع شيئا(5).
__________
(1) التهذيب 9/284/1029.
(2) التهذيب 9/284/1030.
(3) تفسير العيّاشي 1/226/56.
(4) التهذيب 9/288/1040.
(5) التهذيب 9/288/1042.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: لو أن امرأة تركت زوجها وأبويها وأولادا ذكورا وإناثا، كان للزوج الربع في كتاب الله، وللأبوين السدسان، وما بقي فللذكر مثل حظ الأنثيين(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/226/57.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ إلى آخر ما ذكر: فيه مراد الخصوص، وإن كان مخرج الخطاب عامّا؛ لأن الزوج أو الزوجة إذا لم يكن على دين صاحبه وعلى وصفه لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن ليس لأحد الاحتجاج بعموم المخرج، على ما ذكرنا في الولد والوالد والأم وغيرهم: أنه إذا لم يكن بعضهم على وصف بعض لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن عموم مخرج الخطاب لا يدل على عموم المراد.
2. ثم الآية معطوفة على ما سبق من الآيات؛ لأنها ذكرت بحرف العطف والنسق بقوله: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ والربع إن كان لهن ولد ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾، والثمن إن كان لكم ولد، فبين في الآية الأولى ميراث الأب والأم وميراث الأولاد، ولم بين ميراث الأزواج.
3. ثم بين في هذه الآية؛ فنسق على الأول؛ دل أن الأزواج والزوجات إذا كانوا معهم فإن الحكم لا يختلف فيهم، يكون للأم الثلث إذا لم يكن هنالك ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا، والسدس إن كان له ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات يكون لها مع هؤلاء ثلث ما بقى، حيث نسق هذه على السابقة.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/58.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
﴿وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ لا خلاف أن للزوج نصف ما تترك الزوجة إذا لم يكن لها ولد، فان كان لها ولد فله الربع أيضاً بلا خلاف سواء كان الولد منه أو من غيره، وإن كان ولد لا يرث لكونه مملوكا، أو كافراً، أو قاتلا، فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع، ووجوده كعدمه.
1. ذكر اللَّه له فرضاً، فإنما يستحقه إذا أخرج من التركة الكفن، والدين، والوصية، فان استغرق الدين المال لم تنفذ الوصية، ولا ميراث، وإن بقي نفذت الوصية، ما لم تزد على ثلث ما يبقي بعد الدين، فان زادت ردت إلى الثلث.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/135
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ خطاب للأزواج يعني ولكم أيها الأزواج نصف ما تركت الزوجات إذا لم يكن لهن ولد ذكرًا كان أو أنثى، ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾ من ميراثهن ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ بينا معناه.
2. ثم بين فرض الزوجة فقال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ﴾ يعني للنساء من ميراث الزوج ﴿الرُّبُعُ﴾ عند عدم الولد، والثمن مع الولد، وذلك من بعد الوصية والدَّين.
3. فرض الزوج والزوجة: للزوج النصف إلا في حالتين فإن له الربع، وهو أن يكون للميت أو لابنه ولد، وفرض الزوجة الربع إلا في هاتين الحالتين، فإن لها الثمن، ولا خلاف أن المطلقة الرجعية في المرض ترث.
4. اختلفوا في المبتوتة على أقوال:
أ. قيل: ترث ما دامت في العدة، وهو قول أكثر الصحابة، ومذهب أهل العراق.
ب. وقيل: ما لم تتزوج وإن انقضت العدة، وهو مذهب مالك، وروي عن عثمان نحوه.
ج. وقيل: لا ترث، وهو مذهب ابن الزبير وأحد أقوال الشافعي.
5. لا خلاف أن الرجل يرث من أربع زوجات من كل واحدة تمام الفرض، وأن أربع زوجات يرثن من زوج واحد ثُمنًا أو ربعًا، ويكون بينهن بالسوية.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/548
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. خاطب الله الأزواج فقال: ﴿وَلَكُمُ﴾ أيها الأزواج ﴿نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾: أي زوجاتكم ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ لا ذكر، ولا أنثى، ولا ولد ولد ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾: أي من ميراثهن ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ قد مر تفسيره.
2. ﴿وَلَهُنَّ﴾: أي ولزوجاتكم ﴿الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ من الميراث ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ واحدة كانت الزوجة أو اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا، لم يكن لهن أكثر من ذلك.
3. ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ ذكر أو أنثى، أو ولد ولد ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ من الميراث، واحدة كانت الزوجة، أو أكثر من ذلك ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا﴾ أيها الأزواج ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ وقد مر في ما مضى بيان ميراث الأزواج.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/28.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أورد الله تعالى أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة، فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية، فحصل هاهنا أقسام ثلاثة:
أ. أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولاد، ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم.
ب. ثانيها: الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي، والذاتي أشرف من العرضي، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها.
ج. ثالثها: الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه:
• أحدها: أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية.
• ثانيها: أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة.
• ثالثها: أن مخالطة الإنسان بالوالدين الأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة، وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة، وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات.
2. لما جعل الله تعالى في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن، واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن.
3. في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب، ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/521.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ الآيتين، الخطاب للرجال، والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع، وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد، وله مع وجوده الربع، وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد، والثمن مع وجوده.
2. أجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد، وفي الثمن إن كان له ولد واحد، وأنهن شركاء في ذلك، لان الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/76.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ الخطاب هنا للرجال، والمراد بالولد: ولد الصلب، أو ولد الولد، لما قدمنا من الإجماع، ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾، وهذا مجمع عليه، لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف، ومع وجوده وإن سفل الربع، وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ إلخ، الكلام فيه كما تقدم.
2. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ هذا النصيب مع الولد، والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات، ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك، والكلام في الوصية والدين كما تقدّم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/500.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ الكلام فيه كما تقدم، قوله: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار، كأن يقرّ بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا، أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد، أي قوله: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون عنه أو الوصايا المنهي عنها، أو التي لا مقصد لصاحبها إلّا المضارة لورثته؛ فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء، لا الثلث ولا دونه.
2. قال القرطبي: وأجمع العلماء: على أن الوصية للوارث لا تجوز، انتهى، وهذا القيد، أعني: عدم الضرار، هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين، قال أبو السعود في تفسيره: وتخصيص القيد بهذا المقام: لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.
3. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ نصب على المصدر، أي: يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قال ابن عطية: ويصح أن يعمل فيها: مضار، والمعنى: أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا، فتكون: وصية، على هذا مفعولا بها، لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال، أو لكونه منفيا معنى، وقرأ الحسن: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾: بالجرّ، على إضافة اسم الفاعل إليها، كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار.
4. في كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل: على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض، وأن كل وصية من عباده تخالفها؛ فهي مسبوقة بوصية الله، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض، أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/502.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ من المال ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ ذكر أو أنثى، منكم أو من غيركم ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ على نحو ما فصّل ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ من المال، والباقي لباقي الورثة ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ من المال ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ ذكر أو أنثى، منهن أو من غيرهن ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ على النحو الذي فصل ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ الكلام فيه كما تقدم، وفي تكرير ذكر الوصية والدين، من الاعتناء بشأنهما، ما لا يخفى.
2. في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء، لأنه تعالى حيث ذكر الرجال، في هذه الآية، ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، كما فضلوا عليهن في النصيب، كذا يستفاد من الرازيّ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/43.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمُ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ﴾ أو ولد ابن ولو سفل، منكم أو من زوجٍ قَبْلَكم، أو مِن زنى أو نكاح باطل كان الولد، أو ولد الابن ذكرًا أو أنثى أو خنثى ﴿فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ بأحد الأوجه المذكورة ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ إِلَّا إن كان الولد بأحد الأوجه المذكورة قاتلاً لها، أو عبدًا أو مشركًا، فإنَّ للزوج مع وجوده النصف عند الجمهور، وقال ابن مسعود: الربع، وما ذكرنا من ميراث الأزواج ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾ تنفرد به المتَّحدة وتقسمه المتعدِّدات ﴿مِمَّا تَرَكْتُمُ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ﴾ أو ولد ابن وإن سفل، ذكرًا أو أنثى أو خنثى، منها أو من غيرها.
2. ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ لأحد الأوجه هذه ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾ تنفرد به المتَّحدة وتقسمه المتعدِّدات ﴿مِمَّا تَرَكتُم﴾ وما ذكرنا من ميراث الزوجات ﴿مِنم بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾
3. وهكذا كلُّ امرأة شاركت رجلاً في الجهة والقرب تكون نصفه في النسب والزواج، إلَّا ولد الأمِّ والإخوة في المشتركة والمعتقة فإنهنَّ يساوين الرجل، فإن أعتقت المرأة والرجل عبدًا أو أمة ومات ولم يترك وارثًا فماله بينهما نصفين.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/133.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما فرغ من بيان فرائض عمود النسب في القرابة وهو الأولاد والوالدون وقدم الأهم منهما من حيث الحاجة إلى المال المتروك وهم الأولاد دون الأشرف وهم الوالدون ـ بين فرائض الزوجين وهما في المرتبة الثانية لأنهما سبب لحصول الأولاد، والسبب إنما يقصد لأجل غيره والمسبب هو المقصود لذاته، وهذا لا يعارض ما قلناه آنفا في قوة رابطة الزوجية فالوجوه في التفاضل تختلف باختلاف الاعتبارات.
2. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ اللواتي تحققت بهن الزوجية بأكمل معناها ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ ما منكم، أو من غيركم ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو أكثر من بطنها مباشرة أو من صلب بنيها أو بنى بنيها فنازلا والباقي لأولادها ووالديها على ما بينه الله في الآية السابقة، هذا ما ذهب إليه الجمهور وجرى عليه العمل، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ والباقي من التركة للأقرب إليها من أصحاب الفروض والعصبات وذوي الأرحام يعلم كل ذلك من موضعه في الكتاب والسنة ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي إنما يكون لكم ذلك في تركتهن في كل من الحالتين، بعد إنفاذ الوصية ووفاء الدين، إذ ليس لوارث شيء إلا مما يفضل عنهما إن كانا كما تقدم.
3. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ ما على التفصيل السابق في أولادهن فإن كان للميت منكم زوج واحدة كان لها وحدها وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه للمساواة والباقي يكون لمستحقه شرعا من ذوي القربى وأولي الأرحام لكم ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ والباقي لولدكم علا أو نزل ولمن عساه يوجد معه من والديه على التفصيل الذي بينه الله تعالى وذلك ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ وبهذا كان للذكر من الزوجين مثل حظ الأنثيين.
4. سؤال وإشكال: إن من ترك زوجين أو ثلاثا أو أربعا كان لهن نصيب الزوج الواحدة فلا تطرد فيهن قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الرجل لا ينقص نصيبه من إرث امرأته بحال من الأحوال، فما هي الحكمة في ذلك ولماذا لم يكن نصيب الزوجين أو الثلاث أو الأربع أكثر من نصيب الزوج الواحدة؟ والجواب: الحكمة الظاهرة لنا من ذلك هي إرشاد الله إيانا إلى أن يكون الأصل الذي تجري عليه في الزوجية هي أن يكون للرجل منا امرأة واحدة، وإنما أباح للرجل أن يتزوج اثنتين إلى أربع بشرطه المضيق لأن التعدد من الأمور التي تسوق إليها الضرورة أحيانا، وقد تكون لخير النساء أنفسهن، كما شرحنا ذلك في آية إباحة التعدد وما هي ببعيد، ونذكر ما قلناه في حكمة جعل حظ الذكر من الأولاد مثل حظ الأنثيين وهو أن الأصل فيه أن ينفق على نفسه وعلى امرأة يتزوجها، فما هنا يلاقي ما هناك ويتفق معه، والنصوص يؤيد بعضها بعضا فلو كان من مقاصد الشريعة أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة لجعل الذكر من الأولاد أكثر من حظ الانثيين وللزوجين والزوجات أكثر من حظ الزوج الواحدة، ولكن التعدد في نظر الشرع من الأمور النادرة غير المقصودة فلم يراعه في أحكامه والأحكام إنما توضع لما هو الأصل الذي عليه العمل في الغالب والنادر لا حكم له.
__________
(1) تفسير المنار: 4/421.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه فرائض الأولاد والوالدين، وقدم الأهم منهما من حيث حاجته إلى المال المتروك وهم الأولاد ـ ذكر هنا فرائض الزوجين فقال: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ أي ولكم نصف ما تركته الزوجات من المال إن لم يكن لهن ولد، سواء أكان منكم أم من غيركم، وسواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكان واحدا أم أكثر، وسواء أكان من بطنها مباشرة، أو صلب بنيها أو بنى بنيها، وباقي التركة لأولادها ووالديها على ما بينه الله في الآية السالفة: ولا يشترط في الزوجة أن يكون مدخولا بها، بل يكفى مجرد العقد.
2. ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوى الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.
3. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي لكم ذلك في تركتهن في الحالين السابقتين بعد نفاذ الوصية ووفاء الديون، إذ لا يأخذ الوارث شيئا إلا ما يفضل عنهما إذا وجدا أو وجد أحدهما.
4. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ بحسب التفصيل السابق في أولادهن فإن كانت واحدة فلها هذا الربع وحدها، وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه على طريق التساوي والباقي يكون لمن يستحقه من ذوى القربى وأولى الأرحام.
5. ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ والباقي لأولادكم ووالديكم كما تقدم، ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ بالطريق التي علمتها فيما سلف، وبهذا تعلم أن فرض الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما في النسب، ولم يعط الله تعالى للزوجات في الميراث إلا مثل ما أعطى للزوج الواحدة لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغي أن نسير عليه في الزوجية أن تكون للرجل امرأة واحدة، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة فلم يراعها الشارع في الأحكام، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل والنادر لا حكم له.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/200.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد ـ ذكرا أو أنثى ـ فأما إذا كان لها ولد ـ ذكرا أو أنثى، واحدا أو أكثر ـ فللزوج ربع التركة، وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها، وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع.. وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية، كما سبق.
2. الزوجة ترث ربع تركة الزوج ـ إن مات عنها بلا ولد ـ فإن كان له ولد ـ ذكرا أو أنثى، واحدا أو متعددا، منها أو من غيرها، وكذلك أبناء ابن الصلبـ فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن.. والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة.
3. الزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة، كلهن شريكات في الربع أو الثمن.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/594.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية تتمة أحكام المواريث، التي بينتها الآية السابقة.. فللزوج نصف ما تترك زوجته إذا لم يكن لها ولد ـ ذكرا أو أنثى ـ منه أو من غيره.
2. فإن كان لها ولد فله الربع، أما الزوجة فلها ربع ما ترك زوجها، إذا لم يكن له ولد، ذكرا أو أنثى، منها أو من غيرها، فإن كان له ولد فلها الثمن.. وذلك كلّه من بعد أن تنفذ الوصية، ويقضى الدين، إن كانت هناك وصية من المتوفّى، أو كان عليه دين.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/712.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين: أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كبارا، فإن كانوا صغارا قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: 19]، فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]
2. الجمع في ﴿أَزْوَاجِكُمْ﴾ وفي قوله: ﴿مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ كالجمع في الأولاد والآباء، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة، وهاهنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال، والمعنى: ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله: ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾
3. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ، وكذلك قوله: ﴿فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام.
4. أعقبت فريضة الأزواج بذكر ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية، وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يستحقّ إلّا بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/51.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ هذا بيان أحوال ميراث الزوج، فإنه يكون له النصف إن لم يكن للمتوفاة ولد، والمراد من الولد أولاد الظهور أي الفروع الذين لا يتوسط بينهم وبين المتوفاة أنثى، خلافا للشيعة، وإن كان للمتوفاة ولد فإن الزوج يكون له الربع.
2. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾ وهذا بيان ميراث الزوجة تأخذ الربع إذا لم يكن للمتوفى ولد، وقد بيّنا معنى الولد، وتأخذ الثمن إن كان للمتوفى ولد، ونرى من هذا أن الزوجة على النصف في التقدير من الزوج، وهو قاعدة عامة في قسمة الميراث بالنسبة للرجل والمرأة، ولم يستثن إلا الإخوة لأم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1606.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، اتفق المسلمون على ان كلا من الزوج والزوجة يشارك في الميراث جميع الورثة، دون استثناء، وعلى ان للزوج النصف من تركة الزوجة إذا لم يكن لها ولد منه ولا من غيره، والربع إذا كان لها ولد منه أو من غيره، وسبق في رقم 5 انه لا ميراث إلا بعد الدين والوصية.
2. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، للزوجة الربع من تركة زوجها إذا لم يكن له ولد منها ولا من غيرها، والثمن إذا كان له ولد منها أو من غيرها.
3. اتفقت المذاهب الأربعة على ان المراد بالولد هنا ولد الميت للصلب، وولد الابن فقط، ذكرا كان، أو أنثى.. أما ولد البنت فإنه لا يمنع أحد الزوجين من نصيبه الأعلى، بل قال الشافعية والمالكية: ان ولد البنت لا يرث ولا يحجب، لأنه من فئة ذوي الأرحام، وقال الإمامية: المراد بالولد في الآية مطلق الولد، وولد الولد، ذكرا كان أو أنثى، فبنت البنت تماما كالابن تحجب أحد الزوجين عن نصيبه الأعلى إلى الأدنى، وإذا تعدد الزوجات فهن شريكات في الربع أو الثمن، يقتسمنه بالسوية، وقالت المذاهب الأربعة: إذا لم يكن للميت وارث إلا الزوج، أو الزوجة فلا يرد الباقي لا على الزوج ولا على الزوجة (مغنى ابن قدامة)
4. اختلف الإمامية فيما بينهم على ثلاثة أقوال:
أ. الأول يرد الباقي على الزوج، دون الزوجة، وهذا هو المعروف بين الفقهاء اليوم، وعليه عملهم.
ب. الثاني الرد على الزوج والزوجة إطلاقا وفي جميع الحالات.
ج. الثالث الرد عليهما في غيبة الإمام العادل، دون حضوره، ونحن على هذا الرأي، واليه ذهب الشيخ الصدوق، ونجيب الدين بن سعيد، والعلامة الحلي، والشهيد الأول، وذكرنا الدليل على اختيارنا في الجزء السادس من فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/267.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ المعنى ظاهر، وقد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، والربع بالقطع فقيل: ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدرة، ومن هذه تفيد معنى الأخذ والشروع من الشيء.
2. وهذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشيء المبتدأ منه وكالمستهلك فيه، وهذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس والربع والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين، ولذا قال تعالى: ﴿السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾، وقال: ﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، وقال: ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾ بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، وقال: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، وقال: ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ بالإضافة، وقال: ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/212.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ في هذه الآية وجّه الخطاب في أولها إلى الورثة وأغنى عن خطاب المورِّث قولُه تعالى في آخرها: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ وتوجيه الخطاب إليه في الأولى المفيد للنسخ.
2. ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ يفيد: حجب الزوج بالولد مطلقاً ذكراً أو أنثى من هذا الزوج أم من زوج قبله أم كيف ما كان فليس له مع الولد إلا الربع.
3. ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ هذا الخطاب للمورِّث، ولعل السرَّ فيه: أن المقصود توجيه الخطاب إلى الرجال لأنهم الحكام والقاسمون، والربع إذا تعددت الزوجات، أو الثمن يقسم بينهن، لأنه لم يقل: لكل واحدة الربع أو الثمن، كما قال ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ في موضعين بل جعل لهن الربع أو الثمن من غير فرق بين حالة تعدد أو انفراد.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/24.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا هو قانون الإرث في نطاق العلاقة الزوجية، الذي ارتكز على أساس التفريق في الحصة، على أساس القاعدة الشرعية في الفرق ـ في الإرث ـ بين الذكر والأنثى، في زيادة حصته على حصتها، مع ملاحظة حالة وجود الولد للميت وعدمها، وذلك لمصلحة الولد، فجعل للزوج نصف التركة في حال عدم وجود الولد للزوجة، وربعها في حال وجوده، كما جعل للزوجة ربع التركة مع وجود الولد للزوج، وثمنها مع عدم وجوده.
2. لا بد من التنبيه على نقطة مهمة ـ في هذا الموضوع ـ وهي أن اعتبار نصيب المرأة الزوجة ربعا أو ثمنا مختص بما إذا ترك الميت زوجة واحدة، أما إذا ترك أكثر من زوجة، فلا بد من تقسيم الحصة (الربع أو الثمن) عليهن بالتساوي، وهذا ظاهر من الآية، حيث تحدثت عن الحصة بطريق الجمع الذي قد يوحي بذلك، وينبغي أن يلاحظ، في إرث الزوجين، أنهما يجتمعان مع كل الطبقات، فيرثان حصتهما من دون نقصان، لأن هذه العلاقة تمثل أساسا مستقلا للإرث، لا يلغي وجود أساس آخر للآخرين كالنسب.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/123.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والأمهات، وفي الآية التي تليها يقول الله سبحانه: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض، فإن الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾. على أن هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
2. وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة أخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ﴾، ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾
3. على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضا من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، والملفت للنظر في المقام هو انخفاض سهام الأزواج إلى النصف إذا كان للميت ولد، وذلك رعاية لحال الأولاد.
4. أمّا العلّة لكون سهم الأزواج ضعف سهم الزوجات فهي ما ذكرناه في البحث السابق حول علّة الفرق بين سهم الذكر والأنثى.
5. ثمّ إنّ هاهنا نقطة مهمة يجب التنبيه إليها أيضا، وهي أنّ السهم المعين للنساء (سواء الربع أو الثمن) خاص بمن ترك زوجة واحدة فقط (فإنّها ترث كل الربع أو كل الثمن) وأمّا إذا ترك الميت زوجات متعددة قسم ذلك السهم (الربع أو الثمن) بينهن بالتساوي، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية مورد البحث أيضا.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/136.
14. ميراث الكلالة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈14⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الإمام علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وإن أعيان بني الأم يتوارثون، دون بني العلات، الإخوة للأب والأم دون الإخوة للأب(1).
__________
(1) أحمد ٢/٣٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد(1).
2. روي أنّه قال: أول من أعال الفرائض عمر، تدافعت عليه، وركب بعضها بعضا، قال والله، ما أدري كيف أصنع بكم، والله، ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر، وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص، ثم قال: وأيم الله، لو قدم من قدّم الله وأخّر من أخر الله ما عالت فريضته، فقيل له: وأيها قدم الله؟ قال كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله، فالذي قدم كالزوجين والأم، والذي أخر كالأخوات والبنات، فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم، فأعطي حقه كاملا، فإن بقي شيء كان لهن، وإن لم يبق شيء فلا شيء لهن(2).
3. روي أنّه قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع(3).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧٧.
(2) الحاكم ٤/٣٤٠.
(3) البخاري (٢٧٤٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ما تقول في امرأة ماتت وتركت زوجها وإخوتها لامها وإخوة وأخوات لأبيها؟ فقال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، ولإخوتها لامها الثلث سهمان، الذكر والأنثى فيه سواء، وبقي سهم فهو للإخوة والأخوات من الأب، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن السهام لا تعول، وإن الزوج لا ينقص من النصف، ولا الإخوة من الام من ثلثهم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، وإن كان واحدا فله السدس، وإنما عنى الله بقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ إنما عنى بذلك الإخوة والأخوات من الام خاصة، وقال في آخر سورة النساء: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يعني بذلك أختا لأب وام أو أختا لأب ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وهم الذين يزادون وينقصون)، قال ولو أن امرأة تركت زوجها وأختيها لامها، وأختيها لأبيها، كان للزوج النصف ثلاثة أسهم، ولأختيها لامها الثلث سهمان، ولأختيها لأبيها السدس سهم، وإن كانت واحدة فهو لها لأن الأختين من الأب لا يزادون على ما بقي، وإن كان أخ لأب لم يزد على ما بقي(1).
2. روي أنّه قال: السهام لاتعول(2).
3. روي أنّه قال: إن السهام لا تكون أكثر من ستة أسهم(2).
4. روي أنّه قال: إن الذي يعلم رمل عالج ليعلم أن الفرائض لا تعول على أكثر من ستة(3).
__________
(1) الكافي 7/103/5.
(2) الكافي 7/81.
(3) الكافي 7/79.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ الكلالة: الذي لا ولد له ولا والد؛ لا أب ولا جد، ولا ابن ولا ابنة، فهؤلاء الإخوة من الأم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ هؤلاء الإخوة من الأم، فهم شركاء في الثلث، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٧٨.
(2) ابن جرير ٦/٤٨٣، كما أخرجه عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٧ من طريق شيبان، وزاد: إن كان واحدًا فله السدس.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ فالكلالة: من لم يرثه أب أو ابن.. والكلالة: الأخوة والأخوات من الأم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ فهؤلاء الإخوة من الأم، فهم شركاء في الثلث، سواء الذكر والأنثى(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٨٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: امرأة تركت زوجها، وإخوتها لأمها، وإخوتها وأخواتها لأبيها؟ فقال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللإخوة من الام الثلث، الذكر والأنثى فيه سواء، وبقي سهم فهو للإخوة والأخوات للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن السهام لا تعول ولا ينقص الزوج من النصف، ولا الإخوة من الام من ثلثهم، لأن الله عز وجل يقول: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، وإن كانت واحدة فلها السدس، والذي عنى الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ إنما عنى بذلك الإخوة والأخوات من الام خاصة، وقال في آخر سورة النساء: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ يعني أختا لأب وام أو أختا لأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فهم الذين يزادون وينقصون وكذلك أولادهما الذين يزادون وينقصون، ولو أن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها وأختيها لأبيها، كان للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللإخوة من الام سهمان، وبقي سهم فهو للأختين من الأب، وإن كانت واحدة فهو لها لأن الأختين لأب لو كانتا أخوين لأب لم يزادا على ما بقي، ولو كانت واحدة أو كان مكان الواحدة أخ لم يزد على ما بقي، ولا تزاد أنثى من الأخوات، ولا من الولد على ما لو كان ذكرا لم يزد عليه(1).
2. روي عن زرارة، قال: أمر أبو جعفر أبا عبد الله فأقرأني صحيفة الفرائض، فرأيت جل ما فيها على أربعة أسهم(2).
3. روي أنّه قال: قرأ على فرائض علي، فكان أكثرهن من خمسة أسهم ومن أربعة، وأكثره من ستة أسهم(2).
4. روي عن الحسن بن محمد بن سماعة قال دفع إلي صفوان كتابا لموسى بن بكر، فقال لي: هذا سماعي عن موسى بن بكر، وقرأته عليه، فإذا فيه: موسى بن بكر، عن علي بن سعيد عن زرارة، قال هذا ما ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، عن أبي عبد الله وأبي جعفر أنه سئل عن امرأة تركت زوجها وأمها وابنتيها، فقال: للزوج الربع، وللأم السدس، وللابنتين الباقي، لأنهما لو كانا رجلين لم يكن لهما إلا ما بقي، ولا تزاد المرأة أبدا على نصيب الرجل لو كان مكانها، فإن ترك الميت اما وأبا أو امرأة وبنتا، فإن الفريضة من أربعة وعشرين سهما، للمرأة الثمن ثلاثة أسهم من أربعة وعشرين، ولأحد الأبوين السدس أربعة أسهم، وللبنت النصف اثنا عشر سهما، وبقي خمسة أسهم مردودة على سهام البنت وأحد الأبوين على قدر سهامهم، ولا يرد على المرأة شيء، وإن ترك أبوين وامرأة وبنتا فهي أيضا من أربعة وعشرين سهما، للأبوين السدسان ثمانية أسهم، لكل واحد أربعة أسهم، وللمرأة الثمن ثلاثة أسهم، وللبنت النصف اثنا عشر سهما، وبقي سهم واحد، مردود على البنت والأبوين على قدر سهامهم، ولا يرد على المرأة شيء، وإن تركت أبا وزوجا وبنتا فللأب سهمان من اثني عشر وهو السدس، وللزوج الربع ثلاثة أسهم من اثني عشر سهما، وللبنت النصف ستة أسهم من اثني عشر، وبقي سهم واحد مردود على البنت والأب على قدر سهامهم، ولا يرد على الزوج شيء، ولا يرث أحد من خلق الله مع الولد إلا الأبوين والزوج والزوجة، فإن لم يكن له ولد، وكان ولد الولد، ذكورا كانوا أو إناثا فإنهم بمنزلة الولد، ولد البنين بمنزلة البنين يرثون ميراث البنين، وولد البنات بمنزلة البنات يرثون ميراث البنات، ويحجبون الأبوين والزوج والزوجة عن سهامهم الأكثر، وإن سفلوا ببطنين وثلاثة وأكثر، يورثون ما يورث ولد الصلب ويحجبون ما يحجب ولد الصلب(3).
__________
(1) الكافي 7/101/3.
(2) الكافي 7/81.
(3) التهذيب 9/288/1043.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في كتاب الله عز وجل سبع عشرة فريضة، منهن ثلاث عشرة فريضة: مسميات، وأربع: غير مسميات؛ أما الفرائض المسميات فمنها: فريضة الابنة: النصف، وذلك قوله الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾، وفريضة البنتين: الثلثان، وذلك قول الله سبحانه: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾، وفريضة الوالدين: السدسان، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وفريضة الأم: الثلث، وذلك قول الله سبحانه: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، وفريضة الأخت: النصف، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾، وفريضة الأختين: الثلثان، وذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾، وفريضة الأخ أو الأخت من الأم: له السدس، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، وفريضة الزوج مع الولد: الربع، وفريضته إذا لم يكن ولد: النصف، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ﴾، وفريضة الزوجة: الربع إذا لم يكن ولد، والثمن مع الولد، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾؛ فهذه الفرائض المسميات في القرآن، وهي: ثلاث عشرة فريضة.. وأما الأربع اللواتي هن غير مسميات، وهن في الكتابـ ففريضة الأولاد، وذلك قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وفريضة الأب إذا لم يكن ولد، وذلك قوله تعالى: ﴿وورثة أبواه فلأمه الثلث﴾؛ فلم يسم في هذا الموضع ميراث الأب، وميراث الأخ من أخته، وذلك قوله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾، وفريضة الإخوة والأخوات، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/211.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في الكلالة(2):
أ. قال بعضهم: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد.
ب. وعن الحسن أنه قال الكلالة: الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو الإخوة والأخوات من الأب، ذهب في ذلك إلى ما ذكر في آية أخرى قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَيَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ إلى آخر ما ذكر [النساء: 176]، والنصف إنما يكون للأخت من الأب والأم، أو الأخت من الأب، وذلك تفسير الكلالة؛ دل أنها الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.
ج. وروي عن أبي بكر أنه قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.
د. وروي عن عمر أنه قال لقد أتى علىّ زمان وما أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة ما لم يكن له ولد ولا والد.
هـ. وعن ابن عباس قال الكلالة ما خلا الولد والوالد.
و. وروي عن أبي بكر قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها الله تعالى في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والمرأة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة من الأب والأم، والآية التي في سورة الأنفال في: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 5] مما جرت في الرحم من العصبة.
ز. وروي عن عمر أنه قال إذا كانت الكلالة بعضهم أقرب من بعض بأب فهو أحق بالمال، وحديث عمر هذا يبين أن الكلالة، اسم يقع على الإخوة من الأم ويقع على الإخوة من الأب، ويقع على الإخوة من الأب والأم، وهو ما ذكرنا في قول أبي بكر وعمر أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، فكانوا يذهبون ـ والله أعلم ـ أن الأعمام وبني الأعمام يرجعون في النسب مع الميت إلى جده، وقد تكللهم الجد، وكذلك الأخوال والخالات وأولادهم يرجعون مع الميت إلى جده، أبي أمه، وقد تكللهم أبو الأم؛ فسبيلهم في ذلك سبيل الإخوة والأخوات الذين تكللهم الأب والأم، إلا أنهم لما كانوا أبعد في النسب من الإخوة والأخوات لم يرثوا معهم، فأجمعوا أن معنى [قوله ـ سبحانه وتعالى ـ]: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ [النساء: 176] هو في الأخت من الأب والأم، أو من الأب، إذا مات الرجل ولا ولد له ذكر ولا أنثى يعطى الأخت النصف تسمية.
2. قال قوم من الشيعة: الآية تدل على أنه إن ترك ابنة وأختا أن المال كله للابنة أولى بما زاد على النصف؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75]؛ فكانت الابنة أحق بذلك من غيرها، قيل له: إن قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ ـ إنما أوجب أنهم أولى ببعض من الأجنبيين؛ بين ذلك قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ [الأحزاب: 6]؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، فنسخ الله ذلك، وجعل الميراث لذوي القرابة، وليس في الآية دليل على أن القريب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في القرابة، وقال الله تعالى: ﴿وهُوَيَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ﴾ [النساء: 176]، يقول ـ والله أعلم ـ: الأخ من الأب يرث الأخت المال كله؛ إن لم يكن لها ولد، وترث من الأخ النصف إذا كان هو الميت، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: 176]؛ فأجمعوا أن الأختين وما زاد من الميراث سواء، وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: 176] فأجمعوا أن الرجل والمرأة إذا مات أحدهما وترك أخا وأختا فما زاد على ذلك من الذكور والإناث كان الميراث بينهم: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؛ فهذا ما نص الله تعالى عليه في فرائض المواريث.
3. تكلم أهل العلم في الردّ، والعول، وميراث ذوي الأرحام، فأما ميراث ذوي الأرحام: فإن الله تعالى قال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75]، فمن زعم أن المال لبيت المال فلم يجعل بعض الأرحام أولى ببعض؛ بل جعل الغرباء أولى بالميت من أولى الأرحام؛ فكان قول المورثين عندنا أولى، وهو قول عمر، وعلى، وعبد الله [بن مسعود]، وجماعة من الصحابة إلا زيد بن ثابت فإنه جعل ذلك لبيت المال، سؤال وإشكال: إن قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75] إنما هو فيمن سمى الله لهم سهاما، والجواب: في الخبر دليل أنه في غير الذين سمى الله لهم سهاما ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الله ورسوله وليّ من لا وليّ له، والخال وارث من لا وارث له)، وروي ـ أيضا ـ أن عمر قضى للخالة بالثلث، وللعمة بالثلثين، وعن زر بن حبيش، عن عمر أنه قسم الميراث بين العمة والخالة، وعن عبد الله بن مسعود قال الخالة والدة، وعن علي أنه قال في العمة والخالة: للعمة الثلثان، وللخالة الثلث، فأخذ علماؤنا(3) في ذلك بما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن الأجلّة من الصحابة، وكان ذلك موافقا لظاهر الآية وعمومها، وكان اتباع ذلك عندهم أولى من غيره.
4. فأما الكلام في العول: فإن ابن عباس كان ينكره، ويقول: لا تعول الفريضة، وكان علي وعبد الله وزيد بن ثابت يقولون بعول الفرائض، وروي عن الحارث قال: ما رأيت أحدا قط أحسب من علي بن أبي طالب أتاه آت، فقال: يا أمير المؤمنين، رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وامرأته، ما لامرأته؟ قال: صار ثمنها تسعا، وكان ابن عباس يكره أن ينقص الأب من السدس، وقد سمى الله تعالى له السدس، ثم لم يمض على هذا الأصل؛ لأنه قال في الابنتين وأبوين وامرأته: للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، وما بقي فللابنتين؛ فنقص الابنتين مما سمى الله لهما، فلم كانتا أولى بالنقصان كله من غيرهما؟ وسائر الصحابة أدخلوا النقصان على كل وارث بقدر نصيبه؛ لئلا يلحق النقصان على بعض، ويأخذ البقية كمال نصيبهم، وجعلوا ذلك كقوم أوصى لهم رجل بوصايا تتجاوز الثلث إذا جمعت؛ فالحكم أن يقسم الثلث بينهم بالحصص، وكقوم صح لهم دين على ميت، وتركته لا تفي بذلك؛ فهم جميعا أسوة: يلحق كل واحد منهم النقصان بقدر حصته.
5. وأما الردّ: فإن عليّا وعبد الله قالا به، على اختلافهما فيمن يرد عليه، وسبيل ذلك سبيل ذوي الأرحام؛ لأن ذا الرحم بباقي المال أولى من الأجنبيين؛ بقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾؛ فمن لا رحم له فلا حق له غير سهمه، وليس في الزوج والزوجة خلاف بين أهل العلم أنه لا يرد عليهما، ولأن في الآية دليل الرد على غير الزوجين من أهل السهام ومنع الرد عليهما؛ لأنه عزّ وجل ذكر للأبوين السدسين إذا كان له ولد، وسمى للأم الثلث إذا لم يكن له ولد، ولم يسم للأب شيئا؛ فيرد الباقي عليه، وكذلك سمى للذكور من الأولاد مع الإناث نصيبا بقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ولم يسم لهم شيئا في حال الانفراد؛ فيرد الكل عليهم، ولم يترك للزوجين ذكر تسمية سهامهما في حال؛ بل ذكر سهامهما في الأحوال كلها في حال الولد، وفي حال الذي لا ولد له؛ فلذلك منع دليل الرد عليهما، وقوله عزّ وجل: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ ومرة: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾؛ حتى يعلم أنهما واحد، ثم ذكر المضارة في ميراث الإخوة والأخوات، ولم يذكر في الولد والوالد والزوج والزوجة؛ فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أنه ذكر في هذا أنه بهم ختم المواريث؛ فتكون تلك المضارة كانت كالمذكورة في الأولاد، أو الوالدين والأزواج؛ إذ بذلك ختم.
ب. ويحتمل: أنه ذكر هاهنا المضارة ولم يذكر فيما ذكرنا؛ لما في الطبع يقصد الرجل إلى مضارة الأخ والأخت ومن بعد منه، ولا يقصد في المتعارف إلى مضارة الآباء والأولاد ومن ذكرنا، فإذا جاء النهي في مضارة من يقصد في الطبع ـ بقصد الرجل ـ مضارته؛ فلان ينهي عنها فيما لا يقصد بالطبع أحق.
6. ثم بيان المضارة في الوصية ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الثّلث، والثّلث كثير) وقوله: (إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون)، وما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الرّجل ليعمل عمل الخير ستّين سنة، فإذا أوصى خان في وصيّته، فيختم له بشرّ عمله؛ فيدخل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل عمل أهل الشّرّ ستّين سنة، فيعدل في وصيّته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنّة) ثم يقول أبو هريرة: اقْرَؤُوا إن شئتم: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، وما روي: (الثّلث حيف)، وما روي عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إلى آخره، قال في الوصية، وقوله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 182]
7. ثم الإضرار قد يكون ـ أيضا ـ إذا أوصى لوارث ولم يوص للباقين؛ لأنه أضر به بالوصية لبعض ورثته الباقين؛ فلا فرق بين أن يضر بعض الورثة وبين أن يضر الورثة كلهم؛ ففيه دليل بطلان الوصية لبعض الورثة دون بعض.
8. ثم الإضرار قد يكون بالدّين على ما يكون بالوصية؛ لأنه إذا أقر المريض لبعض الورثة بدين، فإن إقراره لا يجوز كما لا تجوز وصيته، والإقرار بالدين أحق ألا يجوز من الوصية؛ لأن الإقرار في المرض جوازه بحق الأمانة؛ إذ يجوز جواز الشهادة، والشهادة أمانة، والوصية جوازها بحق الملك؛ فإذا بطلت الوصية لوارثه فإقراره له في المرض أحق أن يبطل؛ وعلى ذلك إذا كان عليه دين في الصحة، فأقر بدين في المرض؛ فغرماء الصحة أولى بدينهم من غرماء المرض؛ لأن في ذلك إضرارا بغرماء الصحة؛ لأن دينهم قد تعين في ماله، وتحول من الذمة إلى التركة؛ ألا ترى أنه ليس له أن يقضي غريما دون غريم! فإذا كان ما ذكرنا ـ لم يكن له قسمة المال بين غرماء الصحة وبين من أقر لهم بالدين في المرض؛ إذ فيه الإضرار بهم؛ إذ قد تعين حقهم؛ فلا فرق أن يكسب الضرر على الوارث وبين أن يكسب الضرر على الغرماء.
9. وإذا باع شيئا بقيمته في المرض أو استقرض؛ فإنه يجوز ويبدأ به؛ لأنه يعمل للغرماء؛ إذ يقضي ديونهم مما أخذ، وإذا تزوج أو استأجر فيكون أسوة الغرماء؛ لأنه لم يعمل لهم، إنما يعمل لنفسه، وليس فيه اكتساب الضرر على الغرماء، فيكون أسوة، ثم إذا أضر لم يجز، ويرد ذلك الضرر ويفسخ.
10. سؤال وإشكال: إن الرجل قد ينهي عن الإضرار في نفسه وماله، ولو فعل يجوز، والجواب: إن الإضرار إذا حصل في ملكه أو في نفسه ـ ينهي ويجوز؛ لأنه لم يضر غيره، وإذا حصل في ملك غيره لم يجز وردّ، وهاهنا إنما حصل في ملك الورثة والغرماء؛ لذلك بطل، ولا يوصي بأكثر من الثلث، ولا يوصي لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة.
11. يحتمل قوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾:
أ. أي: الذي نهي عن المضارة وصية.
ب. ويحتمل: الذي فرض عليكم من المواريث؛ وصية من الله وفريضة منه
12. قوله تعالى: ﴿واللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:
أ. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بمن ضارّ الوارث، وزاد على الثلث، وبمن لم يضار ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل بالعقوبة على من ضار.
ب. ويحتمل العليم والحليم أن يكونا سواء؛ لأن ضد ﴿حَلِيمٌ﴾ سفيه، وكذلك الحليم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/59.
(2) ذكر هذا، لكن لم يرتب الخلاف، وإنما ذكر الروايات الواردة، وقد قسمناها كما ذكرها.
(3) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قول سيدنا عز وجل: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾، قيل: إن الكلالة هم غير الولد والوالد من القرابة.. والكلالة: هم الوارثون من ذوي القربى إذا لم يترك الميت والداً ولا ولداً.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/236.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ والكلالة ما عدا الوالد والولد مثل الأخوة والأخوات وهو عبارة عن الحي لا الميت وأصل الكلالة الإحاطة ومنه الإكليل سمي بذلك لإحاطته بالرأس فكذلك الكلالة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الوالد والولد.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/168.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلفوا في الكلالة على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم من عدا الولد، وهو مروي عن ابن عباس، رواه طاوس عنه.
ب. الثاني: أنهم من عدا الوالد، وهو قول الحكم بن عيينة.
ج. الثالث: أنهم من عدا الولد والوالد، وهو قول أبي بكر، وعمر، والمشهور عن ابن عباس، وقد روى الشعبي قال قال أبو بكر: قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمنّي والله منه بريء إن الكلالة ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر قال إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر في رأي رآه.
2. اختلفوا في المسمّى كلالة على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن الكلالة الميت، وهو قول ابن عباس، والسدّي.
ب. الثاني: أنه الحي الوارث، وهو قول ابن عمر.
ج. الثالث: أنه الميت والحي، وهو قول ابن زيد.
3. أصل الكلالة الإحاطة، ومنه الاكليل سمي بذلك لإحاطته بالرأس فكذلك الكلالة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الوالد والولد.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/461.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ يعني من الأم، بلا خلاف.
2. (وكلالة) نصبه يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: على أنه مصدر وقع موقع الحال، وتكون كان تامة، وتقديره: يورث متكلل النسب كلالة.
ب. والثاني: بان يكون خبر كان، ذكره الرماني، والبلخي، وتقديره (فان كان) (رجل) اسم كان ويورث: صفته. وكلالة خبره. والأول هو الوجه، لأن (يورث) هو الذي اقتضى ذكر الكلالة، كما تقول: يورث هذا الرجل كلالة، بخلاف من يورث ميراث الصلب، ويورث كلالة عصبة وغير عصبة.
3. اختلفوا في معنى الكلالة:
أ. فقال أبو بكر وعمر، وابن عباس، وابن زيد، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق: هو ما عدا الوالد والولد.
ب. وروي عن ابن عباس في رواية أخرى، أن الكلالة ما عدا الوالد، وورث الاخوة من الأم السدس مع الأبوين، وهذا خلاف إجماع أهل الاعصار.
ج. وقال ابن زيد: الميت يسمى كلالة. وقال جابر، وابن زيد: من عدا الوالد والولد من الورثة يسمى كلالة، فعلى هذا يسمى الزوج والزوجة كلالة، وقال قوم: الكلالة هو الميت الذي لا ولد له، ولا والد.
د. وعندنا (2) أن الكلالة هم الاخوة والأخوات، فمن ذكر في هذه الآية هو من كان من قبل الأم، ومن ذكر في آخر السورة فهو من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب.
4. أصل الكلالة: الاحاطة، فمنه الإكليل، لاحاطته بالرأس، ومنه الكل لاحاطته بالعدد، والكلالة لاحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد، ومنه الكلال، لأنه تعب قد أحاط، وقال أبو مسلم: أصلها من كل إذا أعيا، فكأنه تناول الميراث من بُعدٍ على كلا وإعياء. وقال الحسين بن علي المغربي: أصله عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره، مأخوذاً من الكلالة، وهي مصدر الأكل، وهو الظهر، وقال: قرأت على أبي أسامة في كتاب الجحيم، لأبي عمرو الشيباني: تقول العرب: ولاني فلان أكله على وزن أظله، أي: ولاني ظهره، قال وهذا الاسم تعرفه العرب، وتخبر به عن جملة النسب والوارثة، قال عامر بن الطفيل:
çوأني وان كنت ابن فارس عامر...وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن كلالة...أبى اللَّه ان أسموا بأم ولا أبé
هكذا أنشده الرازي في كتابه، وينشد عن وارثة. وقال زياد بن زيد العذري:
çولم أرث المجد التليد كلالة...ولم يأن مني فترة لعقيبé
والكل الثقل، ويقولون لابن الأخ ومن يجري مجراه، ممن يعال على وجه التبرع: هذا كلي، ومن قال: إن الأب لا يدخل في الكلالة استدل بقول الشاعر:
çفان أبا المرء أحمى له...ومولى الكلالة لا يغضبé
فأفرد الأب من الكلالة. ولا خلاف أن الاخوة والأخوات من الأم يتساوون في الميراث.
5. قوله: ﴿وَصِيَّةٍ﴾ نصب على المصدر بقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ وصية وقال الفراء: نصب بقوله: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ وصية كما تقول: لك درهمان نفقة إلى أهلك، والأول أعم قائدة، وأولى.
6. ﴿وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ معناه هاهنا: عليم بمصالح خلقه، حليم بامهال من يعصيه، فلا يغتر مغتر بامهاله.
7. ﴿وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ ثم قال: ﴿وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ ولم يقل: لهما، كما تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله، ويجوز: فليصلها، ويجوز: فليصلهما، فالأول يرد الكناية إلى الأخ، والثاني على الاخت، والثالث عليهما، كل ذلك حسن.
8. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ نصب على الحال، يعني: يوصي بذلك غير مضار. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصباً على أنه مفعول به. وحكي البلخي عن أبي عبيدة، وذكره الزجاج: (يورث) بكسر الراء، قال: ومعناه من ليس بولد ولا والد، ومن نصب الراء أراد المصدر.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/136
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلالة أصله الإحاطة، فمنه الإكليل لإحاطته بالرأس، ومنه الكُلُّ لإحاطته بالعدد، والكلالة لإحاطتها بأصل النسب؛ لأن الوالد والولد بينهما اللاصق، والكلالة الخارج محيط به كما يحيط بالرأس الإكليل ومنه الكَلالُ؛ لأنه نعت أحاط به، قال الشاعر:
çفإن أبا المَرْء أَحْمَى لَهُ... وَمَوْلَى الكَلالَةِ لا يَغْضَبُé
فأخرج الأب من الكلالة.
2. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ﴾ يغني إن كان الميت رجلاً يورث عنه الكلالة، واختلفوا في الكلالة:
أ. فقيل: إنه اسم للميت الذي يورث عنه عن الضحاك والسدي وجماعة.
ب. وقيل: اسم للورثة عن جماعة من الصحابة والعلماء منهم سعيد بن جبير.
ج. وقيل: هو اسم للمال عن النضر بن شميل، واختلف من قال: إنه اسم للورثة، فقيل: هو ما عدا الوالد والولد من الورثة عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن زيد وقتادة والزهري وابن إسحاق.
د. وقيل: ما عدا الولد، وترث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس، رواه طاووس عن ابن عباس.
هـ. وقيل: هم الإخوة لأم عن عطية.
و. وقيل: الإخوة للأب عن عبيدة بن عمير.
ز. الصحيح أنه اسم لما عدا الوالد والولد، قال الشاعر:
çوَرِثْتُمُ قَنَاة المُلْك غَيْرَ كَلاَلةٍ... عَنِ ابْنَيْ منافٍ عبدِ شمسٍ وهاشمِé
يعني ورثتم عن سبب قريب غير بعيد.
3. ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ يعني لأم، وفيه إجماع، وعن سعيد بن أبي وقاص: (وله أخ أو أخت لأم) ولأنه تعالى بين حكم الأم والأخت لأب وأم أو لأب، وجعل المال للذكر مثل حظ الأنثيين في آخر السورة، وجعل ههنا الذكر والأنثى سواء، فدل أنهم الأخ والأخت لأم.
4. ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ مما ترك ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ لا يزاد ولد الأم على الثلث وإن كثروا، ويقسم بينهم بالسوية، الذكر والأنثى فيه سواء، ولا موضع في الفرائض يسوى فيه الذكر والأنثى إلا ههنا.
5. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي من غير أن يوصى وصية تضر بالورثة، كما قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾:
أ. قال الحسن: هو أن يوصى بدين ليس عليه.
ب. وقيل: غير مضار في الميراث، فإنه تعالى كره الضرار في الحياة وبعد الموت عن قتادة، تقديره: لا يضر بعض الورثة بعضًا.
ج. وقيل: ما تقدم في قسمة الميراث على غير ضرار، وأن الضرار ليس من فرائض الله.
6. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ أي يوصيكم بجميع ذلك وصية ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾:
أ. بمن يعمل بحدوده وفرائضه بما يتجاوز حده بأن يمهله.
ب. وقيل: عليم بمصالح خلقه.
7. ﴿حَلِيمٌ﴾ يمهل العصاة فلا تغتروا.
8. فرض الإخوة والأخوات: هم على ثلاثة أوجه: الأخت من الأب والأم للواحدة النصف، وللثنتين فصاعدًا الثلثان، والأخت من الأب حكمها كذلك، فإذا اجتمعا فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس لا يزاد على ذلك وإن كثرن، قإن كان الذي لأب وأم ثنتين فلهما الثلثان، ولا شيء للأخت من الأب الثالث: الأخ والأخت من الأم فللواحدة السدس، وللثنتين فصاعدًا الثلث، ويستوي فيه الذكر والأتتى، واختلفوا في الأخوات لأب وأم، أو لأب مع البنات، فعندنا تكون عصبة، وهو مذهب جماعة الصحابة غير ابن عباس، فإنه يقول: المال للابنة، ولا خلاف أن الابن وابن الابن يحجب الإخوة والأخوات، وكذلك الأب، واختلفوا في الجد على ما بينا، فأما الإخوة والأخوات لأم فتحجب بالولد وولد الابن والأب والجد بالاتفاق من يدخل الآية ومن لا يدخل، قد بينا ابن الابن والجد والجدة، واختلاف الناس فيه.
9. قراءة العامة ﴿يُورَثُ﴾ بفتح الراء على ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن بكسر الراء جعل الفعل للرجل، وقراءة العامة ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ وعن [سعد] بن أبي وقاص أنه كان يقرأ (وله أخ أو أخت لأم)، وهذا محمول على أنه فسر به؛ لأن الإجماع حصل على أن المراد بالأخ والأخت لأم.
10. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ نصبت ﴿أَكْثَرَ﴾ على خبر ﴿كَانَ﴾
ب. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ نصبا على الحال أي يوصي في تلك الحال.
ج. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ نصبا ﴿وَصِيَّةٍ﴾ على المصدر أي يوصيكم الله وصية، وقال الفراء: فلكل واحد منهما السدس وصية من الله.
د. ﴿كَلَالَةً﴾ نصب قيل: لأنه مصدر وقع موقع الحال، وقيل: على خبر ما لم يسم فاعله ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ وقيل: إنه خبر ﴿كَانَ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/548
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أصل الكلالة الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، ومنه الكل لإحاطته بالعدد، فالكلالة: تحيط بأصل النسب الذي هو الولد والوالد، وقال أبو مسلم: أصلها من كل أي أعيى فكأن الكلالة تناول الميراث من بعد، على كلال وإعياء، وقال الحسين بن علي المغربي: أصله عندي ما تركه الانسان وراء ظهره، مأخوذا من الإكل وهو الظهر، تقول العرب ولاني فلان إكله، على وزن إطله: أي ولاني ظهره، والعرب تخبر بهذا الاسم عن جملة النسب والوراثة، قال عامر بن الطفيل:
çوإني وإن كنت ابن فارس عامر...وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن كلالة...أبى الله أن أسمو بأم ولا أبé
ويروى عن وراثة، وقال زيادة بن زيد العذري:
çولم أرث المجد التليد كلالة...ولم يأن مني فترة لعقيبé
ويقال: رجل كلالة، وقوم كلالة، وامرأة كلالة، لا تثنى ولا تجمع، لأنه مصدر.
2. ذكر الله تعالى ميراث ولد الأم فقال ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾، اختلف في معنى الكلالة:
أ. فقال جماعة من الصحابة والتابعين، منهم أبو بكر، وعمر، وابن عباس، في إحدى الروايتين عنه، وقتادة، والزهري، وابن زيد، هو من عدا الوالد والولد.
ب. وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس أنه من عدا الوالد.
ج. وقال الضحاك، والسدي: إنه اسم للميت الذي يورث عنه.
د. والمروي عن أئمتنا(2): إن الكلالة الإخوة والأخوات،والمذكور في هذه الآية من كان من قبل الأم منهم، والمذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب والأم، أو من قبل الآباء.
3. ﴿أَوِ امْرَأَةٌ﴾: هو عطف على قوله ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ﴾ معناه وإن كان رجل كلالة، يورث ماله، أو امرأة كلالة، تورث مالها على قول من قال: إن الميت نفسه يسمى كلالة، ومن قال: إنه الحي الوارث، فتقديره وإن كان رجل يورث في حال تكلل نسبه به، أو امرأة تورث كذلك، وهو قول ابن عمر، وأهل الكوفة، ويؤيده ما روي عن جابر أنه قال: أتاني رسول الله، وأنا مريض، فقلت: وكيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض، فالكلالة في النسب: من أحاط بالميت، وتكلله من الأخوة والأخوات، والولد، والوالد ليسا بكلالة، لأنهما أصل النسب الذي ينتهي إلى الميت، ومن سواهما خارج عنهما، وإنما يشتمل عليهما بالأنساب من غير جهة الولادة، فعلى هذا تكون الكلالة كالإكليل يشتمل على الرأس، ويحيط به، وليس من أصله، فإن الوالد والولد طرفان للرجل، فإذا مات الرجل، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب طرفيه كلالة.
4. ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾: يعني الأخ والأخت من الأم ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ جعل الذكر والأنثى ها هنا سواء، ولا خلاف بين الأمة أن الأخوة والأخوات من قبل الأم متساوون في الميراث ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ مر بيانه.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾:
أ. قيل: منع الله من الضرار في الوصية أي غير موص وصية تضر بالورثة.
ب. وقيل: أراد غير مضار في الميراث، كره سبحانه الضرار في الحياة، وبعد الممات، عن قتادة، وتقديره: لا يضار بعض الورثة بعضا.
ج. وقيل: هو أن يوصي بدين ليس عليه، يريد بذلك ضرر الورثة، فالضرار في الوصية راجع إلى الميراث، وهو أن يضر في وصيته بماله، أو بعضه، لأجنبي، أو يقر بدين لا حقيقة له، دفعا للميراث عن وارثه، أو يقر باستيفاء دين له في مرضه، أو ببيع ماله في مرضه، واستيفاء ثمنه، لئلا يصل إلى وارثه، وجاء في الحديث: إن الضرار في الوصية من الكبائر.
6. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالح عباده، يحكم بما توجب الحكمة في قسمة الميراث والوصايا وغيرها، ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعاجل العصاة بالعقوبة، ويمن عليهم بالانتظار والمهلة.
7. روي في الشواذ قراءة الحسن (يورث) بكسر الراء كلالة وقراءة عيسى بن عمر الثقفي ﴿يُورَثُ﴾، وقرأ الحسن أيضا ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً﴾ مضاف.. كلاهما منقول من (ورث) فهذا من أورث، وذاك من ورث، وفي كلتا القراءتين المفعولان محذوفان، فكأنه قال يورث وارثه ماله، وقد جاء حذف المفعولين جميعا قال الكميت:
çبأي كتاب، أم بأية سنة،...ترى حبهم عارا علي، وتحسبé
فلم يعد تحسب، وأما قوله ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً﴾ فيعني به غير مضار من جهة الوصية، أو عند الوصية، كقول طرفة (بضة المتجرد) أي بضة عند تجردها، وهذا كما يقال: شجاع حرب، وكريم مسألة: أي شجاع عند الحرب، وكريم عند المسألة.
8. ينتصب ﴿كَلَالَةً﴾ على أنه مصدر وضع موضع الحال، ويكون كان التامة، ويورث صفة رجل، وتقديره: إن وجد رجل موروث متكلل النسب، والعامل في الحال ﴿يُورَثُ﴾، وذو الحال الضمير في يورث، ويجوز أن ينتصب كلالة على أنه خبر كان، على أن يكون كان ناقصة، قال الزجاج: من قرأ ﴿يُورَثُ﴾ بكسر الراء، فكلالة مفعول، ومن قرأ ﴿يُورَثُ﴾، فكلالة منصوب على الحال، ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ منصوب على الحال أيضا، ﴿وَصِيَّةٍ﴾ ينصب على المصدر: أن يوصيكم الله بذلك وصية.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/30.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ قرأ الحسن: (يورث) بفتح الواو، وكسر الراء مع التّشديد، وفي الكلالة أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصّدّيق، وقال عمر بن الخطّاب: أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول عليّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزّهريّ، وقتادة، والفرّاء، وذكر الزجّاج عن أهل اللغة، أن (الكلالة): من قولهم: تكلّله النّسب، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه، قال والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالإكليل على الرّأس، وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلّله النّسب: إذا أحاط به، والابن والأب: طرفان للرّجل، فإذا مات، ولم يخلّفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمّي ذهاب الطّرفين: كلالة.
ب. الثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطّاب، وهو قول طاوس.
ج. الثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم.
د. الرابع: أن الكلالة: بنو العمّ الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابيّ.
2. اختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه اسم للحيّ الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصّدّيق، وعامّة العلماء الذين قالوا: إن الكلالة من دون الوالد والولد، فإنهم قالوا: الكلالة: اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ نسبهم.
ب. الثاني: أنه اسم للميّت، قاله ابن عباس: والسّدّيّ، وأبو عبيدة في جماعة، قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميّت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب.
ج. الثالث: أنه اسم للميّت والحيّ، قاله ابن زيد.
3. فيما أخذت منه الكلالة قولان:
أ. أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإحاطة، ومنه الإكليل، لإحاطته بالرأس.
ب. الثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التّعب، كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء، قال الأعشى:
çفآليت لا أرثي لها من كلالة...ولا من حفى حتّى تزور محمّداé
4. ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ يعني: من الأمّ بإجماعهم، ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء، ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ قال الزجّاج: (غير) منصوب على الحال، والمعنى: يوصي بها غير مضارّ، يعني: للورثة.
__________
(1) زاد المسير: 1/381.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة.
2. كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر فإنه كان يقول: الكلالة من سوى الولد، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد، وعن عمر فيه رواية أخرى: وهي التوقف، وكان يقول: ثلاثة، لأن يكون بينها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لنا أحب الي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا، والذي يدل على صحة قول أبي بكر وجوه:
أ. الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه:
• الأول: يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان، ثم كل عنه إذا تباعد، فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.
• الثاني: يقال: كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة، وذلك لأنا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد إدخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة.
• الثالث: الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، ومنه الكل لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب، إذا عرفت هذا فنقول: من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة، لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه: أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض، ويتولد البعض من البعض، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
çنسب تتابع كابراً عن كابر...كالرمح أنبوبا على أنبوبé
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة، وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات، فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.
ب. الثاني: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين، في هذه السورة:
• أحدهما: في هذه الآية.
• الثاني: في آخر السورة وهو قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ [النساء: 176]، واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط، قال لأن المذكور هاهنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد، إلا أنا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.
ج. الثالث: انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.
د. الرابعة: قول الفرزدق:
çورثتم قناة الملك لا عن كلالة...عن ابني مناف عبد شمس وهاشمé
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم، وهذا يوجب أن يكون الأب داخلا في الكلالة.
3. الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث، فإذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين، وإذا جعلناها وصفا للمورث، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين الأولاد، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق، فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث.
4. المراد من الكلالة في هذه الآية الميت، الذي لا يخلف الوالدين والولد، لأن هذا الوصف إنما كان معتبرا في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا، يقال رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.
5. إذا جعلنا الكلالة صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة، كما يقول: فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.
6. في قوله تعالى: ﴿يُورَثُ﴾ احتمالان:
أ. الأول: أن يكون ذلك مأخوذا من ورثه الرجل يرثه، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه، وفي انتصاب كلالة وجوه:
• أحدها: النصب على الحال، والتقدير: يورث حال كونه كلالة، والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره: يورث متكلل النسب.
• ثانيها: أن يكون قوله: ﴿يُورَثُ﴾ صفة لرجل، و﴿كَلَالَةً﴾ خبر كان، والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة.
• ثالثها: أن يكون مفعولا له، أي يورث لأجل كونه كلالة.
ب. الثاني: في قوله: ﴿يُورَثُ﴾ أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب، وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة.
7. سؤال وإشكال: قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ ثم قال: ﴿وَلَهُ أَخٌ﴾ فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه؟ والجواب: قال الفراء: هذا جائز فإنه إذا جاء حرفان في معنى واحد (بأو) جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، ويجوز إسناده إليهما أيضا، تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله، يذهب إلى الأخ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت، وإن قلت فليصلهما جاز أيضا.
8. أجمع المفسرون هاهنا على أن المراد من الأخ والأخت: الأخ والأخت من الأم، وكان سعد بن أبي قاص يقرأ: وله أخ أو أخت من أم، وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176] فأثبت للأختين الثلثين، وللاخوة كل المال، وهاهنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث، فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات هاهنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية، فالمراد هاهنا الاخوة والأخوات من الأم فقط، وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.
9. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 11] ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما حق امرئ مسلم له مال يوصي به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده)، فهذا الحديث أيضا يدل على الإطلاق في الوصية كيف أريد، إلا أنا نقول: هذه العمومات مخصوصة من وجهين:
أ. الأول: في قدر الوصية، فإنه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا، أما المجمل فقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: 7] ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11] ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 9] وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، وهذا الحديث يدل على أحكام:
• أحدها: أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث.
• ثانيها: أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله: (والثلث كثير)
• ثالثها: أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)
• رابعها: فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة، فعند عدمهم وجب الجواز.
ب. الثاني: تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا لا وصية لوارث)
10. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ نصب على الحال، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته، والضرار في الوصية يقع على وجوه:
أ. أحدها: أن يوصي بأكثر من الثلث.
ب. ثانيها: أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي.
ج. ثالثها: أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة.
د. رابعها: أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه.
هـ. خامسها: أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة.
و. سادسها: أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة، فهذا هو وجه الإضرار في الوصية، والعلماء قالوا: الأولى أن يوصي بأقل من الثلث، قال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من الربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، وقال النخعي: قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يوص، وقبض أبو بكر فوصى، فان أوصى الإنسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا، والأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم.
11. روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ويدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول:
أ. أما القرآن فقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء: 13] قال ابن عباس في الوصية: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء: 14] قال في الوصية.
ب. وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الإضرار في الوصية من الكبائر) وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة)، ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث.
ج. وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر.
12. سؤال وإشكال: كيف انتصاب قوله: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية، كقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 11]
ب. الثاني: أن تكون منصوبة بقوله: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث.
ج. الثالث: أن يكون التقدير: وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الإسراف في الوصية، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: غير مضار وصية بالإضافة.
13. سؤال وإشكال: لم جعل خاتمة الآية الأولى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ وخاتمة هذه الآية ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾؟ والجواب: ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى، ثم قال ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته حليم على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/522.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ الكلالة مصدر، من تكلله النسب أي أحاط به، وبه سمي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها، ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس، فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة، هذا قول أبي بكر وعمر وعلي وجمهور أهل العلم، وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد، وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري، فالأب والابن طرفان للرجل، فإذا ذهبا تكلله النسب، ومنه قيل: روضة مكللة إذا حفت بالنور، وأنشدوا:
çمسكنه روضة مكللة...عم بها الأيهقان والذرقé
يعني نبتين، وقال امرؤ القيس:
çأصاح ترى برقا أريك وميضه...كلمع اليدين في حبي مكللé
فسموا القرابة كلالة، لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه، كما قال أعرابي: (مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم)، وقال الفرزدق:
çورثتم قناة المجد لا عن كلالة...عن ابني مناف عبد شمس وهاشمé
وقال آخر:
çوإن أبا المرء أحمى له...ومولى الكلالة لا يغضبé
وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء، قال الأعشى:
çفآليت لا أرثي لها من كلالة...ولا من وجى حتى تلاقي محمداé
2. ذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة، قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وروي عن عمر بن الخطاب أن الكلالة من لا ولد له خاصة، وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه، وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت جميعا، وعن عطاء: الكلالة المال، قال ابن العربي: وهذا قول طريف لا وجه له، قلت: له وجه يتبين بالإعراب آنفا، وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد، وعن السدي أن الكلالة الميت، وعنه مثل قول الجمهور.
3. هذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب، فقرأ بعض الكوفيين ﴿يُورَثُ كَلَالَةً﴾ بكسر الراء وتشديدها، وقرأ الحسن وأيوب ﴿يُورَثُ﴾ بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما، وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال، كذلك حكى أصحاب المعاني، فالأول من ورث، والثاني من أورث، و﴿كَلَالَةً﴾ مفعوله و﴿كَانَ﴾ بمعنى وقع، ومن قرأ ﴿يُورَثُ﴾ بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف، ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان، فالتقدير: ذا ورثة، ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع، و﴿يُورَثُ﴾ نعت لرجل، و﴿رَجُلٍ﴾ رفع بكان، و﴿كَلَالَةً﴾ نصب على التفسير أو الحال، على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت.
4. ذكر الله تعالى في كتابه الكلالة في موضعين آخر السورة وهنا، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة، فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأم، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ (وله أخ أو أخت من أمه)، ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا، فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة، وقال الشعبي: (الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة)، كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهو القول الأول الذي بدأنا به، قال الطبري: والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر: فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا.
5. قال أهل اللغة: يقال رجل كلالة وامرأة كلالة، ولا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة، وأعاد ضمير مفرد في قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ﴾ ولم يقل لهما، ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا، تقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم، قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ ويجوز أولى بهم، عن الفراء وغيره، ويقال في امرأة: مرأة، وهو الأصل، وأخ أصله أخو، يدل عليه أخوان، فحذف منه وغير على غير قياس، قال الفراء ضم أول أخت، لأن المحذوف منها واو، وكسر أول بنت، لأن المحذوف منها ياء، وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا.
6. ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا، وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى، وهذا إجماع من العلماء، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم، فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس، فإن تركت أخوين وأختين ـ والمسألة بحالها ـ فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث، وقد تمت الفريضة، وعلى هذا عامة الصحابة، لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس، وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة، وهو لا يرى ذلك، والعول مذكور في غير هذا الموضع، ليس هذا موضعه.
7. فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم، فللزوج النصف، ولإخوتها لأمها الثلث، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها، وهكذا من له فرض مسمى أعطيه، والباقي للعصبة إن فضل، فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية، وتسمى أيضا المشتركة، قال قوم: للإخوة للأم الثلث، وللزوج النصف، وللأم السدس، وسقط الأخ والأخت من الأب والأم، والأخ والأخت من الأب، روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر، لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شي، وقال قوم: الأم واحدة، وهب أن أباهم كان حمارا! وأشركوا بينهم في الثلث، ولهذا سميت المشتركة والحمارية، روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا.
8. هذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية، والله الموفق للهداية، وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء، فأبطل الله تعالى ذلك بقوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾ كما تقدم، وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ على ما يأتي بيانه، ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة، قال الله تعالى: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي حتى يهاجروا﴾، وسيأتي، وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم، إن شاء الله تعالى، وسيأتي في سورة النور ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى.
9. الجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت، لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم، وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو: لا يرث، وقد تقدم ميراث المرتد في سورة البقرة.
10. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ نصب على الحال والعامل ﴿يُوصِي﴾، أي يوصي بها غير مضار، أي غير مدخل الضرر على الورثة، أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة، ولا يقر بدين، فالإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة، لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى، وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا، وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز، وقد تقدم هذا في البقرة، وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف، فإن ذلك لا يجوز عندنا، وروي عن الحسن أنه قرأ ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ على الإضافة، قال النحاس: وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن، لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر، والقراءة حسنة على حذف، والمعنى: غير مضار ذي وصية، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم، وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة.
11. فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين، فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة، هذا قول النخعي والكوفيين، قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون، وقالت طائفة: هما سواء إذا كان لغير وارث، هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن..
12. قد مضى في البقرة الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها، وقد روى أبو داوود من حديث شهر بن حوشب وهو مطعون فيه عن أبي هريرة حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنه ثم يحضرهما الموت فيضار ان في الوصية فتجب لهما النار، قال: وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ حتى بلغ ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه، لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء، وفي المذهب قوله: أن ذلك مضارة ترد.
13. ﴿وَصِيَّةٍ﴾ ﴿وَصِيَّةٍ﴾ نصب على المصدر في موضع الحال والعامل ﴿يُوصِيكُمُ﴾ ويصح أن يعمل فيها ﴿مُضَارٍّ﴾ والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا، قاله ابن عطية، وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً﴾ بالإضافة، كما تقول: شجاع حرب، وبضة المتجرد، في قول طرفة بن العبد، والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى.
14. ثم قال: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم، وقرأ بعض المتقدمين ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية.
15. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ و﴿تِلْكَ﴾ بمعنى هذه، أي هذه أحكام الله بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ جملة في موضع نصب على النعت لجنات.
16. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ أي يخالف أمره ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما، كما تقول: خلد الله ملكه، وقال زهير: ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/77.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ المراد بالرجل: الميت و﴿يُورَثُ﴾ على البناء للمفعول، من ورث لا من لا من أورث، وهو خبر كان و﴿كَلَالَةً﴾ حال من ضمير ﴿يُورَثُ﴾ أي: يورث حال كونه ذا كلالة، أو على أن الخبر كلالة ويورث صفة لرجل؛ أي: إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد ولا والد، وقرئ: ﴿يُورَثُ﴾ مخففا ومشددا، فيكون كلالة: مفعولا، أو: حالا والمفعول محذوف، أي: يورث وأريد حال كونه ذا كلالة، أو يكون مفعولا له: أي لأجل الكلالة.
2. الكلالة: مصدر من تكلله النسب، أي: أحاط به، وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس، وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد، هذا قول أبي بكر، وعمر، وعليّ، وجمهور أهل العلم؛ وبه قال صاحب كتاب العين، وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة والقتبي، وأبو عبيد، وابن الأنباري، وقد قيل: إنه إجماع، قال ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور الخلف والسلف، بل جميعهم، وقد حكى الإجماع غير واحد، وورد في حديث مرفوع، انتهى، وروى أبو حاتم، والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال الكلالة: كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة، قال أبو عمرو بن عبد البر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط، لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروي عن أبي بكر وعمر: من أن الكلالة من لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه، وقال ابن زيد: الكلالة: الحيّ والميت جميعا، وإنما سموا القرابة: كلالة، لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلله النسب؛ وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال، وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء، وقال ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد، وبالجملة فمن قرأ يورّث كلالة بكسر الراء مشددة، وهو بعض الكوفيين، أو مخففة، وهو الحسن وأيوب، وجعل الكلالة: القرابة، ومن قرأ: ﴿يُورَثُ﴾ بفتح الراء، وهم الجمهور، احتمل أن يكون الكلالة الميت، واحتمل أن يكون القرابة، وقد روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والشعبي: أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة، قال الطبري: الصواب: أن الكلالة: هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر: (فقلت: يا رسول الله! إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال لا)
3. روي عن عطاء أنه قال الكلالة: المال، قال ابن العربي: وهذا قول ضعيف لا وجه له، وقال صاحب الكشاف: إن الكلالة تطلق على ثلاثة: على من لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد.
4. ﴿أَوِ امْرَأَةٌ﴾ معطوف على رجل، مقيد بما قيد به، أي: أو امرأة تورث كلالة، قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ قرأ سعد بن أبي وقاص: من أمّ، وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه، قال القرطبي: أجمع العلماء: أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم قال ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ هم الإخوة لأبوين أو لأب، وأفرد الضمير في قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ لأن المراد: كل واحد منهما، كما جرت بذلك عادة العرب؛ إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم؛ فإنه قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفردا، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ وقوله: ﴿يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقد يذكرونه مثنى، كما في قوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، وقد قدمنا في هذا كلاما أطول من المذكور هنا.
5. ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ الإشارة بقوله: ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أي: أكثر من الأخ المنفرد أو الأخت المنفردة بواحد، وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا، ذكرين أو انثيين، أو ذكرا وأنثى، وقد استدلّ بذلك: على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم، لأن الله شرّك بينهم في الثلث، ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب، قال القرطبي: وهذا إجماع، ودلت الآية: على أن الإخوة لأمّ إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية، وهي: إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأمّ وإخوة لأبوين، فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين، ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة، ويؤيد هذا حديث (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) وهو في الصحيحين وغيرهما، وقد قررنا دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها (المباحث الدرية في المسألة الحمارية)، وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/500.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ أي تورث كذلك ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا﴾ أي الإخوة والأخوات من الأم ﴿أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي من واحد ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم، قال المجد في (القاموس): الكلالة: من لا ولد له ولا والد، أو ما لم يكن من النسب لحّا، أو من تكلل نسبه بنسبك، كابن العم، وشبهه أو هي الإخوة للأم، أو بنو العلم الأباعد، أو ما خلا الوالد والوالد، أو هي، من العصبة، من ورث منه الإخوة للأم، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة، وقال ابن برّي: اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كلّ الميت يكلّ كلّا، وكلالة) فهو كلّ إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه، هذا أصلها، قال ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث، فتكون اسما للميت الموروث وإن كانت في الأصل اسما للحدث، على حد قولهم: هذا خلق الله، أي مخلوق الله قال وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم: رجل عدل أي عادل، وماء غور أي غائر، قال الأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث، قال وعليه جاء التفسير في الآية، أن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا، فإذا جعلتها للميت، كان انتصابها في الآية على وجهين:
أ. أحدهما: أن تكون خبر (كان) تقديره: وإن كان الموروث كلالة، أي كلّا ليس له ولد ولا والد.
ب. الثاني: أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي يورث وهو كلالة، وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر، قال ولا يصح أن تكون الناقصة، كما ذكره الحوفيّ، لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة، ولا فائدة في قوله (يورث)، والتقدير: إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة، أي يورث وهو كلالة، أي كلّ.
2. وإن جعلتها للحدث دون العين، جاز انتصابها، على ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن يكون انتصابها على المصدر، على تقدير حذف مضاف، تقديره: يورث وراثة كلالة، كما قال الفرزدق: (ورثتم قناة الملك لا عن كلالة)، أي ورثتموها وراثة قرب، لا وراثة بعد، وقال عامر بن الطفيل:
çوما سوّدتني عامر عن كلالة...أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أبé
ومنه قولهم: هو ابن عمّ كلالة، أي بعيد النسب، فإذا أرادوا القرب قالوا هو ابن عم دنية.
ب. الثاني: أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال، على حد قولهم: جاء زيد ركضا، أي راكضا، وهو ابن عمي دنية، أي دانيا، وابن عمي كلالة أي بعيدا في النسب.
ج. الثالث: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، تقديره: وإن كان الموروث ذا كلالة.
3. فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة:
أ. أحدها: أن تكون خبر (كان)
ب. الثاني: أن تكون حالا.
ج. الثالث: أن تكون مصدرا، على تقدير حذف مضاف.
د. الرابع: أن تكون مصدرا في موضع الحال.
هـ. الخامس: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة، أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث.
4. وقد أجاز قوم من أهل اللغة، وهم أهل الكوفة، أن تكون الكلالة اسما للوارث، واحتجوا في ذلك بأشياء:
أ. منها قراءة الحسن: وإن كان رجل يورث كلالة، (بكسر الراء)، فالكلالة، على ظاهر هذه القراءة، هي ورثة الميت، وهم الإخوة للأم.
ب. واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال يا رسول الله! إنما يرثني كلالة، فإذا ثبت حجة هذا الوجه، كان انتصاب كلالة أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف، ليكون الثاني هو الأول، تقديره: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما تقول ذا قرابة، ليس فيهم ولد ولا والد.
5. وكذلك إذا جعلته حالا من الضمير في (يورث) تقديره: ذا كلالة، قال وذهب ابن جنيّ، في قراءة من قرأ يورث كلالة ويورّث كلالة، أن مفعولي (يورث ويورّث) محذوفان أي يورث وارثه ماله، قال فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها، فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر، وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث، والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى، وقال ابن الأثير: الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمى ذهاب الطرفين كلالة، وفي الأساس: ومن المجاز كلّ فلان كلالة، إذا لم يكن ولدا ولا والدا، أي كلّ عن بلوغ القرابة المماسة.
6. قال الأزهريّ: ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين:
أ. أحدهما: قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾
ب. الثاني قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ [النساء: 176]، فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والإخوة للأب والأم، فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللأختين الثلثين، وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأخ والأخت من الأم، وفي الآية الأولى، الثلث، لكل واحد منهما السدس، فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأم والأب، ودل قول الشاعر، أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة، وهو قوله:
çفإن أبا المرء أحمى له...ومولى الكلالة لا يغضبé
أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم، وموالي الكلالة، وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب.
7. اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ ـ الأخ والأخت من الأم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: وله أخ أو أخت من أم، وكذا فسرها أبو بكر فيما رواه قتادة عنه، قال الكرخيّ: القراءة الشاذة كخبر الآحاد، لأنها ليست من قبل الرأي، وأطلق الشافعيّ الاحتجاج بها، فيما حكاه البويطيّ عنه، في باب (الرضاع) وباب (تحريم الجمع) وعليه جمهور أصحابه، لأنها منقولة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها، انتفاء خصوص خبريتها، وقال القرطبيّ: أجمع العلماء على أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم، قال ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب، ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ـ هم الإخوة لأبوين، أو لأب.
8. إفراد الضمير في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَخٌ﴾، إما لعوده على الميت المفهوم من المقام، أم على واحد منهما، والتذكير للتغليب، أو على الرجل، واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ حال من ضمير ﴿يُوصَى﴾ (على قراءته مبنيا للفاعل) أي غير مدخل الضرر على الورثة، كأن يوصي بأكثر من الثلث، ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور (على قراءته مبنيا للمجهول) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام، لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم، وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: الضرار في الوصية من الكبائر، ورواه النسائيّ في (سننه) عن ابن عباس موقوفا، وهو الصحيح كما قال ابن جرير ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد لفعل محذوف، وتنوينه للتفخيم، كقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، أو منصوب بـ (غير مضار) على أنه مفعول به، فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال، أو منفي معنى، فيعمل في المفعول الصريح، ويعضده القراءة بالإضافة، أي غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بالمضار وغيره ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعاجل بالعقوبة، فلا يغتر بالإمهال.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/44.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ﴾ مات، فمسوِّغ الابتداء بالنكرة نعت محذوف كما رأيت إن لم نجعل قوله: ﴿يُورَثُ﴾ نعت (رَجُلٌ)، والفعل ثلاثيٌّ، أي: يورث ماله، قيل: أو من الرباعيِّ، أي: يجعل وارثًا ﴿كَلالَةً﴾ أي: لم يخلف ولدًا ولا والدًا فصاعدًا وسافلاً، والكلالة هو ذلك الميِّت، وهو خبر (كَانَ) أو خبر ثان والأوَّل (يُورَثُ)، أو حال من ضمير (يُورَثُ) على أنَّه لا خبر لِـ (كَانَ)، أو خبره (يُورَثُ) أو تعليل، أي: للكلالة، أي: القرب، ﴿أَوِ اِمْرَأَةٌ﴾ أي: أو كانت امرأة تورث كلالة.
2. والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الإعياء، استعمل للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفهما، وتستعمل لمن لم يخلِّف والدًا ولا ولدًا، وعلى من ليس والدًا ولا ولدًا، وعليه تحمل الآية، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من لَمْ يخلِّف ولدًا ولا والدًا) على حدِّ ما مَرَّ، أو يعطف على (رَجُلٌ) فيكون (يُورَثُ) عائدًا إلى الأحد الشامل لهما شمولاً بدليًّا، وفصل عن (رَجُلٌ) للإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام، ولأنَّه سبب النزول لقول جابر بن عبد الله وهو مريض: (كيف الإرث يا رسول الله، وإنَّما يرثني كلالة؟)، يعني: رجلاً كلالة.
3. ﴿وَلَهُ﴾ أوْ لها، أو تردُّ الهاء إلى الأحد الشامل ﴿أَخٌ اَوُ اخْتٌ﴾ من الأمِّ، كما قرأ به أُبيٌّ، وقرأ سعد بن مالك وسعد بن أبي وقَّاص: (من أمٍّ) وهو إجماع، وقد قال: ﴿قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]، فأثبت للأختين الثلثين وللإخوة الكلَّ، وهنا للإخوة الثلث وللواحد السدس، فما هنا من الأمِّ، وما هنالك من الأمِّ والأب أو من الأب، وإنَّ ما هنا السدس والثلث وهما فرض الأمِّ فهما لأولادها لا لبني الأعمام والعمَّات ويجب العمل بالقراءة الشاذَّة إذا صحَّ سندها كما يعمل بخبر الواحد.
4. ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمْا السُّدُسُ﴾ إذا انفرد ﴿فَإن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَالِكَ﴾ كأخ وأخت اجتمعا، أو أختين أو أخوين فصاعدًا في ذلك كلِّه ﴿فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ﴾ سهم الذكر وسهم الأنثى سواء، كما هو مقتضى إطلاق الشركة؛ لأنَّ الإدلاء بمحض الأنوثة، ويرثون ولو مع وجود الأمِّ، مع أنَّهم أدلوا بها، وكذا مع الجدَّة.
5. ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍ﴾ للورثة بالإيصاء للوارث بأكثر من تباعته، وإيهام أنَّه تباعته، أو بالإيصاء له بلا تباعة موهمًا أنَّها تباعة، أو لغير الوارث بأكثر من الثلث موهمًا أنَّها تباعة مع أنَّه لا تباعة، أو مع أنَّها تباعة والزائد عليها أكثر من الثلث، وكالوصية البيعُ للوارث بالرخص والشراء منه بالغلاء مطلقًا، ولغير الوارث بالرخص أو الشراء منه بالغلاء بحيث يفوق الثلث، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من فرَّ من ميراث وارثه، قطع الله ميراثه من الجنَّة يوم القيامة) رواه ابن ماجه عن أنس، وعن ابن عبَّاس: (الإضرار بالوصية كبيرة)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيَّته، فيختم له بشرِّ عمله فيدخل النَّار، وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الشرِّ سبعين سنة فيعدل في وصيَّته فيختم له بخير عمله فيدخلُ الجنَّة) رواه أبو هريرة، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنَّ الله تصدَّق عليكم [عند وفاتكم] بثلث أموالكم زيادةً في أعمالكم)
6. ﴿وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ﴾ أوصى الله بذلك إيصاء، فكان (وَصِيَّةً) بدل إيصاء، وجرَّ لفظ الجلالة بـ (مِن)، أو مفعول لـ (مُضَارٍّ) كما قرأ الحسن (مُضَارِّ وصيَّةٍ) بالإضافة، نهيٌ أن يضرَّ وصيَّة الله بتغييرها، فيكون أسند المضارة عليها إسنادًا إيقاعيًّا، لأنَّها محلُّ التغيير.
7. ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بمن ضرَّ وغيرِه مِمَّن أوفى ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجِّل العقوبة، فلا يغرَّنَّكم حلمه، فبَعدَه عقاب المصرِّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/133.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين جلت حكمته أحكام الأولاد والوالدين والأزواج وكل منهم يتصل بالميت مباشرة بلا واسطة شرع في بيان ما يتصل بالميت بالواسطة وهو الكلالة فقال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ أي أو كانت امرأة تورث كلالة أي حال كونه كل منهما كلالة، أي ذا كلالة، أو المعنى وإن كان رجل موروث كلالة أي ذا كلالة، وهو من ليس له ولد ولا والد، وعليه أكثر الصحابة، واللفظ مصدر كل يكل بمعنى الكلال وهو الإعياء، ثم استعمل للقرابة البعيدة غير قرابة الولد والوالد لضعفها بالنسبة إلى قرابة الأصول والفروع، وقال بعضهم: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان ثم كلّ عنه إذا تباعد ومنه سميت القرابة البعيدة كلالة، ذكره الرازي وجها ثانيا، وذكر وجها ثالثا هو أن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس والكل لإحاطته بما يدخل فيه، ويقال: تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب قال: إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة فليست كذلك فإن فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
çنسب تتابع كابرا عن كابر...كالرمح أنبوبا على أنبوبé
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات فإنما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب إليه اه ثم بين أن الكلالة يوصف بها الميت الموروث ويراد بها من يرثه غير أولاده ووالديه، ويوصف بها الوارث ويراد به سوى الأولاد والوالدين ورجح هذا بحديث يدل عليه وذكر كغيره أن لفظ الكلالة مصدر يستوي فيه القليل والكثير ولا يجمع ولا يثنى، وقال بعضهم أنه صفة كالهجاجة للأحمق:
أ. عن عمر أنه كان يقول: الكلالة من سوى الولد من الوارثين، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا استحي أن أخالف أبا بكر الكلالة من عدا الوالد والولد، رواهما عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي وغيرهم، والرواية الثالثة عنه التوقف وكان يقول: ثلاث لأن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة والكلالة والربا، رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأبو الشيخ في الفرائض والحاكم والبيهقي وغيرهم، وروى ابن راهويه وابن مردويه عن سعيد بن المسيب بسند صحيح أن عمر سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف يورث الكلالة؟ فقال: (أوليس الله قد بيّن ذلك)؟ ثم قرأ: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ الخ الآية، فكأن عمر لم يفهم، فأنزل الله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الخ الآية، فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طيب نفس فاسأليه عنها فسألته فقال: (أبوك ذكر لك هذا، ما أرى أباك يعلمها أبدا) فكان يقول: ما أراني أعلمها أبدا وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قال.
ب. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن سعيد أيضا أن عمر كتب أمر الجد والكلالة في كنف (أي عظم كتف) ثم طفق يستخير ربه فقال: اللهمّ إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلما طعن دعا بالكتف، فمحاها ثم قال: كنت كتبت كتابا في الجد والكلالة وكنت أستخير الله فيه، وأني رأيت أن أردكم على ما كنتم عليه، فلم يدروا ما كان في الكتف.
2. هذه الروايات غريبة في معناها، فالأمر واضح لم يشتبه فيه من دون عمر ولا من في طبقته، ولله في البشر شؤون، وقلما تقرأ ترجمة رجل إلا وتجد فيها أنه انفرد بشيء غريب في بابه.
3. إن الله تعالى أنزل آيتين في الكلالة الآية التي نفسرها والآية التي في آخر هذه السورة، فبين في هذه الآية ما يرثه الإخوة للأم من الكلالة فقط للحاجة إلى ذلك وعدم الحاجة عند نزول الآية إلى بيان ما يأخذه إخوة العصب، وكأنه وقع بعد ذلك إرث كلالة فيه إخوة عصب وسُئِل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك فنزلت الآية الأخرى التي في آخر السورة التي جعلت للأخت الواحدة النصف إذا انفردت للأختين فأكثر الثلثين وللأخ فأكثر كل التركة ﴿فإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين﴾
4. فأجمع الصحابة على قوله تعالى هنا: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ يعني به الأخ أو الأخت من الأم فقط لأن الأخوين من العصب قد بيّن حكمهما في الآية الأخرى ولأن قوله: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ يدل على أنهم إنما يأخذون فرض الأم فإنه إما السدس وإما الثلث، واستدل المفسرون على ذلك بقراءة أبي بزيادة (من الأم) وسعد ابن أبي وقاص بزيادة (من أم) وقالوا إن القراءة الشاذة أي غير المتواترة تخصص لأن حكمها حكم أحاديث الآحاد، وعندي أن هذا ليس قراءة وإنما هو تفسير سمعه بعض الناس منهما فظنوا أن كلمة (من الأم) قراءة وأنهما يعدانها من القرآن، وأرى أن كل ما روي من الزيادة على القرآن المتواتر في قراءة بعض الصحابة قد ذكر على أنه تفسير، فإن لم يكن الصحابي هو الذي قصد التفسير بذلك كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي تلقى ذلك الصحابي عنه هو الذي قصد التفسير فظن الصحابي أنه يريد القرآن، والدليل على ذلك القراءة المتواترة عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم الخالية من هذه الزيادة، ولا دخل ههنا للفظ الراوي في الترجيح لأنهم يروون الأحاديث بالمعنى.
5. الحاصل أن الأخ من الأم يأخذ في الكلالة السدس وكذلك الأخت لا فرق فيه بين الذكر والأنثى لأن كل منهما حل محل أمة فأخذ نصيبها، وإذا كانوا متعددين أخذوا الثلث وكانوا فيه سواء لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم لما ذكرنا من العلة وذلك ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ كما تقدم في نظيره، وفيه قراءة يوصى بفتح الصاد وكسرها كما تقدم.
6. أما الباقي بعد فروض هؤلاء كغيرهم فهو على القاعدة التي بيّنها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأول رجل ذكر) أي من عصبة الميت رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس، وإنما لم يذكر هذا في القرآن لأن المخاطبين به في عصر التنزيل به كانوا يعطون جميع التركة للرجال من عصبتهم دون النساء والصغار ففرض سبحانه للنساء ما فرضه فكن شريكات للرجال، وجعل الصغار والكبار في الإرث سواء، وما سكت عنه فلم يبينه بالنص ولا بالفحوى فهو مفوض إليهم يجرون فيه على عرفهم في تقدم الأقرب من العصبات إذ لا ضرر فيه إلا أن يسن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه سنة فيكون اتباعها مقدما على عرفهم كما هو بديهي.
7. ثم قال: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي ذلك الحق في الوراثة يكون من بعد وصية صحيحة يوصي بها الميت في حياته غير مضار بها ورثته، وحدد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الوصية الجائزة بثلث التركة وقال: (والثلث كثير) كما في حديث سعد المتفق عليه، فما زاد على الثلث فهو ضرار لا يصح ولا ينفذ وعن ابن عباس أن الضرر في الوصية من الكبائر أي إذا قصده الموصي، وأيضا من بعد دين صحيح لم يعقده الميت في حياته أو يقر به في حال صحته لأجل مضارة الورثة والحال أنه لم يأخذ ممن أقر له به شيئا فهذا معصية أيضا، وكثيرا ما يجترحها المبغضون للوارثين لهم لا سيما إذا كانوا كلالة، ولذلك جاء هذا القيد في وصية إرث الكلالة دون ما قبله لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر جدا، فكأنه غير موجود.
8. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل فهي جديرة بالإذعان لها والعمل بموجبها ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالحكم ومنافعكم وبنيات الموصين منكم ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يسمح لكم بأن تعجلوا بعقوبة من تستاؤون منه مضارته بالوصية كما أنه لم يسمح لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث، وهو لا يعجل بالعقاب في أحكامه ولا في الجزاء على مخالفتها عسى أن يتوب المخالف.
9. بعد كتابة ما تقدم رأيت في كراسة لبعض تلاميذ محمد عبده كلاما نقله من درسه في تفسيره (والله عليم حليم) هذا مثاله بتصرف في المعنى واختلاف في الأسلوب، هذا تحريض على أخذ وصية الله تعالى وأحكامه بقوة، وتنبيه إلى أنه تعالى فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وإذا كنا نعلم أنه تعالى شأنه أعلم منا بمصالحنا ومنافعنا فما علينا إلا أن نذعن لوصاياه وفرائضه، ونعمل بما ينزله علينا من هدايته، وكما يشير اسم العليم هنا إلى وضع تلك الأحكام على قواعد العلم بمصلحة العباد ومنفعتهم يشير أيضا إلى وجوب مراقبة الوارثين القوام على التركات لله تعالى في عملهم بتلك الأحكام لأنه عليم لا يخفى عليه حال من يلتزم الحق في ذلك ويقف عند حدود الله عز وجل وحال من يتعدى تلك الحدود بأكل شيء من الوصايا أو الدين أو حق صغار الوارثين أو النساء الذي فرضه الله لهم كما كانت تفعل الجاهلية، ولذلك قال في الآية السابقة: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فللتذكير بعلمه تعالى هنا فائدتان، فائدة تتعلق بحكمة التشريع وفائدة تتعلق بكيفية التنفيذ.
10. سؤال وإشكال: قد يخطر في البال أن المناسب الظاهر في هذه الآية أن يقرن وصف العلم بوصف الحكمة كالآية الأخرى فيقال: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فما هي النكتة في إيثار الوصف بالحلم على الوصف بالحكمة والمقام مقام تشريع وحث على اتباع الشريعة، لا مقام حث على التوبة فيؤتى فيه بالحلم الذي يناسب العفو والرحمة؟ والجواب: أن التذكير بعلم الله تعالى لما كان متضمنا لإنذار من يتعدى حدوده تعالى فيما تقدم من الوصية والدين والفرائض ووعيده، وكان تحقق الإنذار والوعيد بعقاب معتدي الحدود وهاضم الحقوق قد يتأخر عن الذنب، وكان ذلك مدعاة غرور الغافل، ذكرنا تعالى هنا بحلمه لنعلم أن تأخر نزول العقاب لا ينافي ذلك الوعيد والإنذار، ولا يصح أن يكون سببا للجراءة والاغترار؛ فإن الحليم هو الذي لا تستفزه المعصية إلى التعجيل بالعقوبة، وليس في الحلم شيء من معنى العفو والرحمة، فكأنه يقول: لا يغرن الطامع في الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فينسى علم الله تعالى بحقيقة حالهم، ووعيده لأمثالهم فيظن أنهم بمفازة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه من الاعتداء، ولا يغرن المعتدي نفسه، تأخر نزول الوعيد به، فيتمادى في المعصية، بدلا من المبادرة إلى التوبة، لا يغرن هذا ولا ذاك تأخير العقوبة فإنه إمهال يقتضيه الحلم، لا إهمال من العجز أو عدم العلم، وفائدة المذنب من حلم الحليم القادر أنه يترك له وقتا للتوبة والإنابة بالتأمل في بشاعة الذنب وسوء عاقبته، فإذا أصر المذنب على ذنبه، ولم يبق للحلم فائدة في إصلاح شأنه، يوشك أن يكون عقاب الحليم له أشد من عقاب السفيه على البادرة عند حدوثها، ومن الأمثال في ذلك: (اتقوا غيظ الحليم) ذلك بأن غيظه لا يكون إلا عند آخر درجات الحلم إذا لم تبق الذنوب منه شيئا، وعند ذلك يكون انتقامه عظيما، نعم إن حلم الله تعالى لا يزول ولكنه يعامل به كل أحد بقدر معلوم ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بحلمه تعالى كما أنه لا ينبغي له أن يغتر بكرمه ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا﴾ [الانفطار: 6 ـ 9]
__________
(1) تفسير المنار: 4/423.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين سبحانه حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يتصل به بالواسطة وهو الكلالة، فقال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ الكلالة لغة: الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، وسمى من عدا الوالد والولد بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة ففيها يتفرع بعض من بعض كالشيء الذي يتزايد على نسق واحد، أي إن كان الميت رجلا أو امرأة موروثا كلالة أي ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت من أم، لأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر السورة ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾
2. ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ أي إن الأخ لأم يأخذ في الكلالة السدس، وكذلك الأخت، لا فارق بين الذكر والأنثى، لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها، فإذا تعددوا أخذوا الثلث وكانوا أيضا فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.
3. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي من بعد وصية يوصى بها أو دين يقرّبه وهو غير مضارّ للورثة قال النخعي: قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يوص، وقبض أبو بكر وقد وصى، فإن أوصى الإنسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا، ومن الحسن أن ينظر الإنسان في قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك، فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب ماله وبحسب حاجتهم بعده كثرة وقلة، وقد روى عن على أنه قال لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من أن أوصى بالربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من أن أوصى بالثلث.
4. الضرار في الوصية والدين يقع على وجوه:
أ. أن يوصى بأكثر من الثلث، وهو لا يصح ولا ينفّذ، وعن ابن عباس أن الضرار فيها من الكبائر.
ب. أن يوصى بالثلث فما دونه لا لغرض من القربة والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة.
ج. أن يقر بدين لأجنبى يستغرق المال كله أو بعضه، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة، وكثيرا ما يفعله المبغضون للوارثين ولا سيما إذا كانوا كلالة، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد (غير مضارّ) في وصية ميراث الكلالة، لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر.
د. أن يقرّ بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه.
5. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي يوصيكم بذلك وصية منه عزّ وجل، فهي جديرة أن يعتنى بها ويذعن للعمل بموجبها.
6. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي والله عليم بما ينفعكم وبنيات الموصين منكم، حليم لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا، كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه فتضاروه في الوصية، كما لا يرضى لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث.
7. في هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه وفرائضه ونعمل بما ينزل علينا من هدايته، كما لا ينبغي أن يغرّ الطامع في الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه من الاعتداء، فإنه إمهال يقتضيه الحلم لا إهمال من العجز وعدم العلم.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/201.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
الحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾
1. المقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه ـ لا من أصوله ولا من فروعه ـ عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع، وقد سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: (أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد)، فلما ولي عمر قال: (إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه)، قال ابن كثير في التفسير: (وهكذا قال علي وابن مسعود، وصح عن غير واحد عن ابن عباس، وزيد ابن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم، وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة، والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف، بل جميعهم، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد)
2. ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ ـ أي من الأم ـ فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكرا أم أنثى، فهذا الحكم خاص بالإخوة من الأم، إذ أنهم يرثون بالفرض ـ السدس لكل من الذكر أو الأنثى ـ لا بالتعصيب، وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض.
3. ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، مهما بلغ عددهم ونوعهم، والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي، وإن كان هناك قول بأنهم ـ حينئذ ـ يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾، والإخوة لأم يخالفون ـ من ثم ـ بقية الورثة من وجوه:
أ. أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.
ب. الثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن.
ج. الثالث: أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم.
4. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ تحذيرا من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة، لتقام على العدل والمصلحة، مع تقديم الدين على الوصية، وتقديمهما معا على الورثة كما أسلفنا.
5. ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية ـ كما جاء في الآية الأولى ـ: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ صادرة منه؛ ومردها إليه، لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى، صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع، وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد.. توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة، قاعدة التلقي من الله وحده، وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/595.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تضمنت الآية حكما آخر غير حكم الزوجين في التوارث بينهما، وهو حكم (الكلالة) وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾، وقد اختلف في (الكلالة..) في معناها أولا، وفي متجهها ثانيا.
أ. فقد رأى بعضهم أنها من الكلال، وهو الضعف إعباء وتعبا.. وقالوا إن صلة الورثة بالمورّث هنا صلة واهية ضعيفة.. ومن هنا حملوا (الكلالة) على من مات ولم يترك وراءه أبا أو ولدا، أو إخوة.
ب. ورأى بعضهم أنها من الكلّ وهو الحمل والعبء، وقالوا إن الورثة هنا عبء على التركة، وأنهم أشبه بالفضوليين عليها، إذ كانوا ولا معتبر لهم في الميراث إلا إذا لم يكن وراء الميت أحد من أصوله أو فروعه، أو فروع أصوله، وفروع فروعه وذلك أمر نادر الحدوث.
2. على حسب اختلاف الآراء في مفهوم (الكلالة) اختلفت الآراء كذلك في موصوفها، وهل هو المتوفّى، أو الورثة، أو المال المورّث! وعلى أيّ فقد اتفق الفقهاء على أن (الكلالة) في الميراث تقع في الحال التي يتوفّى فيها المرء ـ ذكرا أو أنثى ـ من غير أن يترك وراءه أحدا من فروعه أو أصوله أو فروع فروعه، أو فروع أصوله، وهنا يكون لذوى الأرحام نصيب مفروض في تركة المتوفى، بعد أن كان لهم نصيب مندوب، غير محسوب، فيما يرزقونه إذا حضروا القسمة.
3. قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ المراد بالأخ أو الأخت هنا الأخوة لأم، وهم من ذوى الأرحام، الذين لا نصيب لهم في الميراث مع وجود أحد من فروع المتوفى أو أصوله، أو فروع أصوله.
4. قوله سبحانه: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ هو بيان للنصيب المفروض للأخ أو الأخت، من الأم، لكل واحد منهما السدس، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، إذ هما في الموقف ليسا ذكرا أو أنثى، وإنما هما إنسانان يراد بهما البر والإحسان، ولا فرق في هذا بين ذكر وأنثى.. وهذا يعنى أن مكان الأخوة لأم في كيان الأسرة، وفي دعم بنائها الأسرىّ لا معول عليه، بل ولا حساب له، لأنهما في أسرة المتوفى كلالة ـ رجلا أو امرأة ـ أشبه بالغرباء منهما بالأقرباء!
5. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ أي أن الأخوة لأم لا يرثون في (الكلالة) أكثر من ثلث التركة أيّا كان عددهم.. للذكر مثل حظ الأنثى.
6. في الوقوف بنصيب الأخوة لأم عند حد الثلث، لا يتجاوزونه مهما كان عددهم ـ في هذا ما يسند الرأي الذي ذهبنا إليه من قبل، من أن الميراث المفروض للأخوة لأم هنا لا يعدو أن يكون ضربا من البر والصدقة، وأنه خرج من ثلث التركة لا يتجاوزها، شأنه في هذا شأن الوصية، التي لا تتعدى ثلث التركة بحال.
7. قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ هو حال من الضمير في (يوصى) الذي يعود على المتوفّى، وهذا الحال قيد يقيّد به ما ترك الميت وراءه من وصية أو دين.. بمعنى ألا يكون المتوفى كلالة قد نظر إلى نفسه قبيل وفاته، فرأى أنه لا وارث له من فروعه وأصوله، وعندئذ حدثته نفسه أن يحدث في تركته حدثا يفسد به على إخوته لأمه نصيبهم المفروض لهم، كأن يوصى ولا رغبة له في الوصية ولكن ليدخل الضيم على نصيب هؤلاء الأخوة، وكأن يصطنع على التركة دينا لغير دائن، لهذا الغرض نفسه.
8. وهذا ما نبه الله سبحانه وتعالى إليه الميت قبل أن يموت، ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التنبيه بقوله ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ أي هذا فرض فرضه الله للأخوة لأم، وجعله حقا لهم.. فهم ـ والأمر كذلك ـ لم يجيئوا إلى هذا الميراث متطفلين، بل هم أصحاب حق فرضه الله لهم، كما فرض لغيرهم من الورثة ما فرض.
9. ثم أكّد سبحانه وتعالى هذا الأمر مرة أخرى بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أنه سبحانه وتعالى (عليم) بما يعمل الظالمون (حليم) لا يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/713.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بيّن الله تعالى ميراث ذي الأولاد أو الوالدين وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد، وهو الموروث كلالة، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين.
2. الكلالة اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى:
çفآليت لا أرثي لها من كلالة...ولا من حفى حتّى ألاقي محمّداé
وهو اسم مصدر لا يثنّى ولا يجمع، ووصفت العرب بالكلالة القرابة غير القربى، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه:
çفإنّ أبا المرء أحمى له...ومولى الكلالة لا يغضبé
ثم أطلقوه على إرث البعيد، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلّا ما بعد نزول الآية، قال الفرزدق:
çورثتم قناة المجد لا عن كلالة...عن ابني مناف عبد شمس وهاشمé
ومنه قولهم: ورث المجد لا عن كلالة، وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عمر بن الخطاب: (ثلاث لأن يكون رسول الله بيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا: الكلالة، والربا، والخلافة)، وقال أبو بكر: (أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء الكلالة ما خلا الولد والوالد)، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عباس، وقال به الزهري، وقتادة والشعبي، وهو قول الجمهور، وحكي الإجماع عليه، وروي عن ابن عباس (الكلالة من لا ولد له) أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضا ثم رجعا عنه، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 176] وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين.
3. انتصب قوله: ﴿كَلَالَةً﴾ على الحال من الضمير في ﴿يُورَثُ﴾ الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين.
4. ﴿أَوِ امْرَأَةٌ﴾ عطف على ﴿رَجُلٍ﴾ الذي هو اسم (كان) فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر (كان) إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها.
5. ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾
أ. يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يشبه دلالة الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام، وقد أثبت الله بهذا فرضا للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلا، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفا من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن.
ب. وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ، وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها.
6. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ حال من ضمير ﴿يُوصَى﴾ الأخير، ولمّا كان فعل يوصي تكريرا، كان حالا من ضمائر نظائره، و﴿مُضَارٍّ﴾ الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرار بالورثة، والإضرار منه ما حدّده الشرع، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله لسعد بن أبي وقّاص (الثلث والثلث كثير)، ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾، ولمّا كانت نيّة الموصي وقصده الإضرار لا يطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ نهي عن الإضرار، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
7. يتعيّن أن يكون هذا القيد مقيّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، لأنّ هذه المطلقات متّحدة الحكم والسبب، فيحمل المطلق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول.
8. وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة، وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه، ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من (المدوّنة)، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين، ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار، وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح، وبه الفتوى.
9. ﴿وَصِيَّة﴾ منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله، والتقدير: يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: 11] وهذا من ردّ العجز على الصدر.
10. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ تذييل، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعا مثاره الجهل والقساوة، فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب، فهذا ونحوه جهل، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.
11. وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف، وقد أشار قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ في سورة الأنفال وقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ في سورة الأحزاب إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام، وأشار قوله الآتي قريبا ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ [النساء: 33] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه، وبيّن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)، وما رواه الخمسة ـ غير النسائي ـ عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليّه) وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/52.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا النص في ميراث الإخوة والأخوات لأم، وقد عبر عنهم بالكلالة، والكلالة هم القرابة من غير الأصول والفروع، وقد قيل إن الكلالة مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، وقرابة الكلالة وهى غير الأصول والفروع تحيط بالشخص من جوانبه، وليست في أصله ولا فرعه.
2. معنى ﴿يُورَثُ كَلَالَةً﴾ أي يورث من غير أصوله أو فروعه، وعلى ذلك يكون ميراث المذكورين في الآية شرطه ألا يكون أصول ولا فروع، والميراث بالكلالة ذكر في موضعين:
أ. أحدهما هذا الموضع.
ب. الثاني قوله تعالى في آخر هذه السورة: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ [النساء]
3. وقد أجمع الصحابة على أن المراد من الإخوة والأخوات هنا الإخوة لأم والأخوات لأم، كما أجمعوا على أن المراد بالإخوة في آخر السورة الأشقاء ثم لأب، وقد سئل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكلالة في هذه الآية فذكر أنها أولاد الأم، وبهذا يتبين أن هذا النص الكريم فيه أحوال ميراث الإخوة والأخوات لأم، وقد ذكر لهم حالين:
أ. إحداهما:أن يأخذ الواحد أو الواحدة السدس.
ب. الثانية: أن يأخذ الأكثر من واحدة أو واحد الثلث يشتركون فيه بالسوية بلا فرق بين الذكر والأنثى؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ والشركة الأصل فيها التسوية حتى يذكر النص الدال على التفاوت، ولم يوجد في النص ما يدل على التفاوت، وهناك حال فهمت من التعبير بالكلالة، وهى أن هؤلاء لا يرثون إلا إذا لم يكن فروع ولا أصول.
4. هذا، ومرتبة الورثة في التقسيم بعد سداد الديون، وبعد تنفيذ الوصايا، فالتركة لا تقسم إلا بعد سداد الديون، ولا تميز أنصبة كل وارث إلا بعد تنفيذ الوصايا التي لا تتجاوز الثلث، فنصيب الورثة دائما لا يكون إلا في الباقى بعد الوصايا، ولذا قال سبحانه في كل قسمة إنها بعد تنفيذ الوصية والدين، فقال بعد ميراث الأبوين الأولاد: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ وقال بعد ميراث الزوج: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا﴾ وقال بعد ميراث الزوجة: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
5. هنا أمران تجب الإشارة إليهما:
أ. أولهما: أنه كرر في كل حال حق الدائنين والموصى لهم، تبرئة لذمة المتوفى وتأكيدا لحقهم، وهو دليل على أن حق الدائنين والوصايا هو حق للميت نفسه، فهو أولى من غيره، وقدم الوصايا في الذكر، مع أنها مؤخرة عن الدين في السداد، وذلك للتشديد في تنفيذها؛ لأنها مظنة الإهمال أو مظنة الإخفاء، فكان من الأسلوب الحكيم العناية بتنفيذها، وكان من العناية تقديمها في الذكر.
ب. الثاني: أنه ذكر عند ميراث أولاد الأم التحريض على الأداء، فقال تعالى: ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ فكان التحريض مرتين، مرة بمنع المضارة، ومرة أخرى بتأكيد أن هذه وصية الله، فمن خالفها فقد تمرد على وصية الله العليم الحليم الذي يعلم كل شيء وإن لم ينزل العقاب فور الجريمة، وكان ذلك في أولاد الأم؛ لأن حقوقهم مظنة الضياع والإهمال، ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب أولاد الأم، وإذا ذكروا به، كان ذلك بمنزلة التذكير بأمر غريب، فكان التأكيد لهذا.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1606.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلالة الاحاطة، مأخوذة من الإكليل، ويراد بها في باب الإرث قرابة الإنسان غير والديه وأولاده، كالاخوة والأعمام، لأن الوالدين الأولاد كالعمودين، وقد يوصف بالكلالة الميت المورّث على معنى انه قد ورّث غير أولاده ووالديه، وقد يوصف بالكلالة الحي الوارث على معنى ان الوارث هو من غير صنف الآباء والأبناء.
2. وقد جاء لفظة الكلالة في آيتين من القرآن، الآية الأولى هذه، والمراد بها اخوة الميت من أمه فقط، والآية الثانية هي ﴿يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ ـ 176 سورة النساء)، والمراد بها في الآية الأخيرة اخوة الميت لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط، ويأتي التفصيل.
3. جاء لفظ الكلالة مرتين في القرآن الكريم: في هذه الآية، وفي آخر آية من سورة النساء، والمراد بها القرابة غير الوالدين الأولاد.. ويوصف بها الميت الموروث على معنى انه أخ أو أخت للورثة الأحياء، كما يوصف بها الحي الوارث على معنى ان الوارث أخ أو أخت للميت، والمعنيان ـ كما ترى ـ متلازمان ويتواردان على شيء واحد، فبأيهما أخذت صح المعنى.
4. واتفق المفسرون على ان المقصود بالأخ والأخت في الآية التي نفسرها خصوص الأخ والأخت من الأم فقط، بل قرأ البعض: وله أخ أو أخت من الأم، أما ميراث الأخ والأخت من الأبوين، أو من الأب فقط فيأتي حكمه في الآية الأخيرة من هذه السورة.
5. واتفقت المذاهب على ان للواحد من ولد الأم السدس بالفرض ذكرا كان أو أنثى، وللأكثر الثلث ذكورا كانوا أو إناثا أو هما معا، ويقتسمون فيما بينهم بالسوية للأنثى مثل الذكر.
6. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾، سبق انه لا ميراث إلا بعد وفاء الدين، وتنفيذ الوصية، وقد نهى سبحانه عن الضرار في الدّين والوصية، والضرار في الدين أن يقر أو يوصي بدين ليس عليه بقصد الإضرار بالورثة، والإضرار بالوصية أن يتجاوز حد الثلث مما يملك، وإذا فعل يقف تنفيذ الزائد على اجازة الورثة.. وفي الحديث: انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾، وكل ما أوصى الله به يجب الإذعان له، والعمل بموجبه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/262.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل ـ بضم الكاف ـ لإحاطته بالأجزاء، ومنه الكل ـ بفتح الكاف ـ لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، قال وروي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن الكلالة ـ فقال: من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسما للميت، وكلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا.
2. وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفا للرجل وكلالة خبرها والمعنى: وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له ولا ابنا، ويمكن أن يكون كان تامة ورجل يورث فاعله وكلالة مصدرا وضع موضع الحال، ويئول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة، وقال الزجاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث ـ بكسر الراء ـ فكلالة مفعول، ومن قرأ يورث ـ بفتح الراء ـ فكلالة منصوب على الحال.
3. غير مضار منصوب على الحال، والمضارة هو الإضرار وظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كان يعتمل بالدين للإضرار بالورثة وتحريمهم الإرث، أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/213.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ قال الشرفي في (المصابيح): (المراد هنا بالإخوة: الإخوة لأمّ إجماعاً)، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (فالكلالة من لم يرثه أب أو ابن، والكلالة: الإخوة والأخوات من الأم)، وحاصله: أن الكلالة يطلق على المورث المذكور وعلى الإخوة أو الأخوات في حال عدم الأب والإبن، لكنه في الآية ظاهرٌ في الأول، أي: يورث حال كونه كلالة، وفي (نهاية ابن الأثير): (وقيل: الأب والإبن طرفان للرجل فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة)، وفي (حاشيتها): (القائل هو القتيبي، كما في الهروي)، وقوله: (فسمي ذهاب طرفيه كلالة) أي لأن الكلالة في الأصل مصدر من (كَلَّ) بمعنى: الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، كما في (المصابيح) و(الكشاف) وغيرهما، والمشهور في تفسير الكلالة: من لم يترك ولداً ولا والداً، أو ما خلا من الوالد والولد، وقال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (وروي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن رجلاً سأله عن الكلالة؟ فقال: أما سمعت الآية التي أنزلت في الصيف: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ من لم يترك ولداً ولا والداً فورثته كلالة، وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال الكلالة ما خلا من الوالد والولد، وذلك الصواب عندنا)
2. وقد احتج الإمام الهادي عليه السلام لذلك بالقرآن في (باب القول في ميراث الكلالة) ولا تضارب في التفسير، فكلال القرابة أي ضعفها يصبح نسبته إلى الميت وإلى وارثه القريب، فكلاهما كلالة، وإنما يختلف التفسير باختلاف السياق الدال على قصد كلالة قرب الموروث، أو كلالة قرب الوارث.
3. وقال في (لسان العرب): (والكلالة: الرجل الذي لا والد له ولا ولد، ثم قال والعرب تقول: لم يرثه كلالةً، أي لم يرثه عن عُرض بل عن قرب واستحقاق، قال الفرزدق:
çورثتم قناة الملك غير كلالة... عن ابني مناف عبد شمس وهاشمé
ثم قال وقال الليث: اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر كَلَّ الميّت، يكِلّ كلاً وكلالة فهو كَلٌّ: إذا لم يخلف ولداً ولا والداً يرثانه هذا أصلها، قال ثم قد تقع الكلالة على العَين دون الحدث، فتكون اسماً للميت الموروث وإن كانت في الأصل اسماً للحدَث على حد قولهم: هذا خلق الله: أي مخلوق الله، قال وجاز أن تكون اسماً للوارث على حد قولهم: رجل عدل: أي عادل، وماء غور: أي غائر..)، وفي (لسان العرب) حاكياً عن الأزهري: (ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة، وهو قوله:
çفإن أبا المرء أحمى له... ومولى الكلالة لا يغضبé
أراد: أن أبا المرء يغضب له، إذا ظُلم، وموالي الكلالة وهم الإخوة، والأعمام، وبنو الأعمام، وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب انتهى، وفيه حكاية عن ابن بري وقال عامر بن الطفيل:
çوما سودتني عامر عن كلالة.. أبى الله أن أسمو بأم ولا أبé
وقال ابن الأثير في (النهاية) حاكياً عن الهروي: (قد تكرر في الحديث ذكر الكلالة، وهو أن يموت الرجل ولا يَدَع والداً ولا ولداً يرثانه)، وفي (الصحاح): (الكَلُّ الذي لا ولد له ولا والد، يقال منه كَلّ الرجل يَكِلّ كلالةً، والعرب تقول: لم يرثه كلالةً، أي لم يرثه عن عُرُض بل عن قرب واستحقاق، قال الفرزدق:
çورثتم قناة الملك غير كلالة... عن ابني مناف عبد شمس وهاشمé
4. التعبير في تفسير (الكلالة) بلفظ: نفي الوالد والولد، هو في (القاموس) ولم أجد التعبير بعدم الأب والإبن، إلا في (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام) وهو كاف، إلا أن الشهرة بخلافه أرجح، كما حكيت عن أحكام الإمام الهادي عليه السلام وعن (لسان العرب) و(الصحاح) ومثله في (القاموس)
5. وفي (تفسير الطبري): (واختلف أهل التأويل في الكلالة، فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد، ثم رواه عن أبي بكر وعمر بأسانيده، ثم رواه عن ابن عباس بأسانيده عن سليم بن عبد، أنه قال ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن من مات ولم يدع ولداً ولا والداً أنه كلالة رواه بأسانيد، ثم رواه عن الحكم وابن زيد، ثم رواه عن قتادة والزهري وأبي إسحاق، قال الكلالة من ليس له ولد ولا والد)، ثم قال: (وقال آخرون: الكلالة ما دون الولد، ثم قال وقال آخرون: الكلالة: ما خلا الوالد، هكذا قال ولكن روى في إسناد القول بذلك عن شعبة قال سألت الحكم عن الكلالة؟ قال فهو ما دون الأب، ثم روى بإسناده عن ابن زيد قال عن ابن زيد: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد والحي كلهم كلالة، هذا يرث بالكلالة وهذا يورث بالكلالة)
6. نعم يمكن تفسير (الوالد) بالأب وحده وإن أمكن دعوى العموم للأم في قوله: لا والد له بطريقة التغليب لكن الأم تسمى والدة ولا تسمى والداً والتغليب خلاف الأصل، ألا ترى أنه قد غلب عليها اسم الأب في قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ ولا يلزم دخولها في نفي الأب، فكذا في نفي الوالد، ويؤكد هذا: أن ذكر الأب قد ورد في قول الشاعر:
çوما سودتني عامر عن كلالة... أبى الله أن أسمو بأمٍ ولا أبé
فهو ظاهر: في أن الكلالة ما عدا الأب دون الأم، وقد وقع التصريح به في بعض المواضع، كما مرَّ عن الحكم، وكما روى ابن جرير في (تفسيره) بسنده عن قتادة: (قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ والكلالة: الذي لا ولد له ولا والد لا أب ولا جدّ ولا ابن ولا ابنة فهؤلاء الأخوة من الأم)
7. فما بقي الإشكال أنه سواء قيل: لا والد أو لا أب، وبقي الإشكال في قولهم: ولا ولد، فالولد يعم الذكر والأنثى، وقد قال تعالى في الكلالة: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فالأقرب: أن البنت تخرج الإخوة عن الميراث بالآية وإنما يرثون بالحديث، أعني الإخوة لأبوين أو لأب من حيث أنهم عصبة يأخذون ما أبقت السهام، ولا تعارض لأن هذا فيما أبقت السهام والآية فيما ترك الميت جملة، كما قال تعالى: ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾
8. ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ أي الأخ أو الأخت ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي أكثر من واحد أو واحدة ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ لا يزادون عليه بسبب زيادة عددهم إن زادوا على اثنين، قالوا ويقسم بينهم بالسوية؛ لأن الله سوى هنا بين الأخ والأخت، فجعل لكل واحد منهما السدس، ولأنه في موضع التفضيل ينص عليه فقد ذكره في الأولاد وذكره في الإخوة أي لأب وأم أو لأب، ولم يقتصر على أحدهما فكان تركه هنا مرجحاً للتسوية، وهذا الميراث كغيره ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾
9. ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أما المضاررة بالوصية، فهي: الزيادة على الثلث، وأما المضارة بالدين، فهو: بالتبرع في المرض المخوف والغبن الفاحش المسبب للدين، وكلاهما يتصور في اشتراء ما يتبرع به بثمن دين، والغبن في اشتراء ما يُغبن فيه غبناً فاحشاً بدين، وكذلك في النكاح بأكثر من مهر المثل في المرض المخوف.
10. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ للزوجين والإخوة للأم، كما أوصى للأولاد فوصية الله أوثق من وصية الميت للورثة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ فحكمه الحق وفرضه الواجب؛ لعلمه بوجوه الحكمة، وقوله تعالى: ﴿حَلِيمٌ﴾ يحتمل: أنه ذكر هنا إشارةً إلى حلمه تعالى عما سبق في الجاهلية من ظلم النساء واليتامى وغير ذلك، أو إلى أنه يقسم الميراث كما فرضه الله، من غير فرق بين البر والفاجر، إذا وحدت الملة الوارث والموروث، ولم يكن مانع من الإرث منصوص عليه كالقتل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/25.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَلَالَةً﴾: الإحاطة، مأخوذ من الإكليل، ويراد بها في باب الإرث قرابة الإنسان غير والديه وأولاده، كالإخوة والأعمام، لأن الوالدين الأولاد كالعمودين، وقد يوصف بالكلالة الميت المورّث على معنى أنه قد ورّث غير أولاده ووالديه، وقد يوصف بالكلالة الحي الوارث على معنى أن الوارث هو من غير صنف الآباء والأبناء، قال في الكشاف: فإن قلت ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ثلاثة: على من لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلّفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم، ما ورث المجد عن كلالة، كما تقول: ما صمت عن عيّ، وما كفّ عن جبن، والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء.. فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنّها بالإضافة إلى قرابتهما كالّة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوي قرابتي، وقد جاءت لفظة الكلالة في آيتين من القرآن، الآية الأولى هي هذه، والمراد بها إخوة الميت من أمه فقط، والآية الثانية هي ﴿يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]، والمراد بها في الآية الأخيرة إخوة الميت لأبيه وأمه أو لأبيه فقط.
2. المراد بالكلالة، غير الوالدين الأولاد من القرابة، وقد قيل بأنها مأخوذة من الإكليل، بما تتضمنه من معنى الإحاطة، باعتبار إحاطتهما به كما يحيط الإكليل بالرأس؛ وقد تكون وصفا للميت، باعتبار توريثه لغير الولد والوالدين؛ وقد تكون وصفا للحيّ باعتبار أنه من هذه الفئة، وقد جاءت هذه الكلمة في آيتين من السورة، إحداهما هذه الآية، والثانية في آخر السورة، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] وقد ذكر في الفقه، أن المراد بهذه الآية هم إخوته وأخواته لأمه، أما في الآية الثانية، فإن المراد بها إخوته لأبيه وأمه، أو لأبيه فقط.
3. وقد ذكرت الآية أن للواحد من ولد الأم السدس من غير فرق بين الذكر والأنثى، على أساس أن الحصة هنا بلحاظ الأم وبشكل مستقل، أما إذا كانوا أكثر من واحد، فهم شركاء بالثلث على نحو التساوي، وقد عقبت الآية بما تقدم في الفقرات السابقة عن أن الميراث لا يكون إلا بعد وفاء الدّين وإنفاق الوصيّة، وقد أشارت إلى رفض الإضرار بالدّين وبالوصية، ويقصد بالأول الإقرار والإيصاء بالدّين الذي لا يراد منه إلا الإضرار بالورثة، وبالثاني: الإيصاء بالزائد عن الثلث، فإن الزائد يتوقف على رضا الورثة، وقد وضع القرآن هذا التشريع في الإرث في نطاق (الوصية من الله) من أجل أن يأخذ معنى وروحاً، بالإضافة إلى ما فيه من مضمون مادي، ليتحرّك المؤمن على أساس الروح الإيمانية التي توحي إليه بأنه ينفذ وصايا الله وينطلق في خط طاعته.
4. لكن هذا التعبير لا يوحي بالرخصة ـ كما يخيل للبعض ـ باعتبار أن الوصية تدخل المضمون في الجو الأخلاقي غير الإلزامي، فإن مفهومها لا يحمل أي شيء من ذلك؛ بل قد نلاحظ في التخطيط الشرعي للوصية الصادرة من الإنسان، لونا من ألوان الإلزام، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ [البقرة: 181]، ويضاف إلى ذلك دلالة الآيتين اللاحقتين على الإلزام في أعلى درجاته.
5. هناك مسألة في الإرث كانت ولا زالت موضعا للجدل بين السنة والشيعة، وهي مسألة العول، ولا بد لنا من التعرض لها إجمالا لعلاقتها بالمسألة التفسيرية لآيات الإرث باعتبار أنها قد توحي بعدم الدقة في أحكام الإرث، والعول هو أن تزيد السهام على التركة، كما لو ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين، فإن توزيع التركة ـ بمقتضى قانون الإرث القرآني ـ أن يكون للزوجة الثمن وللأبوين الثلث، وللبنتين الثلثان، ومن الطبيعي أن التركة لا تتسع لذلك، لزيادة الثمن على التركة، لأن الثلث والثلثين تستوعبانها، ومن الملاحظ أن مورد العول هو وجود الزوج الذي يستحق الربع في الفرض المذكور لو كان بديلا عن الزوجة، ووجود الزوجة التي تستحق الثمن:
أ. وقد اختار أصحاب المذاهب الأربعة حلّ المشكلة بإدخال النقص على كل أصحاب الفروض من كل واحد بحسب فرضه، تماما كأرباب الديون إذا لم يتسع مال الدين لكل حقوقهم، ففي الفرض المذكور تصبح الفريضة من سبعة وعشرين سهما بعد أن كانت أربعا وعشرين، تأخذ الزوجة منها ثلاثة أسهم، فيكون ثمنها تسعا، ويأخذ الأبوان منها ثمانية والبنتان ستة عشر.
ب. أما الإمامية فقالوا إنه يدخل النقص على البنتين، فتأخذ الزوجة حقها كاملا ويأخذ الأبوان حقهما من دون نقص ويبقى الباقي للبنتين.
6. استدل أصحاب المذاهب على دعواهم بالقصة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب في امرأة ماتت ولها زوج يرث النصف، وأختان ترثان الثلثين، فجمع الصحابة وقال لهم: فرض الله للزوج النصف، وللأختين الثلثين، فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين الثلثان، وإن بدأت بالأختين لم يبق للزوج النصف، وأراد لهم أن يشيروا عليه بالحل، فأشار بعضهم بالعول، وإدخال النقص على الجميع، وأنكر ابن عباس ذلك بشكل حاسم، ولكن عمر أخذ برأي هذا البعض وترك قوله، وقال للورثة: ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص، وهكذا كان عمر أول من أعال الفرائض وتبعه جمهور السنة على أساس حجية فتواه.
7. أما الإمامية فقد قالوا إنه لا يمكن أن يجعل الله في الإرث نصفا وثلثين أو ثمنا وثلثا وثلثين، فإن ذلك يستلزم الجهل والعبث في التشريع، الأمر الذي يستحيل نسبته إلى الله، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، لذلك فلا بد أن يكون النقص ثابتا في أصل الشريعة بحيث كان التشريع متوازنا في الأصل، فلا يحمل أية مشكلة في ذاته، وقد جاء في الكافي عن الباقر عليه السّلام في حديث قال: (كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو يبصرون وجهها لم تجز ستة)، وقد أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال بأن أوّل من أعال الفرائض عمر: لما التفت الفرائض عنده ودفع بعضها بعضا، فقال: والله ما أدري أيكم قدّم الله وأيّكم أخّر؟ وما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص.. ثم قال ابن عباس: وايم الله، لو قدّم من قدّم الله وأخّر من أخّر الله ما عالت فريضة، فقيل له: وأيّها قدّم وأيها أخّر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة، فهذا ما قدّم الله، وأما ما أخّر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي، فتلك التي أخّره فأما الذي قدّم، فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، والزوجة لها الربع فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن، لا يزيلها عنه شيء، والأم لها الثلث، فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدم الله، وأما قوله عليه السّلام: إن السهام لا تعول على ستة التي أخّر ففريضة البنات والأخوات، لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك، لم يكن لهن إلّا ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخّر بدئ بما قدم الله فأعطي حقه كاملا، فإن بقي شيء كان لمن أخّر، وإن لم يبق شيء، فلا شيء له.
8. وهكذا يدخل النقص ـ في نظر الإمامية ـ على البنات والأخوات دون الزوج والزوجة والأم والأب، لأن للبنات والأخوات فرضا واحدا ولا يهبطن من فرض أعلى إلى فرض أدنى، فيرثن بالفرض مع عدم وجود الذكر وبالقرابة مع وجوده، وقد يكون لهن منه دون ما كان لهنّ منفردات، أما الزوج فيهبط من النصف إلى الربع كما أن الزوجة تهبط من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس، ويرث الأب السدس في بعض الحالات، فكل واحد من هؤلاء لا ينقص عن فرضه الأدنى ولا يزيله عنه شيء فإذا اجتمع مع الفريق الآخر يقدم ولا يبدأ به، وما بقي للبنات أو للأخوات.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/111.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إلى ذكر أسهم أخوة الميت وأخواته فيقول: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾، وفي هذه العبارة نواجه مصطلحا جديدا ورد في موضعين من القرآن فقط، أحدهما، في هذه الآية، والثاني، في آخر آية من سورة النساء وهي كلمة (كلالة)
2. إنّ ما يستفاد من كتب اللغة هو اشتقاق كلالة من الكلال، وهو ذهاب القوّة، فقد جاء في صحاح اللغة: الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة، ولكنّها استعملت في ما بعد في أخوة الميت وأخواته الذين يرثونه، ولعل التشابه بين المعنى الأوّل والثّاني هو أن الأخوة والأخوات يعتبرون من الطبقة الثانية في طبقات الإرث، وهم لا يرثون إلّا مع عدم وجود الأب والأمّ الأولاد للميت ومثل هذا الفاقد للأب والأم والأبناء لا بدّ أن يعاني من الضعف الشديد، وذهاب القوّة، ولهذا قيل له كلالة، قال الراغب في كتابه المفردات: (الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة)، وروي أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن الكلالة، فقال: من مات وليس له ولد ولا والد، فجعله اسما للميت، كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا.
3. أمّا تعبير القرآن الكريم عن أخوة الميت وأخواته بالكلالة فلعله لأنّ على أمثال هؤلاء ممن عدموا الآباء والأمهات الأولاد أن يعلموا أن أموالهم ستقع من بعدهم في أيدي من يمثلون ضعفه، ويدلون على ذهاب قوتهم، ولذلك ينبغي لهم أن يصرفوها في مواضع أكثر ضرورة ولزوما، وينفقونها في سبيل المحتاجين وفي حفظ المصالح العامّة.
4. يقول الله سبحانه تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ أي إن مات رجل ولم يترك إلّا أخا أو أختا، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو أخت، يورث كل منهما السدس من التركة، هذا إذا كان الوارث أخا واحدا وأختا واحدة، أمّا إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثا واحدا، أي قسم مجموع الثلث بينهم: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾
5. ثمّ أضاف القرآن: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ أي تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما عليه من ديون، ثمّ قال ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ أي فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّا بالورثة، أي أن لا يكون أكثر من الثلث، لأن تجاوز الوصية أو الدين عن حد الثلث إضرار، كما أنّه يتوقف إمضاء الزائد على الثلث على إذن الورثة ورضاهم بذلك، أو أن يخبر الميت عن ديون كذبا، ليحرم ورثته عن الإرث ويضرّ بهم، كما نصت على ذلك روايات كثيرة مروية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته الطاهرين عليهم السّلام.
6. ثمّ إنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي أنّ هذا المطلب وصية من الله يجب أن تحترموها، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فورا، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.
7. هذا وتجب والإشارة ـ هنا ـ إلى عدّة أمور:
أ. إنّ ما ورد في الآية السابقة حول إرث الأخوة والأخوات وإن كان في ظاهره مطلقا يشمل الأخوة والأخوات من الأبوين أو من الأب وحده أو من الأم وحدها، إلّا أنّه بملاحظة آخر آية من سورة النساء (التي يأتي تفسيرها قريبا) يتّضح أنّ المراد ـ هنا ـ هو الأخوة والأخوات من جانب الأم فقط (أي الذين ينتسبون إلى الميت من جانب الأم فقط)، في حين أنّ المقصود في الآية الأخيرة من السورة هو الأخوة والأخوات من جانب الأبوين أو من جانب الأب خاصّة (سنتعرض لذكر الأدلة على هذا الأمر عند تفسير الآية الأخيرة من هذه السورة إن شاء الله)، وعلى هذا الأساس فإن الآيتين وإن كانتا حول إرث (الكلالة) (أي أخوة الميت وأخواته) ويبدو للنظر تعارض الآيتين، إلّا أن التدبر والإمعان في مضمون الآيتين يكشف لنا أنّ كل واحدة منهما تقصد طائفة خاصّة من أخوة الميت وأخواته، وأنّه لا تعارض بين مفاد الآيتين أبدا.
ب. من الواضح أن هذه الطبقة لا ترث إلا عند فقدان الطبقة الأولى (وهو الأب والأم، والأولاد) مطلقا، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ كما تدل عليه روايات متظافرة وردت في هذا الصعيد تعين طبقات الإرث، وترجح بعضها على البعض الآخر.
ج. إنّ لفظة ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ تفيد أن أخوة الميت وأخواته أي (الكلالة) إن كانوا أكثر من أخ وأخت يقتسمون الثلث فيما بينهم بالتساوي، من دون فرق بين الذكور والإناث، لأنّ المفهوم من (الشركاء في الثلث) هو تساوي الأسهم.
د. يستفاد من الآية المبحوثة أنّه لا يحق للإنسان أن يعترف بديون ـ كذبا ـ ليضرّ بالورثة ويضيع حقوقهم ويحرمهم من إرثه، أنّه يجب عليه فقط أن يعترف ـ في آخر فرصة من حياته ـ بما عليه من الديون واقعا، كما له أن يوصي بوصايا عادلة عبّر عنها في الروايات بأن تكون في حد (الثلث) وإطاره، فقد وردت في روايات الأئمّة عليهم السّلام ـ في هذا الصعيد ـ عبارات شديدة النكير على من يوصي بوصايا مضرّة بالورثة منها قولهم: (إنّ الضرار في الوصية من الكبائر)، إنّ الإسلام الحنيف بسنّه لهذا القانون يكون قد حفظ للميت نفسه شيئا من الحق في مسألة، إذ يهيئ له إمكانية الاستفادة والانتفاع بمقدار الثلث، كما حفظ حقوق الورثة أيضا حتى لا ينشأ في أفئدتهم أية ضغينة، وحتى لا تتزعزع وشائج المودّة وروابط القربى التي يجب أن تستمر بعد وفاة المورث.
8. في كتاب الإرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان (العول)، والآخر تحت عنوان (التعصيب) وهما حالتان تعرضان لمسألة الإرث عند ما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحيانا، أو أكثر أحيانا أخرى، وللمثال نقول: إذا ترك الميت أختين من جانب الأب والأمّ، وزوجا، ورثت الأختان ثلثي المال وورث الزوج النصف، فيكون المجموع 6/7 أي بزيادة 6/1 على مجموع المال، وهنا يطرح السؤال التالي وهو: ننقص هذا السدس الزائد 6/1 من جميع الورثة ـ حسب سهامهم ـ وبصورة عادلة، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟
9. المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إلى إدخال النقص على جميع الورثة، وسمّى الفقهاء هذا القسم عولا، لأن العول يعني في اللغة الارتفاع والزيادة، ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة: إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه، وهكذا يكون العمل في الموارد الأخرى، وفي الحقيقة ينزل الورثة ـ هنا ـ منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعا وبصورة كاملة، فهنا يدخل النقص على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.
10. لكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهبا آخر، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين، لا على جميع الورثة، فهم في المثال الحاضر، مثلا يدخلون النقص على الأختين، ويقولون كما جاء في حديث شريف: (إن الذي أحصى رمل عالج ـ أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض ـ ليعلم أن السهام لا تعول) أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إلى الكسر، فلا بدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانونا، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأمّ، ومن ليس سهم كذلك كالأختين والبنتين، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائما على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والاضطراب، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول، وإنّما يدخل النقص على سهم الأختين فقط (فلا حظ ذلك بدقّة)
11. قد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال ـ فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه، فمثلا إذا توفي رجلا وخلف بنتا واحدة وأمّا، فإن سهم الأم هو 6/1 وسهم البنت هو 6/3 فيكون مجموع الأسهم هو 6/4 أي يفصل 6/2 من المال، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إلى إعطاء هذا الفاضل من التركة إلى عصبة الميت وهم رجال الطبقة الثانية من الإرث (كالأخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب، ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين المذكورين أي بنسبة 1 و3، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إلى الطبقة اللاحقة، هذا مضافا إلى أن إعطاء الفاضل من التركة إلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائدا في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإرث.
12. هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعا للحاجة، وأما التفصيل فموكول إلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/137.
15. حدود الله والجزاء المرتبط باتقائها وتعديها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈15⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 13 ـ 14]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾، يعني: طاعة الله، يعني: المواريث التي سمى الله(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٨٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾، يعني: سنة الله وأمره في قسمة الميراث(1).
2. روي أنّه قال: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يعني: ﴿تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: تحت الشجر البساتين، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ يعني: لا يموتون، ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ يعني: ذلك الثواب الفوز العظيم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾، يعني: من يكفر بقسمة المواريث، وهم المنافقون، كانوا لا يعدون أن للنساء والصبيان الصغار من الميراث نصيبا(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٠.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٩١.
(3) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٢.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، يعني: المساكن تجري أسفلها أنهارها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٩١.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ التي حد لخلقه، وفرائضه بينهم في الميراث والقسمة، فانتهوا إليها، ولا تعدوها إلى غيرها(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٩١.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ معناه فرائض الله(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ معناه أعددنا.. والأليم: الموجع(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في الدنيا فليعمل بحدوده ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٥٩٧.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، يعني: المهين: الهوان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال من يؤمن بهذه الفرائض، ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ قال من لا يؤمن بها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٩١.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يموتون، ﴿وَذَلِكَ﴾ الثواب ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. قيل: فرائض الله التي أمركم بها من قسمة الميراث.
ب. ويحتمل ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾: ما حدّ لنا حتى لا يجوز مجاوزتها، وقد تقدم ذكرها في سورة البقرة، وذكر حدود الله، وقد يجوز أن يكون للخلق حدود، يقال: حدّ فلان؛ فإذا لم يفهم من حدود الله ما فهم من حدّ الخلق كيف فهم من قوله: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]، و﴿اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ ما فهم من استواء الخلق!؟ فإذا لم يفهم من حدود الله ما فهم من حد الخلق ـ لم يجز أن يفهم من استواء الله ما يفهم من استواء الخلق، وكذلك لا يفهم من رؤية الرب ما يفهم من رؤية المخلوق، ولا يفهم من مجيئه مجيء الخلق، ولا من نزوله نزول الخلق، على ما لم يفهم من قوله تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ حدود الخلق؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول.
2. قوله عزّ وجل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: أوامره ونواهيه، وما حرّم وأحل.
ب. ويحتمل: حدود شيء من ذلك؛ فيرجع تأويل الأول إلى أنفس العبادات، والثاني: إلى نهايات العبادات.
3. المعروف من الحدود التي تنسب إلى الخلق وجهان:
أ. أحدهما: نهاية المنسوب إليه، وذلك حق حد الأعيان.
ب. الثاني: الأثر الذي يضاف إليه، وذلك حد الصفات أن يقال: حد الفعل فعل كذا، وحد البصر والسمع، يراد به الأثر الذي به يعرف، أو هنالك ما ذكر، ثم لم تكن الحدود التي أضيفت إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ على واحد من الوجهين اللذين يضافا إلى الخلق؛ إذ قد ثبت بضرورة العقل وحجج السمع تعاليه عن المعاني التي هي معاني خلقه؛ فعلى ذلك ما أضيف إليه من طريق العقل من الاستواء، والمجيء، والرؤية ـ لم يجز في ذلك تصوير المعنى الذي في إضافة ذلك إلى الخلق يكون بما في ضرورة العقل والسمع جلاله وكبرياؤه عن ذلك المعنى، وبالله العصمة.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾:
أ. قيل: من يطع الله في أداء فرائضه وسنة رسوله ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ إلى آخر ما ذكر.
ب. وقيل: ومن يطع الله فيما أمر ونهي، وأطاع رسوله في أمره ونهيه؛ فله ما ذكر.
ج. وقيل: إذا أطاع الله فقد أطاع رسوله، وإذا أطاع رسوله فقد أطاع الله تعالى وهو واحد، كقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ﴾ تعالى: فيما أمر ونهي، وحرّم وأحل، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: فيما بلغ وبين.
د. وقيل: ذا ليس بتفريق، لكن من الذي يطيع الله هو الذي يطيع رسوله؛ لأنه إلى طاعة الله تعالى دعاه، وعلى عبادته رغب؛ فتكون طاعته طاعته، كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، وكقوله ـ سبحانه ـ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ الآية [آل عمران: 31]
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾يحتمل وجهين:
أ. هذا كذلك ـ أيضا ـ إذا عصى الله؛ فقد تعدى حدوده، ومن تعدى حدوده فقد عصى الله.
ب. ويحتمل قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: فيما لم ير أمره أمرا ونهيه نهيا، ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾، يعني: أحكامه وشرائعه، أي: لم يرها حقّا.
5. ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ وله ما ذكر.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/66.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ أي فرائض الله التي قد حدها لعباده وشروطه تفصيلات أوامره.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/168.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ خمسة أقاويل:
أ. أحدها: شروط الله، وهو قول السدي.
ب. الثاني: طاعة الله، وهو قول ابن عباس.
ج. الثالث: سنّة الله وأمره.
د. الرابع: فرائض الله التي حدها لعباده.
هـ. الخامس: تفصيلات الله لفرائضه.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/461.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قرأ نافع، وابن عامر: ندخله بالنون في الموضعين، الباقون بالياء، فمن قرأ بالياء فلأن ما تقدم لفظ الغائب ومن قرأ بالنون عدل عن خطاب الغائب إلى الاخبار عن الله بنون العظمة، كما قال ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ وقال بعده: (سنلقي) فعدل عن الغائب، وقال الفراء، والزجاج: معنى (تلك) هذه، كأنه قال هذه حدود الله.
2. اختلفوا في معنى الحدود:
أ. فقال السدي: تلك شروط الله.
ب. وقال ابن عباس: تلك طاعة الله.
ج. وقال قوم: تلك فرائض الله وأمره.
د. وقال قوم: تلك تفصيلات الله لفرائضه، وهو الأقوى، لأن أصل الحد هو الفصل، مأخوذاً من حدود الدار التي تفصلها من غيرها.
3. معنى الآية: هذه القسمة التي قسمها الله لكم، والفرائض التي فرضها لأحيائكم من أمواتكم حدود الله، يعني فصول بين طاعة الله ومعصيته على ما قال ابن عباس، والمعنى تلك حدود طاعة الله، وإنما اختص لوضوح المعنى للمخاطبين.
4. سؤال وإشكال: إذا كان ما تقدم ذكره دل على أنها حدود الله، فما الفائدة في هذا القول؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: للتأكيد.
ب. الثاني: أن الوجه في إعادته ما علق به من الوعد والوعيد الصريح.
5. سؤال وإشكال: لم خصت الطاعة في قسمة الميراث بالوعد، مع أنه واجب في كل طاعة إذا فعلت لوجه الوجوب؟ والجواب: للبيان عن عظم موقع هذه الطاعة، مع التذكير بما يستحق عليها ترغيباً فيها بوعد مقطوع.
6. ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نصب على الحال، قال الزجاج والتقدير: يدخلهم مقدرين الخلود فيها، والحال يستقبل فيها، كما تقول: مررت برجل معه باز، صائداً به غدا، أي يقدر الصيد به غدا.
7. ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ معناه الفلاح العظيم، فوصفه بأنه عظيم ولم يبين بالاضافة إلى ما ذا، لأن المراد به أنه عظيم بالاضافة إلى منفعة الخيانة في التركة، من حيث كان أمر الدنيا حقيراً بالاضافة إلى أمر الآخرة.
8. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ معناه يعصي الله فيما بينه من الفرائض، وأموال اليتامى، ﴿وَيَتَعَدَّ﴾ معناه: يتجاوز ما بين له، ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وخالدا نصب على أحد وجهين:
أ. أحدهما: أن يكون حالا من الهاء في يدخله.
ب. والآخر: أن يكون صفة لنار في قول الزجاج، كقولك: زيد مررت بدار ساكن فيها، على حذف الضمير، والتقدير: ساكن هو فيها، لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لم يتضمن الضمير كما يتضمنه الفعل لو قلت: يسكن فيها.
9. استدل المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ بهذه الآية على أن فاسق أهل الصلاة مخلد في النار، ومعاقب لا محالة، وهذا لا دلالة لهم فيه من وجوه، لأن قوله: ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ إشارة إلى من يتعدى جميع حدود الله، ومن كان كذلك فعندنا يكون كافراً، وأيضاً فلا خلاف أن الآية مخصوصة بصاحب الصغيرة، وإن كان فعل المعصية، وتعدى حداً فإنه خارج منها، فان جاز لهم إخراج الصغيرة منها لدليل، جاز لنا أن نخرج من يتفضل الله عليه بالعفو، أو يشفع فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأيضاً فان التائب لا بد من إخراجه من هذه الآية لقيام الدلالة على وجوب قبول التوبة، فكذلك يجب أن يشترط من يتفضل الله بإسقاط عقابه:
أ. فان قالوا: قبول التوبة واجب، والعفو ليس بواجب، قلنا: قبول التوبة واجب إذا حصلت، وكذلك سقوط العقاب واجب إذا حصل العفو.
ب. فان قالوا: يجوز أن لا يختار الله العفو، قلنا: وكذلك يجوز ألا يختار العاصي التوبة.
ج. فان جعلوا الآية دالة على أن الله لا يختار العفو، جاز لغيرهم أن يجعل الآية دالة على أن العاصي لا يختار التوبة، على أن هذه الآية معارضة بآيات كثيرة، في وقوع العفو، كقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ على ما سنبينه فيما بعد، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾
د. فان شرطوا في آياتنا التوبة، شرطنا في آياتهم ارتفاع العفو.
10. الكلام في ذلك مستقصىً في الوعيد، لا نطول بذكره هذا الكتاب، ويمكن ـ مع تسليم ذلك ـ أن تحمل الآية على من يتعدى الحدود مستحلا لها، فإنه يكون كافراً، ويتناوله الوعيد، على أن عند كثير من المرجئة العموم لا صيغة له، فمن أين ان (من) يفيد جميع العصاة؟ وما المنكر أن تكون الآية مختصة بالكفار.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/140.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الحد: الحاجز بين الشيئين والفاصل بينهما، ومنه حدود الدار، والحد: المنع وهو الأصل، ويُقال: حددت فلانًا منعته، ومنه سمي البواب حدادًا لمنعه من الدخول، قال النابغة: (قُمْ فيِ الْبرَيَّةِ فاحْدُدها عَنِ الَفنَدِ)، ومنه الحدود؛ لأنه يمنع من ارتكاب المحظورات.
ب. التعدي: مجاوزة الحد.
ج. الخلود: الدوام، ومنه جنة الخلد.
د. المهين: من الإهانة، وهو الإذلال.
2. لما فرض الله تعالى الفرائض عقبه بذكر الوعد والوعيد فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾:
أ. قيل: قسمة المواريث على ما تقدم عن أبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: ما حده من أول السورة إلى آخرها عن الأصم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حُدُودُ اللهِ﴾:
أ. قيل: فرائضه التي حدها لعباده.
ب. وقيل: تفصيلات الله لفرائضه، قيل: سماه حدودًا؛ لأن بعضه يتميز من بعض عن المعاصي ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ﴾ فيما أمر به من الأحكام.
ج. وقيل: فيما فرض من المواريث.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾:
أ. قيل: أي من تحت أشجارها وأبنيتها.
ب. وقيل: إنها تجري في غير خدود الأنهار، يعني ماء الأنهار.
5. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي دائمين فيها ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الظفر بالبغية ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما أمر ونهى ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ يتجاوز ما حد له ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ يعني يبقيه خالدًا فيها؛ لأن الدخول لا يَنْفي أبدًا ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يعني يهان في ذلك العذاب.
6. اختلفوا في قوله: ﴿يُدْخِلْهُ﴾، ﴿خَالِدًا﴾:
أ. فقيل: من عصاه مستحلاً.
ب. وقيل: من تعدى جميع الحدود.
ج. وقيل: من عصى الله وتعدى ما حد له، وهو قول من يقول بتخليد الفساق في النار.
7. القول الأول، والثاني تخصيص بغير دليل، ولأن تعدي جميع الحدود ليس بشرط في التخليد بالإجماع؛ لأن الكافر بخطيئة واحدة يخلد في النار، ولأن من تعدى ثلاثة حدود يقال: تعدى حدود الله.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وعيد فساق أهل الصلاة وتخليدهم في النار؛ لأن الوعد متوجه إليهم وكذلك الوعيد والحدود وإن كان عمومًا فقد تقدمه ذكر عهد فانصرف إليه واختص به، وهو قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ فصار هو المراد بقوله: ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾، وهو ما تقدم في آية، المواريث، ويدل عليه ما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو أن رجلاً عبد الله ستين سنة ثم ختم وصيته بضرار لأحبط الضرار عبادته، ثم أدخله النار) ذكره الأصم.
ب. أن الجنة والنار لا يفنيان أبدًا خلاف قول جهم.
9. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر نُدْخِلْهُ) بالنون في الحرفين على التفخيم، والباقون بالياء، وهو الاختيار؛ لأنه على ما تقدم من لفظ الغائب.
10. ﴿يُطِعِ﴾ كسرت العين لاجتماع الساكنين، وفي نصب ﴿خَالِدًا﴾ وجهان: قيل: حال، من الهاء في ندخله)، وقيل: صفة للنار عن الزجاج، كما تقول: زيد مررت بدار ساكن فيها، إلا أنه على حذف الضمير من ساكن هو فيها؛ لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير ما هو له لم يتضمن الضمير كما يتضمنه الفعل لو قلت: سكن فيها.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/560.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الحد: الحاجز بين الشيئين، وأصله المنع والفصل، وحدود الدار: تفصلها عن غيرها، والفوز، والفلاح، نظائر
2. لما فرض الله فرائض المواريث، عقبها بذكر الوعد في الائتمار لها، والوعيد على التعدي لحدودها، فقال ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾: أي هذه التي بينت في أمر الفرائض، وأمر اليتامى، حدود الله: أي الأمكنة التي لا ينبغي أن تتجاوز، عن الزجاج.
3. اختلف في معنى الحدود على أقوال:
أ. أحدها: تلك شروط الله، عن السدي.
ب. ثانيها: تلك طاعة الله، عن ابن عباس.
ج. ثالثها: تلك تفصيلات الله لفرائضه، وهو الأقوى، فيكون المراد: هذه القسمة التي قسمها الله لكم، والفرائض التي فرضها الله لأحيائكم من أمواتكم، فصول بين طاعة الله ومعصيته، فإن معنى حدود الله: حدود طاعة الله، وإنما اختصر لوضوح معناه للمخاطبين.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾:
أ. قيل: فيما أمر به من الأحكام.
ب. وقيل: فيما فرض له من فرائض المواريث.
5. ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها وأبنيتها ﴿الْأَنْهَارُ﴾: أي ماء الأنهار، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، في الموضعين ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾: أي دائمين فيها.
6. ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي الفلاح العظيم، وصفه بالعظيم، ولم يبين بالإضافة إلى ماذا، والمراد: إنه عظيم بالإضافة إلى منفعة الحيازة في التركة من حيث كان أمر الدنيا حقيرا بالإضافة إلى أمر الآخرة.
7. إنما خص الله الطاعة في قسمة الميراث بالوعد، مع أنه واجب في كل طاعة إذا فعلت، لوجوبها، أو لوجه وجوبها، ليبين عن عظم موقع هذه الطاعة بالترغيب فيها، والترهيب عن تجاوزها، وتعديها.
8. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما بينه من الفرائض وغيرها ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾: أي ويجاوز ما حد له من الطاعات، ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا﴾ أي دائما ﴿فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ سماه مهينا، لأن الله يفعله على وجه الإهانة، كما أنه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.
9. من استدل بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة مخلد في النار، ومعاقب فيها لا محالة، فقوله بعيد لأن قوله ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ يدل على أن المراد به: من تعدى جميع حدود الله، وهذه صفة الكفار، ولأن صاحب الصغيرة بلا خلاف، خارج عن عموم الآية، وإن كان فاعلا للمعصية، ومتعديا حدا من حدود الله، وإذا جاز اخراجه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النبي، أو يتفضل الله عليه بالعفو بدليل آخر، وأيضا فإن التائب لا بد من اخراجه من عموم الآية، لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة، وكذلك يجب اخراج من يتفضل الله بإسقاط عقابه منها، لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضل بالعفو، فإن جعلوا للآية دلالة على أن الله لا يختار العفو، جاز لغيرهم أن يجعلها دلالة على أن العاصي لا يختار التوبة، على أن في المفسرين من حمل الآية على من تعدى حدود الله وعصاه، مستحلا لذلك، ومن كان كذلك، لا يكون إلا كافرا.
10. قرأ نافع، وابن عامر: (ندخله) بالنون في الموضعين، والباقون بالياء.. من قرأ بالياء، فلأن ذكر الله قد تقدم، فحمل الكلام على الغيبة،ومن قرأ بالنون، عدل عن لفظ الغيبة إلى الإخبار عن الله بنون.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ نصب على الحال، قال الزجاج: والتقدير يدخلهم، مقدرين الخلود فيها، والحال يستقبل بها، تقول: مررت برجل معه باز صائدا به غدا: أي مقدرا الصيد به غدا.
ب. ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾: منصوب على أحد وجهين: أحدهما الحال من الهاء في ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا﴾ والتقدير على ما ذكرناه،والآخر: أن يكون صفة لقوله ﴿نَارًا﴾ وهذا كما تقول: زيد مررت بدار ساكن فيها، فيكون على حذف الضمير من ساكن هو فيها، لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له، لم يتضمن الضمير، كما يتضمنه الفعل، ولو قلت: يسكن فيها، يجب إبرازه، فتقول: زيد مررت بدار ساكن هو فيها
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/33.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد ما حدّ الله من فرائضه في الميراث ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في شأن المواريث ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ قرأ ابن عامر، ونافع: (ندخله) بالنون في الحرفين جميعا، والباقون بالياء فيهما.
2. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ﴾ فلم يرض بقسمه ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا﴾، فإن قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إذا ردّ حكم الله، وكفر به، كان كافرا مخلّدا في النار.
__________
(1) زاد المسير: 1/381.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد بيان سهام المواريث ذكر الله تعالى الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
2. في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ﴾ قولان:
أ. الأول: أنه إشارة إلى أحوال المواريث.. لأن الضمير يعود الى أقرب المذكورات.
ب. الثاني: أنه إشارة الى كل ما ذكره من أول السورة الى هاهنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم.. لأن عوده الى الأقرب إذا لم يمنع من عوده الى الأبعد مانع يوجب عوده الى الكل.
3. المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها، وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره، ومنه حدود الدار، والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له، لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه، وغيره هو كل ما سواه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾:
أ. قال بعضهم: هو مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة.
ب. وقال المحققون: بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره، وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل، أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة، إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم، ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص، ثم يقول: احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور، فكذا هاهنا والله أعلم.
5. قرأ نافع وابن عامر: ندخله جنات.. ندخله نارا بالنون في الحرفين، والباقون بالياء:
أ. أما الأول: فعلى طريقة الالتفات كما في قوله: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ ثم قال ﴿سَنُلْقِي﴾ [آل عمران: 150 ـ 151] بالنون.
ب. وأما الثاني: فوجهه ظاهر.
6. سؤال وإشكال: قوله: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد ذلك ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما؟ والجواب: أن كلمة (من) في قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ﴾ مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان.
7. انتصب (خالدين) (وخالدا) على الحال من الهاء في (ندخله) والتقدير: ندخله خالدا في النار.
8. قال المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ: هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار وذلك لأن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي سبق ذكرها وهي حدود المواريث، أو يدخل فيها ذلك وغيره، وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد، وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة، فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد، وعلى ان الوعيد مخلد، ولا يقال: هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر، فإنه هو الذي تعدى جميع حدود الله، فانا نقول: هذا مدفوع من وجهين:
أ. الأول: انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى ينهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية، فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي، وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال، فثبت أن تعدي جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة، فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله.
ب. الثاني: هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث، فيكون المراد من قوله: ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات، وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال.
9. أجمع أهل السنة ـ ومن وافقهم ـ على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على انه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد، فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو، فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العفو امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو، ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو، ثم نقول: هذا العموم مخصوص بالكافر، ويدل عليه وجهان:
أ. الأول: انا إذا قلنا لكم: ما الدليل على أن كلمة (من) في معرض الشرط تفيد العموم؟ قلتم: الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه، فنقول: ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ مختص بالكافر: لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال: ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر، والا في الفسق، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فهذا يقتضي أن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ﴾ في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر، وقوله: الإتيان بجميع المعاصي محال لأن الإتيان باليهودية والنصرانية معا محال، فنقول: ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوي ما ذكرناه.
ب. الثاني: في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر: أن قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب، وقوله: ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار، وهو خلاف الأصل، فوجب حمله على الكفر، وقوله: بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث، قلنا: هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام، لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها، وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب، فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود، وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله، وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه، فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/526.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ إلى الأحكام المتقدمة، وسماها حدودا: لكونها لا تجوز مجاوزتها، ولا يحلّ تعديها ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية، كما يفيده عموم اللفظ.
2. ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وهكذا قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ قرأ نافع، وابن عامر: ندخله بالنون، وقرأ الباقون: بالياء التحتية، قوله: ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي: وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/502.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ الأحكام ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة المواريث وغيرها ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من تحت شجرها ومساكنها ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يموتون ولا يخرجون ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ النجاة الوافرة بالجنة.
2. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في قسمة المواريث وغيرها ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي لكونه غيّر ما حكم الله به، وضادّ الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/47.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ الأشياء المذكورة من النكاح وأمر اليتامى والميراث والوصايا والديون ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ حدَّها وشرعها لا تُتجاوز، ما وجب فعله لا يُترك، وما حُرِّم لا يُفعل، ولا يكون الوارث عبدًا ولا مشركًا ولا قاتلاً للموروث، ولا مشركًا مخالفًا لملَّة مشرك، ويتوارث مشركان متَّفقان ملَّة، والبسط في الفروع.
2. ﴿وَمَنْ يُّطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما أمرا به وفيما نهيا عنه ﴿نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الَانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ جمع مراعاة لمعنى (من)، وهو حال مِن (مَن)، أو نعت (جَنَّاتٍ)، أو حال من (جَنَّاتٍ)، وضميره المستتر عائد إليهم لا إليها، ولم يبرز لظهور المراد، هذا قول الكوفيِّين، ولو برز لقيل: خالدًا هم، ومن العجيب إجازة حمل الآية عليه، مع أنَّه لا دليل عليه ولا داعي إليه!.
3. ﴿وَذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ نُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ أُفرد هنا مراعاة للفظ (مَنْ)، واختار الإفراد لأنَّ دخول النَّار بانفراد أشدُّ وحشة، ومن الغريب إجازة حمله على أنَّه نعت (نَارًا) سببيًّا، وأنَّ الأصل: خالدًا هو مثل ما مَرَّ، ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ له، وعن ابن مسعود عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تَقومُ السَّاعة حتَّى لا يُقسمَ مِيراثٌ ولا يُفرحُ بِغنيمةِ عدُوٍّ)، أي: لكثرة المال، أو للتهاون بالدين وللظلم، أو لفشوِّ الجهل.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/136.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال محمد عبده: الإشارة في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ تتناول الأحكام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى ما قبل هذه الآية، أي أنه تعالى جعل تلك الأحكام حدودا لأعمال المكلفين ينتهون منها إليها ولا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتعدوها، وهكذا جميع أحكامه في المأمورات والمنهيات وكذا المباحات فإن لها حدودا إذا تجاوزها المكلف وقع في المحظور، فقد قال عز وجل: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 30]
2. مدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود وهي الشريعة ومدار العصيان على اعتدائها، ولذلك وصل هذه الجملة المبيِّنة كون تلك الأحكام حدودا بذكر الجزاء على الطاعة والعصيان مطلقا فقال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الخ، طاعة الله تعالى هي اتباع ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هي اتباع ما جاء به من الدين عن ربه عز وجل، فطاعته صلّى الله عليه وآله وسلّم هي عين طاعة الله عز وجل كما قال في هذه السورة: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وسيأتي ذكر الآية مع تفسيرها.
3. سؤال وإشكال: ما هي النكتة إذا في ذكر طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مع ذكر طاعة الله تعالى؟ والجواب: قد يُقال: إن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما تتحدان فتكون الثانية عين الأولى فيما يسنده الرسول إلى ربه ويبيّن أنه بوحي منه، وقد يأمر الرسول بأشياء وينهى عن أشياء باجتهاده فإذا جزم بذلك ولم يقم دليل على أن الأمر للإرشاد أو الاستحباب والنهي للكراهة أو الاستهجان وجبت طاعته في ذلك، سواء كان في العبادات أو الأمور السياسية والقضائية لأنه إمام الأمة وحاكمها، وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يقر رسله على خطأ في اجتهادهم بل يبيّن لهم مع ذكر العفو عن عدم إعطاء الاجتهاد حقه الموصل إلى ما هو الصواب المرضي عنده عز وجل كقوله لنبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم عند ما أذن لبعض من استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 42] الآية أو مع العتاب كما عاتبه على اجتهاده في قبول الفداء من أسرى بدر بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ [الأنفال: 66] الآيتين، وكما عاتبه في الإعراض عن الأعمى المسترشد في أول سورة: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1] الخ، ولا يدخل في هذا المقام ما يقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأمور الدنيوية المحضة كالعادات والزراعة ونحوها لأنه ليس دينا ولا قضاء ولا سياسة، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسألة تأبير النخل: ﴿أنتم أعلم بأمر دنياكم﴾ كما في الصحيح(2).
4. قال محمد عبده: طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية وبعدها؛ وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم: أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر، وهذا خطأ من الإنسان، ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه ومرقيا له بدون معونة الدين.
5. سؤال وإشكال: يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: إننا نرى كثيرا من أفراد الناس لا يدينون بدين وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب وحسن الأعمال التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى أن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم وارتقائهم، والجواب: أجيب عن هذا:
أ. أولا: بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية سواء كانت بدوية أو مدنية، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها، فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع أو على سبيل الظن:
• وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظا تاما إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دوّن في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالباطنية وغيرهم ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل حتى أنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها!! فمن علم هذا لا يستعبد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
• فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي، وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر (هربرت سبنسر) أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه وأن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين وبناءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها ولا يحدد ضررها، هذا معنى كلامه في بعض كتبه، وقد قال هو لمحمد عبده في حديث له معه: إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنكليزية وضعفت في هذه السنين الأخيرة من حيث قوي فيها الطمع المادي، ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد أمم أوروبا تمسكا بالدين مع كون مدنيتها أثبت وتقدمها أعم، لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوروبية بعيدة عن روح الديانة المسيحية وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير وإذا لبادت مدنيتهم سريعا، ومن يقول إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
• فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد: أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله محمد عبده من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا كما تسوقه إلى سعادة الآخرة.
ب. ثانيا: إنه لا يمكن الجزم بأن فلانا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يُقال: إنه قد استغنى في ذلك عن الدين لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربى أولادها على الإلحاد، وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينا واتباعا لآداب دينهم وفضائله ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشؤوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان وآرائه ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال ولو من الحرام كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقى ما يجعله حقيرا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن وكالعفة في الشهوات فيبيح له من الفواحش ما لا يخل بالشرط المذكور آنفا، هذا إذا كان راقيا في أفكاره وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل إلا القوة القاهرة، ولولا أن دول أوروبا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال؛ ولعمت بلادها الفوضى والاختلال، ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب والأحكام ـ فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا.
6. على أن السياق هنا قد جاء لما يتعلق بالسعادة الدائمة في الحياة الأخرى، ولذلك كان جزاء الشرط في الطاعة هو قوله تعالى: ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة وإننا نؤمن بتلك الجنات والحدائق وأنها أرقى مما نرى في هذه الدنيا وانه ليس لنا أن نبحث عن كيفيتها، لأنها من عالم الغيب وقد أفرد الضمير في قوله: (يدخل) مراعاة للفظ ﴿وَمَنْ يُطِعِ﴾ الخ وجمع الوصف الذي هو حال منه في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ مراعاة لمعناها فإن (من) من الألفاظ المفردة التي تدل على العموم كما هو معلوم، وتقدم تفسير الخلود من قبل وسيأتي في آيات كثيرة أيضا ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ لأنه الصافي الدائم الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالشوائب والأكدار.
7. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ وقد جيء بالحال هنا مفردا كالضمير المنصوب في قوله: (يدخله) فقال: (خالدا) مراعاة للفظ (من) وقد اختار محمد عبده في نكتة ذلك أن في ذكر أهل الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى تمتعهم بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض والمنعم يسهر أن يكون مع غيره قال المعري الحكيم:
çولو أني حببت الخلد وحدي...لما أحببت بالخلد انفراداé
أما من قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار فإن له من العذاب ما يمنعه عن الإنس بغيره، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسا، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد، والتعبير بلفظ (خالدا) يشير إلى ذلك ويؤيد هذا المعنى الذي اختاره شيخنا قوله تعالى: ﴿ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون﴾ [الزخرف: 38]
8. ظاهر الآية أن العاصي المتعدي للحدود يكون خالدا في النار، وفي المسألة الخلاف المشهور بين الأشعرية وغيرهم من أهل السنة وبين المعتزلة ومن على رأيهم، فهؤلاء يقولون إن مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار، وأولئك يقولون إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافرا وأما من مات عاصيا فأمره إلى الله وهو بين أمرين، إما أن يعفو الله عنه ويغفر له وإما ان يعذبه على قدر ذنبه، ثم يدخله الجنة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 115] وستأتي الآية في تفسير هذه السورة، وكل فريق من المختلفين يجعل الآية التي تدل على مذهبه أصلا يرجع إليه سائر الآيات ولو بإخراجها عن ظاهرها الذي يعبرون عنه بالتأويل.
9. قال محمد عبده: ذهب بعض المختلفين إلى أن تعدي حدود الله تعالى هنا يُراد به جميع الحدود لا جنسها ومن تعدى حدود الله كلها ولم يقف عند شيء منها فهو كافر خالد في النار، وقال بعضهم: إن التعدي يصدق بالبعض وهو يكون من الكفر وجحود الحكم بعدم الإذعان له، والجحود إما صريح وإما غير صريح ولكنه حقيقي وإن لم يصرح به صاحبه، فإن أخذ شيء من حق إنسان وإعطائه لآخر لا يكون إلا من إنكار حكم الله في تحريم ذلك أو الشك فيه، وإن الحاكم إذا ثبتت عنده السرقة فحبس السارق ولم يقطع يده كان منكرا للحد الذي أوجب الله معاقبة السارق به أو مستقبحا له وكلاهما من الكفر وإن لم يصرح به صاحبه.
10. ثم قال ما مثاله: وإذا تأملت في هذا الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة تجدونه لفظيا، فإن الكلام في المصر على الذنب مع العلم بأنه ذنب لأنه تعالى قال في الناجين المسارعين إلى الجنة ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135] فإن من يعمل الذنب ولا يخطر في باله عند ارتكابه أنه منهي عنه لا يعد مصرا عالما وقد بينا من قبل أن للمذنب حالتين وإننا نعيد ذلك ولا نزال نلح في تقريره إلى أن نموت:
أ. الأولى: غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي، فيقع في الذنب وقلبه غائب عن الوعيد غير متذكر للنهي، وإذا تذكره يكون ضعيفا كنور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب، ثم لا يلبث أن يزول أو يختفي، فإذا سكنت شهوته أو سكت عنه غضبه وتذكر النهي والوعيد ندم وتاب، ووقع من نفسه في أشد اللوم والعتاب، وذلك ضرب من ضروب العقاب، وصاحبه جدير بالنجاة في يوم المآب.
ب. الثانية: أن يقدم المرء على الذنب جريئا متعمدا ارتكابه عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة بتركه لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه، فهذا هو الذي قد أحاطت به خطيئته حتى آثر طاعة شهوته على طاعة الله ورسوله فصدق عليه قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 80]
11. سؤال وإشكال: ربما يقول قائل: إننا نرى كثيرا من أفراد هذا الصنف مع تلبسهم بهذه الحالة يطمعون في عفو الله ومغفرته، وذلك دليل الإيمان المنجي، والجواب: أن من يصر على معصيته تعالى عامدا عالما بنهيه ووعيده لا يكون مؤمنا بصدق خبره ولا مذعنا لشرعه الذي تنال رحمته رضاه بالتزامه، وعذابه وبأسه باعتداء حدوده، فيكون إذا مستهزءا به، فالإصرار على العصيان مع عدم استشعار الخوف والندم لا يجتمع مع الإيمان الصحيح بعظمة الله وصدقه في وعده ووعيده، وبهذا الذي قررته يكون الخلاف لفظيا لا حقيقيا.
12. هذا بسط ما قرره محمد عبده في تفسيره هذه الآية على الطريقة المشهورة، وإذا تذكر القارئ طريقتنا في مثل هذه المسألة التي أجازها محمد عبده ـ إذ بسطناها في التفسير وفي باب الفتاوى من المنار ـ فإنه يزداد علما وبينة في هذا المقام، وأعني بهذه الطريقة تأثير الذنوب والخطايا في النفس إلى أن لا يبقى للإيمان سلطان عليها، وسنعيد القول فيه قريبا في تفسير ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 17]
13. ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ قال محمد عبده: أراد تعالى بالعذاب المهين عذاب الروح بالإهانة، يعني رحمه الله لأن بدن هذا العاصي يعذب في النار من حيث هو حيوان يتألم وروحه تتألم بالإهانة من حيث هو إنسان يشعر بمعنى الكرامة والشرف فنسأل الله تعالى النجاة من العذاب المهين؛ والفوز بالنعيم المقيم.
__________
(1) تفسير المنار: 4/428.
(2) لا نرى صحة هذا الحديث لمعارضته الواضحة للقرآن الكريم.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ حدود الشيء: أطرافه التي يمتاز بها من غيره، ومنه حدود الدار، سميت بها الشرائع التي أمر الله باتباعها ونهى عن تركها، فمدار الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود، ومدار العصيان على اعتدائها، والمشار إليه كل ما ذكر من أول السورة إلى هنا من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث.
2. ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ طاعة الله: هي ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وطاعة الرسول: هي اتباع ما جاء به من الدين عن ربه، فطاعته هي بعينها طاعة الله كما قال في هذه السورة: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله بما فيه منافع لنا في الدنيا والآخرة، وإنما ذكرها مع طاعة الله للاشارة إلى أن الإنسان لا يستغنى بعقله وعلمه عن الوحى وأنه لا بد له من هداية الدين إذ لم يكن العقل وحده في عصر من العصور كافيا لهداية أمة ولا مرقّيا لها بدون معونة الدين، فاتباع الرسل والعمل بهديهم هو أساس كل مدنية، والارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي، فالآداب والفضائل التي هي أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين، ولا يكفى فيها بناؤها على العلم والعقل، والجنات التي تجرى من تحتها الأنهار تقدم تفسيرها، ونحن نؤمن ونعتقد أنها أرفع مما نرى في هذه الدنيا، وليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب، والفوز العظيم: الظفر والفلاح الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالأكدار.
3. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ وقال في ذكر أهل الجنة خالدين، وفي ذكر أهل النار خالدا، إشارة إلى تمتع أهل الجنة بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض، والمترفون يسرون بمثل هذا التمتع، وأما الذي في النار فإن له من العذاب ما يمنعه من الأنس فكأنه وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسابه، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ وتعدى الحدود الموجب للخلود في النار: هو الإصرار على الذنب وعدم التوبة عنه، فللمذنب حالان:
أ. غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي فهو يقع في الذنب وقلبه غائب عن الوعيد لا يتذكره أو يتذكره ضعيفا كأنه نور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب ثم لا يلبث أن يزول أو يختفى، حتى إذا سكنت الشهوة أو سكت الغضب وتذكر النهى والوعيد ندم وتاب ولام نفسه أشد اللوم، ومثل هذا جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى في أوصافهم ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
ب. أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا فعله عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة، لا يصرفه عنه تذكر النهى والوعيد عليه، ومثل هذا قد أحاطت به خطيئته فآثر شهوته على طاعة الله ورسوله، فدخل في عموم قوله تعالى ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، إذ من يصرّ على المعصية عامدا عالما بالنهى والوعيد لا يكون مؤمنا بصدق الرسول ولا مذعنا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه، والعذاب والنكال بتعدي حدوده، فالإصرار على العصيان وعدم استشعار الخوف والندم لا يجتمعان في قلب المؤمن الإيمان الصحيح المصدّق بوعد الله ووعيده.
4. ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ المهين المذلّ له وهو عذاب الروح، فللعصاة عذابان: عذاب جسمانى للبدن العاصي باعتباره حيوانا يتألم، وعذاب روحاني باعتباره إنسانا يشعر بالكرامة والشرف ويتألم بالإهانة والخزي.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/203.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيبا نهائيا على تلك الوصايا والفرائض، حيث يسميها الله بالحدود: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾، تلك الفرائض، وتلك التشريعات، التي شرعها الله لتقسيم التركات، وفق علمه وحكمته، ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.
2. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾.. حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات، ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم، ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم، كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين.
3. سؤال وإشكال: لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث؛ وفي جزئية من هذا التشريع، وحد من حدوده؟ والجواب: إن الآثار تبدو أضخم من الفعل.. لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق، إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء، وقد أشرنا إليها في مقدمة التعريف بهذه السورة ـ وهي النصوص التي تبين معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام، ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر ـ على وجه الإجمال ـ بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين، في هذا التعقيب على آيتي المواريث:
أ. إن الأمر في هذا الدين ـ الإسلام ـ بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ.. إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟ وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين، وكل شيء في أمر الناس أجمعين! لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟ لله وحده ـ بلا شريك من خلقه ـ فهو الإيمان إذن، وهو الإسلام، وهو الدين، لشركاء من خلقه معه، أو لشركاء من خلقه دونه، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين، فأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده، فهي الدينونة من العباد لله وحده، وهي العبودية من الناس لله وحده، وهي الطاعة من البشر لله وحده، وهي الاتباع لمنهج الله وحده بلا شريك.. فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم، والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم، والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم.. وليس لغيره ـ أفرادا أو جماعات ـ شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله، لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية، ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة.
ب. وأما إن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله ـ شركة مع الله أو أصالة من دونه! ـ فهي الدينونة من العباد لغير الله، وهي العبودية من الناس لغير الله، وهي الطاعة من البشر لغير الله، وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين، التي يضعها ناس من البشر، لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه؛ إنما يستندون إلى أسناد أخرى، يستمدون منها السلطان.. ومن ثم فلا دين، ولا إيمان، ولا إسلام، إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان.
ج. هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد، أو في الشريعة كلها.. لأن الأمر الواحد هو الدين ـ على ذلك المعنى ـ والشريعة كلها هي الدين.. فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس.. أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله ـ بكل خصائصها ـ أو إشراك أحد من خلقه معه، أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض، مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين!
4. مهما رددت ألسنتهم ـ دون واقعهم ـ أنهم مسلمون! هذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يشير إليها هذا التعقيب، الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة، وبين طاعة الله ورسوله، أو معصية الله ورسوله، وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها؛ ونار خالدة وعذاب مهين! وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي تتكئ عليها نصوص كثيرة، في هذه السورة، وتعرضها عرضا صريحا حاسما، لا يقبل المماحكة، ولا يقبل التأويل، وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام، وأين حياتهم من هذا الدين!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/596.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى كل ما بيّن الله سبحانه وتعالى من أحكام وما شرع من حدود، في صيانة أموال اليتامى، وتسليمها إليهم سليمة، لم تقع فيها خيانة، أو يقع عليها اعتداء، وفي التعفف عن زواج اليتيمات، تجنبا للظلم المحتمل وقوعه عليهن، وفي المواريث وأحكامها وما لكل وارث من نصيب.. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ وهذه أحكامه، أوجب على عباده أن يلتزموها، وأن يقفوا عندها لا يتجاوزونها.
2. ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، فهذا الجزاء الحسن، قد أعدّه الله سبحانه لمن أطاعه وأطاع رسوله، الذي حمل إليه ما أمر الله به، وما نهى عنه.. إنه جنّات تجرى من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإنه الخلود في هذه الجنات والعيش الدائم في نعيمها.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يقاس إليه شيء مما يعده أهل الدنيا فوزا، فيما يقع لأيديهم من مال ومتاع، ولو كان حلالا خالصا.. فكيف إذا كان مشوبا بالحرام، أو كان هو الحرام كل الحرام؟
3. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.. هو كشف عن الوجه البغيض المقابل لهذا الوجه الطيب الكريم.. إنه وجه أولئك الذين لا يخشون الله، ولا يخافون عقابه، فلا يمتثلون أوامره، ولا يعملون بما يدعوهم الله ورسوله إليه.. وإنها للنار التي أعدت للكافرين، وإنه للخلود في عذابها وهوانها.. وذلك هو الخزي المبين!
4. سؤال وإشكال: هنا ما ينبغي أن ننظر فيه، ونتأمله: فلقد جاء الخطاب من قبل الحق جلّ وعلا لمن يطيعون الله ورسوله في صيغة المفرد، حتى إذا دخل الجنة، انتقل الخطاب من المفرد إلى الجمع هكذا: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فما وجه هذا؟ وما سره؟ والجواب: إن إفراد الخطاب في هذه المراحل: ﴿يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فيه مواجهة صريحة كاملة، تضع الإنسان وحده في مواجهة هذا الخطاب الإلهي فيلتفت إليه بكيانه كله، حيث لا يقع في شعوره ـ والحال كذلك ـ أن هذا الخطاب العلوي متجه إلى غيره! وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان في وضع يحسن فيه التلقي عن الله، والانتفاع بما تلقى، وذلك ما يقيمه على طاعة الله، ويصل به إلى مرضاته، ثم إلى الجنة التي أعدت للمتقين، وليس الشأن كذلك إذا دخل الجنة.. إنه هنا في حال ينعم فيها بنعيم الله، ويأنس بألطافه، ومن تمام نعيم الله هنا، ومزيد ألطافه، أن يجد الإنسان نفسه بين لدات وإخوان، يشاركهم هذا النعيم، وتلك الألطاف، وأن ينظر هذا النعيم وتلك الألطاف التي تغمر كيانه، قد تجسدت على وجوه إخوانه، فأصبحت بشرا، وحبورا، فيزداد لذلك بشره وحبوره، وما ذا يأخذ الإنسان أو يعطى، وهو منفرد وحده في هذه الجنات؟ إن هذا النعيم الطيب كله فيها، والملائكة والحور الذين يشرقون فيها كما تشرق الشموس ـ إن كل هذا لا يعرف المرء قدره، ولا يتذوق طعومه، على أكمل وجه وأتمه، إلا إذا كان له إخوان من جنسه، يألفهم ويألفونه، ويأخذ معهم ويعطى.. من كئوس هذا النعيم، وهذا الشعور الجماعى في الإنسان قد عرف الله سبحانه وتعالى حاجته إليه، فأسعفه بها، وجعلها من بعض ألطافه على عباده في جناته.. فجعل أهل الجنة في حياة جماعية، يتلاقون، ويتعارفون ويتبادلون الطيّب من الحديث، والكريم الهنيء من النعيم.. فيقول سبحانه في أصحاب الجنة: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ ويقول جل شأنه: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ﴾، وعن هذا الشعور كان قول أبى العلاء المعرّى:
çولو أنّى حبيت الخلد فردا... لما أحببت في الخلد انفراداé
وانظر إلى أصحاب النار، كيف كان الخطاب من الله ـ سبحانه وتعالى ـ مفردا، قبل النار وبعدها، خارجها وداخلها.. حيث يقول جل شأنه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
5. إن الإنسان هنا يواجه وحده بهذا الوعيد من رب العالمين، حتى لكأنه هو الوحيد الذي انفرد من بين الناس بالشرود عن طريق الحق، والعصيان لله ورسوله.. ثم ها هو ذا يلقى مصيره المشئوم وحده ﴿نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ حتى لكأن جهنم قد خصصت له، وحتى لكأن عذابها مقصور عليه، وفي هذا ما فيه من مضاعفة العذاب، النفسي، فوق العذاب الحسّى! إن المشاركة في البلاء تخفف من شدته، وتكسر من حدته، حيث يتأسّى المصاب بغيره من المصابين، ويجد في مصاب غيره عزاء لمصابه، وفي هذا تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
çولو لا كثرة الباكين حولى... على إخوانهم لقتلت نفسيé
6. ارجع إلى الآيتين الكريمتين الآن، ورتلهما ترتيلا، مستصحبا معك هذا المعنى الذي أشرت إليه فيهما، فإنك واجد إلى هذا المعنى معانى كثيرة، أكثر شفافية وصفاء! ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/715.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ الإشارة إلى المعاني والجمل المتقدّمة، والحدود جمع حدّ، وهو ظرف المكان الذي يميز عن مكان آخر بحيث يمنع تجاوزه، واستعمل الحدود هنا مجازا في العمل الذي لا تحلّ مخالفته على طريقة التمثيل.
2. معنى ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أنّه يتابع حدوده كما دلّ عليه قوله في مقابله ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾، وقوله: ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾ استعمل الخلود في طول المدّة، أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الأتمّ وهو نبذ الإيمان، لأنّ القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام، فما يخالف ذلك إلّا من كان غير ثابت الإيمان إلّا من تاب.
3. لعلّ قوله: ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ تقسيم، لأنّ العصيان أنواع: منه ما يوجب الخلود، ومنه ما يوجب العذاب المهين، وقرينة ذلك أنّ عطف ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ على الخلود في النار لا يحتاج إليه إذا لم يكن مرادا به التقسيم، فيضطرّ إلى جعله زيادة توكيد، أو تقول إنّ محط العطف هو وصفه بالمهين لأنّ العرب أباة الضيم، شمّ الأنوف، فقد يحذرون الإهانة أكثر ممّا يحذرون عذاب النار، ومن الأمثال المأثورة في حكاياتهم (النار ولا العار)، وفي كتاب (الآداب) في أعجاز أبياته (والحرّ يصبر خوف العار للنار)
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/55.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت أحكام المواريث مظنة التلاعب في الماضي ولا تزال حقوق النساء فيها موضع التلاعب إلى اليوم، ولذلك أكد الله سبحانه حق الميراث بقوله:
2. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي أن الميراث حدّ رسمه الله تعالى، فمن أطاع الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما، وإن ذكر الجنات في هذا المقام له موضعه؛ لأن هذا الذي يترك التوزيع لله تعالى، ويتغلب على هوى نفسه فيمن يحب أو يكره يجزيه الله تعالى جنات تجرى من تحتها الأنهار، وهذا الجزاء هو الفوز العظيم؛ لأن فيه النجاة وفيه النعيم، فمن فعله فقد نال الحسنيين، فإذا كان قد تغلب على منازع الدنيا، فقد نال نعيم الآخرة، ومن ينظر إلى مآل ماله عليه أن ينظر قبل كل شيء إلى مآل شخصه.
3. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ هذا جزاء من يخالف حكم الله وخصوصا في الميراث، فهو عاص لله سبحانه، وقد تعدى ما رسمه الله من حدود في ماله، وإن جزاءه أن يدخل النار ويخلد فيها، وله عذاب مهين أبلغ إهانة في الآخرة، فهو قد باع آخرته بدنيا غيره، وإذا كان أراد السعادة الدنيوية لغيره بهذا المال فقد نال الشقاء الأخروي بعمله، وإذا كان قد أراد إعزاز بعض من يحب فقد أهان نفسه، والله هو الذي يبين الحق، ويهدى إلى الرشد، كما قال تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1608.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المعنى واضح، ويتلخص بأن الله سبحانه بعد أن بيّن سهام المواريث وفق علمه وحكمته وعد المطيع بالثواب، وتوعد العاصي بالعقاب، ترغيبا في الطاعة، وترهيبا عن المعصية، وقال عن أهل الجنة خالدين بالجمع، وعن أهل النار خالدا بالأفراد، لأن أهل الجنة يتمتعون بالاجتماع، أما أهل النار فكل في شغل بنفسه عن غيره.
2. تجدر الاشارة الى بعض الأحاديث الواردة في علم الفرائض ـ أي المواريث ـ وفضله، لأنه يراعي مصلحة الأسرة والمجتمع، ويضع كل فرد في مرتبته من الميت، ولا يحرم امرأة ولا صغيرا، ويفتت الثروات، ولا يدع مجالا لتضخمها وتكدسها في أيدي قلة، كما هو الشأن في بعض الأنظمة الغربية التي حصرت الميراث بالابن الأكبر، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تعلموا الفرائض، وعلموها للناس، فاني امرؤ مقبوض، وان العلم ـ أي علم الشريعة الاسلامية ـ سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما.. تعلموا الفرائض فإنها من دينكم، وان علمه نصف العلم، وانه أول ما ينتزع من أمتي)، وقوله: أول ما ينتزع من أمتي اشارة الى هذه القوانين الوضعية التي حلت محل الشريعة الاسلامية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/269.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان، والمراد بها أحكام الإرث والفرائض المبينة، وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/213.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ﴾ الحدود المذكورة من أول السورة في اليتامى والزواج والميراث وغير ذلك كلها ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ الذي له الملك يجب أن يطاع ولا يتعدى حد من حدوده ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في المواريث وسائر الحدود المذكورة وغيرها من أمر الله ونهيه ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ بساتين غليظة تجن أمكنتها في جنة النعيم، خالداً لا يموت باقياً فيها ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ﴾ والظفر والفلاح ﴿الْعَظِيمِ﴾ لما فيه من الملك الكبير والنعيم الدائم ولما يستلزمه من الزحزحة عن النار
2. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بقطيعة رحم، أو أي مخالفة في حدود الله المذكورة في السورة أو غيرها ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ في المواريث أو غيرها ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا﴾ وهي نار جهنم ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾ باقياً فيها لا يموت ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ لما في جهنم من أنواع الإهانة بالعذاب المتنوع.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/30.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ التي بينها في فرائض الميراث وأمر اليتامى، وفصّلها بطريقة واضحة لا تحتمل اللّبس ولا تدفع للخلاف، فلا تتجاوزوها إلى غيرها لئلا تنحرفوا عن الخط المستقيم الذي أراد الله لكم أن تسيروا عليه في الانفتاح على مواقع طاعته.
2. ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أوامرهما ونواهيهما ﴿يُدْخِلْهُ﴾ الله سبحانه ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها وأبنيتها، ﴿الْأَنْهَارُ﴾ أي ماء الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فلا موقع للموت هناك بل هو البقاء والدوام في الحياة، ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي الفلاح العظيم، وأي فلاح أعظم من الفوز بالمصير النهائي، ليجد الإنسان نفسه في أجواء نعيم الجنة ورضوان الله.
3. ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ﴾ أو ينحرف عن خط العبودية له، فيتمرد على تعاليمه وأوامره ونواهيه في شؤون الفرائض وغيرها، ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ فيتجاوزها إلى تشريعات غيره مما يشرّعه المنحرفون عن الله أو توحي به النفس الأمّارة بالسوء من خلال وسوسات الشيطان، ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ فلا يموت فيها فيرتاح ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ وأية إهانة أعظم من هذا النوع من الإحراق والتعذيب والإسقاط الروحي الذي لا يملك الإنسان فيه أيّ توازن أو احترام.
4. أمّا اختلاف التعبير بالجمع عن أصحاب الجنة في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ وبالفرد عن أصحاب النار في قوله: خلدا فيها فلعل الأساس فيه أن أهل الجنة ينعمون بنعيمها مجتمعين، بينما أهل النار مشغولون بأنفسهم عن غيرهم؛ فلكل واحد منهم عذابه وآلامه التي لا تتيح له التطلع أو التفكير بمن حوله من الآخرين.
5. جاء هذا التعبير ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ في أكثر من آية من أجل التأكيد على الاهتمام القرآني بالالتزام الحاسم الشرعي بالأحكام والقوانين والتعاليم الاجتماعية، لأن القضية المطروحة في حركة العقيدة في الإنسان هي أن تتحول الخطوط التفصيلية في التشريع إلى خطوط عملية في السلوك الإنساني، باعتبار أن الأحكام الشرعية تمثل التجسيد الواقعي العملي للقيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية في واقع الإنسان، الأمر الذي يفرض زيادة التأكيد على الوقوف عندها وعدم تجاوزها، لأن الالتزام بالرسالة يمثل في الإنسان الانطلاق في حركته الوجودية من خلال ما أمر الله به، وفي سلبياته الحركية من خلال ما نهى الله عنه، فذلك هو الذي يمثل شخصية الإنسان المسلم في عناصرها الفكرية والعلمية، وهذا ما أراد الله للإنسان أن يبقيه في وجدانه الديني التشريعي، ولهذا كرر مضمون هذه الآية فذكرها في سورة البقرة في الآية بعد الحديث عن حرمة الاتصال الجنسي بين الزوجين في الاعتكاف، وبعد الأحكام المتعلقة بالصوم، كما ذكرت في الآيتين ومن السورة نفسها، وفي آية من سورة الطلاق، في سياق الحديث عن أحكام الطلاق، وفي آية من سورة المجادلة، بعد بيان كفارة الظهار.
6. وهذا هو ما ينبغي للعاملين في حقل التربية الإسلامية أن يتمثلوه في مناهجهم التربوية للإيحاء للجيل المسلم بأن الانتماء يمنع الإنسان من التحرك بحرية في الساحة العملية الواسعة ليفعل ما يريد ويترك ما يريد تبعا لهوى نفسه أو للبيئة المحيطة به، فهناك حدود عقيدية لا بد أن يقف عندها في حركة فكره، وهناك حدود شرعية لا بد أن لا يتجاوزها في حركة عمله، لأن ذلك هو معنى الإيمان بالله فكرا وعملا والانفتاح على مواقع رضاه، فإن مسألة الحرية الإنسانيّة تتحرك في الساحات التي منح الله فيها الإنسان الرخصة في الانطلاق فيها لا في الساحات التي وضع فيها حدوده.
7. سؤال وإشكال: هل يخلّد العاصي المسلم في النار؟ والجواب: ربما توحي هذه الآية كغيرها من الآيات التي تتحدث عن عذاب المتعدي لحدود الله في أجواء المعصية، بخلود العاصي في النار، وأن المسلم يمكن أن يخلد في النار بفعل معصيته، وهذا هو ما استدلّ به القائلون بأن مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة مخلّد في النار ومعاقب فيها لا محالة ـ كما جاء في مجمع البيان ـ ولكنه أشكل عليهم بأن الظاهر أن قوله ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ يراد به جميع حدوده في العقيدة والعمل، وهذه هي صفة الكفار، لأن المؤمن يقف عند حدود الله في العقيدة وفي بعض مواقع الشريعة، ويتجاوزها في البعض الآخر، فلا تنطبق عليه الآية؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن (صاحب الصغيرة ـ بلا خلاف ـ خارج من عموم الآية وإن كان فاعلا للمعصية ومتعديا حدّا من حدود الله، وإذا جاز لهذا القائل إخراجه منه بدليل، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو يتفضل عليه الله سبحانه بالعفو، بدليل آخر، وأيضا، فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدليل على وجوب قبول التوبة، فكذلك يجب إخراج من يتفضل الله عليه بإسقاط عقابه منها لقيام الدلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو، فإن جعلوا الآية دالة على أنّ الله سبحانه لا يختار العفو، جاز لغيرهم أن يجعلها دالة على أنّ العاصي لا يختار التوبة، على أن في المفسرين من حمل الآية على من تعدى حدود الله وعصاه مستحلّا لذلك، ومن كان كذلك لا يكون إلا كافرا)، لكن من الممكن أن تكون هذه الآية وأمثالها واردة على سبيل تحديد الاستحقاق للعذاب الخالد لا على بيان الفعلية، فلا تنافي ما دل على عدم خلود المسلم في النار، لأن إسلامه قد يكون سببا في العفو الإلهي عنه، والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/129.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. (الحدود) جمع حدّ، ويعني في أصل اللّغة لمنع، ثمّ اطلق على كلّ حائل وحاجز بين شيئين يفصل بينهما ويميز، فحدّ البيت والبستان والدّولة يراد منه الموضع الذي يفصل هذه النقطة عن غيرها من النقاط الأخرى.
2. بدأت الآية الكريمة بالإشارة إلى قوانين الإرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة (تلك) إذ قال سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أي تلك حدود الله التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإن من تعدى هذه الحدود كان عاصيا مذنبا، وقد وردت هذه العبارة ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وقد جاءت دائما بعد ذكر سلسلة من الأحكام والقوانين والمقررات الاجتماعية، ففي الآية 187 من سورة البقرة مثلا تأتي هذه العبارة بعد الإعلان عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الاعتكاف، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم، كما جاءت في الآيات من سورة البقرة، والآية من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق، وفي الآية من سورة المجادلة بعد بيان كفارة (الظهار)، وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين منع من تجاوزها، ولهذا وصفت بكونها (حدود الله)
3. ثمّ بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، وهو بذلك يشير إلى النّتيجة الأخروية للالتزام بحدود الله واحترامها، ثمّ يصف هذه النتيجة الأخروية بقوله: ﴿وذلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾
4. ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾، على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإنكار لآيات الله، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يستبعد هذا المعنى إذا لا حظنا أن (حدود) جمع، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإلهية، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإلهية لا يؤمن بالله عادة، وإلّا فإنّه يحترم ولو بعضها ـ على الأقل.
5. إنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد حيث قال ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾، إنّ هذا التفاوت في التعبير ـ في الآيتين المتلاحقتين ـ شاهد واضح على أن لأهل الجنّة اجتماعات (أو بعبارة أخرى أنّ هناك حالة اجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة، ينعم بها ساكنوها وأصحابها، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفا عن هذا، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه ـ لما فيه من العذابـ بحيث لا يلتفت إلى غيره، ولا يفكر فيه، بل هو مهتم بنفسه، يعمل لوحده، وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل، في هذه الدنيا أيضا، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/141.
16. عاقبة الذين يأتون الفاحشة بأنواعها
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈16⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 15 ـ 16]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له: اخرج من مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يا من لعنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال(1).
2. روي أنّه قال: أخرجوهم من بيوتكم فانهم أقذر شيء(1).
3. روي أنّه قال: كنت جالسا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المسجد حتى أتاه رجل به تأنيث فسلم عليه فرد عليه ثم أكب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الارض يسترجع، ثمّ قال مثل هؤلاء في امتي! انه لا يكون مثل هؤلاء في امة إلا عذبت قبل الساعة(1).
4. روي أنّه قال ـ في حديث الاربعمائة ـ: لا ينام الرجل مع الرجل في ثوب واحد فمن فعل ذلك وجب عليه الادب وهو التعزير(2).
__________
(1) علل الشرائع: 602.
(2) الخصال: 632.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، فقد جعل الله لهن، وهو الجلد والرجم(1).
2. روي أنّه قال: لما نزلت الفرائض في سورة النساء قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا حبس بعد سورة النساء(2).
3. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ الآية، قال كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾، فجعل الله لهن سبيلا، فمن عمل شيئا جلد وأرسل(3).
4. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، وقوله: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: ١]، وقوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: ١٩]، قال كان ذكر الفاحشة في هؤلاء الآيات قبل أن تنزل سورة النور بالجلد والرجم، فإن جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج فترجم، فنسختها هذه الآية: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾، والسبيل الذي جعل الله لهن الجلد والرجم(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلًا﴾، قال وذكر الرجل بعد المرأة، ثم جمعهما جميعا، فقال: ﴿واللذان يأتيانهما منكم فآذوهما﴾ الآية، ثم نسخ ذلك بآية الجلد، فقال: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: ٢](5).
6. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ الآية، قال كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال(6).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٩٤.
(2) الدارقطني في سننه ٥/١١٩.
(3) البزار (٢١٩٩.
(4) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٢.
(5) أبو داود في سُنَنِه (٤٤١٣.
(6) ابن جرير ٦/٥٠٣.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن المكاعمة والمكامعة، فالمكاعمة: ان يلثم الرجل الرجل، والمكامعة: أن يضاجعه ولا يكون بينهما ثوب من غير ضرورة(1).
__________
(1) معاني الاخبار: 300.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ يعني: من الفاحشة ﴿وَأَصْلَحَا﴾ يعني: العمل ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ يعني: لا تسمعوهما الأذى بعد التوبة، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ الآية، قال كان هذا يفعل بالبكر والثيب في أول الإسلام، ثم نزل حد الزاني، فصار الحبس والأذى منسوخا، نسخته الآية التي في السورة التي يذكر فيها النور [٢]: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ الآية(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ يعني: الزنا ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ يعني: المرأة الثيب من المسلمين(2).
4. روي أنّه قال: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ يعني: من المسلمين الأحرار، ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ يعني: بالزنا ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ يعني: احبسوهن ﴿فِي الْبُيُوتِ﴾ يعني: في السجون، وكان هذا في أول الإسلام، كانت المرأة إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن، فإن كان لها زوج أخذ المهر منها، ولكنه ينفق عليها من غير طلاق، وليس عليها حد، ولا يجامعها، ولكن يحبسها في السجن، ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ يعني: حتى تموت المرأة وهي على تلك الحال(2).
5. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّذَانِ﴾ يعني: البكرين اللذين لم يحصنا ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ يعني: الفاحشة، وهي الزنا ﴿مِنْكُمْ﴾ يعني: من المسلمين(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٦.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٣.
(3) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ الرجلان الفاعلان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، الزنا، كان أمر بحبسهن حين يشهد عليهن أربعة شهداء، حتى يمتن، أو يجعل الله لهن سبيلا(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٩٩.
(2) ابن جرير ٦/٤٩٣ من طريق ابن أبي نجيح، وابن المنذر ٢/٥٩٩.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، فذكر الرجل بعد المرأة، ثم جمعهما جميعا، فقال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قول الله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾: هذه منسوخة، والسبيل هو الحدود(1).
2. روي أنّه قال: كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء، وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ والسبيل الذي قال الله عز وجل: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا﴾ آياتٍ ﴿بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(2).
3. روي أنّه قال ـ في حديث قوم لوط ـ: إن ابليس لما علمهم اللواط تركوا نساءهم وأقبلوا على الغلمان، فلما رأى انه قد أحكم امره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة ثم قال ان رجالكن يفعل بعضهم ببعض، قالوا: نعم، قد رأينا كل ذلك يعظهم لوط ويوصيهم وابليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء، ثمّ ذكر كيفية اهلاكهم(3).
4. روي أنّه قال في قول لوط عليه السلام: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾: إن إبليس أتاهم في صورة حسنة فيها تأنيث، وعليه ثياب حسنة، فجاء إلى شباب منهم فأمرهم أن يقعوا به، ولو طلب إليهم أن يقع بهم لابوا عليه، ولكن طلب إليهم أن يقعوا به فلما وقعوا به التذوه، ثم ذهب عنهم وتركهم فأحال بعضهم على بعض(3).
5. روي أنّه قال: أقسم الله على نفسه أن لا يقعد على نمارق الجنة من يؤتي في دبره، فقيل له: فلان عاقل لبيب يدعو الناس إلى نفسه قد ابتلاه الله بذلك، قال: فيفعل ذلك في مسجد الجامع؟ قلت: لا، قال فيفعله على باب داره؟ قلت: لا، قال فأين يفعله؟ قلت: إذا خلا، قال هذا متلذذ، ولا يقعد على نمارق الجنة(4).
6. روي أنّه قال: كان الإمام عليّ إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجردين جلدهما حد الزاني مائة جلدة كل واحد منهما(5).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/227/60.
(2) الكافي 2/24.
(3) الكافي 5/544.
(4) الكافي 5/550.
(5) الكافي 7/182.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾، قال الرجل، والمرأة(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٠.
ابن كثير:
روي عن عبد الله بن كثير (ت 120 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾، هذه للرجل والمرأة جميعا(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٠.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلًا﴾، وهذه المرأة وحدها، ليس معها رجل، فقال رجل كلاما، فقال الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾، أي: فأعرضوا عن عذابهما(1).
__________
(1) الناسخ والمنسوخ للزهري ص ٢٢.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي (ت 127 هـ) أنّه قال: ثم ذكر الجواري والفتيان الذين لم ينكحوا، فقال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ الآية، فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنفان ويعيران حتى يتركا ذلك(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٤٩٩.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن أبي بصير، عن الإمام الصادق، قال سألته عن هذه الآية: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، قال هذه منسوخة، قال قلت: كيف كانت؟ قال كانت المرأة إذا فجرت، فقام عليها أربعة شهود، ادخلت بيتا ولم تحدث، ولم تكلم، ولم تجالس، وأوتيت فيه بطعامها وشرابها حتى تموت، قلت: فقوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾؟ قال جعل السبيل الجلد، والرجم، والإمساك في البيوت، قلت: قوله: ﴿والَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾؟ قال يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب ﴿فَآذُوهُمَا﴾ ـ قال ـ تحبس ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾(1).
2. روي عن إسحاق بن جرير، عن الإمام الصادق ـ في حديث ـ ان امرأة قالت له: أخبرني عن اللواتي باللواتي ما حدهن فيه؟ قال حد الزنا، انه إذا كان يوم القيامة يؤتى بهن قد البسن مقطعات من نار وقنعن بمقانع من نار وسرولن من نار وادخل في اجوافهن إلى رؤوسهن اعمدة من نار وقذف بهن في النار، أيتها المرأة، ان أول من عمل هذا العمل قوم لوط فاستغنى الرجال بالرجال فبقي النساء بغير رجال ففعلن كما فعل رجالهن(2).
3. روي عن بشير النبال قال رأيت عند الإمام الصادق رجلا فقال له: ما تقول في اللواتي مع اللواتي فقال: لا اخبرك حتى تحلف لتحدثن بما احدثك النساء قال فحلف له فقال: هما في النار عليهما سبعون حلة من نار فوق تلك الحلل جلد جاف غليظ من نار عليهما نطاقان من نار وتاجان من نار فوق تلك الحلل وخفان من نار وهما في النار(3).
4. روي عن يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل الإمام الصادق عن المرأة تساحق المرأة وكان متكئا فجلس وقال: ملعونة ملعونة الراكبة والمركوبة، وملعونة حتى تخرج من أثوابها، فإنّ الله وملائكته وأولياءه يلعنونها، وانا ومن بقي في أصلاب الرجال وارحام النساء، فهو والله الزنا الأكبر.. قاتل الله لاقيس بنت ابليس ماذا جاءت به، فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق فقال: والله لقد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل ان يكون العراق، وفيهنّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لعن الله المتشبهات بالرجال من النساء ولعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء(3).
5. روي أنّه قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، وهم المخنثون واللاتي ينكحن بعضهن بعضا(4).
روي عن محمد بن أبي حمزة، عن الإمام الصادق، انه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق؟ فقال: حدها حد الزاني، فقالت المرأة: ما ذكر الله ذلك في القرآن فقال: بلى، هنّ من أصحاب الرس(5).
6. روي أنه قيل له: ما تقول في اللواتي مع اللواتي؟ فقال: هن في النار إذا كان يوم القيامة اتي بهن فالبسن جلبابا من نار وخفين من نار وقناعين من نار وادخل في أجوافهن وفروجهن اعمدة من نار وقذف بهن في النار، قالت: فليس هذا في كتاب الله قال بلى، قالت: أين؟ قال قوله: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾(6).
7. روي أنّه قال: ليس لامرأتين أن تبيتا في لحاف واحد إلا أن يكون بينهما حاجز، فان فعلتا نهيتا عن ذلك وإن وجدتا بعد النهي جلدت كل واحدة منهما حدا حدا، فان وجدتا أيضا في لحاف واحد جلدتا، فان وجدتا الثالثة قتلتا(7).
8. روي أنّه قال: حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج، وإن الله أهلك امة لحرمة الدبر ولم يهلك أحدا لحرمة الفرج(8).
9. روي عن ميمون البان قال: كنت عند الإمام الصادق فقرئ عليه آيات من هود فلما بلغ ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ قال من مات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجر من تلك الحجارة تكون فيه منيته ولا يراه أحد(9).
10. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لما عمل قوم لوط ما عملوا بكت الارض إلى ربّها حتّى بلغت دموعها إلى السماء، وبكت السماء حتى بلغت دموعها العرش، فأوحى الله إلى السماء أن احصبيهم، وأوحى إلى الارض أن اخسفي بهم(10).
11. روي أنّه قال في حديث ـ أن زنديقا قال له: لم حرم الله الزنا؟ قال لما فيه من الفساد وذهاب المواريث، وانقطاع الانساب، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها، ولا المولود يعلم من أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة، قال فلم حرم الله اللواط؟ قال من أجل انه لو كان اتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء، وكان فيه قطع النسل، وتعطيل الفروج، وكان في اجازة ذلك فساد كثير(11).
12. روي أنّه قال: جاء رجل إلى أبي فقال له: اني قد ابتليت فادع الله لي، فقيل له: انه يؤتى في دبره فقال: ما أبلى الله بهذا البلاء أحدا له فيه حاجة ثم قال أبي: قال الله عزّ وجلّ: وعزتي وجلالي لا يقعد على استبرقها وحريرها من يؤتى في دبره(4).
13. روي أنّه قال: ما كان من شيعتنا فلم يكن فيهم ثلاثة أشياء: من يسأل في كفه، ولم يكن فيهم أزرق أخضر، ولم يكن فيهم من يؤتى في دبره(2).
14. روي أنه قيل له: هؤلاء المخنثون مبتلون بهذا البلاء فيكون المؤمن مبتلى والناس يزعمون انه لا يبتلى بهذا أحد لله فيه حاجة، قال: نعم، قد يكون مبتلى به فلا تكلموهم فانما يجدون لكلامكم راحة، قيل: فإنهم ليس يصبرون، قال: هم يصبرون ولكن يطلبون بذلك اللذة(2).
15. روي أنّه قال: إن في كتاب الإمام علي إذا اخذ الرجل مع غلام في لحاف مجردين ضرب الرجل وادب الغلام وإن كان ثقب وكان محصنا رجم(12).
16. روي أنّه قال: قال أمير المؤمنين: اللواط ما دون الدبر والدبر هو الكفر بالله(13).
روي عن حذيفة بن منصور قال: سألت الإمام الصادق عن اللواط؟ فقال: ما بين الفخذين، وسألته عن الذي يوقب؟ فقال: ذاك الكفر بما أنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم(14).
17. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من قبل غلاما من شهوة ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار(9).
18. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اياكم وأولاد الاغنياء والملوك المرد، فان فتنتهم أشد من فتنة العذارى في خدورهن(9).
روي عن إسحاق بن عمار قال: قلت للإمام الصادق: محرم قبل غلاما من شهوة قال: يضرب مائة سوط(12).
19. روي أنّه قال: حد الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد والرجلان يوجدان في لحاف واحد والمرأتان توجدان في لحاف واحد(15).
روي عن سليمان بن هلال قال سأل بعض أصحابنا الإمام الصادق فقال: الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد؟ قال ذو محرم؟ قال لا، قال من ضرورة؟ قال لا، قال يضربان ثلاثين سوطا ثلاثين سوطا(16).
20. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يباشر الرجل الرجل إلا وبينهما ثوب، ولا تباشر المرأة المرأة إلا وبينهما ثوب، ولعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المخنثين وقال: اخرجوهم من بيوتكم(17).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/227/61.
(2) الكافي 5/551.
(3) الكافي 5/552.
(4) الكافي 5/550.
(5) الكافي 7/202.
(6) تفسير القمي 2/113.
(7) الكافي 7/182.
(8) الكافي 5/543.
(9) الكافي 5/548.
(10) المحاسن: 110.
(11) الاحتجاج: 347.
(12) الكافي 7/200.
(13) الكافي 5/544.
(14) التهذيب 10/53.
(15) الكافي 7/181.
(16) من لا يحضره الفقيه 4/14.
(17) مكارم الاخلاق: 232.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: وعلة تحريم الذكران للذكران والاناث للاناث لما ركب في الاناث وما طبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران للذكران والاناث للاناث من انقطاع النسل، وفساد التدبير، وخراب الدنيا(1).
__________
(1) علل الشرائع: 547.
الهادي:
سئل الإمام الهادي (ت 254 هـ) عن قوله تعالى: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ يزوج الله عباده الذكران، فقد عاقب قوما فعلوا ذلك؟ فقال: قوله: ﴿يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ أي يولد له ذكر ويولد له اناث، يقال لكل اثنين مقرونين: زوجان، كل واحد منهما زوج، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ إن لم يتب(1).
__________
(1) تحف العقول: 379.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ الآية:
أ. قيل: كان هذان الحكمان في أول الإسلام: الأول منهما للمرأة، والثاني للرجل.
ب. وقيل: إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة.
ج. ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة جميعا.
د. ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصّة: فيما يأتي الذكر ذكرا؛ على ما كان من فعل قوم لوط، وآية الحبس في الرجال والنساء جميعا.
2. إن كانت آية الأذى في الرجال خاصّة؛ ففيها حجة لأبي حنيفة حيث لم يوجب على من عمل عمل قوم لوط الحدّ؛ ولكن أوجب التعزير والأذى، وهو منسوخ إن كان في هذا، وإن كانت في الأول؛ فهي منسوخة، ثم اختلف بما به نسخ:
أ. فقال قوم: نسخ بقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]
ب. لكن عندنا (2) هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما؛ فكيف يكون به النسخ!؟ ولكن نسخ عندنا بالخبر الذي روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خذوا عنّى، خذوا عنّى، قد جعل الله لهنّ سبيلا: البكر بالبكر، والثّيّب بالثّيّب، البكر يجلد وينفى، والثّيّب يجلد ويرجم)؛ ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة.
3. سؤال وإشكال: في الآية دليل وعد النسخ بقوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾؛ فإنما صار منسوخا بما وعد [الله] في الآية من النسخ، لا بالسنة، والجواب: ما من آية أو سنة كان من حكم الله النسخ إلا والوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورا؛ لأن الله عزّ وجل لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ؛ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية؛ فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه بوحي يكون قرآنا يتلى وبين أن ينسخه بوحي لا يكون قرآنا، وفيه أخبار كثيرة:
أ. روي أنه رجم ماعزا لما أقرّ بالزنا مرارا، ورجم ـ أيضا ـ غيره: ما روي أن عسيف الرجل زنا بامرأته، وقال: سأقضي بينكما بكتاب الله تعالى، وقال: (واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن هي اعترفت فارجمها)
ب. وعن عمر قال خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائله: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل، وقامت البينة، أو اعترف، وقد قرأناها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله)، رجم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجمنا بعده.
قال قوم: الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية، ولما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنه رجم يهوديّين)، قيل: إنما رجم بحكم التوراة؛ ألا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة، ودعا علماءهم فأمرهم أن يقرؤوا عليه؛ فوضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرؤوا غيره؛ فقال ابن سلام: إنهم كتموه يا رسول الله، ثم قرأ هو؛ فأمر برجمهم، ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة؛ لذلك لم يقم عليهم الرجم.
4. سؤال وإشكال: إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، والجواب: لا يحتمل وجوب الحد عليه بذلك؛ لأنه مختلف حكم هذا من هذا في الحرمة، ووجوب المهر؛ وغير ذلك، فلا يحتمل أن يعرف حكم شيء لما يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه.
5. قوله عزّ وجل: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ ـ: في الآية دليل جواز القياس؛ لأنه ذكر الحكم في النساء، ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم، وهما لا يختلفان في هذا الحكم؛ ما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله؛ دل أن ما ترك ذكره في المنصوص إنما ترك؛ للاستدلال عليه، والاستنباط من المنصوص والانتزاع منه.
6. قال قوم: إن على الثيب الجلد والرجم جميعا؛ ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خذوا عنّي خذوا عنّي؛ قد جعل الله لهنّ سبيلا: البكر بالبكر يجلد وينفى، والثّيّب بالثّيب يجلد ويرجم): لم يذكر هنالك جلد، والأخبار كثيرة في هذا، وروي أنّه قال: من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله الّذي ستره عليه، فإنّ من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حدّ الله)
7. ثم يحتمل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الثّيّب بالثّيّب يجلد ويرجم)، أي: البكر مع البكر، والثيب مع الثيب؛ فيكون ثيبا يجلد وثيبا آخر يرجم، ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر:
أ. قال قوم: النفي ثابت واجب.
ب. وعندنا: إن كان فهو منسوخ، ودليل نسخه: ما روي في خبر زيد بن خالد، وكان الرجل بكرا، لم يذكر أنه نفي، وما روي عن عمر بن الخطاب أنه نفى رجلا؛ فارتد ولحق بالروم؛ فقال: لا أنفي بعد هذا أبدا، وما روي أنه قال كفي بالنفي فتنة، وإن كان فهو عقوبة وليس بحد؛ كحبس الدعارة وغيره.
8. الدليل على أن النفي ليس بحد أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في الإماء: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25] والأمة لا تنفي؛ لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثمّ إذا زنت فليجلدها، ثمّ إذا زنت فليبعها ولو بضفير): أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي، ولو كان حدّا لأمر به كما أمر بالجلد؛ دل أنه ليس بحدّ في الحر، ولأنه أوجب على الإماء نصف ما أوجب على الحرائر، ولا نصف للنفي؛ دل أنه ليس بحد، ولا يجب ذلك، أو إن كان فهو حبس، وفي الحبس نفي، فيحبسان ذلك ولا يذكر.
9. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا﴾ [النساء: 16] ـ يخرج على وجهين ـ لو كان الإتيان الزنا أحدهما(3): أن يكون في جميع الإناث الحبس، وفي الذكور: الإيذاء ولذلك جمع بين الجميع في الخبر الذي به النسخ؛ فارتفع الحبس والأذى جميعا، وذلك معقول: تأديب: ذكر لهن؛ على ما جرى به الذكر في القرآن، ثم جمع في التفسير بين الكل؛ ثبت أن الذكر قد يضمن الكل، وذلك يبطل تأويل من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور، ومتى يحتمل وجود الكل مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة، والعار اللازم لهن، ثم كشف ذلك لجميع محارمها، ثم خوف الانتشار به ظاهرا، وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى تمكن من ذكر بحضرة من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها؟ فتأويل من وجّه الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف، ثم المروي من السنة، ثم بما أجمع عليه أهل التأويل عمل صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينه الكتاب بالسنة، ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله بحجر هذا النوع.
10. وقوله عزّ وجل: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا﴾ الآية، ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة، فكأن الخطاب عليهم خرج، ثم قد أثبت الفاحشة منهن، ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدون بها؛ فعلى هذا أن ليس للأئمة تولى حدّ الزناة بعلمهم حتى يكون ثمّ شهود، وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهي إليه من إعلان الفعل من الزناة؛ إذ ذلك أمر معلوم فيما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقة ذلك بالولد يكون، فأما من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن، فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا يعلم حقيقته أبدا؛ يدل على ذلك جميع الأمور التي منها المباح أو المحظور ذلك في الإماء حتى قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ الآية [النور: 24]، وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزناة من الإماء، حتى بلغ من ظهور ذلك إلى أن يمازج به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن؛ فنزل قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب: 59] وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت غلب عليهم خوف مواقعة الزنا، [وكذلك على] الحرائر؛ لكثرة ما يرين أو يسمعن، وذلك معنى يبعث من شرهت نفسه، وقل تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه، وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر، فخفف الله عقوبته في الابتداء أن جعل فيه الحبس والإمساك في البيوت، ثم صار ذلك إلى الضرب؛ لما أن تحرج الناس وعظم ذلك في أعينهم، وجعل في الشتم به الحدّ؛ ليعرفوا عظم موقعه عند الله وينتهوا عن فعله، وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم، وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر، ويرتفع جميع معاني الشبه لعظيم أمره.
11. الثاني: أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض لبعض، ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة؛ فغلب عليهم الأمر، واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك.
12. ثم في الحبس وجهان:
أ. أحدهما: الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط فهو ـ والله أعلم ـ أن بهذه الشريعة خلى سبيلهن، لا أن أوجب على المحبوسات إقامة ذلك بما قد حبس بالزنا، ولكن في هذا تخلية السبيل، على أنهن؛ إذا زنين فعل بهن ذلك على رفع الحبس عنهن إذا حبس بما لم يبين حد ذلك، فإذا بين زال ذلك ولا حد حتى يكون منها ذلك، فالسبيل المجعول لهن تخلية السبيل، ثم بين الحكم في الحادث.
ب. ووجه آخر: أن السبيل في الحقيقة مجعول لمن كلف إمساكهن، وإن أضيف إليهن بما فيهن ضيق عليهم الأمر، وذلك كقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: 25] والإماء لا يؤتين الأجر، لكن بما بمعنى فيهن ذكر الأجر، فأضيف إليهن، وعلى نحو ما أضيف أهل القرى إلى القرى بالتسمية، فأخرجت على تسمية القرى، وإذا كان المراد أهل ذلك في حق تسمية الأهل التذكير والقرية التأنيث، فكأنه جعل للمأمورين بالإمساك سبيلا في أن يقيموا الحد، ويزول عنهم مئونة الإمساك والقيام بالكفاية.
ج. الثالث: أن يكون في طول الحبس ضجر وضيق، وحيلولة بين المحبوس والشهوات كلها، وقطع [ما]، وهكذا معنى النسخ أن بيان جعل الله مدة حكم الأوّل بما يحدث فيه الحكم، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله عزّ وجل: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ـ معنى؛ لأن كل شيء في حكم الله أنه ينسخه، فالوعد في حكمه قائم، إلا أن يقول قائل: لا يصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ببيان وعد الحكم، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط؛ فيحتاج أن يحدث منه إيمانا، والله الموفق، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه، وبعد، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ: أنه البيان عن منتهي حكم المذكور من الوقت، ولا ريب أن لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيان منتهي الحكم من النوع، فمثله الوقت.
13. ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيها الرجم، وقد ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما رجم بحكم التوراة، وقال: (أنا أوّل من أحيا سنّة أماتوها)، وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من أشرك بالله فليس بمحصن)، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن.
14. قال قوم: عقوبة الحبس في الإناث خاصة، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ الآية، وهذا قريب من حيث كانت النساء مكانهن البيوت، وأمكن حفظهن عن الزنا، وتسليمهن إلى الأزواج مرة والمحارم ثانيا، والرجال إذا حبسوا تحولت مؤنهم إلى غيرهم، فتكون عقوبة فعلهم تلزم غيرهم، والراحة تكون لهم، وأمّا النساء فمؤنهنّ في الأصل على غيرهنّ، فليس في حبسهنّ زيادة على غيرهن، فذلك عقوبة لهنّ مع ما كان الرجال بحيث يمكن تعييرهم، وذلك أبلغ ما يزجر العقلاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الرجال خاصة؛ إذ لا يذكر في عمل قوم لوط العقوبة، وقد علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاجة الناس إلى معرفة عقوبة ذلك؛ إذ قد جعل الله تعالى في إتيان النساء حقوقا وحرمات وأحكاما ليست في إتيان الذكور، عرف الخلائق تلك؛ فلم يحتمل أن يترك ذكر عقوبة يعير بذلك، وكذلك في الإماء ولا في الكفر؛ إذ ما فيهم من الذل أعظم مع ما لا يجب بسبّ من ذكرت حد؛ ليعلم عظيم موقع ذلك في الأحرار، ولو كان على العقوبة فهو منسوخ بما جرت السنة في الإماء بحدهن من غير ذكر الحبس، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25] والمذكور في الثيب يحتمل: يجلد في حال ويرجم في حال؛ إذ لا كل ثيب يجلد، وإن كان ثم نسخ بما ذكر من خبر ماعز وغيره.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَآذُوهُمَا﴾:
أ. قيل: فآذوهما بالحدّ.
ب. وقيل: فآذوهما بالتعيير ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا﴾ كفّوا عن ذلك.
ج. وقيل: سبوهما، لكن ذا قبيح، والتعيير أقرب.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/67.
(2) يقصد الحنفية
(3) كلامه في هذه المسألة مختلط بعضه ببعض لذلك صعب علي تمييز المسائل، فتركت النص كما هو
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ الآية، يريد عز وجل أن من فعل الزنا، وهو الفاحشة التي ذكرها هنا، وجب أن تحبس في البيوت حبساً حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾، أي واللذان يأتيان الفاحشة والزنا، يعني الزاني والزانية ـ لعنة الله عليهما ـ فيجب أن يعنفا، ويستخف بحقهما ويضربا، وينكلا بالضرب والكلام ويعذبا.
3. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ يريد عز وجل أنهما إن تابا من الطلاح، ورجعا إلى الحياء والعفة والصلاح، وجب أن يعرض عن شتمهما، ولا يحل لأحد بعد ذلك أن يذكر شيئاً من قبيح فعلهما، ولا يحقد بعد التوبة إلى الله عليهما، بل يجب إذا تابا إلى الله أن يعظم قدرهما، ويعتقد مودتهما وكرامتهما، لأن الله رحيم بالتائبين، غفور ساتر لعيوب المذنبين، إذا كانوا إلى الله عز وجل راجعين.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/236.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ يعني بالفاحشة الزنا ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ أي أن إمساكهن في البيوت كان حداً عليهن فنسخ الإمساك في البيوت بالجلد والرجم، روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر مائة جلدة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) وقد زادوا في الخبر تغريب عام وهو منسوخ.
2. ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ ويحتمل أن يكون المراد بالآية البكر والثيب والأذى هو يحمل بأنه في الكتاب والسنة وقد قيل إن هذه الآية التي هي الأذى كان قبل آية الحبس وإن أخرت في التلاوة وهذا على مذهب من لم يحمل الأذى على الجلد والرجم(1).
3. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ يعني تابا من الفاحشة وأصلحا دينهما فأعرضوا عنهما بالصفح والكف عن الأذى.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/168.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ يعني بالفاحشة: الزنى، ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ يعني بيّنة يجب بها عليهن الحد، ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ اختلفوا في إمساكهن في البيوت هل هو حد أو موعد بالحد على قولين.
2. ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ يعني بالسبيل الحد، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيّب بالثّيّب جلد مائة والرّجم)
3. اختلفوا في نسخ الجلد من حد الثيّب على قولين:
أ. أحدهما: أنه منسوخ، وهو قول الجمهور من التابعين والفقهاء.
ب. الثاني: أنه ثابت الحكم، وبه قال قتادة، وداود بن علي، وهذه الآية عامة في البكر والثيب، واختلف في نسخها على حسب اختلافهم فيها هل هو حد أو موعد بالحد، فمن قال هي حد، جعلها منسوخة بآية النور، ومن قال هي موعد بالحد، جعلها ثابتة.
4. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها نزلت في الأبكار خاصة، وهذا قول السدي، وابن زيد.
ب. الثاني: أنها عامة في الأبكار والثيّب، وهو قول الحسن، وعطاء.
5. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: الرجل والمرأة، وهو قول الحسن، وعطاء.
ب. والثاني: البكران من الرجال والنساء، وهو قول السدي، وابن زيد.
6. في الأذى المأمور به ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: التعيير والتوبيخ باللسان، وهو قول قتادة، والسدي، ومجاهد.
ب. الثاني: أنه التعيير باللسان، والضرب بالنعال.
ج. الثالث: أنه مجمل أخذ تفسيره في البكر من آية النور، وفي الثيّب من السّنّة.
7. سؤال وإشكال: كيف جاء ترتيب الأذى بعد الحبس؟ والجواب: فيه جوابان:
أ. أحدهما: أن هذه الآية نزلت قبل الأولى، ثم أمر أن توضع في التلاوة بعدها، فكان الأذى أولا، ثم الحبس، ثم الجلد أو الرجم، وهذا قول الحسن.
ب. الثاني: أن الأذى في البكرين خاصة، والحبس في الثّيّبين، وهذا قول السدي.
8. اختلف في نسخها على حسب الاختلاف في إجمالها وتفسيرها.
9. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ يعني تابا من الفاحشة وأصلحا دينهما، فأعرضوا عنهما بالصفح والكف عن الأذى.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾:
أ. قال أكثر المفسرين، كالضحاك، وابن زيد، والجبائي، والبلخي، والزجاج، ومجاهد، وابن عباس، وقتادة، والسدي: إن هذه الآية منسوخة، لأنه كان الفرض الأول أن المرأة إذا زنت وقامت عليها البينة بذلك، أربعة شهود، أن تحبس في البيت أبداً حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين، والجلد في البكرين.
ب. وقال أبو مسلم: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ قال هما المرأة تخلوا بالمرأة في الفاحشة المذكورة عنهن، ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ فالتزويج والاستغناء بالحلال، وهذا قول مخالف للإجماع، ولما عليه المفسرون، فإنهم لا يختلفون أن الفاحشة المذكورة في الآية الزنا، وأن هذا الحكم منسوخ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام.
2. اللاتي جمع التي، وكذلك اللواتي، قال الشاعر:
çمن اللواتي والتي واللاتي... زعمن أن كبرت لداتيé
ويجمع اللاتي بإثبات الياء وبحذفها، قال الشاعر:
çمن اللات لم يحججن يبغين حسبة... ولكن ليقتلن البريء المغفلاé
3. ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ قيل في معنى السبيل ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: قال ابن عباس، وعبد الله بن كثير، أنه الجلد للبكر مائة، وللثيب المحصن الرجم، وإذا جلد البكر فإنه ينفى سنة عندنا، وبه قال الحسن، وقتادة، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
ب. الثاني: قال الجبائي: النفي يجوز من طريق اجتهاد الامام، وأما من وجب عليه الرجم فإنه يجلد أولا ثم يرجم عند أكثر أصحابنا، وبه قال الحسن، وقتادة، وعبادة بن الصامت، وجماعة ذكرناهم في الخلاف.
ج. وفي أصحابنا (2) من يقول: ذلك يختص الشيخ والشيخة، فإذا لم يكونا كذلك فليس عليهما غير الرجم، وأكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان، وثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر على وجه لا يختلج فيه شك، وعليه اجماع الطائفة، بل اجماع الأمة، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، وهم لا يعتقد بخلافهم.
4. ﴿يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ يعني بالفاحشة، حذف الباء كما يقولون: أتيت أمراً عظيما، أي: بأمر عظيم، وتكلمت كلاماً قبيحاً، أي بكلام قبيح.
5. لما نزل قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد ثم الرجم.
6. ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ قرأ ابن كثير: (واللذان) بتشديد النون، وكذلك: (هذان) (وفذانك) ووافقه أبو عمرو في: فذانك، الباقون بالتخفيف، قال أبو علي: من شدد النون فوجهه أنه عوض من الحذف الذي لحق الكلمة، لأن قولهم: (ذا) قد حذف لامها، وقد حذف الياء من اللذان في التثنية، لأن أصله اللذيان، فعوض عن ذلك التشديد، وفي العرب من يقول: اللذ بلا ياء، وفي التثنية اللذا، وفي الجمع اللذو، وللمرأة اللت، واللتا، واللات، بلا ياء، وطي تقول مكان الذي: ذو، ومكان التي: ذات.
7. في المعني بقوله: ﴿اللذان﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها: قال الحسن، وعطا: الرجل والمرأة.
ب. وقال السدي وابن زيد: هما البكران من الرجال والنساء.
ج. وقال مجاهد: هما الرجلان الزانيان، قال الرماني: قول مجاهد لا يصح، لأنه لو كان كذلك لم يكن للتثنية معنى، لأنه إنما يجيء الوعد والوعيد بلفظ الجمع، لأنه لكل واحد منهم، أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الذي يعم جميعهم، وأما التثنية فلا فائدة فيها، قال الأول أظهر، قال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان بالفاحشة بينهما، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: السحاق زناء النساء بينهن، ومباشرة الرجل للرجل زناء، ومباشرة المرأة للمرأة زناء، قال: ولا يعرف في كلام العرب جمع بين الذكر والأنثى في لفظ التذكير إلا إذا تقدمه ما يدل عليه، كقوله: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ ثم قال ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وإلى هذا التأويل في معنى الرجلين ذهب أهل العراق، فلا يحدون للوطي، وهذا قول بعيد.
8. الذي عليه جمهور المفسرين أن الفاحشة الزنا، وأن الحكم المذكور في الآية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور، ذهب إليه الحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد، والضحاك، والبلخي، والجبائي، والطبري، والزجاج، وغيرهم، وبعضهم قال نسخها الحدود بالرجم أو الجلد.
9. في قوله تعالى: ﴿فَآذُوهُمَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس: هو التغيير باللسان، والضرب بالنعال.
ب. قال قتادة، والسدي، ومجاهد: هو التعيير والتوبيخ.
10. سؤال وإشكال: كيف ذكر الأذى بعد الحبس؟ والجواب: فيه ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: قال الحسن إن هذه الآية نزلت أولا، ثم أمر بأن توضع في التلاوة بعد، فكان الأذى أولا، ثم الحبس، بعد ذلك، ثم نسخ الحبس بالجلد أو بالرجم.
ب. الثاني: قال السدي: انه في البكرين خاصة، دون الثيبين، والأولى في الثيبين دون البكرين.
ج. الثالث: قال الفراء: هذه الآية نسخت الاولى، قال أبو علي الجبائي:
11. في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة، لأنها نسخت بالرجم أو الجلد، والرجم ثبت بالسنة، ومن خالف في ذلك يقول: هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا، وأضيف إليه الرجم زيادة لا نسخاً، فلم يثبت نسخ القرآن بالسنة، فأما الأذى المذكور في الآية، فليس بمنسوخ، فان الزاني يؤذى ويعنف، ويوبخ على فعله، ويذم، وإنما لا يقتصر عليه، فزيد في الأذى إقامة الحد عليه، وإنما نسخ الاقتصار عليه.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/142.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. التي تجمع على ثلاثة أوجه: اللاتي، واللواتي، واللائي، قال الشاعر:
çمن اللواتي والتي واللاتي... زعمن أني كبرت لِدَاتيé
وقال: (من اللائي لم يحججن يبغين حسبة)
ب. اللذان: واحدها ﴿الَّذِي﴾، وهي كناية للمذكر.
ج. يقال: آذيت فلانًا عَيبْتُهُ، ومنه ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
2. لما بين تعالى حكم النساء والرجال في باب النكاح والمهر والميراث بيّن حكم الحدود فيمن تعاطى خلاف الشرع، فقال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي﴾ يعني النساء ﴿يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾:
أ. قيل: يعني يَزْنِينَ مع الرجال عن جماعة أهل التفسير.
ب. وقيل: المراد به السحاقات عن أبي مسلم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾:
أ. قيل: من حرائركم، وهو فائدة الإضافة.
ب. وقيل: أراد المزوجات وهو حقيقة الإضافة.
ج. وقيل: المحصنات دون الأبكار عن السدي.
4. ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهِنَّ أَرْبَعَه مِنْكمْ﴾ أي من المسلمين فإن الشهادة في الزنا ينبغي أن يكون أربعة رجال مسلمين ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ يعني الأربعة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ يعني فاحبسوهن ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ أي يدركهن الموت فَيَمُتْنَ في البيوت.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾:
أ. قيل: أي طريقًا يسقط الحبس.
ب. وقيل: السبيل هو الحد في البكر مائة جلدة، وفي الثيب الرجم عن ابن عباس.
ج. وقيل: السبيل للثيب الخلاص ثم الرمي بالحجارة، وللبكر الجلد ثم نفي سنة عن الحسن وقتادة ورواه الحسن مرفوعًا.
6. قال أبو القاسم: وأكثر العلماء على أنها منسوخة، قال أبو علي: نفي البكر يجوز أن يكون على طريق اجتهاد الإمام، وقيل: حتى يجعل الله لهن سبيلاً بالتزويج، فيستغنى بالحلال عن الحرام عن أبي مسلم.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ﴾:
أ. قيل: المراد به الرجل والمرأة عن الحسن وعطاء، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث.
ب. وقيل: المراد به البِكْران من الرجال والنساء عن السدي وابن زيد.
ج. وقيل: هما رجلان يزنيان عن مجاهد.
د. وقيل: في اللواط عن أبي مسلم.
8. ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ يعني يأتيان الفاحشة ﴿فَآذُوهُمَا﴾:
أ. قيل: التعيير باللسان والضرب بالنعال عن ابن عباس.
ب. وقيل: التعيير والتوبيخ عن قتادة والسدي ومجاهد، يقال له: أما استحييت؟ أما خفت الله زنيت وهتكت حرمة الله؟ وتُرَدُّ شهادتهما ولا يوثق بهما، ويساء القول فيهما.
9. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ أي رجعا من الفاحشة ﴿وَأَصْلَحَا﴾ العمل فيما بعد ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي اصفحوا؛ أي وكفوا عن أذاهما ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾:
أ. قيل: أي يقبل توبة عباده ويرحمهم.
ب. وقيل: راجعًا لعبيده إلى ما يحبون من نعمته، إذا هم رجعوا عن المعصية وندموا.
10. أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية الرجل والمرأة إذا زنيا، وإن حدهما في ابتداء الإسلام كان الإيذاء فنسخ بالحبس، ثم نسخ ذلك قيل: بالجلد والنفي في غير المحصن والرجم والجلد في المحصن، ثم اختلفوا:
أ. فقيل: تقرر ذلك.
ب. وقيل: نسخ ذلك أيضًا بالجلد في غير المحصن والرجم في المحصن، وهذا قول أبي حنيفة.
ج. وقيل: بالجلد والنفي في البكر والرجم في المحصن عن الشافعي.
11. قال أبو مسلم: لا نسخ في الآية وهو لا يرى النسخ في الكتاب، وتأول الآيات المنسوخة على تأويلات ربما تبعد، ويكون فيه تعسف شديد، وقال ههنا:
أ. المراد بالآية الأولى السحاقات، وحَدُّهُما: الحبس إلى الموت.
ب. وبالآية الثانية: أهل اللواط حدهما: الأذى بالقول والفعل.
ج. والمراد بالآية في سورة النور الزنا بين الرجل والمرأة، وحده في البكر الجلد، وفي المحصن الرجم.
12. وهذا يقرب لولا الإجماع السابق فهو محجوج، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج وقال: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب جلد مائة ورجم بالحجارة)، ولأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط، ولم يرجع أحد إلى النص في الآية.
13. أما من قال بنسخه فاختلفوا كيف كان الأذى والحبس:
أ. فقال الحسن: كان الأذى أولاً والآية الأخيرة نزلت من قبل، ثم أمر أن يوضع في التلاوة من بعد، فكان أولاً الأذى، ثم الحبس، ثم الحد: الجلد أو الرجم.
ب. وقال السدي: الحبس في الثيبين، والأذى في البكرين.
ج. وقيل: كان الحبس للنساء، والأذى للرجال.
14. واختلفوا من وجه آخر:
أ. فقيل: نسخت الآية بالسنة على ما روينا.. وهو الوجه.
ب. وقيل: إنه نسخ بالقرآن ولا يجوز نسخ القرآن بالسنة.
15. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن في شهادة الزنا يشترط أربعة رجال، وهذا ثابت لا تقبل شهادة النساء، ولا الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي، ولا أقل من أربعة.
ب. أن الحد يقيمه من يتولى سماع الشهادة، وأن الحد يقام بعد الشهادة.
ج. أن الأذى إن حمل على التعيير والذم فلا نسخ فيه، وإن أُرِيدَ به الضرب بالنعال فهو منسوخ، وإن كان لا تنافي بينهما، إلا أن الإجماع حصل على نسخه، ومنها: الحبس، وذلك أيضًا منسوخ عند أكثر العلماء، ويحتمل أن يحمل الأذى على الحد والحبس على السجن، فلا يكون فيه نسخ.
د. أن التوبة تؤثر في إزالة العقاب والذم.
هـ. أن من شرط التوبة أن يقترن بها الصلاح، والقيام بالواجب.
و. أن الفاحشة والتوبة فعل العبد، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
16. قرأ ابن كثير (اللذانِّ) و﴿هَذَانِ﴾ مشددة النون والباقون بالتخفيف، وهو الأوجه، فأما من شدد فيجعل النون عوضًا من اللام التي في ذلك.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/562.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اللاتي: جمع التي وكذلك اللواتي، قال:
çمن اللواتي والتي واللاتي...زعمن أني كبرت لداتيé
وقد تحذف التاء من اللاتي فيقال اللاي قال:
çمن اللاي لم يحججن يبغين حسبة...ولكن ليقتلن البرئ المغفلاé
2. لما بين سبحانه حكم الرجال والنساء في باب النكاح والميراث، بين حكم الحدود فيهن إذا ارتكبن الحرام فقال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾: أي يفعلن الزنا ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ الحرائر، فالمعنى: اللاتي يزنين ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾: أي من المسلمين:
أ. يخاطب الحكام والأئمة، ويأمرهم بطلب أربعة من الشهود في ذلك، عند عدم الإقرار.
ب. وقيل: هو خطاب للأزواج في نسائهم: أي فأشهدوا عليهم أربعة منكم.
3. قال أبو مسلم: المراد بالفاحشة في الآية هنا: الزنا، أن تخلو المرأة بالمرأة في الفاحشة المذكورة عنهن، وهذا القول مخالف للاجماع، ولما عليه المفسرون، فإنهم أجمعوا على أن المراد بالفاحشة هنا: الزنا.
4. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ يعني الأربعة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾: أي فاحبسوهن ﴿فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾: أي يدركهن الموت، فيمتن في البيوت، وكان في مبدأ الاسلام، إذا فجرت المرأة، وقام عليها أربعة شهود، حبست في البيت أبدا، حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين، والجلد في البكرين.
5. ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ قالوا: لما نزل قوله ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم) وقال بعض أصحابنا (2): إن من وجب عليه الرجم يجلد أولا، ثم يرجم، وبه قال الحسن، وقتادة، وجماعة من الفقهاء، وقال أكثر أصحابنا: إن ذلك يختص بالشيخ والشيخة، فأما غيرهما فليس عليه غير الرجم.
6. حكم هذه الآية منسوخ عند جمهور المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، وقال بعضهم: إنه غير منسوخ، لان الحبس لم يكن مؤبدا، بل كان مستندا إلى غاية، فلا يكون بيان الغاية نسخا له، كما لو قال افعلوا كذا إلى رأس الشهر، وقد فرق بين الموضعين، فإن الحكم المعلق بمجئ رأس الشهر، لا يحتاج إلى بيان صاحب الشرع، بخلاف ما في الآية.
7. ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ أي يأتيان الفاحشة، وفيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهما الرجل والمرأة، عن الحسن، وعطا.
ب. ثانيها: أنهما البكران من الرجال والنساء، عن السدي، وابن زيد.
ج. ثالثها: أنهما الرجلان الزانيان، عن مجاهد،وهذا لا يصح، لأنه لو كان كذلك لما كان للتثنية معنى، لان الوعد والوعيد، إنما يأتي بلفظ الجمع، فيكون لكل واحد منهم، أو بلفظ الواحد، لدلالته على الجنس، فأما التثنية فلا فائدة فيها.
د. وقال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان بالفاحشة بينهما، والفاحشة في الآية الأولى عنده السحق، وفي الآية الثانية اللواط، فحكم الآيتين عنده ثابت غير منسوخ، وإلى هذا التأويل ذهب أهل العراق، فلا حد عندهم في اللواط والسحق، وهذا بعيد لأن الذي عليه جمهور المفسرين، أن الفاحشة في آية الزنا، وأن الحكم في الآية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور، ذهب إليه الحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والضحاك، وغيرهم، وإليه ذهب البلخي، والجبائي، والطبري، وقال بعضهم: نسخها الحدود بالرجم، أو الجلد.
8. في قوله تعالى: ﴿فَآذُوهُمَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: هو التعيير باللسان، والضرب بالنعال، عن ابن عباس.
ب. والآخر: إنه التعيير والتوبيخ باللسان، عن قتادة والسدي، ومجاهد.
9. اختلف في الأذى والحبس في الثيبين كيف كان:
أ. قال الحسن: كان الأذى أولا، والآية الأخيرة نزلت من قبل، ثم أمرت أن توضع في التلاوة من بعد، فكان الأول الأذى، ثم الحبس، ثم الجلد، أو الرجم.
ب. وقال السدي: كان الحبس في الثيبين، والأذى في البكرين.
ج. وقيل: كان الحبس للنساء، والأذى للرجال.
د. وقال الفراء: إن الآية الأخيرة نسخت الآية الأولى.
10. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾: أي رجعا عن الفاحشة، ﴿وَأَصْلَحَا﴾ العمل فيما بعده، ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾: أي اصفحوا عنهما، وكفوا عن أذاهما، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، يقبل التوبة عن عباده، ويرحمهم.
11. قال الجبائي: في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة، لأنها نسخت بالرجم، أو الجلد، والرجم قد ثبت بالسنة، ومن لم يجوز نسخ القرآن بالسنة، يقول: إن هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا، وأضيف الرجم إليه زيادة، لا نسخا، وأما الأذى المذكور في الآية، فغير منسوخ، فإن الزاني يؤذى ويعنف على فعله، ويذم به، لكنه لم يقتصر عليه، بل زيد فيه بأن أضيف الجلد، أو الرجم إليه.
12. قرأ ابن كثير (والذان يأتيانها) بتشديد النون، وكذلك فذانك، وهذان، أو هاتين، وقرأ الباقون بتخفيف ذلك كله، إلا أبا عمرو، فإنه شدد فذانك وحدها،الحجة: قال أبو علي: القول في تشديد نون التثنية أنه عوض عن الحذف الذي لحق الكلمة، ألا ترى أن ذا قد حذف لامها، وقد حذف الياء من اللذان في التثنية، واتفق اللذان وهذان في التعويض، كما اتفقا في فتح الأوائل منهما في التحقير، مع ضمها في غيرهما، وذلك في نحو اللذيا واللتيا وذيا وتيا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/34.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ قال الزجّاج: (التي) تجمع اللاتي واللواتي، قال الشاعر:
çمن اللواتي والتي واللاتي...زعمن أنّي كبرت لداتيé
وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها، قال الشاعر:
çمن اللاتي لم يحججن يبغين حسبة...ولكن ليقتلن البريء المغفّلاé
2. الفاحشة: الزّنى في قول الجماعة.
3. في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه خطاب للأزواج.
ب. الثاني: خطاب للحكّام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماورديّ، قال عمر بن الخطّاب: إنما جعل الله عزّ وجلّ الشهود أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم.
معنى ﴿مِنْكُمْ﴾: من المسلمين.
4. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ قال ابن عباس: كانت المرأة إذا زنت، حبست في البيت حتى تموت، فجعل الله لهنّ سبيلا، وهو الجلد أو الرّجم.
5. ﴿وَاللَّذَانِ﴾ قرأ ابن كثير: (واللذانّ) بتشديد النون، و(هذانّ) في طه والحج و(هاتين) في القصص: (إحدى ابنتيّ هاتينّ) و(فذانّك) كلّه بتشديد النون، وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، بتخفيف ذلك كلّه، وشدّد أبو عمرو (فذانّك) وحدها، وقوله: واللذان: يعني: الزّانيين، وهل هو عامّ، أم لا؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه عامّ في الأبكار والثّيّب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء.
ب. الثاني: أنه خاصّ في البكرين إذا زنيا، قاله أبو صالح، والسّدّيّ، وابن زيد، وسفيان، قال القاضي أبو يعلى: والأوّل أصحّ، لأن هذا تخصيص بغير دلالة.
6. ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ يعني الفاحشة، وقوله تعالى ﴿فَآذُوهُمَا﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه الأذى بالكلام، والتّعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسّدّيّ، والضّحّاك، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه التّعيير، والضّرب بالنّعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
7. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ من الفاحشة ﴿وَأَصْلَحَا﴾ العمل ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ عن أذاهما، وهذا كلّه كان قبل الحدّ.
8. كان حدّ الزانيين، فيما تقدّم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصّة، فنسخ الحكمان جميعا، واختلفوا بما ذا وقع نسخهما:
أ. فقال قوم بحديث عبادة بن الصّامت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلا، الثّيب بالثّيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة)؛ وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسّنّة.
ب. وقال قوم: نسخ بقوله تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ قالوا: وكان قوله تعالى ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا﴾ للبكرين، فنسخ حكمها بالجلد، ونسخ حكم الثّيّب من النساء بالرّجم.
ج. وقال قوم: يحتمل أن يكون النّسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه، لأن في حديث عبادة (قد جعل الله لهنّ سبيلا) والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقرّ تلاوته، قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسّنّة، قال ويمتنع أن يقع النّسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنّسخ لا يجوز بذلك.
__________
(1) زاد المسير: 1/382.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدمة الأمر بالإحسان الى النساء ومعاشرتهن بالجميل، وما يتصل بهذا الباب، ضم الى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة:
أ. فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن.
ب. وأيضا ففيه فائدة أخرى: وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك.
ج. وأيضا فيه فائدة ثالثة، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة، وأن مدار هذا الشرع الإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط.
2. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ اللاتي: جمع التي، وللعرب في جمع (التي) لغات: اللاتي واللات واللواتي واللوات، قال أبو بكر الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان: التي، ومن الحيوان: اللاتي، كقوله: ﴿أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5] وقال في هذه: اللاتي واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد، وأما جمع الحيوان فليس كذلك، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات، فهذا هو الفرق، ومن العرب من يسوي بين البابين، فيقول: ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأول هو المختار.
3. ﴿يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي يفعلنها يقال: أتيت أمرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ [مريم: 27]، وقال: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ [مريم: 89] وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة، وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها، بل المكلف كأنه ذهب إليها من عند نفسه، واختارها بمجرد طبعه، فلهذه الفائدة يقال: إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب إليها، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ
4. الفاحشة هي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال: فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل، وأجمعوا على أن الفاحشة هاهنا الزنا، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
5. سؤال وإشكال: الكفر أقبح منه، وقتل النفس أقبح منه، ولا يسمى ذلك فاحشة، والجواب: السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الإنسان ثلاثة: القوة الناطقة، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها، وأخس هذه القوى الثلاثة: القوة الشهوانية، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده.
6. في المراد بقوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ قولان:
أ. الأول: المراد منه الزنا، وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا، فإذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا، وهذا قول جمهور المفسرين.
ب. الثاني: وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني: أن المراد بقوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ السحاقات، وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ [النساء: 16] أهل اللواط، وحدهما الأذى بالقول والفعل، والمراد بالآية المذكورة في سورة النور: الزنا بين الرجل والمرأة، وحده في البكر الجلد، وفي المحصن الرجم، واحتج ابو مسلم عليه بوجوه:
• الأول: أن قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ مخصوص بالنسوان، وقوله: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ مخصوص بالرجال، لأن قوله: ﴿وَالَّذانِ﴾ تثنية الذكور، سؤال وإشكال: فان قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: ﴿وَالَّذانِ﴾ الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر، والجواب: لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ سقط هذا الاحتمال.
• الثاني: هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات، بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقررا، وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ، فكان هذا القول أولى.
• الثالث: أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ في الزنا، ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ يكون أيضا في الزنا، فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح، وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى.
• الرابع: أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ بالرجم والجلد والتغريب، وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن، قال تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح، ثم قال أبو مسلم: ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان)
7. احتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه:
أ. الأول: أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا.. وأجيب عنه أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد، وهو من أكابر المفسرين، ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز.
ب. الثاني: أنه روي في الحديث أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد)، وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة.. وأجيب عنه أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.
ج. الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة.. وأجيب عنه أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على الوطي؟ وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالإثبات، فلهذا لم يرجعوا إليها.
8. زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة، وقال أبو مسلم: إنها غير منسوخة، أما المفسرون: فقد بنوا هذا على أصلهم، وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا، ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين:
أ. الأول: أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفي والثيب تجلد وترجم)، ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2] وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي: لا ينسخ واحد منهما بالآخر.
ب. الثاني: أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد.
9. أبو بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال: القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله: (خذوا عني) لما كان لقوله: (خذوا عني) فائدة فوجب أن يكون قوله: (خذوا عني) متقدما على آية الجلد، وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد، فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر، وكلام الرازي ضعيف من وجهين:
أ. الأول: ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال: لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة، وذلك لأن قوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ يدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى) صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2] ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لإحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى، أولى من الحكم بوقوع النسخ مرارا، وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فإنه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو؟ فلا بد لها من المبين، وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص، فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد، وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه: الأول: آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم، فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه.
ب. الثاني: في دفع كلام الرازي: انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله: (خذوا عني) فلم قلت انه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك؟ وتقديره أن قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ مخصوص بالإجماع في حق الثيب المسلم، وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة، لما أنه يوهم التلبيس، وإذا كان كذلك فثبت أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ وعلى هذا التقدير سقط قولك: ان الحديث كان متقدما على آية الجلد.
10. هذا كله تفريع على قول من يقول: هذا الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة، فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة، وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم.
11. القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات:
أ. سؤال وإشكال: ما المراد من قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾؟ والجواب: فيه وجوه:
• أحدها: المراد، من زوجاتكم كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [المجادلة: 3] وقوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: 23]
• ثانيها: من نسائكم، أي من الحرائر كقوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [البقرة: 282] والغرض بيان أنه لا حد على الإماء.
• ثالثها: من نسائكم، أي من المؤمنات.
• رابعها: من نسائكم، أي من الثيبات دون الأبكار.
ب. سؤال وإشكال: ما معنى قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾؟ والجواب: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا، وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا.
ج. سؤال وإشكال: ما معنى ﴿يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ والموت والتوفي بمعنى واحد، فصار في التقدير: أو يميتهن الموت؟ والجواب: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [النحل: 38] ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: 11] أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن.
د. سؤال وإشكال: انكم تفسرون قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ بالحديث وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم)، وهذا بعيد، لأن هذا السبيل عليها لا لها، فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس، والجواب: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسر السبيل بذلك فقال: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ولما فسر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم السبيل بذلك وجب القطع بصحته، وأيضا: له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له، سواء كان أخف أو أثقل.
12. ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما﴾ قرأ ابن كثير والذان وهذان [الحج: 19] مشددة النون، والباقون بالتخفيف، وأما أبو عمرو فإنه وافق ابن كثير في قوله: ﴿فَذَانِكَ﴾ [القصص: 32] أما وجه التشديد قال ابن مقسم: إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين:
أ. أحدهما: الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة.
ب. والآخر: أن (الذي وهذا) مبنيان على حرف واحد وهو الذال، فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها، وقال غيره: سبب التشديد فيها أن النون فيها ليست نون التثنية، فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية، وقيل زادوا النون تأكيدا، كما زادوا اللام، وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة، فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم، فكان استحقاقها العوض أشد.
13. الذين قالوا: ان الآية الأولى في الزناة قالوا: هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه؟ وذكروا فيه وجوها:
أ. الأول: أن المراد من قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ [النساء: 15] المراد منه الزواني، والمراد من قوله: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ الزناة، ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإيذاء بالرجل، والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإنه لا يمكن حبسه في البيت، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله، فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت، وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى، فإذا تاب ترك إيذاؤه، ويحتمل أيضا أن يقال إن الإيذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة، والحبس كان من خواص المرأة، فإذا تابا أزيل الإيذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة، وهذا أحسن الوجوه المذكورة.
ب. الثاني: قال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء، وبالآية الأولى الثيب، وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين، قالوا: ويدل على هذا التفسير وجوه:
• الأول: أنه تعالى قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ فأضافهن إلى الأزواج.
• الثاني: أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب.
• الثالث: أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب.
ج. الثالث: قال الحسن: هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير: واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، ثم نزل قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ [النساء: 15] يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن، وهذا القول عندي في غاية البعد، لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات.
هـ. الرابع: ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات، وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره.
و. الخامس: أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة، فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد، فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما.
14. اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الإيذاء من الإيذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير، مثل أن يقال: بئس ما فعلتما، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة، وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة، واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب؟ فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال، والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الإيذاء، وذلك حاصل بمجرد الإيذاء باللسان، ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير اليه.
15. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ يعني فاتركوا ايذاءهما، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ معنى التواب: أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب اليه من ذنبه، وأما قوله: ﴿كَانَ تَوَّابًا﴾ فقد تقدم الوجه فيه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 9/528.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.
2. ﴿وَاللَّاتِي﴾ جمع التي، وهو اسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته، وفيه ثلاث لغات كما تقدم، ويجمع أيضا ﴿اللَّاتَ﴾ بحذف الياء وإبقاء الكسرة، و﴿اللَّائِي﴾ بالهمزة وإثبات الياء، و(اللاء) بكسر الهمزة وحذف الياء، و(اللا) بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي، وقد روي عنهم اللوات) بحذف الياء وإبقاء الكسرة، قاله ابن الشجري، قال الجوهري: أنشد أبو عبيد:
çمن اللواتي والتي واللات...زعمن أن قد كبرت لداتé
واللوا بإسقاط التاء، وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد، قال الراجز: (بعد اللتيا واللتيا والتي)، وبعض الشعراء أدخل على ﴿الَّتِي﴾ حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده، فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها، وقال:
çمن أجلك يا لتي تيمت قلبي...وأنت بخيلة بالود عنيé
ويقال: وقع في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.
3. ﴿يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية، وقرأ ابن مسعود بالفاحشة) بباء الجر.
4. ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات، كما قال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم.
5. ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ وقال هنا: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾، وروى أبو داوود عن جابر بن عبد الله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما: (كيف تجدان أمر هذين في التوراة)؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: (فما يمنعكما أن ترجموهما)، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشهود، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم برجمهما، وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق، إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما، وهذا ضعيف، فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا.
6. لا بد أن يكون الشهود ذكورا، لقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ ولا خلاف فيه بين الأمة، وأن يكونوا عدولا، لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة وهذا أعظم، وهو بذلك أولى، وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه، ولا يكونون ذمة، وإن كان الحكم على ذمية.
7. تعلق أبو حنيفة بقوله: ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن، وسيأتي بيانه في النُّورِ إن شاء الله تعالى.
8. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية ﴿النُّورِ﴾ وبالرجم في الثيب، وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن، قاله ابن العربي.
9. اختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين:
أ. أحدهما: أنه توعد بالحد.
ب. الثاني: أنه حد، قاله ابن عباس والحسن، زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه، وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد، غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل، وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث عبادة بن الصامت: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وهذا نحو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز.
10. ﴿وَاللَّذَانِ﴾ تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان، قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات، وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، إذ قد أمن اللبس في اللذان، لأن النون لا تنحذف، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين، وقرأ ابن كثير اللذان) بتشديد النون، وهي لغة قريش، وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف ﴿ذَا﴾ على ما يأتي بيانه في سورة ﴿الْقَصَصَ﴾ عند قوله تعالى: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ﴾، وفيها لغة أخرى (اللذا) بحذف النون، هذا قول الكوفيين، وقال البصريون: إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة، وكذلك قرأ ﴿هَذَانِ﴾ و﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ﴾ بالتشديد فيهما، والباقون بالتخفيف، وشدد أبو عمرو ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ﴾ وحدها، و(الذان) رفع بالابتداء، قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها، أي الفاحشة ﴿مِنْكُمْ﴾
11. دخلت الفاء في ﴿فَآذُوهُمَا﴾ لأن في الكلام معنى الأمر، لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط، إذ لا يقع عليه شي بعينه، فلما تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء، ولم يعمل فيه ما قبله من الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله، فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء، وهذا اختيار سيبويه، ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك: اللذين عندك فأكرمهما.
12. ﴿فَآذُوهُمَا﴾ قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير، وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير، ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال، قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ، قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ و(الذان يأتيانها) كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في ﴿النُّورِ﴾، قاله النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله تعالى.
13. اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي﴾ وقوله: ﴿وَاللَّذَانِ﴾ فقال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة، وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ وفي الثانية ﴿مِنْكُمْ﴾ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس، وقال السدي وقتادة وغيرهما: الأولى في النساء المحصنات، يريد: ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين، قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقد رجحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد، لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة، وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء، قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا، وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب.
14. اختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه، فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق، وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد، وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، متمسكين بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنيس: اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد، فلو كان مشروعا لما سكت عنه، قيل لهم: إنما سكت عنه، لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن، لأن قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ يعم جميع الزناة، والله أعلم، ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء ولم ينكر عليه فقيل له: عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ، وهذا واضح.
15. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بتغريب الزاني، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
16. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ أي من الفاحشة، ﴿وَأَصْلَحَا﴾ يعني العمل فيما بعد ذلك، ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي اتركوا أذا هما وتعييرهما، وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية، وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى، والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/83.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ، وميراثهنّ مع الرجال، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف.
2. ﴿وَاللَّاتِي﴾ جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ، وفيه لغات: اللاتي بإثبات التاء والياء، واللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع: اللواتي، واللوائي، واللوات، واللواء، والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر، كالعافية، والعاقبة، وقرأ ابن مسعود: (بالفاحشة)، والمراد بها هنا: الزنا خاصة، وإتيانها: فعلها، ومباشرتها.
3. والمراد بقوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ المسلمات، وكذا ﴿مِنْكُمْ﴾ المراد به المسلمون، قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ كان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى باقيان مع الجلد، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن.
4. ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) الحديث.
5. ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ اللذان: تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان، كرحيان، قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة، وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، وقرأ ابن كثير: (اللّذانّ) بتشديد النون وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى وهي: (اللّذا) بحذف النون، وقرأ الباقون: بتخفيف النون، قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها، أي: الفاحشة منكم، ودخلت الفاء في الجواب: لأن في الكلام معنى الشرط، والمراد باللذان هنا: الزاني والزانية تغليبا؛ وقيل: الآية الأولى: في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية، في الرجال خاصة، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال، من أحصن ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس، ورواه عن ابن عباس، ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره، واستحسنه، وقال السدي، وقتادة، وغيرهما: الآية الأولى في النساء المحصنات، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون، والآية الثانية: في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري، وضعفه النحاس، وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد، وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلّا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك، ثم جمعا في الإيذاء، قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا، واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل: التوبيخ والتعبير؛ وقيل: السبّ والجفاء من دون تعيير؛ وقيل: النيل باللسان والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس؛ وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس.
6. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ أي: من الفاحشة ﴿وَأَصْلَحَا﴾ العمل فيما بعد ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي: اتركوهما، وكفوا عنهما الأذى، وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف، قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ استئناف لبيان: أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق، كما ينبئ عنه قوله: ﴿تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ بل إنما تقبل من البعض دون البعض، كما بينه النظم القرآني هاهنا.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/504.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين تعالى بعضا من الأحكام المتعلقة بالنساء، إثر بيان أحكام المواريث بقوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي الخصلة البليغة في القبح، وهي الزنى، حال كونهن ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾ أي فاطلبوا من القاذفين لهن ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ أي من المسلمين ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ عليهن بها.
2. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ أي احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج، صونا لهن عن التعرض بسببه للفاحشة ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ أي يستوفي أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها، أو يتوفاهن ملائكة الموت.
3. ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أي يشرع لهن حكما خاصّا بهن، ولعل التعبير عنه بـ (السبيل) للإيذان بكونه طريقا مسكوكا، قاله أبو السعود، وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده، وجعل لهن سبيلا، وذلك فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال: إن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربّد وجهه، وإذا سرّي عنه قال: خذوا عني خذوا عني (ثلاث مرار) قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة، هذا لفظ الإمام أحمد وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان إذا نزل عليه الوحي، عرف ذلك فيه، فلما نزلت ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ وارتفع الوحي، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة.
4. ﴿وَالَّذانِ﴾: بتخفيف النون وتشديدها ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ أي الفاحشة ﴿مِنْكُمْ﴾ أي الرجال ﴿فَآذُوهُمَا﴾ بالسب والتعيير، ليندما على ما فعلا ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا﴾ أي أعمالهما ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ بقطع الأذية والتوبيخ، وبالإغماض والستر، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا﴾ أي على من تاب ﴿رَحِيمًا﴾ واسع الرحمة، وهو تعليل للأمر بالإعراض.
5. هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة، قال الإمام الشافعيّ في الرسالة في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾، فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين (لحديث عبادة بن الصامت المتقدم)، ثم قال: فدلت سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرّين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين، ثم قال: لأن قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ـ أوّل ما نزل، فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين، فلما رجم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما عزا ولم يجلده، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلميّ، فإن اعترفت رجمها ـ دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما، لأن كل شيء أبدا بعد أول فهو آخر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/48.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَالَّتِي﴾ بلام واحدة حذفت في الخطِّ بعدها لام خروجًا عن التكرير في الخطِّ، وتبعتها في الحذف خطًّا الألف، التي من شأنها أن تكتب حمراء، زيادة على خطِّ الإمام، ولا حذف في النطق، بل لو كتب كما ينطق به لكان هكذا: ﴿اللَّاتِي﴾ بلام ولام الألف، وهو اسم وضع للجماعة، وقيل: جمع (التي)، وكذا الكلام في اللتان واللذان والذين أهو اسم وضع لاثنين أو اثنتين، أو تثنية وجمع؟.
2. ﴿يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ الزنا، سمِّي فاحشة لزيادة قبحه ﴿مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ﴾ اطلبوا مِمَّن ذكرهنَّ بالزنا الشهادة ﴿عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً﴾ شهادة أربعةٍ ﴿مِنكُمْ﴾ أيُّها المؤمنون البلَّغ العقلاء الأحرار، وجعل ـ قيل ـ شهادة الزنا أربعة ليشهد على الرجل اثنان وعلى المرأة اثنان كسائر الحقوق، أعني ليكون ذلك حصَّة في العدد، وإلَّا فالأربعة كلُّهم شهدوا على الرجل، وكلُّهم شهدوا على المرأة، وربَّما لا يعرفون المرأة بل يعرفون الرجل، فإنَّما ذلك مناسبة لا تعليل صحيح، والواضح أنَّها جعلت أربعة تغليظًا على ذاكر الزنا عن غيره، وسترًا على العباد، والجملة خبر (اللَّاتِي) ولو كانت أمرًا، وقدر بعض: (اُقصدوا اللاتي)، أو (تعمدوا اللاتي) على الاشتغال أو الاستئناف، وبعضٌ: (مِمَّا يتلى عليكم حكم اللاتي)
3. ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ أي: الأربعة منكم بالزنى ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ منعًا عن الخروج الذي هو سبب الزنى بتعرُّضهنَّ أو تعرُّض الرجال له، فلا يوجد خارجًا إلَّا من لا تزني، ﴿حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ﴾ أي: يتوفَّى أرواحهنَّ ﴿الْمَوْتُ﴾ أي: يأخذ الموت أرواحهنَّ كاملة، لا يبقى منهنَّ واحدة، والتوفِّي: الاستيفاء، وهو القبض، شبَّه الموت بإنسان أو مَلَك ورمز إليه بالقبض، فذلك استعارة بالكناية، أو يقدَّر مضاف، أي: حتَّى يتوفَّى أرواحهنَّ ملك الموت، أو ملائكة الموت؛ لأنَّ لعزرائيل أعوانًا، وليس التفسير بـ (يميتهنَّ ملك الموت) قويًّا، وأولى منه جعل ذلك من إسناد ما للفاعل إلى أَثَر فعله.
4. وهذا الحبس قبل نزول جلد مئة في غير المحصنات وجلد الأمَة خمسين، ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ هو جلد التي لم تُحصَن، ورجم الحرَّة المحصنة، لَمَّا نزل الجلد والرجم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (هُما السَّبيلُ، خُذوا عنِّي خُذوا عَنِّي) وليس ذلك نسخًا بل غاية؛ لأنَّه ذَكَرَ السبيل هنا غايةً.
5. وآية الجلد ودلائل الرجم بيان لا نسخ، وقبل ذلك تُحبس بلا طلاق، ويُنفِق عليها زوجها، وتَرُدُّ الصداق لزوجها، وذلك الحبس للمباعدة عن الرجال، وكأنَّ الأمور بالتدريج، وإن قلنا: نزل الجلد والرجم قبلها، كان المراد حبس غير المحصنة بعد جلدها، وكان السبيل تزوُّجها بعد عدَّة الزنى؛ لأنَّه يغني عن الزنى.
6. وقال أبو مسلم: الفاحشة السحاق، والسبيل التزوُّج المغني عنه، ويبحث بأنَّه لو كان المراد السحاق لكانت العقوبة منعهنَّ عن مخالطات النساء لا الحبس في البيوت! ويجاب بأنَّ المراد حبس بعضهنَّ عن بعض، ويبحث أيضًا بأنَّ قوله: ﴿مِنكُمْ﴾ ينافي السحاق؛ لأنَّ المتبادر من قوله: ﴿مِنكُمْ﴾ من الرجال ولو احتمل؛ لأنَّ المراد ﴿مِنكُمْ﴾: معشر من آمن، وقوَّى بعضهم إرادة السحاق في قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ وإرادة اللواط في قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا﴾ بانفراد النساء في آية والرجال في آية، وبأن لا يخلو القرآن عن حكم اللواط والسحاق، وليس ذلك بحجَّة.
7. ﴿وَاللَّذَانِ﴾ إعرابه إعراب (اللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ)، ﴿يَاتِيَانِهَا﴾ أي: الفاحشة، زنى بامرأة، أو لواط رجل بآخر ﴿مِنكُمْ﴾ من الرجال على التفسير باللواط، ومن المؤمنين والمؤمنات على التفسير بزنى رجل بامرأة، ويجري الحكم على المشركين، ويدلُّ للتفسير باللواط قوله: ﴿مِنكُمْ﴾، فإنَّه يتبادر فيه مع قوله: ﴿اللَّذَانِ﴾، فإِنَّ أصلهما الذكور، لا الذكور والإناث معًا، وكذا (يأتيان)، ويدلُّ له أيضًا أنَّ حكم المرأة قد مَرَّ، وهو الإمساك في البيت حتَّى تموت أو يجعل الله لها سبيلاً، والرجل لا يحبس في ذلك لاحتياجه إلى الكسب خارجًا لنفسه وعياله بل يُؤْذَى، كما قال الله تعالى : ﴿فَئَاذُوهُمَا﴾ بالشتم والتعيير، ويقال له: أمَا خفت الله إذ زنيت، وبالضرب بما خفَّ، كالنعل، وذلك كلُّه في أوَّل الإسلام تدريجًا، ثمَّ نُسخ برجم المحصن وجلد غيره، وزعم الشافعي أن المفعول به لا يُرجم ولو كان محصنًا، بل يجلد ويغرَّب عامًا، وقيل: يقتلان بالسيف ولو لم يحصنا، وقيل: يرجمان ولو لم يحصنا، ولا شيء على من لم يبلغ أو جُنَّ أو أُكره، وله العقر، وكذا لسيِّد الأمَة أو العبد العقر، ولو رضي العبد والأمة، لا إن رضي السيِّد، ولا رجم ولا جلد إلَّا بغيوب الحشفة.
8. ﴿فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ﴾ اتركوا أذاهما ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا﴾ على التائب ﴿رَحِيمًا﴾ به، أي: أعرضوا عن إيذائهما لأنَّه توَّاب رحيم، وقيل قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَاتِيَانِهَا﴾ إلى قوله: ﴿رَحِيمًا﴾ مقدَّم، تقدَّم نزولُه على قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَاتِينَ﴾ إلى قوله: ﴿سَبِيلاً﴾، وإنَّ عقوبة الزنى أوَّلاً الأذى، ثمَّ الحبس، ثمَّ الجلد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/137.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ اللاتي جمع سماعي لكلمة التي أو بمعنى الجمع، ويأتين الفاحشة معناها يفعلن الفعلة الشديدة القبح وهي الزنا على رأي الجمهور والسحاق على ما اختاره أبو مسلم ونقله عن مجاهد، وأصل الإتيان والآتي المجيء، تقول جئت البلد وأتيت البلد، وجئت زيدا وأتيته، ويجعلون مفعولهما حدثا فيكونان بمعنى الفعل، ومنه في المجيء قوله تعالى حكاية عن صاحب موسى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ [الكهف: 74] وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا﴾ [مريم: 89]
2. استعمال الإتيان في الزنا واللواط هو الشائع كما ترى في الآيات عن قوم لوط وحينئذ يكون مفعوله حدثا كما في الآية التي نفسرها وما بعدها، ويكون شخصا كما في قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ [الأعراف: 81] الخ ولا أذكر الآن وأنا أكتب هذا في القسطنطينية مثالا في استعمال الإتيان والمجيء في فعل الخير وليس بين يدي وأنا في فندق المسافرين كتب أراجع فيها.
3. ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ أي يفعلنها حال كونهن من نسائكم ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾ أي اطلبوا أن يشهد عليهن ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ والخطاب للمسلمين كافة لأنهم متكافلون في أمورهم العامة وهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود، ولفظ الأربعة يطلق على الذكور فالمراد أربعة من رجالكم قال الزهري: (مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود) فيؤخذ منه أن قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة كما هو ثابت في سورة البقرة لا يقبل في الحدود فهو خاص بما عداها، وكأن حكمة ذلك إبعاد النساء عن مواقف الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة في أن يكنَّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن ولا يخضن مع أربابها، وأن تحفظ لهن رقة أفئدتهم فلا يكن سببا للعقاب، واشترطوا في الشهداء أيضا أن يكونوا أحرارا.
4. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ عليهن بإتيانها ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ أي فاحبسوهن في بيوتهن وامنعوهن الخروج منها عقابا لهن وحيلولة بينهن وبين الفاحشة، وفي هذا دليل على تحريم إمساكهن في البيوت ومنعهن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو محض التحكم من الرجال واتباعهم لأهوائهم في ذلك كما يفعله بعضهم ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ التوفي القبض والاستيفاء أي حتى تقبض أرواحهن بالموت ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أي طريقا للخروج منها، فسر الجمهور السبيل بما يشرعه الله تعالى بعد نزول هذه الآية من حد الزنا لأنه هو المراد بالفاحشة هنا عندهم فجعلوا الإمساك في البيوت عقابا مؤقتا مقرونا بما يدل على التوقيت ورووا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال بعد ذلك: (قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب جلد مئة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة) أخرجه ابن جرير وقال بعضهم الحديث مبين للسبيل لا ناسخ والذين يجيزون نسخ القرآن بالأحاديث جعلوا هذا الحديث ناسخا للإمساك في البيوت وقال الآخرون بل الناسخ له آية النور (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2]
5. وقال الزمخشري من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل ـ على هذا ـ النكاح المغني عن السفاح، وقوله هذا أو تجويزه مبني على كون آية الحد سابقة لهذه الآية وليس في القرآن دليل يمنع من ذلك، وأما قول الجمهور المبني على كون هذه الآية نزلت أولا فهو مؤيد بروايات عن مفسري السلف فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها.
6. وروى ابن جرير عن السدي: كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها، ولكننا إذا بحثنا في متن هاتين الروايتين كيفما كان سندهما نرى أنه لا يصح أن يكون ما جاء فيهما عملا بهذه الآية إذ ليس في الآية إجازة لأخذ المهر بل الآيات قبلها وبعدها تحرم أكل الرجل شيئا ما من حقوق المرأة ثم إن ابن جبير قال إنهم كانوا يحبسونها في السجن أي لا في بيتها، وصرّح كل منهما بأن هذا كان في أول الإسلام وبدئه فيؤخذ من هذا كله أنهم كانوا يفعلون ذلك بالاجتهاد أو استصحاب عادات الجاهلية لأنهم لم يلتزموا العمل بنص الآية ولا يظهر القول بأن الآية نزلت في أول الإسلام وبدئه فقد بينا أن السورة مدنية وأنها نزلت بعد غزوة أحد التي كانت في أواخر سنة ثلاث من الهجرة فإن لم تكن نزلت كلها بعد غزوة أحد فقد تقدم أن آيات المواريث نزلت بعدها وهذه الآية وما بعدها متصلة بها، وقد فسر بعض المفسرين السبيل بالموت، ويحتمل أن يُراد بالسبيل على قول أبي مسلم ذهاب داعية السحاق والشفاء منه فإنه يصير مرضا، وعلى رأي الجمهور التوبة وصلاح الحال ويرجحه الأمر في الآية الأخرى بالإعراض عن عقاب اللذين يأتيان الفاحشة إن تابا، ومن رحمة الله تعالى وعدله أن يكون حكم النساء في ذلك كحكم الرجال فالإبهام والإجمال في آخر هذه الآية يفسره الإيضاح والتفصيل في آخر ما بعدها ويقوي ذلك ذكر أحكام التوبة بعدهما.
7. قال البقاعي في تفسيره: (نظم الدرر، في تناسب الآيات والسور) بعد تفسير الآيات السابقة مبينا وجه الاتصال بينها وبين هذه الآيات ما نصه: (ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب وتارة يكون بالزجر والعقاب لأن مدار الشرائع على العدل، والإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، ختم سبحانه بإهانة العاصي، وكان إحسانا إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنا وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم قدمهن فيه اهتماما بزجرهن)
8. وجه الاتصال إن هاتين الآيتين في بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء كالتي قبلهما، وقد تقدم القول في كون آي الإرث وردت في سياق أحكام النساء حتى جعل إرث الأنثى فيها أصلا أو كالأصل يبنى غيره عليه ويعرف به، وكان الكلام قبلهما في توريث النساء كالرجال والقسط فيهن وعدد ما يحل منهن مع العدل، فلا غرو إذا جاء حكم إتيانهن الفاحشة بعدما ذكر مقدما على حكم إتيان الرجال الفاحشة وجعل ذلك بين ما تقدم وبين حكم ما كانت عليه الجاهلية من إرث النساء كرها وعضلهن لأكل أموالهن وحكم ما يحرم منهن في النكاح، وقد أحسن البقاعي في توجيه الاهتمام بتقديم ذكر النساء هنا بعلاقته بالإرث على رأي الجمهور في تفسير الفاحشة بالزنا الذي يفضي إلى توريث ولد الزنا ولكننا لا نسلم له أن الفساد في النساء أكثر منه في الرجال بل الرجال أكثر جرأة على الفواحش وإتيانا بها، ولو أمكن احصاء الزناة والزواني لعرف ذلك كل أحد.
9. (واللذان يأتيانها منكم) أي يأتيان الفاحشة وهي هنا الزنا في قول الجمهور واللواط في قول بعضهم وعليه أبو مسلم والأمران معا في قول (الجلالين)، والمراد بالتثنية في الأول الزاني والزانية بطرق التغليب، وفي الثاني الفاعل والمفعول به بجعل القابل كالفاعل، وفي الثاني الزاني واللائط ولا تجوز فيه (فآذوهما) بعد ثبوت ذلك بشهادة الأربعة كما يؤخذ من الآية الأولى.
10. روي عن ابن عباس تفسير الإيذاء بالتعبير والضرب بالنعال، وعن مجاهد وقتادة والسدي تفسيره بالتعبير والتوبيخ فقط، فإذا كانت هذه الآية قد نزلت قبل آية سورة النور، وكان المراد بها الزنا كما هو قول الجمهور، فالعقاب كان تعزيرا مفوضا إلى الأمة، وإلا جاز أن يراد بالإيذاء الحد المشروع نفسه، والظاهر أن آية النور نزلت بعد هذه وهي مبينة ومحددة للإيذاء هنا على القول بأن ما هنا في الزنا، وإلا فتلك خاصة بحكم الزنا لأنها صريحة فيه، وهذه خاصة باللواط، ولذلك اختلف الصحابة ومن بعدهم في عقاب من يأتيه، وهذا ما اختاره أبو مسلم وتخصيصه الفاحشة في هذه الآية باللواط الذي هو استمتاع الرجل بالرجل والفاحشة فيما قبلها بالسحاق الذي هو استمتاع المرأة بالمرأة هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء وهذه خاصة بالذكور، فهذا مرجح لفظي يدعمه مرجح معنوي وهو كون القرآن عليه ناطقا بعقوبة الفواحش الثلاث، وكون هاتين الآيتين محكمتين، والأحكام أولى من النسخ حتى عند الجمهور القائلين به، وستأتي تتمة هذا البحث.
11. ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ رجعا عن الفاحشة وندما على فعلها ﴿وَأَصْلَحَا﴾ العمل كما هو شأن المؤمن يقبل على الطاعة بعد العصيان ليطهر نفسه ويزكيها من درنه ويقوي فيها داعية الخير على داعية الشر ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي كفوا عن إيذائهما بالقول والفعل ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ أي مبالغا في قبول التوبة من عباده، شديد الرحمة بهم وإنما شرع العقاب لينزجر العاصي ولا يتمادى فيما يفسده فيهلك ويكون قدوة في الشر والخبث.
12. قال محمد عبده في هاتين الآيتين ما ملخصه: اختلف المفسرون في الآيتين فالجمهور على أنهما في الزنا خاصة، ولأجل الفرار من التكرار قالوا إن الآية الأولى في المحصنات أي الثيبات، فهن اللواتي كن يحبسن في البيوت إذا زنين حتى يتوفاهن الموت، الثانية في غير المحصنين والمحصنات أي في الأبكار، ولهذا كان العقاب فيها أخف، وعلى هذا يكون الزاني المحصن مسكوتا عنه، والآيتان على هذا القول منسوختان بالحد المفروض في سورة النور، وهو السبيل الذي جعله الله للنساء اللواتي يمسكن في البيوت، ولكن يبقى في نظم الآية شيء وهو أن كلا من توفي الموت ومن جعل السبيل قد جعل غاية للإمساك في البيوت بعد وقوعه، فعلى هذا لا يصح تفسير السبيل بإنزال حكم جديد فيهن، إذ يكون المعنى على هذا التفسير فأمسكوهن في البيوت إلى أن يمتن أو ينزل الله فيهن حكما جديدا.
13. فسر السبيل بعضهم بالزواج كأن يسخر الله للمرأة المحبوسة رجلا آخر يتزوجها، وقد وافق الجلال الجمهور في الأولى وخالفهم في الثانية فقال: إنها في الزنا واللواط معا، ثم رجح أنها في اللواط، فتكون الأولى منسوخة على رأيه الثانية غير منسوخة، وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين فقال: إن الأولى في المساحقات والثانية في اللواط فلا نسخ، وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال وتكره قربهم ـ أي فلا ترضى أن تكون حرثا للنسل ـ فتعاقب بالإمساك في البيت والمنع من مخالطة أمثالها من النساء إلى أن تموت أو تتزوج.
14. الأولى أن يقال إلى أن تموت أو تكره السحاق وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة وتتزوج إن كانت أيما، وقال في إسناده جعل السبيل لها إلى الله تعالى إشارة إلى عسر النزوع عن هذه العادة الذميمة والشفاء منها حتى بالترك الذي هو أثر الحبس فكأنها لا تزول إلا بعناية خاصة منه تعالى.
15. اعترض على أبي مسلم بأن تفسير الفاحشة في الآية الأولى لم يقل به أحد وبأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط، فأجاب عن الأول بأن مجاهدا قال به ـ وناهيك بمجاهد ـ وبأنه ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط أن لا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها، وأجاب عن الثاني بأن الصحابة إنما اختلفوا في حد اللواط وهذا لا يمنع كون الآية نزلت في العقوبة عليه وهي لا حد فيها، وما يجاب به عن أبي مسلم أن الصحابة ما كانوا يجلسون لتفسير القرآن إلا عند الحاجة وإنما كانوا يتدارسونه ويتدبرونه للاهتداء والاتعاظ وهم يفهمونه لأنه نزل بلغتهم، فإذا سألهم سائل عن تفسير آية ذكروا له تفسيرها وقد يسكتون عن حكم الشيء السنين الطوال لعدم وقوعه، فإذا وقعت الواقعة ذكروا حكمها، فإذا جاء في القرآن حكم السحاق ولم نجد عندنا رواية عن الصحابة فيه ولا حكما منهم على امرأة بالحبس لأجله علمنا أن سبب هذا وذاك هو أنه لم يقع في زمنهم، ويشهد به أربعة منهم وإذا كان القرآن يضع عقابا على فاحشة أو جريمة فيمتنع عنها أهل الإيمان، فلا تقع أولا تظهر فيهم ولا تثبت على أحد فهذا مما نحمد الله تعالى عليه ونحمد المؤمنين والمؤمنات، ولا نعده من المستحيلات، فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.
16. وبحثوا في جمع اللاتي يأتين الفاحشة وتثنية اللذين يأتيانها وعدوه مشكلا، وما هو بمشكل، بل نكتته ظاهرة وهي أن النساء لما كن لا يجدن من العار في السحاق ما يجده الرجل في إتيان مثله، كانت فاحشة السحاق مظنة الشيوع والإظهار بين النساء، وفاحشة اللواط مظنة الإخفاء حتى لا تكاد تتجاوز اللذين يأتيانها، ففي التعبير بصيغة المثنى إشارة إلى ذلك وتقدير لكون فاحشة اللواط عارا فاضحا يتبرأ منه كل ذي فطرة سليمة، ويجوز أن يكون اختلاف التعبير بالجمع والتثنية من باب التنويع فذلك معهود في الكلام البليغ مع الأمن من الاشتباه.
__________
(1) تفسير المنار: 4/435.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن أوصى سبحانه بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالمعروف والمحافظة على أموالهن وعدم أخذ شيء منها إلا إذا طابت نفسهن بذلك ـ ذكر هنا التشديد عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وهو في الحقيقة إحسان إليهن، إذ الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب، وأخرى بالزجر والعقاب، لكف العاصي عن العصيان الذي يوقعه في الدمار والبوار، ومبنى الشرائع على العدل والإنصاف والابتعاد عن طرفى الإفراط والتفريط، ومن أقبح العصيان الزنا، ولا سيما من النساء، لأن الفتنة بهن أكثر، والضرر منهن أخطر، لما يفضى إليه من توريث أولاد الزنا وانتسابهم إلى غير آبائهم.
2. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها إذا فعلها قال تعالى ﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾ وفي التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيق وهو أن الفاعل لها ذهب إليها بنفسه واختارها بطبعه، والفاحشة الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح، وقوله من نسائكم أي من المؤمنات.
3. ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ أي اطلبوا شهادة أربعة رجال أحرار منكم، قال الزهري (مضت السنة من رسول الله والخليفتين بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود) والحكمة في هذا إبعاد النساء عن مواقع الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة في أن يكنّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن فيها ولا يخضن مع أربابها، والخطاب للمسلمين جميعا لأنهم متكافلون في أمورهم العامة كما تقدم مرارا، فهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود.
4. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ التوفى الاستيفاء وهو القبض، تقول توفيت مالى على فلان واستوفيته إذا قبضته، والسبيل الطريق للخروج من الحبس بما يشرعه الله من العقوبة لهن، والمعنى فان شهد الأربعة بفعلها فاحبسوهن في بيوتهم وامنعوهن الخروج منها عقوبة لهن حتى لا يعدن إلى ارتكابها مرة أخرى إلى أن يمتن ويقبض أرواحهنّ الموت أو يجعل الله لهن طريقا بما يشرعه من حدّ الزنا.
5. في الآية إشارة إلى أن منع النساء عن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو لمجرد الهوى والتحكم من الرحال لا يجوز، وكذلك فيها إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت، وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خذوا عنى خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)، ومن هذا تعلم أن السبيل كان مجملا فبينه الحديث وخصص عموم آية الجلد الآتية في سورة النور ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾
6. ثم بين عقاب كل من الزانيين فقال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ أي والزاني والزانية اللذان يرتكبان جريمة الزنا آذوهما بالتأنيب والتوبيخ بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال، وهذا العقاب كان أول الإسلام من قبيل التعزير وأمره مفوض إلى الأمة في كيفيته ومقداره فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها وجاء الحديث الشريف السابق بينا مقدار هذا الإيذاء وحدداه، وبهما استبان أن عقاب الثيب والرجل المتزوج الرجم بالحجارة حتى يموتا وعقاب البكر والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة ونفيه سنة.
7. ثم بين أن هذا العقاب إنما يكون إذا لم يتوبا فإن تابا وأصلحا رفع عنهما ذلك فقال: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي فان رجعا عن فعل الفاحشة وندما على ما فات وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما كما هو شأن المؤمن يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة ويزكيها من أدران المعاصي التي فرطت منه ويقوى داعية الخير حتى تغلب داعية الشر فكفوا عن أذاهما بالقول والفعل.
8. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ التواب الذي يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه، والرحيم واسع الرحمة، والجملة جاءت تعليلا للأمر بالإعراض، والخطاب هنا لأولى الأمر والحكام.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/205.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مضى الشوط الأول من السورة، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة، وفي محيط الجماعة، يعالج نظام التوارث في المحيط العائلي، ويرد تلك الضمانات وهذا النظام إلى مصدرهما الأساسي: وهو ألوهية الله للبشر، وربوبيته للناس، وإرادته من خلقهم جميعا من نفس واحدة، وإقامة المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة، وعلى أساس التكافل، وردهم في كل شؤون حياتهم إلى حدود الله وعلمه وحكمته، ومجازاتهم على أساس طاعته في هذا كله أو معصيته.
2. فأما هذا الشوط الثاني فيمضي في تنظيم حياة المجتمع المسلم، واستنقاذه من رواسب الجاهلية، بتطهير هذا المجتمع من الفاحشة، وعزل العناصر الملوثة التي تقارفها، من الرجال والنساء، مع فتح باب التوبة لمن يشاء من هذه العناصر أن يتوب ويتطهر، ويرجع إلى المجتمع نظيفا عفيفا.. ثم باستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان، ومن عسف وظلم، حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين، ومن ثم يقوم المجتمع ـ وقاعدته الأسرة ـ على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف.. وأخيرا ينظم جانبا من حياة الأسرة، ببيان المحرمات في الشريعة الإسلامية وبيان ما وراءهن من الحلال، وبهذا البيان ينتهي هذا الشوط، وينتهي هذا الجزء كذلك.
﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، إن الإسلام يمضي هنا على طريقه، في تطهير المجتمع وتنظيفه؛ وقد اختار ـ في أول الأمر ـ عزل الفاحشات من النسوة، وإبعادهن عن المجتمع، متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة، وإيذاء الرجال، الذين يأتون الفاحشة الشاذة، ويعملون عمل قوم لوط، ولم يحدد نوع الإيذاء ومداه، ثم اختار ـ فيما بعد ـ عقاب هؤلاء النسوة وعقاب الرجال أيضا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور، وهي الجلد؛ وكما جاءت بها السنة أيضا، وهي الرجم، والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث، والمحافظة عليه نظيفا عفيفا شريفا.
3. وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة؛ في عقوبات خطيرة، تؤثر في حياة الناس تأثيرا خطيرا، ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، وفي النص دقة واحتياط بالغان، فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ ـ أي المسلمات ـ ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ ـ أي المسلمين ـ فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل، ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه.
4. إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات ـ حين يقعن في الخطيئة ـ رجالا غير مسلمين، بل لا بد من أربعة رجال مسلمين، منكم، من هذا المجتمع المسلم، يعيشون فيه، ويخضعون لشريعته، ويتبعون قيادته، ويهمهم أمره، ويعرفون ما فيه ومن فيه، ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة، وغير موثوق بأمانته وتقواه، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته، ولا على إجراء العدالة فيه، وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم، وأصبح هو الجلد أو الرجم.
5. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾، لا يختلطن بالمجتمع، ولا يلوثنه، ولا يتزوجن، ولا يزاولن نشاطا، ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾، فينتهي أجلهن، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت، ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، فيغير ما بهن، أو يغير عقوبتهن، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء.. مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم، وإنما هو حكم فترة معينة، وملابسات في المجتمع خاصة، وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم، وهذا هو الذي وقع بعد ذلك، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور، وفي حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة، عن عبادة بن الصامت، قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه، وكرب لذلك، وتغير وجهه، فأنزل الله عليه عزّ وجل ذات يوم، فلما سري عنه قال: (خذوا عني.. قد جعل الله لهن سبيلا.. الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة)، فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾، والأوضح أن المقصود بقوله تعالى: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة، وهو قول مجاهد وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: ﴿فَآذُوهُمَا﴾: هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال!
6. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾، فالتوبة والإصلاح ـ كما سيأتي ـ تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك، ومن ثم تقف العقوبة، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين، وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضع: أي الكف عن الإيذاء.
7. والإيماءة اللطيفة العميقة: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، وهو الذي شرع العقوبة، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح، ليس للناس من الأمر شيء في الأولى، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة، إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه، وهو تواب رحيم، يقبل التوبة ويرحم التائبين.
8. واللمسة الثانية في هذه الإيماءة، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق، وإذا كان الله توابا رحيما، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء؛ أمام الذنب الذي سلف، وأعقبه التوبة والإصلاح، إنه ليس تسامحا في الجريمة، وليس رحمة بالفاحشين، فهنا لا تسامح ولا رحمة، ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي ـ حينئذ ـ مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس، واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة، والإفساد في الأرض، وتلويث المجتمع، والنقمة عليه في ذات الأوان.
9. وقد عدلت هذه العقوبة كذلك ـ فيما بعد ـ فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة: فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة الله، وتتولاها بالتنفيذ، فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ كما ورد في سورة المؤمنون: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.. ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾.. وكرر هذا القول في سورة المعارج، ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث، لأن الإسلام دين واقعي، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة، وأن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير، بلا سلطة وبلا تشريع، وبلا منهج محدد، ودستور معلوم!
10. ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب، وتطهرها وتزكيها، فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة معلومة، تحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديبـ إلى جانب التوجيه والموعظة ـ فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير، إنما هو ـ إلى جانب ذلك ـ سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة.
11. وكذلك كان كل دين جاء من عند الله، على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة، وبغير نظام، وبغير سلطان.. كلا! فالدين منهج للحياة، منهج واقعي عملي، يدين الناس فيه لله وحده، ويتلقون فيه من الله وحده، يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية، وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية، لتكون الدينونة لله وحده، ويكون الدين كله لله، أي لا تكون هناك آلهة غيره ـ في صورة من الصور ـ آلهة تشرع للناس، وتضع لهم القيم والموازين، والشرائع والأنظمة، فالإله هو الذي يصنع هذا كله، وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس.. وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى، ويباشرها.. ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا، بلا شريعة عملية، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة! وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ، والعقوبة والتأديب، على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة، والتي عدلت فيما بعد، ثم استقرت على ذلك التعديل، كما أرادها الله.
12. ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة، فالسمة الأولى للجاهلية ـ في كل زمان ـ كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض ـ هي الفوضى الجنسية، والانطلاق البهيمي، بلا ضابط من خلق أو قانون، واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر (الحرية الشخصية) لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت! ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم (الإنسانية) كلها، ولا يتسامحون في حريتهم (البهيمية) هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها! وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها، وضوابط المجتمع ورقابته، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية، وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري! كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها.
13. وهي هي بعينها سمة كل جاهلية.. والذي يراجع أشعار امرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية.. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع، وتبذل المرأة، ومجون العشاق، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة، ويجدها تنبع من تصورات واحدة، وتتخذ لها شعارات متقاربة!
14. ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها ـ كما وقع في الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية قديما ـ وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية، الأمر الذي يفزع العقلاء هناك، وإن كانوا يشعرون ـ كما يبدو من أقوالهم ـ بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر! مع أن هذه هي العاقبة، فإن الجاهليين ـ في كل زمان وفي كل مكان ـ يندفعون إلى الهاوية، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم (الإنسانية) كلها أحيانا، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم (البهيمية)، ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني!
15. وهو ليس انطلاقا، وليس حرية، إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم ـ في هذا ـ بقانون الفطرة، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال، فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله؛ وضبط عقله بعقيدته، فمتى انطلق من العقيدة، ضعف عقله أمام الضغط، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه، ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس، إلا بعقيدة تمسك بالزمام، وسلطان يستمد من هذه العقيدة، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة، وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام (الإنسان) الكريم على الله.
16. والجاهلية التي تعيش فيها البشرية، تعيش بلا عقيدة، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية، وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان! وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة، مهما بدا من متانة هذه الحضارة، وضخامة الأسس التي تقوم عليها، (فالإنسان) ـ بلا شك ـ هو أضخم هذه الأسس، ومتى دمر الإنسان، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها، ولا على الإنتاج!
17. وحين ندرك عمق هذه الحقيقة، ندرك جانبا من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية (الإنسان) من التدمير؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل، كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها، وتسمية ذلك أحيانا (بالفن) وأحيانا (بالحرية) وأحيانا (بالتقدمية).. وكل وسيلة من وسائل تدمير (الإنسان) ينبغي تسميتها باسمها.. جريمة.. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة! وهذا ما يصنعه الإسلام، والإسلام وحده؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/598.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور.. وهى قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ وأن حدّ الزنا كان في أول الإسلام ـ كما يقولون ـ هو الإمساك للمرأة الزّانية وحبسها في البيت، على حين أن الرجل يعنّف ويؤنّب باللسان، أو ينال بالأيدى أو النعال، حسب تقدير ولىّ الأمر! ونحن ـ على رأينا بألا نسخ في القرآن ـ نرى أن هاتين الآيتين محكمتين وأنهما تنشئان أحكاما لمن يأتون الفاحشة ـ من الرجال والنساء ـ غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني:
أ. فالآية الأولى هنا: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ إن هذه الآية خاصة بالنساء، إذ كان النصّ فيها صريحا بهن، وذلك بالإشارة إليهن باسم الاشارة المؤنث: (اللاتي) وبإضافتهن إلى الرجال: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ وبالحديث عنهن بضمير النسوة.. ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾.. (فأمسكوهن).. (يتوفاهنّ)، (لهنّ).. وهذا ما يقطع بأن الآية هنا خاصة بالنساء!
ب. أما الآية الثانية فهي خاصة بالرجال إذ كانت الإشارة فيها إلى المذكر، (اللذان) والضمير في (يأتيانها) وكذلك الضمير في (منكم).. هذا كله نصّ صريح في أن المشار إليهما هما من جنس الرجال، الذين يوجّه إليهم الخطاب في الآية.
2. واضح إذن أن الآية الأولى في شأن النساء، كما أن الآية الثانية في شأن الرجال.. وهذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون، إذ لا خلاف بينهم في هذا، ولكنهم فرقوا بين العقوبة التي تؤخذ بها المرأة الزانية، والعقوبة التي تجرى على الرجل إذا زنا! الأمر الذي لم يقع في آية (النور) التي جاءت فسوّت بين الرجل والمرأة في هذه الجريمة، وفي العقوبة المفروضة على كل منهما، وإذ كان كذلك فإن لنا أن نتوقف عند هذه المفارقة بين الناسخ والمنسوخ، في أمر يوزن بميزانين بالنسبة للرجل والمرأة، ثم يعاد هذا الأمر فيوزن بميزان واحد، تتعادل فيه كفة الرجل والمرأة على السواء! ففي آية النور جاء حكم الزاني والزانية مائة جلدة لكل منهما، أما في هاتين الآيتين: فقد كان للنساء حكم، وللرجال حكم، في العقوبة المفروضة على الزاني من الرجال، أو الزانية من النساء، فإذا كان هناك وجه يمكن أن تحمل عليه الآيتان، بحيث ترتفع هذه المفارقة التي تقوم بينهما وبين آية النور، وبحيث تكون بينهما تلك العلاقة التي بين المنسوخ والناسخ له، إذا كان هناك وجه لرفع هذه المفارقة، أفلا نلتمسه، ونذهب إليه، ونأخذ به؟ فكيف وهناك أكثر من وجه؟
أ. فأولا: (الزنا) في صورته العامة الشائعة، التي يتعامل أهل العربية بها في لسان اللغة، وفي لسان الشريعة، هو تلك الجريمة التي تقع بين الرجل والمرأة على غير فراش الزوجية، وقد جاءت آية (النور) صريحة في حكم هذه الجريمة، فقال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
ب. وثانيا: هناك جريمتان هما من قبيل (الزنا) ولكنهما ليستا بالزنا المعروف في لسان اللغة، أو لسان الشرع.. ولهذا فقد كان لكل منهما اسم خاص به، في اللغة وفي الشرع أيضا، وهما: السّحاق، واللواط، و(السحاق) عملية جنسية، بين المرأة والمرأة، و(اللواط) عملية جنسية، بين الرجل والرجل، و(والزنا) عملية جنسية، بين الرجل والمرأة، وفي هذه الصور الثلاث تكتمل العملية (الجنسية) في أصلها، وفيما يتفرع عنها.
ج. وثالثا: إذا قيل إن الآيتين السابقتين متعلقان بأحكام (الزنا) الأصلي الذي يكون بين المرأة والرجل، وأن ذلك كان في بدء الإسلام، ثم نسختا بآية (النور) ـ إذا قيل ذلك، كان معناه أن كل ما ورد في القرآن الكريم متعلقا بالزنا جاء خاصّا بهذا الزنا الصريح، دون أن يكون فيه شيء عن الجريمتين الأخريين: اللواط، والسحاق! وهذا أمر ما كان للقرآن أن يتركه، بحجة أنه عمل شاذ، خارج على مألوف الفطرة.. لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لعلاج الشذوذ الإنساني عن الفطرة السليمة، وإلا لتحيد به عن شروده وانحرافه عنها.. وهذا يعنى أنه لا بد ـ لكمال التشريع ـ من أن يشرّع القرآن لهاتين الجريمتين، ويفرض عقوبة مناسبة لهما.
د. ورابعا: أن الآيتين السابقتين صريحتان، في أن الأولى منهما في شأن النساء، وأن الآية الثانية في شأن الرجال، خاصة، وليس بين النساء والنساء إلا (السحاق)، كما أنه ليس بين الرجال إلّا (اللواط)
3. وعلى هذا، فإننا ـ إذ خالفنا ما كاد ينعقد إجماع الفقهاء والمفسرين ـ نرى:
أ. أن قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، الآية) هو لبيان الحكم في جريمة (السحاق) التي تكون بين المرأة والمرأة.. وأن هذا الحكم هو ما بينه الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أي يؤذين بالحبس في البيوت، بعد أن تثبت عليهن الجريمة بشهادة أربعة من الرجال، دون النساء، كما يتبيّن ذلك في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ أي أربعة منكم أيها الرجال.
ب. أما قوله تعالى: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما﴾، الآية) فهو خاص بجريمة اللواط، بين الرجل والرجل.. والحكم هنا هو أخذهما بالأذى، الجسدى، أو النفسي، وذلك بعد أن يشهد عليهما أربع شهود، على نحو ما في (السحاق)
4. سؤال وإشكال: هذه التفرقة في العقوبة بين (السحاق) و(اللواط).. لماذا لم يسوّ بينهما؟ ولما ذا يكون للنساء حكم، وللرجال حكم، مع أنهما أخذوا جميعا بحكم واحد في الزنا؟ والجواب: أن كلّا من السحاق واللواط وإن كانا من باب الزنا، إلا أن لكل منهما موردا غير مورد صاحبه، فكان من الحكمة ـ وقد اختلف المورد ـ أن يختلف الحكم، فالمرأة وهى مغرس الرجل، ومنبت النسل، قد تستطيب هذا المنكر فيحملها ذلك على أن تزهد في الرجل، وعلى ألا تسكن إليه في بيت، وأن تتحمل أثقال الحمل، والولادة، وتبعة الرضاع والتربية، وهذا من شأنه ـ إذا شاع وكثر ـ أن يحوّل النساء إلى رجال، وأن ينقطع النسل، وألا يعمر بيت، أو تقوم أسرة، ولهذا كانت عقوبة المرأة على هذه الجريمة أن تحبس في البيت، الذي كان من شأنه أن يعمر بها، وأن تقيم فيه دعائم أسرة، لو أنها اتصلت بالرجل اتصالا شرعيا بالزواج.
5. سؤال وإشكال: هل حبس المرأة في البيت يمنع وقوع هذه الجريمة منها؟ والجواب: نعم، فإن فرصتها في البيت، مع الوجوه التي تعرفها لا تتيح لها ما يتيحه الانطلاق إلى هنا وإلى هناك خارج البيت، حيث تلقى من النساء من لا ترى حرجا، ولا استحياء من أن ترتكب هذا المنكر معها، الأمر الذي لا تجده في البيت الذي تعيش فيه مع أهلها، من أخوات، أو زوجات زوج، أو أب، أو أخ.. فالحبس في البيت لمرتكبة هذا المنكر هو أنجح علاج يصرفها عن هذه العادة، بقطع وسائلها إليها، أما الرجل والرجل، فإن عقوبتهما من جنس فعلتهما، لما فيها من تحقير لهما وإذلال لرجولتهما، ومروءتهما، وذلك بأخذهما بالأذى المادي، أو النفسي.
6. سؤال وإشكال: كان حديث القرآن عن النساء بصيغة (الجمع).. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ وكان حديثه عن الرجال بصيغة المثنى.. ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ فما وراء هذه التفرقة؟ ولم كان الجمع في النساء، وكانت التثنية في الرجال؟ ولم لم يكن الأمر على عكس هذا؟ والجواب: أن المرأة والمرأة في جريمة (السحاق) في وضع متساو، لا فرق فيه بين امرأة وامرأة، حين تلتقى المرأتان على هذا المنكر، فساغ لهذا أن يكون الحديث عن هذه الجريمة حديثا شاملا لجميع مرتكبات هذا المنكر، بلا تفرقة بينهن.. فالمرأة على حال واحدة مع أية امرأة تلتقى بها في هذه الفعلة، وليس الأمر على هذا الوجه في (اللواط) بين الرجل والرجل.. فرجل في وضع وآخر في وضع.. أحد الرجلين فاعل، والآخر مفعول به.. وفرق بين الفاعل والمفعول.. ولكن بالرجلين تتم هذه الفعلة المنكرة، ومن ثمّ كان الإثم، وكان العقاب على هذا الإثم قسما مشتركا بينهما، كما كان استحضار رجلين لازما كى يمكن تصوّر هذه الجريمة، إذ لا يمكن تصور هذه الجريمة إلا مع وجود رجلين.. ذكر وذكر.
7. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، يسأل عن السبيل الذي جعله الله أو يجعله لأولئك المذنبات اللاتي قضى عليهن بالحبس في البيوت.. ما هي تلك السبيل؟ وهل جعل الله لهن فيها مخرجا؟ والجواب: الذين قالوا بالنسخ في الآيتين، وهم جمهور الفقهاء والمفسرين ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ يقولون إن السبيل التي جعلها الله لهن هي الخروج بهن من هذا الحكم الذي قضى عليهن بالإمساك في البيوت، وذلك بنسخ هذا الحكم وإحالته إلى الحكم الذي تضمنته آية (النور) وهو قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾.. الآية).. ويروون لهذا حديثا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو أنهـ صلوات الله وسلامه عليهـ حين تلقى آية (النور) من ربه، وزايله ما غشيه من الوحى، قال لمن حضره من أصحابه: (خذوا عنى، خذوا عنى.. قد جعل الله لهنّ سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)
8. سؤال وإشكال: هل من السبيل التي تنتظر منها هؤلاء المكروبات بابا من أبواب الطمع في رحمة الله أن ينقلن من الحبس إلى الرجم أو الجلد؟ والجواب: إن في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ يدا علوية رحيمة تمتدّ إليها أيدى أولئك البائسات الشقيّات، في أمل يدفئ الصدور، ويثلج العيون! فكيف يخلفهن هذا الوعد الكريم من ربّ كريم؟ وحاشا لله أن يخلف وعده، ولا نقول في الحديث المروي أكثر من هذا.
9. أما الذين لا يقولون بالنسخ لهاتين الآيتين ـ ونحن منهم ـ فيقولون: إن السبيل التي جعلها الله لهؤلاء المذنبات، هي أن يفتح الله لهن بابا للخروج من هذا السجن، على يد من يتزوج بهن.. فالزواج هنا ينتقل بهن إلى بيت الزوجية الذي يعشن فيه عيشة غيرهن من المتزوجات، حيث يسقط عنهنّ هذا الحكم الذي وقع عليهن، وهذه الرحمة التي يمسح الله بها دموع هؤلاء المذنبات من عباده، ويردّ بها إليهن اعتبارهن، بعد الذي نالهن من عذاب جسدى، ونفسي ـ هذه الرحمة هي في مقابل تلك الرحمة التي أفاضها الله على قرنائهنّ من الرجال، الذين اقترفوا جريمة اللواط.. فقد جاء بعد قوله تعالى: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما﴾ ـ جاء قوله سبحانه: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ فهذا الأمر بالإعراض عن أهل (اللواط) بعد أن يتوبا ويصلحا، وهذه السبيل التي جعلها الله لمرتكبات (السحاق) إن صلح حالهن ورغب الأزواج فيهن ـ هذا وتلك، هما رحمة من رحمة الله، ولطف من ألطافه، يصحب المقدور، ويخفف البلاء، ويهوّنه.. ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ فسبحانه وسع كل شيء رحمة وعلما، يجرح ويأسو، ويحكم ويعفو.. آمنت به لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
10. مما يؤيد ما ذهبنا إليه في فهم هاتين الآيتين، وحملهما على هذا الوجه الذي فهمناهما عليه، ما جاء بعدهما من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ فذكر التوبة هنا، وأثرها في محو السيئات، هو توكيد لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أي إن اللذين يأتيان الفاحشة (اللواط) من الرجال لهما مدخل إلى التوبة التي بها يتطهران من هذا الإثم، أما الزّنا فلا يطهر منه مقترفه إلا بإقامة الحدّ عليه، كما فعل (ماعز) حين ارتكب هذا المنكر، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: (طهّرنى) يا رسول الله.. وما زال يقول: طهرنى يا رسول الله، والرسول الكريم يراجعه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فأمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإقامة الحدّ عليه، ورجمه، وكذلك كان الأمر مع المرأة الغامدية.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/719.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ موقع هذه الآية في هذه السورة معضل، وافتتاحها بواو العطف أعضل، لاقتضائه اتّصالها بكلام قبلها، وقد جاء حدّ الزنا في سورة النور، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المصطلق على الصحيح، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به، فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء، كقوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: 4] وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة، كما يدلّ عليه قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ قال ابن عطية: أجمع العلماء على أنّ هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور، ا ه، وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالا ثمانية لا نطيل بها، فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة: هي الرجوع إلى أحكام النساء، فإنّ الله لمّا ذكر أحكاما من النكاح إلى قوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ وما النكاح إلّا اجتماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنّس والسكون إلى الأنثى، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعا، وهو الزنا المعبّر عنه بالفاحشة.
2. الزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة، ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغارة أو التعويض أو رغبة الرجل في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولدا كما تقدّم، وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلّا خفية لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم، وسمّي الزنا الفاحشة لأنّه تجاوز الحدّ في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذمّ، من فعل أو قول، أو حال ولم أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما.
3. معنى: ﴿يَأْتِينَ﴾ يفعلن، وأصل الإتيان المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأنّ فاعل شيء عن قصد يشبه السائر إلى مكان حتّى يصله، يقال: أتى الصلاة، أي صلاها، وقال الأعشى:
çليعلم كلّ الورى أنّني...أتيت المروءة من بابهاé
وربما قالوا: أتى بفاحشة وبمكروه كأنّه جاء مصاحبا له.
4. ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ بيان للموصول وصلته، والنساء اسم جمع امرأة، وهي الأنثى من الإنسان، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقا، وعلى الزوجات خاصّة ويعرف المراد بالقرينة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ [الحجرات: 11]، ثم قال: ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ [الحجرات: 11] فقابل بالنساء القوم، والمراد الإناث كلهنّ، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ [النساء: 11] الآية المتقدّمة آنفا والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العزبات.
5. ضمير جمع المخاطبين في قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ والضمائر الموالية له، عائدة إلى المسلمين على الإجمال، ويتعيّن للقيام بما خوطبوا به من لهم أهلية القيام بذلك، فضمير ﴿نِسَائِكُمْ﴾ عامّ مراد به نساء المسلمين، وضمير ﴿فَاسْتَشْهِدُوا﴾ مخصوص بمن يهمّه الأمر من الأزواج، وضمير ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ مخصوص بولاة الأمور، لأنّ الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولّاه إلّا القضاة، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص.
6. هذه الآية هي الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى، وقد تقرّر ذلك بآية سورة النور، ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامة الحدّ سواء، والمراد بالبيوت البيوت التي يعيّنها ولاة الأمور لذلك، وليس المراد إمساكهن في بيوتهنّ بل يخرجن من بيوتهنّ إلى بيوت أخرى إلّا إذا حوّلت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته، وقد دلّ على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدّة ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: 1]
7. معنى ﴿يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ يتقاضاهن، يقال: توفّى فلان حقّه من فلان واستوفاه حقّه، والعرب تتخيّل العمر مجزّأ، فالأيام والزمان والموت يستخلصه من صاحبه منجّما إلى أن تتوفّاه، قال طرفة:
çأرى العمر كنزا ناقصا كلّ ليلة...وما تنقص الأيام والدهر ينفدé
وقال أبو حيّة النميري:
çإذا ما تقاضى المرء يوم وليلة...تقاضاه شيء لا يملّ التقاضياé
ولذلك يقولون توفي فلان بالبناء للمجهول أي توفّى عمره فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير، وإن كان الموت هو أثر آخر أنفاس المرء، فالتوفي في هذه الآية وارد على أصل معناه الحقيقي في اللغة.
8. معنى ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أي حكما آخر، فالسبيل مستعار للأمر البيّن بمعنى العقاب المناسب تشبيها له بالطريق الجادّة، وفي هذا إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في البيوت زجر موقّت سيعقبه حكم شاف لما يجده الناس في نفوسهم من السخط عليهنّ ممّا فعلن.
يشمل قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ جميع النساء اللائي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهنّ، أمّا قوله ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا﴾ فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر، وقد قوبل به اسم موصول النساء الذي في قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ ولا شكّ أنّ المراد بـ ﴿الَّذانِ﴾ صنفان من الرجال: وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوّم معنى بيّن غير متداخل ولا مكرّر، ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين، ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدّي وقتادة:
أ. فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنى، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون.
ب. وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين: عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى، وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة ﴿نِسَائِكُمْ﴾
9. ضمير النصب في قوله: ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا، ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك، والإيذاء: الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ، فهو أعمّ من الجلد، والآية أجملته، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم.
10. اختلف أئمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية: فقال ابن عباس، ومجاهد: اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكرا كانت أم ثيّبا، وقوله: ﴿وَاللَّذَانِ﴾ تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم، فاستفيد التعميم في الحالتين إلّا أن استفادته في الأولى من صيغة العموم، وفي الثانية من انحصار النوعين، وقد كان يغني أن يقال: واللاتي يأتين، والذين يأتون، إلّا أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين.
11. جعل لفظ (اللاتي) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط، وجعل لفظ و﴿الَّذانِ﴾ للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكّر مثل الشخص، ونحو ذلك، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه.
12. الأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد، لأنّه لم يشرع بعد، فقيل: هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير، وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال، بناء على تأويله أنّ الآية شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد.
13. اتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغاية قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي، لأنّ الغاية جعلت مبهمة، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر، بعد هذا، لا غنى لهم عن إعلامهم به.
14. شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام، أن تنسخ بأثقل منها، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة، وشرع الجلد بآية سورة النور، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى، وقد سوّي في الجلد بين المرأة والرجل، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها، إذ كلاهما قد خرق حكما شرعيا تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره.
15. ثم إنّ الجلد المعيّن شرع بآية سورة النور مطلقا أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور: 2]؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني: محصنين أو أبكارا، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم، وهو ثابت بالعمل المتواتر، وإن كان الجلد لم يعمل به إلّا في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين، إذ جعل حكمهما الرجم، والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم، والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحا، وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج، فقد أخرج مالك، في (الموطأ)، ورجال الصحيح كلّهم، حديث عبد الله بن عمر: أنّ اليهود جاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكروا له أنّ رجلا وامرأة زنيا، فقال رسول الله (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم) فقالوا (نفضحهم ويجلدون) فقال عبد الله بن سلام (كذبتم إنّ فيها الرجم) فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام (ارفع يدك) فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: (صدق يا محمد فيها آية الرجم) فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية فقال (إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ ايّامه)
16. ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهنّ سبيلا، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم)، ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد، ولا أحسبه إلّا توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم، ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد، وهو خلاف المعروف من مذهبه، وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم، ولم يصحّ، ثم ثبت من فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث:
أ. أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي، أنّه جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث إلى أهله فقال: به جنون؟ قالوا: لا، وأبكر هو أم ثيّب؟ قالوا: بل ثيّب، فأمر به فرجم.
ب. الثاني: قضيّة الغامدية، أنّها جاءت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع، ثم حتّى ترضعه، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت.
ج. الثالث: حديث أبي هريرة، وخالد الجهني، أنّ رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: وهو أفقههما ـ: أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذن لي في أن أتكلّم؟ قال تكلّم، قال إنّ ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إنّي سألت أهل العلم فأخبروني أنّما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أمّا غنمك وجاريتك فردّ عليك ـ وجلد ابنه مائة وغربه عاما ـ واغد يا أنيس (هو أنيس بن الضّحاك ويقال ابن مرثد الأسلمي) على زوجة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها، قال مالك والعسيف الأجير.
17. هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في (الموطأ)، وهي مسندة في غيره، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنين، قال ابن العربي: هو خبر متواتر نسخ القرآن، يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به، وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة.
18. القائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد: ﴿يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ وفيه (والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) فتضمنّ الجلد، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نسخ بالسنّة، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن، وهو لا يرى الأمرين، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة، فالحديث بيّن الغاية، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك، والحديث خصّصها من قبل نزولها، قلت: وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريرا لبعض الحكم الذي في حديث الرجم، على أنّ قوله: إنّ آية النساء مغيّاة، لا يجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيّا فاعتبارها اعتبار النسخ، وهل النسخ كلّه إلّا إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ، وقال بعضهم شرع الأذى ثم نسخ بالحبس في البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا، وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلّا بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة، ويندفع ما أورده الجصّاص على الشافعي، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ.
19. يتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصن شرع بعد الجلد، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجلد، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده، قال ابن العربي في الأحكام: أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثا غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصّة، قلت: وكان في العرب الخلع وهو أن يخلع الرجل من قبيلته، ويشهدون بذلك في الموسم، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها، وقد قال امرؤ القيس: (به الذيب يعوي كالخليع المعيّل) واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك وروي أنّ عليّا جلد شراحة الهمدانية ورجمها بعد الجلد، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
20. قرن بالفاء خبر الموصولين من قوله: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا﴾ وقوله ﴿فَآذُوهُمَا﴾ لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عند ما يكون الخبر جملة، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط، بحيث لو كانت جزاء للزم اقترانها بالفاء، هكذا وجدنا من استقراء كلامهم، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلاة التي تومئ إلى وجه بناء الخبر، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها، ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن (أمّا)
21. من البيّن أنّ إتيان النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾ هو الخبر، لكنّه خبر صوري وإلّا فإنّ الخبر هو ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ لكنّه جيء به جوابا لشرط هو متفرّع على ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ ففاء ﴿فَاسْتَشْهِدُوا﴾ هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب، وفاء ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ تفريعية، وفاء ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ جزائية، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/56.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ابتدئت سورة النساء ببيان العلاقة الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وتثبت أن الناس جميعا أمة واحدة بحكم الخلق والتكوين، وكان ذلك هو الذي ينبغي ولكنهم اختلفوا من بعد، وبعد الإشارة إلى هذا المعنى الإنساني الجامع، بيّن ـ سبحانه ـ حق الضعفاء على المجموع، ثم أخذ يبيّن سبحانه حقهم في الأسرة، ووجوب رعايتهم.
2. في هذه الآيات التي نتلوها، يتجه النص الكريم إلى إقامة دعائم الأسرة، التي هي خلية التكوين الإنساني وخلية البناء الاجتماعى، والمهد الذي يتربى فيه النوع تربية يكون بها الإلف والائتلاف مع المجتمع الذي ينشأ فيه، وقد ابتدأ بإبعاد ما من شأنه إفساد بناء الأسرة، وهو الفاحشة، فإن مثل من يبنى الأسرة كمثل من يبنى قصرا مشيدا، ينقى أولا مواد البناء من العناصر التي لا تجعله قويا متماسكا، أو تكون مواد تنقض بناءه، ولذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ فحش معناها زاد، وأطلق على الزيادة التي لا تسر، وأطلق على القبيح من الأفعال؛ لأنه انحراف عن الفطرة، وقد جاء في مفردات الراغب: (الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف]، ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل]، ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الأحزاب]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النور]، ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ [الأعراف]، ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء] كناية عن الزنا، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، فالفاحشة هنا هي الزنا، والله سبحانه وتعالى يعبر عن هذه المعاني التي لا تألفها النفس الكريمة بعبارات تسترها، فتكون الكناية بدل التصريح، وذلك من تأديب الله لنا في التعبير.
3. وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج النساء اللائى وقعن في ذلك الأمر المنكر، وقد سماه بهذا الاسم كما سماه بأنه (إدّ)، فكان علاجهن بأمرين: أحدهما: يختص بهن، الثاني: يشتركن مع الرجال فيه:
أ. فأما الذي يختص بهن فهو إمساكهن في البيوت، وليس الإمساك معناه الحبس والتضييق المجرد، بل الإمساك معناه الحفظ والصيانة والرعاية، ويتضمن ذلك معنى الإرشاد والتوجيه والوعظ، ولذا قال الراغب: إمساك الشيء التعلق به وحفظه، قال تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة]، وقال: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ﴾ [الحج] أي يحفظها، فمعنى الإمساك في البيوت الحفظ فيها والرعاية والتهذيب بعطف؛ وذلك لأن المرأة تزل إذا فقدت التهذيب، وحرمت من الصيانة فتنطلق غير مقيدة، إذا لم يكن لها هاد مرشد وإذا كان ذلك سبب الزّلل، فعلاج الانحراف بالإمساك في البيوت مع الحفظ والرعاية، ويستمر الإمساك حتى الوفاة، أو حتى الزواج، كما قال: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أي طريقا واضحا لمنع الزّلل والابتعاد عنه، وذلك بتحصين نفسها بالزواج، والرمى بالزنا أفحش ما ترمى به المرأة والرجل، وكثيرات من النساء يكنّ فريسة لشائعات كاذبة، ولذلك شدد الله تعالى في إثبات الزنا أبلغ ما يكون التشديد، فقرر أن يكون بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل في ذلك شهادة النساء، وقرر أن تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع، ولذا قال: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ أي إن ذكروا أنهم عاينوا وشهدوا ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ ولحماية الشارع لعرض المرأة من أن يكون مضغة في الأفواه ـ قرر عقوبة شديدة لمن يرمى النساء والرجال من غير أن يكون أربعة يشهدون، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور].. هذا هو العلاج الوقائى الذي خص القرآن به المرأة، حتى لا تستمر في غيها، وذلك هو طريق الإثبات.
ب. أما العلاج الذي يشمل الرجل والمرأة، فهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما﴾ هذا حكم الذكر والأنثى إذا أتيا تلك الفاحشة، وهى الأمر الإدّ، وهى المنكر الذي تنكره العقول، والعلاج في هذه الحال ليس علاجا نفسيا لهما فقط، بل هو زجر اجتماعى ليرتدع غيرهما، وهذا العلاج هو العقوبة الشديدة المؤذية في البدن وفي النفس، وكانت هذه علاجا نفسيا؛ لأن النفس المنحرفة لا تقوّم إلا بشدة كالعود المعوج لا يقوّم إلا بعمل شديد ليس بسهل، ولكن يلاحظ ألا ينكسر العود، وألا تنكسر النفس وتهون، ولذا كان العلاج بالإمساك والحفظ والرعاية.
4. لقد ذكرت العقوبة هنا مجملة غير واضحة المقدار، بل كانت مجرد الإيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار في قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور]، ففي هذا النص عقوبتان مؤدبتان:
أ. إحداهما الجلد.
ب. الثانية منع الزواج من الزانى والزانية، وذلك ليحملهما على التوبة.
5. سؤال وإشكال: إن الله تعالى ذكر علاجا تهذيبيا للمرأة، وهو الإمساك والرعاية في البيت، ولم يذكر علاجا تهذيبيا للرجل، والجواب: إنه ذكر له علاج تهذيبى، وهو منع الزواج منه كالمرأة، وذكر علاج له في السنة وهو التغريب سنة؛ لأن التغريب سنة يبعده عن الجو الذي عاش فيه آثما وأعلن فيه إثمه، وإنه في ذلك سيكون تحت رقابة الحاكم ورعايته، فهذا التغريب يقابل الإمساك في البيوت، ولم يعاقب الرجل بالحبس؛ لأن الرجل مطلوب منه الكدح والعمل لنفقته ونفقة من يعوله، فكان التهذيب مدة معلومة أنسب له، والإمساك في البيوت أليق بالمرأة.
6. وإذا تكررت الجريمة تكرر العقاب، إلى أن تكون التوبة والإقلاع عن ذلك المنكر، ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ عالج الإسلام نفس المذنب ليتوب، ودعا إلى التوبة دعوة صريحة بفتح باب المغفرة، وفي هذه الجريمة التي تعد من أكبر الكبائر، كما أنه قد عالج نفس المذنب، بالإمساك في البيوت للحفظ والرعاية والصيانة، وبالتغريب بالنسبة للرجل ليسترد كرامته التي هانت بالجريمة والعقوبة المعلنة، وبمنع الزواج من الزانى والزانية حتى تكون التوبة، فإذا تم العلاج، وشفى المذنب من الداء، وكانت التوبة الصحيحة، وكان من الواجب الإعراض عنهما وعدم تذكيرهما بالجريمة، فالإعراض هنا ليس معناه الصّدود والاستنكار بل معناه ألا يذكّرا بجريمتهما، وأن يعاملا معاملة الأطهار الأبرار، وأن يكون لهما كل تقدير واعتبار، فإن الإصرار على وصف الجريمة يجعل النفس تهون، وإذا هانت سهل عليها الهوان، وأغراها الشيطان بالمعاودة، ويروى أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عاقب شاربا للخمر بعقوبة الشرب، وبعد تمامها قال له بعض الحاضرين: (أخزاك الله)، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تعينوا عليه الشيطان)؛ لأن الخزى يشعر النفس بالصغار، ومع الصغار يسهل الإجرام.
7. وقد ذكر سبحانه وتعالى مع التوبة الإصلاح، فقال: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا﴾ والإصلاح هو إصلاح النفس، وصلاح العمل، وذلك دليل التوبة الصادقة، وقد قرن الله تعالى التوبة دائما بالعمل الصالح، مما يدل على أن العمل دليل الإقلاع؛ لأن النفس إذا انحرفت، وأحاطت بها الخطيئة، لا يكون الخروج من دائرتها بالقول فقط، بل بالقول والنية والعمل وإن الله تعالى حينئذ يقبل التوبة.
8. ولذا ذيل الله تعالى الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ أي أن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده دائما، وقد أكد ذلك بـ (إن)، وب (كان) التي تدل على الدوام، وبصيغة المبالغة (توابا)، وأشار سبحانه إلى أن ذلك من رحمته التي وسعت كل شيء، ولقد سبقت رحمته عذابه، وإن الله تعالى ليفرح بتوبة العبد أكثر من فرح العبد بإقلاعه عن ذنبه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1609.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾، لا يثبت الزنا إلا بإقرار فاعله على نفسه أربع مرات، سواء أكان رجلا أم امرأة، أم بشهادة أربعة عدول من المسلمين، دون غيرهم، كما دلت عليه لفظة (منكم) ولا بد أن يشهد كل واحد من الأربعة شهادة صريحة في ولوج الذكر في الفرج تماما كالميل في المكحلة، فإن نقص الشهود عن الأربعة، أو اختلفت شهادتهم، ولم تتوارد على شيء واحد جلد كل واحد منهم ثمانين جلدة، وكل من يرمي امرأة أو رجلا بالزنا، ولم يأت بأربعة عدول يشهدون على النحو المتقدم ـ يجلد ثمانين جلدة.. وان دل هذا على شيء فإنما يدل ان الأولى بالإنسان ان لا ينقب عن عيوب الناس، ويكشف أسرارهم، لأن كشف العيوب يؤدي الى فساد المجتمع، ويعرض الأسرة الى الضياع والشتات.
2. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾، أي إذا ثبت الزنا على المرأة حبست في بيتها، حتى الموت عقوبة لها ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، يشير الى أن الله سبحانه لم يجعل هذه العقوبة حكما دائما، بل جعلها لفترة معينة، ثم يحدث التشريع النهائي، وهكذا كان، حيث نسخت هذه الآية، وجعل الرجم عقوبة الزنا ان حصل من متزوج أو متزوجة، ومائة جلدة ان حصل من أعزب أو عزبة، ويأتي التفصيل في سورة النور ان شاء الله.
3. ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾، اختلف المفسرون في المراد من (اللذان)، والأكثر على أنهما الزاني والزانية، ويلاحظ على هذا القول انه خلاف الظاهر، لأن (اللذان) للمثنى المذكر، ولأن الزانية تقدم حكمها، ولا موجب للتكرار من غير فاصل، والصحيح ان المراد بهما الرجلان: الفاعل والمفعول، لظاهر لفظ (اللذان) ولفظ منكم، أي من رجالكم كما في قوله تعالى ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾
4. وعقوبة اللواط الإيذاء، ومنه التأنيب والتوبيخ، ونسخت هذه العقوبة، كما نسخت عقوبة الزانية التي هي السجن المؤبد، وأصبحت عقوبة كل من الفاعل والمفعول الضرب بالسيف حتى الموت، أو الإحراق بالنار، أو الإلقاء من شاهق بعد تكتيف اليدين والرجلين، أو هدم جدار عليه، لأنه لا جريمة أسوأ أثرا من الفعل الشنيع الذي يسلب الإنسان انسانيته، ويقلب حقيقته رأسا على عقب، وقديما قيل: لو نكح الأسد في دبره لذل.
5. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾، أي لا تكفوا عن إيذاء هذا المجرم بمجرد قوله: تبت واستغفر الله ما لم تثبت توبته النصوحة بعمله وحسن سلوكه.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/270.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ يقال: أتاه وأتى به أي فعله، والفاحشة من الفحش وهو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، وقد شاع استعمالها في الزنا، وقد أطلقت في القرآن على اللواط أو عليه وعلى السحق معا في قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، والظاهر أن المراد بها هاهنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين، ورووا: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر عند نزول آية الجلد ـ أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين، ويشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، ولم ينقل إن السحق نسخ حده بشيء آخر، ولا أن هذا الحد أجري على أحد من اللاتي يأتينه وقوله: ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾، يشهد بأن العدد من الرجال.
2. ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ إلى آخر الآية رتب الإمساك وهو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة وإن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود وهو من منن الله سبحانه على الأمة من حيث السماحة والإغماض، والحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾، غير أنه لم يعبر عنه بالحبس والسجن بل بالإمساك لهن في البيوت، وهذا أيضا من واضح التسهيل والسماحة بالإغماض.
3. ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾، أي طريقا إلى التخلص من الإمساك الدائم والنجاة منه، وفي الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم، وهكذا كان فإن حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد والسبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب.
4. ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما﴾، الآيتان متناسبتان مضمونا والضمير في قوله: ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾، راجع إلى الفاحشة قطعا، وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا، وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الأولى فإن الأولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم، والثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الإيذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا وهو إيذاؤهما وإمساك النساء في البيوت، لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾، فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال: إن المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون الحبس فهو بحاله، ولهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات إن الآية الأولى لبيان حكم الزنا في الثيب، والثانية مسوقة لحكم الأبكار وأن المراد بالإيذاء هو الحبس في الأبكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة والإصلاح.
5. لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الأولى بالثيبات الثانية بالأبكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ، وثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الأولى، وذكرهما معا في الآية الثانية: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾، وقد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الأولى لبيان حكم السحق بين النساء، والآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال، والآيتان غير منسوختين، وفساده ظاهر: أما في الآية الأولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، وأما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول، وهذا إما حكم ابتدائي غير منسوخ، وإما حكم ناسخ لحكم الآية، وعلى أي حال يبطل قوله.
6. من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين، والقرائن المحفوف بها الكلام، وما تقدم من الإشكال فيما ذكروه من المعنى ـ والله أعلم ـ:
أ. إن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج، ويدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، وإطلاق النساء على الأزواج شائع في اللسان وخاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾: وقال تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، وعلى هذا فقد كان الحكم الأولي المؤجل لهن الإمساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم، وليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدلّ به الجبائي فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، وهذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل سينقطع بانقطاعه وهو قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن، ولو سمي هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مبين لمرادات القرآن الكريم.
ب. والآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان وهو الإيذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، والآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور، وأما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الأبكار فمن الآحاد وهي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، والله أعلم هذا ولا يخلو مع ذلك من وهن.
7. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ تقييد التوبة بالإصلاح لتحقيق حقيقة التوبة، وتبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/234.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ فالزانية لا تجلد حتى يشهد عليها أربعة شهداء، وفائدته: أن لا يعمل بالظن وأقوال الناس التي يتناقلونها حتى يعتقدوا أنها زانية، بل لو فرض أنها زانية في الواقع فلا حكم لذلك حتى يشهد عليها أربعة من المسلمين، فأما الإقرار فإنما يثبت حكمه بالدليل الخاص، وقال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (وكذلك قول الله حين يقول: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ فكان هذا أول ما أنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في أمر الزانيين حتى أنزل عليه ما أنزل من الحدود، فكان ذلك السبيل الذي ذكر الله أنه يجعله)، وفيه تفسير الفاحشة وتفسير السبيل، وقد فسر البعض الفاحشة هنا بأنها جريمة المساحقة.
2. ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ أي يأتيان الفاحشة فآذوهما كالتعزير والإهانة وقد فسروهما بالزاني والزانية، ولكن عطفه على قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ مع تفسيره بالزواني يُبعِّد ذلك، والأقرب: أنه في اللوطيين للمقابلة بهما للإناث، والمذهب: أنه يُحَد حد الزاني، وجعلوه داخلاً في حد الزنا، وفي الحديث: (اقتلوا الفاعل والمفعول به)، والأولى: أن هذا ليس من النسخ، بل إضافة إلى الأذية القتل، أو أن الجلد والقتل نوع من الأذية، فهو من الإطلاق والتقييد لا من النسخ؛ لأن هذه الآية لم تعين نوعاً من الأذى.
3. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ فاتركوا أذيتهما من بعد التوبة والإصلاح لخروجهما عن استحقاق الإهانة بالتوبة، ولعل هذا قبل وجوب الحد بشهادة الشهود فأما بعده فلا تتحقق التوبة والإصلاح؛ لأن الخوف من الحد يبعث على إظهار التوبة، والأقرب: أن هذا كان قبل شرع الحد بالجلد والرجم، فكانت الأذية تجب حتى التوبة، وإذا سارع إلى التوبة سقطت الأذية، ولا يسقط الجلد بالتوبة لأنه حكم آخر وإن كان قيداً للأذية قبل سقوطها، لأن الله أوجبه إيجاباً مؤكداً ولم يستثن التائب منه، وشرعه شرعاً مستقلاً لا وصفاً للأذية، فلا يسقط بسقوط الأذية بغير الحد.
4. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ ﴿تَوَّابًا﴾ رجّاعاً من إيجاب العقوبة إلى العفو ﴿رَحِيمًا﴾ بعباده التائبين إليه توبة نصوحاً.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/31.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿الْفَاحِشَةَ﴾: كناية عن الزنى واللواط، والفاحشة ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وأصل الفحش الزيادة والكثرة، وكثيرا ما يراد من الفاحشة الزنى، وقد أطلقت على اللواط أيضا، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 28]
2. ينتقل الحديث إلى موضوع آخر يرتبط بحدود الله في الجانب الأخلاقي من حياة الإنسان، فقد أراد الإسلام له الانضباط في ممارساته الجنسية، في دائرة خاصة تشبع له غريزته من جهة، وتحفظ له توازنه من جهة أخرى، على أساس القاعدة الأخلاقية الواقعية في الإسلام، التي تشرّع للإنسان من باب أنه كائن له غرائزه وميوله وحاجاته؛ فلا تتنكر لها، بل تعترف بها من ناحية المبدأ، ولا تمنحها الحرية المطلقة التي تلغي روحيتها، وقد سلك الإسلام الطريق العملي في التخطيط للانضباط، وذلك في خطين:
أ. الأول، وهو خط التوعية الفكرية، من خلال ما يثيره أمام الإنسان من المصالح والمفاسد الحقيقية، في ما يريد منه أن يفعله أو يتركه، ليرتبط الخط العملي بحسابات الأرباح والخسائر الحياتية التي يتحرك الإنسان من خلالها بشكل طبيعي.
ب. الثاني: وهو خط العقوبات الأخروية والدنيوية، من خلال ما يريده الإسلام من حشد الضغوط المادية التي تشكّل حاجزا نفسيا كبيرا ضد هذا العمل أو ذاك، لأن أكثر الناس لا يتحركون في ممارساتهم من موقع القناعة الفكرية، بل يحتاجون إلى الضغوط الخارجية والداخلية التي تعطي للإرادة قوة الموقف، وقد سلك الإسلام، في هذا المجال، سبيل إثارة العقوبات الأخروية في أغلب الأوامر والنواهي، أما العقوبات الدنيوية، فقد اقتصرت على الجوانب المتعلقة بالنفس والعرض والمال، في ما يمارسه الناس من أعمال متعلقة بهذه الأمور؛ وهذا هو الباب الذي عنونه الفقهاء بكتاب الحدود والقصاص والديات؛ وربما كان الأساس في ذلك، هو اهتمام الإسلام بالجانب الذي يحفظ للفرد والمجتمع بنيانه الذاتي في علاقاته الفردية والاجتماعية، فيرتكز النظام العام للحياة على أساس قويّ ثابت؛ فإذا غفل الإنسان عن جانب العقوبة في الآخرة، باعتباره من الغيب الذي لا ينفعل به الإنسان إلا من خلال شعور ضاغط، كان الجانب الدنيوي للعقوبة كفيلا بتحقيق الانضباط أمام حدود الله.
3. وقد جاءت هاتان الآيتان، لتتحدثا عن التخطيط الأولي في الإسلام للعقوبة على الفاحشة التي هي من المفاهيم العامة، التي يمكن أن تنطبق على أكثر من حالة من حالات الانحراف الأخلاقي، لا سيما الأعمال المتعلقة بالجانب الجنسي من علاقات الإنسان؛ فقد أطلقت على الزنى في قوله تعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32] وعلى اللواط في قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [النمل: 54]؛ كما أطلقت على بعض العلاقات المحظورة شرعا، في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 22]؛ وقد جاءت بعض الآيات للتحدث عن المفهوم، بشكل عام، يشمل الانحرافات المتنوّعة، في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 28]، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: 151]، كما وردت كلمة الفحشاء المعبّرة عن المفهوم، في أكثر من آية.
4. لعل الأساس في هذا الشمول في المعنى هو طبيعة المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وهو الزيادة والكثرة؛ وكل شيء جاوز قدره وحدّه فهو فاحش، فإن ذلك يعني أن الإسلام يمثل، في تشريعاته الإيجابية والسلبية، الحدّ الطبيعي للأشياء، في ما يريد للمكلّف أن يقف عنده، مما يجعل من الفحشاء والفاحشة عنوانا لأيّ انحراف وتجاوز عن الحدّ الشرعي للأمور، سواء في السلوك الأخلاقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، ولكن الإسلام لم يجعل العقوبة على المفهوم العام للكلمة، بل وضعها في حدود معيّنة من الممارسات المرتبطة بالجانب الجنسي للإنسان، كالزنى واللواط والسحاق والقيادة والقذف ونحو ذلك.
5. وقد اختلف المفسرون في المراد من كلمة الفاحشة في هاتين الآيتين، هل هو معنى واحد ـ وهو الزنى ـ أم أن الآية الأولى تتحدث عن السحاق، والثانية عن اللواط، أم أن المراد بالأولى الزنى، وبالثانية اللواط، وقد لا نجد في مدلول الآية، من حيث منطوق الكلمات فيها، ما يؤكد هذا القول أو ذاك، ما دامت الكلمة تتسع لأي معنى من هذه المعاني؛ ولكن البعض حاول أن يفهم منها بعض ملامح التخصيص:
أ. فقد ذكر أن مورد الآية الأولى هو المحصنات المتزوجات، لأن كلمة النساء تطلق في أكثر من مورد في القرآن على الزوجات، كما أن العرف يساعد على ذلك، بينما يراد من الآية الثانية غير هذا المورد في الرجال والنساء، في ما تعطيه كلمة: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ﴾ بلحاظ الحديث فيها عن الإيذاء الذي هو عنوان للعقوبات المختلفة التي جعلت في هذا المجال.
ب. وحاول البعض أن يستنطق كلمة ﴿وَالَّذانِ﴾، ليجعلها دليلا على إرادة اللواط من الآية الثانية؛ فإن العدول عن التأنيث في الأولى إلى التذكير في الثانية، يدل على أن الحكم فيها مختلف في مورده عن الأولى، لتكون الثانية مختلفة بالانحراف المذكّر من الفاعل والمفعول الأولى مختصة بالانحراف المؤنّث ـ إن صح التعبير ـ في ما يمثله الحديث عن ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ وذلك لأنه لا وجه لهذا التنوّع في التعبير إلا الإشارة إلى ذلك.
ج. أما أبو مسلم، فقد استفاد من هذا التنويع طبيعة المقصود من الفاحشة، فقد اعتبر الحديث عن (اللاتي) في الأولى حديثا عن الفاحشة التي تكون كل عناصرها من النساء، والمتمثلة في عملية السحاق؛ كما أن الحديث عن (اللذان) هو حديث عمّا يكون العنصر الكامل فيه من الرجال، وذلك هو شأن اللواط.
6. وهكذا حاول كل فريق أن يجد في بعض الجوانب الفنية للكلمات ما يؤكد الوجه الذي يذهب إليه، ولكننا نحسب أن ذلك كله لن يجعل المعنى محصورا في ما ذهبوا إليه، لأن أيّ جانب من الجوانب التي أثاروها في عملية الاستنطاق للكلمات، لا يخلو من احتمال آخر لوجه آخر:
أ. وكمثال على ذلك نقف أمام الوجه الأول الذي ارتكز على ظهور كلمة النساء في المتزوجات؛ فإننا نواجه عدة آيات في القرآن تتحدث عما يشمل غير المتزوجات بكلمة النساء، كما في كثير من آيات الإرث وغيرها، كما أن هذا الوجه لم يتحدث عن معنى التثنية المذكورة في الآية الثانية في مقابل الجمع المؤنث في الأولى.
ب. وهكذا نجد المعنى الثاني في اختصاص الثانية باللواط، فإن كلمة (واللذان) يمكن أن تكون واردة مورد التغليب على أساس إرادة الزنى منها، وهذا باب واسع في التعابير القرآنية وغيرها، مما لا يجعل المعنى مخصوصا بما ذكر؛ وبهذا يمكننا المناقشة في الوجه الثالث.
7. في ضوء ذلك، لا بد لنا أن نقف من هذه الوجوه موقف الاحتياط، الذي لا يستطيع الجزم بشيء منها، من خلال طبيعة المدلول اللفظي للآية، بل يرد علمه إلى أهله، فيرجع إلى الأحاديث الواردة في التفسير، ليحدّد من خلالها المعنى الذي تكون الآية فيه منسوخة أو محكمة؛ وذلك موكول إلى الفقه، فقد يكفينا في نطاق التفسير أن نشير إلى الوجوه المحتملة في هذا الباب، ونعرف من خلال ذلك كله، أن الإسلام خطط للعقوبة على الفاحشة في نطاق العلاقة الجنسية المنحرفة، سواء كانت الزنى كما عليه أغلب المفسرين، أو الشذوذ الجنسي المذكر أو المؤنث كما عن أبي مسلم، وذلك على أساس إيجاد العنصر الرادع الذي يفسخ المجال في حركة الواقع لإبعاد الناس عن الانحراف الخلقي، أما مفردات الآيتين، فيمكن أن نوضحها ضمن نقاط:
أ. ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ هذا تخطيط للشهادة في الزنى، فلا بد من أربعة شهداء، إذ لا يثبت بغير ذلك، ولا بد من الذكورة والإيمان بالإضافة إلى شروط أخرى جاءت بها السنة.
ب. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ قيل في معناه: إن ذلك كناية عن إبعادهن عن أجواء الانحراف وصيانتهن عن مثل فعلهن، والأكثر أنه على وجه الحد على الزنى، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بآية الجلد؛ كما في كنز العرفان.
ج. ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ أي ملك الموت، والتوفية بلوغ الشيء حده، ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ قيل: السبيل هو الحكم الناسخ، ولهذا لما نزلت آية الجلد، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (قد جعل الله لهن سبيلا)، وهناك وجوه أخرى.
د. ﴿فَآذُوهُمَا﴾ قيل المراد به التوبيخ والاستخفاف؛ وبهذا لا يكون منسوخا، لأنه حكم ثابت مطلق بل المنسوخ الاقتصار عليه، وقيل: إنه عنوان للحدّ الواجب في هذه المعصية.
هـ. ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ فيه دلالة على أن الزاني إذا تاب قبل الرفع إلى الحاكم لا يحدّ؛ وأمّا بعد الرفع والحضور؛ فإن ثبت بالإقرار تخيّر الإمام، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحدّ، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة.
8. إن الآية تتحدث عن الحبس المؤبد للنساء الزانيات كحكم مؤقت، لأنها أوحت في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ بأن من الممكن أن تنطلق التعاليم الإلهية في عملية تشريعية جديدة تنهي هذا الحبس المؤبد إذا بقين في الحياة، فيكتفى بذلك الحبس في الماضي لإلغائه من التشريع لمصلحة تشريع آخر، وهو الجلد لغير المحصنة أو الرجم للمحصنة، فلا يشملها الحكم الجديد، لأن الحكم الجزائي لا يشمل الحالات السابقة على تشريعه، وبهذا نفهم ما معنى كلمة السبيل التي أريد لهن انتظاره، لأنهن يحصلن على الحرية بعد ذلك وربما استفاد البعض من كلمة ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ إصدار القانون بالجلد أو الرجم الذي يحدد عقوبتهن بذلك، لأنه الطريق الذي يريد لهن السير فيه، ولكن هذا بعيد عن الظاهر من الكلمة، لأن الظاهر من كلمة السبيل، وسيلة النجاة وطريق الخلاص، وهذا لا ينسجم مع الجلد أو الإعدام.
9. ربما كانت مسألة السّبيل متعلقة بالعنوان العام للزانية، لا التي سبق لها الزّنى في مرحلة نزول الآية، فيكون ذلك هو السبيل الذي ينصرف إليه أمرهنّ في تحديد العقوبة الشرعية، ولعلّ هذا ما روي في مجمع البيان: (قالوا: لما نزل قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2] قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: خذوا عنّي، خذوا عني، قد جعل الله لهنّ سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيّب بالثّيب جلد مائة والرجم، وقال بعض أصحابنا: إنّ من وجب عليه الرجم يجلد أولا ثمّ يرجم، وبه قال الحسن وقتادة وجماعة من الفقهاء، وقال أكثر أصحابنا: إنّ ذلك يختص بالشيخ والشيخة، فإما غيرهما فليس عليه غير الرّجم، وربما نستوحي من تشريع الحبس في البيوت، أن الزانية تبقى في المحضن الطبيعي الحميم الذي عاشت فيه بين أهلها، مما يكفل لها الجوّ الملائم للبعد عن البيئة المنحرفة وعن المؤثرات الأخلاقية السلبية التي تزيد في انحرافها، لأن طهارة الجو قد تترك آثارها على الجو النفسي الطاهر للإنسان من خلال الناس الذين يحيطون به في سلوكهم المنفتح على العفة وعلى تقوى الله؛ الأمر الذي يحصّن هذه الإنسانية ويدفعها إلى التوبة ويفسح لها المجال لحساب النفس، بينما نجد ـ من خلال التجربة الطويلة المعاصرة ـ أن السجون العامة التي تحتوي الكثيرات من المنحرفات اللاتي انحرفن عن خط العفة أو عن خط الأمانة أو انفتحن على الجريمة والفساد الأخلاقي والاجتماعي، قد تتحول إلى مدرسة للانحراف وللإصرار على البقاء في نفس الموقع من خلال بعض المؤثرات السلبية التي تساهم في توجيه المنحرفة إلى الاستمرار في الانحراف أو زيادته لديها، بالرغم من بعض البرامج التوجيهية التي تقوم بها إدارات السجون، بحيث نجد أن المجرم يزداد إجراما بعد خروجه من هذه السجون.
10. ربما يستفاد قيد (عدم الإحصان) في الآية الثانية من كلمة ﴿فَآذُوهُمَا﴾ لأن الاقتصار على الإيذاء، سواء أريد به العنوان العام للكلمة أو أريد به الجلد المذكور في الآية الثانية من سورة النور، لا يتلاءم مع عقوبة الرجم التي تمثل الإعدام، وهذا ما جاء في البحار عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ قال يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب ﴿فَآذُوهُمَا﴾، قال تحبس ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾
11. ربما نستوحي من كلمة ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ أن العاصي إذا تاب وأصلح أمره فلا بد من إهمال الحديث عن معصيته وقبول توبته اجتماعيا، باعتبار قبول الله توبة التائب، فلا يجوز تذكيره بها وتعبيره بنتائجها لتكون عنوانا لشخصيته في الواقع الاجتماعي بحيث يرفضه الناس من خلال تاريخه السّيئ، فإن الله إذا عفا عنه وأسقط حقه بالتوبة والإصلاح، فعلى الناس أن يمتنعوا عن الإساءة إليه، بل لا بد من أن يعتبروا ذلك بمنزلة العدم، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وهكذا إذا طبّق عليه الحكم الشرعي بالجلد أو نحوه وتاب منه بعد ذلك فإن على الناس أن لا يثيروا ذلك في أحاديثهم عنه، بل يتناسوه ليشجعوه على الاستمرار في خط التوبة بالتأكيد على الواقع الجديد الصالح الذي تحوّل إليه.
12. سؤال وإشكال: هل الآية منسوخة؟ والجواب:
أ. جاء في مجمع البيان: حكم هذه الآية منسوخ عند جمهور المفسرين وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السّلام، وقال بعضهم إنه غير منسوخ، لأن الحبس لم يكن مؤبدا، بل كان مستندا إلى غاية، فلا يكون بيان الغاية نسخا له، كما لو قالوا افعلوا كذا إلى رأس الشهر، وقد فرّق بين الموضعين، فإن الحكم المعلّق بمجيء رأس الشهر لا يحتاج إلى بيان صاحب الشرع، بخلاف ما في الآية.
ب. وقد ذكر الأستاذ المحقق السيد أبو القاسم الخوئي في كتابه (البيان في تفسير القرآن) في بحث (النسخ في القرآن)، بعد إشارته إلى ما ذكره الجصاص في أحكام القرآن أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين ـ (في الآيتين) ـ عن الزانيين ما هذا نصه: (والحق أنه لا نسخ في الآيتين جميعا، وبيان ذلك: أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطا، وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنى، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنى لا وضعا ولا انصرافا، ثم إن الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف:
• أوّلا: على أن الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة.
• ثانيا: على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد.
• وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته، فإن الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرّة ثانية، وهذا من قبيل دفع المنكر، وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض والنفوس، والأمور الخطيرة، بل في مطلق المنكرات على قول بعض، كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فكيف يكون منه الجلد والرجم، وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم وتجلد؟ وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها، وإذا كان ذلك سبيلا لها، فما هو السبيل عليها؟ وعلى ما تقدم، فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة، كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى، وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنى، وعلى كلا هذين الاحتمالين، يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرّج الله عنها، فيجيز لها الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنّها ونحوه، وإمّا بميلها إلى الزواج وتزويجها برجل يتحفظ عليها، وإما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة، وهذا الحكم باق مستمر، وأمّا الجلد أو الرجم، فهو حكم آخر شرّع لتأديب مرتكبي الفاحشة، وهو أجنبيّ عن الحكم الأول، فلا معنى لكونه ناسخا له، وبتعبير آخر: إن الحكم الأول شرّع للتحفّظ عن الوقوع في الفاحشة مرّة أخرى، والحكم الثاني شرّع للتأديب على الجريمة الأولى وصونا لباقي النساء عن ارتكاب مثلها، فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني، نعم، إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد، ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته، وفي ما سوى ذلك، فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلا.
• جملة القول: إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ، سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها، وأما القول بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضا يتوقف:
• أوّلا: على أن يراد من الضمير في قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَانِهَا﴾ الزنى.
• ثانيا: على أن يراد بالإيذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك، وكلا هذين الأمرين ـ مع أنه لا دليل عليه ـ مناف لظاهر الآية.
• بيان ذلك: أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات، ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين، ومن البيّن أن المراد بهما خصوص الرجال، وعلى هذا، فيكون المراد من الموصول رجلين من الرجال، ولا يراد منه ما يعمّ رجلا وامرأة، على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان، فليس لها وجه صحيح، وكان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع، كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك، وفي هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنى، ولا ما هو أعم منه ومن اللواط، وإذا تمّ ذلك، كان موضوع الآية أجنبيا عن موضوع آية الجلد.
• وإذا سلّمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية، فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية، عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال، وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ، فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره، ثم تقييده بآية الجلد، أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنّة القطعية، وجملة القول: أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين، غير التقليد المحض، أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا)
13. نلاحظ على كلام سيدنا الأستاذ الخوئي:
أ. أن استظهاره من الآية المباركة الأولى أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، غير واضح من حيث مدلولها، بل قد تكون ظاهرة في العقوبة بالسجن المؤبد في البيت، لأنه ليس من الطبيعي أن يكون إبعادها عن الفاحشة بهذه الطريقة، إذ ليس من الضروري أن تكون هذه المرأة الزانية قد تحولت المعصية لديها إلى حالة متجذرة في الذات ومستمرّة في حركة سلوكها، بل قد يكون الزنى حالة طارئة جديدة في حياتها؛ الأمر الذي يمكن فيه نهيها عنه بالوسائل العادية للنهي عن المنكر.
ب. أما ملاحظته حول جعل السبيل، فإننا قد نتفق معه في رفض اعتبار الرجم أو الجلد سبيلا، على أساس تفسير السبيل بالحلّ الذي يتخلص به من هذا السجن المؤبد، ولكن من الممكن أن يكون المقصود منه الوسيلة التي يمكن لها فيه أن تنال عقوبتها، كالجلد الذي اقتصر القرآن عليه، (لأن الرجم ثبت بالسنة)، فتملك بذلك حريتها في الحركة وتتخلص من سجنها، وهذا هو الذي تؤيده الرواية التي جاءت عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مما رواه صاحب مجمع البيان حيث قال صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حسب الرواية ـ: قد جعل الله لهن سبيلا عند نزول آية ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾
ج. وعلى ضوء هذا فيمكن أن يكون الحكم المذكور في هذه الآية منسوخا كما عبر به الطبرسي في مجمع البيان، بلحاظ أن الحكم بالإمساك بالبيوت قد ارتفع بآية النور وليس المراد بالنسخ المعنى المصطلح.
د. وبهذا تكون الآية واردة لبيان حكم النساء بقطع النظر عن الرجال، أمّا الآية الأخرى، فقد تكون متعرضة لحكم الطرفين الرجل والمرأة، وهذا هو سر التثنية، ويكون الحديث عن الإيذاء حديثا عاما لا اختصاص له بما ذكره المفسرون، وكأنه إشارة لما جاء في سورة النور، والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/134.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تعني لفظة (الفاحشة) حسب اللّغة: العمل أو القول القبيح جدّا ـ كما أسلفنا ـ ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد، وقد وردت هذه اللفظة في موردا من القرآن الكريم، وقد استعملت تارة في (الزّنا) وأخرى في (اللواط) وتارة في الأفعال الشديدة القبح على العموم.
2. الآية الأولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير كما فهم أكثر المفسرين ـ إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني، فتقول: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾، وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة ـ مضافا إلى القرينة المذكورة في الآية اللاحقة ـ التعبير بـ (من نسائكم) أي زوجاتكم، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي، ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ فإذن لا بدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.
3. يستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبدا) من ذلك السجن إذا كن على قيد الحياة طبعا، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر، وليس الخلاص من السجن إلّا بسبب إلغاء الحكم السابق، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد ـ مهما كان ـ سببا لنجاة هذه السجينات، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتما كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد، (فلا حظ بدقّة هذه النقطة)
4. أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد، يجعل وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن، فهو احتمال مردود، لأنّ لفظة (لهنّ سبيلا) لا تتلاءم أبدا مع مسألة الأعدام، فعبارة (لهنّ) تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبيلا لنجاتهنّ، والحكم الذي قرّره الله في الإسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعا، وإن لم ترد في القرآن الكريم أية إشارة إليها)
5. من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط، لأنّ النسخ إنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني، أي أنّه حكم مؤقت محدود، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلا حظ ذلك بدقّة وعناية)
6. ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى ناحية مهمّة، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في (البيوت) من صالحهن من بعض الجهات، لأنّه أفضل ـ بكثير ـ من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة، هذا مضافا إلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثرا سيئا وعميقا في إفساد المجتمع، إذ أنّ هذه المراكز تتحول ـ شيئا فشيئا ـ إلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها ـ من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل ـ تجاربهم في الجريمة.
7. ثمّ إنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إذ يقول: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا)
8. والآية وإن كانت لا تذكر قيد (عدم الإحصان)، صراحة، إلّا أنّها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة، أستفيد منها إنها واردة في حق الزنا عن غير إحصان، وإنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة، وبالتالي حيث أن الآية السابقة اختصّت ـ بالقرينة التي ذكرت ـ بالزانية المحصنة استنتجنا أنّ هذه الآية تبيّن حكم الزنا عن غير إحصان.
9. كما أنّ هناك نقطة واضحة أيضا، وهي أنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حدّ الزنا هو جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيرا وتوضيحا لهذه الآية وتعيينا للحكم الوارد فيها، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخا أيضا، ففي تفسير العياشي روي عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما)، وعلى هذا يكون المراد من (اللذان) ـ وإن كان للإشارة إلى مثنى مذكر ـ هو الرجل والمرأة أي من باب التغلب.
10. هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية واردا في مجال (اللواط) واعتبروا الحكم في الآية السابقة واردا في مجال (المساحقة)، ولكن رجوع الضمير في (يأتيانها) إلى (الفاحشة) في الآية السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر، ولهذا فإن اعتبار أنّ هذه الآية واردة في شأن اللوط، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر، (وإن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إلى الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حدّ الزنا وحكمه، هذا مضافا إلى أننا نعلم أنّ عقوبة (اللواط) في الإسلام هو القتل والإعدام وليست الإيذاء والجلد، وليس ثمّة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في الآية الحاضرة.
11. ثمّ إنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل هؤلاء العصاة، فيقول: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل هؤلاء العصاة، فإن على المجتمع الإسلامي أن يحتضن هؤلاء إذا تابوا ورجعوا إلى الطهر والصواب وأصلحوا، ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجّة الفساد والانحراف.
12. هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضا ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة، فإذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإلهية يسقطان بسبب التوبة والإنابة، فإنّ من الأولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم، وهذا بنفسه جار في من نفذ فيه الحدّ الشرعي ثمّ تاب بعد ذلك، فإنّه يجب أن تشمله مغفرة المسلمين وعفوهم.
13. سؤال وإشكال: قد يتساءل البعض أحيانا: لماذا قرر الإسلام عقوبات صارمة، وأحكاما جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا: لماذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إحصان، ثمّ قرّر الحكم القتل والإعدام في شأنهما في ما بعد، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإسلام موقفا أكثر تسامحا ولينا تجاه هذه الأفعال، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟ والجواب: إنّ العقوبات الإسلامية وإن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة، إلّا أنّ إثبات الجريمة في الإسلام في المقام ليس سهلا، أيضا فقد عين الإسلام وحدد لإثبات الجريمة شروطا لا تثبت ـ في الأغلبـ إلّا إذا وقعت الجريمة علنا، فمثلا: تصعيد عدد الشهود في الزنا إلى الأربعة ـ كما في الآية الحاضرة ـ من الأمور الصعبة جدّا بحيث لا يثبت بها إلّا من كان مجرما جسورا جدّا، ولا شك أن مثل هؤلاء لا بدّ أن ينالوا عقابا ثقيلا وقاسيا ليعتبر بهم الآخرون، فتطهر بذلك البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها، وعدم الاكتفاء بالقرائن، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إثبات الجريمة أصعب جدّا، وبهذا الطريق جعل الإسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين، وهو احتمال مهما كان ضعيفا من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص، وكبح جماحهم، وأمّا الدقّة في كيفية إثبات هذه الجريمة، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد، وفي الحقيقة أراد الإسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفرادا كثيرين لعقوبة الإعدام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإسلامي في تعيين العقوبة وطريق إثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيرا ونجاحا في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأسلوب (السهل الممتنع)
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/148.
17. شروط قبول التوبة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈17⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 17 ـ 18]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، قال لا يقبل ذلك منه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠١.
الأشعري:
روي عن أبي موسى الأشعري (ت 44 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾ الآية، قال من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء، ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ قال في الحياة والصحة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، قال في الحياة، والصحة(2).
3. روي أنّه قال: أتاه رجل، فقال: يا أبا العباس، سمعت الله يقول: ﴿وَكَانَ اللهُ﴾، كأنه شيء كان! فقال ابن عباس أنّه قال: أما قوله: ﴿وَكَانَ اللهُ﴾ فإنه لم يزل، ولا يزال، وهو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، قال فليس لهذا عند الله توبة(4).
5. روي أنّه قال: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، قال أولئك أبعد من التوبة(5).
6. روي أنّه قال: ﴿عَذَابًا﴾، يقول: نكالا(6).
7. روي أنّه قال: ﴿أَلِيمًا﴾، قال كل شيء موجع(6).
8. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية، قال هذا الشرك(7).
9. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، قال القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت(2).
10. روي أنّه قال: في قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ الآية، قال فأنزل الله بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة(8)
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٨.
(2) ابن جرير ٦/٥١٢.
(3) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٩.
(4) ابن الجرير ٦/٥١٧.
(5) ابن جرير ٦/٥٢٠.
(6) ابن أبي حاتم ٣/٩٠١.
(7) ابن المنذر ٢/٦٠٨.
(8) ابن جرير ٦/٥١٩.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه روى عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر(1).
2. روي أنّه قال في الآية: لو غرغر بها ـ يعني: المشرك بالإسلام ـ لرجوت له خيرا كثيرا(2).
3. روي أنّه قال: ما من ذنب مما يعمل بين السماء والأرض، يتوب منه العبد قبل أن يموت؛ إلا تاب الله عليه(3).
__________
(1) أحمد ١٠/٣٠٠.
(2) عَبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٩.
(3) ابن المنذر ٢/٦٠٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة(1).
2. روي أنّه قال: في ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾ الآية، هذه للمؤمنين(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، هذه لأهل النفاق(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٧.
(2) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٧٩.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَكَانَ اللهُ﴾، فهو كذلك(1).
__________
(1) علَّقه ابن أبي حاتم ٣/٨٩٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ): أنّه قال في الآية: كل شيء قبل الموت فهو قريب، له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك(1).
__________
(1) سعيد بن منصور (٥٩٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قوله: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾، كل من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته(1).
2. روي أنّه قال في قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، من عمل ذنبا ـ سواء من شيخ أو شابـ فهو بجهالة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، الجهالة: العمد(2).
4. روي أنّه قال في قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، من عمل سوءا خطأ أو إثما أو عمدا فهو جاهل، حتى ينزع منه(3).
5. روي أنّه قال في قول الله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، ما أتى من خطأ أو عمد فهو جهالة(4).
6. روي أنّه قال: في قوله ـ عز وجل ـ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، كل شيء قبل الموت فهو قريب(5).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٧.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٧.
(3) ابن جرير ٦/٥٠٨.
(4) سفيان الثوري ص ٩٢.
(5) ابن المنذر ٢/٦٠٥.
أبو قلابة:
روي عن أبي قلابة (ت 104 هـ) أنّه قال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة، فأنظره إلى يوم الدين، فقال: وعزتك، لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، قال وعزتي، لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ١٣/١٨٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، الدنيا كلها جهالة(1).
2. روي أنّه قال في الآية: الدنيا كلها قريب، والمعاصي كلها جهالة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، قبل الموت(3).
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه ١٩/٤٣٦.
(2) ابن أبي شيبة ١٣/٥٧٠.
(3) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٣.
لاحق:
روي عن أبي مجلز لاحق بن حميد (ت 109 هـ) أنّه قال: لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥١٢.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾: يعني: التوبة التي يقبلها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، قال ما لم يغرغر(2).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٣.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٨٩٩.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (يا محمد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان)، قيل: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة)؟ فقال: (يا محمد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته)؟ قيل: فإن فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب ويستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله(1).
2. روي أنّه قال: من كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه فأصابته فتنة وكفر، ثم تاب بعد كفره، كتب له، وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره(2).
3. روي أنّه قال: من كان مؤمنا فحج وعمل في إيمانه ثم قد أصابته في إيمانه فتنة فكفر، ثم تاب وآمن، يحسب له كل عمل صالح عمله في إيمانه، ولا يبطل منه شيء(3).
4. روي أنّه قال: إذا بلغت النفس هذه ـ وأهوى بيده إلى حنجرته ـ لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة(4).
__________
(1) الكافي 2/315.
(2) الكافي 2/334.
(3) التهذيب 5/459.
(4) تفسير العيّاشي 1/228.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ بعمد.. ويقال بعمد وبغير عمد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾: كلّ شيء دون الموت؛ فهو قريب(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 116.
ابن قيس:
روي عن محمد بن قيس (ت 126 هـ) أنّه قال: القريب ما لم تنزل به آية من آيات الله، أو ينزل به الموت(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥١٢.
السدي:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، ما دام يعصي الله فهو جاهل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، والقريب قبل الموت، ما دام في صحته(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٨.
(2) ابن جرير ٦/٥١٢.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ نزلت الأولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين، يعني: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، والأخرى في الكفار، يعني: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾(1)، نرى رد قوله: (ونزلت الوسطى في المنافقين، يعني: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ لمعارضته لما ورد في القرآن الكريم من عمومات
__________
(1) ابن جرير ٦/٥١٨.
الكلبي:
روي عن محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) أنّه قال: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾: لم يجهل أنه ذنب، لكنه جهل عقوبته(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قول الله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾: لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير، إن الله لا يقبل من عبد عملا إلا ممن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، وما اشترط فيه على المؤمنين، وقال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ يعني كل ذنب عمله العبد وإن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، وقد قال فيه تبارك وتعالى يحكي قول يوسف لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله(1).
2. روي أنّه قال: إذا بلغت النفس ها هنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾(2).
3. روي أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ فقال: ذلك إذا عاين أحوال الآخرة(3).
4. روي أنّه قال في قول الله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ هو الفرار تاب حين لم تنفعه التوبة، ولم تقبل منه(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/228.
(2) الكافي 1/37.
(3) من لا يحضره الفقيه 1/79.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾ يعني: التجاوز على الله ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، فكل ذنب يعمله المؤمن فهو جهل منه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، يعني: الشرك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٣.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: ﴿عَلِيمًا﴾، أي: عليم بما تخفون، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٠.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: بلغنا في هذه الآية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، قال هم المسلمون، ألا ترى أنه قال: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾!؟(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥١٨.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في قول الله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، الجهالة؛ كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا، حتى ينزع عنها، وقرأ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: ٨٩]، وقرأ: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣]، قال من عصى الله فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٠٩.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال جل ذكره تأكيدا للبيان في وعيد أهل الصلاة، من أهل الذنب والآثام، والمتعدين لحدود الله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ الآية؛ فأخبر أن من حكمه: أن لا يعفوا إلا من بعد توبة.
2. ثم قال مؤكدا ومحذرا، وزاجرا ومنبها، وواعظا ومخوفا، وراحما وناظرا: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ الآية، فأخبر تعالى وعز: أنه لا يقبل التوبة عند الموت من الكافرين، ولا من الفاسقين من أهل الصلاة، فأزاح الشك في أمرهم: أنه لا يجوز أن يغفر لهم بعد الموت بلا توبة تكون منهم؛ لأنه لو كان ذلك مما يجوز في وصفه وحكمه ـ لقبل منهم التوبة عند الموت، التي بقبولها يكون الغفران، فلما ردها عند المعاينة ولم يقبلها ـ قطع عذر عباده الفهمين عنه، وحذرهم بعقابه تحذيرا: أن لا يؤخروا التوبة إلى وقت لا ينفعهم قبولها فيه، كما لم ينفع ذلك غيرهم من الكافرين، ولولا ما أحب من إعلامه، مع قطع عذرهم، والرحمة لهم ـ ما قرن رد توبتهم برد توبة الكافرين، وإنما أراد بذلك تعالى وعز: إزاحة الشك عنهم؛ لأنه لو جاز الشك في ذلك، وقد قرنه برد توبة الكافر ـ لجاز الشك في وعد الكافرين، وإن كان لم يقبل توبتهم عند الموت، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ [الزلزلة]، إلى آخر السورة، وقال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123]، وأكد للقاتل الخلد في النار، ثم أكد ذلك وبينه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾، إلى قوله: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [الفرقان: 71]؛ فأخبر أنه لا يغفر للكافرين، ولا لغيرهم من الزناة والقاتلين، إلا بالتوبة والعمل الصالح، فإذا كان لا يجوز ذلك في حكمه ـ فأنى لهم بالغفران في القيامة!؟ تعالى الله عما يدعيه أهل النقص والجهل والعمى، من إخلاف وعيده، علوا كبيرا.. ثم أكد ذلك بسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله، فقال: (إن التوبة مبسوطة دون أن يغرغر المرء بنفسه، ودون المعاينة)
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/212.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله عزّ وجل: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ﴾ كذا؛ أي: توفيق التوبة وهدايته على الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا كانت نفسه ترغب فيها، وتميل إليها على الله أن يوفقه على ذلك؛ إذا علم الله منه أنه يتوب.
ب. ويحتمل قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى أي: قبول التوبة على الله تعالى إذا تاب ورجع عما كان فيه وارتكبه.
2. في قوله ـ أيضا ـ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ لمن ذكر:
أ. يحتمل قبولها بمعنى أن الذي لا يسوّف التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن ركوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب، فالله يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته، وإن بلغ هو ذلك الضيق بأمر دفع إليه، أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به؛ فيترك الرجوع؛ لقلة مبالاته به، فلا يقبلها ممن هذا وصف توبته، وحال استخفافه بالذنب.
ب. الثاني: أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه ويبعثه على الرجوع إلى الله، والتعرض لرحمته وإحسانه، ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه.
ج. وقيل: الأول في الصغائر، والثاني في الكبائر، والثالث في الكفر: بأن صاحب الصغيرة أرق قلبا وأخص ذكرا له ورجوعا إلى ربه، وصاحب الكبيرة أقسى قلبا من الأول وأظلم، فهو لا يندم إلا بعد شدة، وبعد طول المحنة وضيق القلب، فليس على الله قبول توبة من يتوب في تلك الحال، ولا توبة من بان منه ما يأمله بالذي عليه قبول ذلك، ولكن بفضله وبرحمته يقبل ويوفق له بما كان منه من الخيرات والحسنات التي هنّ أسباب التقريب إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والكافر لا يقبلها؛ إذ هو لا يتوب حتى يموت؛ فيستيقن بالعذاب
د. ويحتمل أن تكون هذه الأجرة في الكفار؛ فيكون فيهم من يظهر التوبة عند الضرورة والدفع إلى الحال التي يزول عنه وسع الإمكان، ويأنس من الإمهال؛ ليصل إلى ما كان له يذنب، فالله لا يقبل توبته؛ إذ ليست في الحقيقة توبة ممكّن، بل توبة مضطر، وتوبة دفع ما حل به، إذ هو وقت يشغل عن الاستدلال، وعن الوقوف على الأسباب من جهة التأمّل والنظر، ولا يرى غير الذي أقبل عليه يظن أن له الخلاص بالذي يبدّل
3. قوله عزّ وجل: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ هذا ـ أيضا ـ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل جهل الفعل؛ فيقع فيه من غير قصد.
ب. ويحتمل: قصد الفعل، والجهل بموقع الفعل.
4. العمل بجهالة يخرّج على وجوه:
أ. يكون عن غلبة: تغلب عليه شهوته؛ فيعمل ذلك العمل على طمع منه أنه سيتوب من بعد، ويصير رجلا صالحا؛ على ما فعل إخوة يوسف، حيث قالوا: ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ [يوسف: 9] ثم سماهم جهلة بذلك في آية أخرى، حيث قال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: 89]
ب. ويحتمل العمل بالجهالة: هو أن يعمل على طمع المغفرة، ويتكل على رحمة الله وكرمه.
ج. ويحتمل العمل بالجهالة: جهالة عقوبة عمله على ذلك.
5. الخطأ والنسيان على وجهين:
أ. خطأ الفعل: وهو الذي ليس بصواب ولا رشد.
ب. وخطأ القصد عمد الفعل: وهو الذي قصد أحدا فأصاب غيره.
6. النسيان على وجهين ـ أيضا ـ: نسيان ترك: وهو الذي يجوز أن يضاف إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بحال؛ كذلك الجهالة والأصل في الشيء المنسي أنه متروك، فسمي المتروك من الرحمة والكرامة منسيّا؛ فتجوز الإضافة إلى الله تعالى من هذا الوجه.
7. قيل: نزل قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ الآية ـ في المؤمنين.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى آخر الآية:
أ. قيل: في الكافرين.
ب. وقيل: إنهما جميعا في المؤمنين، والثالثة في الكفار.
ج. وقيل: إن الأولى في المؤمنين، والثانية في المنافقين، والثالثة: في الكفار، روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من تاب قبل أن تغرغر نفسه ويعاين الملائكة قبل الله توبته)، والأصل في هذا أن توبة الكافر تقبل إذا كان توبته توبة اختيار، وأمّا إذا كانت توبته توبة اضطرار ودفع فإنها لا تقبل أبدا؛ كقوله: ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام: 158] إذا كان إيمانه إيمان دفع واضطرار عند معاينة العذاب فإنه لا يقبل أبدا، وهو ـ أيضا ـ كإيمان فرعون، حيث قال ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ الآية [يونس: 90] لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان دفع واضطرار؛ فعلى ذلك كل إيمان كان إيمان دفع واضطرار فإنه لا يقبل أبدا، وكقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [غافر: 84]، وقيل: قوله عزّ وجل: ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ توبة تشريط، فلم تقبل؛ لأنه لم يقطع القول فيه قطعا.
د. وقيل: في قوله عزّ وجل: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ هم الذين يتوبون عند معاينتهم الموت؛ أخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ لأنهم يتوبون توبة دفع واضطرار.
9. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ لا تقبل توبتهم، لأنهم يتوبون في الآخرة؛ دفع العذاب عن أنفسهم؛ كقوله تعالى: ﴿مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام: 148] و﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/79.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ لأنه لا يعصي إلا وهو جاهل بما يصير إليه من العذاب والعقاب بعصيانه ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾ في صحتهم قبل موتهم ومرضهم.
2. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وهذه الآية نزلت في عصاة أهل القبلة فسوى بين من لم يتب حتى مات وبين من تاب عند حضور الموت.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/169.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في المراد بالجهالة على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أن كل ذنب أصابه الإنسان فهو بجهالة، وكل عاص عصى فهو جاهل، وهو قول أبي العالية.
ب. الثاني: يريد يعملون ذلك عمدا، والجهالة العمد، وهو قول الضحاك، ومجاهد.
ج. الثالث: الجهالة عمل السوء في الدنيا، وهو قول عكرمة.
2. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: ثم يتوبون في صحتهم قبل موتهم، وقبل مرضهم، وهذا قول ابن عباس، والسدي.
ب. الثاني: قبل معاينة ملك الموت، وهو قول الضحاك، وأبي مجلز.
ج. الثالث: قبل الموت، قال عكرمة: الدنيا كلها قريب، وقد روى قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: وهو قول الجمهور أنها نزلت في عصاة المسلمين.
ب. الثاني: أنها نزلت في المنافقين، وهو قول الربيع، فسوّى بين من لم يتب حتى مات، وبين من تاب عند حضور الموت وهي [حالة] يعرفها من حضرها.
ج. ويحتمل أن يكون عند المعاينة في حال يعلم بها وإن منع من الإخبار بها.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/464.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. التوبة هي الندم على القبيح مع العزم على ألا يعود إلى مثله في القبح، وفي الناس من قال يكفي الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على ألا يعود إلى مثله، والاول أقوى، لإجماع الأمة على أنها إذا حصلت على ذلك الوجه أسقطت العقاب، وإذا حصلت على الوجه الثاني ففي سقوط العقاب عنها خلاف، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن التوبة إنما يقبلها ممن يعمل السوء بجهالة.
2. قيل في معنى بجهالة أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال مجاهد، وقتادة، وابن عباس، وعطاء وابن زيد: هو أن يفعلوها على جهة المعصية لله تعالى، لأن كل معصية لها جهالة، لأنه يدعو اليها الجهل، ويزينها للعبد، وإن كانت عمدا.
ب. الثاني: بجهالة، أي بحال كحال الجهالة، التي لا يعلم صاحبها ما عليه في مثلها من المضرة.
ج. الثالث: قال الفراء: معني (بجهالة) أي لا يعلمون كله ما فيه من العقوبة، كما يعلم الشيء ضرورة.
د. الرابع: (بجهالة) أي وهم يجهلون أنها ذنوب ومعاصي، اختاره الجبائي، قال يفعلونها بجهالة إما بتأويل يخطئون فيه، أو بان يفرطوا في الاستدلال على قبحها، قال الرماني: هذا ضعيف، لأنه تأويل بخلاف ما أجمع عليه المفسرون، قال أبو العالية: إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فبجهالة، وقال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، وأيضاً فإنه يوجب أن من علم أنها ذنوب أن لا يكون له توبة، لأن قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ يفيد أنه لهؤلاء دون غيرهم.
3. ظاهر الآية يدل على أن الله يقبل التوبة من جميع المعاصي كفراً كان أو قتلا أو غيرهما من المعاصي، ويقربه أيضاً قوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ إلى قوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ فاستثنى من القتل، كما استثنى من الزنا والشرك، وحكي عن الحسن أنه قال لا يقبل الله توبة القاتل، وروي أنه إنما قال ذلك لرجل كان عزم على قتل رجل على أن يتوب فيما بعد، فأراد صده عن ذلك.
4. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ بعد قوله ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ معناه إن الله يقبل توبتهم إذا تابوا وأتابوا.
5. ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ حث على أن التوبة يجب أن تكون عقيب المعصية، خوفا من الاخترام، وليس المراد بذلك أنها لو تأخرت لما قبلت:
أ. وقال الزجاج: معناه ثم يتوبون قبل الموت، لأن ما بين الإنسان وبين الموت قريب، والتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت.
ب. وقال الحسن، والضحاك، وابن عمر: القريب ما لم يعاين الموت.
ج. وقال علي عليه السلام، وقد قيل له: فان عاد؟ قال يغفر الله له ويتوب، مراراً، قيل: إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور.
د. وقال السدي، وابن عباس: في حال الصحة قبل الموت.
6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ معناه هاهنا: وكان الله عليما بتوبتهم إن تابوا، وإصرارهم إن أصروا، حكيما في مؤاخذتهم إن لم يتوبوا، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك، لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده، فقال الله: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر.
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يقبل التوبة من الذي يعمل المعاصي حتى إذا حضره الموت قال إني تبت الآن، وأجمع أهل التأويل على أن الآية تناولت عصاة أهل الصلاة، إلا ما حكي عن الربيع أنه قال إنها في المنافقين، وهذا غلط لأن المنافقين كفار، وقد بين الله الكفار بقوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وقال الربيع أيضاً: إن الآية منسوخة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وهذا خطأ لأن النسخ لا يدخل في الخبر الذي يجري هذا المجري.
8. من جوز العفو بلا توبة يمكنه أن يقول: إن التوبة التي وعد الله بإسقاط العقاب عندها قطعا متى حصلت في هذا الوقت لا يسقط العقاب، ولا يمنع ذلك من أن يتفضل الله بإسقاط العقاب ابتداء بلا توبة، كما لو خرج من دار الدنيا من غير توبة أصلا، لم يمنع ذلك من جواز العفو عنه، فليس في الآية ما ينافي القول بجواز العفو من غير توبة.
9. قال جميع المفسرين، كابن عباس، وابن عمر، وابراهيم، وابن زيد، وغيرهم: إن الذين يحتضرون لا تقبل لهم توبة، غير إن الذين يحضرون الميت لا يعرفون تلك الحال معرفة يمكن بها الاشارة إليها.
10. سؤال وإشكال: لم لم تقبل التوبة في الآخرة؟ والجواب: لرفع التكليف، وحصول الالجاء إلى فعل الحسن دون القبيح، والملجأ لا يستحق بفعله ثواباً ولا عقابا، لأنه يجري مجرى الاضطرار، وحكي الرماني عن قوم أنهم قالوا بتكليف أهل الآخرة، وان التوبة إنما لم يجب قبولها، لأن صاحبها هناك في مثل حال المتعوذ بها، لا المخلص فيها وهذا خطأ، لأن الله تعالى يعلم أسرارهم كما يعلم إعلانهم.
11. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ معناه أعددنا، وقال قوم: التاء بدل من الدال، وقال آخرون هو أفعلنا من العتاد، ومعناه أعددنا، وعتاد الرجل: عدته، وهو الأصل، والشيء العتيد هو المعد، والعتيدة: طلبة معدة للطيب، ومعنى إعداد العذاب لهم، إنما هو بخلق النار التي هي مصيرهم، والأليم بمعنى المؤلم.
12. ليس في الآية ما يمنع من جواز العفو عن مرتكبي الكبائر بلا توبة، لأن قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾:
أ. يحتمل أن يكون راجعاً إلى الكفار لأنه جرى ذكر الكفار وهم أقرب إلى أولئك من ذكر الفساق.
ب. ويحتمل أن يكون التقدير: أعتدنا لهم عذاباً، إن لم نشأ العفو عنهم، وتكون الفائدة فيه إعلامهم ما يستحقونه من العذاب، وألا يأمنوا أن يفعل بهم ذلك، وإن كان تعالى يعلم هل يعفو أو لا يعفو.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/146.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الجهالة أصله من الجهل، وهو اعتقاد الشيء على ما ليس به.
ب. أصل التوبة الرجوع، وسمي بذلك لأنه رجوع إلى الندم، والتوبة: الندم على ما فات والعزم على ألا يعود إلى أمثاله.
ج. أصل أَعْتَدنا: أعددنا، وقيل: التاء بدل من الدال، وقيل: هو فعلنا من العتاد، ومعناه أعددنا، وعتاد الرجل عُدَّتُهُ، وهو الأصل، والشيء العتيد: المُعَدُّ لأمرٍ.
2. قيل: أول الآيات نزلت في المؤمنين، ووسطها في المنافقين، وآخرها في الكفار الَّذِينَ يموتون على كفرهم مصرين.
3. لما بين الله تعالى أنه تواب رحيم ترغيبا في التوبة بَيَّنَ شرائط التوبة ليعلم أن رحمته لمن تاب بشرائطه، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ يعني التوبة المقبولة، و﴿إِنَّمَا﴾ فيه نفي وإثبات أي لا توبة إلا لمن صفته كذا ﴿عَلَى اللهِ﴾:
قيل ﴿عَلَى﴾ بمعنى ﴿عِنْدَ﴾، يعني التوبة المقبولة عند الله.
وقيل: إن قبول التوبة إنما يجب على الله لمن تاب كما في الآية.
4. ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ يعني المعاصي ﴿بِجَهَالَةٍ﴾:
أ. قيل: على جهة المعصية لله؛ لأن كل معصية له جهالة عن مجاهد وقتادة والضحاك؛ لأن الجهل بعاقبتها يدعو إليها.
ب. وقيل: بحال كحال الجهالة التي لا يعلم صاحبها ما عليه في فعلها من المضرة.
ج. وقيل: لا يعلم كنه ما فيه من العقوبة، فلم يجهل الذنب ولكن جهل العقوبة عن الكلبي، والمراد به كل المعاصي، قال أبو العالية: أجمعت الصحابة أن كل شيء عصى به ربه فهو جهالة، وروي نحوه عن قتادة.
د. وقيل: بجهالة لاختيارهم اللذة الفانية على الباقية عن الزجاج.
هـ. وقيل: يجهلون أنها ذنوب إما بتأويل أو بترك النظر، فلا يعلمون أنها معصية عن أبي علي.
5. ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾ أي يرجعون نادمين ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾:
أ. قيل: قبل أن تحيط السيئات بحسناته فتحبطها.
ب. وقيل: القريب في الصحة قبل المرض والموت عن السدي.
ج. وقيل: ما قبل نزول الموت بهم هو قريب عن عكرمة وابن زيد وأبي علي.
د. وقيل: قبل معاينة ملك الموت عن الضحاك، وهو أن يعاين فيبشر بما أعد له.
هـ. وقيل: من قريب: قبل الموت كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: من تاب قبل أن يغرغر بروحه قَبِلَ الله توبته)
و. وقيل: إلى الذنب يعني لا يصرون على الذنب كقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا﴾
6. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ يقبل توبتهم ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فيغفر للتائب بتوبته وبرحمته فيدخل جنته.
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ يعني التوبة المقبولة التي تنفع صاحبها ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ المعاصي، وهم عصاة أهل الصلاة عند أكثر أهل العلم، وعن الربيع أنهم المنافقون ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ يعني أسباب الموت من معاينة ملك الموت والعلم به ضرورة ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ ندمت الآن، وهي حال الإلجاء ﴿وَلَا الَّذِينَ﴾ يعني لا تقبل توبة الَّذِينَ ﴿يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ ثم يندمون بعد الموت ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من تقدم ذكره في هذه الآية ﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ هيأنا ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ موجعًا.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن من شرط التوبة بقاء التكليف؛ ليكون للمكلف طريقًا إلى الخلاص، وإذا عاين زوال التكليف لم تصح التوبة.
ب. أنه لو صح لما دخل أحد النار.
ج. أن التوبة من العبد، وأنه يقبل التوبة وهو تواب، فمن جهة العبد الندم وهو غم وأسف، وذلك لا يجوز على الله، ومن جهته قبول التوبة، ويجوز أن يقال: إنه تواب أي يتوب على عباده بالأمر بها واللطف في فعلها.
د. أنه لا بد أن يندم لقبحها لا لوجه آخر؛ لأنه عند الإلجاء لَمَّا كان لوجه آخر لم تقبل، كذلك سائر الوجوه.
هـ. وعيد أهل الصلاة؛ لأن الكلام عام ولأنه عطف عليه الكفار.
و. وجوب المبادرة للتوبة من حيث لا يأمن كُلَّ وقت فوتها.
ز. قبول توبة القاتل لعمومه، ولأن الكفر أعظم من القتل.
ح. أن المحتضر لا تقبل توبته، وهو قول جماعة من أهل العلم عن ابن عباس وابن عمر وإبراهيم وغيرهم، وقال الربيع: نسخت هذه الآية بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وهذا لا يصح؛ لأنه لا تنافي بين الآيتين، ولأنه خبر فلا يدخله النسخ.
ط. أن التوبة وعمل السوء فِعْلُ العبد؛ لذلك توجه عليه المدح والذم، فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
9. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ خفض؛ لأنه عطف على قوله: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) تقديره: ولا الَّذِينَ يموتون.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/565
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل التوبة: الرجوع، وحقيقتها الندم على القبيح، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، وقيل: يكفي في حدها الندم على القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله.
ب. ﴿أَعْتَدْنَا﴾ قيل إن أصله أعددنا، فالتاء بدل من الدال، وقيل: هو أفعلنا من العتاد، وهو العدة، قال عدي بن الرقاع:
çتأتيه أسلاب الأعزة عنوة...قسرا ويجمع للحروب عتادهاé
يقال للفرس المعد للحرب: عتد وعتد
2. لما وصف تعالى نفسه بالتواب الرحيم، بين عقيبه شرائط التوبة، فقال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ ولفظة ﴿إِنَّمَا﴾ يتضمن النفي والإثبات، فمعناه لا توبة مقبولة ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: أي عند الله إلا ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ على وجوه:
أ. أحدها: إن كل معصية يفعلها العبد جهالة، وإن كان على سبيل العمد، لأنه يدعو إليها الجهل، ويزينها للعبد، عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنه قال: (كل ذنب عمله العبد، وإن كان عالما، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه)، فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.
ب. ثانيها: إن معنى قوله ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أنهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة، كما يعلم الشئ ضرورة، عن الفراء.
ج. ثالثها: إن معناه أنهم يجهلون أنها ذنوب ومعاص، فيفعلونها إما بتأويل يخطئون فيه، وإما بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها، عن الجبائي،وضعف الرماني هذا القول لأنه بخلاف ما اجمع عليه المفسرون، ولأنه يوجب أن لا يكون لمن علم أنها ذنوب توبة، لأن قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ تفيد أنها لهؤلاء دون غيرهم،وقال أبو العالية وقتادة: (أجمعت الصحابة على أن كل ذنب أصابه العبد فهو جهالة)، وقال الزجاج: (إنما قال الجهالة، لأنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية جهال، فهو جهل في الاختيار)
4. معنى ﴿يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾: أي يتوبون قبل الموت، لان ما بين الانسان وبين الموت قريب، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت:
أ. وقال الحسن، والضحاك، وابن عمر: (القريب ما لم يعاين الموت)،وقال السدي: (هو ما دام في الصحة قبل المرض والموت)
ب. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قيل له: فإن عاد وتاب مرارا؟ قال: يغفر الله له، قيل: إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المسحور.
ج. وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخر خطبة خطبها: (من تاب قبل موته بسنة، تاب الله عليه) ثم قال: (وإن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه) ثم قال: (وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه) ثم قال: (وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة، تاب الله عليه) ثم قال: (وإن الساعة لكثيرة، من تاب قبل موته، وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ تاب الله عليه)، وروى الثعلبي بإسناده، عن عبادة بن الصامت، عن النبي هذا الخبر بعينه، إلا أنه قال في آخره: (وإن الساعة لكثيرة، من تاب قبل أن يغرغر بها، تاب الله عليه)
د. وروى أيضا بإسناده عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لما هبط إبليس، قال: وعزتك وجلالتك وعظمتك، لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده! فقال الله سبحانه: وعزتي وعظمتي وجلالي، لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها)
5. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: أي يقبل توبتهم، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بمصالح العباد، ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يعاملهم به، ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾: التوبة المقبولة التي ينتفع بها صاحبها، ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾: أي المعاصي، ويصرون عليها، ويسوفون التوبة.
6. ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾: أي أسباب الموت من معاينة ملك الموت، وانقطع الرجاء عن الحياة، وهو حال اليأس التي لا يعلمها أحد غير المحتضر، ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾: أي فليس عند ذلك اليأس التوبة، وأجمع أهل التأويل على أن هذه قد تناولت عصاة أهل الاسلام، إلا ما روي عن الربيع أنه قال: إنها في المنافقين، وهذا لا يصح، لان المنافقين من جملة الكفار، وقد بين الكفار بقوله ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾: ومعناه وليست التوبة أيضا للذين يموتون على الكفر، ثم يندمون بعد الموت.
7. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا﴾: أي هيأنا ﴿لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾: أي موجعا،وإنما لم يقبل الله تعالى التوبة في حال اليأس، واليأس من الحياة، لأنه يكون العبد هناك ملجأ إلى فعل الحسنات، وترك القبائح، فيكون خارجا عن حد التكليف، إذ لا يستحق على فعله المدح ولا الذم، وإذ زال عنه التكليف، لم تصح منه التوبة، ولهذا لم يكن أهل الآخرة مكلفين، ولا تقبل توبتهم.
8. من استدل بظاهر قوله تعالى: ﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين، قبل التوبة، فالانفصال عن استدلاله أن يقال:
أ. إن معنى إعداد العذاب لهم، إنما هو خلق النار التي هي مصيرهم، فالظاهر يقتضي استيجابهم لدخولها، وليس في الآية أن الله يفعل بهم ما يستحقونه لا محالة.
ب. ويحتمل أيضا أن يكون ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار، لأنه أقرب إليه من قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾
ج. ويحتمل أيضا أن يكون التقدير اعتدنا لهم العذاب إن عاملناهم بالعدل، ولم نشأ العفو عنهم، وتكون الفائدة فيه إعلامهم ما يستحقونه من العقاب، وأن لا يأمنوا من أن يفعل بهم ذلك، فإن قوله ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لا تتناول المشيئة فيه إلا المؤمنين من أهل الكبائر، الذين يموتون قبل التوبة، لان المؤمن المطيع، خارج عن هذه الجملة، وكذلك التائب، إذ لا خلاف في أن الله لا يعذب أهل الطاعات من المؤمنين، ولا التائبين من المعصية، والكافر خارج أيضا عن المشيئة، لإخبار الله تعالى أنه لا يغفر الكفر، فلم يبق تحت المشيئة إلا من مات مؤمنا موحدا، وقد ارتكب كبيرة لم يتب منها.
9. قال الربيع: إن الآية منسوخة بقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ لأنه حكم من الله، والنسخ جائز في الاحكام، كما جاز في الأوامر والنواهي، وإنما يمتنع النسخ في الإخبار بأن يقول: كان كذا وكذا، ثم يقول: لم يكن، أو يقول: في المستقبل لا يكون كذا، ثم يقول: يكون كذا، وهذا لا يصح، لان قوله ﴿أَعْتَدْنَا﴾ وارد مورد الخبر، فلا يجوز النسخ فيه، كما لا يجوز في سائر الأخبار.
10. موضع ﴿الَّذِينَ يَمُوتُونَ﴾ جر بكونه عطفا على قوله ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ وتقديره: ولا للذين يموتون.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/36.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ قال الحسن: إنما التوبة التي يقبلها الله، فأما (السّوء)، فهو المعاصي، سمّي سوءا لسوء عاقبته.
2. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ قال مجاهد: كلّ عاص فهو جاهل حين معصيته، وقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسّدّي في آخرين: إنما سمّوا جهّالا لمعاصيهم، لا أنهم غير مميّزين، وقال الزجّاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان كمن لم يوقع سوءا، وإنما يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه.
ب. الثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسمّوا جهّالا، لإيثارهم القليل على الرّاحة الكثيرة، والعاقبة الدّائمة.
3. في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه التّوبة في الصّحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السّدّيّ، وابن السّائب.
ب. الثاني: أنه التّوبة قبل معاينة ملك الموت، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال أبو مجلز.
ج. الثالث: أنه التّوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين.
4. في السيئات في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: الشّرك، قاله ابن عباس، وعكرمة.
ب. الثاني: أنها النّفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير.
ج. الثالث: أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثّوريّ، واحتجّ بقوله تعالى: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾
5. في الحضور في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه السّوق، قاله ابن عمر.
ب. الثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الرّوح، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
6. وقد روى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال أنزل الله تعالى بعد هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، فحرّم المغفرة على من مات مشركا، وأرجا أهل التّوحيد إلى مشيئته، فعلى هذا تكون منسوخة في حقّ المؤمنين.
__________
(1) زاد المسير: 1/384.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الأذى عنهما، وأخبر على الإطلاق أيضا أنه تواب رحيم، ذكر وقت التوبة وشرطها، ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة.
1. حقيقة التوبة ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَالتَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة: 54] واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين:
أ. الأول: ان كلمة (على) للوجوب فقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ﴾ يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها.
ب. الثاني: لو حملنا قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع، أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار.
2. القول بالوجوب على الله باطل، ويدل عليه وجوه:
أ. الأول: أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك، فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى، أو غير ممتنعة في حقه، والأول باطل، لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم، وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى، وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت، فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار وذلك باطل، وأما إن كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى، فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال، فيلزم جواز أن يكون الإله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل.
ب. الثاني: أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون على السوية، أو لا يكون على السوية، فإن كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح، ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع، وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته، فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده، وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى، فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول، وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم، وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا.
ج. الثالث: التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل، والندم والعزم من باب الكراهات والإرادات، والكراهة والإرادة لا يحصلان باختيار العبد، وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل، وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى، وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر، فثبت أن القول بالوجوب باطل.
د. الرابع: أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم، فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثرا في ذات الله وفي صفاته، وذلك لا يقوله عاقل.
هـ. فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين، فإذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب، فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة (على) وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ وبين قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾
3. سؤال وإشكال: فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع، فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا، والجواب: الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع، والوقوع تبع للإيقاع، والتبع لا يغير الأصل، فكان فاعلا مختارا في ذلك الإيقاع، أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى، وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق.
4. شرط الله تعالى قبول هذه التوبة بشرطين:
أ. أحدهما: قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، ومن الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة:
• الأول: قال المفسرون: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33] وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: 89] وقال تعالى: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: 46]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67] وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: يا جاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الإنسان مع العلم بكونها معصية أو مع الجهل بذلك.
• الثاني: في تفسير الجهالة: أن يأتي الإنسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الإنسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فإنه يصح أن يقال على سبيل المجاز: انه جاهل بفعله.
• الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الإنسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية، فإنه على هذا التقدير يستحق العقاب، ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب، وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية، إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب، ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي، فإنه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا، وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز، وفي هذا الوجه على الحقيقة، إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه، أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية، وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى، فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة.
الثاني: هو قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه:
• أحدها: أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب.
• ثانيها: للتنبيه على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فإنها محفوفة بطرفي الأزل والأبد، فإذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم.
• ثالثها: أن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب.
5. سؤال وإشكال: من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا، لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة، فعلى هذا: الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم إلى التوبة، والجواب: أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها.
6. سؤال وإشكال: كلمة (إنما) للحصر، فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة، وذلك بالإجماع باطل، والجواب: من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية، وإذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم، وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول التوبة، فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى.
7. سؤال وإشكال: ما معنى (من) في قوله: ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾؟ والجواب:
أ. قيل: إنه لابتداء الغاية، أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين، فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فإنه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم قبول التوبة على الله بقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ وبقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فإنه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة (عسى) في قوله: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 102] ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى.
ب. وقيل: معناه التبعيض، أي يتوبون بعض زمان قريب، كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
8. ثم لما ذكر الله تعالى هذين الشرطين قال: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، وفائدة قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ بعد قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ إعلام بأنه يجب على الله قبولها، وجوب الكرم والفضل والإحسان، لا وجوب الاستحقاق، وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ إخبار بأنه سيفعل ذلك.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ يعني إنما الهداية إلى التوبة والإرشاد إليها والإعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الإصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها، ثم قال: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه، فالمراد بالأول التوفيق على التوبة، وبالثاني قبول التوبة.
9. ثم قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه، حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك، ثم إنه تاب عنها من قريب فإنه يجب في الكرم قبول توبته.
10. ثم لما ذكر الله تعالى شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة، فقال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، والآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة، والذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه:
أ. الأول: هذه الآية وهي صريحة في المطلوب.
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 85]
ج. الثالث: قال في صفة فرعون: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90، 91] فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب، ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا.
د. الرابع: قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَقائِلُها﴾ [المؤمنون: 99، 100]
هـ. الخامس: قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ [المنافقون: 10، 11] فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت.
و. السادس: روى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي ما لم تتردد الروح في حلقه، وعن عطاء: ولو قبل موته بفواق الناقة، وعن الحسن: أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر.
11. ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ [النساء: 18] أي علامات نزول الموت وقربه، وهو كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 180]، قال المحققون: قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه:
أ. الأول: أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بنى إسرائيل، ومثل أولاد أيوب عليه السلام، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الأحياء، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف.
ب. الثاني: أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها، فإذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد.
ج. الثالث: أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62] فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سببا لعدم قبول التوبة، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق، لا يجوز أن يكون مانعا من قبول التوبة، ونقول: المانع من قبول التوبة أن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب، لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار، لا تكون مقبولة.
12. هاهنا بحث عميق أصولي، وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال، وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا، لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ وبتقدير أن يقال: هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الأحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري، وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله، فهذا أيضا استدلالي، فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك، فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان ضروريا منع من صحة التكليف، وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم، وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه، وإذا كان الأمر كذلك، فلم قالوا: بأن هذا يوجب زوال التكليف وأيضا: فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا، فإذا صار ضروريا سقط التكليف: كلام ضعيف، لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه، فهذا يكون ظنا لا علما، وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما، امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه، وعلى هذا التقدير لا يبقى ألبتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا، والمردود مقبولا ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]
13. ذكر الله تعالى قسمين، فقال في القسم الأول: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: 17] وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب، وقال في القسم الثاني: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ فهذا جزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث: وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم، ولم يجزم برد توبتهم، فلما كان القسم الأول: هم الذين يعملون السوء بجهالة، والقسم الثاني: هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس، وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين: هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد، ثم يتوبون، فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم، وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم، بل تركهم في المشيئة، كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
14. لما بين الله تعالى أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ﴾، وفيه وجهان:
أ. الأول: معناه الذين قرب موتهم، والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت.
ب. الثاني: المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم.
15. تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين:
أ. الأول: قالوا إنه تعالى قال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار، ثم إنه تعالى قال في حق الكل: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق.
ب. الثاني: أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة، فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الأعلام معنى.
16. الجواب على ما ذكره الوعيدية: أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81] وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة، ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات، ثم نقول:
أ. الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات من قوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ هو قوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فلم لا يجوز أن يكون قوله: ﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ عائدا إلى الكفار فقط، وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة، ثم ذكر الكافرين بعد ذلك، فبين أن إيمانهم عند الموت غير مقبول، ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق، فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ مختصا بالكافرين، بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال.
ب. أما الوجه الثاني: مما عولوا عليه: فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة، وإذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة، وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] على أن هذا تمسك بدليل الخطاب، والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم.
17. عطف الله تعالى على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت، الكفار، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر، ويبطل به قول الخوارج: إن الفاسق كافر، ولا يمكن أن يقال: المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1]
18. أعتدنا: أي أعددنا وهيأنا، ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]، احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده، وقوله: ﴿أَعْتَدْنَا﴾ إخبار عن الماضي، فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/6.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾:
أ. قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا.
ب. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر.
2. اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون﴾، وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه ـ خلافا للمعتزلة ـ ومن وافقهم ـ في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية ـ هذا مذهب أهل السنة، وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها، وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف، لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شي عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾، وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾ فإخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء، والعقيدة أنه لا يجب عليه شي عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب:
3. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة، قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه تعالى، قال ابن عطية: وكان أبي يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾
4. إذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله ﴿عَلَى اللهِ﴾ حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده، وهذا نحو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمعاذ: (أتدري ما حق العباد على الله)؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: (أن يدخلهم الجنة)، فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق، دليله قوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ أي وعد بها، وقيل: ﴿عَلَى﴾ ها هنا معناها ﴿عِنْدَ﴾ والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره، فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة، وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدم في آل عمران كثير من معاني التوبة وأحكامها، ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا، ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود، وقيل: ﴿عَلَى﴾ بمعنى ﴿مِنَ﴾ أي إنما التوبة من الله للذين، قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم، وسيأتي في التحريم) الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها.
5. ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ السوء في هذه الآية، والْأَنْعَامُ ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ يعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي، وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله، وهذا القول جار مع قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، وقال الزجاج: يعني قوله ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أي لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك، قال ابن عطية: وضعف قوله هذا ورد عليه.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾:
أ. قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت، وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب، وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
çقدم لنفسك توبة مرجوة...قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها...ذخر وغنم للمنيب المحسنé
قال علماؤنا: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت، لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل، وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، قال: هذا حديث حسن غريب، ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به، قاله الهروي.
ب. وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادر في الصحة أفضل، وألحق لأمله من العمل الصالح، والبعد كل البعد الموت، كما قال: وأين مكان البعد إلا مكانيا وروى صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به، وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده، قال الله تعالى: (فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه)
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين، وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وهو الخلود، وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه، وهذا على أن السيئات ما دون الكفر، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة.
8. وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار، وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾، الثانية في المنافقين، ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم، ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت، ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ فليس لهذا توبة، ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي وجيعا دائما، وقد تقدم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/91.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، وقوله: ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالا عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي؛ وقيل: المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده؛ وقيل: المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين؛ وقيل: على، هنا: بمعنى عند؛ وقيل: بمعنى من.
2. وقد اتفقت الأمة: على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: ﴿وتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ وذهب الجمهور؛ إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة؛ وقيل: إن قوله: ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ هو الخبر، وقوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالا، والسوء هنا: العمل السيئ، وقوله: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالا، أي: يعملونها متصفين بالجهالة، أو جاهلين، وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا، وحكي عن الضحاك ومجاهد: أن الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ وقال الزجاج: معناه: بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية؛ وقيل: معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك، وضعفه ابن عطية.
3. ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ معناه: قبل أن يحضرهم الموت، كما يدل عليه قوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ وبه قال أبو مجلز، والضحاك، وعكرمة، وغيرهم، والمراد: قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه، و(من) في قوله: ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ للتبعيض، أي: يتوبون بعد زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت؛ وقيل: معناه: قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد، والترمذي، وحسنه، وابن ماجة، والحاكم، وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وقيل: معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار.
4. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم، بعد بيانه: أن التوبة لهم مقصورة عليهم، وقوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب قوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ حتى: حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها: غاية لما قبلها، وحضور الموت: حضور علاماته، وبلوغ المريض إلى حالة السياق، ومصيرة مغلوبا على نفسه، مشغولا بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي، وقوله: ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ أي: وقت حضور الموت.
5. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ معطوف على الموصول في قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أي: ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار، مع أنه لا توبة لهم رأسا، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/505.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾ أي: من الله، متعلِّق بـ (التَّوْبَة)، والخبر هو قوله: ﴿لِلَّذِينَ﴾، أي: ما هي إلَّا للذين، وإن جعلنا الخبر (عَلَى اللهِ) صحَّ الحصر أيضا؛ لأنَّ الحصر بـ (إِنَّمَا) يكون لآخر الكلام بعدُ، أي: ما هي إِلَّا مِن الله، فيقدِّر: هي للذين، إن جعلناهما خبرين صحَّ الحصر فيهما معًا، كأنَّه قيل: ما التوبة إلَّا على الله وما هي إلَّا للذين،،، نحو: ما زيد إلَّا جواد شجاع، أي: الجود والشجاعة دائمان فيه.
2. ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ سفه، قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أنَّ كلَّ ما عُصيَ اللهُ به فهو جهالة، ولو مع علم، وإنَّ كلَّ مَن عَصَى الله فهو جاهل ولو عالمًا، قال الله تعالى : ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]، ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذَ اَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾ [يوسف: 89]، ﴿اِنِّيَ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: 46]، ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنَ اَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67]، أو ذلك تشبيه بمن لم يعلم إذ خالف.
3. ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ في بعض زمان قريب، وهو ما قبل المعاينة، ولو طال، ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ [النساء: 77]، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ)، وقال الله سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَانَ﴾ [النساء: 18]، زعم أهل التصوُّف والمعاملة أنَّه هو ما قبل أن تتعوَّد النفس السوء، ويكون لها كالطبيعة، فيتعذَّر الرجوع، وليس مرادهم منع القبول بل البُعد.
4. ﴿فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ وفاء بوعده في قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ﴾ فإنَّه وعد وقضاء وهو إنجاز، فلا تكرير، ومعنى (عَلَى) هنالك: الوقوع لا محالة، تشبيهٌ بالوجوب، فإنَّه لا يُخلِف الوعد ولا الوعيد، ولا واجب عليه، ﴿وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فمن شأنه أنَّه عالم بإخلاصهم، ومن شأن الحكيم أنَّه لا يعاقب التائب، أو إِلَّا بيسير يكون له تمحيصًا أو استصلاحًا.
5. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلَونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ﴾ بأن عاين شيئًا من أمر الآخرة، فإنَّ ذلك كيوم القيامة، أو هو أوَّلها، وقبل العيان تقبل ولو شاهد أهوال الموت، وإنَّما تقبل إن لم تكن اضطرارًا كالكفَّار في الآخرة، فإنَّهم آمنوا اضطرارًا، ولا اضطرار مانع قبل المعاينة، ﴿قَالَ﴾ حين عاين ﴿إِنِّي تُبْتُ الَانَ﴾ هذا في فاسق ومشرك تاب قبل الموت وقتَ لا تقبل، سوَّى في عدم قبول التوبة بينهما وبين مشرك يتوب في الآخرة بعد الموت، وهو المراد بقوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أو أراد بكفَّار المشركين والفاسقين يتوبون بعد الموت، سوَّى بينهم وبين من تاب من المشركين والفاسقين في الدنيا حين لا تنفع التوبة، ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمُ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 85]، وانظر مع هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخر خطبة: (من تاب وقد بلغت روحه حلقه تاب الله عليه)، ومع قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من تاب قبل الغرغرة قبُلت توبته)، رواه الترمذي عن ابن عمر، وذكر أبو قلابة أنَّه سأل إبليس النَّظِرَةَ فأنظره إلى يوم القيامة، فقال: (وعزَّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح)، فقال الله تعالى : (وعزَّتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح)، ويجاب بأنَّ الغرغرة أَخصُّ من الحلق، وأنَّ المُوَحِّد تقبل عنه ما دام فيه الروح، والعلم لله تعالى، وظاهر الآية العكس، وعن ابن عمر: لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرًا كثيرًا، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يغفر الله لعبده ما لم يقع الحجاب)، قيل: ما وقوع الحجاب؟ قال: (تخرج نفسه وهي مشركة)، ويجاب أيضًا بأنَّ معنى الآية أنَّ المسوِّف والمصرَّ لا تتحقَّق توبتهما، وقيل: لا تقبل توبة الآيس، وقيل: الآية الأولى في المؤمنين، والثانية في المنافقين، والثالثة في المشركين.
6. ﴿أُوْلَئِكَ﴾ المتسوِّفون بالتوبة إلى حين لا تنفع، والذين ماتوا وهم كُفَّار، وكلا القسمين كافر كفر نعمة أو كفر شرك، إلَّا أنَّ القسم الأوَّل لَمَّا تعاطى التوبة لم يسمِّه باسم الكفر؛ لأنَّه بحسب تعاطيه غير كافر، ﴿أَعْتَدْنَا﴾ هيَّأنا، وهذا أولى من دعوى أنَّ التاء عن دال، من الإعداد، والمأصدق واحد، ﴿لَهُمْ عَذَابًا اَلِيمًا﴾
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/140.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم، قوله تعالى ﴿التَّوْبَةَ﴾ مبتدأ وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ خبره، وقوله تعالى: ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه، صدور القبول عنه تعالى، وكلمة ﴿عَلَى﴾ للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة ـ كذا في أبي السعود.
2. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل ﴿يَعْمَلُونَ﴾ أي متلبسين بها، أي جاهلين سفهاء، أو بـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ على أن الباء سببية، أي يعملونه بسبب الجهالة، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة: والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب، كقوله: فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
3. ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ أي من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلا، إذ بتأخيرها وتسويفها يدخل في زمرة المصرّين، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فورا، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور.
4. وتتمته في (الإحياء): إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ ما قبل حضور الموت ـ بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذا بالله تعالى، (فإن قيل): من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟ (قلنا) يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك، لا من قوله تعالى ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ بما أولوه، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيّز القبول:
أ. وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ورواه ابن ماجة والترمذيّ،وقال: حسن غريب.
ب. وروى أبو داود الطيالسيّ عن عبد الله بن عمرو قال من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه، (قال أيوب)، فقلت له إنما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وروى نحوه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وابن مردويه، و
ج. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه.
د. وروى الحاكم مرفوعا: من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه.
هـ. وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن: التائب من الذنب كمن لا ذنب له: وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ أي يقبل توبتهم ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
5. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ عند النزاع ﴿قَالَ﴾ عند مشاهدة ما هو فيه ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب، روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله يقبل توبة عبده ويغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل: يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال أن تموت النفس وهي مشركة، ولهذا قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا﴾ أي أعددنا ﴿لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/50.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر تعالى أن التوبة مع الإصلاح تقتضي ترك العقوبة على الذنب في الدنيا ووصف نفسه بالتواب الرحيم أي الذي يقبل التوبة من عباده كثيرا أو يعفو بها عنهم ـ عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة فقال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ أي إن التوبة التي أوجب الله تعالى قبولها على نفسه بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ليست إلا ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ فالسوء هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة كريم النفس أو يسوء الناس ويصدق على الصغائر والكبائر، والجهالة الجهل وتغلب في السفاهة التي تلابس النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب فتذهب بالحلم وتنسي الحق، والمراد بالزمن القريب الوقت الذي تسكن به تلك الثورة، أو تنكسر به تلك السورة، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه ويرجع إليه دينه وعقله.
2. ذهب جمهور المفسرين إلى تفسير الزمن القريب بما قبل حضور الموت، واحتجوا على ذلك بالآية الثانية التي تنفي قبول توبة الذين يتوبون إذا حضر أحدهم الموت، وليس ذلك بحجة لهم لأن الظاهر أن هذه الآية بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما والآية الثانية بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراب الذنب كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح، لأن الإصرار قد ينتهي قبل حضور الموت بالرين والختم وإحاطة الخطيئة، وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: 7]، ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾
3. كم غرت هذه العبارة الناس وجرأتهم على الإصرار على الذنوب والآثام وأوهمتهم أن المؤمن لا يضره أن يصر على المعاصي طول حياته إذا تاب قبل بلوغ روحه الحلقوم، فصار المغرورون يسوفون التوبة حتى يوبقهم التسويف فيموتوا قبل أن يتمكنوا من التوبة وما يجب أن تقرن به من إصلاح النفس بالعمل الصالح، كما في الآية السابقة وآيات أخرى في معناها، كقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: 8] ولا ينافي ذلك ما ورد من الأحاديث والآثار في قبول التوبة إلى ما قبل الغرغرة، كحديث ابن عمر عند أحمد والترمذي (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) فإن المقصود من هذا أنه لا يجوز لأحد أن يقنط من رحمة ربه وييئس من قبوله إياه إذا هو تاب وأناب إليه مادام حيا، وليس معناه: أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبيل الموت ولو بساعة، فإن حمله على هذا المعنى مخالف لهدي كتاب الله في الآيات التي ذكرنا بعضها آنفا، ولسننه في خلق الإنسان من حيث إن نفسه تتدنس بالذنوب بالتدريج، فإذا طال الأمد على مزاولتها لها تتمكن فيها وترسخ فلا تزول إلا بتزكيتها بالعمل الصالح في زمن طويل يناسب زمن الدنس مع ترك أسباب الدنس، وأما الترك وحده فلا يكفي كما إذا وردت الأقذار والأدناس الحسية على ثوب زمنا طويلا فإنه لا ينظف بمجرد انقطاعها عنه، على أن المعاصي إذا تكررت تصير عادات تملك على النفس أمرها حتى تصير التوبة بمجرد الترك من أعسر الأمور وأشقها لأنها تكون عبارة عن اقتلاع الملكات التي تكيف بها المجموع العصبي، فما أخسر صفقة المسوفين؛ الذين يغترون بكلام أسرى العبارات من المفسرين وغير المفسرين!
4. قال محمد عبده: ذكر في الآية السابقة التوبة وبين في هذه الآية حكمها وحالها ترغيبا فيها وتنفيرا عن المعصية بما شدد في شرط قبولها، وفيه إرشاد لأولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم، فإنه فرض في الآية السابقة معاقبة أهل الفواحش وأمر بالإعراض عمن تاب بشرط إصلاح العمل، وكأن هذه الآية شرح لذلك الإصلاح، أي إن تابوا مثل هذه التوبة فأعرضوا عنهم وكفوا عن عقابهم.
5. يذكرون ههنا مسألة الخلاف بين المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ وأهل السنة في وجوب الصلاح عليه تعالى، والقول الفصل في ذلك: إن قبول هذه التوبة على الله تعالى ليس بإيجاب موجب له سلطة يوجب بها على الله، تعالى الله عن ذلك! وإنما ذلك من جملة الكمال الذي أوجبه تعالى على نفسه بمشيئته واختياره، وهذه العبارة وأمثالها مما ظاهره وجوب بعض الأشياء على الله قد جاءت على طريق العرب في التخاطب، ولا يفهم منها إلا أن ذلك واقع ما له من دافع، ولكن بإيجاب الله تعالى له، ولا يمكن أن يظن عاقل أن قانونا يحكم على الألوهية، فجعل الخلاف في هذه المسألة لفظيا ظاهرا لا تكلف فيه.
6. ﴿السَّوْءِ﴾ هو العمل القبيح، و(الجهالة) تصدق بمعنى السفاهة وبمعنى الجهل الذي هو ضد العلم فالسفاهة إنما سميت سفاهة لأن صاحبها يجهل عاقبتها الرديئة أو يجهل مصلحة نفسه.
أ. وقال بعضهم: المراد بالجهالة هنا العصيان والمخالفة، وعبر عن ذلك بالجهالة لبيان قبحه ولتضمنه للجهالة وتنزيل العاصي منزلة الجاهل بمصلحة نفسه.
ب. وقال بعضهم: إن المراد بها عدم العلم التام بمقدار ما يترتب على عمل السوء من العقاب لا تعمد العصيان وذلك أن ناقص العلم بحقيقة الذنوب ووجه ترتب العقاب عليها ودرجة ذلك العقاب وتحتمه يقع في الذنب ويعمل السوء باختياره غير مغلوب على أمره، وهو يظن أنه عمل ما فيه الخبر والنفع لنفسه، كاللص يعلم أن السرقة محرمة ولكنه لا يعلم أن العقاب عليها حتم لأن عنده احتمالات من العلم الناقص تشككه فيما ورد من وعيد السارق، كشفاعة الشفعاء من المشايخ والجيران الصالحين، وكاحتمال العفو والمغفرة، وكالمكفرات، فإذا عرض له شيء يسرقه وتذكر الوعيد على السرقة ينتصب في ذهنه ميزان الترجيح بين الانتفاع العاجل بما يسرقه والعقاب الآجل على هذه المعصية، فإذا عرض له الشك في العقاب رجحت كفة داعية السرقة، لأن الانتفاع بالمسروق يقيني والعقاب عليه مشكوك فيه، وهكذا شأن الإنسان في جميع الأعمال الاختيارية لا يمكن أن يأتي شيئا منها إلا إذا كان يعتقد نفعه له ورجحانه على مقابله إن خطر في باله المقابل، فعلم من هذا أن عمل السوء لا يمكن أن يصدر من الإنسان مع التلبس بالجهل، وعدم إقامة الميزان بالقسط في الترجيح بين الفعل والترك، فهو لا يرتكب المعصية إلا جهلا بحقيقة الوعيد أو متأولا له بمثل ما أشرنا إليه من انتظار الشفاعة والمغفرة، أو مغلوبا بشهوة أو بغضب، فإذا زالت الجهالة عن قريب فتاب كانت توبته مقبولة حتما.
7. اختلفوا في الزمن القريب:
أ. فعن ابن عباس وغيره هو أن يتوب في حال الصحة والأمل في الحياة.
ب. وعن ابن جرير هو أن يتوب وهو مدرك يعقل.
ج. وأشهر الأقوال: أن يتوب قبل الغرغرة.
8. قال محمد عبده ما مثاله مع بسط وإيضاح: إن من كان قوي الإيمان بحيث لا تقع المعصية منه إلا عن بادرة غضب أو شهوة، أو جهل بأنها معصية تستوجب العقوبة، فهو من أولئك الذين لا يقع منهم عمل السوء إلا هفوة بعد هفوة، ولا يلبثون أن يبادروا إلى التوبة ولذلك ذكر السوء مفردا، وقال فيمن لا تقبل توبتهم ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ بالجمع، فأشعرنا أن التوبة إنما تقبل حتما ممن تقع الذنوب منهم أفذاذا، ويلم واحدهم بها إلماما، ولكنه لا يصر عليها، بل يبادر إلى التوبة منها، ثم قد يطوف به بعد التوبة طائف آخر من الشيطان، فيعود ثانية إلى العصيان، ويتبعه التوبة والإحسان، فلا تتمكن من نفسه ظلمة المعصية، ولا تحيط به الخطيئة، فالصواب أن يفسر قوله تعالى: ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ بالقرب من زمن الذنب وهو المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة والمذنب التائب أحد رجلين: رجل عارف بتحريم الذنب ولكن تلم به تلك الجهالة التي تحدث الرعونة في الإدارة، فيقع في الذنب ثم يتوب إليه علمه فيؤثر في نفسه فيتوب، ورجل وقع في الذنب وهو لا يعلم أنه محرم؛ ولكنه على جهله ببعض أمور الدين ليس راضيا بجهله، ولا مهملا لأمر دينه، بل هو يبحث ويسأل ويتعلم فلا يطول عليه الأمد حتى يعلم أن ما كان ألم به محرم فيتوب منه حالا، فكل من هذين يصدق عليه أنه تاب من قريب، فالقرب ليس له حد محدود وإنما هو أمر نسبي فمن أصر على عمل السوء زمنا طويلا لجهله بأنه معصية محرمة ثم علم فتاب، فلا شك أن الله تعالى يقبل توبته وقد يصدق عليه أنه تاب من قريب بالنسبة إلى زمن العلم، ثم ذكر شيئا من كلام الغزالي في حقيقة التوبة وأركانها.
9. إن هنا شيئا يجب تدبره وهو الفرق بين من يعمل السوء وهو لا يعلم أنه سوء محرم عليه ومن يعمله عالما بذلك، فالأول لا تتندس نفسه بالعمل وإن طال عليه الزمن؛ أي لا يكون ذلك العمل مجرئا لها على المعاصي موطنا لها على الشرور فإذا علم بعد ذلك أن عمله من السوء من حيث إنه ضار له أو لغيره أو من حيث إنه محرم عليه دينا وإن لم يعرف سبب تحريمه فإنه لا يعسر عليه غالبا أن يرجع عنه حالا، وإن كان قد ألفه فإنه ما ألفه إلا من حيث أنه حسن في نظره فملكه اختيار الحسن وإيثاره على السيء تكون في الغالبة عليه المصرفة لإرادته فلذلك يسهل عليه الرجوع من قريب متى جاء العلم الصحيح كما سهل على السابقين الأولين من الصحابة أن يكونوا في الذروة العليا من الفضائل والفواضل وعمل الخير والتنزه عن الشر على نشوئهم في الوثنية وعادات الجاهلية فإنهم كانوا على ذلك ذوي سلامة في الفطرة وحب للخير وبغض للشر وما كان ينقصهم إلا العلم الصحيح بحقيقة الحسن والقبيح وكنه الخير والشر، فلما جاءهم الإسلام سارعوا إليه وكانوا أكمل الناس به؛ ولكن بعض المفسرين ينازع في كون من يعمل السوء جاهلا أنه سوء مرادا من الآية ويرى أن رجوعه عما كان عمله قبل العلم بكونه سوءا لا يسمى توبة، وقد أشار إلى ذلك محمد عبده بقوله (التعبير بالسوء) الخ ولكنه مع ذلك اختار كون لفظ الجهالة عاما يشمل عدم العلم بحرمته كما تقدم.
10. أما من يعمل السوء وهو يعتقد أنه سوء ويصر على المعصية وهو يعلم أنها معصية لله عز وجل ولكنه يتبع هوى نفسه ويؤثر إرضاء شهوتها وغضبها على رضوان الله ومنفعة عباده، فذلك الذي تضرى نفسه بالشر وتأنس بالسوء ويصير ذلك ملكة لها مصرفة لإرادتها في أعمالها حتى تصل إلى الدركة التي تتعذر معها التوبة وهي التي عبر عنها القرآن الحكيم بالختم على القلوب والرين عليها والطبع عليها وإحاطة الخطيئة بها وضرب لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مثل النكتة السوداء وتقدم شيء من بيان ذلك آنفا ومن قبل في مواضع كثيرة، وقد سئلت مرة: لماذا لم تفسد أخلاق اليابانيين وتنحط هممهم وتصغر نفوسهم مع فشو الزنا فيهم؟ فقلت: لأنهم يأتونه غير معتقدين حرمته دينا ولا قبحه عقلا، ولذلك يكون ضرره في الأخلاق قليلا، ولكن ضرره في الصحة والاجتماع كبير على كل حال.
11. نعود إلى كلام محمد عبده قال ما مثاله: إنهم يقسمون التائبين إلى طبقات ويقولون إن الإنسان عريق في الشر كأنه عجن بطينته، ذلك أن الشهوات الحيوانية تسبق فيه الشهوات العقلية، فهو يألف الشهوات أولا ثم يجيء العقل ليضع لتلك الشهوات النظام والقوانين، والعلم بما شرع فيها من هداية الدين، ومجاهدة النفس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فكل إنسان له هفوة قبل أن يستحصف العقل ويفقه أسرار النقل، فمن الناس من هو كبير النفس عالي الاستعداد إذا وقع في الخطيئة مرة؛ كان له منها أكبر عبرة، وهو لا يقع فيها إلا وهو غافل عن عواقبها ومصور إياها بصورة أحسن من صورتها، وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعرف مقدار الشيء قبيل الدخول فيه، فإذا ألم العاقل السليم الفطرة بالذنب وذاق لذته عرف حقيقته وعند ذلك يعود إليه علمه الذي حجبته عنه الشهوة، ويقوى في نفسه ما كان ضعف من نور البصيرة فيوازن بين هذه اللذة وبين قبح المعصية وما لها من سوء العاقبة فيظهر له من مهانة نفسه وسوء اختياره ما عسى أن يصير إليه أمره إذا عاد إلى ذلك واعتاده وعرف به فيندم ويقلع عن هذا الذنب وعن غيره ويحمل نفسه على الفضيلة يصرفها عن كل رذيلة.
12. من الناس من تكون داعية الشهوة أقوى في نفوسهم وأرسخ فكلما أطاعوها في معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربها بلوم صاحبها وتوبيخه حتى تنتصر عليها وتقهرها قهرا لا تقوم لها بعده قائمة وهؤلاء يعدون من التوابين أيضا، ومنهم فرقة تقوى بالمجاهدة على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فتكون الحرب في نفوسهم سجالا بين ما يلمون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هي جند الإيمان.
13. كثير من الناس يقع في الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا، فهؤلاء في أدنى طبقات التوابين، والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله تعالى عقب كل خطيئة، فيوشك أن يقوى هذا الزجر المذكر على الشهوات المزينة للخطيئة، فإن كان تكرار الإثم يزيد الشهوة ضراوة والنفس جرأة فتكرار تذكير العلم الصحيح يحدث فيها ألما يقاوم تلك الضراوة بتقريع النفس وتحقيرها وتصوير سوء العاقبة لها فتكون الحرب سجالا، وأثر الآلام في النفس أقوى من أثر اللذات، فإما أن تنتصر الخواطر والزواجر الإلهية بذلك فليحق صاحب هذه النفس ببعض تلك الطبقات التي صحت توبتها، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة حتى تحيط بصاحبها الخطيئة فيكون من المصرين الهالكين.
14. ثم قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ الفاء للسببية أي أولئك الموصوفون بأنهم يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فإذا تراخت توبتهم لا يطول عليها الزمن ولا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ـ يتوب الله تعالى عليهم بسبب ذينك الأمرين وهما كون فعل السوء لم يكن إلا عن جهالة إذ مثلهم في إيمانهم وتقواهم لا يعتمد الذنب مع الروية وكون التوبة قريبة من زمن الذنب، لم تدع له مجالا يرسخ به في النفس، ويجوز أن تجعل معنى السببية مفرعا عن ذلك الأصل المقرر في صدر الآية وهو كون قبول توبة هؤلاء مما أوجبه الله تعالى على نفسه بمقتضى رحمته، وعلمه وحكمته، أي فأولئك يتوب عليهم قطعا؛ لأن قبول توبتهم مقرر حتما، وموعود به وعدا مقضيا، وقال محمد عبده: أشار إليهم بعد حصر التوبة المقبولة لهم لتأكيد ذلك الحصر ولاستحضارهم في الذهن عند الحكم حتى لا يخطر في بال القارئ والسامع إشراك غيرهم معهم فيه، وضمن التوبة معنى العطف أي يعطف عليهم بقبول توبتهم ويعود برحمته عليهم.
15. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فمن علمه بشؤون عباده ومصالحهم وحكمته فيما شرعه لهم أن جعل التوبة بشرطيها مقبولة حتما لأنه يعلم أنهم لضعفهم لا يسلمون من عمل السوء، فلو لم يكن للعاصي توبة لفسد الناس وهلكوا لأن من يعمل السوء بجهالة من ثورة شهوة أو سورة غضب يسترسل حينئذ في المعاصي والسيئات، ويتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان، لعلمه أنه هالك على كل حال، فلا فائدة له من مجاهدة نفسه وتزكيتها، أما وقد شرع الله تعالى بحكمته قبول التوبة؛ فقد فتح لهم باب الفضيلة، وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة، ولو كان كل ذنب يغفر وكل سيئة يعفى عنها لما آثر الناس الخير على الشر إلا حيث تكون شهواتهم ومهب أهوائهم.
16. ثم إنه تعالى يعلم التوبة النصوح؛ والتوبة الخادعة الكذوب، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدر، ومن حكمته أنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركة اللسان بالاستغفار، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار، مع الإصرار على الذنوب والأوزار، فالمقيم على الذنب لا تطهر نفسه من دنسه بعمل طاعة أخرى وإن أحسن فيها وأخلص فكيف من يكون عمله لها صوريا تقليديا لا يمس سواد قلبه قط، ولا يدل على عنايته بأمر الدين، ولا خشيته لله رب العالمين، كألفاظ الاستغفار والتسبيح، ولذلك جمع في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل، ذكرنا بعض الآيات التي في معناها، وإن أردت الزيادة في هذا المعنى فراجع تفسير ما تقدم من الآيات كقوله تعالى: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 16] وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 135]
17. وقد أشار محمد عبده هنا إلى نكتة ذكر صفة العلم وصفة الحكمة هنا بقريب مما ذكرناه وذكر غرور الجاهلين من الخلف الصالح بالأذكار القولية واعتمادهم عليها وظنهم أنها تنجيهم في الآخرة من المؤاخذة على الذنوب وإن أصروا عليها، وقال إن مثل هذا كان معهودا في الأديان السابقة وذلك أن الأمم استثقلت التكاليف لجهلها بفائدتها ففسقت عن أمر ربها واتبعت أهواءها وجعلت حظها من الدين بعض الأذكار والأوراد السهلة التي لا تمنعها من شهواتها وأهوائها شيئا فصار الدين عند أكثرهم عبارة عن حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا، وقد اتبع الكثيرون منا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 23]
18. بعدما بين تعالى حال من ضمن قبول توبتهم قال مبينا من قطع بأنه ليس لهم توبة مقبولة عنده: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ قال محمد عبده: قال تعالى في الآية السابقة ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ ولم يقل هنا: ﴿وليست التوبة على الله﴾ الخ وذلك أنه ليس المراد نفي القطع بقبول توبتهم، وإنما المراد نفي وقوع التوبة الصحيحة منهم وأنه ليس من شأنها أن تكون لهم، ولو نفى كونها مما أوجبه تعالى على نفسه لكان المعنى أنها غير واجبة لهم ولا مقطوع بقبولها منهم ولكنهم قد ينالونها.
19. إن وجه النفي هو أن هؤلاء الذين نفى ثبوت التوبة لهم ليسوا ممن اقتضت السنن الإلهية في خلق الإنسان وتأثير أعماله في صفات نفسه وملكاتها ثم ترتب أعماله على أخلاقه وملكاته ـ بأن يكونوا ممن يرجع عن السيئات بعد الاستمرار عليها وينخلع عنها ويطهر قلبه ويزكي نفسه من أدرانها فيكون أهلا لرحمة الله أن تعطف عليه ومحلا لاستجلاب نعمه فيعود ما نفر منها بالمعاصي إليه؛ بل مضت سنة الله تعالى في أمثالهم أن تحيط بهم خطاياهم وسيئاتهم فلا تدع للطاعات والحسنات مكانا من نفوسهم، فيصرون عليها إلى أن يحضر أحدهم الموت وييئس من الحياة التي يتمتع فيها بما كان يتمتع، فعند ذلك يقول إني تبت وما هو من التائبين، بل من المدعين الكاذبين، كما يأتي قريبا.
20. قال هناك: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ وههنا ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ والجمع ههنا يعم جميع أفراد النوع الواحد من المعاصي التي تكون بالإصرار والتكرار، فالمصر على ذنب واحد من الذين يعملون السيئات حتما، ويعم جميع الأنواع المختلفة منها، وأقول: إن الإصرار على بعض أفراد الذنوب يغري صاحبه بأفراد أخرى من نوعها أو جنسها، والشر داعية الشر، كما أن الخير داعية الخير.
21. قال هناك ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾ فأسند التوبة إليهم وقال ههنا ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ فبين أن واحد هؤلاء يدعي التوبة عند العلم بالعجز عن الذنب، أي إن قلبه لم ينخلع من الذنب ونفسه لم ترغب عنه فيكون تائبا، وإنما مثله كمثل رجل كان يعيث في أرض آخر فسادا فظفر به هذا ووضع السيف على عنقه وأراد أن يفصل رأسه عن بدنه، فاستغاث وقال: إنه لا يعود إلى ذلك الإفساد؛ ولكن نفسه لم تنفر منه ولم تستقبحه لأنه فساد، فهي إذا زال الخوف تعود إلى الدعوة إليه ولا تلقى من صاحبها إلا الطاعة والانقياد، ولهذا قيد القول بكلمة ﴿الْآنَ﴾ والآنية تنافي الاستمرار الذي دل عليه المضارع ﴿يَتُوبُونَ﴾ هناك، ومن هنا يمكننا أن نميز الحق من بين تلك الأقوال التي رووها في حضور الموت، كقولهم إن المراد به حال الحشرجة أو الغرغرة أو ذهاب التمييز والإدراك ومن كان من مثل هذه الأحوال لا يصدر عنه قول، والمختار أن المراد بحضور الموت هو تحقق وقوعه واليأس من الحياة، و(حتى) ابتدائية وما بعدها غاية لما قبلها أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور موتهم وصدور ذلك القول منهم.. وقدر بعض المفسرين قيد ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ فقال المعنى وليست التوبة أي قبولها حتما لهؤلاء ونفي الله تعالى، وما اختاره شيخنا هو الصحيح المتبادر.
22. قال محمد عبده: إنهم يروون هنا أحاديث في قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم وإني أوافقهم على ذلك إذا حصلت التوبة بالفعل بأن أدرك المذنب قبح ما كان عمله من السيئات، وكرهه وندم على مزاولته وزال ميله إليه من قلبه، بحيث لو عاش لما عاد إليه مع الروية والتعمد كما كان، وما كل تصور لقبح الذنب أو تصديق بقبحه وضرره يكون سببا لتركه فإن للتصورات والتصديقات مراتب لا يعتد منها في باب العلم النافع إلا بالقوي الذي يترتب عليه العمل لرجحانه على مقابله، وضرب مثلا للتصديق المرجوح: تصديقه ما قاله الأطباء له من أن صوته يضره الحامض وقد أيدت التجربة ذلك وهو مع ذلك لا يعده علما يقينيا تاما لأنه مغلوب بعلم وجداني أقوى منه وهو ما ألفت النفس من إدراك لذة الحامض وطلب الطبيعة له ولو كان علما تاما لما تناول الحامض في بعض الأوقات فإن العلم الحقيقي هو الذي يحكم على الإرادة ويصرفها في العمل فلا تجد عن طاعته منصرفا.
23. وهذا المعنى هو الذي أدركه الصوفية إذ قالوا إن الاعتقاد أو الإدراك لا يكون علما صحيحا نافعا يثيب الله عليه إلا إذا صار ذوقا، ويعنون بصيرورته ذوقا أن يصير وجدانا للنفس يمتزج بها ويكون هو الحاكم عليها، فليت شعري هل يحدث للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة مثل هذا الوجدان لقبحها وكراهتها قبل الموت من حيث إنها مدنسة للنفس مبعدة لها عن منازل الأبرار أم الذي يحصل هل هو إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها بالموت الذي يكون وراءه نزول الوعيد به؟ وهل يسمى هذا الأخير توبة من الذنب، ورجوعا إلى ما يرضاه الرب؟ الله أعلم بالسرائر، وإنما يجازي الناس بحسب ما يعلم؛ وعلينا أن نأخذ بالأحوط والأسلم؛ وهذا معنى ما قاله الأستاذ رحمه الله في درسين وهو مع تفسير الآية الأولى لا يخلو من تكرار مفيد على تصرفنا فيه بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة التي تجلي المعنى ولا تغيره، والوصول إلى تحقيق الحق في أمثال هذه المسائل المهمة لا يكون إلا بالتكرار والبسط والإيضاح، وسيأتي ذكر للتوبة وشروطها في آيات أخرى من سورة أخرى تقدم ذكرها من قبل.
24. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي لا توبة لأولئك ولا لهؤلاء، وقد استشكلوا ذكر نفي توبة هؤلاء مع كونه بديهيا لاسيما بعد تقرير ما سبقه فإنه إذا كان المؤمن ليس له توبة عند حضور الموت فالأولى أن لا يكون للكافر عند الموت فكيف يتصور أن يكون له توبة بعده، وقد يخطر في البال أن المراد نفع ما يكون من توبتهم في الآخرة وهي ما حكاه تعالى عنهم في آيات كثيرة: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: 106] ولا أتذكر الآن أن أحدا من المفسرين قال بذلك، بل قال بعضهم إن المراد من نفي توبة هؤلاء هو المبالغة في عدم قبول توبة من قبلهم والإيذان بأنها كالعدم وأن ذويها في مرتبة الذين يموتون وهم كفار؛ بل قال بعضهم إن في تكرير حرف النفي إشعارا بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى، من حال الذين يموتون على الكفر، وجوز بعضهم أن يراد بالفريقين الكفار، وبعضهم أن يراد بهما الفساق على أن يكون التعبير عنهم بالكفار من باب التغليظ.
25. اختار محمد عبده أن المراد بالكفر هنا ما هو دون الشرك، وعدم تصديق دعوة النبوة وهو استعمال معروف في القرآن وصرح به بعض العلماء الأعلام وقالوا أنه يوجد كفر دون كفر، وبه فسر أبو حامد الغزالي الحديث الصحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فقد بين ان ما يجب الإيمان به قسمان: قسم يجب أن يعلم لذاته ولا يتعلق به عمل كالإيمان بوجود الله وبوحدانيته وسائر ما وصف به نفسه وبالوحي وصدق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقسم يجب أن يعلم ليعمل به كالإيمان بالفرائض وكون أدائها من أسباب رضوان الله ومثوبته وبتحريم المحرمات وكون اقترافها من أسباب سخطه تعالى وعقابه أي فوق ما في الفرائض من إصلاح النفس وحال الاجتماع، وما في المحرمات من الضرر في الأفراد والجمعيات، ويسمي أو حامد القسم الأول علم المكاشفة، والثاني: علم المعاملة؛ ويقول: إن من يعمل السيئة المحرمة لا يكون مؤمنا بتحريمها وصدق الرسول فيما أخبر به من كونها موجبة لسخط الله تعالى وعذابه وهو أي الغزالي لا ينفي إيمان هذا من حيث أنه قد فاتته ثمرته وهي العمل به فقط، بل يقول إن الإيمان يشترط فيه اليقين، ومن أيقن بأن شيئا من الأشياء يضره فهو لا يأتيه كما هو معلوم عن غرائز البشر وارتباط أعمالهم بإرادتهم بعلومهم المتعلقة بالنفع والضرر، بل علم من عادة الإنسان وطبعه أن يحتاط في دفع الضرر حتى أنه ليعمل فيه بقول من لا ثقة بقوله عنده لعدم عدالته.
26. ضرب لذلك أبو حامد مثلا فقال ما معناه: إذا كنت جائعا ولم تجد إلا طعاما أخبرك رجل يهودي لا تثق بروايته في أخباره أنه مسموم؛ أفلا تبني على الاحتياط وتترك الأكل من ذلك الطعام؟ بلى إنك لتقول إنه يحتمل أن يكون صادقا فلا أعرض نفسي للهلاك بهذا الطعام! وقد أخبرك النبي المعصوم الصادق الأمين بأن هذه الذنوب سموم مهلكة للأرواح مفضية إلى سخط الله وعذابه فكيف تدعي الإيمان به والجزم بصدقه وأنت تجعل خبره دون خبر ذلك اليهودي الذي تجزم بعدم عدالته!؟ وفي هذا المقام يذكر حديث) لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الخ أي إن هذا الإيمان الخاص لا يكون ملابسا للنفس حين التلبس بالمعصية فإذا عاد إليها بعد العمل تألمت فبعثها الألم على التوبة كما حققه في شرح حقيقة التوبة وكونها مركبة من علم وحال وعمل: العلم يوجب الحال والحال توجب العمل أي أن العلم بحرمة الذنب والوعيد عليه يحدث في النفس حالا مؤثرة تبعث على العمل بترك المحرم، وكذلك العلم بوجوب الواجب إلى آخر ما حققه وبينه بالتفصيل.
27. (أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) أي أولئك الفريقان البعيدان عن سنة الفطرة وهداية الشريعة، المستعبدان لسلطان الشهوة وشيطان الرذيلة، قد اعتدنا وهيأنا لهم عذابا مؤلما في دار الجزاء بما قدموا لأنفسهم في دار الأعمال، فإن إصرارهم على السيئات، إلى أن وافاهم الممات، قد دسى نفوسهم؛ وأفسد قلوبهم، فصاروا من التحوت، تهبط خطاياهم بأرواحهم إلى هاوية الهوان، وتعجز عن العروج إلى فراديس الجنان، ومعاهد الكرامة والرضوان.
__________
(1) تفسير المنار: 4/441.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده ـ ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته في تعجيلها حتى لا يأتي الموت وهو مصرّ على الذنب فلا تنفعه التوبة، وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم، فأمر هنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبى الفواحش في الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح في العمل.
2. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ السوء: هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة، وهذا شامل للصغائر والكبائر، والجهالة: الجهل وتغلب السفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب حتى يذهب عنها الحلم وتنسى الحق، وكل من عصى الله سمى جاهلا وسمى فعله جهالة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ وقال تعالى لنوح: ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
3. سر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد، ومنتظر الاحتمال العفو والمغفرة، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقاب.
4. الزمن القريب: هو الوقت الذي تسكن به ثورة الشهوة أو تنكسر به حدة الغضب ويثوب فاعل السيئة إلى حلمه ويرجع إليه دينه وعقله، إذ من كان قوىّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضب أو شهوة هفوة بعد هفوة، ثم لا يلبث أن يبادر إلى التوبة ومن ثم ذكر الله السوء بلفظ الإفراد هنا، وقال فيمن لا تقبل توبتهم ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إشعارا بأن التوبة إنما تقبل ممن تقع منهم الذنوب آحادا ويلمّون بها إلماما، ولكنهم لا يصرّون عليها بل يبادرون إلى التوبة منها، فلا تتمكن من أنفسهم ظلمة المعصية ولا تحيط بهم الخطيئة.
5. ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) المراد منه أنه لا ينبغي لأحد أن يقنط من رحمة الله وييأس من قبول التوبة ما دام حيا، وليس معناه أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة، فان هذا مخالف لهدى الدين في مثل قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾، ولمثل قوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾، وقد قسموا التوابين طبقات:
أ. من هو سليم الفطرة عظيم الاستعداد للخير، فهو إذا وقع في خطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة، فيندم بعدها ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة.
ب. من تكون داعية الشهوة أقوى في نفسه وأرسخ في قلبه، فإذا أطاع نفسه وارتكب معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربه وتوبخه حتى تنتصر عليه وتقهره قهرا تاما فلا يعود بعدها إلى اجتراح إثم ولا وقوع في ذنب.
ج. من تقوى نفسه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم والفواحش، لا على صغار الذنوب والآثام وهناك تكون الحرب في نفوسهم سجالا بين ما يلمّون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هي جند الإيمان.
د. من يقع في الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا، وهؤلاء أدنى طبقات التوّابين، والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء، لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله عقب كل خطيئة، وهكذا تكون الحرب سجالا بينهم وبين أنفسهم؛ فإما أن تنتصر دواعى الخير فتصح توبتهم، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة فتحيط بهم خطيئتهم ويكونوا من المصرّين الهالكين.
6. خلاصة المعنى ـ إن التوبة التي أوجب الله على نفسه قبولها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله، ليست إلا لمن يجترح السيئة بجهالة تلابس نفسه من سورة غضب أو تغلب شهوة، ثم لا يلبث أن يندم على ما فرط منه وينيب إلى ربه ويتوب ويقلع عن ذنبه.
7. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ أي فأولئك الذين فعلوا الذنوب بجهالة وتابوا بعد قريب من الزمن، يتوب الله عليهم، لأن الذنوب لم ترسخ في نفوسهم، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون.
8. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ وبهذا العلم بشئون عباده ومعرفة مصالحهم جعل التوبة مقبولة حتما، لأنه يعلم ضعف عباده وأنهم لا يسلمون من عمل السوء، فلو لم يشرع لهم التوبة لهلكوا باسترسالهم في المعاصي والسيئات وتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان لعلمهم أنهم هالكون لا مخالة؛ فلا فائدة من جهاد النفس وتزكيتها.
9. أما وقد شرع الله بحكمته قبول التوبة فقد فتح لهم باب الفضيلة وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة، لكنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركات اللسان بالاستغفار والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار مع الإصرار على الذنوب والأوزار، ومن ثم جمع الله في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.
10. وقد فعلت الأمم السالفة مثل هذا فاستثقلت التكاليف، وفسقت عن أمر ربها واتبعت هواها وجعلت حظها من الدين مجموع حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا ولا تمنع النفس من التمتع بشهواتها، وقد اتبع كثير من المسلمين سنن من قبلهم وحذوا حذوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
11. بعد أن بين الله تعالى حال من تقبل توبتهم، ذكر حال أضدادهم الذين لا تقبل منهم التوبة فقال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ أي إن سنة الله قد مضت بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور الموت، وصدور ذلك القول منهم، لأن هؤلاء قد أحاطت بهم خطيئاتهم ولم تدع للأعمال الصالحة مكانا في نفوسهم، فهم أصروا عليها إلى أنّ حضرهم الموت ويئسوا من الحياة التي يتمتعون بها، وحينئذ يقول أحدهم: إني تبت الآن وما هو من التائبين بل من المدّعين الكاذبين.
12. الخلاصة ـ إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما، فأمرهم مفوض إلى الله تعالى وهو العليم بحالهم، وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم ـ المراد منه حصول التوبة النصوح، بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها، وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصرّ على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة، وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت.
13. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، وقد سوّى الله بين الذين سوّفوا توبتهم إلى أن حضر الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أن توبتهم لا تقبل، فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، كذلك المسوّف إلى حضرة الموت، فكل منهما جاوز الحد المضروب للتوبة، إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.
14. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أعتدنا هيأنا وأعددنا، والأليم المؤلم الموجع: أي هذان الفريقان اللذان استعبدهما سلطان الشهوة وخرجا على سنة الفطرة وهداية الشريعة أعددنا لهم العذاب الموجع في الدار الآخرة جزاء وفاقا لما اكتسبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى الممات؛ إذ أنهم أفسدوا قلوبهم، ودسّوا نفوسهم، فصارت تهبط بهم خطاياهم إلى الدرك الأسفل من الهوان، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامة والرضوان.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/208.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه، ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم ـ متى أخلصوا فيها ـ حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم، وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد.
2. لقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة، في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ وهو بجملته يصح نقله هنا! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضا آخر.. يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها.
3. إن التوبة التي يقبلها الله، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى، قد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد.
4. والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب.. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى ـ طال أمدها أم قصر ـ ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم.. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت، ويدخلوا في سكراته، ويحسوا أنهم على عتباته، فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم، والانخلاع من الخطيئة، والنية على العمل الصالح والتكفير، وهي إذن نشأة جديدة للنفس، ويقظة جديدة للضمير.
5. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾.. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.. يتصرف عن علم وعن حكمة، ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
6. إن الله ـ سبحانه ـ لا يطارد عباده الضعاف، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا، وهو ـ سبحانه ـ غني عنهم، وما تنفعه توبتهم، ولكن تنفعهم هم أنفسهم، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، فهذه التوبة هي توبة المضطر، لجت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة، توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة، وهذه لا يقبلها الله، لأنها لا تنشئ صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه، والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان، ليعملوا عملا صالحا ـ إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتابـ أو ليعلنوا ـ على الأقل ـ انتصار الهداية على الغواية، إن كان الأجل المحدود ينتظرهم، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد.
8. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة.
9. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، أعتدناه: أي أعددناه وهيأناه.. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار! وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة، فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/604.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. رأينا في الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة الله فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا، وهنا في هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها الله من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة، فيقول سبحانه، ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾
2. المراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو في مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ، والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى الله رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده الله سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هي ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، فالعلم هنا مقابل للجهالة في قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرؤوا إلى الله منه، وقد مدح الله هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم الله، فيهجمون عليها في غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، في صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجيء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو في خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب في ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه الله سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾
4. إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر بالله هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان بالله الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى الله، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم في الآثام ما دامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت في وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره، لا يخالطها شيء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/726.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ استطراد جرّ إليه قوله: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾ [النساء: 16] والتوبة تقدّم الكلام عليها مستوفى في قوله، في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾
2. ﴿إِنَّمَا﴾ للحصر، و﴿عَلَى﴾ هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك: عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد، والمعنى: التوبة تحقّ على الله، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله، قال ابن عطية: إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وجوبا.
3. تسلّط الحصر على الخبر، وهو ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ﴾، وذكر له قيدان وهما ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ و﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾، والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويّة، وهي ما قابل الحلم، ولذلك تطلق الجهالة على الظلم، قال عمرو بن كلثوم:
çألا لا يجهلن أحد علينا...فنجهل فوق جهل الجاهليناé
وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، والمراد هنا ظلم النفس، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء، فالباء للملابسة، إذ لا يكون عمل السوء إلّا كذلك، وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجهل، وهو انتفاء العلم بما فعله، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة، وإنّما هو من معاني لفظ الجهل، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثما ولا يجب عليه إلّا أن يتعلّم ذلك ويتجنّبه.
4. ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾، من فيه للابتداء و﴿قَرِيبٍ﴾ صفة لمحذوف، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء، وتأوّل بعضهم معنى ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار، وجعلوا قوله بعده ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ يبيّن المراد من معنى (قريب)
5. اختلف المفسّرون من السلف ومن بعدهم في إعمال مفهوم القيدين (بجهالة ـ من قريب) حتّى قيل: إنّ حكم الآية منسوخ بآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، والأكثر على أنّ قيد (بجهالة) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان، فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فرأوا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره.
6. الذي يظهر أنّهما قيدان ذكرا للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جاريا على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة، وأنّ قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ قسيم لمضمون قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ إلخ، ولا واسطة بين هذين القسمين.
7. اختلف علماء الكلام في قبول التوبة؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرّع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل:
أ. فأمّا المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ فقالوا: التوبة الصادقة مقبولة قطعا بدليل العقل، وأحسب أنّ ذلك ينحون به إلى أنّ التائب قد أصلح حاله، ورغب في اللحاق بأهل الخير، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب، وهو منزّه عنه تعالى على أصولهم، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأنّ النظر هنا في العفو عن عقاب استحقّه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة.
ب. وأمّا علماء السنّة ـ ومن وافقهم ـ فافترقوا فرقتين:
• فذهب جماعة إلى أنّ قبول التوبة مقطوع به لأدلّة سمعيّة، هي وإن كانت ظواهر، غير أنّ كثرتها أفادت القطع (كإفادة المتواتر القطع مع أنّ كلّ خبر من آحاد المخبرين به لا يفيد إلّا الظنّ، فاجتماعها هو الذي فاد القطع، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر)، وإلى هذا ذهب الأشعري، والغزالي والرازي، وابن عطية ووالده أبو بكر ابن عطية.
• وذهب جماعة إلى أنّ القبول ظني لا قطعي، وهو قول أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، والمازري والتفتازانيّ، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أنّ كثرة الظواهر لا تفيد اليقين، وهذا الذي ينبغي اعتماده نظرا، غير أنّ قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلما ذا نطلب في إثباته الدليل القطعي.
8. الذي أراه أنّهم لمّا ذكروا القبول ذكروه على إجماله، فكان اختلافهم اختلافا في حالة، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضي الله عن التائب، وإثباته في زمرة المتّقين الصالحين، وكأنّ هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لمّا قالوا بأنّ قبولها قطعي عقلا، وفي كونه قطعيّا، وكونه عقلا، نظر واضح، ويدلّ لذلك أنّهم قالوا: إنّ التوبة لا تصحّ إلّا بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقّق معنى صلاحه، ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سميعا لا عقليا، إذ العقل لا يقتضي الصفح عن الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل، وهذا هو المختلف في كونه قطعيّا أو ظنيّا، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنّها في ذاتها عمل مأمور به كلّ مذنب، أي بمعنى أنّها إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرّا على إتيانها، فإنّ إبطال الإصرار مأمور به لأنّه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلا لأمر شرعي، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنّه صار بمعنى الإجزاء، ونحن نقطع بأنّ من أتى عملا مأمورا به بشروطه الشرعية كان عمله مقبولا بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه، ولكن بمعنى الظنّ في حصول الثواب على ذلك، ولعلّ هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ قال في كتاب التوبة: (إنّك إذا فهمت معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلّ توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خلق سليما في الأصل، إذ كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غيرة الذنوب، وأنّ نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثواب الوسخ، فمن توهّم أنّ التوبة تصحّ ولا تقبل كمن توهّم أنّ الشمس تطلع والظلام لا يزول، أو أنّ الثوب يغسل والوسخ لا يزول، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع، فذلك كقول القصّار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظّف الثوب)، وهذا الكلام تقريب إقناعي، وفي كلامه نظر بيّن لأنّا إنّما نبحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يمحوها.
9. الإشارة في المسند إليه في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ للتنبيه على استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدّمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى طلب مرضاته، ليعرف أنّهم أحرياء بمدلول المسند الوارد بعد الإشارة، نظير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5] والمعنى: هؤلاء هم الذين جعلهم الله مستحقّين قبول التوبة منهم، وهو تأكيد لقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ إلى آخره.
10. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ تنبيه على نفي القبول عن نوع من التوبة وهي التي تكون عند اليأس من الحياة لأنّ المقصد من العزم ترتّب آثاره عليه وصلاح الحل في هذه الدار بالاستقامة الشرعية، فإذا وقع اليأس من الحياة ذهبت فائدة التوبة.
11. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ عطف الكفّار على العصاة في شرط قبول التوبة منهم لأنّ إيمان الكافر توبة من كفره، والإيمان أشرف أنواع التوبة، فبيّن أنّ الكافر إذا مات كافرا لا تقبل توبته من الكفر، وللعلماء في تأويله قولان:
أ. أحدهما الأخذ بظاهره وهو أن لا يحول بين الكافر وبين قبول توبته من الكفر بالإيمان إلا حصول الموت، وتأوّلوا معنى ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ له بأنّ المراد بها ندمه يوم القيامة إذا مات كافرا، ويؤخذ منه أنّه إذا آمن قبل أن يموت قبل إيمانه، وهو الظاهر: ويؤذن به عطف ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ بالمغايرة بين قوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ الآية وقوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، وعليه فوجه مخالفة توبته لتوبة المؤمن العاصي أنّ الإيمان عمل قلبي، ونطق لساني، وقد حصل من الكافر التائب وهو حي، فدخل في جماعة المسلمين وتقوّى به جانبهم وفشت بإيمانه سمعة الإسلام بين أهل الكفر.
ب. وثانيهما: أنّ الكافر والعاصي من المؤمنين سواء في عدم قبول التوبة ممّا هما عليه، إذا حضرهما الموت، وتأوّلوا قوله: ﴿يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ بأنّ معناه يشرفون على الموت على أسلوب قوله ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ [النساء: 9] أي لو أشرفوا على أن يتركوا ذرّيّة، والدّاعي إلى التأويل نظم الكلام لأنّ (لا) عاطفة على معمول لخبر التوبة المنفية، فيصير المعنى: وليست التوبة للذين يموتون وهم كفّار فيتوبون، ولا تعقل توبة بعد الموت فتعيّن تأويل (يموتون) بمعنى يشرفون كقوله ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ﴾ [البقرة: 240]، واحتجّوا بقوله تعالى في حقّ فرعون ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90، 91] المفيد أنّ الله لم يقبل إيمانه ساعتئذ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأنّ ذلك شأن الله في الذين نزل بهم العذاب أنّه لا ينفعهم الإيمان بعد نزول العذاب إلّا قوم يونس قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98] فالغرق عذاب عذّب الله به فرعون وجنده، قال ابن الفرس، في أحكام القرآن: وإذا صحّت توبة العبد فإن كانت عن الكفر قطعنا بقبولها، وإن كانت عن سواه من المعاصي؛ فمن العلماء من يقطع بقبولها، ومنهم من لم يقطع ويظنّه ظنّا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/64.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وإلى أوامر دينه بعد الانحراف عنها، ويعرف الأصفهانى التوبة في الشرع بأنها ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما يمكنه تداركه من الأعمال بالإعادة، والتوبة على هذا النحو أعلى درجات الاعتذار، وذلك أن الاعتذار على أنواع ثلاثة.
أ. أحدها: وهو أدناها إنكار الوقوع، وهذا لا يتأتى بالنسبة للعلام الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض.
ب. ثانيها: تبرير الفعل، وذلك أيضا لا يمكن أن يكون أمام الله تعالى.
ج. ثالثها: وهو أعلاها الاعتراف بالوقوع وبأنه لا مبرر له، وأنه يرجو الصفح والغفران، وأنه مقلع عما ارتكب، وذلك هو التوبة.
2. التوبة إذا كانت قريبة من وقوع الذنب فقد وعدنا الله تعالى، ووعده الصدق الحق، بأن الله تعالى يقبلها، وتفضل الله سبحانه وتعالى تأكيدا للوعد، وحثا على التوبة، فعبر سبحانه بأن الغفران حق عليه، ولذا عبر سبحانه بلفظ (على) فقال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ أي أن قبول التوبة حق على الله تعالى، وذلك أبلغ درجات الصفح والغفران، سبحانك إنك التواب الرحيم، غفار للذنوب.
3. عبر سبحانه وتعالى بـ (إنما) الدالة على الحصر، أي لا يكون قبول التوبة حقا على الله تعالى إلا بتحقق شروط ثلاثة:
أ. أولها: أن يكون ذنبه ليس كثيرا ولم يحط بنفسه وقلبه، ولذلك قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ أي يقع منهم ما يسيء من غير أن تركس نفسه في السيئات وتحيط بها.
ب. ثانيها: أن يكون الفعل ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أي أنه وقع في حال غفوة الضمير والضعف النفسي، ومن غير إدراك للعواقب، ولا قصد للنتائج، وقد قال السلف: إن كل ذنب على هذا النحو يكون بجهالة.
ج. ثالثها: أنهم ﴿يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ بحيث لا يسترسل في الشر استرسالا، ويستمرئه ويكرره ويستمر عليه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران]
4. وذلك لأن من يفعل الذنب على ذلك النحو لا يستغرق قلبه، وقد ورد في الأثر (إن المذنب إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه، ثم تتوالى النّكت السوداء حتى يربدّ قلبه)، ومن يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب ليس كذلك.
5. وقد أكد الله قبول التوبة فقال: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، أي هؤلاء الذين ارتكبوا عن جهالة بعض الذنوب، ولم تربدّ قلوبهم بتكرار الذنوب وتعددها واستمرائها والاستمرار عليها، يتوب الله عليهم أي يقبل توبتهم، ويأخذ بأيديهم إلى الهداية ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب، وهذا ما تضمنه النص السامى ﴿يَتُوبُ اللَّهُ﴾ أي يسبغ التوبة عليهم، وهى تتضمن معنى الاهتداء والاتجاه إليه سبحانه، وإسباغ التوبة عليهم هو إلقاء الطهر عليهم فتتطهر نفوسهم.
6. وقد بين سبحانه أن ذلك مقتضى علمه وحكمته، فقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي أن الله تعالى يعلم النفوس وحركاتها وخلجاتها وسكناتها وميولها وانحرافاتها، ويعلم ما يطهرها، وما يركسها، وما يهديها وما يغويها، وهو بحكمته يعالج أدواءها، وقبول التوبة أبلغ علاج، والصفح في أكثر أحواله دواء للأسقام التي تعرض للنفوس، ولم تستقر فيها استقرارا.
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ بعد أن بين سبحانه الذين أخذ العهد أن يقبل توبتهم، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه، بين حال الذين لا تقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ هنا نفى لوقوع التوبة؛ لأن حقيقة التوبة كما بينا تقتضى أن يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير، فمن يقول عند حضور الموت: ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ ليس بتائب، وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لا يستحق من الله تعالى القبول؛ إذ لا موضوع له.
8. ذكر الله فريقين لأولئك الذين لا توجد منهم التوبة، حتى لا يتصور قبولها: فريق العصاة من المسلمين، وفريق الذين يموتون وهم كفار،أما فريق العصاة من المسلمين فقد ذكر لهم وصفين أو أمرين:
أ. أحدهما: أنهم يعملون السيئات، أي تتعدد أنواع السوء، وتكثر وتشيع في النفوس، حتى يربدّ القلب بها ويسودّ، وهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة] فالفرق بين هؤلاء ومن سبقوا أن الأولين ارتكبوا في غفوة من الضمير، ولم يمت، وأما هؤلاء فقد مات وجدانهم الدينى، كأولئك الذين نراهم سادرين في الفساد وقد استهانوا بكل المحرمات الدينية والتكليفات الربانية.
ب. الثاني أنهم لا ينطقون بالتوبة في وقت الاختيار، بل ينطقون بها في وقت الاضطرار؛ ولذا قال سبحانه: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ أي أنهم يستمرون في غيهم يعمهون، لا يستيقظ لهم ضمير، ولا يقلعون عن معصية، حتى إذا أزفت الآزفة، وحضر الموت، ولم يكن مناص من أخذهم، قال قائلهم: إني تبت الآن، ولم يقل سبحانه عن حالهم إنهم تابوا، بل حكى قول أحد: ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ مما يدل على أنهم لم تقع منه توبة قط، وقوله لا يعد توبة في حقيقته، وإن سماه هو توبة.
9. ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين:
أ. أحدهما: الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه، وهو فوق عباده.
ب. الثاني: أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت.
10. بقى ثالث لم يذكره سبحانه، وهو الذي لم يتب من قريب، ولكنه تاب قبل أن يحضره الموت، وقد قال مفسرو السلف إنه يعدّ قد تاب من قريب، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله، ما دام قد تاب قبل أن يحضره الموت، وكان في فسحة من الوقت، وقد رووا في ذلك آثارا عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، منها ما روى عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ما من عبد يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه)، فمقياس القرب هو ألا تكون التوبة وقت حضور الموت، ووقته علمه بأنها دنت، أما إذا كانت التوبة وهو صحيح يرجو الحياة، فإنها مقبولة، وأجل الإنسان كله قريب.
11. بين سبحانه بعد ذلك الذين لا تقبل توبتهم من غير المسلمين فقال: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي أن الله تعالى لا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة لأنهم لم يؤمنوا، فأساس الطاعات الإيمان، وإن تابوا قبل أن يموتوا وهم في فسحة من الوقت، فإن توبتهم غير مقبولة، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس]
12. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي أولئك الذين لم يتوبوا، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا، وهذا يشمل عصاة المؤمنين، والذين ماتوا وهم كفار، غير أن الكفار خالدون في النار، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم.. اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا، ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1614.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الجهل والجهالة ضد العلم، وكل من الكلمتين يصح استعمالها بالسفه والحمق، ومنه قوله تعالى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، واتفق المفسرون على ان المراد بالجهالة هنا السفاهة، لأن معنى الآية لا يستقيم إلا على هذا الأساس.
2. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، السوء العمل القبيح، والجهالة السفاهة بترك الهدى إلى الضلال، والمراد بالتوبة عن قريب أن يتوب المذنب قبل أن يساق إلى الموت، لأن الموت آت لا ريب فيه، وكل آت قريب، أما قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ فهو على حذف مضاف كما بينا في فقرة الإعراب، أي قبول التوبة عليه جل وعلا، والمعنى المحصل ان من أساء، ثم ندم وأناب يقبل الله انابته، ويصفح عنه، حتى كأنه لا ذنب له، بل ان الله سبحانه يثيبه ثوابا حسنا.
3. سؤال وإشكال: ظاهر الآية يدل على انه يجب على الله أن يقبل التوبة من النادمين، مع العلم بأن الله يوجب على غيره ما يشاء، ولا يوجب أحد عليه شيئا، إذ ليس كمثله شيء، والجواب: ليس المراد ان الغير يوجب على الله أن يقبل التوبة.. تعالى الله، وانما المراد ان فضله وكرمه يستوجب هذا القبول، تماما كما تقول للكريم: ان كرمك يفرض عليك البذل والعطاء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾
4. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، ما داموا راغبين رغبة حقيقية في العودة إلى صفوف المؤمنين الأخيار، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ عليم بالتوبة النصوحة والزائفة، حكيم بقبول الأولى من التائب.
5. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، ان الله يقبل من تاب اليه، على شريطة أن يتوب قبل أن تظهر له أمارات الموت، أما من تاب، وهو يساق إلى القبر فلا تقبل توبته، لأنها توبة العاجز عما يئس من نواله.
6. سؤال وإشكال: ما ذا أنت صانع بما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، وان الساعة لكثير، من تاب، وقد بلغت الروح هذه ـ مشيرا الى حلقه ـ تاب الله عليه؟ والجواب: في هذه الرواية نظر، لأمور:
أ. الأول: انها تخالف كتاب الله، وقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انه قال: (قد كثرت عليّ الكذابة في حياتي، وستكثر بعد وفاتي، فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فلا تأخذوا به)، ومن أجل هذا لا نأخذ بحديث قبول التوبة إذا بلغت الروح الحلقوم.. وغير بعيد ان حكام الجور في عهد الأمويين والعباسيين قد أوعزوا الى بعض أذنابهم أن يضع لهم هذا الحديث، ليحتجوا به أمام المحكومين بأن لهم مندوحة عند الله، مهما جاروا وأفسدوا.. فلقد كان لكل حاكم منهم حزمة من فقهاء السوء يبررون أعمالهم، ويكيفون الدين طبقا لأهواء الشياطين.
ب. الثاني: ان قبول التوبة عند الموت إغراء بارتكاب الذنب والمعصية، وهذا من عمل الشيطان، لا من عمل الرحمن.
ج. الثالث: ان الله سبحانه انما يقبل العمل من العامل إذا صدر منه عن ارادة وحرية كاملة.. وبديهة ان الإنسان انما يكون حرا بالنسبة الى العمل إذا كان قادرا على فعله وتركه معا، أما إذا قدر على الفعل دون الترك، أو على الترك دون الفعل فإنه يكون مسيرا لا مخيرا، ومن هذا الباب التوبة عند الموت، إذ المفروض ان التائب في هذه الحال يعجز عن اقتراف الذنب والمعصية، تماما كما يعجز عنها من يقول غدا: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾، فان قبل الله التوبة ممن يساق الى القبر فينبغي ان يقبلها ممن يعذب في النار.. والفرق تحكم، ولذا سوّى الله بينهما، وعطف أحدهما على الآخر، حيث قال: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي ان الله سبحانه لا يقبل التوبة أيضا من الذين يموتون على الكفر، ولا يندمون إلا حين يرون العذاب يوم القيامة، بل لا يقبلها منهم، وهم في طريقهم الى هذا اليوم، كما دلت الآية 100 من سورة المؤمنين: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَقائِلُها ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
7. أجل، يجوز في نظر العقل أن يعفو جل وعز ويصفح عن المذنبين، وان لم يتوبوا تفضلا منه وكرما.. ولكن هذا شيء، وقبول التوبة عند الموت شيء آخر.
8. التوبة فرع عن وجود الذنب، لأنها طلب للصفح عنه.. ولا يخلو الإنسان من ذنب ما كبيرا كان أو صغيرا إلا من عصم الله، وقد نسب الى الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم قوله: (ان تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألمّا) وقد أوجب سبحانه التوبة على من أذنب، تماما كما أوجب الصوم والصلاة، ومن الآيات الدالة على وجوبها هذه الآية: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ ـ 9 التحريم)، وقوله: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
9. الحقيقة ان وجوب التوبة لا يحتاج الى دليل، لأنه من القضايا التي تحمل دليلها معها، فكل انسان يدرك بفطرته ان على المسيء أن يعتذر عن إساءته، ويطلب الصفح ممن أساء اليه، وقد جرى على ذلك عرف الدول والشعوب، حتى ولو حصل التعدي خطأ، ومن غير قصد، فإذا اخترقت طائرة دولة أجواء دولة أخرى، أو تجاوز زورق من زوارقها المياه الاقليمية، دون اذن سابق وجب أن تعلن اعتذارها، والا أدانها العرف والقانون.. اذن، كل آية أو رواية دلت على وجوب التوبة فهي تقرير وتعبير عن حكم الفطرة، وليست تأسيسا وتشريعا جديدا لوجوب التوبة.
10. وعلى هذا فمن أذنب، ولم يثب فقد أساء مرتين: مرة على فعل الذئب، ومرة على ترك التوبة، وأسوأ حالا ممن ترك التوبة من فسخها، وعاد الى الذنب بعد أن عاهد الله على الوفاء بالطاعة والامتثال، قال تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ ومَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ واللهُ عَزِيزٌ ذُوانْتِقامٍ﴾، وفي الحديث: (المقيم على الذنب، وهو مستغفر منه كالمستهزء).. الله يستهزئ بهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون، ويتحقق الذنب بترك ما أمر الله به، أو فعل ما نهى عنه عن قصد وتصميم، وبديهة ان أحكام العقل هي أحكام الله بالذات، لأنه جل وعز يبلغ أحكامه بوسيلتين: العقل، ولسان رسله وأنبيائه.. والنتيجة الحتمية لهذا المبدأ انه لا ذنب ولا عقاب بلا بيان، على حد تعبير الفقهاء المسلمين، أو بلا نص على حد تعبير أهل القوانين الوضعية.
11. إذا تمهد هذا تبين معنا ان الإنسان انما يكون مذنبا وعاصيا إذا فعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به عن تعمد وعلم، فإذا فعل أو ترك ناسيا، أو مكرها، أو جاهلا من غير تقصير وإهمال فلا يعد مذنبا، وينتفي السبب الموجب للتوبة، قال: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ أي بعد ذنبه، لأن كل من أقدم على الذنب فقد ظلم نفسه بتعريضها للحساب والعقاب.
12. أما تحديد التوبة فهي أن يندم المذنب على ما كان منه، ويطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يعود إلى الذنب ثانية، فإن عاد بطلت التوبة، واحتاج إلى استئنافها بعهد أحكم، وقلب أسلم، قال الإمام زين العابدين عليه السلام: (اللهم ان يكن الندم توبة اليك فأنا أول التائبين، وان يكن الترك لمعصيتك انابة فأنا أول المنيبين، وان يكن الاستغفار حطة للذنوب فإني لك من المستغفرين)
13. المراد بالاستغفار الاستغفار بالفعل، لا بالقول، فيبدأ قبل كل شيء بتأدية حقوق الناس، ورد ظلامتهم، فإذا كان قد اغتصب درهما من انسان أعاده اليه، وان كان قد أساء اليه بقول أو فعل طلب منه السماحة.. ثم يقضي ما فاته من الفرائض، كالحج والصوم والصلاة، سمع أمير المؤمنين علي عليه السلام رجلا يقول: أستغفر الله، فقال الإمام: أتدري ما الاستغفار؟ انه درجة العليين، وهو واقع على ستة معان.. وذكرها الإمام، منها العزم على ترك العودة إلى الذنب، وتأدية الحقوق إلى المخلوقين، وقضاء الفرائض، ومتى توافرت هذه العناصر للتائب كان من الذين عناهم الله بقوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ ـ 82 طه) أي استمر على الهداية، وهي الإيمان والعمل الصالح، وفي الحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، بل يصبح من المحسنين، قال تعالى: ﴿تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾، وقال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: من رأى انه مسيء فهو محسن، أما السر لاحسان التائب، وعظيم منزلته عند الله سبحانه فهو معرفته بنفسه، ومحاسبتها على كل عيب ونقص، وجهادها على الكمال والطاعة، هذا الجهاد الذي عبّر عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجهاد الأكبر.. وقديما قال الأنبياء والحكماء: اعرف نفسك، ومرادهم ان يعرف الإنسان ما في نفسه من عيوب، ويعمل على تطهيرها من كل شائبة.
14. سؤال وإشكال: الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة: منها أبواه ومدرسته، ومجتمعه ومناخه، وما إلى ذلك مما يؤثر في تكوين شخصيته، ولا حول معه ولا طول، وعليه فلا يتصف الإنسان بأنه أذنب وأساء، لأن الذنب ذنب المجتمع والظروف، ومتى انتفى الذنب انتفى موضوع التوبة من الأساس؟ والجواب: صحيح ان محيط الإنسان وظروفه تؤثر به.. ولكن صحيح أيضا ان ذات الإنسان وارادته تؤثر في ظروفه وبيئته، كما يتأثر هو بها، لأن لكل من الإنسان وظروفه واقعا ملموسا، وكل شيء له واقع ملموس لا بد أن يكون له أثر كذلك، وإلا لم يكن شيئا، وعلى هذا يستطيع الإنسان أن يؤثر في ظروفه، بل يستطيع أن يقلبها رأسا على عقب، إذا كان عبقريا.. والشاهد الحس والوجدان، ان شأن الظروف التي يعيشها الإنسان أن تبعث في نفسه الميل والرغبة في ثمار الظروف ونتاجها، وعلى الإنسان أن ينظر ويراقب هذه الثمار، وتلك الرغبة، فإن كانت متجهة الى الحسن من الثمار اندفع مع رغبته، وإلا أوقفها وكبح جماحها.. وليس هذا بالأمر العسير.. ولو لم يكن للإنسان مع ظروفه حول وطول لما اتصف بأنه محسن، وبأنه سيء، ولبطل العقاب والثواب، وسقط المدح والذم، ولما كان لوجود الأديان والأخلاق والشرائع والقوانين وجه ومبرر.
15. سؤال وإشكال: قلت: ان التوبة فرع الذنب، مع العلم بأن الأنبياء والأئمة كانوا يتوبون الى الله، وهم مبرو أن عن العيوب والذنوب، والجواب: ان الأنبياء والأئمة مطهرون من الدنس والمعاصي، ما في ذلك ريب.. ولكنهم كانوا لمعرفتهم بالله، وشدة خوفهم منه يتصورون أنفسهم مذنبين، فيتوبون من ذنب وهمي لا وجود له.. وهذا مظهر وأثر من آثار عصمتهم وعلو مكانتهم.. لأن العظيم من لا يرى نفسه عظيما، بل لا يراها شيئا مذكورا في جنب الله، ويتهمها دائما بالتقصير في طاعته وعباده، ومن أجل هذا يسأله العفو، ويستعين به على حسن العاقبة، على العكس من ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾
16. خير ما قرأته في هذا الباب قطعة من مناجاة الإمام زين العابدين عليه السلام، يطلب فيها من الله أن يسخر له عبدا من عباده الصالحين مستجاب الدعوة لديه تعالى.. كي يرى هذا العبد سوء حال الإمام من شدة خوفه من الله، فيتأثر، وتأخذه الرقة على الإمام، ويتوسل إلى الخالق الجليل ان يرفق بالإمام، فيسمع الله دعوة هذا العبد الصالح، وينجو الإمام من غضب الله وسخطه، ويفوز برضاه ومغفرته، وهذا ما قاله الإمام بالحرف: (فلعل بعضهم برحمتك يرحمني لسوء موقفي، وتدركه الرقة عليّ لسوء حالي، فينالني منه بدعوة هي أسمع لديك من دعائي، أو شفاعة أوكد عندك من شفاعتي تكون بها نجاتي من غضبك، وفوزي برضاك)، قال الإمام زين العابدين، وسيد الساجدين مخاطبا ربه: (لعل بعضهم أوكد عندك من شفاعتي تكون بدعوته نجاتي) قال هذا يوم لا أحد على وجه الأرض يدانيه في فضيلة واحدة من فضائله الجلى.. وهنا يكمن سر الجلال والعظمة والكمال.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/272.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنه ما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه، وهو إحدى الحقائق العالية الإسلامية والتعاليم الراقية القرآنية، وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها.
2. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ التوبة هي الرجوع، وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الإعراض عن العبودية، ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه، وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم، وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله، والقوة لله جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث، وزوال هذه القذارات، والورود والاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة، وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾: وهذه هي التوبة الأولى، وقال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾: وهذه هي التوبة الثانية، وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
3. أما قوله: ﴿عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ﴾، لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، وكان السباق لفلان على فلان، ووجه إفادة على واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء، واللام معنى الملك والاستحقاق، ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء، وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر، ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له، والواعد والموعود له وهكذا، فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
4. لما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال هاهنا: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر، تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل، وظاهر الآية:
أ. أولا: أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد، وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
ب. وثانيا: أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين جميعا بالتوبة قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾: يريد: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بقرينة أول الكلام فسمى الإيمان توبة، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾
5. الدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا، وعلى هذا فالمراد بقوله: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب، والعمل أعم من عمل القلب والجوارح، أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر والمعصية.
6. أما قوله تعالى: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة، وأن الإرادة إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم، وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم، وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته (جهالة) في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة ألحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى إنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات النيئة على نفسه، ولذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك.
7. فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق، ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة، وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
8. نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
9. ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت، وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل، والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
10. الدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، وعلى هذا يكون قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
11. يتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله: ﴿بِجَهالَةٍ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله، وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع، ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية، ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
12. بالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله، ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
13. ويمكن أن يكون قوله: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ قيدا توضيحيا، ويكون المعنى: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم، أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور، ولازمه كون قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ لا بقوله: ﴿بِجَهالَةٍ﴾ وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾ عن التساهل والتواني فافهم ذلك، ولعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.
ذكر بعضهم: أن المراد بقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر، وهو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ﴾.. والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة، ولم يذكر في الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت، والتوبة للكافر بعد الموت، ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية.
14. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾
15. وقد اختير لختم الكلام قوله: ﴿وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ دون أن يقال: وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم، ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الأمور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب، ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة.
16. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾.. في عدم إعادة قوله: عَلَى اللهِ مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
17. تقييد قوله: ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ المفيد لاستمرار الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة، أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.
18. في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ دون أن يقال: حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالأمر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاءونه ولا يبالون وكلما عرض لأحدهم عارض الموت قال إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة مخالفة الأمر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.
19. من هنا يظهر معنى تقييد قوله: ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ﴾ بقوله: ﴿الْآنَ﴾ فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى: إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق، وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة: ﴿وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾، فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية.
20. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فإن إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ، وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت، وأنهم لا يجابون وإن سألوا، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، ونفي الناصرين نفي للشفاعة في حقهم.
تقييد الجملة بقوله: ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية وإن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين، وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.
21. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف، والاعتاد: والإعداد أو الوعد.
22. كلام في التوبة:
أ. التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى وعيسى عليه السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، وتسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان، حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء، وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب، هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها، وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم!
ب. لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَالْغَنِيُ﴾، وقال: ﴿وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾، فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾، وقوله: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾
ج. وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه، وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الإيمان، وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة والرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه، وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات، وبعبارة أخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجيء إن شاء الله.
د. ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره، وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والإعانة، وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾، وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد، وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
هـ. وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها، وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾
و. وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض، ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ إلى قوله: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، وقوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقوله تعالى خطابا لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾، وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، إلى غير ذلك.
ز. فتلخص مما مر:
• أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه ـ سواء في ذلك الشرك وما دونه ـ توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيهـ سواء في ذلك الشرك وغيرهـ توبة منه إلى ربه، ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي.
• وثانيا: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره، وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى: ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ وقوله: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾: وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ الآية: وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، والنادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار والإنابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ح. من هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾، ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾
ط. من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، قال ما محصله: (إن الآية لا تدل على رد توبته، وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الأبدي، وأنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس، والواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وغياث المستغيثين)، وهو مدفوع:
• بقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ الآية، وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء، ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
• وإياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق، وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الإنسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح، ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الذي فيه، وذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والإهمال وهو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا، وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام والآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
• وثالثا: أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة أخرى التوبة إنما تنفع ـ إذا نفعت ـ في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى والأخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، وأما الأحكام الشرعية والقوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية، نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾:، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: إلى غير ذلك.
• ورابعا: أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾:، ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه، ولولا ذلك لهلك، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ﴾:، ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح، والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه، ويحيي به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى، ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية، وتحريصا على ترك الطاعة، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب، ووجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره، وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية، ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به، والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية، ولا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
• وخامسا: أن المعصية وهي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والإيقان بمساءتها، ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا، والندم تأثر خاص باطني من فعل السيئ، ويتوقف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا، وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح، والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار، وتعرض له كتب الأخلاق.
• وسادسا: أن التوبة وهي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار، وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، وقد تقدم ما يتضح به ذلك، ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه، وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم، وعد التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلما وعدوانا، وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك، وقد قال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾، إلا أن الإسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الإسلام يجب ما قبله، وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها، ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه.
• وسابعا: أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ﴾ ﴿مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾: ـ البقرة: 275 على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾، وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾، فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/238.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ لما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ بيَّن تعالى من يتوب عليه وأوجب على نفسه أن يتوب عليه، لأن الحكمة تقتضي ذلك، مع كرمه ورحمته وهو من يتوب إلى الله ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ أي من وقتٍ قريب، وهو ما دام في دار الخيار فتاب مختاراً قبل حضور الموت، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (كل شيء دون الموت فهو قريب)
2. وقد بيَّن تعالى في الآية التي بعدها: أن ما كان عند حضور الموت أو يوم القيامة فهو من بعيد، والقرب والبعد اعتباريان، فلما كان وقت حضور الموت لا تقبل فيه التوبة اعتبر وقتاً بعيداً؛ لأنه تأخر عن وقت قبول التوبة، و﴿السَّوْءِ﴾: الذنب.
3. وقوله تعالى: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أي يعملونه بجهالة وسفاهة، وعدولٍ عن اتباع العقل والحكمة، وهو يسمى في اللغة: جهلاً، وجهالةً، قال الشاعر:
çألا لا يجهلن أحد علينا.. فنجهل فوق جهل الجاهليناé
وفي (مجموع الإمام زيد بن علي): عن علي عليهم السلام: (إذا اعتكف الرجل فلا يرفث ولا يجهل..) إلخ، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (معناه بعمد)، وفائدة هذا القيد: دفع توهم أن الله يتوب عليه بسبب عمل السوء؛ لأنه جهالة لا يصلح إلا أن يكون سبباً للعقوبة، وإنما ذكره ليرتب عليه ذكر التوبة من العبد التي هي سبب توبة الله عليه والعفو عنه، فأحكم الحاكمين لا يحب عمل السوء ولا يرضاه لعباده لأنه جهالة لا يرضاها حكيم، فما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون ليغفر لهم) بعيدٌ من الحسن، ظاهره: الضعف؛ لأن مثل هذا التعبير لا يصدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي ظاهره الترغيب في الذنب، والله تعالى أرسله ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1] ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ﴾ [الأحزاب: 46]
4. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بمن يتوب من قريب ومن لم يتب، وعليماً بمن يستحق التوبة عليه ومن لا يستحق ﴿حَكِيمًا﴾ لا يتوب إلا على من يستحق ذلك، لأن مقتضى عزته وحكمته أن يعذب من لم يتب.
5. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ تتكرر منهم، ويصرون عليها ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ كفارٌ لنعمة الله بالمعاصي والإصرار عليها حتى الموت، هذا أحد معاني الكفر والسياق يُعَيِّنُه، لأنه في مقابلة ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ فالسياق في المعاصي مطلقاً لا في كفر الجحود.
6. ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ لأنهم لم يتوبوا من قريب، وقد بسط الناصر عليه السلام في (البساط) الإحتجاج على أن أهل الكبائر المصرين عليها يُسمَّون كفاراً فراجعه، و﴿أَعْتَدْنَا﴾ أي أعددنا، قال الشرفي في (المصابيح): (أصل ﴿أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا، فأبدل الدال تاءً، وقيل: أصله من العتاد وهو عُدَّة الرجل، والمعنى: هيَّأنا لهم عذاباً أليماً موجعاً)، ومثله في (مفردات الراغب الأصفهاني) وإذا كان من العتاد فهو تَهكُّمٌ بهم، مثل: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ﴾ [آل عمران: 21]، قال في (الصحاح): (العتيد: الشيء الحاضر المهيَّأ، وقد عتّده تعتيداً وأعتدَه اعتاداً: أي أعدَّه ليوم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ [يوسف: 31] ثم قال والعتاد: العدة، يقال: أَخَذ للأمر عُدَّته وعَتَاده: أي أهبته وآلته)، ويظهر من قوله: (الحاضر الْمُهَيَّأ) أن فيه معنى الإعداد، ولكنه مع ذلك يفيد الحضور كما يفيده الإعداد، ومثله في (لسان العرب) وذكر الخلاف: (فقيل: أعد يُعِد إنما هو اعتد يعتَد، ولكن أدغمت التاء في الدال، وأنكر الآخرون، فقالوا: اشتقاق أعد من عين ودالين؛ لأنهم يقولون: أعددناه فيُظهِرون الدالين..) إلى قوله: (قال الأزهري: وجائز أن يكون عتَد بناءً على حِدَةٍ وعَدَّ بناء مضاعفا، قال وهذا هو الأصوب عندي)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/32.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. للتوبة ـ في المفهوم الإسلامي القرآني ـ معنى العمق الإيماني في الانفتاح على الله بالعودة إليه ـ في حالة الخطيئة ـ بالإحساس العميق بالندم على التمرّد العملي على أوامره ونواهيه، والإرادة القوية الواعية في تغيير المسار من خط الانحراف إلى خط الاستقامة، ومن تحويل الموقف من واقع المعصية إلى واقع الطاعة في روحية إيمانية تتمثل الإخلاص في العلاقة بالله.
2. ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ الذي يتقبل التوبة عن عباده مما فرضه لهم من الحق في قبولها بالعفو عن الخطيئة وغفران الذنب وإدخالهم في رحمته من جديد، ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ الذنب.
3. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ بالسير في خط الانحراف عن خطه المستقيم انطلاقا من خلل في التصور، أو في تقدير الأمور، أو في حسابات الربح والخسارة، أو غفلة عن النتائج السلبية على قضية المصير الأخروي، أو الخضوع لسلطان الشهوة تحت تأثير النفس الأمارة بالسوء مما يدخل في عنوان (السفاهة) العقلية أو العملية في غياب الوعي الصافي الذي ينظر إلى الأمور بوضوح ويتحرك معها باتزان.
4. ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ قبل أن يعاينوا الموت، وذلك في الحالة التي يملكون فيها التراجع عن الانحراف، لأن الساحة تحمل الكثير من الفرص للتغيير، لأن التوبة في مثل هذه الحالة تعني وعي خطورة الخطيئة وإرادة العودة الواعية إلى الله، مما يوحي بأن هذا الإنسان يتحرك في نطاق العودة إلى معنى إيمانه في حركة الطاعة لله، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾ الزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى التوبة الفورية والندم السريع، لأن على المعصية، باعتبار أنه يؤدي دورا مهما في تصحيح المسار، لكن الحالة الأولى أقرب إلى الاستقامة.
5. ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ من موقع رحمته التي تتسع للخاطئين التائبين الذين ابتعدوا عنه بفعل نقاط الضعف التي سيطرت على شخصياتهم وأرادوا العودة إليه، بفعل التمرد على الضعف في اتجاه الانفتاح على القوة، لأن الله يريد أن يمنح الإنسان الفرصة في كل وقت لتحويل نقاط الضعف في ذاته إلى نقاط قوة، فإن ذلك يوحي بأن هذا الإنسان قد بدأ الرحلة الجديدة إلى الله في عملية إخلاص وتوحيد.
6. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ بالواقع الإنساني الذي تختبئ الغرائز في داخله لتقود كل حركته وتتحرك النوازع في حياته لتوجه هذه الغرائز إلى دائرة الانحراف، مما يجعل للإنسان بعض العذر في خطاياه تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية، الأمر الذي يريد الله فيه أن يساعده على الوقوف في خط المواجهة والانتصار على الذات.
7. ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ ويستغرقون فيها ويخلدون إلى الأرض في غفلة مستمرة لا تدع مجالا لأيّ تغيير في الداخل وتمرّد على أيّة حالة من حالات التوعية واليقظة الروحية، لأن المسألة عندهم هي أن يعيشوا العمر في دائرة الشهوات والأطماع والملذات والأنانيات بعيدا عن أية رسالة وعن أيّة عودة إلى الله وإنابة إليه ورغبة في الحصول على رضوانه، فهم سادرون في غيّهم، مصرّون على خطاياهم، متمردون على ربهم، غافلون عن آخرتهم وعن النتائج المهلكة التي يواجهونها هناك، فلا يفكرون في توبة ولا يعملون للتراجع عن الذنب.
8. ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ وعاين الأهوال القادمة ورأى تهاويل الواقع الجديد، وعرف أن الفرصة قد انتهت، وأنه يدخل في عالم جديد يواجه فيه نتائج أعماله، ويقدّم فيه حساب عمره كله، ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ كوسيلة من وسائل التجربة في الخروج من المأزق والتعبير عن الإحباط، فلم تكن المسألة لديه مسألة وعي وإرادة للتغيير، لأن الوقت قد ذهب، بل هي مسألة اضطرار خائف لا عمق له في الاختيار.
9. ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ فلم يأخذوا من الإيمان بأيّ سبب في كل مجالات حياتهم مع قيام الحجة عليهم في ذلك كله، ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ في الدنيا والآخرة جزاء لتمردهم على الله في الخط الفكري والعملي.
10. وهكذا أراد الله التوبة لعباده رحمة بهم، وتشجيعا لهم على التراجع عن مواقف الخطأ من موقع الإرادة الواعية المسؤولية، لينفصلوا بذلك عن الأجواء المنحرفة في كل ما تحتويه من مشاعر وأحاسيس وعلاقات وظروف ونزوات ونزعات، فيقف الإنسان موقف المتأمل الذي يحسب حساب ذلك كله في جميع نتائجه وآثاره، بعيدا عن كل الضغوط الحسية والمعنوية؛ فيفكر كيف يستقبل عواقب ذلك بوعي ومسئولية، وعلى ضوء ذلك، كان لا بد للتوبة من وعي للموقف ومن إرادة للتغيير؛ فينطلق الإنسان ليدخل في عملية مقارنة بين المبادئ التي يؤمن بها، من خلال ما يمثله إيمانه بالله وطاعته له، من تخطيط للعمل في صعيد الواقع، وبين الممارسات القلقة المنحرفة التي تحرّكت في واقع حياته العملية، وهنا تبدأ عملية الشعور بالضغط الروحي الذي يثير في داخله الإحساس بالندم، في حركة المسؤولية في فكره وضميره، وتتحرك إرادة التحول والتغيير في داخل نفسه، ولعلّ من البديهي أن يكون للإنسان امتداد في حياته العملية في المستقبل، ليعيش هذا الوعي وهذه الإرادة، وليتحقق له الصدق الواعي الحرّ.
11. ولهذا جاءت هاتان الآيتان لتجيبا عن السؤال: (لمن التوبة)؟ وكان الجواب، حديثا عن نموذجين من الناس:
أ. فهناك النموذج الذي عمل السوء بجهالة، وربما كانت كلمة الجهالة تعطي معنى عدم العلم، وربما كانت تعبر عن السفاهة وعدم الوعي وعدم المسؤولية، على أساس أن العلم الذي لا يترك تأثيره في عملية الوعي الداخلي لا يبتعد عن الجهل في طبيعة النتائج السلبية، وقد كثر في القرآن، وفي غيره، استخدام كلمة الجهالة للتعبير عن ذلك؛ بل ربما قال بعض العلماء: إن كلمة الجهالة، تعني السفاهة بشكل أساسي، وربما كان هذا المعنى هو الأقرب للفكرة التي تعالجها الآية، لأن التوبة لا تنحصر بأولئك الذين يعصون الله عن غير علم بما يفعلون، بل تشمل كل أولئك الذين ينحرفون عن الخط جهلا أو عمدا، من دون وعي عمليّ داخليّ للنتائج، بالمستوى الذي يحرك الإحساس والشعور، ويحوّل المعرفة إلى حالة شعورية داخلية قوية، فقد فتح الله لكل أولئك باب التوبة، إذا تراجعوا عن انحرافهم وتابوا عن قريب، أي قبل أن يدهمهم الموت فيلاقوه وجها لوجه، فإن التوبة تمثّل ـ في مثل هذا النموذج ـ الموقف الذي يعبّر عن يقظة الإيمان داخل النفس وحركته في آفاق الضمير، وينطلق بالإنسان في عملية التغيير، لأن الساحة الزمنية المفتوحة أمامه تترك له المجال لتجربة جديدة وعمل جديد من أجل التصحيح والتقويم، وهؤلاء الذين يمارسون موقف التوبة في هذا الاتجاه، هم الذين يتقبل الله توبتهم ويفتح لهم باب رحمته ومغفرته، على أساس علمه بهم وبمنطلقاتهم وتطلعاتهم، من خلال ما تقتضيه الحكمة من إفساح المجال للإنسان الذي يعيش حركة التجربة في حياته بين الخطأ والصواب أن يبدأ عملية التصحيح في كل فرصة مناسبة لذلك.
ب. وهناك النموذج الذي تمتد به المعصية في نطاق التمرد في عمر الزمن؛ فهو لا يفكر ـ أبدا ـ أن يتوقف ما دامت الحياة مفتوحة، والفرصة متاحة له، لأن القضية عنده ـ في كل طموحاته ـ هي إرواء شهواته وتحقيق مطامعه الذاتية، أمّا حسابات الله والدار الآخرة، فهي مؤجّلة دائما، بل ربما كانت من الأمور الثانوية المفعول عنها التي لا يدخلها في حسابه، حتى إذا واجه الموت وضاقت عليه نواحي الحياة قال: ﴿إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ ولكنها ليست توبة، بل هي محاولة هروب من حراجة الموقف بالانطلاق بالكلمة السريعة التي يواجه بها الكثيرون من الناس المواقف الصعبة، من أجل أن يتخففوا بذلك من حراجة المشكلة؛ ثم يرجعون عنها إذا كان هناك مجال للرجوع.
12. بذلك لا تكون هذه الكلمة تعبيرا عن موقف وعي، وإرادة تغيير، بل تكون تعبيرا عن حالة تخلّص من المأزق الصعب، ويتمثل هذا النموذج في نوعين من الناس: المؤمنين الذين يعيشون الإيمان فكرا بعيدا عن الممارسة، والكافرين الذين يواجهون الموت بالكفر، من دون عمق في الفكر والشعور وامتداد في مجال الالتزام والممارسة، وقد أكّدت الآية أن هؤلاء لا تقبَل توبتهم بل ينتظرهم العذاب الأليم، وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في آخر خطبة خطبها: (من تاب قبل موته بسنة، تاب الله عليه، ثم قال إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر، تاب الله عليه، ثم قال إن الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه، ثم قال إن الجمعة لكثيرة ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال إن يوما لكثير، ومن تاب قبل موته بساعة، تاب الله عليه، ثم قال وإن الساعة لكثيرة، ومن تاب وقد بلغت نفسه هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ تاب الله عليه)، وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عن قول الله عز وجل: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾، قال: (ذلك إذا عاين أمر الآخرة)، ويقول صاحب الميزان ـ تعليقا على ذلك ـ: (والرواية الثانية تفسير الآية وتفسّر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت، بأن المراد من حضور الموت، العلم به، ومشاهد آيات الآخرة، ولا توبة عندئذ، وأما الجاهل بالأمر، فلا مانع من قبول توبته)
13. ما استوحيناه من الآية أن المقصود بها التوبة التي تعبير عن موقف وعي، وإرادة تغيير في ما ينتظره الإنسان من الساحة الجديدة الزمنية التي تتحرك فيها خطواته العملية في المستقبل، ولن يكون ذلك إلا في المجال الذي ينتظر فيه المستقبل في انطلاقات الأمل الكبير بالحياة؛ وفي ضوء ذلك، لا تكون أمثال هذه الروايات بعيدة عن الجو العام للآية (2).
14. من خلال هذا العرض، نستطيع اعتبار التوبة وسيلة عملية من وسائل التربية الروحية والعملية، لأن الإنسان قد يعيش في أغلب مواقفه الوقوع في خطأ التجربة، ويعاني من عقدة الشعور بالنقص أمام المنحدر السحيق الذي تقوده إليه أخطاؤه؛ وربما يقوده ذلك إلى التعقيد الداخلي والضياع الروحي، عند ما يصطدم بالحقيقة ويواجه النتائج الحاسمة وجها لوجه من دون أن يتمكن من تغيير الواقع، فيبقى أسير عقدته؛ ويتحول ذلك إلى موقف سلبي من الحياة والأشخاص من حوله نتيجة ما تثيره العقدة الداخلية من أحاسيس ومشاعر وتحرّكات وتعقيدات.
15. جاءت التوبة الإلهية لتقول للإنسان، بأن الخطأ حالة طبيعية في حياته، انطلاقا من نوازع الضعف الكامنة في داخل نفسه، التي قد يستسلم لها تارة، وقد يتمرّد عليها أخرى؛ فكان لا بد له من أن يسقط أمام حالات الضعف.. ولكن ليس معنى ذلك أنها ضريبة لازمة له، لا يستطيع الفكاك منها والتحرّر من عبوديتها، بل هي قضية طبيعية، تماما كما هي الحالات الطبيعية العارضة للإنسان التي قد يحتاج إلى التعامل معها بفعالية، ومعالجتها بحكمة وقوّة، كما يحتاج إلى عدم مواجهتها باللامبالاة والسلبية والاستمرار في أجواء الضياع، وهكذا كانت التوبة من أجل مساعدة الإنسان على مواجهة المعصية والخطأ، كحالة طارئة لتزول وتذهب وتذوب، فلا تبقى في حياته كعقدة، لتتجدد له مشاعر الثقة بإنسانيته وبقدرته على رد التحدي، وممارسة التغيير، والبدء من جديد.. فلا يبقى أسير العقدة، بل يقف أمام الله بكل حرية الإرادة، وإرادة التغيير، في ثياب بيضاء، وقلب مفتوح للحق والخير والأمل الكبير بالمستقبل الأبيض الذي يبدأ من جديد، تماما كما لو لم يكن هناك أيّ ماض معقّد أسود، لأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، فيخرج منه كما ولدته أمه، وإذا تاب الله على الإنسان، وعاش مشاعر التوبة، وأحسّ باللطف الإلهي يغمره بالمغفرة والرضوان.. فإنه يعيش الشعور الملائكي الروحيّ في نفسه، كما لو كان ملاكا يطير بجناحين من طهر ونقاء وفرح روحي كبير غامر.. فيتجدّد ويتحوّل إلى إنسان جديد يبدأ الحياة مع الله، في انطلاقة عمر جديد.
16. في ضوء ذلك، لن تكون التوبة ـ كما يخيّل للبعض ـ وسيلة من وسائل تشجيع الإنسان على الامتداد في الخطأ والاستغراق في الجريمة، لأنه يجد في التوبة طريقة للهروب كلما أراد ذلك؛ وهكذا حتى تكون حياته كلها جريمة وتراجعا، الأمر الذي يجعل الشخصية الإنسانية في مستوى الميوعة الروحية والأخلاقية، باسم التصحيح والتراجع، وقد أوضحنا الموضوع ـ من خلال مفهومنا للآية ـ وقلنا بأن التوبة ليست حالة طارئة سريعة، تتحرك في نطاق الممارسة الشكلية، بل هي موقف وعي للمبادئ وإرادة للتغيير، ومحاولة جادة لتركيز الشخصية على أساس متين.. مما يجعل من التصور الإنساني للمستقبل، تصورا للموقف الجديد الثابت الممتد في كل خطوات الزمن، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام في دعاء التوبة، في الصحيفة السجادية في مناجاته لله: (اللهم أيّما عبد تاب إليك، وهو في علم الغيب عندك فاسخ لتوبته وعائد في ذنبه وخطيئته، فإني أعوذ بك أن أكون كذلك؛ فاجعل توبتي هذه توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة موجبة لمحو ما سلف والسلامة في ما بقي)، ثم يؤكد التصميم على الثبات على التوبة ـ الموقف ـ فيعمل على الاستعانة بالله على أن يمنحه القوة للاستمرار على هذا الخط: (اللهم ولا وفاء لي بالتوبة إلا بعصمتك، ولا استمساك بي عن الخطايا إلا بقوتك؛ فقوني بقوة كافية وتولني بعصمة مانعة)، وهذا ما أثارته الآيتان الكريمتان في تحديدهما للتوبة المقبولة وغير المقبولة؛ والله العالم.
17. سؤال وإشكال: ربما يثير البعض أن الإنسان خاضع في أفعاله إلى المحيط الذي نشأ فيه، والبيئة التي ترعرع فيها، مما يجعل المؤثرات التي تدفعه إلى ممارسة الخطأ والخطيئة ضاغطة على إرادته بالدرجة التي لا يصدر العمل منه عن اختيار، فإن الأب والأم والأقرباء والمدرسة والمجتمع والمناخ ونحوها تترك تأثيراتها في عناصر شخصيته فيتحرك من خلالها حركة لا إرادية، ويبتعد بسببها عن خط الاستقامة، لذا كيف يحكم عليه بالإساءة وكيف يتصف فعله بالذنب ليحتاج بذلك إلى التوبة التي تخلصه من غضب الله وعقابه، وكيف يعاقبه الله على ما لا خيار له فيه؟ والجواب: لا ريب أن للبيئة تأثيرا كبيرا على شخصية الإنسان، وعلى طبيعة عناصره التي تمثل نقاط الضعف فيه، ولكن البيئة لا تشل إرادته، ولا تغلق عقله، ولا تمنعه من حرية الحركة في مواجهة الأفكار، والخيارات الأخرى، التي يمكن أن تحرك فكره وتهز قناعاته وتدفعه إلى البحث والحوار مع الآخرين، مما يمكنه من تجاوز المؤثرات البيئية إلى قضايا أخرى، فيملك القدرة ـ بذلك ـ على الاختيار ويتحرر من ضغط الواقع، وقد رأينا في صعيد الواقع أن هناك الكثير من الناس الذين عاشوا في بيئة صالحة تحوّلوا بفعل مؤثرات خارجية إلى أشخاص شريرين، كما أن هناك الكثيرين من الذين عاشوا في بيئة فاسدة تحوّلوا بفعل التفكير الحرّ والحوار الهادف إلى أناس خيّرين، بل رأينا البعض من هؤلاء الناس يتحركون للضغط على ظروفهم وتغيير الأوضاع من حولهم، وتلك هي حركة الطليعة الواعية التي تنتج من الواقع الفاسد واقعا صالحا ومن قلب اليأس أملا، ومن تهاويل الحزن فرحا كبيرا، وإذا عرفنا أن الله خلق للإنسان عقلا متحركا لا يتجمد في حال بل ينفتح على أكثر من أفق رحب، فإننا نعرف من خلال ذلك، أن العقل هو القوة التي تدفع الإنسان إلى التغيير من خلال إثارة الفكر المتنوّع من داخله وخارجه، وعلى ضوء هذا يبقى الإنسان مع حرية الاختيار في فعل الحسن تارة والقبيح أخرى بفعل جهاد النفس، حيث يتمرد على الضعف ويتغلب على الانحراف، وهذا ما يدركه الإنسان بالحسّ والوجدان.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/147.
(2) قد يكون الصحيح هو العكس، أي أن هذه الروايات بعيدة عن الجو العام للآية.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إذا تابوا وأصلحوا، ثمّ عقب ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ مشيرا بذلك إلى قبول التوبة من جانب الله أيضا، وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾
2. هنا يجب أن نرى ماذا تعني (الجهالة) هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟ إنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إلّا أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا، وأمّا إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إلّا أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.
3. في الحقيقة إنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجاد عليه السّلام في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول: (إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي)
4. ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾، هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من (قريب) فقد ذهب كثيرون إلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾ الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت، ولعل استعمال لفظة (قريب) إنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة، ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة (من قريب) بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا، ويندموا على ما فعلوه بسرعة، ويتوبوا إلى الله، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إلّا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة ـ إذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة (قريب) أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.
5. صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا، إلّا أنّها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة (على الله) (أي على الله قبولها) كذلك إشارة إلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقا.
6. ثمّ إنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.
7. ثمّ يقول تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته، وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.
8. من المسلم أن التكليف الإلهي والإختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب، ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إنّ العصاة يندمون عند ما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة، ولكن لات حين مندم، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة، ولا مفخرة ولا تكاملا، ولهذا لا يكون أي تأثير.
9. على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه، وبعبارة أخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.
10. هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم، وهم من يتوبون عند ما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره، أمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا، إذ يقول سبحانه: ﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾، ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم.
11. سؤال وإشكال: متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟ والجواب: احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد، بل توبة الله، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له، لكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمرا آخر وتقول: إن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر، وتوضيح ذلك: إنّنا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال (الموافاة على الإيمان) بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية، وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.
12. خلاصة القول إنّ قبول التوبة مشروط بأمرين:
أ. الأوّل: أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.
ب. والثّاني: أن يموت وهو مؤمن.
13. ثمّ إنّه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته، إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ، والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية بالموت حال الكفر، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن، ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط أخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/154.
18. الإرث والإكراه والعضل
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈18⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: 19]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة: أخذ ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك الحدود(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره ١/١٥٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها؛ فنزلت هذه الآية في ذلك(1).
2. روي أنّه قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه كان أحق بامرأته، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها.. وقال عطاء بن أبي رباح: وكان أهل الجاهلية إذا هلك الرجل فترك امرأة يحبسها أهله على الصبي، تكون فيهم؛ فنزلت: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾(2).
3. روي أنّه قال: أن رجالا من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فورث نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده لتفتدي منه بفدية؛ فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾(3).
4. روي أنّه قال: في هذه الآية، قال كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها؛ فأحكم الله عن ذلك، أي: نهى عن ذلك(4).
5. روي أنّه قال: في هذه الآية، قال كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها(5).
6. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ يقول: لا تقهروهن؛ ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ يعني: الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضر بها لتفتدي(6).
7. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، قال يقول: لا تمنعوهن؛ تحبسوهن(7).
8. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، قال البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية(8).
9. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، قال الزنا(9).
10. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، قال الفاحشة المبينة: أن تفحش المرأة على أهل الرجل، وتؤذيهم(9).
11. روي أنّه قال: أنه كان يقول في هذه الآية: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، قال الفاحشة المبينة: النشوز، وسوء الخلق، كان يقول: إذا نشزت وساء خلقها أخرجها(9).
__________
(1) البخاري ٦/٤٤.
(2) ابن جرير ٦/٥٢٣.
(3) ابن جرير ٦/٥٢٥،الإسناد ضعيف، لكنها صحيفة صالحة ما لم تأت بمنكر أو مخالفة، وقد تقدم..
(4) أبو داود (٢٠٩٠.
(5) ابن جرير ٦/٥٢٦.
(6) ابن جرير ٦/٥٢٨.
(7) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٣.
(8) ابن جرير ٦/٥٣٣.
(9) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٤.
جابر:
روي عن جابر بن عبد الله (ت 78 هـ) أنّه قال: البكر إذا زنت جلدت، وفرق بينها وبين زوجها، وليس لها شيء(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٩/٢٥١.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: قوله ـ جل ثناؤه ـ: ﴿يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها﴾، كان الرجل إذا كانت في حجره اليتيمة ولها مال منعها أن تتزوج، يحبسها على ولده حتى يتزوجها، أو تموت فيرثها؛ فنزلت هذه الآية: ﴿يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها﴾ (1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦١٢.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، قال لا تضر بامرأتك لتفتدي منك(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٣.
مقسم:
روي عن مقسم بن بجرة (ت 101 هـ) أنّه قال: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن إلآ أن يفحشن) في قراءة ابن مسعود، وقال: إذا عصتك وآذتك فقد حل لك أخذ ما أخذت منك(1).
__________
(1) ابن جرير ٤/١٤٤.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها غيره لمالها، فيتزوجها لأجل مالها، أو تكون تحته العجوز ونفسه تتوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز، يتوقع وفاتها ليرثها مالها، وهو معتزل فراشها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، العضل: أن يكره الرجل امرأته، فيضر بها حتى تفتدي منه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾(2).
3. روي أنّه قال: الفاحشة هاهنا: النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ خلعها منها(3).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٦.
(2) ابن جرير ٦/٥٢٩، وعلقه ابن أبي حاتم ٣/٩٠٣.
(3) ابن أبي شيبة ١٠/٣٥.
أبو قلابة:
روي عن أبي قلابة (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فلا بأس أن يضارها ويشق عليها، حتى تختلع منه(1).
2. روي أنّه قال: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها؛ لأن الله يقول: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٣.
(2) ابن المنذر ٢/٦١٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، كان إذا توفي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته، ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء؛ أخاه، أو ابن أخيه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، فإن الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها، أو يتزوجها ابنه(2).
__________
(1) عبد بن حميد كما في قطعة من تفسيره ص ٨٠.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٢.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: حقها عليه الصحبة الحسنة، والكسوة، والرزق المعروف(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦١٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في البكر تفجر، قال تضرب مائة، وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه، وتأول هذه الآية: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾، قال الزنا، فإذا فعلت حل لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع لتفتدي(2).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٢.
(2) ابن جرير ٦/٥٣٣.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾: كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل وله امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها، فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها، يرث نكاحها كما يرث ماله، فلما مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه وهي كبيشة بنت معمر بن معبد، فورث نكاحها ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت: يا رسول الله، مات أبو قيس بن الأسلت، فورث ابنه محصن نكاحي فلا يدخل علي ولا ينفق علي، ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي؟فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ارجعي إلى بيتك، فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك، فنزل: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ فلحقت بأهلها، وكانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء، فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾(1).
__________
(1) تفسير القمّي 1/134.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، قال فإن فعلن؛ إن شئتم أمسكتموهن، وإن شئتم أرسلتموهن(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾، يقول: لا ينبغي لك أن تحبس امرأتك ضرارا حتى تفتدي منك(1).
2. روي أنّه قال: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن شيئا من ذلك، وعصين عصيانا بينا، وكان النشوز من قبلها، ولم تؤد الحق الذي عليها؛ فقد أحل الله لك خلعها، فأما إذا كانت راضية لك، مغتبطة بجناحك، مؤدية للحق الذي جعل الله له عليها؛ فلا يحل لك أن تأخذ مما آتيتها شيئا(2).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٥١.
(2) عَبد بن حُمَيد كما في قطعة من تفسيره ص ٨٠.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، وهو الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٣.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال في الآية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها حتى يتزوجها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها؛ فنهى الله المؤمنين عن ذلك(1).
__________
(1) عبد الله بن وهب في الجامع ـ تفسير القرآن ١/١٢٥.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن قول الله: لا ﴿يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ قال: الرجل تكون في حجره اليتيمة فيمنعها من التزويج ليرثها بما تكون قريبة له)، قيل: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ قال: الرجل تكون له المرأة فيضربها حتى تفتدي منه، فنهى الله عن ذلك(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ كما يقولون بالنبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع أن تتزوج غيره، وكان هذا في الجاهلية(2).
__________
(1) تفسير العياشي 1/228.
(2) تفسير العيّاشي 1/229.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ثم رخص واستثنى، ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، يعني: العصيان البين، وهو النشوز، فقد حلت الفدية إذا جاء العصيان من قبل المرأة(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٤.
الرسّي:
ذكر الإمام القاسم الرسي (ت 246 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. وسألت: عن: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، ووراثتهم كرها هو: أن يمسكهن الأزواج رغبة في الميراث وشرها، لا رغبة فيهن، ولا محافظة عليهن، وجعل الله ذلك عليهن اعتداء، وبهن إضرارا؛ وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: 231]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/213.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾:
أ. قال بعضهم: كان يجوز لهم أن يرثوا النساء طوعا؛ لأنه إنما نهي أن يرثوهن كرها، فكان فيه دليل جواز وراثتهن طوعا.
ب. وأما عندنا(2): فإنه ليس فيه دليل جواز وراثتهن طوعا، وإن كان النهي إنما كان في حال الكره؛ لأن الأصل عندنا: أن ليس في حظر الحكم في حال دليل إباحته في حال أخرى، ولا في إباحته في حال دليل حظره في حالة أخرى، ولا في حله في حال دليل حرمته في حال أخرى، ولا في حرمته في حال دليل حله في حال أخرى، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: 31] ليس على أن لهم أن يقتلوا إذا لم يخشوا الإملاق، وقوله: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: 50] ليس فيه أنه لا يحل له؛ إذا لم يؤت أجورهن، وقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3]
2. القصة في الآية ما قيل: إن الرجل إذا مات وترك امرأة، كان أولياؤه أحق بامرأته من ولى نفسها: إن شاؤوا تزوجوها وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يتزوجوها؛ فنزلت الآية في ذلك، وقيل ـ أيضا ـ: كانوا نكاحها طوعا وكرها؛ فنزلت الآية في ذلك.
3. الآية عندنا خرجت مخرج بيان التحريم على ما كانوا يفعلون؛ دليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ نهي الأبناء أن ينكحوا ما نكح آباؤهم من النساء؛ فدل أن النهي كان في الحالين جميعا: في حال الكره والرضا.
4. في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ الآية، تحتمل حرمة وراثتهن أبدا، وأن ذكره (كرها) لأوجه:
أ. أحدها: أن ليس في ذكر الحرمة في وجه أو ذكر الحكم في حال دلالة تخصيص الحال؛ كقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: 31]، وقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3]، وقوله عزّ وجل: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: 50] أنهن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن، وإذا لم يصر ذلك شرطا صار كأنه قال الله عزّ وجل: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾
ب. الثاني: أن تكون الوراثة أبدا تكون كرها ويجب الميراث سواء من فيه وله أولاد إذا كان وجه الوراثة، فذكره ذلك وغير ذلك سواء.
ج. الثالث: أنهم كانوا يتوارثون النكاح، وهو أمر لا يحتمل الانقسام، ولا عند الاشتراك بالاستمتاع يعضلوهن؛ ليذهبوا ما آتوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة؛ قيل: لم يكن يومئذ عقوبة؛ إذا أتت المرأة بفاحشة سوى أخذ المهور منها، وكانوا يمسكونها على الوراثة، فإذا أتت بفاحشة [أخذ] ما آتاها، ثم يسرحها.
5. سؤال وإشكال: إنما نهاها عن الوراثة؛ لأن الولي إذا ورثها ورثت هي نفسها؛ فيبطل بذلك، فالنهي لذلك، والجواب: لو كان لذلك فالمرأة إذا كانت ممن لا ترث عن الزوج مملوكة يجيء أن يحل ذلك؛ إذ لا وراثة ثمّ، فإذا لم يجز دل أنها خرجت على بيان التحريم
6. قيل في قوله عزّ وجل: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ على الابتداء، ليست على الأول، نهي الزوج أن يأخذ منها ما آتاها من المهر إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
7. اختلف في قوله تعالى: ﴿الْفَاحِشَةَ﴾:
أ. قال بعضهم: هو الزنا، وهو ما ذكرنا.
ب. وقال آخرون: الفاحشة ـ هاهنا ـ هو النشوز، أي: إذا نشزت فلا بأس أن يأخذ منها ما آتاها.
ج. وقيل: هو ما ذكره عزّ وجل في آية أخرى: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ [البقرة: 229] لا تأخذوا منه شيئا: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229] نهى الأزواج أن يأخذوا منهن شيئا إلا عند ما يخافا ألا يقيما حدود الله، فحينئذ أباح أخذ ما افتدت به، فعلى ذلك قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، وهو ما ذكرنا من النشوز وخوف ترك إقامة حدود الله؛ فعند ذلك أباح له أخذ ما آتاها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/82.
(2) يقصد الحنفية
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أي لا يحل لكم أن تلزموهن رجاء لميراثهن من غير ما رغبة لكم في لزمهن، والعجب كل العجب لمن يلزمها طمعاً لميراثها، وهو لا يعلم لو عقل أن يموت قبلها، فنعوذ بالله من ضعف العقل والعمى، والرغبة فيما يزول من حطام الدنيا.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، أي تلزموهن عن النكاح إذا لم تكن لكم رغبة فيهن، وكان لَزْمُكم لهن إنما هو لتضيقوا عليهن، حتى يُبرءنكم من بعض ما آتيتموهن من الصداق الذي أوجبه الله لهن.. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، أي فيجب حينئذ أن يهجرن، ويستخف بهن ولا يكرمن، فإن افتدين أنفسهن ببعض حقهن، وأبرأن أزواجهن ببعض مهورهن جاز ذلك، لأن الفسخ كان في يدي الآمر منهن.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/236.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وسبب ذلك أن أهل المدينة في الجاهلية كان إذا مات أحدهم عن زوجة كان أبيه وقريبه أولى به من غيره ومنها بنفسه فإن شاء نكحها كائنة بالصداق الأول وإن شاء زوجها وترك صداقها وإن شاء عطلها عن النكاح حتى تموت فيرثها أو تفتدي منه نفسها بصداقها إلى أن توفي أبو قيس بن الأسلت عن زوجته كبيسة بنت معن بن عاصم فأراد ابنه أن يتزوجها فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ وهو خطاب لورثة الأزواج أي لا تمنعوهن من التزويج كما ذكرناه ويجوز أن يكون خطاباً للأولياء.
2. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والفاحشة هي كلما فحش فعله وكره مسموعه ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أي الولد الصالح.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/169.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي:
1. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ سبب ذلك أن أهل المدينة في الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم عن زوجة، كان ابنه وقريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، فإن شاء نكحها كأبيه بالصداق الأول، وإن شاء زوجها وملك صداقها، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها أو تفتدي منه نفسها بصداقها، إلى أن توفّي أبو قيس بن الأسلت عن زوجته كبيشة بنت معن بن عاصم فأراد ابنه أن يتزوجها فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه خطاب لورثة الأزواج ألا يمنعوهن من التزويج كما ذكرنا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وعكرمة.
ب. الثاني: أنه خطاب للأزواج ألا يعضلوا نساءهم بعد الطلاق، كما كانت قريش تفعل في الجاهلية وهو قول ابن زيد.
ج. الثالث: أنه خطاب للأزواج ألا يحبسواْ النساء كرهاً ليفتدين نفوسهن أو يَمُتْنَ فيرثهن الزوج، وهذا قول قتادة، والشعبي، والضحاك.
د. الرابع: أنه خطاب للأولياء وهذا قول مجاهد.
3. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنها الزنى، وهو قول الحسن، وأبي قلابة والسدي.
ب. الثاني: أنها النشوز، وهو قول ابن عباس، وعائشة.
ج. الثالث: أنها البذاء والأذى.
4. روي عن مقسم في قراءة ابن مسعود (ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلّا أن يفحشن)
5. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قال ابن عباس: يعني الولد الصالح.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا الخطاب متوجه إلى المؤمنين، نهاهم الله أن يرثوا النساء كرها، واختلفوا في معنى ذلك:
أ. فقال الزهري، والجبائي، وغيرهما، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام: هو أن يحبس الرجل المرأة عنده، لا حاجة له اليها، وينتظر موتها حتى يرثها، فنهى الله (تعالى) عن ذلك.
ب. وقال الحسن، ومجاهد: معناه ما كان يعمله أهل الجاهلية، من أن الرجل إذا مات، وترك امرأته قال وليه: ورثت امرأته، كما ورثت ماله، فان شاء تزوجها بالصداق الأول، ولا يعطيها شيئاً، وإن شاء زوجها وأخذ صداقها، وروى ذلك أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام.
ج. وقال مجاهد: إذا لم يكن الولي ابنها قال أبو مجلز: وكان أولى بالميراث أولى بها من ولي نفسها.
2. فيمن عني بهذا النهي بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك: هو الزوج أمره الله بتخلية السبيل إذا لم يكن له فيها حاجة، ولا يمسكها إضراراً بها، حتى تقتدي ببعض مالها.. وهو أظهر الأقاويل.
ب. الثاني: قال الحسن: هو الوارث، نهي عن منع المرأة من التزويج، كما يفعل أهل الجاهلية على ما بيناه.
ج. الثالث: قال مجاهد: المراد الولي.
د. الرابع: قال ابن زيد: المطلق يمنعها من التزويج، كما كانت تفعل قريش في الجاهلية، ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة، فإذا لم توافقه فارقها، على أن لا تتزوج إلا باذنه، فيشهد عليها بذلك، ويكتب كتاباً، فإذا خطبها خاطب، فان أعطته وأرضته، أذن له وإن لم تعطه عضلها، فنهى الله عن ذلك.
3. العضل هو التضييق بالمنع من التزويج، وأصله الامتناع، يقال: عضلت الدجاجة ببيضتها: إذا عسرت عليها، ومنه العضلة: لصلابتها، ومنه الداء العضال إذا لم يبرء، وعضل الفضا بالجيش الكثير إذا لم يمكن سلوكه لضيقه.
4. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، وأبو قلابة، والسدي: يعني الزنا، وقالوا إذا أطلع منها على زينة فله أخذ الفدية.
ب. الثاني: قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة: هو النشوز.
ج. الأولى حمل الآية على كل معصية، لأن العموم يقتضي ذلك، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، واختاره الطبري.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/150.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الإرث: ما صار للورثة بعد موت المورث، وقد يستعمل في المال وفي غيره، ويستعمل فيما يؤخذ عن غيره في حال حياته، ويقال فيمن حاز شيئا، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾، وقال: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ﴾ وقال الأعشى: (مُوَرِّثَةٍ مَجْدًا وفيِ الْحَيِّ رِفْعَةً)، ويقال: أورثني فِعْلُكَ غمًا، أي كان ذلك عاقبة.
ب. العَضْلُ: المنع وأصله الامتناع، ومنه الداء العضال لامتناعه من البرء لِشِدَّتِهِ، والعضل هو التضييق بالمنع عن التزويج.
ج. العِشْرِةُ: من المعاشرة وهي المصاحبة.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن أهل الجاهلية كان إذا مات الرجل وترك امرأة جاء ابنه من غيرها أو وليه وعصبته، وقال: وَرِثْتُ امرأته كما ورثت ماله، وألقى عليها ثوبًا، وإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوجها وأخذ صداقها، فنهوا عن ذلك ونزلت الآية عن الحسن ومجاهد.
ب. وقيل: كانوا يرثون المرأة فيمنعونها الأزواج ما لم ترد إليه صداقها، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية.
ج. وقيل: نزلت الآية في امرأة أبي قيس بن الأسلت مات عنها زوجها فجاء ابنه، وهو قيس بن أبي قيس فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها، ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه بمالها، فجاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالت: مات أبو قيس، وورث نكاحي ابنه، وقد أضر بي، فلا ينفق علي، ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فلا أنا ورثت زوجي ولا تركت فأنكح، فنزلت الآية عن مقاتل.
د. وقيل: نزلت في اليتيمة في حجر وليها، فيتزوجها لمالها، ويتوقع وفاتها ليرثها، وهو معتزل لفراشها عن الضحاك.
هـ. وقيل: هو في الرجل يكون تحته المرأة يكره صحبتها ولها عليه مهر، فيطول عليها ويضار بها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية عن ابن عباس.
و. وقيل: نزلت في الرجل يحبس المرأة من غير حاجة إليها إلى أن تموت فيرثها عن الزهري وأبي علي.
3. لما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة عن عادات أهل الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن استعمال عاداتهم في أمر النساء، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا؛ يعني أيها المؤمنون ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾ أي لا يسعكم في دينكم.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾:
أ. قيل: كان يرث نكاحها من غير عقد مجدد.
ب. وقيل: بل كان الاختيار إليهم إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها من غيره، وجميعه منهي عنه ﴿كُرْهًا﴾ قيل: ترثوا نكاحهن على كره منها عن ابن عباس والحسن ومجاهد
ج. وقيل: ترثوا مالها بحبسها من غير حاجة إليها عن أبي علي والزهري، يعني ليس لكم أن تحبسوهن على كره منهن طمعا في إرثهن.
د. وقيل: أن يسيء صحبتها لتفتدي بمالها، وبما ساق إليها من مهرها أو تموت فيرثها.
5. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ لا تحبسوهن ولا تمنعوهن، وفيه أربعة أقوال:
أ. الأول: أنه خطاب للأزواج وأمر لهم بتخلية سبيلهن إذا لم يكن إليهن حاجة، فلا يمسكها ضرارًا حتى تفتدي ببعض مالها عن ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك، وقيل: أن يلجئها سوء العشرة إلى الخلع.
ب. الثاني: أنه خطاب للوارث بترك المنع من التزويج، كما كان يفعله أهل الجاهلية عن الحسن.
ج. الثالث: أنه خطاب للولي ألا يمنعها من النكاح عن مجاهد.
د. الرابع: أنه خطاب لهما للولي والزوج، وقيل: هو في المطَلِّق يمنعها من التزويج، كما كانت قريش تفعل ذلك في الجاهلية عن ابن زيد.
6. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ﴾ يفعلن ﴿بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ظاهرة:
أ. قيل: الزنا عن الحسن وأبي قلابة والسدي؛ يعني إذا اطلع منها على زنية فله أخذ الفدية.
ب. وقيل: هو النشوز عن ابن عباس وقتادة والضحاك.
ج. وقيل: إذا كان النشوز وسوء العشرة من جهته فلا يحل أخذ الفدية، وإن كان من جهتها جاز.
7. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ﴾ أنه استثناء من ماذا:
أ. فقيل: من أخذ المال عن أكثر المفسرين.
ب. وقيل: كان هذا قبل الحدود، والأخذ منهن كان عقوبة لهن ثم نسخ، حكاه الأصم.
ج. وقيل: من الحبس والإمساك على ما تقدم في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ عن أبي علي وأبي مسلم، إلا أن أبا علي قال: هو منسوخ، وأبى أبو مسلم النسخ.
8. تدل الآية الكريمة على:
أ. نهي الزوج في إمساك المرأة للإضرار.
ب. نهي الولي عن العضل؛ لأنه يحتمل أمرين ولا تنافي بينهما فيحمل عليهما.
ج. أن عند وجود الفاحشة يحل له الفدية، وقد بينا ما قيل فيه، ومتى يحل له أخذ المهر، فأما الزيادة فعند أبي حنيفة لا تحل، وقال الشافعي: تحل وفي المعروف أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا)
9. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة والكسائي ﴿كُرْهًا﴾ بضم الكاف، وفي التوبة ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ وفي الأحقاف ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ حرفان، كل ذلك بالضم، وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف بالضم، والباقي بالفتح، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى، وقال الفراء: الكَرْهُ: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، فما أكره عليه فهو كَرْهٌ بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كُره بالضم.
ب. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ويعقوب ﴿بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ بكسر الياء، و﴿آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ بفتح الياء حيث كان، قال: لأنه في قوله: ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ لم يقصد إلى إظهارها، وفي ﴿مُبَيِّنَاتٍ﴾ قصد إظهارها، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما على معني بينت وأعلنت، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء فيهما بمعنى ظاهرة.
10. ﴿لا تعضلوهن﴾ قيل: محله نصبا بالعطف على حرف ﴿أَنْ﴾، تقديره: لا يحل لكم أن ترثوا، ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ قيل: محله جزم بالنهي عطفًا على ما تقدم، تقديره: لا ترثوا ولا تعضلوا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/568.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. العضل: التضييق بالمنع من التزويج، وأصله الامتناع، يقال: عضلت الدجاجة ببيضتها، إذا عسرت عليها، وعضل الفضاء بالجيش الكثير، إذا لم يمكن سلوكه لضيقه، ومنه الداء العضال الذي لا يبرأ.
ب. الفاحشة: مصدر كالعاقبة والعافية، قال أبو عبيدة: الفاحشة: الشنار، والفحش: القبيح.
2. لما نهى الله فيما تقدم عن عادات أهل الجاهلية، في أمر اليتامى والأموال، عقبه بالنهي عن الاستنان بسنتهم في النساء فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: أي يا أيها المؤمنون ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ﴾: أي لا يسعكم في دينكم ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾: أي نكاح النساء ﴿كُرْهًا﴾:
أ. قيل: أي على كره منهن.
ب. وقيل: ليس لكم أن تحبسوهن على كره منهن، طمعا في ميراثهن.
ج. وقيل: ليس لكم أن تسيئوا صحبتهن ليفتدين بمالهن أو بما سقتم إليهن من مهورهن، أو ليمتن فترثوهن.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾:
أ. قيل: أي وأن لا تحبسوهن.
ب. وقيل: ولا تمنعوهن عن النكاح.
4. اختلف في المعني بهذا النهي ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: إنه الزوج أمره الله بتخلية سبيلها، إذا لم يكن له فيها حاجة، وأن لا يمسكها إضرارا بها، حتى تفتدي ببعض مالها، عن ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.. وهو الأصح.
ب. ثانيها: إنه الوارث نهي عن منع المرأة من التزويج، كما كان يفعله أهل الجاهلية، على ما بيناه، عن الحسن.
ج. ثالثها: إنه المطلق: أي لا يمنع المطلقة من التزويج، كما كانت تفعله قريش في الجاهلية، ينكح الرجل منه المرأة الشريفة، فإذا لم توافقه فارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، ويكتب كتابا، فإذا خطبها خاطب، فإن أرضته أذن لها، وإن لم تعطه شيئا عضلها، فنهى الله عن ذلك، عن ابن زيد.
د. رابعها: إنه الولي: خوطب بأن لا يمنعها عن النكاح، عن مجاهد.
5. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾: أي ظاهرة، وقيل فيه قولان:
أ. أحدهما: إنه يعني إلا أن يزنين، عن الحسن، وأبي قلابة، والسدي، وقالوا: إذا اطلع منها على زنية فله أخذ الفدية.
ب. والآخر: إن الفاحشة النشوز، عن ابن عباس.
ج. الأولى حمل الآية على كل معصية، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، واختاره الطبري.
6. اختلف في هذا الاستثناء، وهو قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ﴾ من ماذا هو؟
أ. فقيل: هو من أخذ المال، وهو قول أهل التفسير.
ب. وقيل: كان هذا قبل الحدود، وكان الأخذ منهن على وجه العقوبة لهن، ثم نسخ، عن الأصم.
ج. وقيل: هو من الحبس والامساك على ما تقدم في قوله ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ عن أبي علي الجبائي، وأبي مسلم إلا أن أبا علي قال: إنها منسوخة، وأبى أبو مسلم النسخ.
7. قراءات ووجوه:
أ. قرأ حمزة والكسائي (كرها) بضم الكاف، هنا، وفي التوبة، والأحقاف، ووافقهما عاصم، وابن عامر، ويعقوب في الأحقاف، وقرأ الباقون بفتح الكاف، في جميع ذلك.
ب. قرأ ﴿بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ بفتح الياء، ابن كثير وأبو بكر عن عاصم، والباقون بكسر الياء، وروي في الشواذ عن ابن عباس: ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ بكسر الياء خفيفة،الحجة: الكره، والكره: لغتان مثل الضعف والضعف، والفقر والفقر، والدف والدف، وقال سيبويه: بين الشئ، وبينته، وأبان الشئ وأبنته، واستبان الشئ واستبنته، وتبين وتبينته، ومن أبيات الكتاب:
çسل الهموم بكل معطي رأسه...تاج مخالط صهبة متعيس
مغتال أحبله مبين عنقه...في منكب زين المطي عرندسé
وفي نوادر أبي زيد:
çيبينهم ذو اللب حين يراهم...بسيماهم بيضا لحاهم وأصلعاé
ومن كلامهم: (قد بيّن الصبح لذي عينين)
8. مسائل لغوية ونحوية: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ في موضع رفع، بأنه فاعل ﴿يَحِلُّ﴾، و﴿كُرْهًا﴾ مصدر وضع موضع الحال من النساء، والعامل في الحال ﴿تَرِثُوا﴾، ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ يجوز أن يكون أيضا نصبا، بكونه معطوفا على ﴿تَرِثُوا﴾، وتقديره: لا يحل لكم أن ترثوا، ولا أن تعضلوا، ويجوز أن يكون مجزوما على النهي.
9. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: إن أبا قيس بن الأسلت، لما مات عن زوجته كبيشة بنت معن، ألقى ابنه محصن بن أبي قيس ثوبه عليها، فورث نكاحها، ثم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح! فنزلت الآية، عن مقاتل، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل، جاء ابنه من غيرها، أو وليه، فورث امرأته، كما يرث ماله، وألقى عليها ثوبا، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوجها غيره، وأخذ صداقها، فنهوا عن ذلك، عن الحسن، ومجاهد، وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام.
ج. وقيل: نزلت في الرجل تكون تحته امرأة، يكره صحبتها، ولها عليه مهر، فيطول عليها، ويضارها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك، عن ابن عباس.
د. وقيل: نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده، لا حاجة له إليها، وينتظر موتها حتى يرثها، عن الزهري، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام أيضا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/40.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. مما روي في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾:
أ. أنّ الرّجل كان إذا مات، كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاؤوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
ب. وقال في رواية أخرى: كانوا في أوّل الإسلام إذا مات الرجل، قام أقرب الناس منه، فيلقي على امرأته ثوبا، فيرث نكاحها.
ج. وقال مجاهد: كان إذا توفّي الرجل، فابنه الأكبر أحقّ بامرأته، فينكحها إن شاء، أو ينكحها من شاء.
د. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لمّا توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم في الجاهليّة، فنزلت هذه الآية، قال عكرمة، واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم، وكان هذا في العرب، وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله، وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة، وقال السّدّيّ: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة، فتذهب إلى أهلها، فإن ذهبت، فهي أحقّ بنفسها.
2. في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور.
ب. الثاني: أن ترثوا أموالهنّ كرها، روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يلقي حميم الميت على الجارية ثوبا، فإن كانت جميلة تزوّجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها.
3. اختلف القرّاء في فتح كاف (الكره) وضمّها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي التّوبة، وفي الأحقاف في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهنّ، وضمّهنّ حمزة، وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في النّساء والتّوبة، وبالضّمّ في الأحقاف، وهما لغتان، قد ذكرناهما في البقرة.
4. فيمن خوطب بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنّ الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ.
• الثاني: أنّ الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلّها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوّج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فإذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإلا عضلها، قاله ابن زيد.
• الثالث: أنهم كانوا بعد الطّلاق يعضلون، كما كانت الجاهليّة تفعل، فنهوا عن ذلك، روي عن ابن زيد أيضا، وقد ذكرنا في البقرة أنّ الرجل كان يطلّق المرأة، ثم يراجعها، ثمّ يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية، يقصد إضرارها، حتى نزلت ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾
ب. الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثمّ في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنّ الرجل كان في الجاهليّة إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزوّج أبدا غيره إلا بإذنه، قاله ابن عباس.
• الثاني: أنّ اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوّج بابنه، قاله مجاهد.
• الثالث: أنّ الأولياء كانوا يمنعون النساء من التّزويج، ليرثوهنّ، روي عن مجاهد أيضا.
ج. الثالث: أنه خطاب لورثة أزواج النّساء الذين قيل لهم: أن ترثوا النساء كرها، كان الرجل يرث امرأة قريبه، فيعضلها حتى تموت، أو تردّ عليه صداقها، هذا قول ابن عباس في آخرين وعلى هذا يكون الكلام متّصلا بالأوّل، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله تعالى: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾
5. في الفاحشة قولان:
أحدهما: أنها النّشوز على الزّوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة.
الثاني: الزّنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة.
6. روى معمر، عن عطاء الخراسانيّ، قال كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدّ، قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح، لأن الحدّ حقّ الله، والافتداء حقّ للزوج، وليس أحدهما مبطلا للآخر، والصّحيح: أنها إذا أتت بأيّ فاحشة كانت، من زنى الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويضيّق عليها حتى تفتدي.
7. ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: (مبيّنة)، و(آيات مبيّنات) بفتح الياء فيهما جميعا، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع، وأبو عمرو (مبيّنة) كسرا و(آيات مبيّنات) فتحا، وقد سبق ذكر (العشرة)
__________
(1) زاد المسير: 1/385.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد وصف الله تعالى للتوبة عاد إلى أحكام النساء، ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الإيذاء، ويظلمونهن بضروب من الظلم، فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات، فالنوع الأول: قوله تعالى: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، وفي الآية قولان:
أ. الأول: كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله، فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها، فان شاء تزوجها بغير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أن ذلك حرام وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه، فعلى هذا القول المراد بقوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ عين النساء، وأنهن لا يورثن من الميت.
ب. الثاني: ان الوراثة تعود إلى المال، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها، فقال تعالى: أن ترثوا أموالهن وهن كارهات.
2. قرأ حمزة والكسائي كرها بضم الكاف، وفي التوبة ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [التوبة: 53] وفي الأحقاف ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15] كل ذلك بالضم، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقي بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال الفراء: الكره بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم.
3. النوع الثاني من الأمور التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، والعضل: المنع، ومنه الداء العضال، وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232]، وفي محل ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ قولان:
أ. الأول: انه نصب بالعطف على حرف (أن (تقديره: وأن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبد الله.
ب. الثاني: أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره، ولا ترثوا ولا تعضلوا.
4. في المخاطب في قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ أقوال:
أ. الأول: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال التزوج بهن بالإكراه، وكذلك بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.
ب. الثاني: أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت، كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت.
ج. الثالث: أنه خطاب للأولياء ونهي لهم عن عضل المرأة.
د. الرابع: أنه خطاب للأزواج، فإنهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا.
هـ. الخامس: أنه عام في الكل.
5. في معنى الفاحشة المبينة في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ قولان:
أ. الأول: أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله، والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: إلا أن يفحش عليكم.
ب. الثاني: أنها الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.
6. في الاستثناء في قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ﴾ وجوه:
أ. الأول: انه استثناء من أخذ الأموال، يعني لا يحل له أن يحبسها ضرارا حتى تفتدي منه إلا إذا زنت، والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم وما نسخ، ومنهم من قال انه منسوخ بآية الجلد.
ب. الثاني: أنه استثناء من الحبس والإمساك الذي تقدم ذكره في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ [النساء: 15] وهو قول أبي مسلم وزعم أنه غير منسوخ.
ج. الثالث: يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت، فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت.
7. قرأ نافع وأبو عمرو ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ بكسر الياء وآيات مبينات [النور: 34] بفتح الياء حيث كان، قال لأن في قوله: مبينات قصد إظهارها، وفي قوله: ﴿بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ لم يقصد إظهارها، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما، والباقون بكسر الياء فيهما:
أ. أما من قرأ بالفتح فله وجهان:
• الأول: أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة، إنما الله تعالى هو الذي بينهما.
• الثاني: ان الفاحشة تتبين، فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة، وأما الآيات فان الله تعالى بينها.
ب. أما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان إليها، كما أن الأصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن إسناد الإضلال إليها كقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 36]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/12.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن، والخطاب للأولياء، و﴿أَنْ﴾ في موضع رفع بـ ﴿يَحِلُّ﴾، أي لا يحل لكم وراثة النساء، و﴿كُرْهًا﴾ مصدر في موضع الحال.
2. اختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها:
أ. فروى البخاري عن ابن عباس ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك، وأخرجه أبو داوود بمعناه.
ب. وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن.
ج. وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها، قال السدي.
د. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها، فنزلت هذه الآية، وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها، فذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال.
3. ﴿كُرْهًا﴾ بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان، وقال القتبي: الكره بالفتح بمعنى الإكراه، والكره بالضم المشقة، يقال: لتفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعا أو مكرها.
4. الخطاب للأولياء، وقيل: لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح، واختاره ابن عطية قال: ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج، ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ قد تقدم معنى العضل وأنه المنع.
5. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ اختلف الناس في معنى الفاحشة:
أ. فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن، وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾
ب. وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا هو مذهب مالك، قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية، وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز.
6. من أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك، قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال، قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء، لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى، ومنه قيل للبذي: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة، والله أعلم، وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، وقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ فهذه الآيات أصل هذا الباب، وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود، وقول رابع ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت، فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف.
7. إذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها، إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في عضلة صلاح فلا يعترض، قولا واحد، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر: لا يعرض له.
8. يجوز أن يكون ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ جزما على النهي، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على ﴿أَنْ تَرِثُوا﴾ فتكون الواو مشتركة: عطفت فعلا على فعل، وقرأ ابن مسعود ولا أن تعضلوهن) فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز بالنص.
9. ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء، وقرأ ابن عباس ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، يقال: أبان الأمر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/95.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا متصل بما تقدّم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهن، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت، وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أو تردّ إليه صداقها، وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وقد روي هذا السبب بألفاظ.
2. فمعنى قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ أي: أن تأخذوهن بطريق الإرث، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم، وتحبسونهن لأنفسكم ﴿وَلَا﴾ يحل لكم أن ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ عن أن يتزوجن غيركم، لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح، قال الزهري وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها، فنزلت الآية، وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعا في إرثهنّ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ، واختاره ابن عطية، قال: ودليل ذلك قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ إذا أتت بفاحشة فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها، إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج، قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة، وتنفى، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشقّ عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن، وقال قوم: الفاحشة: البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولا وفعلا، وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
3. هذا كله على أن الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ لمن خوطب بقوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ فيكون المعنى: وأن تمنعوهنّ من الزواج ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي: ما آتاهنّ من ترثونه ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعفّ من الزنا، وكما أن جعل قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ خطابا للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ خطابا للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر، مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه.
4. الأولى أن يقال: إن الخطاب في قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ للمسلمين، أي: معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرها كما كانت تفعله الجاهلية، ومعاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم: أي تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر، يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهنّ.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/508.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم، روى البخاريّ عن ابن عباس قال كانوا، إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، الآية، ورواه أبو داود والنسائيّ وغيرهم، ولفظ أبي داود عن ابن عباس: أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها: فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عنه، قال السيوطيّ: ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.
2. ﴿كُرْهًا﴾ (بفتح الكاف وضمها) قراءتان، أي حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه، والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، كما في قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: 31]
3. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ الخطاب للأزواج، كما عليه أكثر المفسرين، روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أن الآية في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به، والعضل الحبس والتضييق، أي: وأن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن.
4. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أي زنى، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة: 229]، الآية، وروي عن ابن عباس أيضا وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها، قال ابن كثير: وهذا جيد قال أبو السعود: (مبينة) على صيغة الفاعل من (بيّن) بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول، وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويعضده قراءة أبيّ: إلا أن يفحشن عليكم، انتهى، وفي (الإكليل) استدلّ قوم بقوله: ﴿بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ ـ على منع الخلق بأكثر مما أعطاها انتهى.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/52.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ﴾ أجسامهنَّ كما يورث المال، وقيل: مالَهنَّ، كانوا يأخذونه كأنَّه ميراث لهم ﴿كَرْهًا﴾ كارهات، أو ذوات كره، والأصل أن لا يفسَّر بمكرَهين أو مكرَهات لأنَّه ثلاثيٌّ.
2. سبب النزول: كان الرجل إذا مات، عَصَبَتُهُ ألقى على زوجه أو على خبائها ثوبه وقال: أنا أحقُّ بها من أوليائها ومن نفسها، ورِثتُها منه كما ورثتُ ماله، وذلك كابن الميِّت من غيرها، وكأخيه فلا تتزوَّج غيره، ويكون أمر نكاحها إليه إن شاء كانت له زوجا بلا وليٍّ ولا عقد ولا صداق ولا إشهاد، وإن شاء زوَّجها غيرَه وأخذ صداقها، وإن شاء عطَّلها عن التزوُّج، وأساء عشرتها، لعدم جمالها حتَّى تفتدي إليه بما ورثت من زوجها، أو تموت فيرثها، وذلك قبل نزول آية الإرث، وقيل: الآية في أنَّهم كانوا يرثونهنَّ أزواجا لهم بلا رضًا منهنَّ، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يلقي عليها وليُّ زوجها ثوبه فهي أحقُّ بنفسها، وكانوا على ذلك في المدينة على عهد الجاهليَّة وَأَوَّل الإسلام، حتَّى نزل قوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا﴾، وذكر عكرمة أنَّ أبا قبيس بن الأسلت مات عن كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس، فحبسها ابنه من غيرها، فقالت: (يا رسول الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تُرِكت فأنكح)، فنزلت الآية.
3. ﴿وَلَا تَعْضُلُوُهُنَّ﴾ أيُّها العاصبون، لا تعطِّلوهنَّ عن التزوُّج، وأصل العضل: التضييق، و(لَا) ناهية، والعطف على (لَا يَحِلُّ)، ومعنى (لَا يَحِلُّ): النهي، وسيبويه أجاز عطف الإنشاء على الخبر ولو لم يكن الخبر في معنى الإنشاء، أو (لَا) نافية، والعطف على (تَرِثُوا)، كما قرأ ابن مسعود: (ولا أن تعضلوهنَّ)، وكان القريشي إذا لم توافقه زوجه طلَّقها وأشهد أن لا تتزوَّج إلَّا برضاه، فإن أعطته ما يرضيه تركها تتزوَّج، والخطاب للورثة في المتعاطِفَيْن، أو للأزواج، أو الأوَّل للورثة وهذا للأزواج، كما يأتي.
4. ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ﴾ فكيف بكلِّه، أي: ببعض ما آتاهنَّ أولياؤكم الذين عصبتم، عمَّم لفظ الخطاب في العضل والذهاب والإيتاء، فكان على التوزيع، وقيل: الخطاب في ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُم﴾ إلى ﴿بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ﴾ للأزواج، كانوا يحبسون أزواجهم لِمالِهنَّ ولا رغبة لهم فِيهِنَّ لدمامتهنَّ، أو كِبر سنِّهن، حتَّى يَمُتنَ فيرثوهنَّ، وقد أساؤوا عشرتهنَّ، وكان الواجب أن يحسنوا إليهنَّ أو يطلقوهنَّ، أو حتَّى يفتدين منهم ببعض مالهنَّ، أو قوله: ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا﴾ فيمن يرث زوج الميِّت الذي هو عاصبه، وما بعد ذلك في الرجل يجانب جماع زوجه فيجعلها كأنَّها غير ذات زوج، ويناسبه مع القول قبله قولُه: ﴿إِلَّآ أَنْ يَّاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾، وقولُه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إلخ، ويبحث أن لا يخاطَب متعدِّدٌ بعبارتين إلَّا بقرينة، كقوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ﴾ [يوسف: 29]، فلا يقال: قم واقعد، خطابا لزيد وعمرو.
5. والفاحشة المبيِّنة: كالنشوز عنه في فراشه، أو كلامها، أو في ما يجب عليها أن تطاوعه فيه، والبروز للرجال ببدنها، أو ثيابها المزيَّنة أو رائحتها أو كلامها بحيث لا يجوز، وعن أبي قلابة وابن سيرين: الزنا.
6. ومصدر (يَأتِينَ) ظرف، أي: إلَّا وقتَ إتيانٍ بفاحشة، أو مقدَّر باللام، أي: لا تعضلوهنَّ لِعلَّةٍ إلَّا لإتيان بفاحشة بيِّنة، أي: ظاهرة، وعلى أنَّ الآية في إرث الإنسان نكاح زوجة وليِّه وشأنها، يكون الاستثناء منقطعًا، وقيل: مفرغ، أي: لشيء إلَّا لإتيانهنَّ بفاحشة، وفي حالٍ مَّا إلَّا في حال إتيانهنَّ بفاحشة، والتفعيل للمبالغة يقال: بَيَّن ـ بالشدِّ ـ تبيينًا فهو مبين، أي: ظاهر ظهورًا عظيمًا، أو هو للتعدية، فالمفعول محذوف، أي: بفاحشة مُظهِرَةٍ نشوزَها أو مطلقَ سوئها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/143.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قالوا في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها من أول السورة لما نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن نوع من الاستنان بسننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن، وقال محمد عبده: وجه الاتصال ظاهر وهو أن الكلام من أول السورة في النساء والبيوت، وإنما جاء ذكر التوبة استطرادا.
2. أما ما ورد في سبب نزولها(2).
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ أي لا يحل لكم أيها الذين خرجوا من الشرك وتقاليده الجائرة وآمنوا بالله وبما أنزل على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تستمروا على سنة الجاهلية في هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعروض والعبيد وتتصرفوا بهن كما تشاؤون فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه وإن شاء زوجها غيره وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج وذلك هو العضل الآتي ذكره، وقيل: المراد لا يحل لكم أن ترثوا أموال النساء كرها بأن تمسكوهن على كره لأجل أن يمتن فترثوهن.
4. ﴿كُرْهًا﴾ قرأه حمزة والكسائي بالضم حيث وقع ووافقها عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف وقرأه الباقون بالفتح، وهو بالضبطين مصدر لكره ضد أحب (كما ورد الضعف بضم الضاد وفتحها) وقيل الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية وقيل يطلق كل منهما على المكروه وعلى ما أكره المرء عليه، ولذلك اختلفوا في تفسير الكره هنا فقيل: معناه لا ترثوهن حال كونهن كارهات لذلك، وقيل حال كونهن مكرهات عليه، وقيل حال كونهن كارهين لكم، وقيل حال كونكم مكروهين لهن، وكل هذه المعاني صحيحة، ولفظ الكره ليس قيدا للتحريم وإنما هو بيان للواقع قال محمد عبده: كانت العرب تحتقر النساء وتعدهن من قبيل المتاع والعروض حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله فحرم الله هذا العمل من أعمال الجاهلية، ولفظ الكره هنا ليس قيدا وإنما هو بيان للواقع الذي كانوا عليه فإنهم كانوا يرثونهن بغير رضاهن.
5. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أصل (العضل) التضييق والمنع والشدة ومنه الداء العضال أي الشديد الذي لا منجاة منه، والجملة مستأنفة للنهي عن العضل أو معطوفة على ما قبلها بناء على أنه في معنى النهي كما هو مفهوم التحريم، كأنه قال لا ترثوا النساء ولا تعضلوهن، ويجوز أن تكون (لا) لتأكيد النفس و﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ معطوف على ﴿لا ترثوا﴾ والمعنى لا يحل لكم إرث النساء ولا عضلهن أي ولا التضييق عليهن لأجل أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي أعطيتموهن من ميراث أو صداق أو غير ذلك، والخطاب لمجموع المؤمنين لتكافلهم فيصدق بما أعطوه للنساء من ميراث ومهر زواج وغير ذلك، وجعله بعضهم للأزواج وبعضهم للورثة وكل منهم كان يعضل النساء.
6. ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ [البقرة: 229] وغير ذلك، وخص الآية في الجلالين بالمنع من الزواج ورده محمد عبده قال: ليس معنى العضل هنا ما قاله المفسر (الجلال) من أنه المنع من زواج الغير بل معناه لا تضاروهن ولا تضيقوا عليهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدي بما كانت ورثت من قريب الوارث أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو المجموع من هذا وذاك وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها وذلك هو العضل المحرم هنا، أقول وروي نحو من هذا عن أبي جعفر وكثير من المفسرين، قد تقدم أنهم كانوا لا يورثون المرأة فليراجع تفسير ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ من هذا الجزء وهذه السورة وكذلك أسباب الإرث عند الجاهلية في أول تفسير آيتي المواريث.
7. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ الفاحشة الفعلة الشنيعة الشديدة القبح وكلمة (مبينة) قرأها ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء المشددة أي بصيغة اسم المفعول والباقون بكسرها أي بصيغة اسم الفاعل أي ظاهرة متبينة أو مبينة حال صاحبها فاضحة له، وقد ورد بين بمعنى تبين اللازم، روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أن الفاحشة المبينة هنا هي النشوز وسوء الخلق، قال بعضهم ويؤيد ذلك قراءة أبي (إلا أن يفحشن عليكم) وروي عنه وعن ابن مسعود أنهما قرآ (إلا أن يفحشن) دون لفظ (عليكم) وعندي أنهما ذكرا الآية بالمعنى فظن السامع أنهما رويا ذلك قراءة فعنيا لفظ القرآن، وعن الحسن وغيره أنها الزنا، ويجوز أن يراد بها ما هو أعم من الأمرين.
8. والمعنى لا تعضلوهن في حال من الأحوال أو في زمن من الأزمان إلا الحال أو الزمن الذي يأتين فيه بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة فإذا نشزن عن طاعتكم بالمعروف المشروع ولم ينفع معهن التأديب الذي سيذكر في آية أخرى من هذه السورة وساءت عشرتهن لذلك أو تبين ارتكابهن للزنا أو السحاق فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره إذ لا يكلفكم الله أن تخسروا عليهن ما لكم في هذه الحالة التي يجيء فيها الفحش من جانبهن كما في الآية الأخرى: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229] وقد أشرنا إليها آنفا.
9. قال محمد عبده: روي عن بعض مفسري السلف أن الفاحشة هنا هي الزنا وعن بعضهم أنها النشوز وعن بعضهم أنها الفحش بالقول، والصواب عدم تعيينها وتخصيصها بأحد هذه الأمور بل تبقى على إطلاقها فتصدق بالسرقة أيضا فإنها من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس، ولكن يعتبر فيها هذا الوصف المنصوص وهو أن تكون مبينة أي ظاهرة فاضحة لصاحبها وإنما اشترط هذا القيد لئلا يظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة واللمم، أو بمجرد سوء الظن والتهم، فمن الرجال الغيور السيء الظن يؤاخذ المرأة بالهفوة فيعدها فاحشة، وقد حرم الله المضارة لأجل أن يأخذ الرجل منها بعض ما كان آتاها من صداق أو غيره فعلم منه أن المضارة لأخذ جميع ذلك أو أكثر منه حرام بالأولى.
10. إنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بالفاحشة المبينة لأن المرأة قد تكره الرجل وتميل إلى غيره، فتؤذيه بفحش من القول والفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان آتاها وتتزوج آخر تتمتع معه بمال الأول وربما فعلت معه بعد ذلك كما فعلت بالأول، وإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هن أهنهم بارتكاب الفاحشة المبينة فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل الكسب.
__________
(1) تفسير المنار: 4/454.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول، ولم يعلق عليها
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية في أمر اليتامى وأموالهم أعقبه بالنهى عن الاستنان بسنتهم في النساء وأموالهن، وقد كانوا يحتقرون النساء ويعدونهن من قبيل المتاع حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله، فحرم الله عليهم هذا العمل.
2. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ أي أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أن تسيروا على سنة الجاهلية في هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعبيد وتتصرفوا فيهن كما تشاءون، وهنّ كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج.
3. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي إرث النساء ولا التضييق عليهن ومضارتهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم بالمال من ميراث وصداق ونحو ذلك، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدى بما كانت ورثت من قريب الوارث، أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو كل هذا، وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها.
4. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أي لا تعضلوهن في أي حال إلا في الحال التي يأتين فيها بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة، فإذا نشزن عن طاعتكم وساءت عشرتهن ولم ينفع معهنّ التأديب، أو تبين ارتكابهن للزنا أو السرقة أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال، لأن الفحش قد أتى من جانبها، وإنما اشترط في الفاحشة أن تكون مبينة: أي ظاهرة فاضحة لصاحبها، لأنه ربما ظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة الصغيرة أو بمجرد سوء الظن والتّهمة؛ فمن الرجال الغيور السيّئ الظن الذي يؤاخذ بأتفه الأمور ويعده عظيما، وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة، لأنها ربما كرهته ومالت إلى غيره، فتؤذيه بفاحش القول أو الفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان أعطاها وتتزوج غيره وتتمتع بمال الأول، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول، فإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هنّ أهنّهم، فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل أنواع الكسب.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/213.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة، ولقد كانت الجاهلية العربية ـ كما كانت سائر الجاهليات من حولهم ـ تعامل المرأة معاملة سيئة.. لا تعرف لها حقوقها الإنسانية، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان، وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية، وتطلقها فتنة للنفوس، وإغراء للغرائز، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف.. فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية، المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾.. ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوي الحيواني الهابط إلى المستوي الإنساني الرفيع، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل؛ وليوثق الروابط والوشائج، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى، وعند الانفعال الأول.
2. كان بعضهم في الجاهلية العربية ـ قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم ـ إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات! إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها وأخذوا مهرها ـ كما يبيعون البهائم والمتروكات! ـ وإن شاؤوا عضلوها وأمسكوها في البيت، دون تزويج، حتى تفتدي نفسها بشيء، وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه، فمنعها من الناس، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة! فإن كانت جميلة تزوجها؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، أو تفتدي نفسها منه بمال! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه! وكان بعضهم يطلق المرأة، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد؛ حتى تفتدي نفسها منه، بما كان أعطاها، كله أو بعضه! وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها! وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، حتى يكبر ابنه الصغير ليتزوجها، ويأخذ مالها! وهكذا، وهكذا، مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء.. ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار، أو علاقة بهائم!
3. ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوي العالي الكريم، اللائق بكرامة بني آدم، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين، فمن فكرة الإسلام عن الإنسان، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية، كان ذلك الارتفاع، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم.
4. حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة، ويتخذ أداة للإضرار بها ـ إلا في حالة الإتيان بالفاحشة، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف ـ وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافا، بكرا أم ثيبا مطلقة أو متوفى عنها زوجها، وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال ـ حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة ـ ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله، كيلا يطاوع المرء انفعاله الأول، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة، فما يدريه أن هنالك خيرا فيما يكره، هو لا يدريه، خيرا مخبوءا كامنا، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ـ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/606.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في مقام التوبة، والتنديم على الذنوب والآثام، والرّغب إلى الله، والهرب من المآثم ـ في هذا المقام يذكّر الله سبحانه وتعالى بالنساء وما لهن من حقوق، وما في اهتضام هذه الحقوق والعدوان عليها من إثم يفسد على المؤمنين إيمانهم، ويعرضهم لنقمة الله، وعذاب الله، فمن ذلك، الالتواء في معاشرة النساء، وأخذهنّ بالضرّ والأذى، للوصول من وراء ذلك إلى عرض من أعراض الدنيا، بحملهن على شراء الخلاص لأنفسهن بما يريده الأزواج منهن من ثمن، فقد تكون المرأة غير ذات حظوة عند الرجل، وقد يكون الرجل كارها لها وهى كارهة له، ومع هذا فهو يمسكها، ولا يسرّحها بإحسان، كما أمر الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
2. وهذا الإمساك للمرأة والمضارّة لها إنما يبغى الرجل من ورائهما أن تموت وهى في عصمته، حتى إذا ماتت ورثها، وهذا ما نهى الله عنه، وعدّه عدوانا على المرأة إذ يقول سبحانه: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾.. وقد ينتظر الرجل من وراء هذا الإمساك بالمرأة على كره، أن تخالعه المرأة على ما في يدها من مهر كان أمهرها إياه، ولا تزال نفسه متطلعة إليه.. وهذا ما ينهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، والعضل الإمساك على الضرّ والأذى.
3. وقوله تعالى ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ هو استثناء من الإمساك الذي هو من بعض مفاهيم العضل، ففي هذه الحالة، وهى أن تأتى المرأة بفاحشة قامت عليها بيّنة ـ يجوز أن يمسك الرجل المرأة، تأديبا لها، فهذا الإمساك وإن كان عدوانا على المرأة، هو عدوان لردّ عدوان، وهو ما أجازه الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ ثم هو ـ أي العدوان هنا ـ إمضاء لأمر الله تعالى في اللائي يأتين الفاحشة من النساء، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/730.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾، استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيسا واستطرادا، وبدءا وعودا، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه.
2. افتتح بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ للتنويه بما خوطبوا به، وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه، والوليّ كذلك، وولاة الأمور كذلك، وصيغة ﴿لَا يَحِلُّ﴾ صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة، فنفيه يرادف معنى التحريم.
3. الإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال، ويطلق الإرث مجازا على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه، ومنه ﴿يرث الأرض ومن عليها﴾، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث، فتقول: ورثت مال فلان، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث، يقال: ورث فلان أباه، قال تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي﴾ [مريم: 6] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال.
4. تعدية فعل ﴿أَنْ تَرِثُوا﴾ إلى ﴿النِّسَاءَ﴾ من استعماله الأوّل: بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية(2).
5. على هذا التفسير يكون قوله ﴿كُرْهًا﴾ حالا من النساء، أي كارهات غير راضيات، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجا لمن يرضينه، مع مراعاة شروط النكاح، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت، وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالئوا عليها، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها، لأصبحت سبّة لها، ولما وجدت من ينصرها، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج، أي أزواج الأموات.
6. يجوز أن يكون فعل ﴿تَرِثُوا﴾ مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية: منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة، وقرأ الجمهور: كرها ـ بفتح الكاف ـ وقرأه حمزة، والكسائي وخلف ـ بضم الكاف ـ وهما لغتان.
7. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ، والعضل: منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ في سورة البقرة.
8. إن كان المنهي عنه في قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾:
أ. هو المعنى المتبادر من فعل ﴿تَرِثُوا﴾، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها، فعطف ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ إمّا عطف خاصّ على عامّ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها، وأيّا ما كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج.
ب. وإن كان المنهي عنه في قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثا، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ عطف حكم آخر من أحوال المعاملة، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ راجعا إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة، كقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29] أي لا يقتل بعضكم أخاه، إذ قد يعرف أنّ أحدا لا يقتل نفسه، وكذلك ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النور: 61] أي يسلم الداخل على الجالس، فالمعنى: ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها، فيكون في الضمير توزيع، وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة، والذهاب في قوله: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ مجاز في الأخذ، كقوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: 17]، أي أزاله.
9. ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضا ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر، فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناء من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتوهنّ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال، أي إلّا حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا في معنى الاستدراك، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يحلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ، فقيل: هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ، وهو قول عطاء.
10. الفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها، لأنّها تسبّبت في بعثرة حال بيت الزوج، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان، فإن حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ، وإنّما لم يجعل المفاداة بجميع المهر لئلا تصير مدّة العصمة عريّة عن عوض مقابل، هذا ما يؤخذ من كلام الحسن، وأبي قلابة، وابن سيرين وعطاء؛ لكن قال عطاء: هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان، فحرّم الإضرار والافتداء، وقال ابن مسعود، وابن عباس، والضحّاك، وقتادة: الفاحشة هنا البغض والنشوز، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها، قال ابن عطيّة: وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلّا أنّي لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/68.
(2) ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في كيفية وراثة النساء في الجاهلية.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام في الأسرة، وإن حماية الأسرة تكون بحماية ضعفائها، ومن لا يستطيع الذود عن نفسه، ولذلك تكلم القرآن الكريم في شأن اليتامى، ثم في شأن النساء، وقد تكلم سبحانه في الميراث وتقسيمه العادل، وفي هذه الآيات التالية يشير سبحانه إلى نوع من الميراث ظالم، كان من عادات بعض أهل الجاهلية، لم يكن موضوع الميراث فيه مالا، ولا حقا يقبل التوريث، بل كان موضوع الميراث في زعمهم حق امرأة المتوفى في نفسها، فقد زعموا أن من يموت زوجها، لا تكون مالكة لأمر نفسها بموته بل يكون أمر زواجها بيد أوليائه الذين يرثون ماله، فإنهم يرثون مع ماله الولاية على زوجه، فلا تتزوج إلا بإذنهم أو تزويجهم، ولذا قال سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾
2. صدر النص السامي بالنداء للذين آمنوا، للإشارة إلى أن ذلك لا يتفق مع الإيمان، بل إنه من مظالم الجاهلية، وإذا كان مثله يصدر عن أهل الشرك، فإنه لا يسوغ مع الإيمان، ولا يليق أن يصدر عن المؤمنين؛ لأن حقوق الأشخاص لا تورث، وليست المرأة ولا حق زواجها متاعا يقبل التوريث.
3. لقد روى الزهرى أنه كان من عادات أهل الجاهلية أنه إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها من الزواج، أي منعها منعا مشدّدا لتفتدى نفسها بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها! ومغزى هذه الرواية أنهم يجدون لهم حقا في إمساكها ومنعها من الزواج، بما كان قد دفع لها زوجها من صداق، وبما كان له عليها من حق الإمساك، ونهى القرآن الكريم عن ذلك بقوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ ومعنى النص الكريم على هذا أنه لا يصح أن يرث أولياء الميت حق تزويج نساء المتوفين كرها عنهن من غير توكيل، فليس الميراث هو ميراث ذات المرأة كزوجة، بحيث يملك زواجها بغير عقد، بل المراد حق تزويجها من نفسه أو من غيره، من غير أن تكون لها إرادة حرة في الزواج.
4. بعض العلماء فهم أن المراد من الميراث هو ميراث الزوجية نفسها، بحيث تكون المرأة زوجا من غير عقد، كما فهم آخرون أن المراد لا يحل أن ترثوا أموالهن، ولكن الظاهر من مجموع الروايات، أن المراد بالميراث هو ميراث حق التزويج، وميراث ما أعطيت من صداق، وقد عبر الله سبحانه وتعالى ـ ولكلامه المثل الأعلى ـ عن النهى عن هذا العمل بقوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ﴾ بدل لا ترثوا للإشارة إلى أنه أمر غير مستحسن في ذاته، فهو في ذاته غير حلال وغير لائق، فلا يحتاج في نفى الحل إلى نهى ينشئ التحريم، بل إن الفطرة السليمة تدرك عدم حله، وقد كان الجاهليون في ضلال مبين وظلم شديد، إذ كانوا يفعلونه، ولذلك استنكره كثيرون منهم، وكان العمل من بعضهم، لا من كلهم.
5. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ العضل هنا معناه التضييق والتشديد لمنع الزواج، أو الظلم الشديد من الأزواج، وقد قال الراغب في معنى العضل: (العضلة كل لحم صلب في عصب الرجل، ورجل عضل مكتنز اللحم، وعضلته شددته بالعضل نحو عصبته، وتجوّز به في كل معنى شديد) قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ والمراد هنا التضييق الشديد.
6. الخطاب هنا إما أن يكون لأولياء الميت، وتكون ﴿لا تَعْضُلُوهُنَ﴾ معطوفة على ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ وتكون (لا) لتأكيد النفي والمعنى على هذا: أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن وتمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي لتضيقوا عليهن حتى يتركن حقهن في المهر الذي أخذنه، أو بقى لهن، ومعنى ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ تضيعون حقوقهن، إذ يقال ذهب بالأمر أو بالحق: أضاعه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة]
7. هذا احتمال في النص الكريم، وهناك احتمال آخر في توجيه الخطاب، وهو أن يكون ذلك نهيا مستأنفا، محمولا في النسق على نفى الحل السابق، ويكون الخطاب للأزواج، فيكون المعنى على هذا: أن ترثوا النساء كرها، فتتزوجوهن أو تزوجوهن بغير رضاهن، وكذلك لا تعضلوهن بأن تضيقوا عليهن وتظلموهن وترهقوهن وهن زوجات، لتكرهوهن على طلب التفريق في نظير أن تأخذوا بعض ما آتيتموهن، وإذا كان التضييق لأخذ بعض المهر منهيا عنه، فأولى أن يكون في موضع النهى التضييق عليهن لأخذ المهر كله، وإنا نختار أن يكون الخطاب موجها للأزواج، ويكون النص السامي قد اشتمل على بيان التحريم في موضعين:
أ. أولهما ـ إكراه المرأة على زواج لا تريده، وذلك بدعوى حقهم في ميراث حق تزويجها.
ب. الثاني: النهى عن إكراه المرأة على طلب التفريق حتى يضيع عليها بعض حقها في المهر، وبالأولى إكراهها حتى يضيع حقها كله، والمؤدى في الأمرين هو حماية المرأة من أن يتحكم فيها أولياء زوجها ببطشهم، أو يتحكم فيها الزوج بسلطان الغلب والزوجية.
8. لكن قد تكون المرأة ظالمة لزوجها، فهل يحل أخذ شيء من مهرها لأنها أفسدت الحياة الزوجية؟ قد بين النص الكريم أنه يحل ذلك بقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، والاستثناء هنا منقطع، معناه لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل أخذ المهر الذي أوتينه أو بعضه، ومؤدى هذا الكلام تحريم وتحليل، أما التحريم فهو ما بين في الكلام السابق، وهو أنه لا يصح أن يعضل امرأته ظالما لها كارها، ويريد طلاقها ويفعل ذلك ليكرهها على طلب الطلاق في نظير ما أعطى كله أو بعضه، وأما التحليل فهو إباحة أن يطلقها في نظير بعض ما قدم لها أو كله، إذا كانت ظالمة له مفسدة للحياة الزوجية.
9. الفاحشة المبينة هي الفاحشة الواضحة المعلنة التي تعلن نفسها، وتكشف أمرها؛ لأن المبيّن يكون بيّنا دائما، فعبر عن البيّن بلفظ المبيّن مبالغة في وضوحه وبيانه وإعلانه.
10. اختلف في معنى الفاحشة:
أ. قال بعض العلماء هي الزنا، والمعنى أنه يباح في هذه الحال، استرداد المهر كله، ولو بغير رضاها، وقد قال الإمام مالك ذلك، والتعبير عن الزنا بلفظ الفاحشة تعبير يجرى في القرآن كثيرا، وأصل الفحش الأمر السيئ الذي يزيد عن كل معقول مقبول، فالعقول تمجه في كل صوره ولا شيء أكثر من الزنا في ذلك.
ب. وقال بعضهم: الفاحشة هي النشوز وإفساد الحياة الزوجية بكل طرق العناد والمشاكسة والمباغضة.
ج. وقال آخرون: البذاءة والفحش في القول والعمل والمكارهة بالعبارات والفعل، وفي الحق إن الفاحشة البينة الواضحة تشمل كل هذا، وهى في كل صورها إفساد المرأة للحياة الزوجية، وقد اتفق العلماء على أنه في هذه الحال يحل للزوج أن يأخذ كل ما أعطى أو بعضه.
11. وهذا هو موضوع قوله تعالى: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾ [البقرة]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1618.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾:
أ. ظاهر الآية النهي عن معاملة المرأة معاملة البهائم، وأخذها على سبيل الميراث، كما كان عليه أهل الجاهلية.. فلقد كانوا يحسبون زوجة الميت من جملة ما يتركه من ميراث، فإذا مات جاء وليه ـ على ما يروى ـ وألقى عليها ثوبا، وحازها بذلك كما يجوز السلب والغنيمة، فإن شاء تزوجها، وان شاء زوّجها من غيره، وقبض المهر، تماما كما يبيع السلعة، ويقبض ثمنها، وان شاء أمسكها في البيت، وضيّق عليها، حتى تفتدي نفسها بما يرضيه.
ب. وقيل: ان ظاهر الآية غير مراد، وان هناك مضافا محذوفا، تقديره أن ترثوا أموال النساء كرها، ومثال الإرث كرها أن تكون المرأة في ولاية قريب لها، كالأخ ـ مثلا ـ وهي تملك شيئا من المال، فيمنعها أخوها من الزواج طمعا في ميراثها، لأنها ان تزوجت ورثها زوجها وأولادها دونه، فأمر الإسلام بإعطاء الحرية للمرأة في الزواج، ونهى عن منعها منه بصيغة النهي عن إرثها كرها، لأن الإرث هو المقصود والغاية، والمنع عن الزواج وسيلة له.
ج. لا نرى حرجا على من يختار التفسير الأول، أو الثاني، أو هما معا، ما دام الإسلام ينهى عن معاملة المرأة معاملة المتروكات، ويعطي الحرية للمرأة في الزواج واختيار الزوج.
2. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾، كما لا يجوز للزوج أن يملك المرأة كالبهيمة، أو يمنعها من الزواج، كذلك لا يحل للزوج أن يسيء الى زوجته بقصد أن تبذل له صداقها، لتفتدي نفسها منه، ومن سوء معاملته، فإذا بذلت، والحال هذه، وأخذ منه المال فهو آثم، إذ لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس، أجل، إذا تبين انها اقترفت فاحشة الزنا جاز له، والحال هذه، أن يضيق عليها ويسيء معاملتها، حتى تعطيه ما يرضيه، لقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾
3. المراد بالفاحشة الزنا، ومبينة، أي ثابتة، وقال جماعة: ان الفاحشة تشمل النشوز أيضا، ونقل صاحب البحر المحيط المالكي عن مالك ان للزوج أن يعضل زوجته الناشز، ويأخذ منها جميع ما تملكه، وقال الشيخ محمد عبده: الفاحشة تشمل الزنا والنشوز والسرقة وغيرها من المحرمات.
4. في رأينا ان الزوج لا يحل له ان يعضل زوجته من أجل المال إلا إذا زنت، ويحرم عليه ذلك فيما عدا الزنا، مهما كان الذنب وقوفا عند اليقين من المعنى المراد من الآية.. هذا، الى ان اقتراف الذنوب لا يحلل ولا يبرر أكل أموال المذنبين، والا اختل النظام، وعمت الفوضى.. ولمن يحل مال المذنب؟ ألمذنب مثله، أم لمعصوم عن الذنب؟ والأول ماله حلال، فكيف يستحل مال الغير؟ والثاني أين هو؟
5. تجدر الاشارة الى أن القاضي لا يجوز له أن يحكم بسقوط مهر الزوجة التي ثبت عليها الزنا، لأن جواز العضل والأخذ خاص بالزوج بينه وبين ربه، وبتعبير الفقهاء: للزوج أن يأخذ المهر في مثل هذه الحال ديانة لا قضاء، من طلب المزيد عوقب بالحرمان: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، قد يكره الرجل من زوجته بعض صفاتها، ولا يصبر عليها، فيطلقها ويتزوج بأخرى، فإذا هي أسوأ حالا، وأقبح أعمالا، فيندم حيث لا ينفع الندم.
6. قال صاحب الأغاني: طلق الفرزدق النوال، ثم ندم، وتزوج بعدها امرأة مطلقة، وكان يسمعها تئن وتحن الى زوجها الأول، وتعدد وتردد، فأنشأ يقول:
çعلى زوجها الماضي تنوح وانني... على زوجتي الأخرى كذلك أنوحé
وقد رأيت أكثر من واحد لا يملك قوت يومه، ويعيش كلا على غيره قد تهيأ له عمل يقيم الأود، ويسد الحاجة، ويغني عن الغير، فرفضه تعاليا عنه، وطلبا لما هو أعلى وأسمى، فابتلاه الله بأسوأ مما كان فيه تأديبا له، وعقابا على ترفعه وتعاليه.. فتقطعت نفسه حسرات على ما ذهب وفات.. ولكن حيث لا ينفع الندم، ومن الأمثال الشائعة في جبل عامل: (من طلبه كله فاته كله)، كما رأيت الكثير من حملة الشهادات العالية قد رضوا بما تيسر، وقنعوا بوظيفة كاتب، أو دونها، وانتظروا الفرص متوكلين على الله سبحانه.. وما مضت الأيام، حتى ارتفعوا شيئا فشيئا إلى أسمى المناصب، وجاء في الحديث: القناعة ملك لا يزول.. وكنز لا يفنى.. والمعنى المقصود ان من يكتفي بما يجد، ولا يتعالى عليه احتقارا له، ورغبة فيما لا يجد فإنه في غنى دائم، تماما كمن يملك كنزا لا يفنى.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/280.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿كُرْهًا﴾ كان أهل الجاهلية ـ على ما في التاريخ والرواية ـ يعدون نساء الموتى من التركة ـ إذا لم تكن المرأة أما للوارث ـ فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت ويرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة وإن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها، وإن شاء عضلها ومنعها النكاح وحبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال.
2. الآية وإن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم، وهي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة: ﴿كُرْهًا﴾ لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا، فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء وليس كذلك، وهو ظاهر، ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن، وليس كذلك.
3. نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره وأما نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية وأما تزويجهن من الغير والذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾: ويدل على الجميع قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾:.
4. أما قوله بعد: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا﴾ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر، وبالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الإرث إلى النساء إنما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازا عقليا.
5. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا﴾ إلى قوله: ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ إما معطوف على قوله: ﴿تَرِثُوا﴾ والتقدير: ولا أن تعضلوهن وإما نهي معطوف على قوله: ﴿﴾ لكونه في معنى النهي، والعضل هو المنع والتضييق والتشديد، والفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا، والمبينة المتبينة، وقد نقل عن سيبويه أن أبان واستبان وبين وتبين بمعنى واحد، تتعدى ولا تتعدى يقال: أبان الشيء واستبان وبين وتبين ويقال: أبنت الشيء واستبنته وبينته وتبينته.
6. الآية تنهى عن التضييق عليهن بشيء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شيء من الصداق لفك عقدة النكاح والتخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها ويضيق عليها لتفارقه بالبذل، والآية لا تنافي الآية الأخرى في باب البذل: ﴿وَ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾: وإنما هو التخصيص، تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، وأما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/255.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ وراثتهن كرهاً منهيٌّ عنها كيفما كانت، ونتصورها:
أ. في أن يتزوجها قريبها الذي تحل له أي ابن عمها وهي كارهة له غير راضية بزواجه وهو يريد بتزوُّجها أن يرثها إذا ماتت ما يرثه الزوج، وهذا يتصور إذا كانت صغيرة لَمَّا تبلغ، وكذا إذا زوجها إياه أبوه وهو صغير ولكن أباه يريد أن يرثها لو ماتت عن ابنه ثم مات ابنه وهذه بعيدة.
ب. الصورة الثانية: أن يحبسها وليُّها عن الزواج مع وجود الخاطب الذي ترضاه وترغب فيه، فيحبسها وليها عن الزواج ليبقى له ميراثها كله ولا يكون للزوج النصف أو للزوج وأولاده منها الكل أو الأكثر، فإذا منعها الزواج كرهاً ليرثها الكل مثلاً، كان قد ورثها كرهاً إذا ماتت في حياته ولم تتزوج.
ج. الصورة الثالثة: أن يتزوج رجل امرأةً فيكرهها وتكرهه ويحبسها وهو يسيء عشرتَها ويظلمها، ولكنه لا يطلقها ليرثَها إن ماتت قبله حيث يؤمل أنها تموت قبله لأنها أكبر سناً أو لأنها ذات مرض أو أمراض تتعاهدها في أكثر الأوقات، فهذه ثلاث صور داخلة في عموم الآية، لأن المراد: النهي عن إكراههن على سبب إرثهن بأي صورة.
2. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ يأتي تفسير هذه الجملة في كلام المرتضى عليه السلام، قال الشرفي في (المصابيح): (وفي هذه الآية يقول المرتضى عليه السلام جواباً عمَّن سأله عنها؟ معنى ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ فهو ما يفعله كثير من الناس تكون عنده المرأة يَكرهها ولا يحبُّها، ويكون لها مالٌ وسَعَة فيحمله حب المال والرجا لموتها على أن لا يطلقها، وهو غير محبّ لها ولا قائمٍ بما أوجب الله عليه في أمرها، بل هو ظالم لها غير مقيم لما أمر الله سبحانه فيها، فأخبرهم عزّ وجل أنه لا يُحِل لهم ذلك، ولا أن ينبغي أن يظلموهن.
3. وأمَرَهم: أن يقوموا بما أمر الله من حقهن، أو ينفذوا فيهن ما أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ من سراحهن، ولا يحبسوهن ظلماً رجاءً منهم لورث أموالهن، فمنعهم الله من ذلك وزجرهم عنه، وكذلك ـ أيضاً ـ ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فالعَضْلُ لهن: هو إمساك الرجال لهن من غير رغبة ولا محبة، ولا قيامٍ بما أمر الله عزّ وجل به فيهنَّ، فيكون عند ذلك قد ظلمها في أخذه بما يعمل فيه من التضييق عليها حتى أخذ ما أعطاها، وهذا يفعله كثير ممن لا يتقي الله إذا كره المرأة وكان عليه لها مهر خشي إن طلقها أن تطالبه به وهو فليس في قلبه لها محبة فلزمها ليتعبها عند ذلك بالتضييق عليها، والخصومة لها، والإعتزال لفراشها، ويتبع كل أمر يعلم أنه يغمها، حتى يضطرها بفعله هذا إلى أن تفتدي منه، فإذا فعل ذلك فاعل فقد ظلم وجار، وأخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يجوز عند الله سبحانه فعله)، قال عليه السلام: (والفاحشة: فهي كل أمر استُفحِش من الفعل واستقبح من ذلك إذا كانت مخالفة للدين مضادة للمؤمنين، ومن ذلك: إذا لم تقم بما أوجب الله عليها من حقه، وفعلت في أمره ما ذكرنا أنه يفعل في أمرها من القبيح، ومن الفاحشة: التبرج، وإتيان ما حرم سبحانه، فإذا فعلت ذلك وطلبت المباراة وردّ ما أخذت منه، حل له أن يأخذه إذا كان منها لا منه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/35.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في أسباب النزول.
2. في هذه الآيات حديث عن التشريع الذي يريد الإسلام من خلاله أن يحدّد للرجل المؤمن حدود العلاقة الإنسانية الإسلامية، التي تربطه بالمرأة، في الجانب المادي من الالتزامات المالية في إطار الرابطة الزوجية وغيرها.. فلا يكون ضعف المرأة أساسا لحرمانها من حقها، ومبررا لاضطهادها في ما فرضه الله لها، فإن الإيمان يمنع المؤمن من الانطلاق في استغلال حالة القوة والضعف لحسابات النوازع الذاتية، ويدفعه إلى الوقوف مع خط العدل من دون مراعاة لأية حسابات أخرى، لتنمو الشخصية الإيمانية على أساس المبادئ والقيم الروحية الإلهية التي تحمي الإنسان من شهواته، وتحمي الآخرين الضعفاء من انحراف قوّته، وهذا هو السبيل القويم الذي يبني، من خلاله الإسلام، أسس الأمن الاجتماعي لدى الحاكم والمحكوم في حركة العلاقات الإنسانية، لأن الرادع الداخلي هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها الرادع الخارجي، في ما يخطط له الإسلام من وسائل الردع المتنوعة في القانون.
3. وقد استطاعت هذه التربية أن تتغلّب على كثير من مظاهر الظلم الذي عاشته المرأة من قبل الرجل في حقوقها المادية والمعنوية.. من خلال ما درجت عليه تقاليد الجاهلية، من احتقار لها، واضطهاد لإنسانيتها، واعتبارها كمية مهملة ومتاعا رخيصا كبقية متاع البيت الذي ينتقل بالإرث من دون أن يملك لنفسه أية إرادة للقبول أو الرفض في شؤونه الخاصة... وبدأ الإنسان المسلم ينظر إلى المرأة كإنسان سويّ كامل، له حقوق وعليه واجبات، على أساس حدود الله في أوامره ونواهيه.
4. وقد بدأت هذه الآيات بالنداء الذي يستثير الإيمان في نفوس المؤمنين، للإيحاء بأن الالتزام بهذه التشريعات من فروض الإيمان، وذلك ضمن عدة نقاط.
5. ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾:
أ. قيل ـ في بعض كتب التفسير ـ إن ذلك إشارة إلى ما كان يحدث من انتقال المرأة بالإرث إلى الولد الأكبر، في تقاليد الجاهلية، فكانت هذه الفقرة من أجل النهي عن ذلك.
ب. وقيل: إن ذلك إشارة إلى الاستيلاء على إرث المرأة ومنعها منه، فيكون المراد من إرث النساء إرث المال، من باب الكناية عن أخذه والسيطرة عليه، وربما كان هذا هو الأقرب، وذلك من جهة كلمة ﴿كُرْهًا﴾ التي تتناسب مع المال الذي لا يجوز للإنسان أخذه من مالكه بغير رضاه، أما الحالة الأولى، فلا تجوز في كلتا الحالتين، والله العالم.
6. في ضوء ذلك نلاحظ أن ما ذكر في سبب النزول لا ينسجم مع ظهور الآية، فإن العادة الجاهلية تجعل النساء موضوعا للإرث بحيث تكون جزءا من المال الموروث الذي يتصرف به الوارث بالرغم من إرادتهن، بينما تظهر الآية بأن الرجال يرثون المال الذي تستحقه النساء من دون رضاهن وهو أقرب إلى جوّ الفقرة الثانية التي تتعرض لمصادرة مهورهن تحت تأثير الضغط.
7. ذكر صاحب تفسير الميزان ـ تعليقا على الموضوع ـ: (إن قوله في ذيل الجملة ﴿كُرْهًا﴾ لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا، فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء وليس كذلك، وهو ظاهر، ولو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن، وليس كذلك) وهو قريب إلى سياق الآية، مما يجعل الوجه الذي ذكرناه في تفسيرها أقرب إلى الجوّ العام.
8. هذا النهي التشريعي يؤكد على احترام المرأة في مالها فلا يجوز للرجل أن يضغط عليها ليأخذ مالها بغير حق ولعل التعبير بكلمة ﴿أَنْ تَرِثُوا﴾ ينطلق من كون المال الذي يأخذه الرجل إرثا في الأصل، فكأنّه يرثها بمعنى يتملك مالها في حياته كما لو كان إرثا له، والله العالم.
9. ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ العضل: وهو المنع والتضييق، فلا يجوز للرجل أن يضيّق على المرأة في معاملته لها كوسيلة من وسائل الضغط النفسي الذي يدفعها إلى التنازل عن بعض حقها من المهر أو غيره لتتخلص من ذلك، لأن مثل ذلك يعتبر إكراها لا يحل معه أخذ المال، بالإضافة إلى أنه ظلم فادح حرام، ولكن هناك حالة واحدة مستثناة من هذا الحكم، وهي حالة إتيان المرأة بفاحشة مبينة، والظاهر أن المراد بها الزنى، ففي مثل هذه الحالة، يمكن للرجل ممارسة بعض ألوان الضغط لتفتدي ذلك بمالها من المهر كلّا أو بعضا، كعقوبة لها على هذا الانحراف من جهة، وكتعويض للرجل نتيجة إساءتها إلى مشاعر الكرامة والشرف عنده.
10. ربما يثير البعض وجود تناف بين هذه الآية التي تمنع من أخذ مال الزوجة تحت تأثير الضغط بالتضييق عليها وبين الآية الواردة في سورة البقرة ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، فإنها تبيح أخذ الفداء منها للخروج من تحت سلطة الزوج بالتحرر من قيد الزوجية، لكن المسألة ليست كذلك، فإن هذه الآية تنهى عن أخذ المال تحت تأثير الضغط بالتضييق والحبس ونحو ذلك، بينما الآية في البقرة ترخص للرجل في أخذ الفداء من المرأة التي تعيش العقدة من الرجل والكره له من خلال بعض الحالات النفسية الذاتية لا من خلال الإكراه الصادر منه، فيمكن لها في هذه الحال أن تدخل معه في مفاوضات حبيّة لتبذل له المال في مقابل أن يطلقها ويختلعها منه، باعتبار أن الطلاق حقه الشرعي الذي يملك أن يستعمله أو لا يستعمله.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/159.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر هنا بعض الآثار التي سبق ذكرها في سبب النّزول.
2. قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي، وفي هذه الآية بالذات أشير إلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها:
أ. لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن، فقالت الآية الحاضرة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.
ب. لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضا أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظا، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي من المهر، لكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية: ﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك، وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء، هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا، أو كل سلوك ناشز مع الزوج؟ فيه كلام بين المفسرين إلّا أنّه روي في حديث عن الإمام الباقر عليه السّلام التصريح بأنه كل معصية من الزوجة (طبعا يستثنى من ذلك المعاصي الطفيفة لعدم دخولها في مفهوم الفاحشة التي تشير إلى أهمية المعصية وخطرها، والذي يتأكد بكلمة (مبينة)
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/160.
19. العشرة الزوجية والكره
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈19⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، قال الخير الكثير أن يعطف عليها فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٩.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) أنّه قال: إن الرجل يستخير الله، فيختار له، فيسخط على ربه ـ عز وجل ـ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٧.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: إذا وقع بين الرجل وبين امرأته كلام، فلا يعجل بطلاقها، وليتأن بها، وليصبر؛ فلعل الله سيريه منها ما يحب(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦١٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: في الآية، قال فعسى الله أن يجعل في الكراهية خيرا كثيرا(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾: رجع إلى أول الكلام، يعني: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٦.
السدي:
روي عن إسماعيل السدي الكوفي (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، قال الولد(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٣٩ واللفظ له، وابن أبي حاتم ٣/٩٠٥.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يعني: صحبتهن بالمعروف(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يقول: صاحبوهن بإحسان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ وأردتم فراقهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ يعني: في الكره خيرا كثيرا، يقول: عسى الرجل يكره المرأة، فيمسكها على كراهية، فلعل الله ـ عز وجل ـ يرزقه منها ولدا، ويعطفه عليها، وعسى أن يكرهها، فيطلقها، فيتزوجها غيره، فيجعل الله للذي يتزوجها فيها خيرا كثيرا، فيرزقه منها لطفا وولدا(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٤.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: هو كقوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231]، وكقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ﴾ [البقرة: 229]
ب. وقيل: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾: في كلامها، وبرّها، والإنفاق عليها، والإحسان إليها والاجتناب عما لا يليق بها من الشتم والإيذاء، وغير ذلك.
2. قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: بالفضل.
ب. ويحتمل: كما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره، بل تعرفه وتقبله.
3. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. قيل: كرهتم صحبتهن من قبحهن ودميمتهن، أو سوء خلقهن، فصبرتم على ذلك ﴿وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
ب. قيل: يهب لكم منهن أولادا تقر بهم أعينكم، أو يعطى لكم في الآخرة ثوابا جزيلا بصحبتكم إياهن.
ج. وقيل: أي: كرهتم فراقهن، ويجعل الله في الفراق خيرا كثيرا؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/84.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم قال عز وجل يوصي بضعفة النسوان، اللواتي لا يؤمن فيهن العقوبة من الرحمن، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي اصحبوهن بالفعال الكريم، وحسن الأخلاق، ولين الكلام، وحسن العشرة والصحبة والبر والإكرام.
2. ثم قال عز وجل: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أي فلا تأمنوا إن كرهتم بعض نساءكم أن يجعل الله فيهن حسن النسل والبركة لكم، والذرية المطيعة لله ما يسركم، فدلهم بذلك على الأناة بهن، وترك العجلة على فراقهن، وإنما هذا فيمن كان مطيعاً لله منهن، أو كان غير مجبور بالمشاهدة لبعض أمورهن، فأما كافرة منهن غير مطيعة للرحمن، ولا قابلة لما يتلى عليها من آيات القرآن، ولا شاكرة لله ولزوجها على الإحسان، فهي حقيقة بالإبعاد والطلاق، مستحقة للتخلية والترك والفراق، وكذلك إذا كانت غير موافقة في بعض الأحوال، وكانت غير قريبة إلى النفس في جميع الخصال، فتركها أحق من لزمها عند من يعقل من الرجال، ولو شاء ربك أن يوفق بينهما لما نفرهما، ولكنه أراد بذلك فراقهما، ولكنه إنما يجب في الحكمة أن يحمل كل شكل على شكله، ويوصّل كل فن من الأفنان إلى مثله، فمن كان طيباً حرمت عليه الخبائث، وحلت له الطيبات، ومن كان خبيثاً حرمت عليه الطيبات، ولم يجز له ـ ولا كرامة له ـ نكاح المؤمنات.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/237.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال السدي: معناه خالطوهن، وخالقوهن، من العشرة التي هي المصاحبة بما أمركم الله به من المصاحبة، بأداء حقوقهن التي أوجبها على الرجال، أو تسريح بإحسان.
2. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ يعني في إمساكهن على كره منكم ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾ من ولد يرزقكم، أو عطفكم عليهن بعد الكراهية، وبه قال ابن عباس، ومجاهد.
3. الهاء في فيه، يحتمل أن ترجع إلى الشيء في قوله: ﴿أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ويحتمل أن تكون راجعة إلى الذي يكرهونه، وقوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ يحتمل أن يكون جزماً بالنهي، ويحتمل أن يكون نصباً بالعطف على قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وفي قراءة عبد الله: (ولا أن تعضلوهن) بإثبات أن.
4. قيل في سبب نزول هذه الآية أن أبا قيس بين الأسلت لما مات عن زوجته كبشة بنت معن بن عاصم، أراد ابنه أن يتزوجها، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا نبي الله: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية، ذكره أبو جعفر عليه السلام، وغيره.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/151.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. العِشْرِةُ: من المعاشرة وهي المصاحبة.
2. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني صاحبوا نساءكم بالمعروف:
أ. قيل: بالنصفة في القسم والنفقة والإجمال في القول والفعل.
ب. وقيل: المعروف ألا يضر بها ولا يسيء القول فيها ولا يطلقها ويكون منبسط الوجه معها.
ج. وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له.
3. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ يعني فإن كرهتم صحبتهن وإمساكهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾:
أ. قيل: يعني عسى أن تكرهوا صحبتهن ويجعل الله لكم في إمساكهن خيرًا كثيرًا.
ب. وقيل: عسى أن يجعل في الكره الذي تكرهون خيرًا كثيرًا.
ج. وقيل: لعل في فراقكم لهن خيرًا كثيرًا لكم ولهن عن الأصم، ونظيره: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾، قال القاضي: وهذا يبعد؛ لأنه تعالى حث بما ذكر على الاستمرار على الصحبة فكيف يريد بذلك المفارقة!؟
د. وقيل: فيه إضمار أي فإن كرهتموهن فعاشروهن بالمعروف، فعسى تكون الخيرة في النساء اللاتي كرهتم صحبتهن، والخير الكثير قيل: ولد صالح بار يرزقكم الله منهن عن أبي علي.
هـ. وقيل: كل خير.
و. وقيل: إن كرهتموهن فلا تعجلوا طلاقهن لعل الله يجعل فيهن خيرًا كثيرًا.
4. يدل قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ﴾ على وجوب حسن العشرة على الزوج، فيدخل تحته جميع حقوق النكاح من النفقة والقسم وترك الميل، ويدل آخر الآية أنه لا ينبغي أن يعمل في الأمور المستقبلة على التوهم، بل يتبع الشرع، فإنه أعلم بالعواقب والمصالح.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/571.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾: أي خالطوهن: من العشرة التي هي المصاحبة بما أمركم الله به:
أ. من أداء حقوقهن التي هي النصفة في القسم، والنفقة، والإجمال في القول والفعل.
ب. وقيل: المعروف أن لا يضر بها، ولا يسئ القول فيها، ويكون منبسط الوجه معها.
ج. وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له.
2. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾: أي في ذلك الشئ، وهو إمساكهن على كره منكم ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾:
أ. من ولد يرزقكم، أو عطف لكم عليهن بعد الكراهة، وبه قال ابن عباس، ومجاهد، فعلى هذا يكون المعنى: إن كرهتموهن، فلا تعجلوا طلاقهن، لعل الله يجعل فيهن خيرا كثيرا، وفي هذا حث للأزواج على حسن الصبر فيما يكرهون من الأزواج، وترغيبهم في إمساكهن، مع كراهة صحبتهن، إذا لم يخافوا في ذلك من ضرر على النفس، أو الدين، أو المال.
ب. ويحتمل أن يكون الهاء عائدا إلى الذي تكرهونه: أي عسى أن يجعل الله فيما تكرهونه خيرا كثيرا، والمعنى مثل الأول، وقيل المعنى: ويجعل الله في فراقكم لهن خيرا، عن الأصم، قال: ونظيره ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ قال القاضي: وهذا بعيد، لان الله تعالى حث على الاستمرار على الصحبة، فكيف يحث على المفارقة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/41.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ قال ابن عباس: ربّما رزق الله منهما ولدا، فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا، وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبّهت على معنيين:
أ. أحدهما: أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصّلاح، فربّ مكروه عاد محمودا، ومحمود عاد مذموما.
ب. الثاني: أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يحبّ، وأنشدوا في هذا المعنى:
çومن لم يغمّض عينه عن صديقه...وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبّع جاهدا كلّ عثرة...يجدها ولا يسلم له الدّهر صاحبé
__________
(1) زاد المسير: 1/387.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: وعاشروهن بالمعروف، قال الزجاج: هو النصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول.
2. ثم قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن، وآثرتم فراقهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ والضمير في قوله ﴿فِيهِ﴾ إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان:
أ. الأول: المعنى أنكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله، وأنفق عليها وأحسن إليها على خلاف الطبع، استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا.
ب. الثاني: أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا، ذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيرا منه، ونظيره قوله: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130] وهذا قول أبي بكر الأصم، قال القاضي: وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة، فكيف يريد بذلك المفارقة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/13.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها.
2. العشرة: المخالطة والممازجة، ومنه قول طرفة:
çفلئن شطت نواها مرة...لعلى عهد حبيب معتشرé
جعل الحبيب جمعا كالخليط والغريق، وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا، فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش، وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء، وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مناما نشتهيه منهن، وقال ابن عباس: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي، وهذا داخل فيما ذكرناه، قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاستمتع بها وفيها عوج) أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها، فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخلع.
3. استدل علماؤنا بقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد، لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد، قال علماؤنا: وهذا غلط، لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد، لأنها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/98.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى، والفقر، والرفاعة، والوضاعة ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز.
2. ﴿فَعَسَى﴾ أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته، أي: فإن كرهتموهنّ فاصبروا ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/509.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ﴾ أي صاحبوهن ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن، أو سبب النشوز أو سوء الخلق، فحينئذ.
2. قال السيوطيّ في (الإكليل): في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب، واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.
3. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ يعني كرهتم الصحبة معهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أي ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع، وفي (الإكليل) قال الكيا الهراسيّ: في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر، (يفرك) بفتح الياء والراء، معناه بغض.
4. قال أبو السعود: ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه، وانحصار العلّية في الثاني، للتوسل إلى تعميم مفعوله ـ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة، وإن ما نحن فيه مادة من موادها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد، ما لا يخفى.
5. تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن: كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة، وهي قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال ابن كثير: أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾ [البقرة: 228]:
أ. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)
ب. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم للنساء)، رواه الحاكم عن ابن عباس.
ج. وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم)، رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السّلام.
د. وعن عمر بن الأحوص أنه سمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع يقول، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هنّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقّا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقوله (عوان) أي أسيرات، جمع عانية.
هـ. وعن معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت، رواه أبو داود.
و. وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله)، رواه أبو داود، وفي رواية له: كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله.
6. قال ابن كثير: وكان من أخلاق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، وقال الغزاليّ في (الإحياء) في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح): الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن، ترحما عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾: وقال في تعظيم حقهن: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]، وقال تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ [النساء: 36]، قيل: هي المرأة، ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل، وراجعت امرأة عمر عمر فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يراجعنه، وهو خير منك، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعائشة: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى، قالت، فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا، ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت، قلت: أجل، والله! يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك)، ثم قال الغزالي: الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء.. وقال لقمان: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبيّ، وإذا كان في القوم وجد رجلا.
7. وقوله ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ المعروف: حسن الفعل والقولِ لهن، ومن الفعل الجماع والمبيت معها، والنفقة والكسوة والبشاشة، ويزين لها كما تتزين له، ومن القول الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتعليم والتأديب، والسلام، فقيل إذا أتت بفاحشة فله أن يطلب الفداء، ولا يوفى بحقوقها من جماع أو غيرها، وإن كانت فاحشتها الزنا أبطلت صداقها فله أن لا يعطيها إياه، وله استراده إن كان قد وصلها، وقيل لا تبطله إن تابت، وقال عطاء: كأن الزنى مبطلا لصجاقها بهذه الآية، ثم نسخ إبطاله بالحسد ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ طبعاً بلا سبب منهن، أوبسبب مما يتحمل، ولم ينه عنها لأجله ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ علة قامت مقام الجواب لقوة إيجابها إياه، أي فاصبروا ولا تطلقوهن، والطلاق مكروه لإمكان أن تكرهوا شيئاً ﴿وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ كولد صالح تلده المكروهة، وغيره من المصالح الدينية والدنيوية كالألفة والمودة.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/53.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المعروف: حسن الفعل والقول لهنَّ، ومن الفعل: الجماع والمبيت معها، والنفقة والكسوة والبشاشة، ويتزيَّن لها كما تتزيَّن له، ومن القول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم والتأديب والسلام، فقيل: إذا أتت بفاحشة فله أن يطلب الفداء ولا يوفي بحقوقها من جماع أو غيرها، وإن كانت فاحشتها الزنا أبطلت صداقها، فله أن لا يعطيها إيَّاه، وله استرداده إن كان قد وصلها، وقيل: لا تبطله إن تابت، وقال عطاء: كان الزنى مبطلاً لصداقها بهذه الآية، ثمَّ نسخ إبطاله بالحدِّ.
2. ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ طبعًا بلا سبب منهنَّ، أو بسبب مِمَّا يُتَحمَّل ولم يُنهَ عنها لأجله ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا﴾ علَّة قامت مقام الجواب لقوة إيجابها إيَّاه، أي: فاصبروا ولا تطلِّقوهنَّ، والطلاق مكروه لإِمكان أن تكرهوا شيئًا ﴿وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ كولد صالح تلده المكروهة، وغيره من المصالح الدينيَّة والدنيويَّة، كالألفة والمودَّة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/145.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي يجب عليكم أيها المؤمنون أن تحسنوا عشرة نسائكم بأن تكون مصاحبتكم ومخالطتكم لهن بالمعروف الذي تعرفه وتألفه طباعهن ولا يستنكر شرعا ولا عرفا ولا مروءة، فالتضييق في النفقة والإيذاء بالقول أو الفعل وكثرة عبوس الوجه وتقطبيه عند اللقاء كل ذلك ينافي العشرة بالمعروف، وفي المعاشرة معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك، وروي عن بعض السلف أنه يدخل في ذلك أن يتزين الرجل للمرأة بما يليق به من الزينة لأنها تتزين له، والغرض أن يكون كل منهما مدعاة سرور الآخر وسبب هنائه في معيشته، وقد فسر المعروف بعضهم بالنصفة في القسم والنفقة والإجمال في القول والفعل، وفسره بعضهم تفسيرا سلبيا فقال هو أن لا يسيء إليها ولا يضرها، وكل منهما ضعيف، وجعل محمد عبده المدار في المعروف على ما تعرفه المرأة ولا تستنكره وما يليق به وبها بحسب طبقتهما في الناس وقد أشرنا إلى ذلك، وأدخل فيه بعضهم وجوب الخادمة لها إن كانت ممن لا يخدمن أنفسهن وكان الزوج قادرا على أجرة الخادمة، وقلما يقصر المسلمون فيما يجب للنساء من النفقة بل هم أكثر أهل الملل إنفاقا على النساء وأقلهم إرهاقا لهن بالخدمة ولكنهم قصروا في أمور أخرى: قصروا في إعداد البنات للزوجية الصالحة بما يجب من التربية الاجتماعية الاقتصادية الصحية والتعليم المغذي لهذه التربية فعسى أن يرجعوا عن قريب.
2. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ لعيب في الخلق مما لا يعد ذنبا لهن لأن أمره ليس في أيديهن، أو التقصير في العمل الواجب عليهن في خدمة البيت والقيام بشؤونه مما لا يخلو عن مثله النساء وكذا الرجال في أعمالهم أو الميل منكم إلى غيرهن فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن لأجل ذلك: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فهذا الرجاء علة لما دل عليه السياق من جزاء الشرط:
أ. ومن الخير الكثير بل أهمه وأعلاه الأولاد النجباء فرب امرأة يملها زوجها ويكرهها ثم يجيئه منها من تقربه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك، وقد شاهدنا وشاهد الناس كثيرا من هذا وناهيك به ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾:
çنعم الإله على العباد كثيرة...واجلهن نجابة الأولادé
ب. ومنها أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون أعظم أسباب هنائه في انتظام معيشته وحسن خدمته لا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز، فكثيرا ما يكره الرجل امرأته لبطره بصحته وغناه واعتقاده أنه قادر على أن يتمتع بخير منها وأجمل، فلا يلبث أن يسلب ما أبطره من النعمة ويكون له منها إذا صبر عليها في أيام البطر، خير سلوى وعون في أيام المرض أو العوز، فيجب على الرجل الذي يكره زوجه أن يتذكر مثل هذا ويتذكر أيضا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه في الحال، غير ما وطنت نفسها عليه في الاستقبال، وقد بينا حاجة كل من الزوجين إلى مودة الآخر ورحمته ولا سيما في حال الضعف والعجز في مقالات (الحياة الزوجية)
3. هذا وإن التعليل في الآية يرشدنا إلى قاعدة عامة تأتي في جميع الأشياء لا في النساء خاصة وهي أن بعض ما يكرهه الإنسان يكون فيه خير له متى جاء ذلك الخير تظهر قيمة ذلك الشيء المكروه، وهي قاعدة عرف العقلاء صدقها بالتجارب، ولأجل التنبيه لها قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ولم يقل وعسى أن تكرهوا امرأة، ثم إن في الصبر على المكروه واحتماله فوائد أخرى غير ما يمكن أن يكون في المكروه نفسه من الخير المحبوب، فالصابر المتحمل يستفيد من كل مكروه بصبره ورويته سواء ترتب عليه في ذاته خير أم لا، ومن المكروه الذي يترتب عليه خير القتال بالحق لأجل حماية الحق والدفاع عنه فهو بما فيه من المشقة مكروه طبعا، وناهيك بما يترتب عليه من إظهار الحق ونصره وظهور أهله وخذلان الباطل وحزبه.
4. لمحمد عبده كلام حسن هناك في ذلك وليس عندنا شيء عنه في هذه الآية، والحاصل أن الإسلام يوصي أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج رجاء أن يكون فيهن خير، وإنما يبيح مؤاخذتهن بما تقدم من العضل حتى يفتدين بالمال إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا لمهانة الرجل واحتقاره، أو إذا خافا أن لا يقيم حدود الله كما في آية البقرة، وإلا وجب على الزوج إذا طلق امرأته أن يعطيها جميع حقها وذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾
__________
(1) تفسير المنار: 4/457.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهنّ بما تألفه طباعهن ولا يستنكره الشرع ولا العرف، ولا تضيقوا عليهن في النفقة ولا تؤذوهن بقول ولا فعل ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين.
2. في كلمة (المعاشرة) معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك، فيجب أن يكون كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وسبب هناءته وسعادته في معيشته ومنزله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
3. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أي فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو دمامة في خلقهن مما ليس لهن فيه كسب، أو لتقصير في العمل الواجب عليهن كخدمة البيت والقيام بشئونه مما لا يخلو عن مثله النساء في أعمالهن، أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن، فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأوفى إلى الخير، ومن ذلك:
أ. الأولاد النجباء فربّ امرأة يملّها زوجها ويود فراقها ثم يجيئه منها من تقرّبه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك.
ب. أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته، فتكون من أعظم أسباب سعادته وسروره في انتظام معيشته وحسن خدمته، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز فتكون خير سلوى وعون في هذه الأحوال، فيجب على الرجل أن يتذكر مثل ذلك، كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته في الحال والاستقبال.
4. وقد جاء قوله: ﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَخَيْرٌ لَكُمْ﴾ في سياق حديث النساء دستورا إذا نحن اتبعناه كان له الأثر الصالح في جميع أعمالنا وهدانا إلى الرشد في جميع شؤوننا، فكثير مما يكرهه الإنسان يكون له فيه الخير، ومتى جاء ذلك الخير ظهرت فائدة ذلك الشيء المكروه، والتجارب أصدق شاهد على ذلك؛ فالقتال لأجل حماية الحق والدفاع عنه يكرهه الطبع لما فيه من المشقة، لكن فيه إظهار الحق ونصره ورفعة أهله وخذلان الباطل وحزبه، إلى أن الصبر على احتمال المكروه يمرن النفس على احتمال الأذى ويعوّدها تحمل المشاق في جسيم الأمور.
5. الخلاصة ـ إن الإسلام وصىّ أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج، رجاء أن يكون فيهن خير، ولا يبيح عضلهن وافتداءهن أنفسهن بالمال إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا في مهانة الرجل واحتقاره، أو إذا خافا ألا يقيما حدود الله، وفيما عدا ذلك يجب عليه إذا أراد فراقها أن يعطيها جميع حقوقها.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/214.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه اللمسة الأخيرة في الآية، تعلق النفس بالله، وتهدئ من فورة الغضب، وتفثأ من حدة الكره، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح، فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى، العروة الدائمة، العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه، وهي أوثق العرى وأبقاها.
2. والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب، هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك.
3. ما أعظم قول عمر لرجل أراد أن يطلق زوجه (لأنه لا يحبها).. (ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟)، وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم (الحب) وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه ـ لا انفصال الزوجين ـ وتحطيم المؤسسة الزوجية ـ بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه!؟ وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها!؟ وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور، ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل.. ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر الله.. فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
4. إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس، وترفع الاهتمامات، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة، وطمع التاجر، وتفاهة الفارغ!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/606.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ دعوة إلى ما ينبغي أن تكون عليه حياة المرأة مع الرجل، وهو أن تعاشر بالمعروف، وأن تعامل بالإحسان، حتى وهى مأخوذة بجريرتها التي قضت عليها بالإمساك في البيت.
2. في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ وصية كريمة من الله، بالإحسان إلى المرأة، أيّا كانت نظرة الرجل إليها، وموقعها من قلبه.. فقد لا يجد في عشرته معها، والسكن إليها، ما يشرح صدره، فيحمله ذلك على الضجر بها، والتبرم منها، فيسيء عشرتها، ويرميها بالأذى، حتى يحملها على أن تترضاه من مالها ليطلقها..
3. وهنا يلقاه قوله تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.. فيتقبل هذا المكروه، ويصبر عليه، ثم ينجلي الموقف عن غير ما كان يحسب ويقدر، وإذا المرأة التي كان يكرهها قد علقت بقلبه، وملأت حياته أنسا ومسرّة، فإنه ما أكثر أن تجيء الأمور على غير حسابنا وتقديرنا، فما نحسبه خيرا قد يجيء من ورائه الشرّ، وما نراه مكروها قد يجيء بما نحبّ ونرضى! وفي هذه الوصاة الكريمة، تنفير من الطلاق، وتحذير من المبادرة إلى هوى النفس، الذي يدعو إلى الطلاق، على حساب أنه الخير، وقد يكون الشرّ كلّه كامنا وراءه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/731.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرار بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه، وزائد بمعاني إحسان الصحبة.
2. المعاشرة مفاعلة من العشرة وهي المخالطة، قال ابن عطية: وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة، وأنا أراها مشتقّة من العشيرة أي الأهل، فعاشره جعله من عشيرته، كما يقال: آخاه إذا جعله أخا، أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها، وقد قيل: إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر.
3. المعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكرا لأنّ النفوس لا تأنس به، فكأنّه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروها ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس، والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف.
4. التفريع في قوله: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ على لازم الأمر الذي في قوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ﴾ وهو النهي عن سوء المعاشرة، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية، وجملة ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا﴾ نائبه مناب جواب الشرط، وهي عليه له فعلم الجواب منها، وتقديره: فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق، لأن قوله ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا﴾ يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سبب خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق.
5. ﴿فَعَسَى﴾ هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي، ﴿أَنْ تَكْرَهُوا﴾ ساد مسدّ معموليها، ﴿وَيَجْعَلْ﴾ معطوف على ﴿تُكْرِهُوا﴾، ومناط المقاربة والرجاء هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه، بدلالة القرينة على ذلك.
6. هذه حكمة عظيمة، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي، وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيرا لكنّه لم يظهر للناس، قال سهل بن حنيف، حين مرجعه من صفّين (اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمره لرددنا، والله ورسوله أعلم)، وقد قال تعالى، في سورة البقرة ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، والمقصود من هذا: الإرشاد إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة، ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم، حتّى يسبره بمسبار الرأي، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سوء خفايا الباطن.
7. اقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير، دون مقابلة، كما في آية البقرة: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطرفيها إذ المخاطبون فيها كرهوا القتال، وأحبّوا السلم، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم، وخضد شوكة العدوّ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم، وطمعهم فيهم، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كرّهه فيها، ورام فراقها، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها، فكان حاله مقتضيا بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شرورا لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم، وأسند جعل الخير في المكروه هنا لله بقوله: ﴿وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ المقتضى أنه جعل عارض لمكروه خاصّ، وفي سورة البقرة قال: ﴿وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجعل عارض، بخلاف هذه الآية، فإنّ الصبر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها، يكون جعل الخير في ذلك جزاء من الله على الامتثال.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/71.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذا، وإن الرجل هو الراعى، وهو المسئول عن هذه الرعية، ولذلك خاطب الله تعالى الأزواج بقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أمر الله سبحانه وتعالى الأزواج بالعشرة الحسنة، بالمعروف، وإن العشرة هي المخالطة والممازجة بحيث تلتقى النفسان، ومن طبيعتها أن تكون في ألفة لا في نفرة، وقد أطلقت العشرة على المعاملة، والمراد بالمعروف أن يعامل الرجال أزواجهم معاملة تليق بأمثالهن من غير أن يكون منهم ما يستنكر عقلا أو شرعا، أو عادة، فهو يؤنسها ولا ينفرها، ويقربها ولا يبعدها، وكان الأمر بالعشرة الحسنة بعد الإشارة إلى ما قد يكون منهن من نشوز وبذاءة وفحش في القول، لبيان أنه لا يسوغ لرجل أن يفترق لمجرد ظهور النشوز منها، بل يعالجها بالرفق، وإزالة أسباب النفرة إن أمكن.
2. إن معاملة المرأة بالحسنى دليل على كمال الرجولة والخلق، ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى)
3. ثم بين سبحانه وتعالى أنه لا يصح للرجل أن يسترسل في كراهيته إن عرضت له أسباب الكراهية، بل يتعرف المحاسن، ولا يقتصر على النظر إلى المساوئ، ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
4. إن العشرة الحسنة مطلوبة ولو في حال كراهية الزوج لزوجته، فإنه لو أظهر الكره لكانت المباغضة، ولاسترسل في غواية تضله، فيصر على الكراهية، وقد كان في الإمكان أن يرى فيها المسرة بدل المضرة، وأسباب المحبة بدل البغض.
5. النص الكريم يشير إلى معنى سليم، ويدعو إلى إدراك معان مختلفة كثيرة:
أ. أولها ـ أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها، لا من ناحية واحدة منها، وهى البغض والحب، فينظر إلى مصلحة أولاده، وإلى نظام بيته، وإلى محاسنها بدل أن ينظر إلى مساويها.
ب. ثانيها ـ أن يفكر في من يعقبها: أهى خير منها أم لا؟
ج. ثالثها ـ أن ينظر في شأن العلاقة بعين العقل والمصلحة المشتركة لا بعين الهوى المسيطر الجامع.
د. رابعها ـ وهو أعظمها أن ينظر إلى المسألة بالقلب الدينى، وأن يتذكر في وقت الكراهية العشرة الحلوة السابقة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ والخير الكثير يتكشف للرجل في الأمر المكروه بإحدى حالين: إما بالنظر الثاقب الذي يتغلب فيه العقل على الهوى، وإما بعد فوات الوقت، فيعرف الخير الذي فاته بفعله، فلا يمكن التدارك، ويكون الندم المرير، ولات حين مندم.
6. هذا النص يشير إلى معنى جليل عام لا يخص الحياة الزوجية وحدها، وهو ألا يبت في الأمور تحت تأثير الكراهة، فإنها عارض وجدانى قد يزول، وقد يكون في المكروه الخير الكثير الذي غاب عنه في وقت إدراكه، فيفوته النفع العظيم تحت تأثير الكراهية التي قد يبعث عليها أمر حسى عارض، وفي الحديث الصحيح: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضى منها آخر) والفرك البغض الكلّى الذي تنسى فيه كل المحاسن، وروى مكحول عن ابن عمر أنه كان يقول: (إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عزّ وجل، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1622.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه ويجهلوه، وحيث قيد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.
2. المعاشرة التي يعرفها الرجال ويتعارفونها بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنساني لغرض التعاون والتعاضد العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه ويأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة وليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به ولا ينتفع هو بشيء يحاذيه، وهذا هو الاستثناء.
3. وقد بين الله تعالى في كتابه إن الناس جميعا ـ رجالا ونساء ـ فروع أصل واحد إنساني، وأجزاء وأبعاض لطبيعة واحدة بشرية، والمجتمع في تكونه محتاج إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى أولئك على حد سواء كما قال تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾
4. ولا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة والقوة نوعا، واختصاص النساء بالرقة والعاطفة طبعا فإن الطبيعة الإنسانية في حياتها التكوينية والاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة وظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة والرحمة، والخصلتان جميعا مظهرا الجذب والدفع العامين في المجتمع الإنساني، فالطائفتان متعادلتان وزنا وأثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن والتأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعية والاجتماعية من قوة وضعف، وعلم وجهل، وكياسة وبلادة، وصغر وكبر، ورئاسة ومرؤوسية، ومخدومية وخادمية، وشرف وخسة وغير ذلك.
5. فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف، وقد قوم الإسلام أود الاجتماع الإنساني وأقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة وهو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية، وحرية النساء كالرجال، وحقيقتها أن الإنسان بما هو إنسان ذو فكر وإرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ـ ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنساني ـ مستقلا في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار.
6. وهذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء والحكومة والجهاد ووجوب نفقتهن على الرجال وغير ذلك، وكحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار والمعاملات وعدم توجه التكاليف إليهم ونحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات وأشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الإنساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذو فكر وإرادة.
7. ولا تختص هذه المختصات بشريعة الإسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين المدنية بل في جميع السنن الإنسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها، والكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ على ما تبين.
8. أما قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، فقد كان المجتمع الإنساني يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنساني الواقعي، ويكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، وما يعدهن إنسانا ناقصا في الإنسانية كالصبيان والمجانين إلا أنهن لا يبلغن الإنسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الإتباع والاستيلاء دائما، ولعل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/256.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ذاك أمر منه سبحانه عزّ وجل لأزواجهن بالمعاشرة لهن ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ والمعروف: فهو الحسن الجميل من الأمور الذي لا ظلم فيه ولا جور.
2. معنى ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ فهو فإن أبغضتموهن وسئمتموهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ يقول: (عسى) في هذه النساء من البركات واللطف وما يرزق الله منهن من النسل المبارك التّقيّ الذي يسر والده ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾ لم تعلموا به أنتم بعد، وسيكون منهن ما تسرون)، وقوله تعالى: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ يلحق به بالأَولى إذا أراد أن يذهب بكل ما آتاها من مهرٍ ونفقة، وبالأَولى إذا أراد الزيادة على ذلك، والفاحشة: المعصية لله الزائدة في قبحها كالزنا والقذف، والمبيِّنة: ما تبين فحشها واتضح وثبتت بالمشاهدة، أو البينة المعمول بها شرعاً، والمعروف: خلاف المنكر، وخلاف ما يستنكر ويعاب على الزوج في عرف بلده.
3. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ فلا تعتقدوا الخير في فراقهن، فمن الأمر القريب أن ﴿يَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ إن أمسكتموهن، وهذا إذا كن صالحاتٍ لا فاجرات يبغضن لفجورهن المعلوم، وقد روي نهي عن الحمقاء، ولعله فيمن لم يكن قد تزوجها، فأما من قد تزوجها فيمسكها ما تمسكت بالدين وصبرت على ما في نفسها من الأوهام وسوء الظن، فإن أداها الحمق إلى الأذية لزوجها بغير حق، والتعدي لأجل سوء الظن، كانت من أهل الفاحشة البينة لأن الظلم قبيح، وظلم المرأة لزوجها أقبح لما له من الحق عليها، وهذا إذا أفرطت في بذاءة اللسان، وأفحشت في السباب أو خاصمته، وإلا فالأحوط المجاملة حتى تفتدي نفسها، أو الطلاق بدون عوض.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/37.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ هذا هو الخط الذي انطلق منه الإسلام في علاقة الرجل بزوجته، (المعاشرة بالمعروف) التي تتمثل في احترام المرأة في مشاعرها وعواطفها وشخصيتها المستقلة كإنسانة محترمة في إرادتها وتفكيرها، في ما اختصره القرآن الكريم من كلمتي (المودّة والرحمة) اللتين توحيان بالعاطفة الروحية العميقة، وبالاحترام المتبادل للظروف الموضوعية الداخلية والخارجية المحيطة بالطرفين، وهذا ما يحفظ للحياة الزوجية حيويّتها وإنسانيّتها وامتدادها في أعماق الذات، لأنها لا تلغي للإنسان ـ امرأة كان أم رجلا ـ شخصيته في مشاعره وأفكاره، بل تعمل على أن تجعل هناك تفاعلا بين الشخصيتين من خلال التفاهم والتعاون اللذين يؤدّيان إلى الانسجام الفكري والعملي.
2. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ وهذه لفتة قرآنية توحي للأزواج بالابتعاد عن الاستسلام للمشاعر الطارئة السلبية تجاه زوجاتهم، فليس من المفروض أن تصدق المشاعر، أو تقترب من الواقع؛ فقد تنطلق المشاعر بالكراهة على أساس حالة انفعالية سريعة، ناشئة من نظرة سوداء أو كلمة حمقاء أو حركة عابرة... مما يستثير في الإنسان جانب الإحساس الضبابي الغامض الذي يحجب عنه جانب الوضوح في الرؤية، فيخيّل له أن الخير شرّ، وأن الشرّ خير، فتختلط لديه المواقف، وتبتعد عن طريقه الحكمة... فيتصرف تصرفا خاطئا بعيدا عن مصلحته ومصلحة الإنسان الآخر، ولهذا أراد الله أن يثير أمام الإنسان التفكير العميق الذي ينفصل عن أجواء المشاعر الملتهبة، ليقف وجها لوجه أمام الحقيقة الموضوعية المرتبطة بواقع الأشياء، ليدرس، من موقع الفكر، كيف يمكن للحقيقة النابضة بالخير والمصلحة أن تختفي وراء كثير من الأوضاع القلقة غير الواضحة للشخص؛ فقد يكره كثيرا من الأشياء والأشخاص، ثم ينكشف له أن هناك خيرا كثيرا، لم يكن واضحا لديه، أو معروفا عنده، وهذا ما يجب على الإنسان أن يواجهه في الحكم على كل ما حوله ومن حوله، فيبتعد عن كثير من الأجواء النفسية والعاطفية التي قد تحجب عنه صورة الواقع، ليتمكن ـ من خلال ذلك ـ من امتلاك ميزان العدل لنفسه ولغيره، ولا سيما في العلاقات الزوجية التي قد تعكر صفوها بعض الحالات الطارئة من خلال ما تثيره في النفس من مشاعر وأحاسيس في غير مصلحة الطرفين؛ وعليه أن يعرف أن الشعور قد يتعامل مع الخيال والأوهام، بينما يتعامل الفكر مع المعطيات الحقيقية للأشياء.
3. قد يتمثل هذا الخير الكثير النتائج الإيجابية التي يحصل عليها الزوج في صبره على العقدة التي يحملها والحالة النفسية التي يعيشها تجاه زوجته، وذلك في الأجواء الطبيعية التي يتحرك بها الأولاد في أحضان الأبوين اللذين يمثل اجتماعهما على رعاية أولادهما وتمرّدهما على نوازعهما النفسية عنصرا إيجابيا في انفتاح الأولاد على الجانب الحميم بالعاطفة والحنان، بينما يؤدي الطلاق أو التنافر إلى التعقيدات الصعبة في حياة الأولاد والزوجين معا، وقد تنطلق البدايات في حركة السلب لتتحرك النهايات في حركة الإيجاب مما يفرض على الإنسان انتظار العواقب النهائية لمعرفة الأبعاد الواقعية للموضوع.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/164.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشيء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، أي عاشروهن بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثمّ عقب على ذلك بقوله: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
2. فحتى إذا لم تكونوا على رضا كامل من الزوجات، وكرهتموهنّ لبعض الأسباب فلا تبادروا إلى الانفصال عنهن والطلاق، بل عليكم بمداراتهنّ ما استطعتم، إذ يجوز أن تكونوا قد وقعتم في شأنهنّ في الخطأ وأن يكون الله قد جعل فيما كرهتموه خيرا كثيرا، ولهذا ينبغي أن لا تتركوا معاشرتهنّ بالمعروف والمعاشرة الحسنة ما لم يبلغ السيل الزبى، ولم تصل الأمور إلى الحدّ الذي لا يطاق، خاصّة وإن أكثر ما يقع بين الأزواج من سوء الظن لا يستند إلى مبرر صحيح، وأكثر ما يصدرونه من أحكام لا يقوم على أسس واقعية إلى درجة أنّهم قد يرون الأمر الحسن سيئا والأمر السيء حسنا في حين ينكشف الأمر على حقيقة بعد مضي حين من الزمن، وشيء من المداراة.
3. ثمّ إنّه لا بدّ من التذكير بأن للخير الكثير في الآية الذي يبشر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهن مفهوما واسعا، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/162.
20. الاستبدال والحقوق
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈20⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 20 ـ 21]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ)، قال: ركب عمر بن الخطاب المنبر، ثم قال أيها الناس، ما إكثاركم في صداق النساء!؟ وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت له: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم؟ قال نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله، يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾!؟ فقال: اللهم، غفرانك، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع، فركب المنبر، فقال: يا أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب أو طابت نفسه فليفعل(1).
__________
(1) سعيد بن منصور، وأبو يعلى ـ كما في المطالب العالية (١٦٧٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾، قال إن كرهت امرأتك، وأعجبك غيرها، فطلقت هذه، وتزوجت تلك؛ فأعط هذه مهرها، وإن كان قنطارا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، قال الميثاق الغليظ: إمساك بمعروف، أوتسريح بإحسان(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٥.
(2) ابن أبي شيبة ٤/١٤٣.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنه كان إذا زوج امرأة من بناته، أو امرأة من بعض أهله قال لزوجها: أزوجك، تمسك بمعروف، أو تسرح بإحسان(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/١٤٢.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: في قوله تعالى: ﴿مُبِينًا﴾، قال البين(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٨.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، يعني: شديدا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩٠٩.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾: هو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي ٣/٢٧٧.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾، قال طلاق امرأة ونكاح أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر(1).
2. روي أنّه قال: في قوله: ﴿بُهْتَانًا﴾، قال إثما(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، قال مجامعة النساء(3).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٤٠.
(2) ابن المنذر ٢/٦١٦.
(3) ابن جرير ٦/٥٤٢.
بكر:
روي عن بكر بن عبد الله (ت 106 هـ) أنه سئل عن المختلعة: أنأخذ منها شيئا؟ قال لا، ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٤/١٦١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) أنّه سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال: الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النكاح، وأما قوله: ﴿غَلِيظًا﴾ فهو ماء الرجل يفضيه إلى امرأته(1).
__________
(1) الكافي 5/560.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، قال هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال؛ فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، قال وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح: آلله عليك لتمسكن بمعروف، أو لتسرحن بإحسان(1).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٥٢.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ معناه جامع(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾: الميثاق الغليظ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 117.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنه قيل له: أخبرني عمن تزوج على أكثر من مهر السنة، أيجوز له ذلك؟قال: (إن جاز مهر السنة فليس هذا مهرا، إنما هو نحل، لأن الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ إنما عنى النحل ولم يعن المهر، ألا ترى أنها إذا أمهرها مهرا ثم اختلعت، كان له أن يأخذ المهر كاملا، فما زاد على مهر السنة فإنما هو نحل كما أخبرتك، فمن ثم وجب لها مهر نسائها لعلة من العلل)، قلت: كيف يعطي، وكم مهر نسائها؟قال: (إن مهر المؤمنات خمس مائة، وهو مهر السنة، وقد يكون أقل من خمس مائة ولا يكون أكثر من ذلك، ومن كان مهرها ومهر نسائها أقل من خمس مائة أعطي ذلك الشيء، ومن فخر وبذخ بالمهر فازداد على مهر السنة ثم وجب لها مهر نسائها في علة من العلل، لم يزد على مهر السنة خمس مائة درهم(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/229.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ يقول: وإن أراد الرجل طلاق امرأته ويتزوج أخرى غيرها، ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ يقول: وآتيتم إحداهن من المهر قنطارا من ذهب؛ ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ إذا أردتم طلاقها، يقول: فليس له أن يضر بها حتى تفتدي منه(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ تعظيما له، يعني: المهر، ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ يعني به: الجماع(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٥.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال في الآية: ثم رخص بعد، فقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، قال فنسخت هذه تلك(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٤٧.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، هذا تأديب من الله عز وجل لمن عرفه من المؤمنين، وسلم لحكمه من الصالحين: ألا يأخذوا مما آتوا النساء من مهورهن شيئا، وهذا فعل يفعله من لا معرفة له ولا تمييز، وهم الآن كثير إذا أبغض الرجل المرأة ضيق عليها، وأقبح في المعاشرة لها، وأضر بها واضطرها بسوء فعله، وشدة تعنته، إلى أن تفتدي منه بمهرها، فيأخذه ظلما وتعديا، ثم يتزوج به النساء، فيأكله حراما وسحتا؛ فنهى الله عز وجل من استبدل زوجة مكان زوجة: ألا يضر بالأولى، ويسيء إليها، ولا يتجرم بظلم عليها؛ حتى يأخذ ما أعطاها.
2. ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾!؟، والإفضاء هو: الدخول عليها، والكشف لمحاسنها، ولما استتر من غيره من بدنها مع الدنو منها، فقد أفضى منها إلى أشياء أوجبت عليه مهرها، وحظرت عليه بحكم الله أخذه منها؛ فنهاهم الله من بعد ذلك عن الظلم والاعتداء، والتحيل بالباطل لطلب الفداء منهن، أو الاخذ لمهورهن، وما أوجبه الله سبحانه بحكمه لهن، ولا يجوز ولا يحل في حكم الله ذي الطول والإحسان: أن يأخذ المسلم مهر امرأته، إلا أن تكون كما قال الله سبحانه: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾، فإذا كان منهما جميعا الظلم والتعدي، ولم يكونا متناصفين، ولا بما فرض الله عليهما في الصحبة بعاملين ـ جاز حينئذ الفداء والقبول.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/214.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ غيرها؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارا، والقنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار، وقيل: القنطار ألف ومائتا دينار، فهذا على التمثيل، ليس على التقدير.
2. وجه النهي والوعيد في ذلك ـ والله أعلم ـ ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّ النّساء عندكم عوان، اتّخذتموهنّ بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله تعالى) فوعد عزّ وجل الأزواج في غير آي من القرآن عن أخذ مهور النساء وغيرها من الأموال؛ لضعفهن في أنفسهن، والرجال هم القوامون عليهن؛ لئلا يبسط الأزواج في أموالهن؛ إشفاقا عليهن، أو لما إذا أخذ منها مهرها تبقى تلك المنفعة بلا بدل، وذلك زنا؛ وعلى هذا يجيء ألا يجوز له أن يخلطها؛ لأنه إذا أخذ منها مهرها بقيت له المنفعة بلا بدل، لكنه أجيز له ذلك؛ لأنه تقلب في الملك، وكل من تقلب في ملكه ببدل يأخذه جاز له ذلك.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾:
أ. قيل: ظلما بغير حق.
ب. وقيل: إذا أراد طلاقها لا يضارها بكذب لتفتدي منه مهرها.
4. ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ ويحتمل أن يكون البهتان والإثم واحدا.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ﴾:
أ. قيل: الإفضاء: هو الجماع.
ب. والأشبه أن يكون الإفضاء: الاجتماع؛ لأنه أضاف إليهما جميعا، فهو بالاجتماع أشبه وإليه أقرب؛ فيجب المهر بالاجتماع والخلوة بها، والجماع فعل الزوج، يضاف إليه خاصة.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾:
أ. قيل: عقدة النكاح.
ب. وقيل: هو ما ذكرنا في قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]
ج. وقيل: الميثاق الغليظ ما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (اتّقوا الله في النّساء؛ فإنّكم إنّما اتّخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإنّهنّ عندكم عوان لا يملكن من أمرهنّ شيئا)، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يا أيّها النّاس، إنّ لكم على نسائكم حقّا، وإنّ لهنّ عليكم حقّا، وإنّ من حقّكم عليهنّ ألّا يوطئنّ فرشكم، ولا يأذنّ في بيوتكم لأحد تكرهونه، ولا يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن هنّ فعلن ذلك فقد أحلّ الله لكم أن تضربوهنّ ضربا غير مبرّح ـ يعني: غير شائن ـ وإنّ من حقّهنّ عليكم الكسوة والنّفقة بالمعروف)، ولا تهجرها إلّا في بيتها، وأطعمها إذا أكلت، واكسها إذا اكتسيت)
د. وقيل: الميثاق الغليظ: ما أقروا به من قول الله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/86.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قول سيدنا عز وجل: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ يريد عز وجل إذا أردتم أن تستبدلوا أزواجاً مكان زوج فلا تأخذوا منهن شيئاً، ولو كنتم أعطيتم أحداهن قنطاراً.. والقنطار: هو الشيء الكثير من المال، فأراد عز وجل أن لا يفعل أولياءه مثل فعل الأنذال، اللئام الخبث الأشرار من الرجال، الذين إذا كره أحدهم زوجته باعدها ولزمها وضيق عليها، حتى تفدي منه نفسها بأن تبريه مما جعل لها من صداقها، فحرم الله ذلك ونهى عنه في هذه ومثلها، وقيل: إن القنطار مائة رطل من الذهب والفضة، قال الشاعر:
çوكانوا ولاة الروم تجبى إليهم... قناطيرها ما بين حق وزائدé
2. ثم قال عز وجل: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي كيف يجوز لكم أن تأخذوه بهتاناً وظلماً، وإثماً بَيِّنَاً، هذا ما لا يجوز ولا يحل لكم.
3. ثم قال عز وجل: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، يريد عز وجل التقرير لهم على أنه لا يجوز ولا يحل لهم بعد الإفضاء منهم إليهن، وهو: الركون، والأسرار التي تكون، وأصل الإفضاء في اللغة: هو الانبساط بالسر المكتوم، قال الشاعر:
çولا أرفد المولى العنود بصحبتي... إذا هو لم يسند إلي ولم يفضيé
4. معنى قوله عز وجل: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، أي أخذن بحكم الله منكم حقاً لازماً، واجباً شديداً وثيقاً، لأن حكم الله سبحانه أوثق المواثيق والعهود، وأوكد ما يكون من اللوازم والعقود.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/237.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْهُ شَيْئًا﴾ يعني أنهن قد ملكن الصداق وليس ملكهن للصداق موقوف على التمسك بهن بل ذلك لهن مع إمساكهن وفراقهن ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا﴾ أي ظلماً بالبهتان ويجوز بأن تبهتها لأنه جعل ذلك لها ليستوجبه منها وإنما منع من ذلك مع الاستبدال وإن كان ممنوعاً منه وأن يستبدل بهن أيضاً لئلا يتوهم المتوهم أنه مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان عموماً.
2. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي في الجماع وفي الخلوة ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ هو عقد النكاح الذي استحل به الفرج، ويحتمل أن يكون الميثاق ما روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: أيها الناس إن النساء عندكم عوار أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فلكم عليهن حق ولهن عليكم حق ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم أحداً ولا يعصينكم في معروف فإن فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وحكم هذه الآية ثابت إلا عند الخوف من النشوز.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/170.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ يعني أنهن قد ملكن الصداق، وليس ملكهنّ للصداق موقوفا على التمسك بهن، بل ذلك لهن مع إمساكهن، وفراقهن.
2. في قوله تعالى: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: ظلما بالبهتان.
ب. الثاني: أن يبهتها أن جعل ذلك ليسترجعه منها.
3. إنما منع من ذلك مع الاستبدال بهن وإن كان ممنوعا منه وإن لم يستبدل بهن أيضا لئلا يتوهم متوهم أنه يجوز مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان ذلك عموما.
4. في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن (الإفضاء) الجماع، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والسدي.
ب. الثاني: أنه الخلوة، وهو قول أبي حنيفة.
5. في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه عقد النكاح الذي استحل به الفرج، وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وهو قول الضحاك، والسدي، والحسن، وابن سيرين، وقتادة.
ج. الثالث: أنه ما رواه موسى بن عبيدة عن صعدة بن يسار عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أيّها النّاس إنّ النّساء عندكم عوان أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله فلكم عليهنّ حق ولهنّ عليكم حق، ومن حقّكم عليهنّ ألّا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف)
6. اختلف في ثبوت حكمها أو نسخه على قولين:
أ. أحدهما: أنها محكمة، لا يجوز له أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها سواء كانت هي المريدة للطلاق أو هو، وهو قول بكر بن عبد الله المزني.
ب. الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾، وهذا قول ابن زيد.. وقال أبو جعفر الطبري وغيره: حكمها ثابت إلا عند خوف النشوز فيجوز أن يفاديها.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/467.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخذ مال المرأة، وإن كان محرماً على كل حال من غير أمرها، فإنما خص الله تعالى الاستبدال بالنهي، لأن مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع، من حيث أن الثانية تقوم مقام الأولى، فيكون لها ما أعطيته الأولى، فبين الله تعالى أن ذلك لا يجوز، والمعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدل مكانها أو لم يستبدل.
2. ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ معناه: ليس ما آتيتموهن موقوفاً على التمسك بهن، دون تخليتهن، فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم أخذه، بل هو تمليك صحيح، لا يجوز الرجوع فيه، والمراد بذلك ما أعطى المرأة مهراً لهاً، ويكون دخل بها، فأما إذا لم يدخل بها، وطلقها، جاز له أن يسترجع نصف ما أعطاها، فأما ما أعطاها على وجه الهبة، فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز له الرجوع في شيء منه، لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له، وإن كان مكروهاً.
3. القنطار: المال الكثير، واختلفوا في مقداره، فقال بعضهم هو ملء جلد ثور ذهباً، وقال آخرون: هو دية الإنسان، وغير ذلك من الأقوال التي قدمنا ذكرها فيما مضى، وأصل ذلك مأخوذ من القنطرة، ومنه القنطرة الداهية، لأنها كالقنطرة في عظم الصورة، وإحكام البنية، ويقال: قنطر في الأمر يقنطر: إذا عظمه، بتكثير الكلام فيه، من غير حاجة إليه.
4. في قوله تعالى: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني بهتاناً ظلماً كالظلم بالبهتان، وقيل بطلاناً كبطلان البهتان.
ب. الثاني: بهتاناً أي بأن تبهتوا أنكم ملكتموه فتسترجعوه.
5. وأصل البهتان الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة، وأصله التحير، ومنه قوله: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ أي تحير عند انقطاع حجته، فالبهتان كذب يحير صاحبه، ونصب بهتاناً على أنه حال في موضع المصدر، والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين، وقوله: (مبيناً) أي ظاهرا لا شك فيه.
6. اختلف في نسخ قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، وما قبله:
أ. أحدها: أنها محكمة ليست منسوخة، لكن للزوج ان يأخذ الفدية من المختلعة، لأن النشوز منها، فالزوج في حكم المكره لا المختار للاستبدال، ولا يتنافي حكم الآيتين، فلا يحتاج إلى نسخ إحداهما بالأخرى.
ب. الثاني: قال بكر بن عبد الله المري: هي محكمة، وليس للزوج لأجل ظاهرها أن يأخذ من المختلعة شيئاً، ولا من غيرها.
ج. الثالث: قال ابن زيد، والسدي: هي منسوخة بقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾
7. قيل في معنى الإفضاء قولان، وكلاهما قد رواه أصحابنا، واختلفوا فيه:
أ. أحدهما: قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: هو كناية عن الجماع، وهو الأقوى.
ب. الثاني: انه الخلوة، وإن لم يجامع، فليس له أن يسترجع نصف المهر، وإنما يجوز ذلك فيمن لم يدخل بها بالخلوة معها.
8. الإفضاء إلى الشيء هو الوصول إليه بالملابسة له، قال الشاعر:
çبلى وثأي أفضى الى كل كئبة...بدا سيرها من ظاهر بعد باطنé
أي وصل البلى والفساد إلى الحزز، والفضاء السعة، فضا يفضو فضواً وفضاء إذا اتسع، ومنه: تمر فضا، مقصور أي مختلط.
9. في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي، والفراء، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾
ب. وقال مجاهد، وابن زيد، هو كلمة نكاح، التي يستحيل بها الفرج.
ج. الثالث: قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
د. الرابع: قال قتادة: كان يقال للنكاح في صدر الإسلام الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان.
10. هذا الكلام وإن كان ظاهره للاستفهام، فالمراد به التوبيخ، والتهديد، كما يقول القائل لغيره، كيف تفعل هذا وأنا غير راض به، على وجه التهدد له.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/152.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستبدال استفعال من البدل، والبديل هو أن يأخذ شيئًا مكان شيء، وبدلت الشيء: غيرته وإن لم تأت له ببدل، وأبدلت إذا أتيت ببدله.
ب. القنطار أصله القنطرة، سمي بذلك لعظمه، ومنه القِنْطَرُ الداهية؛ لأنه كالقنطرة في عظم الصورة، ومنه قنطر في الأمر إذا عظمه بتكثير الكلام فيه من غير حاجة، والقنطار: المال الكثير لعظمه، وحده بعضهم بدية الإنسان، وبعضهم بملء جلد ثور ذهبًا.
ج. البهتان: الكذب الذي لا يواجه به صاحبه على جهة المكابرة له، وأصله التحير من قوله: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ أي تحير لانقطاع حجته فالبهتان كذب يحير صاحبه لعظمه.
د. الإفضاء إلى الشيء الوصول إليه بالملامسة، وأصله من الفضاء، وهو السعة فضا يَفْضُوفضاءً وفُضُوًّا إذا اتسع، والإفضاء: الوصول باتساع المذهب.
هـ. الميثاق من المواثقة والمعاهدة، وهو من وثقت الشيء أحكمته.
2. لما تقدم الحث على حسن العشرة مع النساء عند الإمساك عقبه بحال الاستبدال، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ خطاب للأزواج ﴿اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ يعني إقامة امرأة مقام امرأة لكم بدلاً منها، تُطَلِّقُون الأولى وتتزوجون الثًانية ﴿وَآتَيْتُمُ﴾ أعطيتم ﴿إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ أي مالاً كثيرًا ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي من المال والقنطار.
3. ﴿شَيْئًا﴾ أي قليلا ولا كثيرًا، وإنما أراد أنه ليس ما أعطيتموهن موقوفًا على حال التمسك بهن دون التخلية بل هو تمليك صحيح لا يجوز الرجوع فيه من غير تراض.
4. سؤال وإشكال: لم خص الاستبدال بالنهي مع أنه محرم أخذه عند عدم الاستبدال؟ والجواب: أنه يجوز أن يتوهم عند الاستبدال أن الثانية تقوم مقام الأولى فيكون لها ما أخذت الأولى، ويجوز أن يتوهم أنه لما رجع إليها أحد البدلين يرجع البدل الآخر إليه، فأزال هذا الإشكال.
5. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ استفهام والمراد به النهي ﴿بُهْتَانًا﴾:
أ. قيل: ظلمًا، كالظلم بالبهتان.
ب. وقيل: بطلانًا كبطلان البهتان عن أبي مسلم.
ج. وقيل: بهتانًا بأن تبهتوا أنكم ما ملكتموه لتستوجبوه.
د. وقيل: سماه بهتانًا؛ لأنَّهُ تعالى فرض ذلك لها، فمن استرده كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانًا.
هـ. وقيل: لأنه عند العقد تكفل به وألا يأخذه، فإذا أخذه صار ذلك بهتانًا.
6. ﴿وَإِثْمًا﴾ ذنبًا ﴿مُبِينًا﴾ ظاهرًا ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ تعجيب من الله وتعظيم كقوله: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ أي عجبًا من فعلكم تأخذون ذلك منهن.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: المراد به الجماع، والله تعالى كنى عنه عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
ب. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة، فإن لم يجامع فليس له أن يسترجع نصف المهر، وإنما يجوز ذلك فيمن لم يخل بها، ولم يدخل بها.
8. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ عهدًا شديدًا، وفيه ثلاثة أحوال:
أ. الأول: أن الميثاق الغليظ قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ عن الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي، قال قتادة: كان يقال للناكح في صدر الإسلام: آلله عليك [لتمسكن بمعروف أو تسرحن] بإحسان.
ب. الثاني: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج، وهو قوله: تزوجت عن مجاهد وابن زيد.
ج. الثالث: قول النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) عن عكرمة والشعبي والربيع.
9. سؤال وإشكال: إطلاق الآية يدل على المنع من الأخذ في عموم الأحوال، وقد قال تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، وقال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ فكيف التوفيق بين هذه الآيات؟ والجواب: اختلف العلماء في ذلك:
أ. فمنهم من قال: الآية، منسوخة بقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ عن ابن زيد.
ب. ومنهم من قال: حكم الآية ثابت فلا يجوز أخذ شيء في عموم الأحوال عن بكر بن عبد الله المزني.
ج. ومنهم من قال: هذا على وجهين: إن كان النشوز من جهتها فله أخذ الفدية بتلك الآية، وإن رضيت بإسقاط المهر فله أخذها بالآية الأخرى، وهو بمنزلة ابتداء هبة وليس باسترداد، وإن كان النشوز من جهته، وهو يريد الاستبدال فلا يحل أخذ شيء، وهذا هو الصحيح، ولا بد في الآية من تقدير وإضمار كأنه قيل: لا تأخذوا منه شيئًا إلا بأمرين:
• أحدهما: أن يكون الأخذ بحق.
• الثاني: أن يكون بطيب نفس منها، يدل عليه أن وصف الأخذ بالبهتان يُنْبِئُ عن ذلك، لأن ما يؤخذ بهذين الوجهين لا يوصف بذلك فيما يأخذه عند الخلع، والطلاق قبل الدخول يأخذه بحق، وذكر الأصم قال: قد بلغني أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال، لثابت بن قيس بن شماس حين كرهته امرأته وأرادت فراقه: (خذ منها ما أعطيتها)، فقال: هل يحل لي ذلك، وقد أفضى بعضنا إلى بعض؟ قال: نعم.
10. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن لكل زوجة صداقًا، ولهذا قالت العلماء: إن النكاح لا يخلو من مال سُمِّيَ، أو لم يُسَمَّ، فإن سمي فهو المهر، وإن لم يُسَمَّ فمهر المثل.
ب. أنه لا يجوز الأخذ منها عند الاستبدال، بل يجدد للثانية صداقًا، وكان يجوز أن يظن أن قدر ما يستبيح به البضع يخلف فيه بعضهن بعضًا فلا يجب أن يجدد الصداق، فأزال تعالى هذه الشبهة، وبين أن حكم القليل والكثير سواء، وهذا في المدخول بها، فإنه لا يجوز أخذ شيء منها، فأما غير المدخول ففي حال الطلاق يجوز أخذ نصف الصداق، فإن جاءت الفُرقة بسبب من جهتها يجوز أخذ جميع الصداق، والذي يدل على أن الآية في المدخول بها قوله: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ وقد بينا ما قيل في الإفضاء، وأن منهم من يقول: الخلوة هي كالجماع في تأكيد المهر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من يشترط الجماع، وهو قول الشافعي، وتدل على أن المهر ملك لها مؤكد؛ لذلك لا يجوز أن يسترد.
ج. يدل قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ على أن الأخذ إنما يحرم إذا حصل الإفضاء، وقد بينا، ثم أكد النهي بقوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ والأظهر ما هو يوجبه عند عقد النكاح من إعطاء المهر والنفقة، وحسن العشرة، وإن لم يؤخذ منها إلا بطيب نفس منها عن القاضي.
11. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ ألف استفهام، والمراد التقريع، وحقيقته النهي؛ أي لا تأخذوا.
ب. ﴿بُهْتَانًا﴾ نصب بنزع الخافضة، أي ببهتان، وقيل: بإضمار، وتقديره: تصيبون به بهتانًا وإثمًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/572.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. القنطار: مأخوذ من القنطرة، ومنه القنطر للداهية، لأنها كالقنطرة في عظم الصورة، ويقال: قنطر في الامر، يقنطر، إذا عظمه بتكثير الكلام فيه، من غير حاجة إليه.
ب. البهتان: الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له، وأصله التحير من قوله: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ أي تحير لانقطاع حجته، فالبهتان: كذب يحير صاحبه لعظمه.
ج. الافضاء إلى شئ هو الوصول إليه بالملامسة، وأصله من الفضاء وهو السعة، فضا يفضو فضوا: إذا اتسع.
2. لما حث الله على حسن مصاحبة النساء عند الامساك، عقبه ببيان حال الاستبدال، فقال مخاطبا للأزواج: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ أيها الأزواج ﴿اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾: أي إقامة امرأة مقام امرأة ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ﴾: أي أعطيتم المطلقة التي تستبدلون بها غيرها.
3. ﴿قِنْطَارًا﴾: أي مالا كثيرا على ما قيل فيه من أنه ملء مسك ثور ذهبا، أو أنه دية الانسان، أو غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أول آل عمران، ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ﴾: أي من المؤتى: أي المعطى ﴿شَيْئًا﴾: أي لا ترجعوا فيما أعطيتموهن من المهر، إذا كرهتموهن، وأردتم طلاقهن.
4. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾: هذا استفهام إنكاري: أي تأخذونه باطلا وظلما، كالظلم بالبهتان، وقيل معناه: أتأخذونه بإنكار التمليك، وسماه بهتانا، لان الزوج إذا أنكر تمليكه إياها بغير حق، استوجب المعطى لها في ظاهر الحكم، كان إنكاره بهتانا وكذبا، ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾: أي ظاهرا لا شك فيه.
5. سؤال وإشكال: لم خص حال الاستبدال بالنهي عن الأخذ، مع أن الاخذ محرم، مع عدم الاستبدال؟ والجواب: إن مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع من حيث إن الثانية تقوم مقام الأولى، فيكون لها ما أخذت الأولى، فبين تعالى أن ذلك لا يجوز، وأزال هذا الاشكال،والمعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدلتم مكانها أخرى، أم لم تستبدلوا، فلا تأخذوا مما آتيتموها شيئا.
6. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾: وهذا تعجيب من الله تعالى وتعظيم: أي عجبا من فعلكم، كيف تأخذون ذلك منهن، ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾:
أ. قيل: هو كناية عن الجماع، عن ابن عباس، ومجاهد، والسدي.
ب. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة، وإن لم يجامع، فسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء.
ج. وكلا القولين قد رواه أصحابنا وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس: إن الافضاء حصوله معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، فقد وجب المهر في الحالين.
7. في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، عن الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
ب. ثانيها: إن المراد به كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج، عن مجاهد، وابن زيد.
ج. ثالثها: قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، عن عكرمة، والشعبي، والربيع.
8. قيل في هاتين الآيتين ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إنهما محكمتان غير منسوختين، لكن للزوج أن يأخذ الفدية من المختلعة، لان النشوز حصل من جهتها، فالزوج يكون في حكم المكره لا المختار، للاستبدال، ولا يتنافى حكم الآيتين، وحكم آية الخلع، فلا يحتاج إلى نسخهما بها، وهو قول الأكثرين.
ب. ثانيها: إنهما محكمتان، وليس للزوج أن يأخذ من المختلعة شيئا، ولا من غيرها، لأجل ظاهر الآية، عن بكير بن بكر بن عبد الله المزني.
ج. الثالث: إن حكمهما منسوخ بقوله: ﴿فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾، عن الحسن.
9. ﴿بُهْتَانًا﴾ مصدر وضع موضع الحال، وكذلك قوله ﴿وَإِثْمًا﴾ والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/42.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ هذا الخطاب للرّجال، والزّوج: المرأة، وقد سبق ذكر (القنطار) في (آل عمران)
2. ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ إنما ذلك في حقّ من وطئها، أو خلا بها، وقد بيّنت ذلك الآية التي بعدها، قال القاضي أبو يعلى: وإنما خصّ النّهي عن أخذ شيء ممّا أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عامّا، لئلّا يظنّ أنه لمّا عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقّها من المهر، أو يظنّ ظانّ أنّ الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها.
3. في البهتان قولان:
أ. أحدهما: أنه الظّلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.
ب. الثاني: الباطل، قاله الزجّاج، ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.
4. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ أي: كيف تستجيزون أخذه، وفي (الإفضاء) قولان:
أ. أحدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ، ومقاتل، وابن قتيبة.
ب. الثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفرّاء.
5. في المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال؛ الإمساك بمعروف، أو التّسريح بإحسان، هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل.
ب. الثاني: أنه عقد النّكاح، قاله مجاهد، وابن زيد.
ج. الثالث: أنه أمانة الله، قاله الرّبيع.
__________
(1) زاد المسير: 1/387.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع الرابع: من التكاليف المتعلقة بالنساء هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، ذلك أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة، فقال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾، روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ الآية.
2. القنطار المال العظيم، وقد مر تفسيره في قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ [آل عمران: 14]
3. الآية تدل على جواز المغالاة في المهر، روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن كراهة المغالاة، وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] لا يدل على حصول الآلهة، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين) لم يلزم منه جواز القتل، وقد يقول الرجل: لو كان الإله جسما لكان محدثا، وهذا حق، ولا يلزم منه ان قولنا: الإله جسم حق.
4. هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها، وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله، فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حسا، وبين ما إذا لم يؤتها.
5. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر، قال: وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: 237] وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس:
أ. فقال علي وعمر: المراد من المسيس الخلوة.
ب. وقال عبد الله: هو الجماع، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية.
6. والجواب: إن هذه الآية المذكورة هاهنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك.
7. سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج، وإما أن يكون من قبل الزوجة، فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فإنه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا، ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، كما ان البيع وقت النداء منهي عنه، ثم انه يفيد الملك، وإذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: 19]
8. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة، وأصله من بهت الرجل إذا تحير، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمته، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه ﴿بُهْتَانًا﴾، ومنه الحديث: (إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته)، وفي أنه لم انتصب قوله: ﴿بُهْتَانًا﴾ وجوه:
أ. الأول: قال الزجاج: البهتان هاهنا مصدر وضع موضع الحال، والمعنى: أتأخذونه مباهتين وآثمين.
ب. الثاني: قال الزمخشري: يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضا في الحقيقة، كقولك: قعد عن القتال جبنا.
ج. الثالث: انتصب بنزع الخافض، أي ببهتان.
د. الرابع: فيه إضمار تقديره: تصيبون به بهتانا وإثما.
9. في تسمية هذا الأخذ (بهتانا) وجوه:
أ. الأول: أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا.
ب. الثاني: أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها، وأن لا يأخذه منها، فإذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا.
ج. الثالث: أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر، جعل كأن أحدهما هو الآخر.
د. الرابع: أنه تعالى ذكر في الآية السابقة: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله، فإذا أخذ منها شيئا أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة، فإذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك، وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر.
هـ. الخامس: أن عقاب البهتان والإثم المبين كان معلوما عندهم فقوله: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10]
10. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ استفهام على معنى الإنكار والإعظام، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.
11. ذكر الله تعالى في علة هذا المنع أمورا:
أ. أحدهما: أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر.
ب. ثانيها: أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا.
ج. ثالثها: قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، وأصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال: فضا يفضو وفضاء إذا اتسع، قال الليث: أفضى فلان إلى فلان، أي وصل اليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، وللمفسرين في الإفضاء في هذه الآية قولان:
• أحدهما: أن الإفضاء هاهنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي، لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإن خلا بها.
• الثاني: في الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها، قال الكلبي: الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
د. الرابع: من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ في تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه:
• الأول: قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالإحسان، بل سرحها بالإساءة.
• الثاني: قال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق، وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
• الثالث: قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا، وصفه بالغلظة لقوته وعظمته، وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.
12. كون الإفضاء هاهنا هو كناية عن الجماع هو الأولى، ويدل عليه وجوه:
أ. الأول: أن الليث قال أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل.
ب. الثاني: أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب، فقال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الإفضاء عليه.
ج. الثالث: وهو أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه، لأن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر، فامتنع تفسير قوله: ﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ بمجرد الخلوة، سؤال وإشكال: إذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الإفضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا، وأنتم لا تقولون به، والجواب: القائل قائلان، قائل يقول: المهر لا يتقرر إلا بالجماع، وآخر: انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة، فكان هذا القول باطلا بالإجماع، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين: إما الجماع، وإما الخلوة، والقول بالخلوة باطل لما بيناه، فبقي أن المراد بالإفضاء هو الجماع.
د. الرابع: أن المهر قبل الخلوة ما كان متقررا، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الإفضاء، هو الخلوة أو الجماع، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان، وهو عدم التقرير، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي.
13. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ كلمة تعجب، أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/14.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين، ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر) أو قال: غَيْرُهُ، المعنى: أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها، أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب، وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه تعالى فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
2. ذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها، قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ)
3. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا.
4. اختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالك: للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو، وقال جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك.
5. ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ الآية، دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح، وخطب عمر فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله تعالى يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر!، وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ، وترك الإنكار، أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس، فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: فقامت إليه امرأة، إلى آخره.
6. وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء، وزاد بعد قوله: أوقية، وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كلفت إليك علق القربة ـ أو عرق القربة، وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة، قال الجوهري: وعلق القربة لغة في عرق القربة، قال غيره: ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به، يقول كلفت إليك حتى عصام القربة، وعرق القربة ماؤها، يقول: جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة، وهو ماؤها في السفر، ويقال: بل عرق القربة أن يقول: نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة، وهو سيلانها، وقيل: إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر، ففسر به اللفظان: العرق والعلق، وقال الأصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة، قال: ولا أدري ما أصلها، قال الأصمعي: وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول: سمعت شيخاننا يقولون: لقيت من فولان عرق القربة، يعنون الشدة، وأنشدني لابن الأحمر: ليست بمشتمة تعد وعفوها...عرق السقاء على القعود اللاغبقال أبو عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه كعرق القربة، فقال: كعرق السقاء لما لم يمكنه الشعر، ثم قال: على القعود اللاغب، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم، وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه، زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه، فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر، وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام.
7. وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة)، ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره، فسأله عنه فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: (كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل)، فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور، وهذا لا يلزم، وإنكار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور، وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وهذا مكروه باتفاق، وروى أبو داوود عن عقبة بن عامر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لرجل: (أترضى أن أزوجك فلانة)؟ قال: نعم، وقال للمرأة: (أترضين أن أزوجك فلانا)؟ قالت: نعم، فزوج أحدهما من صاحب، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف.
8. أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق، لقوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾، ومضى القول في تحديد القنطار في آل عمران.
9. قرأ ابن محيصن ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ﴾ بوصل ألف ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ وهي لغة، ومنه قول الشاعر: وتسمع من تحت العجاج لها ازملا، وقول الآخر: إن لم أقاتل فالبسوني برقعا.
10. ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ قال بكر بن عبد الله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا، لقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَأْخُذُوا﴾، وجعلها ناسخة لآية البقرة، وقال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض، قال الطبري: هي محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء، فقد جوز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها.
11. ﴿بُهْتَانًا﴾ مصدر في موضع الحال ﴿وَإِثْمًا﴾ معطوف عليه ﴿مُبِينًا﴾ من نعته.
12. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ الآية، تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة، وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، حكاه الهروي وهو قول الكلبي، وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة، ويقال للشيء المختلط: فضا، قال الشاعر:
çفقلت لها يا عمتي لك ناقتي...وتمر فضا في عيبتي وزبيبé
ويقال: القوم فوضى فضا، أي مختلطون لا أمير عليهم، وعلى أن معنى ﴿أَفْضَى﴾ خلا وإن لم يكن جامع.
13. اختلف علماؤنا في هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا على أربعة أقوال: يستقر بمجرد الخلوة، لا يستقر إلا بالوطي، يستقر بالخلوة في بيت الإهداء، التفرقة بين بيته وبيتها، والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها، لما رواه الدارقطني عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق)، وقال عمر: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث، وعن علي: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق، وقال مالك: إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها، وقال الشافعي: لا عدة عليها ولها نصف المهر، وقد مضى في البقرة.
14. في قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ثلاثة أقوال:
أ. قيل: هو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، قاله عكرمة والربيع.
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي.
ج. الثالث: عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت [عقدة] النكاح، قال مجاهد وابن زيد، وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد، والله أعلم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/100.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ قد تقدم بيانه في آل عمران، والمراد به هنا: المال الكثير، فلا تأخذوا منه شيئا.
2. قيل: هي محكمة؛ وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾، والأولى: أن الكل محكم، والمراد هنا: غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا.
3. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ الاستفهام للإنكار والتقريع، والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي، وقوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ: وهي الإفضاء، قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد، جامع أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء: أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة، يقال للشيء المختلط: فضاء، ويقال: القوم فوضى وفضاء، أي: مختلطون لا أمير عليهم.
4. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ معطوف على الجملة التي قبله، أي: والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقا غليظا وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)، وقيل: هو قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وقيل: هو الأولاد.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/510.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنَ اَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ﴾ أخذ ﴿زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ تطلِّقونها ﴿وَءَاتَيْتُم﴾ والحال أنَّه قد أتيتم، أو عطف سابق على لاحق ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ هي الأولى المطلَّقة ﴿قِنطَارًا﴾ على رسم الصداق فكيف القليل، والمراد بالإيتاء: شغل الذمَّة بالقنطار، سواء أخذته المرأة أم لم تأخذه.
2. ﴿فَلَا تَاخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ لا تسقطوا مِمَّا في ذمَّتكم لهنَّ شيئًا ما ولو قليلاً، ولا تستردُّوا منهنَّ شيئًا إن وصلهنَّ ﴿أَتَاخُذُونَهُ﴾ أي: الشيء، توبيخ وإنكار، لا يصحُّ ذلك شرعًا أو عقلاً ﴿بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ باهتين وآثمين إثمًا مبينًا، أو ذوي بهتان وإثم مبين، أو لأجل البهتان والإثم المبين، والمفعول له لا يلزم أن يكون غرضًا مطلوبًا من الفعل، لجواز قولك: قعد عن الحرب جبنا، فإنَّه ليس المعنى أنَّه قعد عنها ليحصل له الجبن، فكذا البهت والإثم ليسا غرضين للأخذ، فإِنَّ العلَّة تكون غائيَّة وتكون باعثة، والآية من الثانية، وأصل البهت: الكذب على الغير حتَّى يكون متحيِّرًا باهتا، ثمَّ استعمل في كلِّ باطل فعل أو قول يُتحيَّر من بطلانه.
3. في الآية جواز المغالاة في الصداق، كما قال عمر على المنبر: (لا تغالوا في المهور، لو كانت المغالاة فيها مكرمة في الدُّنيا، أو تقوى عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أولاكم بها، وما زوَّج ولا تزوَّج بأكثر من اثنتي عشرة أوقية)، فقالت امرأة من قريش: (لِم تمنعنا حقَّنا يا أمير المؤمنين؟ والله يقول: ﴿وَءَاتَيْتُمُ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ [النساء: 20]، فقال: (كلُّ الناس أفقه منك يا عمر حتَّى النساء)، ورجع وأجاز القنطار، وقال لأصحابه تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه عليَّ حتَّى تردَّ عليَّ امرأة ليست من أعلم النساء!، ولا يعترض بقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ اِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، فإنَّ امتناع تعدُّد الآلهة لِدليلٍ خارج، ولا دليل على امتناع القنطار صداقًا.
4. أخذ الصداق حرام، أراد تزوُّج أخرى أو لم يُرد، ولكن ذَكَرَه في معرض إرادة تزوُّج الأخرى، لأنَّ إرادته تزوُّج أخرى يدعوه إلى استرداد المال ليصرفه في الأخرى، وقد كان الرجل إذا أراد جديدة بهت التي تحته، حتَّى يلجئها إلى افتدائها بما أعطاها، فيتزوَّج به الجديدة، فنُهوا عن ذلك، وانظر إلى اتِّضاع عمر واحتياطه، يصيب ويجعل نفسه كالمخطئ؛ لأنَّ نهيه عن مغالاة المهور حقٌّ جاء به الحديث، والآية ليست مغرية بالقنطار ولا مسوِّية له مع التوسُّط، وإنَّما هي تمثيل بالكثرة ﴿وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدَ اَفْضَى﴾ وصل ﴿بَعْضُكُمُ إِلَىٰ بَعْضٍ﴾ إفضاء أوجب لها الصداق، وهو غيوب الحشفة، وفي الفروع: إلحاق مسِّ البدن بالذكر، ومسُّ الفرج باليد ونظر باطن الفرج.
5. والإفضاء إلى الشيء الوصول إلى فضائه، أي: سعته، كنَّي به عن الجماع، كما كنَّى عنه بِالسِّرِّ وبالمسِّ في غير هذه، وزعم بعض أنَّ الخلوة توجب الصداق ولو لم يجامع، وبُحِث بأنَّ الخلوة لا يُستحى من ذكرها، فلو كانت مرادة لذُكرت، وإنَّما يستحى من ذكر الوطء، ومن كونهما في لحاف، وأجيب بأنَّه لا نسلم أنَّه لا يستحى من ذكرها، وسمِّيت إفضاء لأنَّها توصل إلى الوطء، وقال الكلبي والفرَّاء وأبو حنيفة: إذا كان معها في طاق واحد وجب، ولو لم يجامع، وزعموا عن ثوبان عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (من كشف خمار امرأة ونظر إليها ـ أي: إلى ما تحت خمارها ـ وجب الصداق)، والمذهب ما ذكرتُ أوَّلاً، وأمَّا قول عليٍّ وعمر: (إذا أغلق بابا، وأرخى سترًا، وجب عليه الصداق، وعليها العدَّة)، ففي الحكم، فلو أقرَّت بعدم الجماع لم يجب لها الصداق كاملاً، ولو ذهبت إلى حيث لا تعرف أنَّ لها زوجًا طلَّقها قبل المسِّ لم تكن عليها عدَّة.
6. ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أخذن عنكم ما يقتضي الألفة والمودَّة، وهو الإفضاء، فالميثاق ما يوجبه الإفضاء من الألفة مع الإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان، ومع ما جاء في الحديث من أخذهم إيَّاهنَّ بأمانة الله، واستحلال فروجهنَّ بكلمة الله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/146.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ أي تزوج امرأة ترغبون فيها ﴿مَكَانَ زَوْجٍ﴾ ترغبون عنها بأن تطلقوها ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ﴾ أي إحدى الزوجات، فإن المراد بالزوج الجنس، ﴿قِنْطَارًا﴾ أي مالا كثيرا مهرا ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي يسيرا، فضلا عن الكثير ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ أي باطلا ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ بينا، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي أتأخذونه باهتين وآثمين.
2. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ إنكار لأخذه إثر إنكار، وتنفير عنه غب تنفير، على سبيل التعجب، أي بأي وجه تستحلون المهر ﴿وَقَدْ أَفْضَى﴾ أي وصل ﴿بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ فأخذ عوضه ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد، يعسر معه نقضه، كالثوب الغليظ يعسر شقه، قال الزمخشريّ: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ قال الشهاب الخفاجيّ: قلت بل قالوا:
çصحبة يوم نسب قريب...وذمة يعرفها اللبيبé
أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، أو قول الوليّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله: من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
3. في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وكان عمر بن الخطاب عن كثرته ثم رجع عن ذلك، كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلميّ قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا صدق النساء، ألا لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما أصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته، أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته (وقال مرة: وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته) حتى تكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت إليك عرق القربة، ورواه أهل السنن، وقال الترمذيّ: هذا حديث صحيح، وروى أبو يعلى عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم قال أيها الناس! ما إكثاركم في صدق النساء! وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، قال ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال نعم، فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال وأيّ ذلك؟ قالت: أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾، الآية، قال فقال: اللهم! غفرا، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلي: وأظنه قال فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده جيّد قويّ، قاله ابن كثير.
4. في (الحجة البالغة) ما نصه: لم يضبط النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحّة طبقات، فلا يمكن تحديده عليهم، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال التمس ولو خاتما من حديد، غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا، أي نصفا، وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه، أخرج أبو داود والحاكم، وصححه، من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير الصداق أيسره)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا، قال: قد نظرت إليها، قال على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: على أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال فبعث بعثا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم.
5. خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي، تنبيها بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان هذا، على كثير ما بذل لامرأته من الأموال، منهيّا عن استعادة شيء يسير حقير منها، على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيّا عن استعادته بطريق الأولى، ومعنى قوله ﴿وَآتَيْتُمُ﴾ والله أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال، في ظاهر الأحمر، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية ـ كذا في الانتصاف.
6. اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة، ومنشأ ذلك: أن ﴿أَفْضَى﴾ في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، يجوز حملها على الجماع كناية، جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيي من ذكره، والخلوة لا يستحيي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية: ويجوز إبقاؤها على ظاهرها، قال ابن الأعرابيّ: الإفضاء في الحقيقة الانتهاء، ومنه: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، أي انتهى وآوى، هذا، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع، لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الإفضاء إليه ـ ذكره الرازيّ من وجوه: ثم قال وقوله تعالى ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ كلمة تعجب، أي لأيّ وجه ولأيّ معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
7. في (الإكليل) استدلّ بهذه الآية من منع الخلع مطلقا، وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال غيره: إن هذه الآية منسوخة بها، وقال آخرون: لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها.. إن القول الثالث متعين، لأن كلّا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم، وذلك لأن قوله في البقرة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229] ـ صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها، لقوله تعالى ثمّ: ﴿وأَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ [البقرة: 229] إلخ، والحكمة في حل الأخذ ظاهرة، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه، واسترداد ما لو أخذ منه، لكان في صورة المظلوم، لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه، فكان من العدل الإلهيّ أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال، وأما هذه الآية فهي في حكم آخر، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه، أو ترغب في خلع نفسها منه، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الإفضاء، لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا، لأنه أخذ بلا جريرة منها، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها، رحمة منه تعالى، وعدلا في القضيتين، فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين، وليت شعري ماذا يقول في الحديث المرويّ في البخاري وغيره، وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لامرأة ثابت: (أتردّين عليه حديقته! فقالت: نعم، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لزوجها: اقبل الحديقة وطلقها)، ولا يقال: لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾، إلخ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا، لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلا، وبالعكس، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس، ولا من مؤكد بدون مؤكدة، وهكذا، وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ ـ لكان كالاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكدة، وهذا ساقط، لأنّ قوله: ﴿وَكَيْفَ﴾ ـ تنفير عما تقدم، متعلق به، وما قبله خاص، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾، عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها ـ نقول هذا باطل وفاسد، لأن مورد الآية في إرادته، هو فراقها مبتدئا، فلا يصدق على المختلعة، لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلا في حكم على حدة، لا تعلق فيها له بالآخر، والنسخ لا يصار إليه بالرأي، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قويّ، بل لما يتراءى ظاهرا بلا إمعان، فتثبت هذا، وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للمتلاعنين، بعد فراغهما من تلاعنهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ قالها ثلاثا، فقال الرجل: يا رسول الله: مالي؟ يعني ما أصدقها، قال لا مال لك، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها)، وفي سنن أبي داود وغيره، عن بصرة بن أكثم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنى، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكر ذلك له، فقضى لها بالصداق وفرق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: الولد عبد لك، والصداق في مقابلة البضع.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/57.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي إن أردتم استبدال زوج جديدة ترغبون فيها مكان زوج سابقة ترغبون عنها لكراهتكم لها وعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها بالمعروف وهي لم تأت بفاحشة مبينة وقد آتيتم من قبل إحداهن قنطارا من المال أي مالا كثيرا سواء أخذنه وحزنه في أيديهن أو التزمتموه لهن فصار دينا في ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا بل يجب أن يكون كله لصاحبته لأنكم إنما تستبدلون غيرها بها لأجل هواكم وتمتعكم بغير ذنب شرعي منها يبيح لكم أخذ شيء منه، كأن تكون هي الطالبة لفراقكم المسيئة إليكم لأجل حملكم على طلاقها، فإذا لم تفعل شيئا يبيح لكم ذلك فبأي وجه تستحلون أخذ شيء من مالها؟
2. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ استفهام إنكار وتوبيخ أي أتأخذون ذلك الشيء باهتين إياها كاذبين عليها بنسبة الفاحشة إليها!؟ فالبهتان هو الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا يقال بهته فبهت أي افترى عليه هذا النوع من الافتراء فأدهشه وأسكته متحيرا، والإثم الحرام، قال محمد عبده: إن ذكر إرادة الاستبدال مبني على الغالب في مثل هذه الحالة وليس شرطا لعدم حل أخذ شيء من مال المرأة فإذا طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها وإنما كره عشرتها أو اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء أو غير ذلك فإنه لا يحل له أخذ شيء من مالها كما يعلم من اشتراط الإتيان بفاحشة مبينة.
3. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ إنكار آخر لأخذ شيء من مال المرأة مع إيحاشها بالطلاق والرغبة عنها أكد به الإنكار الأول مبالغة في التنفير أو الاستفهام للتعجب من حال من تمتع بامرأته وعاملها معاملة الأزواج وهي أشد صلة حيوية بين البشر ثم رغب عنها وأراد فراقها من غير أن تتوسل إلى ذلك أو تلجئه إليه بارتكاب الفاحشة المبينة أو عدم إقامة حدود الله، ولم يتأثم مع ذلك من أكل شيء من مالها الذي كان آتاها حال الإقبال عليها والرغبة فيها، يقول كيف تأخذون ذلك الشيء من مالهن والحال أنكم قد أفضيتم إليهن أي خلصتم ووصلتم إليهن ذلك الخلوص الخاص بالزوجين الذي يتحقق به معنى الزوجية تمام التحقق فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما حقيقة واحدة، ولأجله يعبر بها عن كل منهما باللفظ المفرد الدال على التثنية (زوج) وبه يتكون منهما الولد الذي هو واحد نسبته إلى كل منهما واحدة؟ أبعد هذا الإفضاء والملابسة يصح أن يكون الواصل الباذل هو القاطع للصلة العظيمة طامعا في مال الآخر المظلوم ولسان الحق يقول:
çوبتنا وما بيني وبينك ثالث...كزوج حمام أو كغصنين هكذا
فمن بعد هذا الوصل والود كله...أكان جميلا منك تهجر هكذاé
4. قال بعض الفقهاء: إن المراد بالإفضاء هنا الخلوة الصحيحة؛ وإن لم تحصل فيها الملامسة المقصودة، وهم إنما يفسرون بما يوافق قواعدهم وإن لم يتفق مع الأسلوب العربي البليغ فالجملة من باب الكناية وإنما تكون فيما لا يحسن التصريح به، ويؤيده تعدية الإفضاء بإلى الدال على منتهى الاتصال، وهذا من حسن نزاهة القرآن في التعبير وأدبه العالي في الخطاب ومن الدقة فيه ما ذكره محمد عبده من نكتة التعبير بقوله ﴿بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي مع كون الظاهر ان يقول وقد أفضيتم إليهن أو أفضى أحدكم إلى الآخر وهي إشارة إلى كون كل واحد من الزوجين بمنزلة جزء الآخر وبعضه المتمم لوجوده فكأن بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر فوصل إليه بهذا الإفضاء واتحد به.
5. ثم قال: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي عهدا شديدا موثقا يربطكم بهن أقوى الربط وأحكمه، وقد روي عن قتادة وغيره أن هذا الميثاق هو ما أخذه الله للنساء على الرجال بقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] قال وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان، وعن مجاهد أنه كلمة النكاح أي صيغة العقد التي حلت به المرأة للرجل وقال بعضهم: هو ما أمر الله تعالى به الرجال من معاشرتهن بالمعروف كما في الآية التي قبل هذه.
6. قال محمد عبده: إن هذا الميثاق الذي أخذه النساء من الرجال لا بد أن يكون مناسبا لمعنى الإفضاء في كون كل منهما من شؤون الفطرة السليمة وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21] فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليه المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والرضا بالاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء، فمن آيات الله تعالى في هذا الإنسان أن تقبل المرأة بالانفصال من أهلها ذوي الغيرة عليها لأجل الاتصال بالغريب تكون زوجا له ويكون زوجا لها تسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة والرحمة أقوى من كل ما يكون بين ذوي القربى، فكأنه يقول: إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها وإحكاما، وإنما يفقه هذا المعنى الإنسان الذي يحس إحساس الإنسانية، فليتأمل تلك الحالة التي ينشئها الله تعالى بين الرجل وامرأته يجد أن المرأة أضعف من الرجل وأنها تقبل عليه وتسلم نفسها إليه مع علمها بأنه قادر على هضم حقوقها فعلى أي شيء تعتمد في هذا الإقبال والتسليم؟ وما هو الضمان الذي تأخذه عليه والميثاق الذي تواثقه به؟ ماذا يقع في نفس المرأة إذا قيل لها إنك ستكونين زوجا لفلان؟ إن أول شيء يخطر في بالها عند سماع مثل هذا القول أو التفكر فيه وإن لم تسأل عنه هو أنها ستكون عنده على حال أفضل من حالها عند أبيها وأمها وما ذلك إلا لشيء استقر في فطرتها وراء الشهوة، ذلك الشيء هو عقل إلهي وشعور فطري أودع فيها ميلا إلى صلة مخصوصة لم تعهدها من قبل، وثقة مخصوصة لا تجدها في أحد من الأهل، وحنوا مخصوصا لا تجد له موضعا إلا البعل، فمجموع ذلك هو الميثاق الغليظ الذي أخذته من الرجل بمقتضى نظام الفطرة الذي يوثق به ما لا يوثق بالكلام الموثق بالعهود والإيمان، وبه تعتقد المرأة أنها بالزواج قد أقبلت على سعادة ليس وراءها سعادة في هذه الحياة وإن لم تر من رضيت به زوجا، ولم تسمع له من قبل كلاما، فهذا ما علمنا الله تعالى إياه وذكرنا به ـ وهو مركوز في أعماق نفوسنا بقوله إن النساء قد أخذن من الرجال بالزواج ميثاقا غليظا، فما هي قيمة من لا يفي بهذا الميثاق وما هي مكانته من الإنسانية؟
7. استدل بعض الناس بالآيتين(20 ـ 21) على منع الخلع ـ وهو بضم الخاء ـ طلاق المرأة على عوض تبذله للرجل كأن تترك له ما كانت أخذت منه من صداق وغيره ولذلك قالوا إن ما هنا ناسخ لآية البقرة: ﴿فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾ [البقرة: 129] وزعم آخرون أن تلك ناسخة لهذه وليس عند أحد الفريقين دليل على أن ما جعله ناسخا هو المتأخر، وإنما أعياهم الجمع بين الحكمين فحكموا بنسخ أحدهما بالآخر، وآية النسخ التنافي، ولا تنافي بين ما هنا وما في سورة البقرة كما علم من التفسير الذي شرحنا آنفا، وقد صرح المحققون بعدم النسخ في الموضعين وقالوا إن المحرم هنا هو أخذ شيء من مال المرأة بغير طيب نفس منها والمباح هناك ما افتدت به نفسها برضاها لتعذر الاتفاق بينها وبين زوجها.
8. استدل بعضهم بذكر القنطار هنا على جواز التغالي في المهور والآية ليست نصا في جواز القنطار مهرا لجواز أن يكون إيتاء القنطار بوجوه متعددة كالهدايا والمنح ولكن روى سعيد بن منصور وأبو يعلى بسند جيد عن مسروق أن عمر بن الخطاب نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ فقال: (اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر!) ثم رجع فركب المنبر فقال: (إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربع مئة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب)، ونقول: نعم إن الشريعة لم تحدد مقدار الصداق للمرأة بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فيعطي كل بحسب حاله، ولكن ورد في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعده التغالي فيه، ومنه حديث أن (من خير النساء أيسرهن صداقا) رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، وحديث أن (من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها) رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة، وفي معناهما حديثها عند هؤلاء (أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا) كذا رأيته في بعض كتب التفسير وهو في الجامع الصغير بلفظ (أيسرهن مؤنة)
9. هذا وإن التغالي في المهور قد صار من أسباب قلة الزواج لأنه يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد ويكون الغبن في ذلك على النساء أكثر، حتى إنه ربما ينتهي بالسنة الإلهية في الخلق المعبر عنها برد الفعل إلى أن يصير النساء في الإسلام هن اللواتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن كما هي عادة النصارى، وإنك لترى هذه العادة الضارة متمكنة في بعض الناس تمكنا غريبا حتى إن أحدهم ليمتنع من تزويج ابنته للكفء الصالح الذي لا يطمع في مثله إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بمقامه من الصداق وقد يزوجها لمن لا يرضيه دينه ولا خلقه ولا يرجو لها الهناء عنده إذا هو أعطاه المقدار الكثير الذي يخيل إليه جهله أنه لائق بمقامه، وهكذا تتحكم العادات الضارة والتقاليد الفاسدة بالناس حتى يفسد عليهم نظام معيشتهم، وهم لجهلهم أو ضعف عزائمهم ينقادون لها صاغرين!.
__________
(1) تفسير المنار: 4/459.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ أي وإذا رغبتم أيها الأزواج في استبدال زوج جديدة مكان زوج سابقة كرهتموها لعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها وهى لم تأت بفاحشة مبينة، وقد كنتم أتيتموها المال الكثير مقبوضا أو ملتزما دفعه إليها فصار دينا في ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا، بل عليكم أن تدفعوه لها، لأنكم إنما استبدلتم غيرها بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذنب ولا جريرة تبيح أخذ شيء منها، فبأي حق تستحلون ذلك وهى لم تطلب فراقكم ولم تسيء إليكم لتحملكم على طلاقها؟ وإرادة الاستبدال ليست شرطا في عدم حلّ أخذ شيء من مالها إذا هو كره عشرتها وأراد الطلاق، لكنه ذكر لأنه هو الغالب في مثل هذا الحال، ألا ترى أنه لو طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها، لأنه اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء وحاجتهم الكثيرة فإنه لا يحل له أخذ شيء من مالها.
2. ثم أنكر عليهم هذا الفعل ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي أتأخذونه باهتين آثمين، وقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها.
3. وزاده إنكارا آخر مبالغة في التنفير من ذلك فقال: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي إنّ حال هؤلاء الذين يستحلون أخذ مهور النساء إذا أرادوا مفارقتهن بالطلاق لا لذنب جنينه ولا لإثم اجترحنه من الإتيان بفاحشة مبينة أو عدم إقامة حدود الله، وإنما هو الرأي والهوى وكراهة معاشرتهن ـ عجيب أيّما عجب، فكيف يستسيغون أخذ ذلك منهنّ بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوىّ بين البشر، ولابس كل منهما الآخر حتى صار أحدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده، فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد، يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع في مالها وهى المظلومة الضعيفة، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى الله إليها البشر.
4. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال قتادة: هذا الميثاق هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ وقال محمد عبده: إن هذا الميثاق لا بد أن يكون مناسبا للإفضاء في أن كلا منهما شأن من شؤون الفطرة السليمة وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمد عليها المرأة في ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء وتسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة أقوى مما يكون بين ذوى القربى، ثقة منها بأن صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، هذه الثقة وذلك الشعور الفطري الذي أودع في المرأة وجعلها تحسّ بصلة لم تعهد من قبل لا تجد مثلها لدى أحد من الأهل، وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءها سعادة في الحياة، هذا هو المركوز في أعماق النفوس، وهذا هو الميثاق الغليظ، فما قيمة من لا يفى بهذا الميثاق، وما هي مكانته من الإنسانية؟
5. استدلوا بذكر القنطار على جواز التغالى في المهور، وقد روى أن عمر بن الخطاب نهى على المنبر أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ فقال: اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطى من ماله فله ما أحبّ.
6. هذا، وإن الشريعة لم تحدد مقدر الصداق بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر فكلّ يعطى بحسب حاله، ولكن جاء في السنة الإرشاد إلى اليسر في ذلك وعدم التغالى فيه، فمن ذلك ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة: (إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)
7. إن التغالى في المهور الآن قد صار من أسباب قلة الزواج، وقلة الزواج تفضى إلى كثرة الزنا والفساد، والغبن أخيرا على النساء أكثر، وإنك لترى هذه العادة متمكنة لدى بعض الناس، حتى إن ولى المرأة ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خير منه إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بكرامته، ويزوجها لمن هو دونه دينا وخلقا ومن لا يرجو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثير الذي يراه محققا لأغراضه وهكذا تتحكم التقاليد والعادات حتى تفسد على الناس سعادتهم وتقوّض نظم بيوتهم وهم لها منقادون بلا تفكير في العواقب.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/216.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. إذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء، أن الحياة غير مستطاعة، وأنه لا بد من الانفصال، واستبدال زوج مكان زوج، فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق، وما ورثت من مال، لا يجوز استرداد شيء منه، ولو كان قنطارا من ذهب، فأخذ شيء منه إثم واضح، ومنكر لا شبهة فيه.
2. ومن ثم لمسة وجدانية عميقة، وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف، في تعبير موح عجيب: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، ويدع الفعل: (أفضى) بلا مفعول محدد، يدع اللفظ مطلقا، يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته، ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته، بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب، يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف إفضاء، وفي كل التقاء في وليد إفضاء.
3. كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾.. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف!
4. ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر، من لون آخر: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، هو ميثاق النكاح، باسم الله، وعلى سنة الله.. وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن؛ وهو يخاطب الذين آمنوا، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/607.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ هو استكمال للوصاة التي أوصى الله بها الرجال بالنساء.. ألا يرثوهن كرها أو يعضلوهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن يصبروا على ما يشعرون به من ضيق أو أذى منهن، فقد يكون من وراء ذلك خير كثير.
2. ثم إنه إذا لم يكن بد من الفرقة والطلاق، فليكن كما أمر الله: ﴿تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فلا يعمل الرجل على أن يستردّ مما أعطاها من مهر شيئا، وألا يحملها حملا على أن تخلص من بين يديه، وأن تفتدى نفسها من عشرته بالمال، وليقف عند أمر الله سبحانه: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ إن ذلك عدوان عليها، وسلب لحق وقع في يدها.
3. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ فذلك ما ينكره الله، ويجزى عليه جزاء الآثمين.. والبهتان: هو العدوان، وتبرير هذا العدوان بطلاء زائف من التمويه والخداع.
4. في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ إنكار بعد إنكار لأن تمتد يد إلى هذا الذي في يد المرأة، التي أصبحت هي ومالها أمانة في يد الزوج.. فكيف يخون الرجل أمانة من عاشره، واختلط به، وأصبح في حال ما، بعضا منه؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾.. والإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، والتغلغل في صميمه، والميثاق الغليظ: هو العهد القوىّ المؤكد، وهو ما أخذه الله على الرجال للنساء في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.. وقد وضع الله هذا الميثاق الغليظ المؤكد في يد المرأة، ليكون لها أن تقاضى الرجل به عند الله! وفي هذا تغليظ لهذا الميثاق الغليظ!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/732.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لا جرم أنّ الكراهية تعقبها إرادة استبدال المكروه بضدّه، فلذلك عطف الشرط على الذي قبله استطرادا واستيفاء للأحكام، فالمراد بالاستبدال طلاق المرأة السابقة وتزوّج امرأة أخرى، والاستبدال: التبديل، وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ في سورة البقرة أي إن لم يكن سبب للفراق إلّا إرادة استبدال زوج بأخرى فيلجئ التي يريد فراقها، حتّى تخالعه، ليجد ما لا يعطيه مهرا للتي رغب فيها، نهى عن أن يأخذوا شيئا ممّا أعطوه أزواجهم من مهر وغيره.
2. والقنطار هنا مبالغة في مقدار المال المعطى صداقا أي ما لا كثيرا، كثرة غير متعارفة، وهذه المبالغة تدلّ على أنّ إيتاء القنطار مباح شرعا لأنّ الله لا يمثّل بما لا يرضى شرعه مثل الحرام، ولذلك لمّا خطب عمر بن الخطاب فنهى عن المغالاة في الصدقات، قالت له امرأة من قريش بعد أن نزل: (يا أمير المؤمنين كتاب الله أحقّ أن يتبع أو قولك) قال: (بل كتاب الله! بم ذلك؟) قالت: إنّك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله يقول في كتابه ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [النساء: 20] فقال عمر: (كلّ أحد أفقه من عمر).. والظاهر من هذه الرواية أنّ عمر رجع عن تحجير المباح لأنّه رآه ينافي الإباحة بمقتضى دلالة الإشارة وقد كان بدا له من قبل أنّ في المغالاة علّة تقتضي المنع، فيمكن أن يكون نسي الآية بناء على أنّ المجتهد لا يلزمه البحث عن المعارض لدليل اجتهاده، أو أن يكون حملها على قصد المبالغة فرأى أنّ ذلك لا يدلّ على الإباحة، ثم رجع عن ذلك أو أن يكون رأى لنفسه أن يحجّر بعض المباح للمصلحة ثمّ عدل عنه لأنّه ينافي إذن الشرع في فعله أو نحو ذلك.
3. ضمير: ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ راجع إلى النساء، وهذه هي المرأة التي يراد طلاقها، وتقدّم الكلام على القنطار عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ في سورة آل عمران.
4. الاستفهام في ﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ إنكاري، والبهتان مصدر كالشّكران والغفران، مصدر بهته كمنعه إذا قال عليه ما لم يفعل، وتقدّم البهت عند قوله تعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ في سورة البقرة، وانتصب ﴿بُهْتَانًا﴾ على الحال من الفاعل في ﴿تَأْخُذُونَهُ﴾ بتأويله باسم الفاعل، أي مباهتين.
5. إنّما جعل هذا الأخذ بهتانا لأنّهم كان من عادتهم إذا كرهوا المرأة وأرادوا طلاقها، رموها بسوء المعاشرة، واختلقوا عليها ما ليس فيها، لكي تخشى سوء السمعة فتبذل للزوج ما لا فداء ليطلّقها، حكى ذاك فخر الدين الرازي، فصار أخذ المال من المرأة عند الطلاق مظنّة بأنّها أتت ما لا يرضي الزوج، فقد يصدّ ذلك الراغبين في التزوّج عن خطبتها، ولذلك لمّا أذن الله للأزواج بأخذ المال إذا أتت أزواجهم بفاحشة، صار أخذ المال منهنّ بدون ذلك يوهم أنّه أخذه في محل الإذن بأخذه، هذا أظهر الوجوه في جعل هذا الأخذ بهتانا.
6. أمّا كونه إثما مبيّنا فقد جعل هنا حالا بعد الإنكار، وشأن مثل هذا الحال أن تكون معلومة الانتساب إلى صاحبها حتّى يصبح الإنكار باعتبارها، فيحتمل أنّ كونها إثما مبيّنا قد صار معلوما للمخاطبين من قوله: ﴿فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، أو من آية البقرة ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾ أو ممّا تقرّر عندهم من أنّ حكم الشريعة في الأموال أن لا تحلّ إلّا عن طيب نفس.
7. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ استفهام تعجيبي بعد الإنكار، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين، والإفضاء الوصول، مشتقّ من الفضاء، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة.
8. الغليظ صفة مشبّهة من غلظ ـ بضمّ اللام ـ إذا صلب، والغلظة في الحقيقة صلابة الذوات، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123]، وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى، فليس هذا الحكم منسوخا بآية البقرة خلافا لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/73.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ بين سبحانه في النصوص الكريمة السابقة حال أخذ الرجل بعض ما آتاه إذا أتت المرأة بفاحشة بينة واضحة تعلن نفسها، وذكر سبحانه علاج الرجل لنفسه إذا أحس بكراهية، لكى يتجنب الطلاق الذي قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أحلّ الله شيئا أبغضه كالطلاق)، فإذا استرسل في الكراهية، واختار أبغض الحلال، فإنه لا يصح أن يسترد منها أي مقدار أعطاها إياه ولو كان قنطارا من فضة أو ذهب، فالتفريق هنا بمجرد إرادته لا بسبب من جانبها، ولذا قال ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾
2. عبر في التعليق بـ (إن) وهى لا تكون لوقوع الفعل مؤكدا، لينبه إلى أن الإرادة قد تكون غير سليمة، وغير مبنية على أسباب قوية، والاستبدال طلب البدل، بأن يطلق واحدة ويتزوج أخرى.
3. قوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ لبيانه أنه لا يسترد شيء مهما يكن كبيرا؛ إذ القنطار أقصى ما يتصور من مهور، والقنطار أصله من قنطرت الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة؛ لأنها بناء مرتفع مشيد، وقد قال الشاعر:
çكقنطرة الرّومىّ أقسم ربّها...لتكتنفن حتّى تشاد بقرمدé
4. خلاصة المعنى أنه لا يصح أن يأخذ شيئا ما دام التفريق بإرادته وبسبب من جانبه، ولم يكن لها فيه أي عمل، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿و أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة] فإن الآية التي نتكلم فيها كان الطلاق بسبب من جانبه وهو إرادته الاستبدال، وأما الآية الأخرى، فإنها عند ما تريد المرأة ذاتها التفريق غير معضولة ولا مبخوسة أي حق من حقوق الزوجية المفروضة على الزوج.
5. وقد وبخ سبحانه وتعالى على الأخذ عند إرادة الاستبدال بنصين كريمين:
أ. أولهما: قوله تعالى: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ هذا توبيخ واستنكار للأخذ، والبهتان هو الكذب غير المعقول الذي يتحير فيه العقل، ويطلق على كل أمر يتحير العقل في إدراك سببه، أو لا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدى على الناس من غير عداوة سابقة ولا نفع مجلوب، ولا غرض مقصود، والإثم الذنب العظيم، والمبين الواضح الذين يعلن نفسه ووضوحه، ويكشف عن مقدار الأذى فيه، وقد قال العلماء: إن البهتان والإثم مصدران قصد بهما الوصف، أي أتأخذونه باهتين فاعلين فعلا تتحير العقول في سببه، آثمين بفعله إثما واضحا معلن الوضوح مستنكر الوقوع، ويصح أن يكون المصدران مفعولين لأجله، ويكون ذلك توبيخا أشد، ويكون المعنى عليه: أتأخذونه لأجل البهتان والإثم المبين؟ ويكون في التعليل توبيخ أشد، وهذا هو الذي نراه.
ب. الثاني: هو قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الإفضاء معناه الخلوص، أي يخلص كل واحد للآخر، وفسر بأنه الخلوة بين الرجل وزوجه ليس معهما أحد؛ لأن الفضاء هو الذي يكون بينهما، والاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، وهنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال، والمؤدى أن الأخذ عند إرادة الاستبدال أمر مستنكر في ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التي كانت بين الزوجين، وقد ذكر سبحانه وتعالى سببين للاستنكار:
• أحدهما: الإفضاء وخلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة.
• ثانيهما: الميثاق الغليظ أي الشديد القوى الثابت الذي هو عهد ثقيل لا يصح منه التخلص، وذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا صارت فيه نفس كل واحد قطعة من الآخر، وهو أمر الله تعالى إذ يقول: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة]، وليس الأخذ من التسريح بإحسان، وهو المودة التي تظل بين الزوجين في مدة الحياة الزوجية التي صورها الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم]
6. قبل أن نختم الكلام في هذه الآيات نقرر أمرين:
أ. أحدهما: أن الرجل في افتراقه عن زوجه لا يحل له دينا أن يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، ولا يحل أن يأخذ أكثر مما أعطى إذا كان النشوز من جانبها، وما أخذ في غير ذلك يكون كسبا خبيثا، وقد اتفق على ذلك العلماء.
ب. ثانيهما: أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ تدل على أنه ليس للمهر حد أعلى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1624.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾، المعنى واضح، ويتلخص بقوله تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾، والسراح الجميل الطلاق، مع تأدية جميع مالها من حق.
2. قال بعض المفسرين: اختلف العلماء في تحديد القنطار على عشرة أقوال.. والصحيح انه كناية عن الكثرة.. وقصة المرأة التي اعترضت على عمر بن الخطاب حين أراد أن يحدد المهر، واعتراضها عليه بهذه الآية ـ أشهر من أن تذكر.
3. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، أي تأخذونه باطلا وظلما، كالظلم بالبهتان.
4. سؤال وإشكال: لماذا خص الله النهي عن أخذ مال الزوجة في حال استبدالها بأخرى، مع العلم بأن الأخذ محرّم على كل حال؟ والجواب: ليس من شك ان الأخذ محرم، سواء استبدل، أو لم يستبدل، وقد تكون الحكمة في ذكر الاستبدال بالخصوص ان الزوج ربما توهم ان له أخذ المهر من الأولى ليدفعه للثانية، لأنها ستقوم مقامها، فيكون لها كل ما كان لتلك، ولأن الدفع للاثنتين يثقل كاهله.. فأزال الله سبحانه هذا الوهم بالنص على الاستبدال بالذات.
5. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾، قال بعض المفسرين: المراد بالافضاء هنا عملية الجنس فقط، وقال آخرون: بل والخلوة أيضا، وقال ثالث يجيد صناعة الكلام: (المراد بالافضاء العواطف والمشاعر، والوجدانيات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجارب والذكريات، والاختلاجات واللحظات) إلى آخر الصفات المسطورات.. رحمة الله عليه.. وأحسن ما جاء في كتب التفاسير لمعنى الإفضاء ما قاله الشيخ محمد عبده: (هو اشارة إلى أن وجود كل من الزوجين جزء متمم لوجود الآخر، فكأنّ بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر، فوصل اليه بهذا الإفضاء، واتحد به)، والأولى أن نفسر الإفضاء بالفضل، طبقا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، أي احسان كل من الزوجين للآخر.. فقد ذكّر الله بقوله: ﴿أَفْضَى بَعْضُكُمْ﴾ ذكّر الزوج بما كان بينه وبين زوجته من قبل ليكون معها عند الطلاق، كما كان قبل الطلاق.
6. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، حدد الله سبحانه عقد الزواج بألفاظ ذكرها في كتابه العزيز، وأوجب الوقوف عندها، والتعبد بها تماما كألفاظ العبادة، وأضفى على عقد الزواج من القداسة ما أبعده عن كل العقود، كعقد البيع والاجارة، وما اليهما، لأن البيع مبادلة مال بمال، أما الزواج فمبادلة روح بروح، وعقده عقد رحمة ومودة، لا عقد تمليك للجسم بدلا عن المال، قال الفقهاء: ان عقد الزواج أقرب إلى العبادات منه إلى عقود المعاملات والمعاوضات، ومن أجل هذا يجرونه على اسم الله، وكتاب الله، وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الشيخ محمود شلتوت: (إذا تنبهنا إلى أن كلمة ميثاق لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد، والتزام الأحكام، وعما بين الدولة والدولة من الشؤون العامة الخطيرة علمنا مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج اليها، وإذا تنبهنا مرة أخرى إلى أن وصف الميثاق (بالغليظ) لم يرد في موضع من مواضعه إلا في عقد الزواج تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التي رفع القرآن اليها هذه الرابطة السامية عن كل ما اطلق عليه كلمة ميثاق)
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/283.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾ إلى آخر الآية، الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل، وكأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال، ولذلك جمع بين قوله ﴿أَرَدْتُمْ﴾ وبين قوله: ﴿اسْتِبْدَالَ﴾.. مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الإرادة والطلب، وعلى هذا فالمعنى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ أن تقيموا زوجا مقام أخرى بالاستبدال.
2. البهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيرا، ويغلب استعماله في الكذب من القول وهو في الأصل مصدر، وقد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر، وهو في الآية حال من الأخذ وكذا قوله: ﴿آثِمًا﴾، والاستفهام إنكاري.
3. والمعنى: إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم وتتزوجوا بأخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئا وإن كان ما آتيتموها مالا كثيرا، وما تأخذونه قليلا جدا.
4. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجيب، والإفضاء هو الاتصال بالمماسة، وأصله الفضاء بمعنى السعة، ولما كان هذا الأخذ إنما هو بالبغي والظلم، ومورده مورد الاتصال والاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء والاقتراب كشخص واحد، ومن العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه ويؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا.
5. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد ونحوه، ومن لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح وتستحقه المرأة من الرجل، وربما قيل: إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، وربما قيل: إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح، ولا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/258.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القنطار: مال كثير، وقد تقدم ذكره في (سورة آل عمران) وذلك: أن الزوج إذا رغب في إبدال زوجةٍ مكان التي قد تزوجها وقد آتاها مهراً كثيراً، ثم رغب في طلاقها وإبدالها، فإنه يرغب في استرجاع مهرها ليعطيه للأخرى، فهذا الموضع الثالث الذي ينهى فيه عن ظلم النساء، بسبب الحرص على المال في هذه الآيات، والأول: إرثهن كرهاً، والثاني: عضلهن لأخذ بعض المهر، وذكر القنطار هنا؛ لأنه مظنةُ طمعِ الزوج فيه لكثرته ورغبته عنها وحاجته إليه للثانية، فالمعنى: ولو قنطاراً، فليس له أن يسترجعه لكثرته، وتخيّله أنها ظالمة له بأخذه كله وأنه جور عليه، ومثله ما دونه أو أكثر منه؛ لأنه كله ظلم.
2. ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا﴾ لعل البهتان هنا دعوى أن له حقاً فيه أو أنها لا تستحقه أو نحو ذلك من الكذب الذي يستعمله الزوج ليبرر في الصورة أخذه ﴿وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ إثماً بيِّناً واضحاً؛ لأن الزوج ظالم لها بأخذ مهرها وليس له فيه أي حق.
3. ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ﴿كَيْفَ﴾؟ سؤال استنكار، ودلالة على أنه لا وجه لذلك، ﴿أَفْضَى﴾ صار في الفضاء وهو المكان الخالي ﴿بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي صار إليها أو صارت إليه في المكان الخالي الذي يصلح فيه الجماع لخلوه من الناس.
4. ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ وهو العقد الموجب لحقوقهن، ومن جملتها ما فرض لهن من مهر، فقد تناوله الميثاق الغليظ، وهو غليظ؛ لعظم حرمته، ووجوب الوفاء به، وقبح التهاون به، قال الشرفي في (المصابيح): (دلت الآية الأولى: على تحريم تزويج من يحل تزويجها من بنات القرائب نحو بنات العم وهن كارهات، وعلى تحريم تزويج امرأة القريب التي يحل تزويحها بعد موته وهي كارهة، وعلى وجوب معاشرتهن بالمعروف، ومن العشرة: النفقة، والكسوة، وعلى استحباب إمساك من كُرِهت من النساء؛ لما يجعل الله في ذلك من الخير الذي ذكره الله سبحانه، ودلت الآية الثانية: على إباحة تبديل الزوجة بمن شاء ممن يحل تزويجها من أخواتها أو غيرهن، وعلى تحريم ظلمهن شيئاً من مهورهن، ذَكَر هذا إمامُنا المنصور بالله القاسم بن محمد عليه السلام)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/38.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هاتين الآيتين تأكيد على وجوب احترام الحقوق المادية للزوجة من قبل الزوج؛ مهما كانت الظروف والحالات الطارئة؛ فليست هناك أيّة حالة مبررة للامتناع عن دفع المهر أو سلبها إياه، لأنه حقّ ثابت تماما كبقية الحقوق الأخرى التي تستحقها المرأة من خلال معاملات مادية عادية؛ وهناك تركيز على حالة معينة، وهي حالة الطلاق التي عبّر عنها بإرادة استبدال زوج مكان زوج ـ وكلمة الزوج تطلق على الرجل والمرأة ـ فقد يخيّل للزوج أن من حقه أن يأخذ المهر الذي دفعه للأولى من أجل أن يدفعه للثانية حتى لا يتعرض للخسارة؛ ويريد القرآن أن يؤكّد النهي عن ذلك ـ بعضا منه أو كلًّا ـ لأنه بهتان من خلال ما يمثله من الباطل في العلاقات المالية، تماما كما هو البهتان الذي يمثل الافتراء في الكلمات، ولأنه إثم مبين، لما يمثل من معصية واضحة لله، باعتباره اعتداء على حقوق الآخرين في ما لا يبيح الله الاعتداء فيه.
2. تتصاعد القضية في المفهوم القرآني، لتستثير الجانب الإنساني الذاتي في عمق مشاعر الإنسان؛ فتثير أمامه الأجواء التي كانت تمثل الاتحاد الجسدي والروحي، الذي جعلهما كيانا واحدا، مما يفرض على الزوج أن يخلص لهذه العلاقة ويحترمها ويشعر بمسؤوليته تجاه هذه الإنسانة، في كل ما تمثله الوحدة من روحية العطاء، فلا يسلبها الحق الذي اكتسبته من خلال ذلك من دون مبرّر، ثم يؤكد الموقف بطريقة أكثر قوة، فيعتبر هذا التصرف نقضا للعهد وتمردا على الميثاق الغليظ المؤكد المشدّد، الذي أخذته عليه من خلال عقد الزواج الذي جعل لها الحق في المهر على أساسه، وربما كان في التعبير عن الزواج بالميثاق الغليظ إيحاء بالنظرة الإسلامية التي يريد للزوجين أن ينظرا بها إلى علاقتهما، فليست هي مجرد نزوة طارئة تنطلق من الحاجة إلى تلبية الرغبة الجنسية، فإذا انطفأت بالإشباع انتهى كل شيء؛ بل هي عهد مؤكّد يشمل الحياة كلها في جميع التزاماتها ومسئولياتها وحقوقها المتبادلة بينهما، مما يجعل من حركة الرغبة جانبا من أجواء العلاقة، وليست هي كل شيء فيها.
3. جاء في الكافي وتفسير العياشي عن أبي جعفر (محمد الباقر) عليه السّلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال: الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النكاح، وجاء في مجمع البيان قال: (الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام)، وهذا المعنى ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ (منقول من عدة من مفسري السلف كابن عباس وقتادة وأبي مليكة، والآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء، وإن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج)، ونلاحظ أنه من الممكن أن يكون المعنى الثاني في التفسير الأخير من لوازم المعنى الأول، فإن العقد الذي التزمه الزوج على نفسه وأكد التزامه به يفرض عليه أن يسير على الالتزامات العقدية التي يفرضها سرّ الزواج من إمساك المرأة بالمعروف إذا أراد البقاء معها على علاقة الزوجية، أو تسريحها بإحسان إذا أراد إنهاء العلاقة التي يملك خيارها بمقتضى أحكام العقد فليسا تفسيرين مختلفين بل إن أحدهما لازم للآخر.
4. قد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن كلمة (الميثاق الغليظ) لم ترد في القرآن إلّا في عقد الزواج، مما يوحي بالأهمية الكبرى التي يوليها الله سبحانه للعلاقة الزوجية بما لا يوليه لأية علاقة أخرى، لأن أية علاقة إنسانية في الموارد الأخرى تختص بجانب من جوانب الحياة الخاصة للطرفين، بينما تمثل علاقة الزواج اندماجا روحيا وجسديا في كل المدى الزمني الذي تلتصق حياتهما ـ فيه ـ ببعضها في الليل والنهار في المفردات الصغيرة والكبيرة على هدى التعبير القرآني ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، فكأن كل واحد منهما يلبس الآخر ويدخل في داخل شخصيته، الأمر الذي يترك تأثيره العميق الواسع على كلّ منهما في طبيعة حركة حياته وقرار مصيره، مما يفرض الكثير من التأكيد والتوثيق في خط الالتزام من موقع عمق الكيان لا سطح الكلمة.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/166.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كان التقليد المتبع قبل الإسلام أنه إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته، ويتزوج بأخرى أن يتّهم الزوجة الأولى بالزنا والخيانة الزوجية فرارا من دفع مهرها، أو يعمد إلى معاملتها بقسوة حتى ترد مهرها الذي قد أخذته من قبل إلى الرجل، ليستطيع أن يعطي ذلك المبلغ للزوجة الجديدة التي يبغي الزواج بها، ويمهرها به، فنزلت هذه الآيات تستنكر هذا العمل القبيح الظالم بشدّة، وتشجبه وتقبحه وتدعو إلى إنصاف الأزواج وعدم ظلمهنّ في مهورهنّ.
2. نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسما آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت الآية الأولى تقول: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ فهي تخبر المسلمين ـ إذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة أخرى ـ أنّه لا يحق لهم أبدا أن يبخسوا من صداق الزوجة الأولى شيئا أو يستردوا شيئا من الصداق إذا كانوا قد سلموه إلى الزوجة مهما كان مقداره كثيرا وثقيلا، والذي عبّر عنه في الآية بالقنطار، والقنطار ـ كما سبق يعني المال الكثير وقد جاء في المفردات للراغب: أنّ القنطار جمع القنطرة، والقنطرة من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بالقنطرة.
3. لأن المفروض أن تطليق الزوجة الأولى ـ هنا ـ يتمّ لأجل مصلحة الزوج، وليس لأجل انحراف الزوجة عن جادة العفاف والطهر، ولهذا لا معنى لأن تهمل حقوقها القطعية.
4. ثمّ إنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إلى الأسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إذ تقول في استفهام إنكاري: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ، واتهامهنّ بالفاحشة، وهو إثم واضح ومعصية بيّنة، وهذا يعني أن أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية أخرى واضحة، وظلم آخر بيّن.
5. ثمّ أضاف سبحانه ـ في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين ـ وضمن استفهام إنكاري بهدف تحريك العواطف الإنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك، وقد عشتم مع الزوجة الأولى زمنا طويلا، وكانت لكم معهنّ حياة مشتركة، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحا واحدة في جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم ـ أيّها الأزواج ـ أن تبخسوا حق الزوجة الأولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟ وهذا يشبه قولنا لمن عاشا صديقين حميمين زمنا طويلا ثمّ تنازعا: كيف تتنازعان وقد كنتما صديقين حميمين سنوات طويلة وأعواما عديدة؟ وفي الحقيقة أن ارتكاب مثل هذا الفعل في حق الزوجة شريكة الحياة ما هو إلّا ظلم للنفس.
6. ثمّ إنّه سبحانه تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ أي كيف تبخسون الزوجة حقّها في الصداق وقد أخذت منكم ـ لدى عقد الزواج بينكما ـ ميثاقا غليظا وعهدا موثقا بأن تؤدوا إليهنّ حقوقهنّ كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم لها حالة العقد؟
7. ثمّ يجب أن نعرف أنّ الآية الحاضرة وإن وردت في مقام تطليق الزوجة الأولى لغرض إحلال زوجة أخرى مكانها إلّا أنّها لا تختصّ بهذا المورد خاصّة، بل تعمّ كل موارد الطلاق الذي يتمّ باقتراح من جانب الزوج ولا تكون لدى الزوجة رغبة في الإفتراق، فإنّه يجب على الزوج في هذه الحالة أن يعطي الصداق بكامله إلى الزوجة إذا أراد أن يطلقها، وأن لا يسترد شيئا من الصداق إذا كان قد أعطاه إياها، سواء قصد أن يتزوج بامرأة أخرى أو لا.
8. وعلى هذا تكون عبارة: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾ ناظرة في الحقيقة إلى ما كان سائدا في العهد الجاهلي، وليس له أي دخل في أصل الحكم، فهو ليس قيدا، على أنّه ينبغي التنبيه أيضا إلى أن لفظة (استبدال) تعني طلب البديل، ولهذا يكون قد أخذ فيها قيد الإرادة، فإذا قرنت بكلمة (أردتم) فإنما ذلك لأجل التنبيه إلى نقطة في المقام، وهي أنكم ـ عند تهيئة المقدمات والعزم على استبدال زوجة أخرى ـ يجب أن لا تبدأوا من المقدمات الغير المشروعة الظالمة، فتضيعوا مهر زوجتكم إذا أردتم زوجة أخرى.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/163.
21. حرمة زوجة الأب
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈21⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 22]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة، وقد نقلنا كل ما ورد في الحكمة من التحريم المرتبط بتحريم من حرم من النساء إلى الفصل 26، حتى لو ذكره المفسر في أي محل آخر، لتسهل المقارنة بين أقوال المفسرين في المسألة.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين؛ فأنزل الله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(1).
2. روي أنّه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، هذا من النسب، وباقي الآية من الصهر، السابعة: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(2).
3. روي أنّه قال: سبع صهر، وسبع نسب، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، يقول: كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك، دخل أو لم يدخل بها؛ فهي عليك حرام(4).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٤٩.
(2) عبد الرزاق (١٠٨٠٨.
(3) سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة ٤/٢٨٩.
(4) ابن جرير ٦/٥٥٠.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، قال إلا ما كان في الجاهلية(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦١٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، قال هو أن يملك عقدة النكاح، وليس بالدخول(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩١٠.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾، قال يمقت الله عليه، ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قال طريقا لمن عمل به(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩١٠.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ حرمن على الحسن والحسين (عليهما السلام)، بقول الله تبارك وتعالى اسمه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ولا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جده(1).
2. روي أنّه قال: يقول الله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ فلا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جده(2).
__________
(1) الكافي 5/420.
(2) تفسير العيّاشي 1/230.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: أنّه قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها، ولم يورثها من المال شيئا، فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكرت ذلك له، فقال: (ارجعي، لعل الله ينزل فيك شيئا)، فنزلت: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية، ونزلت: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾(1).
__________
(1) ابن سعد ٤/٢٨٤ مرسلًا.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ فالمقت: أن يتزوج الرّجل امرأة أبيه بعده.. وساء سبيلا: معناه بئس السّبيل.. والسّبيل: الطّريقة والمسلكة.. والسّبيل.. الجلد والرّجم!(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 117.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير ٦/٥٥٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) أنّه قال: إن الله تعالى قد حرم علينا نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول الله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(1).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/230.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: كان إذا توفي الرجل في الجاهلية عمد حميم الميت إلى امرأته، فألقى عليها ثوبا، فيرث نكاحها، فلما توفي أبو قيس بن الأسلت عمد ابنه قيس إلى امرأته، فتزوجها، ولم يدخل بها، فأتت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكرت ذلك له؛ فأنزل الله في قيس: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قبل التحريم، حتى ذكر تحريم الأمهات والبنات، حتى ذكر: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قبل التحريم، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيما مضى قبل التحريم(1).. (٤/٢٩٨ ـ ٢٩٩)
__________
(1) البيهقي ٧/٢٦٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ يعني: معصية، ﴿وَمَقْتًا﴾ يعني: وبغضا، ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ يعني: وبئس المسلك(1).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل ينكح المرأة، ثم لا يراها حتى يطلقها، أتحل لابنه؟ قال لا، هي مرسلة، قال الله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾...(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٠٨٠٥.
سمعان:
روي عن عبد الله بن زياد بن سمعان (ت 151 هـ) أنّه قال: حرم الله ـ عز وجل ـ سبعا من الولادة، وحرم سبعا من الصهر والرضاعة، فحرم على الرجل من نسبه: أمه، وابنته، وأخته، وعمته، وخالته، وبنت أخيه، وبنت أخته، فقال عندما حرم من ذلك: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، فسمى الله هؤلاء تسمية في كتابه، ثم حرم بتحريمهن من شاء، فمضت به السنة، فحرم لحرمة الأم ما فوقها وما تحتها، ما فوقها من الجدات فهن أمهات أبيها، وما أسفل منها من بناتها فهن أخوات أبيها، وما كان أسفل من ذلك من بنات بنيها، وبنات ابن ابنها، وابنها عم وخال، فحرم لحرمة الأم ما فوقها وما تحتها، وحرم بحرمة البنت ما أسفل منها من بناتها، أو بنات بنيها، وبنات بناتها، فالأب جد هؤلاء كمنزلة والدهم، وحرم بحرمة الأخت ما أسفل منها من بناتها، وبنات بنيها، وبنات بناتها، أخ الأم خال هؤلاء كلهم، وما فوق الأخت من أمهاتها، وعماتها، وخالاتها، إن كانت أخته لأبيه وأمه فهي حرام، وإن كانت أخته لأبيه فأمها حرام؛ لأنها حليلة أبيه، وأم أمها، وخالتها، وما فوق ذلك من أمهاتها حلال، وبنات أمها من غير أبيه قبل نكاحه إياها، وبعد نكاحه إياها، إن مات عنها أو طلقها، إن كانت بيده لم يفارقها، فهي حلال، وإن كانت أخته لأمه فأمهاتها من قبل أمها حرام، وأمهاتها من قبل أبيها حلال، وحرم بحرمة العمة إن كانت أخت الأب لأبيه وأمه، فما فوقها من أمهاتها، وعماتها، وخالاتها، وإن كانت أخت الأب لأبيه فإنها حرام؛ لأنها حليلة الجد، والجد في ذلك كمنزلة الأب، وما فوق أخ العمة من خالات العمة وأمهاتها فهي حلال، وإن كانت أخت الأب لأمه فأمها وخالتها وأمهات أمها حرام، وعماتها وأمهاتهن من قبل أبيها حلال، وما أسفل من العمة من بنات العمة، وبنات بنيها، وبنات بناتها فهو حلال، وحرم بحرمة الخالة إن كانت أخت الأم لأبيها وأمها ما فوقها من أمهاتها، وعماتها، وخالاتها، وإن كانت أخت الأم لأبيها فإنها مكروهة يستثقلها العلماء، وما فوق أم الخالة من أمهاتها فهو حلال، وإن كانت أخت الأم لأمهاتها، فأمهاتها وأمهات أمهاتها حرام، وأمهاتها من قبل أبيها حلال، وما أسفل من الخالة من بناتها، وبنات بنيها، وبنات بناتها فهو حلال، وحرم لحرمة بنت الأخ ما أسفل منها من بناتها، وبنات بنيها، وبنات بناتها، فهو حرام؛ عم المرأة عم هؤلاء كلهم، وما فوق بنت الأخ من قبل أمها، وأمهات أمها، وخالتها فهي حلال، وما فوق ذلك من أمهات أبيها إن كانت بنت أخته لأبيه وأمه فهي حرام، وإن كانت بنت أخيه لأبيه فجدتها أم أبيها حرام؛ لأنها حليلة أبيه وأم عمتها، وما كان حذو الجدة من أخوات الجدة فما فوق ذلك من أمهاتها فهي حلال، وإن كانت بنت أخيه لأمه فجدتها أم أبيها وما فوقها من أمهاتها حرام، وجدة أمها وأبيها شاكلت أم أبيه، وما فوق ذلك من أمهاتها حلال، وحرم بحرمة بنت الأخت ما أسفل منها من بناتها، وبنات بنيها، وبنات بناتها هو حرام، خال المرأة خال هؤلاء كلهن، وما فوق بنت الأخ من أمهاتها، إن كانت بنت أخيه لأبيه وأمه فهي حرام، وإن كانت بنت أخته لأبيه فإنها وأم أبيها حرام، وما فوق ذلك حلال؛ لأن أمها أخته، وجدتها حليلة ابنه، وإن كانت بنت أخته لأمه فأمها وأمهات أمها حرام، وأمهاتها من قبل أبيها حلال، وحرم الله من الصهر والرضاعة: أمه التي أرضعته، وأخته من الرضاعة، وحليلة أبيه، وحليلة ابنه، وأم امرأته، وبنت امرأته التي دخل بها، وأخت امرأته أن يجمعهما، فقال عندما حرم من ذلك: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وقال: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، قال ابن سمعان: فسمى الله هؤلاء تسمية في كتابه، ثم حرم بتحريمهن ما شاء، فمضت به السنن(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦٢٢.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) أنّه قال في حديثه عليه السلام مع هارون، قال: (قلت له: يا أمير المؤمنين، لو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه)؟ فقال: سبحان الله! ولم لا أجيبه، بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك، فقلت له: (لكنه عليه السلام لا يخطب إلي ولا أزوجه)، فقال: ولم؟ فقلت: (لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولدني ولم يلدك)، فقال: أحسنت، يا موسى(1).
__________
(1) عيون أخبار الرّضا 1/81.
الرضا:
روي عن الريان بن الصلت، قال حضر الإمام الرضا (ت 203 هـ) مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق، وذكر الحديث بطوله، إلى أن قال فيه الإمام الرضا: (فيقول الله عز وجل في آية التحريم: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخرها فأخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابنتي وما تناسل من صلبي لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتزوجها لو كان حيا؟ قالوا: لا، قال: فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها لو كان حيا)؟ قالوا: نعم،قال: (ففي هذا بيان أننا من آله ولستم من آله، وإلا لحرمت عليه بناتكم كما حرمت عليه بناتي، لأنا من آله وأنتم من أمته(1).
__________
(1) عيون أخبار الرّضا 1/239.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يحرم على المسلمين نكاح كل ذات رحم محرم؛ وذلك فقول الأعز الأكرم: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فحرم الله تبارك وتعالى: الأمهات؛ فحرم بتحريمهن: كل من ولدهن من الجدات وإن علون فارتفعن، وتباينين في الولادة للأمهات فافترقن؛ لأنهن جدات، والجدات فهن: أمهات.. وحرم الله تبارك وتعالى على المؤمنين: بناتهن، وما ولدن من الأولاد، وأولاد أولاد الأولاد، وإن سفلن في الولادة، فهن بحكم الله تعالى للأجداد بنات، لا يحل لهم نكاحهن بما حرم الله من نكاح أمهاتهن.. وكذلك حرم ـ جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ: الأخوات؛ فحرم بتحريمهن: بناتهن على عموماتهن، وما ولدن بناتهن من: البنات، وبنات البنات، وإن بعدت مواليدهن على إخوة جداتهن؛ لأنهم ـ وإن تباعدوا منهن ـ أعمامهن، والحكم فيهن ـ وإن سفلن ـ بالتحريم على أعمام جداتهن كحكم أخواتهم اللواتي نطق الكتاب بتحريمهن عليهم؛ لأنهن في المعنى كبناتهم؛ إذ هن بنات أخواتهم.. وكذلك حرم الله: العمات، والخالات؛ لأنهن في عداد الآباء والأمهات.. وحرم الله تبارك وتعالى: بنات الإخوة، وبنات الأخوات؛ لأنهن من العمومة كالبنات؛ تعظيما منه لقربة القرابات، وتأكيدا منه على عباده في صلة الولادات؛ فصار حكم بنت أخ المسلم كحكم بنته عليه، وكذلك حكم بنت أخته لديه.. ثم حرم سبحانه: الأمهات المرضعات لمن أرضعن من البنين والبنات، على: البنين، وأبناء: البنات، والبنين ـ وإن سفل ميلادهم ـ؛ لأنهن بإرضاع الآباء ـ وإن بعدن ـ أمهات الأبناء.. وكذلك حرم: الأخوات من الرضاعة على إخوانهن، وحرم: الإخوة من الرضاعة على أخواتهم، فحرم بذلك نكاحهن على أبناء أخواتهن.. وحرم: نكاح بنات الأخوات من الرضاعة على إخوة أمهاتهم؛ لأنهم أعمام لهن، ولا يحل نكاح الأعمام من الرضاعة، ولا العمات لبني الإخوة، ولا بني الأخوات، وما سفل من ذلك؛ فيحرم على: الأعلى المراضع للجد كذلك.. ثم حرم سبحانه: أمهات النساء على أزواج بناتهن إذا كانوا قد دخلوا بالبنات، أو لم يدخلوا، فلا يحل لهم نكاح الأمهات؛ تعظيما منه لحرمة الأم على زوج بنتها، ونهيا منه عن أن ينكح الأم بعد ابنتها.. ثم حرم ابنة المرأة على زوج أمها إذا دخل بها، وجعلها بحكمه ربيبة محرمة على زوجها، فأقامها منه في التحريم عليه بنكاح أمها كمقام بنته، فحرمت الربائب على الرجال، بتحريم ذي القدرة والجلال، إذا دخل بأمهاتهن.. وبنات الربائب على أزواج الجدات محرمات كتحريم البنات.. وحرم ـ جل ثناؤه، وعز بكريم ولايته أولياءه ـ على الرجال نساء أبنائهم الذين من أصلابهم.. وحرم على الأبناء نكاح ما نكح الآباء؛ استعظاما للآباء على نساء أبنائهم بالتحريم لهن عليهم، فجعلهن من آباء أزواجهن في التحريم عليهم كالمحرمات من: بناتهم، وأخواتهم، وربائبهم اللاتي في حجورهم.. وجعل نساء الآباء محرمات على من ولدوا من الأبناء؛ تعظيما منه لحق الآباء على أبنائهم.. وجعل أزواج آبائهم في التحريم عليهم كأمهاتهم، فقال في ذلك سبحانه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، يقول: إلا ما قد مضى من فعل الجاهلية الجهلاء، وما كانوا يخطئون به على أنفسهم في نكاح أزواج الآباء من الأبناء.. وكذلك حرم تبارك وتعالى: الجمع بين الأختين؛ نظرا منه للعباد، وإصلاحا منه تبارك وتعالى بذلك في البلاد، ومعونة منه لعباده على التبار والتقوى؛ لما في اجتماع الأختين عند الزوج من الشحناء، والتباغض بينهما والاعتداء، وما لا يطقن دفعه من قطيعة الأرحام، والمخالفة في ذلك لحكم الإسلام، ولشدة التغاير بينهما الذي قد يفعله ويأتيه غيرهما من الضرائر المتضارات، والأزواج المتغايرات، فوصل الله سبحانه بين الأختين؛ نظرا منه لهما بما حرم على جميع الرجال من الجمع بينهما.. وحرم سبحانه: إنكاح المشركين حتى يؤمنوا، ونكاح المشركات حتى يؤمن، وقال في ذلك سبحانه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/215.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ حرم ـ الله تعالى ـ على الأبناء نكاح نساء الآباء، وذلك أنهم كانوا يعملون في الجاهلية ما قيل في القصة: أن أبا قيس توفي فعمد ابنه ـ يقال له: محصن ـ فتزوج امرأة أبيه، فنهي الله تعالى عن ذلك، فقال عزّ وجل: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وقيل: إن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج سالّا سيفه؛ فقيل له: ما شأنك؟ فقال: إن رجلا تزوج بامرأة أبيه، فهذا إذا تزوجها مستحلّا لها، فهو يكفر لذلك: كأن قصد قتله؛ وكذلك حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على الآباء نكاح نساء الأبناء بقوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾:
أ. أي: إنكم إذا انتهيتم عن ذلك في الائتناف يغفر لكم ما قد سلف، وإن كان فاحشة.
ب. وقيل: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قبل: التحريم.
3. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ أي: صار فاحشة في الإسلام، ﴿وَمَقْتًا﴾ قيل: بغضا، ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي: بئس المسلك تزوج النساء الآباء.
4. يحتمل أن تكون الآية في الطلاق؛ إذ كان الرجل يطلق امرأته ثمّ يندم على طلاقها، فيتزوجها ابنه، فيمقت ذلك الأب ويبغض.
5. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾: أي: بئس السبيل نكاح امرأة أبيه، حيث مقت أبيه وبئس مقت أبيه المسلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/88.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها نزلت في قوم كانوا يحلفون الآباء على نسائهم، فجاء الإسلام بتحريم ذلك وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذوا به إذا اجتنبوه في الإسلام، وهذا قول ابن عباس، وقتادة وعطاء، وعكرمة.
ب. الثاني: يعني لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد، إلا ما سلف منكم في جاهليتكم فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه، وهذا قول بعض التابعين.
ج. الثالث: معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز، إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح، فإن نكاحهن حلال لكم، لأنهن لم يكنّ حلالا، وإنما كان نكاحهن فاحشة ومقتا وساء سبيلا، وهذا قول ابن زيد.
د. الرابع: إلا ما قد سلف فدعوه فإنكم تؤاخذون به، قالوه وهذا من الاستثناء المنقطع، ومنهم من جعله بمعنى لكن.
2. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾ والمقت شدة البغض لقبح مرتكبه، ومنه قولهم قد مقته الناس إذا أبغضوه، ورجل مقيت، وكان يقال لولد الرجل من امرأة أبيه المقتي، ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ يعني طريقا.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/469.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. معنى قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾، يريد عز وجل إلا ما قد مضى من أفعال الجاهلية، إن ذلك الذي مضى من أفعالهم كان فاحشة عند الله قبيحاً، وكان ذلك عنده مقتا مكروهاً، وقبح فعلاً وطريقاً، وكل ما سلف من هذا ومثله فقد غفره الله بالتوبة والإسلام، والإقلاع منه والترك له آخر الأيام.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/239.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ)في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وهذه الآية نزلت على قوم كانوا يخلفون على نساء آبائهم فجاء الإسلام بتحريم ذلك وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذوا به في الإسلام إذا اجتنبوه، ويجوز: لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد إلا ما قد سلف منكم في جاهليتكم فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه والمقت شدة البغض لقبيح مرتكب ومقته الناس أي بغضوه وكان يقال لولد الرجل من امرأة أبيه المقتي ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي طريقا.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/170.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وعكرمة: إنه حرَّم عليهم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الأب.
ب. الثاني: أن يكون ﴿مَا نَكَحَ﴾ بمنزلة المصدر، والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، أي مثل نكاح آبائكم، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء، وكل نكاح كان لهم فاسداً، وهو اختيار الطبري وقال: إن هذا الوجه أجود، لأنه لو أراد حلائل الآباء لقال: لا تنكحوا من نكح آباؤكم، وهذا ليس بطعن، لأنه ذهب به مذهب الجنس، كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء، فيذهب به مذهب الجنس ثم يفسره بـ (من)
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ معنى إلا لكن، وكذلك كل استثناء منقطع، كقول القائل: لا تبع من متاعي إلا ما بعت، أي لكن ما بعت فلا جناح عليك فيه، وقيل في معنى الآية قولان:
أ. أحدهما: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فإنكم لا تؤخذون به.
ب. الثاني: حكاه بعضهم: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فدعوه فهو جائز لكم، قال البلخي: وهذا لا يجوز بالإجماع.
3. الهاء في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾:
أ. يحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح بعد النهي.. واختاره الجبائي، وهو الأقوى، وتكون ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فالسلامة منه الاقلاع عنه بالتوبة والإنابة.
ب. ويحتمل أن تكون عائدة على النكاح الذي كان عليه أهل الجاهلية، قبل، ولا يكون ذلك إلا وقد قامت عليهم الحجة بتحريمه، من جهة الرسل.. قال البلخي: وليس كل نكاح حرمه الله زنا، لأن الزنا هو فعل مخصوص، لا يجرى على طريقة لازمة، وسنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية: أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة والمعاهدين: أولاد زنا، إذا كان ذلك عقداً بينهم يتعارفونه.
4. المقت، هو بغض عن أمر قبيح ركبه صاحبه، وهو مقيت، وقد مقت إلى الناس مقاتة، ومقته الناس مقتاً، فهو ممقوت، وقيل إن ولد الرجل من امرأة أبيه كان يسمي المقتى، قال المبرد: كان زائدة، والتقدير: إنه فاحشة، وقال الزجاج: هذا ليس بصحيح، لأنها لو كانت زائدة لم تعمل، كما قال الشاعر:
çفكيف إذا حللت ديار قوم...وجيران لنا كانوا كرامé
لما كانت زائدة لم تعمل في الخير، وقال الرماني: هي كقوله ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فدخلت كان لتدل على أنه قبل تلك الحال كذا.
5. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ قال الجبائي: معناه أنه كان فيما مضى أيضاً فاحشة ومقتا، وكان قد قامت الحجة عليهم بذلك، وكل من عقد عليها الأب من النساء تحرم على الابن، دخل بها الأب، أو لم يدخل، بلا خلاف، فان دخل بها الأب على وجه السفاح فهل تحرم على الابن ففيه خلاف، وعموم الآية يقضي بأنها تحرم عليه، لأن النكاح يعبر به عن الوطي، كما يعبر به عن العقد، فيجب أن يحمل عليهما، وامرأة الأب وإن علا تحرم على الابن وان نزل، بلا خلاف.
﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي قبح ذلك السبيل الذي سلكوه سبيلا، وهو نصب على التمييز.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/155.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النكاح اسم يقع على العقد، ومنه ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾، ويقع على الوطء كقوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي لا يطأ بالحرام إلا من تطاوع مستحلاً فهو مشرك، أو مُحَرِّمًا فهو زان، ومنه: (ملعون من نكح يده، ملعون من نكح البهيمة)، قال الشاعر:
çكَبْكَرٍ تُحِبُّ لَذِيذ النكَاحِ... وتَفزعُ مِنْ صَوْلَةِ النَّاكِحِé
وأصله الجمع، ومنه: (أنكحنا الفرا فسترى)، وقيل: أصله الوطء، ثم سمي العقد به؛ لأنه سببه كما يقال للجمل: راوية.
ب. الفاحشة: كل قبيح فحش خطؤه.
ج. المَقْتُ: بُغْضٌ عن أمر قبيح يركبه صاحبه، قال أبو مسلم: هو اسم لجمع الكراهة والبغض والاستقباح، يقال: مقت إلى الناس مقتًا فهو ممقوت، ويقال: إن ولد الرجل من امرأة أبيه كان يسمى المقتى، ومنهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية جد الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت الآية فيما كان يفعله أهل الجاهلية من نكاح امرأة الأب، عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعطاء.
ب. وقيل: توفي أبو قيس، وكان منْ صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدًا وأنت من صالح قومك، ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأستأمره، فأتته وأخبرته، فنزلت ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾
ج. وقيل: نزلت في قوم تزوجوا امرأة أبيهم منهم ابن أبي قيس هذا والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، ومنظور بن زبان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.
3. لما تقدم بيان إباحة النكاح وشرائطه عقبه بذكر من تحل من النساء ومن لا تحل، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾:
أ. يعني لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم.
ب. وقيل: ما وَطِئَ آباؤكم من النساء.
ج. وقيل: ما تزوج آباؤكم فحرم ما كان يفعلونه من نكاح امرأة الأب عن ابن عباس وقتادة.
د. وقيل: لا تنكحوا نكاح آبائكم؛ أي كنكاح آبائكم، فيدخل فيه النهي عن حلائل الآباء وكل نكاح كان لهم فاسدا، وقال بعضهم: هذا هو الوجه؛ لأنه لو أراد حلائل الآباء لقال: ﴿مِنَ﴾ ولم يقل ﴿مَا﴾، قلنا: مثل ذلك جائز إذا أُرِيد به الجنس كما يقال: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾:
أ. قيل: لكن ما مضى معفو عنه لا يؤخذون به.
ب. وقيل: بعد ما مضي عن أبي مسلم.
ج. وقيل: إلا ما قد سلف فدعوه فإنه جائز لكم، قال شيخنا أبو القاسم: وهذا خلاف الإجماع وما علم من دين الرسول.
د. وقيل: لكن ما سلف فدعوه واجتنبوه عن قطرب.
هـ. وقيل: إنما استثنى ما مضى ليعلم أنه لم يكن مباحًا لهم؛ أي نكاح امرأة الأب.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾:
أ. قيل: إنه فاحشة؛ أي معصية قبيحة.
ب. وقيل: كان فاحشة هذا، ولا يكون كذلك إلا وقد قامت الحجة بالتحريم.
ج. وقيل: فاحشة أي زنا.
6. ﴿وَمَقْتًا﴾ أي بُغْضا يعني يورث بغض الله ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي طريقًا فاسدًا، ومعناه: وساء الطريق ذلك النكاح.
7. تدل الآية الكريمة على:
أ. تحريم نكاح امرأة الأب وفيه إجماع، وعلم من دينه صلّى الله عليه وآله وسلّم ضرورة وهي مبهمة، قال الزجاج: سميت هذه الآيات مبهمة؛ لأنه لم يرد عليها تخصيص بحال، ولا خلاف أن من عقد الأب عليها تحرم على الابن، وإنما الخلاف في موطوءة الأب حرامًا، فعند أهل العراق تحرم على الابن، وعند الشافعي لا تحرم وظاهر الآية يدل عليه؛ لأن النكاح يتناوله إما حقيقة أو مجازًا.
ب. تحريم امرأة الجد أَبي الأب وأبي الأم وإن علا، وكل جد من هاتين الجهتين وإن علا، وكذلك يحرم على كل ولد وإن سفل، وهذا لا خلاف فيه، وإنما اختلفوا أنه حرم بالآية، فالصحيح أنه يدخل في الآية لدخولهم في اسم الأب، ولا يقال: إن ذلك يقع عليهم مجازًا، وعلى الأب حقيقة، فكيف يحمل عليهما، وذلك لأن حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز عندنا جائز؛ إذ لا تنافي بينهما لجواز أن يريد بالآية الأب والجد، ولا خلاف أن موطوءة الأب بنكاح فاسد أو شبهة تحرم على الابن، وإنما اختلفوا فيمن زنا بها على ما بينا، وإذا كان تتناول الآية النكاح الفاسد جاز أن تتناول الوطء، ويدل الاستثناء على أن من فعل ذلك قبل نزول التحريم فهو معفو عنه، فتدل على أن الشرعيات يقف لزومها على السماع، وتدل على تأكيد التحريم في ذلك لقوله: ﴿فَاحِشَةً وَمَقْتًا﴾ الآية، وعن البراء بن عازب قال: لقيت خالي ومعه الراية، قلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده لأقتله.
ج. أن العقد عليها يقع فاسدًا؛ لذلك سماه فاحشة، ولا خلاف فيه، وإنما اختلفوا إذا عقد على امرأة الأب أو ذي محرم منه ووطئها هل يسقط عنه الحد؟ فقال ابو حنيفة يسقط، وقال أكثر العلماء: لا يسقط.
8. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء منقطع؛ لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، ومعناه لكن ما سلف، ونظيره: لا يبلغ من مالي إلا ما بغيت ولا يأكل إلا ما أكلت، ومنه ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾
ب. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قيل: بمعنى ﴿الَّذِي﴾ قال أبو مسلم: معناه بعد الذي سلف.
ج. الهاء في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾ قيل: يرجع إلى النكاح بعد النهي، وقيل: على النكاح الذي كان عليه أهل الجاهلية، قيل: قال أبو علي: والصحيح عندنا هو الأول، وتقديره: إلا ما سلف من النكاح والسلامة منه بالتوبة والإنابة.
د. ﴿كَانَ فَاحِشَةً﴾ قيل: كان زائدة عن أبي العباس، والمعنى أنه فاحشة، وأنكره الزجاج، وقال: لو كانت زائدة لم تعمل، وقيل: إنها دخلت لتدل أنه قبل تلك الحال فاحشة، نحو قوله: ﴿اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ عن علي بن عيسى بأنها نصب على التمييز، وقيل: على الحال.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/576.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. النكاح: اسم يقع على العقد، ومنه (وانكحوا الأيامى منكم)، ويقع على الوطء، ومنه ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾: أي لا يطأ بالحرام إلا من يطاوعه، ومنه: (ملعون من نكح يده، وملعون من نكح بهيمة) قال الشاعر:
çكبكر تشهى لذيذ النكاح...وتفزع من صولة الناكحé
وأصله الجمع، ومنه (أنكحنا الفرا فسنرى)
ب. المقت: بغض من أمر قبيح يرتكبه صاحبه، يقال: مقت الرجل إلى الناس، مقاتة، ومقته الناس، يمقته مقتا، فهو مقيت، وممقوت، ويقال إن ولد الرجل من امرأة أبيه كان يسمى المقتي، ومنهم أشعث بن قيس، وأبو معيط جد الوليد بن عقبة.
2. مما روي في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: نزلت فيما كان يفعله أهل الجاهلية من نكاح امرأة الأب، عن ابن عباس، وقتادة، وعكرمة، وعطاء، وقالوا: تزوج صفوان بن أمية امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وتزوج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وتزوج منظور بن ريان بن المطلب امرأة أبيه مليكة بنت خارجة.
ب. قال أشعث بن سوار: توفي أبو قيس، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدا، وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأستأمره، فأتته فأخبرته، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إرجعي إلى بيتك) فأنزل الله هذه الآية.
3. لما تقدم ذكر شرائط النكاح، عقبه تعالى بذكر من تحل له من النساء، ومن لا تحل، فقال: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾:
أ. قيل: أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم.
ب. وقيل: ما وطأ آباؤكم من النساء حرم عليكم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الأب، عن ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وعكرمة.
ج. وقيل: إن تقديره لا تنكحوا نكاح آبائكم: أي مثل نكاح آبائكم، فيكون ﴿مَا نَكَحَ﴾ بمنزلة المصدر، وتكون ﴿مَا﴾ حرفا موصولا، فعلى هذا يكون النهي عن حلائل الآباء، وكل نكاح كان لهم فاسد، وهو اختيار الطبري.
4. في الوجه الأول يكون ﴿مَا﴾ اسما موصولا، يحتاج إلى عائد من صلته إليه، قال الطبري: إن الوجه الثاني أجود، لأنه لو أراد حلائل الآباء لقال لا تنكحوا من نكح آباؤكم، وقد أجيب عن ذلك بأنه يجوز أن يكون ذهب به مذهب الجنس، كما يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء، فيذهب به مذهب الجنس، ثم يفسره بمن.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾:
أ. قيل: فإنكم لا تؤاخذون به.
ب. وقيل: معناه إلا ما قد سلف، فدعوه، فهو جائز لكم، قال البلخي: وهذا خلاف الاجماع، وما علم من دين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقيل: معناه لكن ما سلف فاجتنبوه ودعوه، عن قطرب.
د. وقيل: إنما استثنى ما قد مضى، ليعلم أنه لم يكن مباحا لهم.
6. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾: أي زنا ﴿وَمَقْتًا﴾: أي بغضا، يعني يورث بغض الله:
أ. ويجوز أن يكون الهاء في (إنه) عائدا إلى النكاح بعد النهي، فيكون معناه: إن نكاح امرأة الأب فاحشة: أي معصية محرمة قبيحة.. وهو أقوى، وهذا اختيار الجبائي، قال: وتكون السلامة مما قد سلف في الإقلاع منه بالتوبة والإبانة.
ب. ويجوز أن يكون عائدا إلى النكاح الذي كان عليه أهل الجاهلية: أي أنه كان فاحشة قبل هذا، ولا يكون كذلك إلا وقد قامت عليكم الحجة بتحريمه من قبل الرسل، قال البلخي: وليس كل نكاح حرمه الله يكون زنا، لأن الزنا فعل مخصوص، لا يجري على طريقة لازمة، ولا سنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة والمعاهدين أولاد زنا، إذ كان ذلك عقدا بينهم يتعارفونه.
7. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾: أي بئس الطريق ذلك النكاح الفاسد.
8. في هذه الآية دلالة على أن كل من عقد عليها الأب من النساء تحرم على الابن، دخل بها الأب، أو لم يدخل، وهذا اجماع، فإن دخل بها الأب على وجه السفاح فهل تحرم على الابن؟ ففيه خلاف، وعموم الآية يقتضي أنه يحرم عليه، لان النكاح قد يعبر به عن الوطء، وهو الأصل فيه، كما يعبر به عن العقد، فينبغي أن تحمل اللفظ في الآية على الامرين، وامرأة الأب وإن علا، تحرم على الابن، وإن سفل، بلا خلاف.
9. مسائل لغوية ونحوية:
أ. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾: استثناء منقطع، لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، ونظيره: لا تبع من مالي إلا ما بعت، ولا تأكل إلا ما أكلت، ومنه ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ المعنى لكن ما قد سلف فلا جناح عليكم فيه، وقال المبرد: جاز أن يكون ﴿كَانَ﴾ زائدة في قوله ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ فالمعنى: إنه فاحشة، وأنشد في ذلك قول الشاعر:
çفكيف إذا حللت بدار قوم...وجيران لنا كانوا كرامé
قال الزجاج: هذا غلط منه، لأنه لو ﴿كَانَ﴾ زائدة، لم يكن ينصب خبرها، والدليل عليه البيت الذي أنشده وجيران لنا كانوا كرام، ولم يقل كراما، قال علي بن عيسى: إنما دخلت ﴿كَانَ﴾ ليدل على أن ذلك قبل تلك الحال فاحشة أيضا، كما دخلت في قوله ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
ب. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾: أي بئس طريقا ذلك الطريق، ف ﴿سَبِيلًا﴾ منصوب على التمييز، وفاعل ﴿سَاءَ﴾ مضمر، يفسره الظاهر، والمخصوص بالذم محذوف.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/44.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾:
أ. قال ابن عباس: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية.
ب. وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعدّه ولدا، فنزلت هذه الآية.
2. النّكاح: قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصّلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرّد عن البصريّين، أنّ (النّكاح) في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين، وقد سمّوا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد، قال الأعشى: (ومنكوحة غير ممهورة)، يعني المسبيّة الموطوءة بغير مهر ولا عقد، قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النّكاح على العقد، قال الله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ وهو حقيقة في الوطء، مجازا في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحا، لأنه سبّب إليه.
3. في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ستة أقوال:
أ. أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإنّ الله يغفره، قاله الضّحّاك، والمفضّل، وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنكم تعذّبون به، إلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم.
ب. الثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفرّاء.
ج. الثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب، وقال ابن الأنباريّ: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة.
د. الرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائكم النّساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليّتكم، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفوّ لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير.
هـ. الخامس: أنها بمعنى (الواو) فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني.
و. السادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنّكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إلا ما قد سلف منهم بالزّنى، والسّفاح، فإنهنّ حلال لكم، قاله ابن زيد.
4. ﴿إِنَّهُ﴾ يعني النّكاح، و(الفاحشة): ما يفحش ويقبح، و(المقت): أشدّ البغض، وفي المراد بهذا (المقت) قولان:
أ. أحدهما: أنه اسم لهذا النّكاح، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهليّة: مقتا، ويسمّون الولد منه: المقتيّ، فأعلموا أن هذا الذي حرّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، هذا قول الزجّاج.
ب. الثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
5. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قال ابن قتيبة: أي: قبح هذا الفعل طريقا.
__________
(1) زاد المسير: 1/388.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
النوع الخامس: من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء، هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل.
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾:
أ. قال أبو حنيفة ـ ومن وافقه ـ: النكاح عبارة عن الوطء، فلذلك يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه، واحتج بهذه الآية قال: إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه:
• الأول: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] أضاف هذا النكاح إلى الزوج، والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد، لأن الإنسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال، ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد، فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق.
• الثاني: قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ [النساء: 6] والمراد من النكاح هاهنا الوطء لا العقد، لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا.
• الثالث: قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً﴾ [النور: 3] فلو كان المراد هاهنا العقد لزم الكذب.
• الرابع: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ناكح اليد ملعون) ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء، فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء، فلزم أن يكون قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ أي: ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم، وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية، لا يقال: كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضا بمعنى العقد قال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32] ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3] ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الأحزاب: 49] وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح)
ب. وقال الشافعي ـ ومن وافقه ـ: لا يحرم، وسنرى أدلته مع الإجابة على المخالفين بتفصيل في المسائل التالية.
2. كان حمل اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد، وهو ما ذهب إليه الحنفية ـ ومن وافقهم ـ لثلاثة أوجه:
أ. الأول: ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد، فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء، ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سببا له أطلق اسم المسبب على السبب، كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد، ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا هاهنا، ومذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا، فلا جرم كان يقول: المستفاد من هذه الآية حكم الوطء، أما حكم العقد فإنه غير مستفاد من هذه الآية، بل من طريق آخر ودليل آخر.
ب. الثاني: أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا، فكان قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ نهيا عن الوطء وعن العقد معا، حملا للفظ على كلا مفهوميه.
ج. الثالث: في الاستدلال، وهو قول من يقول: اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا، قالوا: ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل، ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز، وإذا كان كذلك كان قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين، والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة، فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال.
أجاب الشافعية ـ ومن وافقهم ـ عن هذا من وجوه:
أ. الأول: لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء، والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه:
• أحدها: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (النكاح سنتي) ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له، وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة، وثبت أن الوطء ليس سنة، ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء، كذلك التمسك بقوله: (تناكحوا تكثروا) ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء/وكذلك التمسك بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ [النور: 32] وقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3] ولا يقال: لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا، وذلك لأنا لو قلنا: الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى، لأنا نقول: أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد، فلو قلنا: إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها، ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد، أما لو قلنا: أن النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص، فقولكم يوجب المجاز والتخصيص معا، وقولنا يوجب المجاز فقط، فكان قولنا أولى.
• الثاني: من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح) أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح، وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا، والسفاح وطء، فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا.
• الثالث: أنه من حلف في أولاد الزنا: أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث، وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة.
ب. الثاني: سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح، لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا:
• أما الوجه الأول: وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة، وبيانه من وجهين:
● الأول: أو الوطء مسبب العقد، فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا، فكما يحتمل أن يقال: النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء، فكذلك يحتمل أن يقال: النكاح اسم للعقد، ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسببا له، فلم كان أحدهما أولى من الآخر؟ بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى، لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين، فإنه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة، كالملك فإنه يحصل بالبيع والهبة والوصية والإرث، ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز، فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء أولى من عكسه.
● الثاني: أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد، وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا، فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد، وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية، بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة، فإذا ثبت بإجماع المفسرين، أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء، وثبت بإجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مرادا، ثبت بالإجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية، فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع، فكان فاسدا مردودا قطعا.
• الثاني: مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه، فنقول: هذا أيضا باطل، وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه.
• الثالث: فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب، وهو أيضا ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الإيجاب والقبول أصوات غير باقية، فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال: إن لفظ النكاح حقيقة فيه، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال: لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد، ويقال: إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وحينئذ يرجع الكلام إلى الوجهين الأولين، فهذا هو الكلام الملخص في هذا.
ج. الثالث: في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول: سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء، ولكن لم قلتم: إن قوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ المراد منه المنكوحة، والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه (ما) حقيقة في غير العقلاء، فلو كان المراد منه هاهنا المنكوحة لزم هذا المجاز، وإنه خلاف الأصل، بل أهل العربية اتفقوا على أن (ما) مع بعدها في تقدير المصدر، فتقدير الآية: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم، فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود، وكانت موقتة، وكانت على سبيل القهر والإلجاء، فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة، وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
د. الرابع: في الجواب عن هذا الاستدلال: سلمنا أن المراد من قوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ المنكوحة، والتقدير: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله: من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه، فيقال: ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم، ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرا، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا، ومعلوم أنه ليس كذلك، فثبت أن قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ لا يفيد العموم، وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع، لا يقال: لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه إلى الباقي، فحينئذ يصير مجملا غير مفيد، والأصل أن لا يكون كذلك، لأنا نقول: لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى، وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة، ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع.
هـ. الخامس: سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع، لكن لم قلتم: إنه يفيد التحريم؟ أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم، بل يفيد التنزيه، فلم قلتم: إنه ليس الأمر كذلك؟ أقصى ما في الباب أن يقال: هذا على خلاف الأصل، ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل، وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى.
و. السادس: أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح، إلا أن هاهنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه:
• الأول: هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا، بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة منهي عنه بهذه الآية، ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر، فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة، وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق، فهذا وجه حسن من طريق الإلزام عليهم في صحة هذا النكاح.
• الثاني: عموم قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221] نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن، والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية، فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن، وإذا انتهى المنع حصل الجواز، فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الإطلاق، ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها، أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص، وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ [النور: 32] وقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3] وأيضا نتمسك بقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: 24] وليس لأحد أن يقول: إن قوله: ﴿مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات اليه هو من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] فكان قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ عائدا اليه، ولا يدخل فيه قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ وأيضا نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه) وقوله: (زوجوا بناتكم الأكفاء)، فكل هذه العمومات يتناول: محل النزاع، واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
• الثالث: الحديث المشهور في المسألة وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحرام لا يحرم الحلال) أقصى ما في الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال، وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن، فههنا الحرام حرم الحلال، إلا أنا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.
• الرابع: من جهة القياس أن نقول: المقتضى لجواز النكاح قائم، والفارق بين محل الإجماع وبين محل النزاع ظاهر، فوجب القول بالجواز، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها، بجامع ما في النكاح من المصالح، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا، بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه، ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن، لأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية إبقاء ذلك الاتصال، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فيتناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين، وهذا هو من قول الامام الشافعي عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال وطء حمدت به، ووطء رجمت به، فكيف يشتبهان(2)؟
3. ذكر المفسرون في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وجوها:
أ. الأول: وهو أحسنها: ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال: هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه.
ب. الثاني: قال الزمخشري: هذا كما استثنى (غير أن سيوفهم) من قوله: (ولا عيب فيهم) يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يقال: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
ج. الثالث: أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، والمعنى: لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه.
د. الرابع: (إلا) هاهنا بمعنى بعد، كقوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى.
هـ. الخامس: قال بعضهم: معناه إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه، قالوا: إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن، وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، وقيل: إن هذا خطأ، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما أقر أحد على نكاح امرأة أبيه، وإن كان في الجاهلية، روى البراء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله.
4. في الضمير في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ﴾ وإلى ماذا يعود وجهان:
أ. الأول: أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه: مقتى، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك، لا جرم كان مستقبحا عندهم، فبين الله تعالى أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا.
ب. الثاني: أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله، وإنما قال ﴿كَانَ﴾ لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف.
5. وصف الله تعالى هذا النكاح بأمور ثلاثة:
أ. أولها: أنه فاحشة، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش.
ب. ثانيها: المقت: وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار.
ج. ثالثها: قوله: ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ قال الليث: (ساء) فعل لا زم وفاعله مضمر و(سبيلا) منصوب تفسيرا لذلك الفاعل، كما قال ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69] و
6. مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع وفي العادات، فقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: ﴿وَمَقْتًا﴾ إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله: ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/17.
(2) عقب الرازي على هذا بقوله: ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة، والسبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه، ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاول نصرة قوله بها، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول، منطبقة على قواعد الفقه، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ حتى نزلت هذه الآية: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ فصار حراما في الأحوال كلها، لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
2. ﴿مَا نَكَحَ﴾ قيل: المراد بها النساء، وقيل: العقد، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله، إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه، وهو اختيار الطبري، فـ ﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ ﴿تَنْكِحُوا﴾ و﴿مَا نَكَحَ﴾ مصدر، قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع ﴿مَا﴾ ﴿مِنَ﴾، فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد، والأول أصح، وتكون ﴿مَا﴾ بمعنى ﴿الَّذِي﴾ و﴿مِنَ﴾، والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى، ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء.
3. وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار، ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية، وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.
4. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي تقدم ومضى، والسلف، من تقدم من آبائك وذوي قرابتك:
أ. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه.
ب. وقيل: ﴿إِلَّا﴾ بمعنى بعد، أي بعد ما سلف، كما قال تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ أي بعد الموتة الأولى.
ج. وقيل: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي ولا ما سلف، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ يعني ولا خطأ.
د. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف.
هـ. وقيل: في الآية إضمار لقوله ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف.
5. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية، قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، ويقال لهذا الرجل: الضيزن، وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد المقتي، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت، فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت، فسمى تعالى هذا النكاح ﴿مَقْتًا﴾ إذ هو ذا مقت يلحق فاعله.
6. وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن، وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى، قال ابن زيد، وعليه فيكون الاستثناء متصلا، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/104.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم، ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ هذه الصفات الثلاث تدل: على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت، قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها، أو مات عنها، ويقال لهذا: الضيزن، وأصل المقت: البغض، من: مقته، يمقته، مقتا، فهو: ممقوت، ومقيت.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هو استثناء منقطع، أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه؛ وقيل: إلا: بمعنى بعد، أي: بعد ما سلف؛ وقيل: المعنى: ولا ما سلف؛ وقيل: هو استثناء متصل من قوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ يفيد المبالغة في التحريم، بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال، يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا، فغيره.
3. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح؛ وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/509.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنكِحُواْ﴾ لا تتزوَّجوا ﴿مَا﴾ عبر بـ (مَا) في العاقل إشارة إلى النوع، وهو غير عاقل، أو مصدريَّة، والمصدر بمعنى مفعول، للتخلُّص من كون (مَا) للعاقل، أو باق على معناه، أي: مثل نكاح آبائكم، ﴿نَكَحَ﴾ تزوَّج ﴿ءَابَآؤُكُم﴾ شامل للأجداد ﴿مِّنَ النِّسَآءِ﴾ ولو لم يجامعوهنَّ ولا مسُّوا فروجهنَّ ولا نظروها، قال ابن عبَّاس: (كلُّ امرأة تزوَّجها أبوك فهي حرام، دخل بها أو لم يدخل بها)، وزعم بعض أنَّ المراد: لا تتزوَّجوا ما وطئ آباؤكم، فإن تزوَّج الأب ولم يطأ ولم يقبِّل ولم يمسَّ بشهوة حلَّت للابن.
2. قيل: النكاح مشترك بين العقد والوطء، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وعليه الشافعيَّة، وقالت الحنفيَّة بالعكس، قيل: من الوطء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ولدت من نكاح لا من سفاح)، أي: من وطء حلال لا من وطء حرام، قلت: لا يخفى أنَّ المراد: من عقدٍ صحيح ترتَّب عليه الوطء لا من عدم عقدٍ؛ فهو من النكاح بمعنى العقد، ومن الوطء قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يحلُّ للرجل من امرأته الحائض كلُّ شيء إلَّا النكاح)، أي: الوطء.
3. ﴿اِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء منقطع، أي: لكن ما قد سلف قبل نزول الآية لا إثم فيه، لكن يفرَّق بينهما، أو مُتَّصِل من محذوف، أي: ففي نكاح ما نكح الآباء إثم إلَّا ما قد سلف، وهذا أولى من أن يقال: استثناء من المعنى اللَّازم للنهي، والمأصدق واحد.
4. لَمَّا نزل قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمُ أَن تَرِثُوا﴾ إلخ قالوا: نعم، لكن ننكحهنَّ برضاهنَّ، فنزل: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ﴾ إلخ، فقالوا: كيف حال من فعل ذلك قبل؟ فنزل: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، أو المعنى المبالغة بأنَّ نكاح ما مضى نكاحه متعذِّر الآن، فإن أمكن فانكحوا من الآن وهو غير ممكن لفوت زمانه، فكذا استئنافه الآن، كقولك: إن كان فلول السيوف في القتال عيبًا ففي أصحابها عيب.
5. ﴿إِنَّهُ﴾ أي: نكاحهنَّ ﴿كَانَ فَاحِشَةً﴾ قبيحًا عقلاً ﴿وَمَقْتًا﴾ ممقوتًا شرعًا، وعند ذوي المروءات، وقيل: ﴿فَاحِشَةً﴾: قبيح شرعًا، ﴿وَمَقْتًا﴾: قبيح عقلاً، ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾: عرفًا، ولا رخصة فيه لأحد، حتَّى إنَّ الجاهليَّة سمَّوا ولد الرجل من زوج أبيه (المقتي)، و(المقيت)، ويسمُّون ذلك النكاح أيضًا مقتيًا، والمقت: البغض مع احتقار، وقيل: فاحشة زنى، وهو تفسير ضعيف، نعم قيل: كلُّ نكاح حرَّمه الله فهو زنى، إلَّا أنَّه اختلف في شأن أهل الفترة، قال البراء: لقيت خالي ومعه الراية وقلت: إلى أين؟ فقال: (بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى رجل تزوَّج امرأة أبيه من بعده أن أقتله، وآخذ ماله)
6. ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ مرجع ضمير (سَاءَ) نكاحهنَّ، أو مبهم يفسِّره التمييز، والمخصوص محذوف، أي: سبيل من يجيزه أو يفعله.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/149.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء، ومن لا يحرم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ بنكاح أو ملك يمين، وإن لم يكنّ أمهاتكم ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفوّ لكم ولا تؤاخذون به ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ أي خصلة قبيحة جدّا، لأنه يشبه نكاح الأمهات.
2. ﴿وَمَقْتًا﴾ أي بغضا عند الله وعند ذوي المروآت، ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح: نكاح المقت، وتسمي ذلك المتزوج، مقتيّا، قاله ابن سيده، وقال الزجاج: المقت أشد البغض، ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له المقت، أعلموا أنه لم يزل منكرا ممقوتا، ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي بئس مسلكا، إذ فيه هتك حرمة الأب.
3. قال ابن كثير: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب، وفي رواية عن عمه أنه بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، أن يقتله ويأخذ ماله.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/63.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الكلام متصل بعضه ببعض في الأحكام المتعلقة بالنساء، وقد كان منها في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد ما يحل من النساء بشرطه، وفي الآية التي قبل هاتين الآيتين ذكر استبدال زوج مكان زوج بأن يطلق هذه وينكح تلك، فلا غرو أن يصل ذلك ببيان ما يحرم نكاحه منهن، وقد بين ما يجب من المعروف في معاشرتهن.
2. قال البقاعي في نظم الدرر: لما كرر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقا ومفهوما وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء وكان الطيب شرعا ليحمل على الحل مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك، وما يحرم فقال: ﴿ولا تنكحوا ما نكح آ باؤكم من النساء﴾
3. قدم هذا النكاح على غيره وجعله في آية خاصة ولم يسرده مع سائر المحرمات في الآية الأخرى لأنه على قبحه كان فاشيا في الجاهلية، ولذلك ذمه بمثل ما ذم به الزنا للتنفير عنه كما ترى في آخر الآية.
4. النكاح هو الزواج قد تقدم في تفسير: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230] أن النكاح له إطلاقان يطلق على عقد الزوجية وعلى ما وراء العقد وما يقصد به، أي على مجموعهما وهو المراد هناك، وقد صرح الفقهاء بأنه يطلق على العقد وعلى الوطء، واختلفوا في أي الإطلاقين هو الحقيقي وأيهما المجازي، والظاهر أنه لا يطلق شرعا على الوطء من غير عقد وإنما كمال معناه الشرعي العقد وما وراءه كما قلنا، وقد يطلق على العقد وحده، قال محمد عبده: وهو الذي تمكن معرفته وتبنى عليه الأحكام في الغالب بخلاف ما قاله الحنفية من أن حقيقته الوطء، ويؤيد ما اختاره تفسير ابن عباس النكاح هنا بالعقد، فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال: (كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام) وروي ذلك عن الحسن وعطاء بن أبي رباح والمراد من الآباء ما يشمل الجدود بالإجماع.
5. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ معناه لكن ما سلف من ذلك لا تؤاخذون عليه، وقال بعضهم معناه إلا ما قد مات منهن، ورووه عن أبي كعب وقالوا إن المراد به المبالغة في تأكيد التحريم، وقطع عرق هذه الفاحشة وسد باب إباحتها سدا محكما وهو ليس بظاهر عندي.
6. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي إن نكاح حلائل الآباء كان ولا يزال في الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وأيدتها الشريعة التي هداهم إليها، أمرا فاحشا شديد القبح عند من يعقل ومقتا أي ممقوتا مقتا شديدا عند ذوي الطباع السليمة حتى كأنه نفس المقت وهو البغض الشديد أو بغض الاحتقار والاشمئزاز، وكانوا يسمون هذا النكاح في الجاهلية نكاح المقت وسمي الولد منه مقتيا ومقيتا أي مبغوضا محتقرا ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح الذي اعتادته الجاهلية وبئس من يسلكه، وقال محمد عبده: إن هذا النكاح وإن كان سبيلا مسلوكا إلا أنه سبيل سيء ولم يزده السير فيه إلا قبحا ومقتا، وقال الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي والقبح الشرعي والقبح العادي وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك فقوله سبحانه: ﴿فَاحِشَةً﴾ إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي وقوله تعالى: ﴿وَمَقْتًا﴾ إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي وقوله: ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ إشارة إلى مرتبة قبحه العادي)، والظاهر أن الأخير يُراد به القبح العادي أي إنه عادة ولكنها قبيحة وما قبله يُراد به القبح الطبعي أي إن الطباع تمقت هذه لاستقباحها إياه الأول كما قال الرازي يراد به القبح العقلي كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير العبارات، وفاته هو ذكر القبح الطبعي، وأما ما في ذلك من القبح الشرعي فإنما يعرف بورود الوحي بتحريمه فهو مرتبة رابعة، فالله تعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء وعلله بما فيه من هذه القبائح الثلاث.
7. هذا ما جرى عليه الجمهور في تفسير الآية وقال بعضهم إن (ما) في قوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ مصدرية أي لا تنكحوا النساء أيها المؤمنون كما كان ينكح أباؤكم في الجاهلية بتلك الطرق الفاسدة كالنكاح بدون شهود ونكاح الشغار وهو المبادلة في الزواج بأن يزوج الرجل من له الولاية عليها رجلا آخر على أن يزوجه هذا موليته ولا مهر لواحدة منهما بل كل منهما تكون كمهر للأخرى، وعبارة ابن جرير بعد نقل الروايات في تفسير الجمهور للآية ونقل قول ابن زيد أن المراد بذلك الزنا هذا نصها: (قال أبو جعفر وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله أن يكون معناه ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم فمضى في الجاهلية فإنه كان فاحشة)، ثم قال: فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل هذا التأويل وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم إنما قالوا نزلت هذه الآية في النهي عن نكاح حلائل الآباء، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم؟ قيل له: وإنما قلنا إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل إذ كانت (ما) في كلام العرب لغير بني آدم وإنه لو كان المقصود بذلك النهي عن حلائل الآباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ابتداء مثله في الإسلام بنهي الله جل ثناؤه لقيل ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب إذ كان (من) لبني آدم و(ما) لغيرهم ولا تقل (أي حينئذ) (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء) فإنه يدخل في (ما) ما كان من مناكح آبائهم التي كانا يتناكحونها في جاهليتهم، فحرم عليهم في الإسلام في هذه الآية ما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم، ومعنى (إلا ما قد سلف) إلا ما قد مضى، الخ ما قال.
__________
(1) تفسير المنار: 4/464.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بيّن الله تعالى في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط في ذلك، وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف في معاشرتهن ـ وصل هذا ببيان ما يحرم نكاحه منهن.
2. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ ذكر الله هذا النكاح أوّلا ولم يذكره مع سائر المحرمات في الآية التالية لأنه كان فاشيا في الجاهلية، وقد ذمه الله أقبح ذمّ فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض، ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه، والخلاصة ـ إنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفوّ عنه.
3. ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي إن نكاح أزواج الآباء تمجّه الأذواق السليمة، وتؤيد ذلك الشريعة التي هدى الله الناس بها، فهو قبيح محتقر والسالك في طريقه مزدرى عند ذوى العقول الراجحة.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/219.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا ـ مع التفظيع والتبشيع ـ أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء، وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا، وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾
2. يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات ـ وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع، ولا يتوقف خضوعنا له، وتسليمنا به، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة، فحسبنا أن الله قد شرعه، لنستيقن أن وراءه حكمة، وأن فيه المصلحة:
أ. الأول أن امرأة الأب في مكان الأم.
ب. الثاني: ألا يخلف الابن أباه؛ فيصبح في خياله ندا له، وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا، فيكره أباه ويمقته!
ج. الثالث: ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب، الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية، وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء، وهما من نفس واحدة، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء.
3. لهذه الاعتبارات الظاهرة ـ ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا ـ جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة.. جعله فاحشة، وجعله مقتا: أي بغضا وكراهية، وجعله سبيلا سيئا.. إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه، فهو معفو عنه، متروك أمره لله سبحانه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/608.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تقوم عليه الحياة بين الرجل والمرأة من توادّ وتعاطف وتراحم، وأن تصفو من الكيد، وتبرأ من الدّخل وتبييت السوء، حتى تتآلف تلك الخليلة الأولى في الجسد الاجتماعى، وتتلاحم، وتصبح قوة عاملة في الحياة لخيرها، ولخير المجتمع كله.
2. بعد هذا البيان الكاشف للحياة الزوجية، وللأسس السليمة التي ينبغي أن تقوم عليها ـ جاء بيان سماوى آخر يقيم الحدود بين ما يحلّ وما يحرم على الرجال من النساء، حتى إذا رغب الرجل في الزواج من امرأة تخيرها من بين من أحل الله له منهن! وقد يبدو ـ في ظاهر الأمر ـ أن الترتيب الطبيعي كان يقضى بأن يجيء البيان الخاص بالحلّ والحرمة أولا، ثم يجيء بعد ذلك ما يوصى به في المعاشرة بين الزوجين، بعد أن يصبحا زوجين، هكذا يبدو الأمر في ظاهره! ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرفع نظرنا فوق هذا المستوي الذي ننظر منه إلى الأمور ونزنها به، فليست مشكلة الحياة الزوجية في التعرف على من تحلّ ومن تحرم من النساء لمن يرغب في الزواج، فذلك أمر لا يحتاج إلى أكثر من إشارة، تخطّ خطا فاصلا بين الحلال والحرام.. بل إن الأمر لأهون من هذا.. فالحلال بيّن والحرام بيّن، والمشكلة كلها في التزام الحلال، وتجنب الحرام، ومشكلة الحياة الزوجية ليست الزواج، ولكن فيما بعد الزواج، وفي القدرة على الوفاء بالحقوق والواجبات فيها!
3. من أجل هذا، كان هذا الإلفات الكريم من الله أولا إلى ما بعد الزواج، إذ هو ملاك الأمر كله، وعليه تبنى الحياة الزوجية، ويجنى منها الثمر الطيب المرجو فيها، وإذن فليكن في حساب الرجل أولا إعداد نفسه إعدادا كاملا لحمل هذه الأمانة العظيمة التي سيحملها، وليروّض نفسه مقدّما على الصبر والاحتمال، والتنازل عن كثير من حياته الخاصة، ليصل بما يقتطع من تلك الحياة حياة جديدة، تقوم بينه وبين شخص آخر، جاء يشاركه حياته، وينازعه وجوده الذاتي الفردىّ.
4. أما ما بعد ذلك ـ وهو الزواج ـ فأمره هين.. فالنساء كثيرات وله فيما أحلّ الله له منهن ما لا حصر له.. فليختر منهن من يشاء، ولكن الحذر الحذر كله، والمحظور المحظور جميعه، فيما بعد الزواج! وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ بيان لأول ما يحرم على الإنسان التزوج بهن من النساء.. وهى امرأة الأب، إذ هي بمنزلة الأم، ثم هي من جهة أخرى بمكان الأب من الاحترام والتوقير، فكيف تقبل نفس كريمة أن تكون امرأة الأب ـ وهذا شأنها ـ زوجا يعاشرها، وتكون يده فوق يدها؟ أو حتى تكون يده مع يدها؟
5. في التعبير القرآني عن زوجات الآباء بكلمة (ما) التي تدل على الإبهام والتنكير ـ ما يشير إلى أن هؤلاء الزوجات ينبغي أن يكنّ في نظر الأبناء، وفي شعورهم شيئا مبهما غامضا، لا تتملّاه العين، ولا تتفحصه، ولا تقيم له حسابا فيما يقام من حساب بين الرجل والمرأة! إنهن ـ بالنسبة للأبناء ـ شيء محجب وراء ستر كثيفة من التحرج والتأثم، فلا يكاد يقع في تصور الأبناء صورة سويّة لهنّ كصور النساء اللاتي يريدون الزواج بهن! وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء وارد على ما وقع في الجاهلية من رجال دخلوا في الإسلام، ووقعوا في هذا المنكر.. فإنه لا إثم عليهم الآن بعد أن صححوا وضعهم، وأخذوا بما جاء الإسلام به.
6. في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ تشنيع غليظ على هذا المنكر، وإلقاء بكل ما في الفاحشة والمقت وسوء العاقبة من ثقل وبلاء على من يقارف هذا المنكر، ويركب ذلك الضلال السفيه!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/733.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ عطف على جملة ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: 19]، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه، إذا لم تكن أمّه، فنهوا عن هذه الصورة نهيا خاصّا مغلّظا، وتخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات.
2. ﴿مَا نَكَحَ﴾ بمعنى الذي نكح مراد به الجنس، فلذلك حسن وقع ﴿مَا﴾ عوض (من) لأنّ (من) تكثير في الموصول المعلوم، على أنّ البيان بقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ سوّى بين (ما ـ ومن) فرجحت ﴿مَا﴾ لخفّتها، والبيان أيضا يعيّن أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة، وعدل عن أن يقال: لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها، وذكر ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ بيان لكون ﴿مَا﴾ موصولة.
3. النهي يتعلّق بالمستقبل، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي، والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعا، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ في سورة البقرة، فحرام على الرجل أن يتزوّج امرأة عقد أبوه عليها عقد نكاح صحيح، ولو لم يدخل بها، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظ النكاح عليه بعض العلماء، وزعموا أنّ قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أطلق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يحلّها لمطلّقها ثلاثا مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله: ﴿تَنْكِحَ﴾ وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾، وأما الوطء الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية.
4. اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه، فالذي ذهب إليه مالك في (الموطأ)، والشافعي: أنّ الزنى لا ينشر الحرمة، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في (الرسالة)، ويروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول الزهري، وربيعة، والليث، وقال أبو حنيفة، وابن الماجشون من أصحاب مالك: الزنى ينشر الحرمة، قال ابن الماجشون: مات مالك على هذا، وهو قول الأوزاعي والثوري، وقال ابن الموّاز: هو مكروه، ووقع في المدوّنة (يفارقها) فحمله الأكثر على الوجوب، وتأوّله بعضهم على الكراهة، وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه، والفخر في مفاتيح الغيب، وهي طويلة.
5. ﴿مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هو ما سبق نزول هذه الآية أي إلّا نكاحا قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرّما، ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ مؤوّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف، ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية، وهذا لم يقل به إلّا بعض المفسّرين فيما نقله الفخر، ولم أقف على أثر يثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية، ولا على تعيين قائل هذا القول، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية.
6. وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواج آبائهم: منهم عمر بن أمية بن عبد شمس، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، ومنهم منظور بن ريان بن سيار، تزوّج امرأة أبيه ملكية بنت خارجة، ومنهم حصن بن أبي قيس، تزوّج بعد أبي قيس زوجه، ولم يرو أنّ أحدا من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه.
7. وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف، وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي، وقيل: هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه: أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه، فيجد السامع ما رخّص له متعذّرا فيتأكّد النهي كقول النابغة:
çولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم...بهنّ فلول من قراع الكتائبé
وقولهم (حتّى يئوب القارظان) و(حتّى يشيب الغراب) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع.
8. الظاهر أنّ قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية، وتعذّر تداركه الآن، لموت الزوجين، من حيث إنّه يترتّب عليه، ثبوت أنساب، وحقوق مهور ومواريث، وأيضا بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختيارا منهم، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى: ﴿مَا نَكَحَ﴾، حملهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية، لأنّه قال ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات.
9. المقت اسم سمّت به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن، وسمّوا الابن من ذلك النكاح مقيتا.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/75.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت الآيات السابقة في بيان تحريم ظلم المرأة في حال الزوجية وظلمها بعد وفاة زوجها، وظلمها عند إرادة الافتراق عنها، وفي هذه الآيات يبين الله سبحانه من يحل من النساء الزواج بهن، ومن لا يحل، وإذا كانت الآيات السابقة لدعم الأسرة بمنع الظلم؛ لأن العدل به قوام الأسرة وقوتها، ومنع الظلم تقوية سلبية، فالآيات التي تبين المحرمات من النساء تبين أسباب قوة الأسرة من ناحية المودة التي تربط بين الزوجين برباط الرحمة والمحبة، وتجعل الزواج مثمرا ثمراته الطيبة من العلاقة الزوجية التي لا ترنّقها علاقة أخرى، وقد ابتدأ سبحانه ببيان تحريم زوجة الآباء إذا افترقوا عنها، فكما أن الرجل لا يحل له أن يرث حق تزويج زوجة أصله كذلك لا يحل له أن يتزوجها، وقد ابتدأ بهذا النوع من التحريم لتناسبه مع منع ميراث حق التزويج للنساء، ولذلك قال سبحانه: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾
2. كان فاشيا بين العرب في الجاهلية أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، وكان ذلك يؤدى إلى منعها من حرية الاختيار في الزواج، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في الماضي من الآيات الكريمات، وهنا يمنع تزوج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم؛ وذلك لأن كلمة ﴿آبَاؤُكُمْ﴾ تشمل كل الأصول من الرجال أي تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه أم كانوا من جهة أمه، وذلك من قبيل الإطلاق المجازى.
3. النكاح هو عقد الزواج، وهو لا يستعمل في القرآن إلا على الزواج، وقد يطلق على المباشرة نفسها، ولكنه لم يطلق في القرآن إلا على العقد، ولذلك قال الشافعي وكثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة في العقد، وإذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك أنه لا يكون إلا في المباشرة الحلال، والحنفية قالوا إنه حقيقة في المباشرة مجاز في العقد، والذى يتفق مع تعبير القرآن هو رأى الشافعي ولما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا في الجاهلية، وربما وقع فيه بعض المؤمنين في الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان في الجاهلية هو موضع عفو لا يعاقب الله تعالى عليه، ولذا قال سبحانه: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي أنكم لا تؤاخذون على ما قد مضى منكم في الجاهلية، والاستثناء هنا منقطع، و(إلا) بمعنى (لكن)، والمعنى: لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه، والله يعفو عنكم، وهو ينته بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
4. التحريم له حكمته، فإنه يتنافى فيما للآباء من وقار، وما يجب لهم من حسن صحبة، ولأن امرأة الأب لا تحتشم على الابن، فلو كانت تحل له بعد الفراق لتطلعت النفس إليها، وقد ترغب فيه، فتفارق الأب أو تغاضبه طمعا في ابنه، ولا إساءة إلى الأب أبلغ من هذا، فكان المنع لأجل الرحم والمودة في القربى، وحسن الصحبة، والعقد ذاته سبب التحريم، فإذا عقد الأب أو الجد فإنها تكون حراما على الأبناء والأحفاد، ولو لم يدخل بها؛ لأن ذلك ما يقتضيه الإحسان إلى الوالدين.
5. في النص إشارة إلى أنه لا عقوبات من غير نص محرّم، وهؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع المحرم كان العقاب، ولا عقاب قبل النص المحرم.
6. إن ذلك النوع من النكاح سيئ في ذاته، لا يقدم عليه كريم، ولذا قال سبحانه وتعالى فيه: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود:
أ. أولها أنه فاحشة، أي أمر زائد في القبح شرعا وخلقا، والفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة، والوصف
ب. الثاني أنه مقت، وهو مصدر وصف به أي أنه ممقوت من ذوى المروءات لا يقبلونه ولا يرضونه.
ج. الثالث أنه أسوأ سبيل لطلب الولد؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه وبنته أختا لأخيه أو لأخته من أبيه، وذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
7. وقد قال الزمخشري في هذا النص: (كانوا ينكحون روابهم (أى تنكح المرأة ربيبها)، وناس منهم كانوا يمقتونه من ذوى مروءاتهم ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له المقتى، ومن ثم قيل ﴿وَمَقْتًا﴾ كأنه قيل إنه فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة، ولا مزيد على ما يجمع القبحين)
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1627.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حرّم الله سبحانه الزواج بأصناف من النساء، والمحرمات منهن على قسمين:
أ. محرمات على التأبيد، أي ان السبب الموجب للتحريم غير قابل للزوال كالبنوة والاخوة والعمومة والخؤولة.
ب. ومحرمات تحريما مؤقتا، أي ان سبب التحريم قابل للزوال، مثل كون المرأة زوجة للغير، أو أختا للزوجة.
2. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، كان الرجل يتزوج امرأة أبيه بعد موته إذا لم تكن أما له، بل ان امية جد أبي سفيان طلق امرأته وزوجها من ابنه، وهو حي، فنهى الإسلام عن ذلك، وتشدد فيه، واعتبره فاحشة ومقتا وساء سبيلا.
3. اتفق الفقهاء والمفسرون على ان التحريم يشمل زوجات الأجداد للأب والأم، وان هذا التحريم يتحقق بمجرد العقد، سواء أحصل الدخول، أم لم يحصل، واختلفوا فيما لو زنى الأب بامرأة: هل تحرم على ابنه؟ قال الامامية والحنفية والحنابلة: تحرم عليه، وقال الشافعية: لا تحرم، وعن مالك روايتان.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/286.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. آيات محكمة تعد محرمات النكاح وما أحل من نكاح النساء، والآية السابقة عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء وإن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها.
2. بالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد، وهو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ الآية، ولذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن والبنت وأم الأب أو الأم وكذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ الآية، وبه يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء والبنات بحسب التشريع على ما سيجيء إن شاء الله، وكبنت الابن والبنت فنازلة والأخت من اتصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معا من الأب أو الأم أو منهما جميعا بلا واسطة، والعمة أخت الأب وكذا أخت الجد من جهة الأب أو الأم، والخالة أخت الأم، وكذا أخت الجدة من جهة الأب أو الأم.
3. المراد بتحريم الأمهات وما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده الإطلاق من مناسبة الحكم والموضوع، كما في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾: أي أكلهما، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾: أي سكنى الأرض، وهذا مجاز عقلي شائع، هذا، ولكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فإنه استثناء من الوطء دون علقة النكاح على ما سيجيء، وكذا قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ على ما سيجيء، فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطء دون علقة النكاح، وإنما لم يصرح تأدبا وصونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى.
4. اختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال: حرم عليهن أبناؤهن.. أو يقال مثلا: لا نكاح بين المرأة وولدها.. لما أن الطلب والخطبة بحسب الطبع إنما يقع من جانب الرجال فحسب.
5. توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات والبنات.. تفيد الاستغراق في التوزيع، أي حرمت على كل رجل منكم أمه وبنته، إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع، ولا لتحريم كل أم وبنت لكل رجل مثلا على كل رجل لأوله إلى تحريم أصل النكاح، فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح أمه وبنته وأخته..
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/263.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
بعد بيان جملة من حقوق النساء في هذه السورة، بيّن تعالى جملة ممن يحرم منهن، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الجاهلية قبل الإسلام، ونكاحُها: تزوّجها وتسريها، أي اتخاذها للوطء بالملك ودخوله في النكاح، بدليل قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فهو اسم لما يستحل به الوطء من زواج، أو ملك للتسري.
1. ﴿إِنَّهُ﴾ أي نكاح من قد نكحها الأب ﴿فَاحِشَةً﴾ معصية زائدة في قبحها ﴿وَمَقْتًا﴾ بغضاً شديداً من الله لفاعله، أي سبب بغض ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ طريقاً لقضاء النكاح، أي أنه سيءٌ مذموم، والآباء يتناول الأجداد، قال الشرفي في (المصابيح): (قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: في هذه الآية الكريمة تناوَلُ ما نكح الآباء من قِبَل الأب، ومن قِبَل الأم من الأجداد، ومن قِبَل الأب من الرضاعة، ومن قِبَل الأم من الرضاعة)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/39.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. هذه طريقة مذمومة، كان أهل الجاهلية يسيرون عليها في زواج الولد بامرأة أبيه، باعتباره القائم مقام أبيه؛ فجاءت الآية من أجل النهي عن ذلك، واعتبارها من المحارم تنزيلا لها منزلة الأم، وقد كان الأسلوب جاريا مجرى التشديد، تماما كما هو الأسلوب القرآني في رفض الزنى، من حيث هو فاحشة ـ في ما تعنيه الفاحشة من العلاقة غير المشروعة ـ ومن حيث هو مقت ـ في ما يثيره في النفس من عوامل ذاتية سلبية، وما يستتبعه من غضب الله ومقته وساء سبيلا ـ، لأنه الطريق الذي لا ينتهي بالإنسان إلى ما فيه صلاحه، من حيث التخطيط الإسلامي للعلاقات في ما يباح للإنسان من الزواج، وما لا يباح، وقد استثنت الآية الحالات السابقة التي مارسها الناس في ذلك العهد، فأبقتها على طبيعتها من دون أن يكون لها مفعول رجعيّ.
2. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ فلا يحل للإنسان أن يتزوج زوجة أبيه لأنها بمنزلة أمه من حيث علاقتها بأبيه، ولأن ذلك قد يوحي بالاعتداء على حريم الأب وهتك حرمته وربما يؤدي إلى النزاع بين الأولاد في تنافسهم على زوجة الأب وإلى وقوع المشاكل بينهم في ذلك ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ في تجاوزها للحدود المشروعة ﴿وَمَقْتًا﴾ تنفر منه العقول ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ كأيّة عادة خبيثة وسلوك معيب.
3. وقد اتفق الفقهاء والمفسرون أن المراد بالآباء ما يشمل الأجداد للأب وللأم وأن التحريم يحصل بمجرد العقد، فلا علاقة للدخول بالتحريم، بل يثبت حتى على تقدير عدمه، وهناك خلاف في حرمة المرأة التي زنى بها الأب على الولد، فهناك من حرّم، وهناك من حلّل.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/169.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. كانت العادة في الجاهلية أنّه إذا مات رجل وخلف زوجة وأولادا، وكان الأولاد من زوجة أخرى ورثوا زوجة أبيهم كما يرثون أمواله، أي أنّه كان يحق لهم أن يتزوجوا بها أو يزوجوها لأحد، وأن يتصرفوا فيها كما يتصرفون في المتاع والمال، وقد حدث مثل هذا ـ بعد ظهور الإسلام ـ لأحد المسلمين، فقد مات أحد الأنصار يدعى (أبو قيس) وخلف زوجة وولدا من زوجة أخرى، فاقترح الولد عليها الزواج بها، فقالت تلك المرأة له: إني أعتبرك مثل ابني وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاستأمره واستوضحه الحكم، فأتته فأخبرته، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ارجعي إلى بيتك) فأنزل الله هذه الآية تنهى عن هذا النوع من النكاح بشدّة.
2. هذه الآية ـ كما ذكرنا في شأن النّزول ـ تبطل عادة سيئة من العادات الجاهلية المقيتة فتقول: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي لا تنكحوا زوجة أبيكم، ولكن حيث أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النّهي بقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾
3. ثمّ إنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إذ يقول:
أ. أوّلا: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾
ب. ثمّ يضيف قائلا: ﴿وَمَقْتًا﴾ أي عملا منفرا لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة، بل تمقته وتكرهه.
ج. ثمّ يختم ذلك بقوله: ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ أي أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن، حتى أنّنا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين.
4. من الواضح أنّ هذا الحكم إنّما هو لمصالح مختلفة وحكم متنوعة في المقام، فإن الزواج بامرأة الأب هو من ناحية يشبه الزواج بالأمّ، لأن امرأة الأب في حكم الأمّ الثانية، ومن ناحية أخرى اعتداء على حريم الأب وهتك له، وتجاهل لاحترامه، مضافا إلى أنّ هذا العمل يزرع عند أبناء الأب الميت بذور النفاق بسبب النزاع على نكاح زوجته، وبسبب الاختلاف الواقع بينهم في هذا الأمر (أي في من يتزوج بها)، بل إنّ هذا النوع من النكاح يوجب الاختلاف والتنافس البغيض بين الأب والولد، لأنّ هناك تنافسا وحسدا بين الزوجة الأولى والزوجة الثّانية غالبا، فإذا تحقق هذا النكاح (أي نكاح زوجة الأب من جانب الولد) في حياة الوالد (أي بعد طلاقها من الأب طبعا) كان السبب في الحسد واضحا، لأنّ امرأة الأب ستحظى بهذا الزواج منزلة أرفع، ممّا يؤدي إلى تأجج نيران الحسد لدى الزوجة الأخرى أكثر، وأمّا إذا تحقق بعد وفاته فإنّه من الممكن أن يوجد لدى الابن نوعا من الحسد بالنسبة لأبيه.
5. هذا وليس من المستبعد أن تكون التعابير الثلاثة الواردة في ذم هذا النوع من النكاح إشارات إلى هذه الحكم الثلاث لتحريم نكاح امرأة الأب على وجه الترتيب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/167.
22. المحرمات من النسب
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈22⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ [النساء: 23]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخره، يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أي: حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم.. وما ذكر، والجماع بهن.
ب. ويحتمل: حرمة النكاح، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فإن كان هذا أراد، فلا يحرم النكاح لنفس النكاح، ولكن يحرم النكاح؛ لما به يوصل إلى الاستمتاع بالنساء، وإليه يقصد؛ فدل أنه يحرم الجمع بين الأختين في الاستمتاع في ملك اليمين، ولا يحرم الجمع بينهما في العقد.
2. ثم ذكر الحرمة في الأمهات والبنات والأخوات، ولم يذكر في الجدات فهن محرمات وإن علون، ولم يذكر في بنات البنات، فهن محرمات وإن سفلن، فعندنا (2): أن ذكر الحرمة في الأمهات والبنات ذكر في الجدات وإن علون، وفي بنات البنات وإن سفلن؛ لأنه ذكر الحرمة في العمات والخالات، والعمات من ولد الجدّ، والخالات من ولد الجدات، فإنما ذكرت في الأولاد الحرمة، ثبت حرمة الجدات والأجداد، وكذلك ذكر الحرمة في الأخوات وبنات الأخوات، فالحرمة في بنات الأخ والأخوات لحرمة في الأخوات والإخوة، فعلى ذلك ذكر في الأمهات ذكر الحرمة في البنات وبنات البنات، لما ذكرنا.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/90.
(2) يقصد الحنفية
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في الناس من اعتقد أن هذه الآية وما يجري مجراها، كقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شيء، وإنما يحتاج إلى بيان قالوا: لأن الأعيان لا تحرم ولا تحل، وإنما يحرم التصرف فيها، والتصرف يختلف، فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم، دون التصرف المباح، والأقوى أنها ليست مجملة، لأن المجل هو ما لا يفهم المراد بعينه بظاهره، وليست هذه الآية كذلك لأن المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن، والوطي، دون غيرهما من أنواع الفعل، فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك، وكذلك قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ المفهوم الأكل، والبيع، دون النظر إليها، أو رميها، وما جرى مجراهما كيف وقد تقدم هذه الآية ما يكشف عن أن المراد ما بيناه من قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ فلما قال بعده: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ كان المفهوم أيضاً تحريم نكاحهن، وقد استوفينا ذلك في العدة في أصول الفقه، فلا نطول بذكره هاهنا.
2. قال ابن عباس: حرّم الله في هذه الآية سبعاً بالنسب، وسبعاً بالسبب، فالمحرمات من النسب الأمهات، ويدخل في ذلك أمهات الأمهات وإن علون، وأمهات الآباء مثل ذلك، والبنات، ويدخل في ذلك بنات الأولاد وأولاد البنين وأولاد البنات وإن نزلن، والأخوات، سواء كن لأب وأم أو لأب أو لأم، وكذلك العمات والخالات، وإن علون، من جهة الأب كن أو من جهة الأم، وبنات الأخ، وبنات الأخت وإن نزلن، والمحرمات بالسبب الأمهات من الرضاعة، والأخوات أيضاً من الرضاعة، وكل من يحرم بالسبب يحرم مثله بالرضاع، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وأمهات النساء يحرمن بنفس العقد، وإن لم يدخل بالبنت، على قول أكثر الفقهاء، وبه قال ابن عباس، والحسن، وعطاء، وقالوا: هي مبهمة، وخصوا التقييد بقوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، ورووا عن علي عليه السلام، وزيد بن ثابت، أنه يجوز العقد على الأم ما لم يدخل بالبنت، وجعلوا قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ راجعاً إلى جميع من تقدم من أمهات النساء، والربائب.
3. الربائب: جمع ربيبة، وهي بنت الزوجة من غيره، ويدخل فيه أولادها وإن نزلن، وسميت بذلك لتربيته إياها، ومعناها مربوبة، نحو قتيلة في موضع: مقتولة، ويجوز أن تسمى ربيبة سواء تولى تربيتها وكانت في حجرة، أو لم تكن، لأنه إذا تزوج بأمها سمي هو رابها، وهي ربيبته، والعرب تسمي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم، ويوقعونه، ويقولون: هذا مقتول، وهذا ذبيح، وإن لم يقتل بعد ولم يذبح، إذا كان يراد قتله أو ذبحه، وكذلك يقولون: هذه أضحية لما أعد للتضحية، وكذلك: هذه قتوبة، وحلوبة، أي مما يقتب، ويحلب فمن قال إنه لا تحرم بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجره فقد أخطأ على ما قلناه ويقال: لزوج المرأة: ربيب ابن امرأته، يعني به رابه، نحو: شهيد، بمعنى شاهد، وخبير، بمعنى خابر، وعليهم، بمعنى عالم.
4. ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ قال المبرد: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير قال لإجماع الناس على أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، وإن من أجاز أن يكون قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ هو لأمهات نسائكم فيكون معناه: أمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب، قال الزجاج: لأن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحداً، لا يجيز النحويون: مررت بنسائك، وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن يكون (الظريفات) نعتاً لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء، وقال: من اعتبر الدخول بالنساء، لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر: أعني، فيكون التقدير: وأمهات نسائكم أعني اللاتي خلتم بهن، وليس بنا إلى ذلك حاجة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/157.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الأمهات: جمع أم، والأم في الأصل أُمَّهَةٌ على وزن فُعَّلَة، مثل تُرَّهَة وأُبَّهة فسقطت في التوحيد وعادت في الجمع، قال الشاعر: (أُمَّهتَي خِنْدِفُ وإلْيَاسُ أبي)، وقيل: أصل الأم أمه، ويكون الجمع أمات.
2. بيان لمن يحل ويحرم، فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ ولا بد فيه من محذوف؛ لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بأفعال المكلف، ثم يختلف باختلاف ما أضيف إليه، فإذا أضيف إلى المأكول فالمراد أكله، وإذا أضيف إلى النساء فالمراد العقد، تقديره: حرمت عليكم نكاح أمهاتكم، وإنما حذف اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ولأنه معهود معلوم، والمراد بالأمهات الأم من النسب.
3. ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ يعني وحرم عليكم نكاح بناتكم من أصلابكم، وهو جمع بنت، وعليكم جمع فهو جمع قصر على جمع فآحاده بإزاء آحاده، كأنه قال: حرم على كل واحد منكم نكاح أمه وبنته.
4. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ جمع أخت ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ جمع عمة ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ جمع خالة ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ﴾ من النسب ﴿وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ من النسب، وهذا على ما بينا جمع بإزاء جمع، فكان آحاده بإزاء آحاده.
5. تدل الآية الكريمة على:
أ. تحريم نكاح هَؤُلَاءِ المذكورات، وعن ابن عباس قال: حرم الله تعالى من النسب سبعًا ومن الصهر سبعًا، وتلا الآية، ثم قال: السابعة ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾، وقيل: إن جميع ما ذكر في الآية كان أهل الجاهلية يحرمونه إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، وذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي أن التحريم في الآية على وجوه: منها: ما يحرم بالنسب، ومنها: ما يحرم بالعقد، ومنها: ما يحرم بالرضاع، ومنها: ما يحرم بالدخول، ومنها: ما يحرم بالجمع، وذكر القاضي: أن في الآية تحريما يتعلق بالعين، وتحريما يتعلق بالضم.
ب. ما يحرم بالنسب:
• ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ تدخل فيه الأم والجدات من قبل الأب والأم.
• ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ يدخل فيه البنت وبنت البنت، وبنت الابن، وإن سفلن.
• ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ يدخل فيه الأخوات من أي جهة كن.
• ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ يدخل فيه بناتهم وإن سفلن، فحرم أولاد الأب كما حرم أولاد نفسه، ثم حرم أولاد الجد وهما العمة والخالة، ووقف التحريم عليهما، فيحل ولد العمة والخالة، ولما كان ذكر الأمهات والبنات يتناول من علا ومن سفل اقتصر على ذكرهما، ولما كان ذكر الأخوات لا يتناول أولادهم أفرد هم بالذكر.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/579.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثم بين المحرمات من النساء فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ لا بد فيه من محذوف، لان التحريم لا يتعلق بالأعيان، وإنما يتعلق بأفعال المكلف، ثم يختلف باختلاف ما أضيف إليه، فإذا أضيف إلى مأكول نحو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ فالمراد الأكل، وإذا أضيف إلى النساء، فالمراد العقد، فالتقدير حرم عليكم نكاح أمهاتكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لدلالة مفهوم الكلام عليه.
2. كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك، أو من جهة أمك بإناث رجعت إليها أو بذكور، فهي أمك،﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾: أي ونكاح بناتكم، وكل امرأة رجع نسبها إليك بالولادة، بدرجة أو درجات، بإناث رجع نسبها إليك أو بذكور، في بنتك.
3. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾: هي جمع الأخت، وكل أنثى ولدها شخص ولدك في الدرجة الأولى، فهي أختك،﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾: هي جمع العمة، وكل ذكر رجع نسبك إليه، فأخته عمتك، وقد تكون العمة من جهة الأم مثل أخت أبي أمك، وأخت جد أمك، فصاعدا.
4. ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾: وهي جمع الخالة، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة، فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب، مثل أخت أم أبيك، أو أخت جدة أبيك، فصاعدا.
5. وإذا خاطب تعالى المكلفين بلفظ الجمع كقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾، ثم أضاف المحرمات بعده إليهم بلفظ الجمع، فالآحاد تقع بإزاء الآحاد، فكأنه قال: حرم على كل واحد منكم نكاح أمه، ومن يقع عليها اسم الأم، ونكاح بنته، ومن يقع عليها اسم البنت، وكذلك الجميع.
6. ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾: فهذا أيضا على ما ذكرناه جمع بإزاء جمع، فيقع الآحاد بإزاء الآحاد، والتحديد في هؤلاء، كالتحديد في بنات الصلب، وهؤلاء السبع هن المحرمات بالنسب، وقد صح عن ابن عباس أنه قال: (حرم الله من النساء سبعا) بالسبب، وتلا الآية، ثم قال: والسابعة ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/46.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ قال الزجاج: الأصل في أمّهات: أمات، ولكنّ الهاء زيدت مؤكّدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإنما أصله: أرقت.
__________
(1) زاد المسير: 1/389.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع السادس من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات، قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، فالله تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان: سبعة منهن من جهة النسب، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة هاهنا، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين.
2. ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال: لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال، وذلك الفعل غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات، أولى من بعض، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه، والجواب عنه من وجهين:
أ. الأول: أن تقديم قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ [النساء: 22] يدل على أن المراد من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ تحريم نكاحهن.
ب. الثاني: أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن المراد منه تحريم نكاحهن، والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف، فإذا قيل: حرمت عليكم الميتة والدم، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما، وإذا قيل: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن، ولما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاث) فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه، وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية، فكانت في غاية الركاكة والله أعلم.
3. عندي فيه بحث من وجوه أخرى:
أ. أحدها: أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾ مذكور على ما لم يسم فاعله، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر، ولا سبيل اليه إلا بالإجماع، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة.
ب. ثانيها: أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾ ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤبد، وإلى المؤقت، كأنه تعالى تارة قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى الوقت الفلاني فقط، وأخرى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا، وإذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين، لم يكن نصا في التأييد، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية، بل من دلالة منفصلة.
ج. ثالثها: أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين، فإثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل.
د. رابعها: أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل.
هـ. خامسها: أن ظاهر قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم، ومعلوم أنه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة، وبنته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر.
و. سادسها: أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ﴾ يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله: ﴿حُرِّمَتْ﴾ تحريما لما هو في نفسه حرام، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال، فثبت أن المراد من قوله: ﴿حُرِّمَتْ﴾ ليس تجديد التحريم حتى يلزم الأشكال المذكور، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم.
4. حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهية، بل ان زرادشت رسول المجوس قال بحله، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا، أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام، وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك، وقال: انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط، وذلك بالإجماع باطل، وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم: أن الوطء إذلال وإهانة، فان الإنسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الانعام، فوجب صونها عن هذا الإذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فاطمة بضعة مني) فيجب صونها عن هذا الإذلال، لأن المباشرة معها تجري مجرى الإذلال، وكذا القول في البقية.
5. النوع الأول: من المحرمات: الأمهات، قال الواحدي: الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر: (أمهتى خندف والياس أبي)، وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي:
çكانت نجائب منذر ومحرق...أماتهن وطرقهن فحيلاé
6. كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك، ولفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية، فأما في الجدات فإما ان يكون حقيقة أو مجازا، فإن كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصيلة وفي الجدات، فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا، فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات، وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات، فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا؟ فمن جوزه حمل اللفظ هاهنا على الكل، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه، ومن قال لا يجوز، فالقائلون بذلك لهم طريقا في هذا الموضع:
أ. أحدهما: أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به هاهنا الأم الأصلية، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص، بل من الإجماع.
ب. الثاني: أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين، يريد في كل مرة مفهوما آخر، أما إذا قلنا: لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية، مجاز في الجدات، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية، وفي الجدات.
7. اختلف فيما إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها، هل يلزمه الحد أم لا:
أ. قال الشافعي: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد، لأن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2] إنما قلنا: إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ وقد علم بالضرورة من دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن مراد الله تعالى من هذه الآية: تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول: الموجود ليس إلا صيغة الإيجاب والقبول، فلو حصل هذا الانعقاد، فإما أن يقال: إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع الأول باطل، لأن صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجد إلا بعد الإيجاب، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال، والثاني: باطل، لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا العقد قطعا، ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع، كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا؟ فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة، وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم.
ب. وقال أبو حنيفة لا يلزمه.
8. النوع الثاني من المحرمات: البنات، وكل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بإناث أو بذكور فهي بنتك، وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا؟ فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات.
9. النوع الثالث: من المحرمات: الأخوات: ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا، والأخوات من الأب فقط، والأخوات من الأم فقط.
10. النوع الرابع والخامس: العمات والخالات، قال الواحدي: كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
11. النوع السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت: والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في بنات الصلب، فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالأنساب والأرحام، قال المفسرون: كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم، فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه، وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارئ، فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/23.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ الآية، أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم، فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الأب، فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع، وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾، فالسبع المحرمات من النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت، والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، والسابعة ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾
2. إذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون، لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به.
3. ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات، والأمهات جمع أمهة، يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما، وقد تقدم في الفاتحة بيانه، وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع، قال الشاعر: أمهتي خندف والدوس أبي، وقيل: أصل الأم أمة، وأنشدوا:
çتقبلتها عن أمة لك طالما...تثوب إليها في النوائب أجمعاé
ويكون جمعها أمات، قال الراعي:
çكانت نجائب منذر ومحرق...أماتهن وطرقهن فحيلاé
فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة، فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون.
4. البنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات، فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن.. والبنات جمع بنت، والأصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت، قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء.
5. الأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما.. وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة، والجمع أخوات، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما، وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك، وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أب أمك، والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وإن شئت قلت: كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة، وكذلك بنت الأخت، فهذه السبع المحرمات من النسب.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/106.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أي: نكاحهنّ، وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ وما يحرم من النساء فحرّم سبعا من النسب، وستا من الرضاع والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع، فالسبع المحرمات من النسب: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة: منكوحات الآباء، والثامنة: الجمع بين المرأة وعمتها، قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وقال بعض السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/512.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ من النسب أن تنكحوهن، وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ من النسب، وشملت بنات الأولاد وإن سفلن ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ من أم أو أب أو منهما ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ أي أخوات آبائكم وأجدادكم ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ أي أخوات أمهاتكم وجداتكم ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ﴾ من النسب، من أي وجه يكنّ ﴿وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ من النسب من أي وجه يكنّ، ويدخل في البنات أولادهن
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/64.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ الأحكام لا تتوجَّه إلى الذوات بل إلى فعل المكلَّف، فالمراد: تحريم نكاحهنَّ؛ لأنَّه معظم ما يُقصد من النساء، ولأنَّه المتبادر إلى الفهم في عرف اللغة، كتحريم الأكل من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]، ولأنَّ ما قبلُ وما بعدُ في النكاح، وذلك ظاهر من أوَّل، لا كما قيل: إنَّ التحريم مجمل مبيَّن من حيث إنَّه يحتمل تحريم النظر والمسِّ باليد مثلاً في أيِّ موضع من بدنها ولو رأسها، وسائر الأفعال.
2. والأمَّهات يشمل الجدَّات، والجملة إنشاء عند قوم إخبار عند آخرين، وهو الصحيح، وحاصله أنَّ الله أخبرهم بأنَّ حكمه التحريم، أو أنَّ التحريم في اللوح المحفوظ.
3. ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ شامل لبنات الابن، وبنات البنت، وإن سفلن، وذلك حقيقة في الأمَّهات والبنات، ولا سيما أنَّ الأمَّ: الأصل، كـ (أمِّ القرى) و(أمِّ الكتاب)، والجدَّة أصل، وقيل: إطلاق الأمِّ على الجدَّة والبنت على بنت الابن مجازٌ، فتُرَادان من خارج، أو بالآية، استعمالاً للَّفظ في حقيقته ومجازه، أو في عموم المجاز.
4. وتحرم بنت الزاني من زناه عليه؛ لأنَّها من مائه وبنته قطعًا، عقلاً ولغة، وذكر عن الشافعيِّ أنَّه أباحها له؛ لأنَّه لا نَسَب ولا إرث بينهما.
5. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ من الأب والأمِّ أو من أحدهما ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم، من الأب والأمِّ، أو من أحدهما، وسواء الأجداد من الأب أو الأمِّ ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ أخوات أمَّهاتكم، وأخوات جدَّاتكم، من الأب والأمِّ أو من أحدهما، وسواء الجدَّات من الأب أو الأمِّ ﴿وَبَنَاتُ الَاخِ﴾ من الأب والأمِّ أو من أحدهما، ومثلها بنت بنت الأخ، وبنت ابن الأخ وكذا ما سفل، ﴿وَبَنَاتُ الاُخْتِ﴾ من الأب والأمِّ أو من أحدهما، وكذا ما سفل كالتي قبلها.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/150.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بين لنا سبحانه أنواع المحرمات في النكاح لعلة ثابتة تنافي ما في النكاح من الحكمة في صلة البشر بعضهم ببعض أو لعلة عارضة كذلك، وهذه الأنواع داخلة في عدة أقسام، القسم الأول: ما يحرم من جهة النسب، وهو أنواع.
2. النوع الأول: نكاح الأصول، وذلك قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أي حرم الله تعالى عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم، فإسناد الفعل إلى المفعول مع العلم بأن الله تعالى هو المحرم للإيجاز، والمراد أنه حكم الآن بتحريم ذلك ومنعه فهو إنشاء حكم جديد، وأمهاتنا هن اللواتي لهن صفة الولادة من أصولنا ـ ولفظ الأم يطلق على الأصل الذي ينسب إليه غيره كأم الكتاب وأم القرى ـ فيدخل فيهن الجدات، وكذلك فهمه جميع العلماء وأجمعوا عليه.
3. النوع الثاني: نكاح الفروع، وذلك قوله سبحانه: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ وهن اللواتي ولدن لنا من أصلابنا، وإن شئت قلت من تلقيحنا، أو ولدن لأولادنا أو لأولاد أولادنا وإن سفلوا، فيدخل في ذلك كل من كنا سببا في ولادتهن وأصولا لهن، وهل يشترط أن تكون ولادة البنت بعقد شرعي صحيح؟ قال الشافعية نعم وقال غيرهم لا، فيحرم على الرجل بنته من الزنا وهذا هو الظاهر المتبادر في حق من علم أنها ابنته وإن كانت لا ترثه إلا إذا استلحقها لأن الإرث حق تابع لثبوت النسب وإنما يثبت النسب بالفراش أو الاستلحاق وولد الزنا ليس ولد فراش فلا نسب له، ولا إرث ما لم يستلحق إذ لا يمكن إثبات نسبه بالبينة والدليل على اعتبار الحقيقة في ذلك إذا عرفت هو إجماع الأمة على أن ولد الزانية يلحقها ويرثها للعلم بأنها أمه، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه أباح أن ينكح الرجل بنته من الزنا، والظاهر أنه يجب على الرجل استلحاق ولده من الزنا مع العلم بأنه ولده بأن يكون زنى بامرأة ليست بذات فراش في طهر لم يلامسها فيه رجل قط وبقيت محبوسة عن الرجال حتى ظهر حملها، ومما يدل على حرمة البنت من الزنا حرمة البنت من الرضاعة بل تحريم بنت الزنا أولى.
4. هذا وإن الفساق لا يبالون أين يضيعون نطفهم ولا أين يضعون نسلهم فمنهم من يزني بذات الفراش فيضيع ولده ويلحق بصاحب الفراش من ليس من صلبه فتكون له جميع حقوق الأولاد عنده عملا بالقاعدة الشرعية المعقولة في بناء الأحكام على الظاهر وهي (الولد للفراش)، ومنهم من يفسق بمن لا فراش لها فيحملها على قتل حملها عند وضعه أو على إلقائه حيث يرجى أن يلتقطه من يربيه في بيته ليجعله خادما كالرقيق، أو في بيت من البيوت التي تربى فيها اللقطاء في بعض المدن ذات الحضارة العصرية، ولا يبالي الفاسق أخرج ولده شقيا أم سعيدا مؤمنا أم كافرا!! فلعن الله الزناة ما أعظم شرهم في جماعة البشر ولعن الله الزواني ما أكثر شرهن وأعظم بهتانهن، فإن الواحدة منهم لتحمل ما لا يحمله من يفجر بها من العناء والشقاء وتوبيخ الضمير، فهو يسفح ماء لا يدري ما يكون وراءه وهي التي تعلق بها المصيبة، فتعاني من أثقال حملها ما تعاني ثم تلقي حملها على فراش زوجها ولا يمكنها أن تنسى طول الحياة أنها ألقت بين يديها ورجليها بهتانا افترته عليه وأعطته من حقوق عشيرته ما ليس له، أو تلقيه إلى يد غيرها وقلبها معلق به قلق عليه لا يسكن له اضطراب إلا أن يسلبها الفسق أفضل عاطفة وشعور تتحلى بهما المرأة، ومنهن من تستعمل الأدوية المانعة من الحمل فتضر نفسها وربما أفسدت رحمها.
5. النوع الثالث: الحواشي القريبة وذلك قوله عز وجل: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ سواء كن شقيقات لكم أو كن من الأم وحدها أو الأب وحده.
6. النوع الرابع: الحواشي البعيدة من جهة الأب، والنوع الخامس: الحواشي البعيدة من جهة الأم، وذلك قوله تبارك اسمه: ﴿وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ﴾ ويدخل في ذلك أولاد الأجداد وإن علوا وأولاد الجدات وإن علون وعمة جده وخالته وعمة جدته وخالتها للأبوين أو لأحدهما إذ المراد بالعمات والخالات الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخؤولة.
7. والنوع السادس: الحواشي البعيدة من جهة الإخوة وهو قوله تعالى: (وبنات الأخ وبنات الأخت) أي من جهة أحد الأبوين أو كليهما وسيأتي بيان الحكمة في ذلك كله في تفسير الآية التالية.
__________
(1) تفسير المنار: 4/467.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد هذا بين الله أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافى ما في النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض، وهى عدة أقسام.
2. القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب، وهو أنواع:
أ. نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ والمراد بالأم ما يشمل الجدات: أي إن الله قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع.
ب. نكاح الفروع وذلك قوله: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سببا في ولادتهن وأصولا لهن.
ج. نكاح الحواشي القريبة، وذلك ما عناه سبحانه بقوله: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ سواء أكن شقيقات لكم، أم كن لأم أو لأب.
د. نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقوله: ﴿وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ﴾ والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخئولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون.
هـ. نكاح الحواشي البعيدة من جهة الإخوة، وذلك قوله: ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ من جهة أحد الأبوين أو كليهما.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/220.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. الفقرة الثالثة في هذا الدرس، تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء، وهي خطوة في تنظيم الأسرة، وفي تنظيم المجتمع على السواء.
2. المحارم ـ أي اللواتي يحرم الزواج منهن ـ معروفة في جميع الأمم، البدائية والمترقية على السواء، وقد تعددت أسباب التحريم، وطبقات المحارم عند شتى الأمم، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية، ثم ضاقت في الشعوب المترقية.
3. المحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها، والآية التي بعدها.. وبعضها محرمة تحريما مؤبدا، وبعضها محرمة تحريما مؤقتا.. وبعضها بسبب النسب، وبعضها بسبب الرضاعة، وبعضها بسبب المصاهرة.
4. وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى، كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها، والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد.
5. المحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات:
أ. أولاها: أصوله مهما علوا، فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾
ب. وثانيتها: فروعه مهما نزلوا، فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾
ج. وثالثتها: فروع أبويه مهما نزلوا، فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾.. ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾
د. ورابعتها: الفروع المباشرة لأجداده، فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته، وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه، وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه.. ﴿وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ﴾.. أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم، ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/608.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية بيان الأصناف من المحرمات على الرجال التزوج بهن، بعد أن بينت الآية التي قبلها حرمة التزوج ممن تزوج بهن الآباء.. وبيان المحرمات هنا على الوجه الآتي:
أ. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾.. أي أم الرجل، وأصولها.
ب. ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾.. أي بنت الرجل، وفروعها.
ج. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ أي الأخت؛ سواء أكانت شقيقة، أم لأب، أم لأم.
د. ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ والعمة أخت الأب.
هـ. ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ والخالة هي أخت الأم.
و. ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ﴾ أي ويحرم على الرجل بنات أخيه سواء أكان شقيقا، أم لأب، أم لأم وكذلك فروعهن.
ز. ﴿وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ سواء أكانت أختا شقيقة أم لأب، أم لأم، وكذلك فروعهن.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/735.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تخلّص إلى ذكر المحرّمات بمناسبة ذكر تحريم نكاح ما نكح الآباء وغيّر أسلوب النهي فيه لأنّ (لا تفعل) نهي عن المضارع الدالّ على زمن الحال فيؤذن بالتلبّس بالمنهي، أو إمكان التلبّس به، بخلاف ﴿حُرِّمَتْ﴾ فيدلّ على أنّ تحريمه أمر مقرّر، ولذلك قال ابن عباس: (كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرّم الإسلام إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين) فمن أجل هذا أيضا نجد حكم الجمع بين الأختين عبّر فيه بلفظ الفعل المضارع فقيل: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾
2. تعلّق التحريم بأسماء الذوات يحمل على تحريم ما يقصد من تلك الذات غالبا فنحو ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾.. معناه حرّم أكلها، ونحو: حرّم الله الخمر، أي شربها، وفي ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ معناه تزوجهنّ.
3. الأمّهات جمع أمّة أو أمّهة، والعرب أماتوا أمّهة وأمّه وأبقوا جمعه، كما أبقوا أمّ وأماتوا جمعه، فلم يسمع منهم الأمّات، وورد أمّة نادرا في قول شاعر أنشده ابن كيسان:
çتقبلتها عن أمّة لك طالما...تنوزع في الأسواق منها خمارهاé
وورد أمهة نادرا في بيت يعزى إلى قصي بن كلاب:
çعند تناديهم بهال وهبي...أمّهتي خندف وإلياس أبيé
وجاء في الجمع أمّهات بكثرة، وجاء أمّات قليلا في قول جرير:
çلقد ولد الأخيطل أمّ سوء...مقلّدة من الأمّات عاراé
وقيل: إنّ أمّات خاصّ بما لا يعقل، قال الراعي:
çكانت نجائب منذر ومحرّق...أمّاتهنّ وطرقهنّ فحيلاé
فيحتمل أنّ أصل أم أمّا أو أمّها فوقع فيه الحذف ثمّ أرجعوها في الجمع.
4. من غريب الاتّفاق أنّ أسماء أعضاء العائلة لم تجر على قياس مثل أب، إذ كان على حرفين، وأخ، وابن، وابنة، وأحسب أنّ ذلك من أثر أنّها من اللّغة القديمة التي نطق بها البشر قبل تهذيب اللغة، ثمّ تطوّرت اللّغة عليها وهي هي، والمراد من الأمهات وما عطف عليها الدنيا وما فوقها.
5. هؤلاء المحرّمات من النسب، وقد أثبت الله تعالى تحريم من ذكرهنّ، وقد كنّ محرّمات عند العرب في جاهليتها، تأكيدا لذلك التحريم وتغليظا له، إذ قد استقرّ ذلك في الناس من قبل، فقد قالوا ما كانت الأمّ حلالا لابنها قطّ من عهد آدم عليه السلام، وكانت الأخت التوأمة حراما وغير التوأمة حلالا، ثمّ حرّم الله الأخوات مطلقا من عهد نوح عليه السلام، ثم حرّمت بنات الأخ، ويوجد تحريمهنّ في شريعة موسى عليه السلام، وبقي بنات الأخت حلالا في شريعة موسى، وثبت تحريمهنّ عند العرب في جاهليتها فيما روى ابن عطية في تفسيره، عن ابن عباس: أنّ المحرّمات المذكورات هنا كانت محرّمة في الجاهلية، إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، ومثله نقله القرطبي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مع زيادة توجيه ذكر الاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في هذين خاصة، وأحسب أن هذا كلّه توطئة لتأويل الاستثناء في قول ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ بأنّ معناه: إلّا ما سلف منكم في الجاهلية فلا إثم عليكم فيه، كما سيأتي، وكيف يستقيم ذلك فقد ذكر فيهنّ تحريم الربائب والأخوات من الرضاعة، ولا أحسبهنّ كنّ محرّمات في الجاهلية.
6. شريعة الإسلام قد نوّهت ببيان القرابة القريبة، فغرست لها في النفوس وقارا ينزّه عن شوائب الاستعمال في اللهو والرفث، إذ الزواج، وإن كانّ غرضا صالحا باعتبار غايته، إلّا أنّه لا يفارق الخاطر الأوّل الباعث عليه، وهو خاطر اللهو والتلذّذ، فوقار الولادة، أصلا وفرعا، مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة، ولذلك اتّفقت الشرائع على تحريمه، ثم تلا حق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات، وكيف يسري الوقار إلى فرع الأخوات ولا يثبت للأصل، وكذلك سرى وقار الآباء إلى أخوات الآباء، وهنّ العمّات، ووقار الأمّهات إلى أخواتهنّ وهنّ الخالات، فمرجع تحريم هؤلاء المحرّمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكليّة حفظ العرض، من قسم المناسب الضروري، وذلك من أوائل مظاهر الرقي البشري، و(ال) في قوله: ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ عوض عن المضاف إليه أي بنات أخيكم وبنات أختكم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/78.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. بعد ذلك بين سبحانه وتعالى المحرمات من الأقارب فقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ هذا النص الكريم لبيان تحريم أربع طوائف من القرابة:
أ. أولاهن: الأمهات والجدات؛ لأن الأمهات يراد بهن الأصول، إذ الأم تطلق على الأصل، كما قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد] ويصح أن يراد من الأمهات الصّلبيات، ولكن يثبت تحريم الجدات بطريق الأولى، لأنه إذا كانت العمة والخالة حراما، فأولى أن تكون الجدة حراما، لأن الأم هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء، وقد أجمع المسلمون على تحريم الجدات.
ب. الثانية: الفروع من النساء، وذلك ثبت بقوله تعالى: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ بالعطف على ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ وقد ثبت تحريم البنات بالنص، وبقية الفروع من النساء ثبت تحريمهن بالأولى؛ لأن النص يحرم بنت الأخ وبنت الأخت، وإذا كانت بنت الأخ والأخت، حراما، فأولى بالتحريم بنت البنت وبنت الابن؛ لأن البنت أقرب من الأخت، والابن أقرب من الأخ، فأولادهما أولى بالتحريم، وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن.
ج. الثالثة: فروع الأبوين، وهن الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وثبت تحريمهن بقوله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ ثم قوله تعالى: ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ وذلك يشمل الأخوات شقيقات أو لأب أو لأم، كما يشمل فروع الإخوة والأخوات جميعا؛ لأن كلمة (بنات الإخوة والأخوات) تشمل كل الفروع على سبيل المجاز، ولأن التحريم يثبت بالأولى، لأن عمة الجد حرام بالنص فأولى بالتحريم بنت ابن الأخ، وبنت بنت الأخ أو الأخت؛ لأنهن أقرب، وقد انعقد الإجماع على تحريمهن.
د. الرابعة: العمات والخالات، وقد ثبت التحريم بقوله تعالى: ﴿وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ﴾ بالعطف على الأمهات من حيث التحريم، والعمات والخالات، يشملن عمات الأب والأم وخالات الأب والأم، وعمات الجد والجدة، وخالات الجد والجدة؛ لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة، واللغة لا تمنع ذلك، وقد انعقد الإجماع على ذلك، والنص على تحريم العمة والخالة والاقتصار على ذلك يدل على أنه لا يكون تحريما لبنت العم وبنت الخال والخالة، أيا كانت طبقة العمومة والخئولة، فبنت عم الأب حلال، وبنت خال الجد حلال أيضا.
2. هؤلاء المحرمات قد ثبت تحريمهن في الشرائع السماوية كلها؛ لأن تحريمهن مشتق من الفطرة، وفي الزواج بهن إيجاد نسل غير قوى، لأن التجارب العلمية أثبتت أن التلاقح بين سلائل مختلفة الأرومة ينتج نسلا قويا، والتلاقح بين حيوانات متحدة الأرومة ينتج نسلا ضعيفا، وعلى ذلك يكون التزاوج بين القرابة القريبة منتجا نسلا ضعيفا، ولقد ضعف آل السائب؛ لأنهم كانوا لا يتزاوجون إلا فيما بينهم، فقال لهم عمر: (قد أضويتم يا آل السائب فانكحوا النوابغ)
3. الزواج من القرابة القريبة يفسد علاقة القرابة والعواطف الشريفة التي تربط بينهم، فعلاقة الأمومة والبنوة والأخوة والعمومة والخئولة يفسدها الزواج بما يكون بين الزوجين من مباسطات أو منافرات أحيانا، والحياة الزوجية على القبض والبسط، والرضا والسخط، والمداعبة والهجر أحيانا، وكل ذلك يفسد القرابة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1629.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾، أي نكاح أمهاتكم، ومنهن الجدات للأب والأم، ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾، وان نزلن، ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾، سواء أكنّ للأبوين، أم لأحدهما، ويحل الزواج بأخت الأخت، وأخت الأخ إذا لم تكن أختا، ومثال ذلك أن يكون لك ولد اسمه رؤوف، ولامرأة بنت من غيرك اسمها هند، فتعقد أنت على أم هند، ثم تعقد لابنك من غيرها على بنتها هند من غيرك، فإذا جاءك ولد من أم هند كان هذا الولد أخا للزوجين، أخا لرؤوف من أبيه، ولهند من أمها.
2. ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾، العمة كل أنثى هي أخت لرجل يرجع نسبك اليه بالولادة مباشرة، أو بالواسطة، فعمتك أخت لأبيك الذي ولدت منه بلا واسطة، وعمة أبيك أخت لجدك الذي ولدت منه بواسطة واحدة، وعمة جدك أخت لأبي جدك الذي ولدك بواسطتين.. وهكذا، وأيضا تحرم عليك عمة أمك، لأنها أخت لأبي أمك الذي ولدك بواسطة واحدة، وتحل بنت العم والعمة، لأنها ليست أختا لمن ولدت منه، بل هي بنت أخيه، أو بنت أخته.
3. ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾، الخالة كل أنثى هي اخت لمن يرجع نسبك اليها بالولادة مباشرة، أو بالواسطة، فخالتك أخت لأمك التي ولدت منها مباشرة، وخالة أمك اخت لجدتك التي ولدت منها بواسطة واحدة، ومثلها خالة أبيك، والفرق ان هذه اخت للجدة للأب، وتلك أخت للجدة للأم، وتحل بنت الخال والخالة، لأنها ليست أختا لمن ولدت منه، بل بنتا لأخيه أو أخته.
﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، وان نزلن.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/286.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. رابطة النسب ـ وهي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة وجامع الرحم ـ هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب والقبائل، وتحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم، وهي المبدأ للآداب والرسوم والسنن القومية بما تختلط وتمتزج بسائر الأسباب والعلل المؤثرة.
2. وللمجتمعات الإنسانية المترقية وغير المترقية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين الاجتماعية في الجملة: في نكاح وإرث وغير ذلك، وهم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة وتضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما وكانوا يرون قرابة الدعي وبنوته، وكما أن الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب والمسلم، ويلحق الولد للفراش وغير ذلك.
3. ولما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال، والحرية التامة في الإرادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة، وصار بذلك الابن والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسمي، وكذلك الأب والأم، والأخ والأخت، والجد والجدة، والعم والعمة، والخال والخالة، صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن وهكذا ما نزل، وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين للإنسان على حد سواء، وعلى ذلك جرت الأحكام في المناكح والمواريث، وقد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ الآية دالة على ذلك.
4. وقد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة وأشباهها (وهي مسألة اجتماعية وحقوقية) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة، فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا، فمن معمم ومن مخصص، وكل ذلك من الخطإ، وقد ذكر بعضهم: أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن، وأما ابن البنت وكل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي لا يعدهم العرب أبناء للإنسان، وأما قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا وغير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي، وأنشد في ذلك قول القائل:
çبنونا بنو أبنائنا وبناتنا...بنوهن أبناء الرجال الأباعدé
ونظيره قول الآخر:
çوإنما أمهات الناس أوعية...مستودعات وللأنساب آباءé
وقد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث، وهو غفلة عن أن الآثار والأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة والبنوة ونحوهما لا تتبع اللغات، وإنما تتبع نوع بنية المجتمع والسنن الدائرة فيها، وربما تغيرت هذه الأحكام والآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها، وهذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا، وأما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا ـ وليس إلا زخرفة خيالية وتزويقا وهميا ـ حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ ولا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل وليس بالهزل.
5. أما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن والبنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، وتربية الأولاد ونحوها، وبالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، ومن آثاره البارزة في الإسلام الميراث وحرمة النكاح، نعم هناك أحكام ومسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم أولي القربى من السادات وكل تتبع ملاكها الخاص بها.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/312.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. حرم الله نكاح (الأم) التي ولدتك، و(البنت) التي ولدتها ولو من الزنا، كما تحرم الأم من الزنا، و(الأخت) وهي تكون أختاً من الأم أو من الأب أو منهما، و(العمة) أخت الأب لأبويه أو لأحدهما، و(الخالة) أخت الأم لأبويها أو لأحدهما، و(بنات الأخ) كذلك و(بنات الأخت) كذلك.
2. قال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام) في هذه الآية الكريمة: (فحرم الله تبارك وتعالى الأمهات، فحرم بتحريمهن كل من ولدهن من الجدات وإن علون فارتفعن وتباينّ في الولادة للأمهات فافترقن، لأنهن جدات والجدات فهن أمهات، وحرم الله تبارك وتعالى على المؤمنين بناتهم وما ولدن من الأولاد وأولاد الأولاد وإن سفلن في الولادات، فهن بحكم الله للأجداد بنات لا يحل لهم نكاحهن بما حرم الله من نكاح أمهاتهن، وكذلك حرم ـ جلَّ جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ الأخوات فحرم بتحريمهن بناتهن على عموماتهن وما ولدن بناتهن من البنات، وبنات البنات وإن بعدت مواليدهن على إخوة جداتهن؛ لأنهم وإن تباعدوا منهن أعمامهن، والحكم فيهن وإن سفلن بالتحريم على أعمام جداتهن كحكم أخواتهم اللاتي نطق الكتاب بتحريمهن عليهم؛ لأنهن في المعنى كبناتهن إذ هن بنات أخواتهم، وكذلك حرم الله العمات والخالات؛ لأنهن في عداد الآباء والأمهات، وحرم الله تبارك وتعالى بنات الإخوة وبنات الأخوات؛ لأنهن من العمومة كالبنات تعظيماً منه لقريب القرابات، وتأكيداً منه على عبيده في صلة الولادات، فصار حكم بنت أخي المسلم كحكم بنته عليه وكذلك حكم بنت أخته لديه)
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/40.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾، فلا يجوز لكم الزواج بهن، ومنهن الجدات للأم وللأب، ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ وتشمل الكلمة بنات البنات الأولاد وإن نزلن.
2. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ سواء أكنّ للأبوين أم لأحدهما، ولا مانع من الزواج بأخت الأخ إذا لم تكن أختا له، وأخت الأخت إذا لم تكن أختا له، كما إذا كان لأخيك من طرف الأب أو أختك من طرف الأب أو أخت من طرف الأم التي كانت متزوجة بإنسان آخر غير الأب، فولدت له بنتا ثم ولدت الأخ من الأب.
3. ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ والعمة هي كل أنثى أخت لرجل يرجع نسبك إليه بالولادة مباشرة أو بالواسطة، فتصدق على أخت الأب وأخت الجد، وعلى ضوء هذا تحرم عمة الأم، لأنها أخت لجدك من أمك.
4. ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ الخالة هي كل أنثى أخت لمن يرجع نسبك إليها بالولادة مباشرة أو بالواسطة، فتشمل أخت أمك وأخت جدتك وخالة أبيك ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ وتمتد إلى بنات أولادهما وبناتهما في السلسلة في خط النزول.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/177.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. في هذه الآية أشار سبحانه إلى النساء اللاتي يحرم نكاحهنّ والزواج بهنّ، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:
أ. الولادة التي يعبّر عنها بالارتباط النّسبي.
ب. الزّواج الذي يعبّر عنه بالارتباط السّببي.
ج. الرّضاع الذي يعبّر عنه بالارتباط الرّضاعي.
2. أشار في البداية إلى النساء المحرمات بواسطة النّسب وهنّ سبع طوائف إذ يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، ويجب التّنبيه إلى أنّ المراد من (الأمّ) ليس هي التي يتولد منها الإنسان دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الأمّ وإن علون، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الأخرى.
3. من الواضح جدّا أنّ الإنسان يبغض النكاح والزواج بهذه الطوائف من النسوة، ولهذا تحرمه جميع الشعوب والجماعات (إلّا من شذ وهو قليل)، وحتى المجوس الذين كانوا يجوزون هذا النوع من النكاح في مصادرهم الأصلية ينكرونه ويشجبونه اليوم، وإن حاول البعض أن يردّ هذه المبغوضية إلى العادة والتقليد القديم، ولكن عمومية هذا القانون وشيوعه لدى جميع أفراد البشر وطوائفه وفي جميع القرون والأعصار تحكي ـ عادة ـ عن فطرية هذا القانون، لأن التقليد والعادة لا يمكن أن يكون أمرا عامّا ودائميا.
4. هذا مضافا إلى أنّ هناك حقيقة ثابتة اليوم، وهي أنّ الزواج بين الأشخاص ذوي الفئة المشابهة من الدم ينطوي على أخطار كثيرة، ويؤدي إلى انبعاث أمراض خفية وموروثة، وتشددها وتجددها (لأنّ هذا النوع من الزواج يولد هذه الأمراض، بل يساعدها على التشدد والتجدد والانتقال) إلى درجة أنّ البعض لا يستحسن حتى الزواج بالأقرباء البعيدين (فضلا عن المحارم المذكورة هنا) مثل الزواج الواقع بين أبناء وبنات العمومة ويرون أنّه يؤدي هو الآخر أيضا إلى أخطار تصاعد الأمراض الوارثية، إلّا أنّ هذا النوع من الزواج إذا لم يسبب أية مشكلة لدى الأقرباء البعيدين (كما هو الغالب) فإنّه لا شك يسبب مضاعفات خطيرة لدى الأقرباء القريبين الذين تشتدّ عندهم ظاهرة وحدة الدم وتشابهه.
5. هذا مضافا إلى ضعف الرغبة الجنسية والتجاذب الجنسي لدى المحارم عادة، لأنّ المحارم ـ في الأغلب ـ يكبرون معا، ويشبّون معا، ولهذا لا ينطوي الزواج فيما بينهم على عنصر المفاجأة وصفة العلاقة الجديدة، لأنّهم تعودوا على التعامل فيما بينهم، فلا يكون أحدهم جديدا على الآخر، بل العلاقة لديهم علاقة عادية ورتيبة، ولا يمكن أن يكون بعض الموارد النادرة مقياسا لانتزاع القوانين الكلية العامّة أو سببا لنقض مضاداتها، ونحن نعلم أن التجاذب الجنسي شرط أساسي لدوام العلاقة الزوجية واستمرار الرابطة العائلية، ولهذا إذا تمّ التزاوج بين المحارم فإن الرابطة الزوجية الناشئة من هذا الزواج ستكون رابطة ضعيفة مهزوزة وقصيرة العمر.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/170.
23. المحرمات بسبب الرضاعة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈23⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قلت: يا رسول الله، ما لك تنوق(1)، في قريش وتدعنا؟ فقال: (وعندكم شيء؟)، قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة(2).
2. روي أنّه قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين(3).
__________
(1) التَنَوَّق في الشيء: استحسانه والإعجاب به، النهاية (نوق).
(2) مسلم ٢/١٠٧١.
(3) ابن أبي شيبة ٤/٢٩٠.
عائشة:
روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات)، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن(1).
2. روي أنّه قالت: لقد كانت في كتاب الله عشر رضعات، ثم رد ذلك إلى خمس، ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).
3. روي أنّه قالت: كان فيما نزل من القرآن ثم سقط: (لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات(3).
4. روي أنّه قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتشاغلنا بموته دخل داجن، فأكلها(4).
__________
(1) مسلم ٢/١٠٧٥.
(2) عبد الرزاق ٧/٤٦٩.
(3) ابن ماجه ٣/١٢٢.
(4) أحمد ٤٣/٣٤٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: المرة الواحدة تحرم(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/٢٨٧.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: المصة الواحدة تحرم(1).
2. روي أنّه بلغه عن ابن الزبير: أنه يأثر عن عائشة في الرضاعة: لا يحرم منها دون سبع رضعات.. وقال ابن عمر: الله خير من عائشة، إنما قال الله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾، ولم يقل: رضعة ولا رضعتين(2).
__________
(1) عزاه السيوطي إلى ابن أبي شيبة.
(2) عبد الرزاق (١٣٩١١.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ)أنّه قال: إنما تحرم من الرضاعة ما كان من قبل النساء، ولا تحرم ما كان من قبل الرجال(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦٢٥.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) أنّه سئل عن الرضاع، فقال: إن عليا، وعبد الله بن مسعود كانا يقولان: قليله وكثيره حرام(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/٢٨٦.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنه قيل له: إنهم يزعمون أنه لا يحرم من الرضاعة دون سبع رضعات، ثم صار ذلك إلى خمس، قال قد كان ذلك، فحدث بعد ذلك أمر، جاء التحريم، المرة الواحدة تحرم(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٣٩١٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: لبن الفحل أيحرم؟ قال: نعم؛ قال الله: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾، فهي أختك من أبيك(1).
__________
(1) عبد الرزاق ٧/٤٧١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أجمعوا جميعا أن بنات الإخوة والأخوات من الرضاع كالذكر في أولادها؛ فعلى ذلك يجب أن يكون ذكر الحرمة في الأمهات من الرضاعة ذكرا في بناتها، أو ترك بيان ذلك للسنة:
أ. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب)
ب. وما روي عن عائشة قالت: جاء عمّي من الرضاعة، فاستأذن علىّ، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألته عن ذلك: (إنّه عمّك، فليلج عليك) فقالت عائشة: وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب.
ج. وعن ابن عباس سئل عن رجل له امرأتان، أو جارية وامرأة، فأرضعت هذه جارية وهذه غلاما، هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا؛ اللقاح واحد.
د. وعن عمرة، عن عائشة: أنها أخبرتها أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان عندها، وأنها سمعت رجلا يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أراه فلانا) ـ لعم حفصة من الرضاعة ـ فقالت عائشة: يا رسول الله، لو كان فلان حيّا ـ لعمها من الرضاعة ـ دخل علىّ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نعم؛ إنّ الرّضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة)
هـ. وعن علي قال لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك، ولا امرأة أخيك، ولا امرأة ابنك.
و. وعن عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء فاستأذن عليها ـ وهو عمها من الرضاعة ـ بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبرته بالذي صنعت، فأمرني بأن آذن له علىّ، قال فاللبن ـ وإن كان حدوثه من الأمّ ـ فإن سبب كونه هو الأب؛ فيجب أن تحرم المرأة التي أرضعتها امرأته عليه؛ إذا كان سببا لذلك اللبن، كما يحرم المرضع إذا كان سببا على التي أرضعته.
2. عموم قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ لم يخص قدرا دون قدر، وروي عن على وعبد الله قالا: قليل الرضاع وكثيره سواء، وعن ابن عباس كذلك، وعن عبد الله بن عمر قال الرضعة الواحدة تحرم، وروى عن عائشة أنها قالت: كان فيما نزل عشر رضعات، ثم صرن إلى خمس، فتوفي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو فيما يقرأ، فإن قيل: لسنا نجد في القرآن آية الناسخ ولا آية المنسوخ، ولا يجوز أن يقال من القرآن شيء؛ فلا نترك ما نجده ثابتا في القرآن، محفوظا برواية لعلها قد غلطت فيها، وروي عنها أنها قالت: يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم، وروي عنها أيضا أنها قالت: لا تحرم المصّة والمصّتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان: فذكر ذلك لابن عمر فقال: حكم الله أولى وخير، أو كلام نحو هذا من حكمها، وعن عمرو بن دينار قال سألت ابن عمر فذكر شيئا من الرضاع، فقال: لا نعلم إلا أن الله تعالى حرم الأختين من الرضاعة، قال فقلت: إن أمير المؤمنين ابن الزبير يقول: لا تحرم المصة والمصتان قال فقضاء الله خير من قضائك وقضاء أمير المؤمنين، مع ما يحتمل قوله: لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان؛ لما لم يتحقق بالمصة والمصتين أن اللبن قد صار في جوف الصبي ووصل إليه؛ فلذلك لم يحرم به.
3. الرضاع في الكبر لا يحرم عندنا، وما روي في خبر عائشة أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل عليها، فرأى عندها رجلا، فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (من هذا؟) قالت: إنه عمي من الرضاعة، فقال: (انظري ما الرّضاعة؟ إنّما الرّضاعة من المجاعة)، وما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الرّضاع ما أنبت اللّحم، وأنشز العظم)، وما روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الرّضاع ما فتّق الأمعاء) وفتق الأمعاء، إنما يكون في الصغر؛ لأن أمعاء الصبي تكون ضيقة لا تحتمل الطعام لضيقها، وأما فتقها باللبن على ما وصفه عزّ وجل لبنا خالصا سائغا للشاربين، فإذا كان غذاؤه إنما يكون باللبن ـ للمعنى الذي وصفنا ـ كانت كفاية مجاعته به، وكان هذا معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّما الرّضاعة من المجاعة) وفي الكبر لا ينبت اللحم، ولا ينشز العظم، وروى زاذان عن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (الجرعة تحرّم كما يحرّم حولان كاملان) فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك، والمعتمد عليه، فإن عورض بما في خبر سالم، حيث قال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (أرضعي سالما خمس رضعات تحرمى عليه) قيل: هذا يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: أن يكون ذلك لسالم خاصة دون غيره من الناس، فإذا كان كذلك لا يقاس عليه غيره.
ب. ويحتمل: أن يكون منسوخا بما روينا من الأخبار المرفوعة والموقوفة بإيجاب الحرمة بالقليل منه والكثير.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/90.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أما الرضاع فلا يحرم عندنا (2) إلا ما كان خمس عشرة رضعة متواليات، لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى، أو رضاع يوم وليلة، أو ما أنبت اللحم وشد العظم، وفي أصحابنا من حرم بعشر رضعات، ومتى دخل بين الرضاع رضاع امرأة أخرى، بطل حكم ما تقدم، وحرم الشافعي بخمس رضعات، ولم يعتبر التوالي، وحرم أبو حنيفة بقليله وكثيرة، وهو اختيار البلخي، وفي أصحابنا من ذهب اليه.
2. اللبن عندنا للفحل، ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبياناً كثيرين، من أمهات شتى، فإنهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل، ويحرمون على جميع أولاده الذين ينتسبون إليه ولادة ورضاعاً، ويحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم، فأما من أرضعته بلبن غير هذا الفحل، فإنهم لا يحرمون عليهم، وكذلك إن كان للرجل امرأتان، فأرضعتا صبيين لأجنبيين، حرم التناكح بين الصبيين، وخالف في هذه ابن علية.
3. لا يحرم من الرضاع عندنا إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي من المجرى المعتاد الذي هو الفم، فأما ما يوجر به، أو يسعط، أو ينشق، أو يحقن به، أو يحلب في عينه، فلا يحرم بحال، ولبن الميتة لا حرمة له في التحريم، وفي جميع ذلك خلاف، ولا يحرم من الرضاع إلا ما كان في مدة الحولين، فأما ما كان بعده فلا يحرم بحال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/161.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ يعني تحرم الأم من الرضاعة، وهي التي أوضعت الصبي ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ بنت المرضعة.
2. تدل الآية الكريمة على تحريم الرضاع والمنصوص عليه الأم والأخت إلا أنه ينبه على ما سواه ممن يحرم بالنسب؛ لأنها إذا صارت أمًا بالرضاع وأختًا كذلك يصير ولدًا وأبا وعمة وخالة ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا فصل جامع؛ لأن من أرضعت صبيًا يتصل التحريم من جانبها وجانب زوجها كما يتصل لو ولدته، والكلام في الرضاع يشتمل على فصول:
أ. وقته سنتان عن أكثر أهل العلم، وهو قول أبي يوسف ومحمد، واستدلوا بقوله: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقيل: سنتان ونصف عن أبي حنيفة، وقيل: سنتان وشهر عن مالك، وقيل: ثلاث سنين عن زفر، واتفقوا أن رضاع الكبير لا يحرم إلا ما روي عن عائشة، وقد يسقط الخلاف فيه.
ب. قدر الرضاع، قيل: قليلهُ وكثيره يُحرم، وهو قول ابن عمر وابن عباس والمروي عن علي، وعليه أكثر الصحابة والتابعين، وقيل: لا بد من عدد، ثم اختلفوا فقيل: المُحرم خمس رضعات، وهو مذهب عائشة، وإليه ذهب الشافعي، وقيل: ثلاث رضعات، وظاهر الآية يدل على القول الأول، وهو مذهب أهل العراق.
ج. كيفية اللبن إن كان صرفًا وإن اختلط بغيره والغالب اللبن حَرام، فإن اتخذ منه جبنًا لا يحرم، وإن اختلط لبن امرأتين أوجب التحريم فيهما، واختلفوا في لبن الميت، فعند أبي حنيفة يحرم، وعند الشافعي لا يحرم.
د. ما يحرم بالرضاع، وقد بينا أن كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع، وقيل: كل شخصين اجتمعا على ثدي معًا أو مفترقين فهما أخوان، وتفصيل هذه المسائل يكثر.
3. قراءة العامة ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي﴾ بالتاء، وعن ابن مسعود: اللائي أرضعنكم): بغير تاء كقوله: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾
4. ﴿اللَّاتِي﴾ محله رفع نعتًا لربائبكم، ﴿وَاللَّاتِي﴾ الثاني محله خفض نعتًا للنساء.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/579.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ذكر الله تعالى سبحانه المحرمات بالسبب، فقال: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾: سماهن أمهات، للحرمة، وكل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك، فالتي أرضعتك، أو أرضعت امرأة أرضعتك، أو رجلا أرضعت بلبانه من زوجته، أو أم ولد له، فهي أمك من الرضاعة، وكذلك كل امرأة ولدت امرأة أرضعتك، أو رجلا أرضعك، فهي أمك من الرضاعة.
2. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾: يعني بنات المرضعة، وهن ثلاث:
أ. الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك، أو مع ولدها قبلك، أو بعدك.
ب. والثانية: أختك لأمك دون أبيك، وهي التي أرضعتها أمك بلبان غير أبيك.
ج. والثالثة: أختك لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك، وأم الرضاعة، وأخت الرضاعة، لولا الرضاعة لم تحرما، فإن الرضاعة سبب تحريمهما.
3. كل من تحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهن، تحرم أمثالهن بالرضاع، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب) فثبت بهذا الخبر أن السبع من المحرمات بالنسب على التفصيل الذي ذكره، محرمات بالرضاع،
4. الكلام في الرضاع يشتمل على ثلاثة فصول:
أ. أحدها: مدة الرضاع، وقد اختلف فيها، فقال أكثر أهل العلم: لا يحرم إلا ما كان في مدة الحولين، وهو مذهب أصحابنا، وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة: مدة الرضاع حولان ونصف، وقال مالك: حولان وشهر، واتفقوا على أن رضاع الكبير لا يحرم.
ب. وثانيها: قدر الرضاع: وقد اختلف فيه أيضا، فقال أبو حنيفة: إن قليله وكثيره يحرم، وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، وقال الشافعي: إنما يحرم خمس رضعات، وبه قالت عائشة، وسعيد بن جبير، وقال أصحابنا (2): لا يحرم إلا ما أنبت اللحم، وشد العظم، وإنما يعتبر ذلك برضاع يوم وليلة، لا يفصل بينه برضاع امرأة أخرى، أو بخمس عشرة رضعة متواليات، لا يفصل بينها برضاع امرأة أخرى، وقال بعض أصحابنا: المحرم عشر رضعات متواليات.
ج. وثالثها: كيفية الرضاع فعند أصحابنا لا يحرم إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي في المجرى المعتاد الذي هو الفم، فأما ما يوجر، أو يسعط، أو يحقن به، فلا يحرم بحال، ولبن الميتة لا حرمة له في التحريم، وفي جميع ذلك خلاف.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/47.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ إنما سمّين أمّهات، لموضع الحرمة، واختلفوا: هل يعتبر في الرّضاع العدد، أم لا؟
أ. فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلّق التحريم بالرّضعة الواحدة، وهو قول عمر، وعليّ، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاووس والشّعبيّ، والنّخعيّ، والزّهريّ، والأوزاعيّ، والثّوريّ، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه.
ب. ونقل محمّد بن العبّاس، عن أحمد: أنه يتعلّق التّحريم بثلاث رضعات.
ج. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلّق بأقلّ من خمس رضعات متفرّقات، وهو قول الشّافعيّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/389.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع الثامن والتاسع: قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾، قال الواحدي: المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة، كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6] لأجل الحرمة.
2. نص الله تعالى في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا: اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات، وخمس منها بطريق الأخوة، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أخوال الرضاع كالحال ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات، ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية، وهذا بيان لطيف.
3. أم الإنسان من الرضاع هي التي أرضعته، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع، والحال في الأب كما في الأم، وإذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق، وأما الأخوات فثلاثة:
أ. الأولى أختك لأبيك وأمك، وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك.
ب. الثانية أختك لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك.
ج. الثالثة أختك لأمك دون أبيك، وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر، وإذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
4. اختلف في الرضاع المحرم، قال الشافعي: الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات، وقال أبو حنيفة: الرضعة الواحدة كافية، وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة.
5. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال: انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع، فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم، ثم سأل نفسه فقال: ان قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ بمنزلة قول القائل: وأمهاتكم اللاتي أعطينكم، وأمهاتكم اللاتي كسونكم، وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع، بل لو أنه تعالى قال اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا، وأجاب عنه بأن قال الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة، فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به، بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم، لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة، قال: ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل إلى ابن عمرما فقال: قال ابن الزبير: لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين، فقال ابن عمر: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير، قال الله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ قال فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل، وهذا الجواب ركيك جدا:
أ. أما قوله: ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول: وهل النزاع الا فيه، فإن عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات، وعندك إنما جاء من أصل الرضاع، وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لا ثبات هذا الأصل، فإذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط.
ب. وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع، فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه، وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب، فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه، ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات.
ج. ثم ان أبا بكر الرازي أخذ يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة، ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية، فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/27.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ وهي في التحريم مثل من ذكرنا، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقرأ عبد الله (وأمهاتكم اللائي) بغير تاء، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾، قال الشاعر:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة...ولكن ليقتلن البرئ المغفلا
2. ﴿أَرْضَعْنَكُمْ﴾ فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته، وأمه لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته.
3. قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي: سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟ قال: نعم، قال أبو نعيم: وسيل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها، ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، قال: يفرق بينهما، وما أخذت من شي له فهو لها، وما بقي عليه فلا شي عليه، ثم قال مالك: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك، فقالوا: يا رسول الله، إنها امرأة ضعيفة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أليس يقال إن فلانا تزوج أخته)؟.
4. التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين، كما تقدم في البقرة، ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة، واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين:
أ. أحدهما خمس رضعات، لحديث عائشة قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهن مما يقرأ من القرآن، موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس، ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس، لأنه لا ينسخ بهما، وفي حديث سهلة (أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن)
ب. الثاني: أن يكون في الحولين، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم، لقوله تعالى: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، وليس بعد التمام والكمال شي.
5. اعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر، ومالك الشهر ونحوه، وقال زفر: ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين، وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع.
6. انفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم، وهو قول عائشة، وروي عن أبي موسى الأشعري، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال: بانت منك، وأت ابن مسعود فأخبره، ففعل، فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال: أرضيعا ترى هذا الأشمط! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم، فقال الأشعري: (لا تسألوني عن شي وهذا الحبر بين أظهركم، فقوله: لا تسألوني) يدل على أنه رجع عن ذلك، واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لسهلة بنت سهيل: (أَرْضِعِيهِ) خرجه الموطأ وغيره.
7. شذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات، تمسكا بأنه كان فيما أنزل: عشر رضعات، وكأنهم لم يبلغهم الناسخ، وقال داوود لا يحرم إلا بثلاث رضعات، واحتج بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان)، خرجه مسلم، وهو مروي عن عائشة وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه، وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا، متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر، بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر، وقال الليث بن سعد: وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم، قال أبو عمر، لم يقف الليث على الخلاف في ذلك، قلت: وأنص ما في هذا الباب قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تحرم المصة ولا المصتان) أخرجه مسلم في صحيحه، وهو يفسر معنى قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر، غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، لقوله: (عشر رضعات معلومات، وخمس رضعات معلومات)، فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف، ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم، والله أعلم، وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت، لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومرة يرويه عن عائشة، ومرة يرويه عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه، وروي عن عائشة أنه (لا يحرم إلا سبع رضعات)، وروي عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات، وروي عن حفصة مثله، وروي عنها ثلاث، وروي عنها خمس، كما قال الشافعي، وحكي عن إسحاق.
8. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ استدل به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل، وقال الجمهور: قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ يدل على أن الفحل أب، لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده، وهذا ضعيف، فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطئ هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء، وقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها، نعم، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة: أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبرته فقال: (ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك)، وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة، وهذا أيضا خبر واحد، ويحتمل أن يكون أَفْلَحَ مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال: (ليلج عليك فإنه عمك)، وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله، ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ يقوي قول المخالف.
9. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ وهي الأخت لأب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك، والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك، والأخت من الأم دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر.
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/109.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة: من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة.
2. ظاهر النظم القرآني: أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة، والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفيناه في مصنفاتنا، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع.
3. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ الأخت من الرضاع: هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات، والأخت من الأم: هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/513.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ قال المهايميّ: لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءا من الرضيع، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله.
2. يعتبر في الإرضاع أمران:
أ. أحدهما القدر الذي يتحقق به هذا المعنى، وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنّة بخمس رضعات، لحديث عائشة عند مسلم وغيره: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهنّ فيما يقرأ من القرآن.
ب. الثاني أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد، وذلك قبل الفطام، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل، كالشاب يأكل الخبز، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام)، رواه الترمذي وصححه، والحاكم أيضا، وأخرج سعيد بن منصور والدّارقطنيّ والبيهقيّ عن ابن عباس مرفوعا: لا رضاع إلا ما كان في الحولين، وصحح البيهقيّ وقفه، قال السيوطيّ في (الإكليل): واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير.
3. وقد ورد الرخصة فيه لحاجة تعرض، روى مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل عليّ، فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أسوة؟ وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إن سالما يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أرضعيه حتى يدخل عليك، وأخرج نحوه البخاريّ من حديث عائشة أيضا، وقد روى هذا الحديث، من الصحابة: أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة، ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثم رواه عنهم الجمع الجم، وقد ذهب إلى ذلك عليّ وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وداود الظاهريّ وابن حزم، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك، قال ابن القيّم: أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى، منهم عائشة، ولم يأخذ به أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم، بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين، لوجوه:
أ. أحدها: كثرتها وانفراد حديث سالم.
ب. الثاني: أن جميع أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سوى عائشة في شق المنع.
ج. الثالث: أنه أحوط.
د. الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما، فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم.
هـ. الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصّا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته.
و. السادس: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة، متفق عليه، واللفظ لمسلم.
4. في قصة سالم مسلك، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بدّ، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يجنح، يعني ابن تيمية.
5. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾، قال الرازيّ: إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة، إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا: اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات، وخمس منها بطريق الأخوة، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع، ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة، الأمهات، ومن قسم قرابة الأخوة، الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين، من هذين القسمين، على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أكد هذا البيان بصريح قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية، وهذا بيان لطيف.
6. تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة، قال الرازي: من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية، فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/64.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُم﴾ جمع أمٍّ لكثرته، لا جمع أمَّهة لقلَّته، والهاء زائدة، وفي غير العقلاء: (أُمَّات)، وقد يقال فيه: (أمَّهات)، وقد يقال في العقلاء: (أُمَّات)، ﴿اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ ولو مصَّة أو قطرة، من أيِّ منفذ، ولو من أذن أو جرح، ولو بعد موتهنَّ إذا كان أبيض نافعًا لا ماء، وزعم مالك وأبو حنيفة أنَّه يحصل التحريم بمصَّة، وزعم الشافعيُّ وأحمد أنَّه يحصل بخمس رضعات، وزعموا عنه أنَّ المراد: خمس إشباعات في أوقات، وفيه حديث أوَّلناه في تفسير الحديث والفروع بالنسخ، ولا رضاع إلَّا في حولين، كما قال ابن مسعود، وهو أيضًا مرفوع، وروي: (لا يُحَرِّم من الرضاع إلَّا ما فَتَق الأمعاء)، أي: فهذا كناية عن كون الرضيع رضع لبنًا قويًّا حتَّى ظهر رونقه على بدنه، وزعم البخاري أنَّه إن مصَّ أو شرب من لبن شاة أو نحوها حرم عليه أكلها، وعدُّوا ذلك فلتة للبخاري.
2. ﴿وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ والبنات والخالات والعمَّات، وبنات الأخ وبنات الأخت منها، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، نبَّه الله 4 بتسمية المرضعة أمًّا، والتي أرضعت منها قبله أو بعده أو معه أختًا، على أنَّ الرضاع جار مجرى النسب، وأنَّه ينتشر، فأمُّ مرضعتك جدَّتك، وأختها خالتك، وأبوها جدُّك، وبنتها أختك، وخالتها خالتك، وعمَّتها عمَّتك، وأمُّ زوج المرضعة الذي له اللبن جدَّتك، وبنته ولو من غير مرضعتك أختك، ولا يجوز تزوُّج أخت ابنك إذا ولدتها المرأة من رجل آخر؛ لأنَّ وطء الأمِّ يحرِّم البنت، وولدتَ أنت منها هذا الابن، وشهر المنع للمصاهرة لا للوطء لفقده، ويجوز هذا إذا كان هذا الابن من رضاع، ومنعته الشافعيَّة، وفي أمِّ أخيه من الرضاع القولان.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/151.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع الثاني ما حرم من جهة الرضاع وهو أنواع كالنسب، بيَّنها تعالى بقوله: ﴿وأمهاتكم التي أرضعناكم وأخواتكم من الرضاعة﴾ فسمى المرضعة أما للرضيع وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاعة كجهة النسب تأتي فيها الأنواع التي جاءت في النسب كلها، وقد فهم ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لما أريد على ابنة عمه حمزة أي أن يتزوجها) إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) رواه الشيخان من حديث الولادة وفي صحيحيهما أيضا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لها: (ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك) وكانت امرأته أرضعت عائشة، وعلى هذا جرى جماهير المسلمين جيلا بعد جيل، فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه أي الرضيع، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت أحدهما جارية (أي بنتا) والأخرى غلاما أيحل للغلام أن يتزوج الجارية: (قال لا! اللقاح واحد) رواه البخاري في صحيحه.
2. لولا هذه الأحاديث لما فهمنا من الآية إلا أن التحريم خاص بالمرضعة وينتشر في أصولها وفروعها لتسميتها أما وتسمية بنتها أختا، ولا يلزم من ذلك أن يكون زوجها أبا من كل وجه بأن تحرم جميع فروعه من غير المرضعة على ذلك الرضيع كما أن تسمية أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمهات المؤمنين لا يترتب عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأمهات فالتسمية يراعى فيها الاعتبار الذي وضعت لأجله، ومن رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءا منها لأنه تكون من لبنها فصارت في هذه كأمه التي ولدته وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلا واحدا هو ذلك اللبن، وهذا المعنى لا يظهر في أولاد زوجها من امرأة أخرى إلا من بعد، بأن يقال إن هذا الرجل الذي كان بلقاحه سببا لتكون اللبن في المرأتين قد صار أصلا لأولادهما إذ في كل واحد منهما جزء من لقاحه تناوله مع اللبن فاشتركا في سبب اللبن أو في هذا الجزء من اللبن الذي تكون بعض بدنهما منه فكانا أخوين لا يحل أحدهما للآخر إذا كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، ولهذا المعنى قلنا فيما سبق إن حرمة الرضاعة تدل على حرمة بنت الزنا على والدها بالأولى.
3. وقد روي عن بعض الصحابة والتابعين عدم التحريم من جهة زوج المرضعة دونها، فقد صح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمة زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير بن العوام، قالت زينب وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول: أقبلي علي فحدثيني، أرى أنه أبي وما ولد منهم فهم إخوتي، ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل إليّ يخطب أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير وكان حمزة للكلبية فقلت لرسوله وهل تحل له، وإنما هي ابنة أخته؟ فقال عبد الله: إنما أردت بهذا المنع من قبلك أما ما ولدت أسماء فهم إخوتك وما كان غيرها فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا فأرسلت فسألت وأصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متوفرون فقالوا لها: إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا، فانكحها إياه فلم تزل عنده حتى هلك عنها، قالوا: ولم ينكر ذلك الصحابة.
4. وروي القول بهذا أي بأن الرضاعة من جهة المرأة لا من جهة الرجل عن الزبير وعن الصحابة وعن بعض علماء التابعين منهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمان وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبو قلابة فالمسألة لم تكن إجماعية، وقد حمل الجمهور قول المخالفين في ذلك على عدم وصول السنة الصحيحة إليهم فيه أو على تأويل ما وصل إليهم لقيام ما يعارض حمله على ظاهره عندهم، ويقال على الأول إن من حفظ حجة على من لم يحفظ وعلى الثاني أنه اجتهاد منهم عارضته عندنا النصوص الظاهرة ومتى ثبتت السنة الصحيحة امتنع العدول عنها لاجتهاد المجتهدين، وهذا ما جرى عليه علماء الإسلام في هذه المسألة وغيرها، فقد روي عن الأعمش أنه قال كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس، أي فأخذوا به ورجعوا عن رأيهم الأول.
5. فالذي جرى عليه العمل هو أن المرضعة أم لمن رضع منها وجميع أولادها إخوة له وإن تعددت آباؤهم وأصولها أصول له، فتحرم عليه أمها كما تحرم بنتها، وإخوتها خؤولة له فتحرم عليه أخواتها، وأن زوج هذه المرضعة أب للرضيع أصوله أصول له وفروعه فروع له واخوته عمومة له فيحرم عليه أن يتزوج أمه كما يحرم عليه أن يتزوج أية بنت من بناته سواء كن من مرضعته أو غيرها، فإن أولاده من المرضعة إخوة أشقاء للرضيع ومن غيرها إخوة لأب، كما أن أولادها هي من زوج آخر غير صاحب لقاح اللبن الذي رضع منه الرضيع إخوة لأم، ويحرم عليه أن يتزوج أحدا من بنات هؤلاء الإخوة أو الأخوات من الرضاعة، وكذلك تحرم عليه عماته من الرضاعة وهن إخوة أبيه بالرضاعة، فالسبع المحرمات بالنسب ـ وقد ذكرن بالتفصيل ـ محرمات بالرضاعة أيضا، وأما إخوة الرضيع وأخواته فلا يحرم عليهم أحد ممن حرم عليه، لأنهم لم يرضعوا مثله فلم يدخل في تكوين بنيتهم شيء من المادة التي دخلت في بنيته، فيباح للأخ أن يتزوج من أرضعت أخاه أو أمها أو ابنتها ويُباح للأخت أن تتزوج صاحب اللبن الذي رضع منه أخواها أو أختها أو أباه وابنه مثلا.
6. مما يجب التنبه له أن الناس قد غلب عليهم التساهل في أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يعنون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب، فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدري.
7. ظاهر الآية أن التحريم يثبت بما يسمى إرضاعا في عرف أهل هذه اللغة، قل أو كثر، ولكن ورد في الحديث المرفوع (لا تحرم المصة والمصتان) وفي رواية (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان) ـ والإملاجة المرة من أملجته ثديها إذا جعلته يملجه أي يمصه ـ والحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة، وروي عنها أيضا أنها قالت: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن) فتوفي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي فيما يقرأ من القرآن، وقد اختلف علماء السلف والخلف في هذه المسألة:
أ. فذهب بعضهم إلى الأخذ بظاهر الآية من التحريم بقليل الرضاعة ككثيرها، ويروى هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم وحماد والأوزاعي الثوري وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد.
ب. وذهب آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وهو إحدى ثلاث روايات عن عائشة وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وابن حزم.
ج. وذهب فريق ثالث إلى قول بين القولين وهو أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تحرم المصة والمصتان) فانحصر التحريم فيما زاد عليهما، وروي هذا عن أبي ثور وأبي عبيدة وابن المنذر وداود بن علي وهو رواية عن أحمد.
د. وهنالك مذهب رابع وهو أن التحريم لا يثبت إلا بعشر رضعات ويروى عن حفصة أم المؤمنين وهو الرواية الثانية عن عائشة ومذهب خامس وهو أنه لا يثبت بأقل من سبع وهو الرواية الثالثة عن عائشة.
8. رواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة وعليها العمل عندها وبها يقول أكثر أهل الحديث ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث ولا يحتاج فيه إلى القول بنسخ شيء منها فهي تتفق مع حديث منع تحريم المصتين والإملاجتين، ويعد تقييدا لنص القرآن وللأحاديث المطلقة كحديث الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (كيف وقد زعمت ان قد أرضعتكما) قالوا وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص، قال الذاهبون إلى الإطلاق أو إلى التحريم بالثلاث فما فوقها إن عائشة نقلت رواية الخمس نقل قرآن لا نقل حديث، فهي لم تثبت قرآنا لأن القرآن لا يثب إلا بالتواتر ولم تثبت سنة فنجعلها بيانا للقرآن، ولا بد من القول بنسخها لئلا يلزم ضياع شيء من القرآن وقد تكفل الله بحفظه وانعقد الإجماع على عدم ضياع شيء منه، والأصل أن ينسخ المدلول بنسخ الدال إلا أن يثبت خلافه، وعمل عائشة به ليس حجة على إثباته، وظاهر الرواية عنها أنها لا تقول بنسخ تلاوته فيكون من هذا الباب ويزاد على ذلك أنه لو صح أن ذلك كان قرآنا يتلى لما بقي علمه خاصا بعائشة بل كانت الروايات تكثر فيه ويعمل به جماهير الناس ويحكم به الخلفاء، وكل ذلك لم يكن، بل المروي عن رابع الخلفاء وأول الأئمة الأصفياء القول بالإطلاق كما تقدم.
9. إذا كان ابن مسعود قد قال بالخمس فلا يبعد أنه أخذ ذلك عنها، وأما عبد الله بن الزبير فلا شك في أن قوله بذلك اتباع لها لأنها خالته ومعلمته واتباعه لها لا يزيد قوله قوة ولا يجعله حجة، ثم إن الرواية عنها في ذلك مضطربة فاللفظ الذي أوردناه في أول السياق رواه عنها مسلم كما تقدم وكذا أبو داود والنسائي وفي رواية لمسلم: (نزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والأمر على ذلك) وفي رواية ابن ماجه: (كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن ثم سقط: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات) فهي لم تبين في شيء من هذه الروايات لفظ القرآن ولا السورة التي كان فيها إلا أن يراد برواية ابن ماجه أن ذلك لفظ القرآن، وقولها في رواية الترمذي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم توفي والأمر على ذلك ظاهره أن الحكم والعمل كان على ذلك وقد علمت أنه ليس عندنا نقل يؤيد ذلك كما أنه ليس عندنا نقل يؤيد الرواية الأخرى القائلة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم توفي وآية الخمس الرضعات مما يتلى من القرآن ويحتمل أن يراد بالأمر التلاوة ولكنه يتبعه الحكم والعمل، وظاهر رواية ابن ماجه أن العشر والخمس ذكر في آية واحدة ووصف الخمس بالمعلومات قال ثم سقط أي نسخ فبطل حكم الخمس بذلك، وهذا يخالف مذهبها وهو العمل بتحريم الخمس، ولها فيه حديث سهلة بنت سهيل، وسيأتي قريبا، وفيه أنه واقعة حال، وأن العدد لا مفهوم له، وأنه ليس فيه ما يدل على الحصر، وأنه مخالف لروايتها في حديث الصحيحين (إنما الرضاعة من المجاعة) وستأتي، وأنه مخالف لما جرى عليه الجماهير سلفا وخلفا، فلا يعمل به القائلون بالخمس كالشافعية، ووصف الخمس بالمعلومات في رواية ابن ماجه دون العشر مخالف لما رواه سالم وأصحاب السنن الثلاثة من وصف العشر بها أيضا فإنه لا يصح أن يقال: إن المراد عشر رضعات معلومات أو خمس معلومات لأن ذكر العشر حينئذ يكون لغوا وهو غير جائز، فلا بد من تقدير وصف للعشر يتفق مع السياق ويرتضيه الأسلوب، فعلم مما تقدم أن الروايات مضطربة يدل بعضها على بقاء التلاوة وبعضها على نسخها وبعضها على أن حكم العشر والخمس نزل مرة واحدة في جملة واحدة وبعضها على أن حكم العشر نزل أولا ثم تراخى الأمر والعمل عليه حتى نزل حكم الخمس ناسخا لما زاد عليه.
10. إذا رجحنا هذا الأخير برواية مسلم والثلاثة فلا بد أن نقول إن هذا كان في سياق بيان محرمات النكاح لأنه مقامه اللائق به ولا يوجد سياق آخر يناسب أن توضع فيه تلك العبارة ثم تحذف منه، فالأقرب في تصوير ذلك إذا أن يكون أصل الآية: (وأمهاتكم اللاتي أرضعناكم عشر رضعات معلومات) ثم نزل بعد طائفة من الزمن عمل فيها الناس بقصر التحريم على عشر ـ استبدال لفظ (خمس) بلفظ (عشر) وبقي الناس يقرؤونها هكذا إلى ما بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا سأل سائل لماذا لم تثبت حينئذ في القرآن؟ أجابه الجامدون على الروايات من غير تمحيص لمعانيها بجوابين:
أ. أحدهما: أنهم لم يثبتوها لأن الذين تلقوها عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتوفي وهم يتلونها لم يبلغوا عدد التواتر! ولا يبالي أصحاب هذا الجواب بمخالفته لإجماع من يعتد بإجماعهم على عدم ضياع شيء من القرآن ولقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ الحجر: 8]
ب. ثانيهما أنهم لم يثبتوها لعلمهم بأنها نسخت، وقول عائشة أنها كانت تقرأ يراد به أنه كان يقرؤها من لم يبلغهم النسخ، وهذا الجواب أحسن وأبعد عن مثار الطعن في القرآن برواية أحادية ولكنه خلاف المتبادر من الرواية.
11. سؤال وإشكال: إذا قال السائل إذا صح هذا فما هي حكمة نسخ العشر بالخمس عند عائشة ومن عمل بروايتها ونسخ الخمس أيضا عند من قبل روايتها وادعى أن الخمس نسخت أيضا بنسخ التلاوة لأنه الأصل ولم يثبت خلافه؟ والجواب: لعل أظهر ما يمكن أن يجاب به عن هذا هو أن الحكمة في هذا هي التدرج في هذا التحريم كما وقع في تحريم الخمر بل لا يخطر في البال شيء آخر يمكن أن يقولوه، وإذا أنصفوا رأوا الفرق بين تحريم الخمر وتحريم نكاح الرضاع واسعا جدا، فإن شرب الخمر يؤثر في العصب تأثيرا يغري الشارب بالعودة إليه حتى يشق عليه تركه فجأة ولا كذلك ترك نكاح المرضعة أو بنتها مثلا، ثم إذا كانت علة التحريم بالرضاعة ـ وهي كون بعض بنية الرضيع مكونة من اللبن الذي رضعه ـ تتحقق بالرضعة أو الثلاث أو الخمس فكيف يجعلها العليم الحكيم عشرا ثم خمسا كما روي عن عائشة ثم أقل من ذلك كما يقول ذلك من يقبل هذه الرواية عنها ويدعي نسخها؟ وبعد هذا وذاك يقال: من استفاد من هذا التدريج فتزوج من رضع هو منها أو بنت من رضع منها تسعا أو ثمانا أو سبعا أو ستا؟ ثم ماذا فعل هؤلاء بعد نسخ العشر؟ هل فارقوا أزواجهم أم عفى عنهم وجعل التحريم بما دون العشر خاصا بغيرهم؟
12. الحق أنه لا يظهر لهذا النسخ حكمة، ولا يتفق مع ما ذكر من العلة، وأن رد هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها كما عملت، فإن لم نعتمد روايتها فلنا أسوة بمثل البخاري وبمن قالوا باضطرابها خلافا للنووي، وإن لم نعتمد معناها فلنا أسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية وهي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة، أو ليس رد رواية عمرة وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ولا فائدة ثم نسخه أو سقوطه أو ضياعه؟ فإن عمرة زعمت أن عائشة كانت ترى أن الخمس لم تنسخ وإذا لم نعتد بروايتها، وإذا كان الأمر كذلك فالمختار التحريم بقليل الرضاع وكثيره إلا المصة والمصتين إذ لا تسمى رضعة ولا تؤثر في الغذاء وبمعناها الإملاجة والإملاجتان فإن من ملج الوليد الثدي إذا مصه وأملجته إياه جعلته يملجه فإن رضع رضعة تامة ثبتت بها الحرمة وبهذا يجمع بين الأحاديث.
13. وفي الرضاع المحرم للنكاح بحث آخر يتعلق بسن الرضيع، فقد ذهب بعض علماء الأمة إلى أن الرضاع لا يؤثر إلا في سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 232] وصح هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر من علماء الصحابة وهو مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد ورواية عنه، ومذهب جمهور الظاهرية، وروي عن جماعة من علماء التابعين كسعيد بن المسيب والشعبي، وقال بعضهم إن الرضاع المحرم ما كان قبل الفطم فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطم كان رضاعه محرما وصح هذا القول عن أم سلمة من أمهات المؤمنين وعن ابن عباس في الرواية الأخرى وروايته عن علي لم تصح وقال به من التابعين الزهري والحسن وقتادة وهو مذهب الأوزاعي على تفصيل له في الفطام لحول ثم الرضاع في أثناء الثاني قال إن تمادى فيه كان محرما وإلا فلا، وقال بعضهم إن الرضاع يؤثر في الصغر دون الكبر ولم يذكروا تحديدا وهذه الأقوال متقاربة.
14. وذهب بعض السلف والخلف إلى التحريم برضاع الكبير وإن كان شيخا وهذا مذهب عائشة ويروى عن علي أيضا وقال به عروة وعطاء والليث بن سعد وأبو محمد بن سعد وعمدتهم في ذلك حديث عائشة عند مسلم وأبي داود في واقعة سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي، وهو مروي بعدة ألفاظ مختصرة في مسلم ومفصلة في سنن أبي داود وفي التفصيل فائدة تبين ما في الواقعة من الإجمال، وتجلي ما قاله العلماء فيها، فيعرف أمثلها وهو أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما وهو مولى لامرأة من الأنصار وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة فكان يدعى ابنه فلما حرم الإسلام التبني صار سالما أجنبينا من أبي حذيفة كما كان يدخل وامرأته في مهنتها لا تستغني عن إيداء شيء من زينتها التي حرم الله إبداءها لغير المحارم فجاءت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تسأله فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا (أي في فضل الثياب التي تلبس وقت الشغل أو النوم) وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ هذا سياق أبي داود وفي لفظ المسلم أنها قالت: وفي نفس أبي حذيفة منه شيء وفي رواية أني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم تعني من حل دخوله بعد تحريم التبني لا من التربية وسوء الظن في عفته، فإنه كان منهم مكان الابن على ما كان من قوة دينه وتقواه في الإسلام، وكذلك كانت هي من المهاجرات الفاضلات، فأمرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ترضعه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، قال بعضهم لعل المراد أنها سقته لبنها في إناء.
15. يعارض هذا الحديث في معناه ما أخذ به الجمهور من حديث عائشة في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وحديث أم سلمة الذي صححه الترمذي وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام) ومعنى (في الثدي) في زمنه أي سن الرضاعة، وحديث ابن مسعود عند أبي داود وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظيم) يروى (أنشر) بالراء أي بسطه ومده وأنشز بالزاي ومعناه رفعه، وبسط العظام وارتفاعها كلاهما يكونان بنموها، والكبير لا تنمو عظامه وترتفع بالرضاع وإن كان له فيه شيء من الغذاء ـ وحديث ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) رواه الدارقطني في سننه بإسناد صحيح، وأفتى بذلك غير واحد من علماء الصحابة.
16. قال بعض الذاهبين إلى عدم تحريم الرضاع في الكبر لا سيما بعد الحولين إن حديث سهلة بنت سهيل منسوخ لأنه كان في أول الهجرة حين حرم التبني وإن خفي نسخه عن عائشة، وقال بعضهم إنه خاص بسالم، والتخصيص معهود في كل الحكومات المقيدة بالقوانين ويسمونه الاستثناء، وقال ابن تيمية ليس حديث سهلة بمنسوخ ولا مخصوص بسالم ولا عام في حق كل أحد وإنما هو رخصة لمن كان حاله مثل حال سالم مع أبي حذيفة وأهله في عدم الاستغناء عن دخوله على أهله أي مع انتفاء الريبة، ومثل هذه الحاجة تعرض للناس في كل زمان فكم من بيت كريم يثق ربه برجل من أهله أو من خدمه قد جرب أمانته وعفته وصدقه معه فيحتاج إلى إدخاله على امرأته أو إلى جعله معها في سفر، فإذا أمكن صلته به وبها بجعله ولدا لهما في الرضاعة بشرب شيء من لبنها مراعاة لظاهر أحكام الشرع مع عدم الإخلال بحكمتها ألا يكون أولى؟ بلى وإن هذا اللبن ليحدث في كل منهم عاطفة جديدة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/469.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أمّا للرضيع، وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب، وقد وضحت السنة ذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخى من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم النسب) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس، وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه الرضيع، وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ (قال لا، اللقاح واحد)
1. غلب على الناس التساهل في أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدرى.
2. ظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروى ذلك عن على وابن عباس والحسن والزهري وقتادة، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك، وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تحرّم المصّة والمصّتان) وقد روى العمل به عن الإمام أحمد، وذهب جماعة آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه.
3. لا يحرم الرضاع إلا في سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وهو مذهب عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه أخذ الشافعي وأحمد وصاحبا أبى حنيفة: أبو يوسف ومحمد، وقد روى الدار قطنى عن ابن عباس قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين)، وروى عن ابن عباس في رواية أخرى والزهري والحسن وقتادة أن الرضاع المحرّم ما كان قبل الفطم، فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه في التحريم، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطم كان رضاعه محرما.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/221.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر، وهذه تشمل تسع محارم:
أ. الأم من الرضاع وأصولها مهما علون: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾
ب. البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن (وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته)
ج. الأخت من الرضاع، وبناتها مهما نزلن ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾
د. العمة والخالة من الرضاع (والخالة من الرضاع هي أخت المرضع، والعمة من الرضاع هي أخت زوجها)
هـ. أم الزوجة من الرضاع (وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها) وأصول هذه الأم مهما علون، ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة ـ كما في النسب.
و. بنت الزوجة من الرضاع (وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل) وبنات أولادها مهما نزلوا، ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة.
ز. زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا (والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته، فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب، وهي أمه من الرضاع، بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع)
ح. زوجة الابن من الرضاع مهما نزل.
ط. الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع، أو عمتها أو خالتها من الرضاع، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع.
2. النوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصا في الآية، أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/610.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ أي وتحرم على الرجل المرأة التي أرضعته، فهي بالنسبة له أم، لها حرمة أمه التي ولدته، وكذلك لأصولها وفروعها، كما لأصول أمه وفروعها.. وفي الحديث الشريف: (يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب)
﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ فكل من أرضعتهم المرأة هم إخوة، ولو لم تكن قد ولدتهم.. ويحرم عليهم التزوج من بعض، حرمة الأخوة من الميلاد.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/736.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ سمّى المراضع أمّهات جريا على لغة العرب، وما هنّ بأمّهات حقيقة، ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات، ولزيادة تقرير هذا الإطلاق الذي اعتبره العرب ثم ألحق ذلك بقوله: ﴿اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ دفعا لتوهّم أنّ المراد الأمّهات إذ لولا قصد إرادة المرضعات لما كان لهذا الوصف جدوى.
2. وقد أجملت هنا صفة الإرضاع ومدّته وعدده إيكالا للناس إلى متعارفهم، وملاك القول في ذلك: أنّ الرضاع إنّما اعتبرت له هذه الحرمة لمعنى فيه وهو أنّه الغذاء الذي لا غذاء غيره للطفل يعيش به، فكان له من الأثر في دوام حياة الطفل ما يماثل أثر الأمّ في أصل حياة طفلها، فلا يعتبر الرضاع سببا في حرمة المرضع على رضيعها إلّا ما استوفى هذا المعنى من حصول تغذية الطفل وهو ما كان في مدّة عدم استغناء الطفل عنه، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنّما الرضاعة من المجاعة)
3. وقد حدّدت مدّة الحاجة إلى الرضاع بالحولين لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقد تقدّم في سورة البقرة، ولا اعتداد بالرضاع الحاصل بعد مضي تجاوز الطفل حولين من عمره، بذلك قال عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، والزهري، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة: المدّة حولان وستّة أشهر، وروى ابن عبد الحكم عن مالك: حولان وأيّام يسيرة، وروى ابن القاسم عنه: حولان وشهران، وروى عنه الوليد بن مسلم: والشهران والثلاثة، والأصحّ هو القول الأوّل.
4. ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك، وما روي أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر سهلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم، فتلك خصوصيّة لها، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجاب أرضعته، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لسهلة زوج أبي حذيفة، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين، وأبين أن يدخل أحد عليهنّ بذلك، وقال به الليث بن سعد، بإعمال رضاع الكبير، وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به.
5. أمّا مقدار الرضاع الذي يحصل به التحريم، فهو ما يصدق عليه اسم الرضاع وهو ما وصل إلى جوف الرضيع في الحولين ولو مصّة واحدة عند أغلب الفقهاء، وقد كان الحكم في أوّل أمر التحريم أن لا تقع الحرمة إلّا بعشر رضعات ثمّ نسخن بخمس، لحديث عائشة (كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرّمن ثمّ نسخن بخمس معلومات فتوفّي رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن) وبه أخذ الشافعي، وقال الجمهور: هو منسوخ، وردّوا قولها (فتوفّي رسول الله وهي فيما يقرأ) بنسبة الراوي إلى قلّة الضبط لأنّ هذه الجملة مسترابة إذ أجمع المسلمون على أنها لا تقرأ ولا نسخ بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا فطم الرضيع قبل الحولين فطاما استغنى بعده عن لبن المرضع بالطعام والشراب لم تحرم عليه من أرضعته بعد ذلك.
6. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ إطلاق اسم الأخت على التي رضعت من ثدي مرضعة من أضيفت أخت إليه جرى على لغة العرب، كما تقدّم في إطلاق الأمّ على المرضع، والرضاعة ـ بفتح الراء ـ اسم مصدر رضع، ويجوز ـ كسر الراء ـ ولم يقرأ به.
7. محلّ ﴿مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ حال من ﴿أَخَوَاتِكُمْ﴾ و﴿مِنَ﴾ فيه للتعليل والسببية، فلا تعتبر أخوّة الرضاعة إلّا برضاعة البنت من المرأة التي أرضعت الولد.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/80.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ الأم الرضاعية هي التي أرضعته، والأخت الرضاعية هي التي أرضعتها أمه، أو رضعت من ظئر رضع هو منها، أو بعبارة عامة التقيا على ثدى واحدة، ولا يشترط أن تكون الرضاعة من لبنه أو لبنها، بل إن كل من ترضع ولدا تحرم عليه بناتها جميعا صغيرة أو كبيرة.
2. وقد قرر جمهور الفقهاء أنه يعتبر من الأخوات الرضاعيات كل من رضعت من امرأة أبيه إذا كان اللبن الذي رضعته كان أبوه هو السبب فيه، وهذه العلاقة الرضاعية نشأت من قبل أبيه لا من قبل أمه، فمن رضعت من لبن أخيه لأبيه أو أخته لأبيه تعد أختار رضاعية له.
3. والأمهات الرضاعيات يشملن الأم التي أرضعته وجداته اللائى كانت العلاقة بينه وبينهن رضاعية، في أي طبقة من الطبقات، سواء أكن جدات رضاعيات له من جهة أبيه أم من جهة أمه.
4. وإنه يلاحظ أنه لا يحرم بالرضاعة الأمهات والأخوات فقط، بل البنات والعمات والخالات، وبنات الأخ والأخت، وإن نزلت درجاتهن في القرابة، وقد فهم كثيرون من المفسرين تحريم هذا كله من الآية الكريمة؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى لما سمى المرضع أما، وابنة المرضع أختا، فقد نبه بذلك إلى أنه أجرى الرضاعة مجرى النسب، ففهم بفحوى الخطاب باقى المحرمات رضاعا اللائى يعتبرن نظيرا للقريبات، وإنه قد نص على تحريم الأخت رضاعا، وليست الأخت أقرب من بنت البنت الرضاعية، فتحرم عليه بالأولى، ولقد جاءت السّنة موضحة ذلك المعنى، فقد روى أنه لما طلب إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال: (لا تحل لي إنها ابنة أخى من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وروى أن عائشة كانت قد رضعت من امرأة أبى القعيس، فجاء أخوه أفلح يستأذن عليها، فقالت: أرضعتنى امرأة أخيه، فلا آذن له، حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال: (ائذنى له فإنه عمك تربت يداك)، وذلك لأنها لما رضعت من امرأة أخيه على ولد أخيه اعتبر أبا رضاعيا لها، فيكون هو عمها.
5. الرضاعة المحرمة عند مالك وأبى حنيفة هي كل مقدار قل أو كثر، وعند الشافعي وأحمد لا يحرم إلا خمس رضعات مشبعات ليمكن أن يكون الولد جزءا ممن أرضعته؛ إذ يكون قد أخذ منها غذاء يوم كامل، ولا بد أن تكون الرضاعة في الصغر، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنما الرضاعة من المجاعة) وذلك يكون في السنتين الأوليين من حياة المولود، ولذا قال سبحانه: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة]، وقال أبو حنيفة: إن الرضاعة المحرمة هي ما تكون في الثلاثين شهرا التي أعقبت الولادة.
6. الحكمة من التحريم بالرضاعة أن المولود يتكون جسمه من جسم التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما هو جزء من أمه، التي حملته، وإذا كانت هذه غذته بدمها في بطنها، فتلك غذته بلبنها في حجرها، وربما تكون مدة الإقامة في حجرها أطول كثيرا من مدة الحمل، فكان لا بد أن يثبت لهذه الأم الرضاعية ما يثبت للأم النسبية من حرمة وكرامة، وإن تكريم المرضعات بذلك التحريم الذي يكون للأمهات الحقيقيات يشجع النساء على الرضاعة، فلا يضيع الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، وفي هذا التحريم فوق ذلك تنبيه إلى أن يتخير الآباء من يرضعن أولادهم؛ لأنهم إذا علموا أن أولادهم ستتكون أجزاؤهم ممن يرضعنهم تخيروهن من ذوات الأجسام القوية، والدماء النقية التي لا يدنسها مرض ينتقل بالوراثة، ولقد كان العرب والسلف الصالح يتخيرون مراضع أولادهم لهذه المعاني.
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1631.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اتفقوا قولا واحدا على العمل بهذا الحديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وعليه فكل امرأة حرمت من النسب تحرم مثلها من الرضاع، أما كانت أو أختا أو بنتا أو عمة أو خالة أو بنت أخ أو بنت أخت.
2. اختلفوا في عدد الرضعات التي توجب التحريم:
أ. قال الامامية: هي خمس عشرة رضعة كاملة، لا يفصل بينها رضعة من امرأة أخرى، أو يرضع الطفل من المرأة يوما وليلة، على أن يكون غذاؤه طوال هذه المدة منحصرا بلبن المرأة فقط.
ب. وقال الشافعية والحنابلة: لا بد من خمس رضعات على الأقل.
ج. وقال الحنفية والمالكية: يحصل التحريم بمجرد حصول الرضاع كثيرا كان أو قليلا، وهناك شروط أخرى ذكرناها مفصلا في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/287.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ شروع في بيان المحرمات بالسبب، وهي سبع ست منها ما في هذه الآية، وسابعتها ما يتضمنه قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية.
2. الآية بسياقها تدل على جعل الأمومة والبنوة بين المرأة ومن أرضعته وكذا الإخوة بين الرجل وأخته من الرضاعة حيث أرسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع، وهذا مما يختص بالشريعة الإسلامية على ما ستجيء الإشارة إليه.
3. صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الفريقان أنه قال إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب ولازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من الأصناف، وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، سبعة أصناف.
4. أما ما به يتحقق الرضاع وما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم والكيف والمدة وما يلحق بها من الأحكام فهو مما يتبين في الفقه، والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب.
5. أما قوله: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ فالمراد به الأخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع أمه إياها بلبن أبيه وهكذا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/264.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ أي التي صارت أمّاً لأنها أرضعتك، وهذا دليل على تحريمها ولو لم ترضع إلا مرة؛ لأنها قد أرضعت، فهو ناسخ لما روي من عشر ثم خمس رضعات محرمات، أعني: أنه ناسخ للعدد؛ لأن الحكم هنا عُلِّق على الرضاع لا على عدد من الرضاع.
2. ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ قال الإمام الهادي عليه السلام في (الأحكام): (ثم حرم سبحانه الأمهات المرضِعات لمن أرضعن من البنين والبنات على البنين وأبناء البنات والبنين وإن سفل ميلادهم؛ لأنهن بإرضاع الآباء وإن بعدن أمهاتٌ للأبناء)، دخول ذرية الرضيع هو بالسنة، والأخت من الرضاعة يعم: الأخت التي رضعتَ من أمها ولو لم ترضع هي من أمك، ويعم: الأخت التي رضعت هي من أمك ولو لم ترضع من أمها، ويعم: الأخت التي رضعت أنت وهي من امرأة ثالثة غير أمك وغير أمها فهي أمكما من الرضاعة وأنتما أخوان من رضاعها، ولا فرق بين من رضعت معها في وقت رضاعها أو قبلها ولو قبل وجودها أو بعدها ولو بعد فطامها ولو بعد فطام من بعدها من أخواتها أو إخوتها، فأنتما أخوان إذ قد حصل الرضاع.
3. ولا يعتبر في الرضاع اجتماع على لبن ولادة واحدة، فأما الأخت من الأب أي من زوج المرضعة الذي أرضعت من اللبن الحادث بعد علوقها بولد له ففيها خلاف لأنها لم ترضع من أمك ولا رضعت من أمها ولكنها بنت زوج المرضعة، فإن كانت تسمى في اللغة أختاً فقد دخلت في العموم في قوله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ لأن سبب أخوَّتها هو الرضاع من امرأة أبيها أو من امرأة أبيك أو من امرأة زوج مرضعتك، بأن رضعتَ من امرأة ورضعتْ هي من ضرَّتها، فإذا كان زوج المرضعة يسمى أباً وبنته تسمى أختاً من الأب في اللغة دخلت في عموم الآية، وإلا فتحريمها بالسنة، وظاهر الكشاف دخولها في الآية.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/39.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ بالشروط المعتبرة في تحريم الرضاع الذي ورد الحديث النبوي الشريف فيه الذي عمل به الجميع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وعلى هذا، فإن أيّ عنوان نسبيّ ينطبق على عنوان رضاعي، يؤدي إلى التحريم، فكل امرأة حرمت من الرضاع تحريم مثلها من الرضاع، سواء أكانت أمّا أم أختا أم بنتا أم عمة أم خالة أم بنت أخ أم بنت أخت، وإذا كان القرآن لم يتحدث إلّا عن الأم والأخت من الرضاعة، فإن الباقي يفهم من طبيعة المبدأ واقتضاء الأمومة والأبوّة واقتضائهما العمومة والخؤولة، واقتضاء الأخوّة عنوان ابنة الأخ والأخت، وهكذا.
2. ربما كان الأساس في سرّ تحريم الرضاع للزواج هو أن نبات لحم الرضيع واشتداد عظمه بلبن الأم يجعله كأولادها من حيث إنه جزء من بدنها، لأن نموّه كان من خلال عناصرها الجسدية في غذائه، كما هو جزء من بدنها.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/177.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ يشير الله سبحانه في هذه الآية إلى المحارم الرّضاعية والقرآن وإن اقتصر في هذا المقام على الإشارة إلى طائفتين من المحارم الرضاعية، وهي الأم الرضاعية والأخت الرضاعية فقط، إلّا أنّ المحارم الرضاعية ـ كما يستفاد من روايات عديدة ـ لا تنحصر في من ذكر في هذه الآية، بل تحرم بالرّضاعة كل من يحرمن من النساء بسبب (النسب) كما يصرّح بذلك الحديث المشهور المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب)، على أن بيان مقدار الرّضاع الموجب للحرمة والشروط والكيفية المعتبرة فيه، وغير ذلك من التفاصيل والخصوصيات متروك للكتب الفقهية.
2. فلسفة حرمة الزواج بالمحارم الرضاعية هي، أن نشوء ونبات لحم المرتضع وعظمه من لبن امرأة معينة تجعله بمثابة ابنها الحقيقي، فالمرأة التي ترضع طفلا مقدارا معينا من اللبن ينشأ وينبت معه ومنه للطفل لحم وعظم، فإنّ هذا النوع من الرضاع يجعل الطفل شبيها بأبنائها وأولادها لصيرورته جزء من بدنها كما هم جزء من بدنها، فإذا هم جميعا (أي الأخوة الرضاعيون والأخوة النسبيون كأنّهم اخوة بالنسب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/172.
24. المحرمات بسبب المصاهرة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈24⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ [النساء: 23]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه استفتي وهو بالكوفة عن نكاح الأم بعد الابنة، إذا لم تكن الابنة مست، فأرخص في ذلك، ثم إن ابن مسعود قدم المدينة، فسأل عن ذلك، فأخبر أنه ليس كما قال وإنما الشرط في الربائب، فرجع ابن مسعود إلى الكوفة، فلم يصل إلى منزله حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارق امرأته(1).
__________
(1) مالك ٢/٥٣٣.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) أنّه قال في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها، أو ماتت قبل أن يدخل بها، هل تحل له أمها؟ قال هي بمنزلة الربيبة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/١٧١.
زيد:
روي عن زيد بن ثابت (ت 45 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، ففارقها قبل أن يمسها، هل تحل له أمها؟ فقال: لا، الأم مبهمة، ليس فيها شرط، إنما الشرط في الربائب(1).
2. روي أنّه كان يقول: إذا ماتت امرأته عنده، فأخذ ميراثها؛ كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها(2).
3. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، ففارقها قبل أن يمسها، هل تحل له أمها؟ فقال: لا، الأم مبهمة، ليس فيها شرط، إنما الشرط في الربائب(1).
4. روي أنّه كان يقول: إذا ماتت امرأته عنده، فأخذ ميراثها؛ كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها(2).
__________
(1) مالك ٢/٥٣٣.
(2) ابن أبي شيبة ٤/١٧٢.
عمران:
روي عن عمران بن حصين (ت 52 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، هي مبهمة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، هي مما حرم الأم(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/١٧٣.
(2) عبد الرزاق ١/١٥٢.
مسروق:
روي عن مسروق بن الأجدع (ت 62 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن أمهات نسائكم، قال: هي مبهمة، فأرسلوا ما أرسل الله، واتبعوا ما بين الله(1).
2. روي أنّه قال: الربائب حلال ما لم تنكح الأمهات(2).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٥٢ بلفظ: هي مبهمة فدعها، وابن أبي شيبة ٤/١٧٢.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٩١٢.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، هي مبهمة، إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها، أو ماتت؛ لم تحل له أمها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، والدخول: الجماع(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٤/١٧٣.
(2) ابن جرير ٦/٥٥٩.
ابن الزبير:
روي عن عبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: الربيبة والأم سواء، لا بأس بهما إذا لم يدخل بالمرأة(1).
2. روي أنّه قال: الربيبة والأم سواء، لا بأس بهما إذا لم يدخل بالمرأة(2).
__________
(1) عبد الرزاق (١٠٨٣٣.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٩١٢.
شريح:
روي عن شريح القاضي (ت 78 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾: لا بأس بالربيبة ولا بالأم إذا لم يكن دخل بالمرأة(1).
__________
(1) عبد الرزاق ١/١٥٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ)أنّه قال: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح، وإن كانت أسفل لسبعين بطنا(1).
__________
(1) ابن المنذر ٢/٦٣١.
جابر:
روي عن جابر بن زيد (ت 93 هـ) أنّه سئل عن ربيبة الرجل ـ بنت امرأته ـ التي ليست في حجره، هل تحل لزوجها الذي دخل بها؟ قال: لا، أينما كانت، فهي على من تزوج أمها ودخل بها حرام(1).
__________
(1) الحربي في غريب الحديث ١/٢٣٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، فماتت قبل أن يدخل بها، ولها بنت، أيتزوج بنتها؟ فتلا: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، قال: لا جناح عليه أن يتزوجها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩١٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنه قال في قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾: أريد بهما الدخول جميعا(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٠٨١٧.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قلت لابن أبي نجيح: الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ فقال: سمعت عكرمة ينهى عنها، وعطاء(1).
روي عن يزيد النحوي أنه قال: وسألته ـ يعني عكرمة ـ: لا تحل له من أجل أنه دخل بأمها، قال الله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، فهي حرام(2).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٩/١٠٨.
(2) ابن أبي حاتم ٣/٩١٢.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) أنّه قال في قوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾، قال: كنا نتحدث أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك؛ فأنزل الله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، ونزلت: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤]، ونزلت: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠](1).
__________
(1) عبد الرزاق في المصنف (١٠٨٣٧.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها، أتحل له ابنتها؟قال: فقال: (قد قضى في هذه الإمام علي، لا بأس به، إن الله يقول: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لكنه لو تزوج الابنة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لم تحل له أمها)، قال قلت له: أليس هما سواء؟ قال فقال: (لا، ليس هذه مثل هذه، إن الله يقول: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ لم يستثن في هذه كما اشترط في تلك، هذه ها هنا مبهمة ليس فيها شرط، وتلك فيها شرط(1).
2. روي عن أبي الجارود أنّه قال: قا لي الإمام الباقر: (يا أبا الجارود، ما يقولون لكم في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟) قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: فأي شيء احتججتم عليهم)؟ قلت: احتججنا عليهم بقول الله عز وجل في عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى﴾ فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح عليه السلام، قال: فأي شيء قالوا لكم؟) قلت: قالوا: قد يكون ابن الابنة من الولد ولا يكون من الصلب، قال: فأي شيء احتججتم عليهم)؟ قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ قال: وأي شيء قالوا لكم؟)، قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا، فقال الإمام الباقر أنّه قال: (يا أبا الجارود، لأعطينكها من كتاب الله عز وجل إنهما من صلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يردهما إلا كافر)، قلت: وأين ذلك، جعلت فداك؟قال: (من حيث قال الله عز وجل: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ الآية إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: ـ ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ فسلهم ـ يا أبا الجارود ـ هل كان يحل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا وفجروا، وإن قالوا: لا، فهما ابناه لصلبه(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/230.
(2) الكافي 8/317.
مكحول:
روي عن مكحول الشامي (ت 116 هـ) أنه كان يكره إذا ملك الرجل عقدة امرأة أن يتزوج أمها(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٩/١٠٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن رجل تزوج امرأة، ففارقها قبل أن يمسها، هل تحل له أمها؟ فقال: لا، الأم مبهمة، ليس فيها شرط، إنما الشرط في الربائب(1).
2. روي أنّه قال: إذا ماتت امرأته عنده، فأخذ ميراثها؛ كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ فربيبة الرّجل: بنت امرأته.. وفي حجوركم معناه في بيوتكم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ معناه أزواجهم والواحدة: حليلة(3).
__________
(1) مالك ٢/٥٣٣.
(2) ابن أبي شيبة ٤/١٧٢.
(3) تفسير الإمام زيد، ص 117.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن رجل كانت له جارية يطؤها، قد باعها من رجل، فأعتقها فتزوجت فولدت، أيصلح لمولاها الأول أن يتزوج ابنتها؟قال: (لا، هي حرام عليه فهي ربيبته، والحرة والمملوكة في هذا سواء)، ثم قرأ هذه الآية ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾(1).
2. روي أنه قيل له: رجل تزوج امرأة ولم يدخل بها، تحل له أمها؟ قال فقال: (قد فعل ذلك رجل منا فلم ير به بأسا)، قال فقلت له: والله ما تفخر الشيعة على الناس إلا بهذا، إن ابن مسعود أفتى في هذه الشمخية أنه لا بأس بذلك، فقال له علي عليه السلام: (ومن أين أخذتها)؟ قال من قول الله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ قال فقال الإمام علي: (إن هذه مستثناة، وتلك مرسلة) قال فسكت، فندمت على قولي، فقلت له: أصلحك الله، فما تقول فيها؟قال: فقال: (يا شيخ، تخبرني أن الإمام علي قد قضى فيها، وتسألني ما تقول فيها!(2).
روي عن منصور بن حازم، قال كنت عند الإمام الصادق فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها، أيتزوج بأمها؟ فقال: لإمام الصادق أنّه قال: (قد فعله رجل منا فلم نر به بأسا)، فقلت: جعلت فداك، ما تفخر الشيعة إلا بقضاء علي عليه السلام في هذه الشمخية التي أفتى ابن مسعود أنه لا بأس بذلك، ثم أتى الإمام علي فسأله، فقال له علي عليه السلام: (من أين أخذتها)؟ فقال: من قول الله عز وجل: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ فقال الإمام علي: (إن هذه مستثناة وهذه مرسلة ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، فقال الإمام الصادق للرجل: (أما تسمع ما يروي هذا عن الإمام علي)؟ فلما قمت ندمت، وقلت: أي شيء صنعت، يقول هو: (قد فعله رجل منا، ولم نر به بأسا)، وأقول أنا: قضى علي عليه السلام فيها، فلقيته بعد ذلك فقلت: جعلت فداك، مسألة الرجل إنما كان الذي قلت زلة مني فما تقول فيها؟فقال: (يا شيخ، تخبرني أن الإمام علي قضى بها، وتسألني ما تقول فيها(3).
3. روي أنّه سئل عن رجل كانت له جارية فعتقت فتزوجت فولدت، أيصلح لمولاها الأول أن يتزوج ابنتها؟قال: (هي عليه حرام، وهي ابنته، والحرة والمملوكة في هذا سواء) ثم قرأ هذه الآية ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾(4)
4. روي أنّه سئل عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها، أله أن ينكح ابنتها؟قال: (لا، هي مثل قول الله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾(4).
5. روي أنّه قال: إن الإمام علي كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي قد دخلتم بهن في الحجور وغير الحجور سواء، والأمهات مبهمات دخل بالبنات أو لم يدخل، فحرموا وأبهموا ما أبهم الله(5).
6. روي أنّه قال: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في زمن يعقوب عليه السلام(6).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/230.
(2) تفسير العياشي 1/231.
(3) الكافي 5/422.
(4) الكافي 5/433.
(5) الاستبصار 3/156.
(6) نهج البيان 1/86، 22) تفسير العيّاشي 1/232.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل ينكح المرأة، ولم يجامعها حتى يطلقها، أتحل له أمها؟ قال لا، هي مرسلة، قلت: أكان ابن عباس يقرأ: (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن)؟ قال لا(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٠٨٠٥.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يعني: جامعتم أمهاتهن، ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يقول: إن لم تكونوا جامعتم أمهاتهن ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يقول: فلا حرج عليكم في تزوج البنات(1).
2. روي أنّه قال: إنما قال الله في نساء الآباء: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثم حرم النسب والصهر فلم يقل: إلا ما قد سلف؛ لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر، وقال في الأختين: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؛ لأنهم كانوا يجمعون بينهما، فحرم جمعهما جميعا إلا ما قد سلف قبل التحريم، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لما كان من جماع الأختين قبل التحريم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٦.
(2) تفسير مقاتل ابن سليمان ١/٣٦٦، وأخرجه البيهقي ٧/١٦٣.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. اجتمع أهل العلم في (الربيبة) على أنها لا تحرم على الرجل الذي كان تزوج أمها وطلقها قبل الدخول بها أو ماتت، وإنما تحرم عليه إذا دخل بها، واختلف في أم المرأة إذا لم يدخل بالابنة أن يكون الشرط لا حقا بهما جميعا، وكذلك روي عن علي قال هي بمنزلة الربيبة، وعن جابر قال ينكح أمها إن شاء، فأتاهم فنهاهم عن ذلك، فقيل: إنها ولدت أولادا، فقال: ولو ولدت، إلى هذا يذهبون أولئك، وهو الظاهر من الآية.
2. احتج بعض أصحابنا في ذلك أن الثنيا الملحق في آخر الكلام ربما يلحق الكل، على ما تقدم من الكلام، وربما يقع على ما يليه، فلما كان غير ملحق على الكل من المذكور، وقع على ما يليه.
3. سؤال وإشكال: فإن قيل: يلحق على ما تقدم من الذكر ما يحتمل ليس على ما يحتمل، والجواب: ألا ترى أن الله تعالى قال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3] لم يلحق الكل، ولا وقع على ما يليه خاصة، ولكنه لحق على ما احتمل عليه، فعلى ذلك في هذا لم يلحق الكل؛ لأنه لا يحتمل، ووقع على الأمّ والرّبيبة؛ لأنه يحتمل.
4. احتج أصحابنا (2) أن الحرمة قد تثبت بقوله عزّ وجل: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] إلى قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ فلا تستحل بالشك، وفي الربيبة لم تثبت إلا بالشرط؛ فلا تحرم بالشك، وقيل ـ أيضا ـ: إن الدخول لو كان شرطا في الأم والربيبة جميعا لاكتفي بذكر نساء الأمهات والربائب، فنقول: أمهات نسائكم من ربائبكم اللاتى دخلتم بهن، ولم يحتج إلى أن يذكر ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ على ما اكتفى بذكر الحرمة في الأنساب والرضاع في الأصول عن الشعوب، فلما لم يكتف بذلك، دل أن الربائب مخصوصات بالشرط دون الأمهات، ومما يبين ذلك أن الربيبة لو لم تذكر لم يجز أن يبقى من الكلام: وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن ولو لم يذكر الأمهات، فبقي من الكلام: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ ـ كان كلاما تامّا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيّما رجل تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده، فلا بأس بأن يتزوّج ابنتها، وأيّما رجل تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها)، وعن ابن عباس وعمران بن حصين في (أمهات نسائكم)، قالا: هي مبهمة، وقال أكثر أهل العلم: إذا تزوج الرجل امرأة ودخل بها، لم يجز له أن يتزوج ابنتها، وإن لم تكن ربيبة وفي بيته وحجره، وهي في ذلك بمنزلتها لو كانت في حجره يربيها.
5. أجمعوا جميعا: أن الجمع بين المرأة وأمّها وابنتها في الجماع في ملك اليمين حرام، وكذلك روى عن عمر أنه سئل عن ذلك؟ فقال: ما أحب ذلك.
6. سؤال وإشكال: إن الخطاب ـ كما ذكرت ـ يدل على أن الشرط في الدخول بالأمهات إنما هو بسبب الربائب، فما تنكر أن يكون حكم الأمّهات حكم الربائب كما كان حكم حلائل الأبناء حكم نساء الآباء؟ والجواب: لا يجوز أن يقاس المنصوصات بعضها على بعض، وإنما يقاس ما لا نصّ فيه على المنصوص؛ فعلى ذلك الأول، ثم يجب أن ننظر أي حكمة أوجبت تحريم الجمع بين المحارم بين محارم الرجال ومحارم النساء؟ وروي عن أنس قال إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يكرهون الجمع بين القرائب في النكاح، وقالوا: لأنه يورث الضغائن، أو كلام نحو هذا؛ فقيل له: يا أبا حمزة، من منهم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، وروي مرفوعا أنه قال لا ينكح كذا على كذا، ولا كذا على كذا، فإنهن يتقاطعن، ونراه قال: (لا تنكح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها)، وروي في بعضها أنه يوجب القطيعة، وروي عن ابن مسعود أنه كره الجمع بين ابنتي عمّ، وقال: لا أحرم، ولكن أكره؛ لأنه يوجب القطيعة، فلم يحرم؛ لأن صلة القرابة فيما بينهما ليست بمفترضة، والصلة بين المحارم مفترضة، فإذا كانت مفترضة فالجمع بينهما يحمل على القطيعة؛ فحرم، وعلى ذلك في نساء الآباء وحلائل الأبناء إذا فارق واحد من هؤلاء امرأته فلعله يندم على ذلك؛ فيريد العود إليها، فإذا تزوجها أبوه أو ابنه، أورث ذلك فيما بينهما الضغائن والقطيعة؛ لذلك حرم وكذلك هذا المعنى في الابنة؛ لأنه يذكر استمتاع هذه في استمتاع هذه؛ فيكون جامعا بينهما في الاستمتاع؛ لذلك حرم.
7. ثم اختلف في الجماع والدخول بها إذا كان من غير رشد؛ قال أصحابنا: يحرم كما يحرم الحلال، ويمنع نكاح الربيبة كما يمنع الحلال، وقال قوم: لا يحرم، ولا يمنع نكاح الربيبة، واستدلوا في ذلك بقول الله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ لأن الله تعالى حرم ربائب النساء إذا دخل بالأمهات، والمزني بها ليست بزوجة للزاني؛ فلا تحرم ابنتها، لكنه لا حجة لهم في ذلك؛ وذلك أن الله تعالى ذكر الدخول بهن، ولم يذكر النكاح، ولا خص الدخول في النكاح، بل ذكر الدخول، وهو على كل دخول، رشدا كان أو سفاحا، والسفاح أحق في الحرمة من الحلال؛ إذ حكمه أغلظ وأشد؛ فعلى ذلك في إيجاب الحرمة من الحلال يجيء أن يكون أشد وأغلظ، ولو كان ذكر الدخول ـ هاهنا ـ في النكاح لم يكن فيه ما يمنع وجوب الحرمة إذا كان في غير النكاح؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ والربيبة التي لا تكون في حجر الرجل مثلها في الحرمة، ولم يجعل قوله تعالى: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ خصوصا فيها دون ما أشبهها، وكذلك يجوز ألا يجعل قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ خصوصا الدخول بالزوجات دون ما أشبههن ـ وهن الموطوءات ـ مع ما ذكرنا أن ليس في الآية ذكر نسائنا؛ لذلك لم يكن فيه دليل الحظر في غيره.
8. وبعد: فإنا قد ذكرنا فيما تقدم أن ليس في حظر شيء في حال حظره في غير تلك الحال، والحرمة من ذلك الاستمتاع أنه إذا استمتع بإحداهما لم يكن له الاستمتاع بالأخرى، ولا يحل أن يتزوج بالأخرى؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها) ومعلوم أنه لا ينظر إلى فرجهما في وقت واحد، وإنما ينظر في وقتين، فهو ـ والله أعلم ـ إذا نظر إلى فرج إحداهما ثم نظر إلى فرج أخرى يذكر نظره في فرجها في وقت نظره في فرج هذه، فهو كالقاضي وطره فيهما، كذلك في الزنا كهو في النكاح على أنهم أجمعوا: أن من وطئ أمة له لم يكن له أن يتزوج ابنتها؛ فدل أن الدخول بها في النكاح وفي غير النكاح سواء، وأنه محرم، وما أجمعوا عليه ـ أيضا ـ أنه إذا وطئ امرأة في النكاح الفاسد لشبهة حرمت ابنتها عليه، وهو وطء حرام؛ فدل هذا على أن التحريم إنما يكون بالاستمتاع بها لا غير، وروي ـ أيضا ـ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: من نظر إلى فرج امرأة لم تحلّ له أمّها ولا ابنتها)، وعن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته قال حرمت عليه امرأته، وعن عبد الله قال لا ينظر الله في رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها، إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا، رحمهم الله.
9. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ﴾ الآية، الأصل: أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين المحرمات في الأنساب بيان الإبلاغ، وفي غير الأنساب بيان الكفاية؛ إذ بين في الأنساب الحرمة في الطرفين: في اللواتي علون وسفلن: نحو الأمهات والبنات، ثم في اللواتي يتصلن بالآباء والأمهات: نحو العمات والخالات، ثم في اللواتي يشركن الطرفين بالاسم: كالأخوات، وذكر في الرضاع من الأنفس أحد الطرفين، وفي الشعوب ما يشركن الطرفين؛ على الاكتفاء بذكر طرف من الأنفس عن الطرف الآخر، وبذكر المشتركات من الشعوب؛ اكتفاء عن ذكر المنفردات؛ فعلى ذلك أمر الأنفس في خطاب الحرمات، فلما ذكر في ذلك الأمهات مذكر له ما كان بها في حال الاستمتاع بها، وقد حرم ذلك الجمع حرمة أبدية ما ينبغي أن يجعل بما يذكر، وسبيل الحظر بالقلب وليس أمر الابن والأب هذا؛ إذ إليهما في الابتداء الاختيار والإيثار، وكل يؤثر الذي له على الذي هو لغيره، وفي النساء إنما يجب بعد الخطاب، وليس منهن عرض، لذلك لم يعتبر حالهن على أن الأمهات في العرف يؤثرن لذّات بناتهن على لذّاتهن؛ فلا يلحقهن في الفراق لأجل البنات غضاضة، ويلحق للبنات، فلذلك فرق.
10. وأمّا بعد الدخول فهو موجب الحرمة، لا من حيث الإيثار؛ إذ من جهة حرام أو حلال يوجب ذلك؛ فلذلك اختلف الأمر أن قال بشر: دل تخصيص ذكر الأصلاب في حلائل الأبناء على رفع حرمة الرضاع، أو على ألا يكون الابن إلا من الصلب، ونحن نقول: لا دلالة فيه على ما ذكرنا، لو استدلّ به على الكون كان أقرب؛ إذا خص ذكر الأصلاب ولو لم يكن الابن إلا من الصلب لكان القول بحلائل أبنائكم كافيا عن ذكر الأصلاب، مع ما فيه وجوب الإلحاق بقوله: (يحرم من الرّضاعة..)، ومعلوم أن الحرمة من الولادة تلحقه وإن لم يكن منه حقيقة الولادة بما كان سببا له، فكذلك يصير مرضعا لما كانت هي مرضعة، وإن لم يكن منه حقيقة الإرضاع؛ لما كان هو سبب لما به ورود اللبن، وأيد ذلك أمر حلائل أبناء الأبناء، بل حلائل أبناء البنات، وإن لم يكونوا للصلب؛ للاتصال به بالنسب على البعد عما ذكرنا أحق، والله أعلم، مع ما يجوز أن يقال: صار الرضاع ولادا في الحكم بالخبر؛ فيصير للصلب بالحكم نحو قوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75]
11. ثم قد يعتبر فيهم الولاء في الحجاب؛ لما جاء: (إنّ الولاء لحمة كلحمة النّسب)، ويصير ذو نسب ورحم في الحكم ما ذكر من الخبر، فمثله الأول، مع ما قد قيل: إن فائدة ذكر الصلب ألا تتحقق حرمة حلائل أبناء التبنى بالأصلاب؛ ولذلك قال ـ والله أعلم ـ ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: 37] وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾؛ إذ يحتمل الجمع في العقد، والجمع في الملك، والجمع في الاستمتاع ويحتمل الجمع في جنس الاستمتاع، ويحتمل ألا يرجع المراد إلى معنى من ذلك، ولكن يرجع إلى الكل، ثم كان الاستمتاع بهما مرة الحرمة إلا بيقين وأيضا أن عقدة النكاح قد حرم عليه وعليها، لكن الذي حرم عليه في محارمها عليها في الكل.
12. ثم معلوم أن يملك الزوج فيها ما به يحل لغيره من الفراق حضرة فعله، فلما دخل عجز [عن]، فيجب ألا تجب الحرمة فيما لا يكون منه نسب، أو في وقت لا يتمكن، أو بإيجاب الحقوق، فيجب ألا تجب في مماسة الأمة دون الفرج، أو للاستمتاع خاصة؛ فيجب استواء حال السفاح والنكاح.
13. ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ قال بعضهم: هو كناية عن الجماع، لكنه عندنا: الدخول بها: هو أخذه يدها في إدخالها في موضع الخلوة والجماع، لا نفس الجماع، كما يقال: فلان دخل بفلان موضع كذا، لا يراد به عين الدخول به المعروف، وهو أخذ اليد والدخول فيه؛ لذلك قلنا بأنه إذا أدخلها في موضع وخلا بها، وجب كمال المهر بظاهر الآية، ووجبت الحرمة.
14. وقوله عزّ وجل أيضا: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ كنى به عن الجماع من حيث لا يكون الجماع إلا بالدخول بها مكانا يسترهما، وإلا فحقيقة الدخول بآخر ليس بجماع، ولا يصلح القول به مطلقا دون ذكر المكان، إلا في المرأة بما يعلم أنها لماذا يدخل؟ وفيم يدخل؟ فجائز أن يكون في الحرمة على حق الكناية، والمراد منه الجماع، وجائز على حقيقة الدخول بها مكانا لذلك؛ إذ هو الظاهر، وهذا الثاني يكون بأخذ يدها أو شيء منها؛ ليكون هو الداخل بها لا هي، ووجوده لا يكون إلا للشهوة؛ فيكون هو المذكور للحرمة، فإذا لم يظهر حقيقة المراد يجب الاحتياط في إيجاب الحرمة من كل وجه، أو تحقيق هذا؛ إذ هو أظهر له، وله أدلة ثلاثة:
أ. أحدها: ما روي: (ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها) أنه أوجب اللعن بالنظر، فلو لا أن نظر الأول قد حرم الثاني لم يلحقه به اللعن، ثم النظر دون اللمس في العبادات والأحكام، فاللمس أحق في إيجاب الحرمة.
ب. الثاني: ما بينا أن علة الحرمة الاستمتاع، ومعلوم أن معناه في القبلة والمباشرة أعلى منه في السبب الذي يقضى به الاستمتاع، وهو النكاح، وقد أوجب له، فالقبلة أحق أن يوجب لها، وذلك كما أوجب بسبب الحدث ـ وهو النوم ـ حكمه، ثم لا يجب إلا في حال دون حال، وقد يجب لنفس الحدث على كل حال، فمثله سبب الاستمتاع من حقيقته
ج. الثالث: أن كل أنواع الاستمتاع في الحرمة والحل متصل بالجماع، وبخاصة في حقوق الأملاك؛ فعلى ذلك في فسخ الأملاك وتحريمها، على أنه يبعد أن يكون المرء يستمتع بالمرأة عاما ثم يستمتع بها ولدها، وكذلك بابنتها دون الفرج، أو أن يكون من لا يقدر على الإيلاج لعنّة أو جبّ يرتفع عنه الحرمة أبدا، فيشترى أمّا وابنة ويستمتع بهما أبدا، وذلك بعيد؛ فيجب الحرمة من الوجه الذي ذكرت.
15. وقوله عزّ وجل: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، يحتمل ذكر الصلب وجوها:
أ. أحدها: يحتمل أن يكون ذكر الصلب؛ ليعلم أن الحرمة في حليلة الولد كهو في الولد الصلب، وكذلك الحرمة في حليلة ابن الرضاع كهي في حليلة ابن الصلب؛ على ما كانت في محارم الرضاع، وإن لم يذكر: نحو أن ذكر أمّهات الرضاع وأخواته، ولم يذكر غيرها، ثم دخل ما دون ذلك في الحرمة؛ فعلى ذلك هذا.
ب. وقال بشر: دل تخصيص الأصلاب على فسخ حرمة حليلة الابن عن الرضاعة؛ إذ لا يكون من الرضاع ابن، قلنا: لو لم يكن من الرضاع ابن لم يكن لذكر الصلب للابن معنى ولا فائدة؛ دل أنه يكون من الرضاع ابن على ما يكون من النسب، وأن الحرمة من الرضاع كهي في النسب، وإن كانوا في الحقوق مختلفين: نحو العتاق، يعتق بعض على بعض، ويوجب لبعض في أموال بعض النفقة، وحقوق بمثلها لا توجب في محارم الرضاع، وذلك ـ والله أعلم ـ أن الرضاع انتفاع، والنسب حدوث نفس بعضهم من بعض، فإذا كان كذلك لم يوجب الرضاع إلا حرمة الانتفاع خاصّة، وهو الاستمتاع، وأمّا النسب فهو كون الولد منه، وحدوث نفسه منه؛ فأوجب مع ذلك حقوقا، ولأن في إقرار بعضهم في يد بعض ـ مماليك وعبيدا ـ قهرا وغلبة لم يوجب ذلك؛ فما لم يحصل لبعضهم قهر بعض، لذلك كان الجواب ما ذكر.
ج. وقيل: إنه ذكر أبناء الأصلاب؛ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوج امرأة زيد بن حارثة بعد ما طلقها، وقد كان تبناه، فعابه المنافقون على ذلك، وقالوا: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/94.
(2) يقصد الحنفية
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ يدخل فيه المملوكة، والمعقود عليها، وكذلك قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يتناول الجميع، وكذلك قوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ عام في الجميع على كل حال، في العقد والوطي، وإنما أخرجنا جواز ملكهما بدلالة الإجماع، ولا يعارض ذلك قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ لأن الغرض بهذه الآية مدح من يحفظ فرجه إلا عن الأزواج، أو ملك الايمان، فأما كيفية ذلك فليس فيه، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ إلا على وجه الجمع بين الأم والبنت، أو الأختين.
2. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ وهي امرأة الأب، سواء دخل بها أو لم يدخل، ويدخل في ذلك نساء الأجداد وإن علوا، من قبل الأب والأم بلا خلاف، وقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء منقطع، وتقديره: لكن ما سلف لا يؤاخذكم الله به، وليس المراد أن ما سلف حال النهي تجوز استدامته، بلا خلاف، وقيل إن إلا بمعنى سوى، وقوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا﴾ (أن) في موضع الرفع، والتقدير: حرمت عليكم هذه الأشياء، والجمع بين الأختين، وكل من جرمه الله في هذه الآية فإنما هو على وجه التأبيد، مجتمعات ومنفردات، إلا الأختين فإنهما تحرمان على وجه الجمع دون الانفراد.
3. يمكن أن يستدل بهذه الآية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات الأنساب المحرمات، لأن التحريم عام، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع، وإن كان فيه خلاف، وأما المرأة التي وطؤها بلا تزويج، ولا ملك، فليس في الآية ما يدل على أنه يحرم وطي أمها وبنتها، لأن قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ وقوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يتضمن إضافة الملك، إما بالعقد أو بملك اليمين، فلا يدخل فيه من وطأ من لا يملك وطأها، غير أن قوماً من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد والملك بالسنة والأخبار المروية في ذلك، وفيه خلاف بين الفقهاء.
4. الدخول المذكور في الآية قيل فيه قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس: هو الجماع، واختاره الطبري.
ب. الثاني: قال عطاء: وما جرى مجراه من المسيس، وهو مذهبنا، وفيه خلاف بين الفقهاء، وقوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ يعني نساء البنين للصلب، دخل بهن البنون أو لم يدخلوا، ويدخل في ذلك أولاد الأولاد من البنين والبنات، وإنما قال: من أصلابكم) لئلا يظن أن امرأة من يتبني به تحرم عليه، وقال عطاء: نزلت الآية حين نكح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون في ذلك، فنزلت: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ وقال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ فأما حلائل الأبناء من الرضاعة فمحرمات بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)
5. إنما سميت المرأة حليلة لأمرين:
أ. أحدهما: لأنها تحل معه في فراش.
ب. الثاني: لأنه يحل له وطؤها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/159.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره وقيل لها ربيبة لتربيته إياها وهي في موضع مربوبة، نحو قتيلة في موضع مقتولة.
ب. الحلائل: أزواج الابن، والذكر حليل، وجمعه أحلة كأعزة وأعزاء، واختلفوا لم سمي بذلك؟ فقيل: لأن كل واحد منهما يحل له جماع صاحبه، يقال: حل فهو حليل، كصح فهو صحيح، وقيل: لأنها يحل معها في فراش من الحلول، وهو النزول.
2. قال عطاء: نزل قوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ حين تزوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون في ذلك، فنزلت هذه الآية ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ ونزل ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ و﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾
3. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ يعني حرم عليكم أم المرأة ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ يعني بنات نسائكم من غيركم ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ أي في ضمانكم وتربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان أي في تربيته.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾:
أ. قيل: المراد بالدخول الجماع عن ابن عباس.
ب. وقيل: الجماع وما يجري مجراه من المسيس والتجريد عن عطاء.
5. اختلفوا في قوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ إلى ماذا يرجع؟
أ. فروي عن ابن عباس أن ذلك يرجع إلى أم المرأة وإلى الربيبة، وكان يقرأ: وأمهات نسائكم التي دخلتم بهن) ويحلف بِاللهِ ما نزل إلا هكذا، ويقول: هي بمنزلة الربائب فلما كان الربائب لا تحرم بنفس العقد كذلك أمهات النساء، وهو مروي عن علي وقلد وجابر وابن عمر وابن الزبير، وذكر إسماعيل بن إسحاق عن ابن مسعود مثله.
ب. وروي أن الأم مبهمة، والشرط في الربيبة، وروي نحوه عن عمران بن حصين، وعن زيد مثله، وروي عن ابن عباس مثل ذلك، وعن ابن مسعود أنه رجع إلى هذا القول، وهو قول مسروق والحسن وعطاء، وقول أكثر الفقهاء وأبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو الصحيح.
6. ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ بأم الربيبة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا إثم عليكم في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ أي وحرم عليكم حلائل أبنائكم يعني أزواجهم، وهذا أيضًا مبهم.
7. ثم أزال الشبهة في باب امرأة مَنْ تَبَنَّاهُ، فقال: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ أي وحرم عليكم الجمع بينهما، وذلك في العقد وحقوقه في الحرائر، والوطء في ملك اليمين، ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي ما مضى:
أ. قيل: إلا ما كان من يعقوب جمع بين أختين ليّا أم يهوذا، وراحيل أم يوسف عن عطاء والسدي.
ب. وقيل: إلا ما قد سبق منكم فإنكم لا تؤاخذون به إذا تبتم وتمسكتم بالتحريم، وهذا هو الصحيح.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا﴾:
أ. قيل: غفور لذنوب عباده إذا تابوا يستر عليهم بعفوه، رحيم بهم لم يكلفهم فوق طاقتهم.
ب. وقيل: غفور لمن جمع في الجاهلية، ثم اتقى بعد نزول التحريم، رحيم لم يحرم ما حرم عن بخل، لكن لما علم من مصالحهم في ذلك، ولأنه يؤدي إلى قطيعة الرحم.
9. تدل الآية الكريمة على تحريم أم المرأة والربيبة، فالعلماء كلهم على أن تحريم أم المرأة مبهم، وفي الربيبة مشروط بالدخول، وقد ذكرنا الخلاف فيه، وما روي عن الصحابة، ويدل قوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ على أن الزنا بالأم يحرم الربيبة، هكذا استدل به علي بن موسى القمي، والمروي عن جماعة أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة، منهم عمران بن حصين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب، وروي عن ابن عباس لا يحرم إلا الحلال، فأما الوطء بالشبهة وفي النكاح الفاسد فيحرم بالاتفاق، واللمس بالشهوة يحرم عند أكثر العلماء، وعن ابن شبرمة أنه لا يحرم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/579.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الربائب: جمع ربيبة، وهي بنت زوجة الرجل من غيره، سميت بذلك لتربيته إياها، فهي في معنى مربوبة، نحو قتيلة، في موضع مقتولة، ويجوز أن تسمى ربيبة، سواء تولى تربيتها، أو لم يتول، وسواء كانت في حجره، أو لم تكن، لأنه إذا تزوج بأمها فهو رابها، وهي ربيبته، والعرب تسمي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم، ويوقعونه، يقولون: هذا مقتول، وإن لم يقتل بعد، وهذا ذبيح، وإن لم يذبح بعد، إذا كان يراد ذبحه وقتله، وكذلك يقولون: هذا أضحية لما أعد للتضحية، وهذه قتوبة وحلوبة: أي هي مما تقتب وتحلب، وقد يقال لزوج المرأة ربيب ابن امرأته، بمعنى أنه رابه، كما يقال شهيد وخبير، بمعنى شاهد وخابر.
ب. الحلائل: جمع الحليلة، وهي بمعنى المحللة، مشتقة من الحلال، والذكر: حليل، وجمعه أحلة، كعزيز وأعزة، سميا بذلك لأن كل واحد منهما، يحل له مباشرة صاحبه، وقيل: هو من الحلول، لان كل واحد منهما يحال صاحبه: أي يحل معه في الفراش
2. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾: أي حرم عليكم نكاحهن، وهذا يتضمن تحريم نكاح أمهات الزوجات، وجداتهن، قربن أو بعدن، من أي وجه كن، سواء كن من النسب، أو من الرضاع، وهن يحرمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، لان الله تعالى أطلق التحريم، ولم يقيده بالدخول.
3. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾: يعني بنات نسائكم من غيركم، ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، وهو جمع حجر الانسان: والمعنى في ضمانكم وتربيتكم، ويقال: فلان في حجر فلان: أي في تربيته، ولا خلاف بين العلماء أن كونهن في حجره ليس بشرط في التحريم، وإنما ذكر ذلك، لان الغالب أنها تكون كذلك، وهذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها، وتحريم بنت ابنها وبنت بنتها، قربت أم بعدت، لوقوع اسم الربيبة عليهن.
4. ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾: وهذه نعت لأمهات الربائب لا غير، لحصول الاجماع على أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، قال المبرد: واللاتي دخلتم بهن: نعت للنساء اللواتي هن أمهات الربائب لا غير، والدليل على ذلك إجماع الناس على أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، ومن أجاز أن يكون قوله ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ هو لأمهات نسائكم، فيكون المعنى: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، ويخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب، قال الزجاج: والدليل على صحة ذلك، أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، لا يجيز النحويون مررت بنسائك، وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء،وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليه السلام قال: إن عليا كان يقول: (الربائب عليكم حرام من الأمهات اللاتي قد دخلتم بهن كن في الحجور أو في غير الحجور) والأمهات مبهمات، دخل بالبنات أو لم يدخل بهن، فحرموا ما حرم الله، وأبهموا ما أبهم الله.
5. اختلف في معنى الدخول على قولين:
أ. أحدهما: إن المراد به الجماع، عن ابن عباس.
ب. والآخر: إنه الجماع وما يجري مجراه من المسيس، والتجريد، عن عطاء، وهو مذهبنا، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء.
6. ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾: يعني بأم الربيبة ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾: أي لا إثم عليكم في نكاح بناتهن، إذا طلقتموهن، أو متن.
7. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾: أي وحرم عليكم نكاح أزواج أبنائكم، ثم أزال الشبهة في أمر زوجة المتبنى به، فقال: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ لئلا يظن أن زوجة المتبنى به، تحرم على المتبني، وروي عن عطاء أن هذه نزلت حين نكح النبي امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون في ذلك فنزل: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، وقوله: (وما جعل أدعياءكم أبنائكم)، و﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، وأما حلائل الأبناء من الرضاعة فمحرمات أيضا، بقوله: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب)
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/48.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ أمّهات النّساء: يحرّمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين ومسروق، وعطاء، وطاووس والحسن، والجمهور، وقال عليّ رضي الله عنه في رجل طلّق امرأته قبل الدّخول: له أن يتزوّج أمّها، وهذا قول مجاهد، وعكرمة.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ الرّبيبة: بنت امرأة الرّجل من غيره، ومعنى الرّبيبة: مربوبة، لأنّ الرجل يربّيها، وخرج الكلام على الأعمّ من كون التّربية في حجر الرّجل، لا على الشّرط.
3. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ قال الزجّاج: الحلائل: الأزواج، وحليلة بمعنى محلّة، وهي مشتقة من الحلال، وقال غيره: سمّيت بذلك، لأنها تحلّ معه أينما كان، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغويّ، قال الحليل: الزّوج، والحليلة: المرأة، وسمّيا بذلك، إما لأنّهما يحلّان في موضع واحد، أو لأنّ كلّ واحد منهما يحالّ صاحبه، أي: ينازله، أو لأنّ كلّ واحد منهما يحلّ إزار صاحبه.
4. ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ قال عطاء: إنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء، والكلام في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ على نحو ما تقدّم في الآية التي قبلها، وقد زادوا في هذا قولين آخرين:
أ. أحدهما: إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أمّ يوسف وأختها، وهذا مرويّ عن عطاء، والسّدّيّ، وفيه ضعف لوجهين:
• أحدهما: أنّ هذا التّحريم يتعلّق بشريعتنا، وليس كلّ الشّرائع تتّفق، ولا وجه للعفو عنّا فيما فعله غيرنا.
• الثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعسر عليه، والقول
ب. الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أنّ العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للإنسان أن يختار إحداهما، ومنه حديث فيروز الدّيلميّ قال أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (طلّق إحداهما)، ذكره القاضي أبو يعلى.
__________
(1) زاد المسير: 1/390.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع العاشر من المحرمات هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، ويدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب:
أ. ومذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل.. وحجته أن قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه، فوجب القول ببقائه على عمومه، وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه:
• الأول: وهو أن الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فإذا علقناه بإحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية، فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل، وانه لا يجوز.
• الثاني: وهو أن عموم هذه الجملة معلوم، وعود الشرط اليه محتمل، لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصا بالجملة الأخيرة فقط، ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا، والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك، وانه لا يجوز.
• الثالث: وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى، فاما أن يكون مقصورا عليها، وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضا. والأول باطل، لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا، وذلك باطل بالإجماع، والثاني باطل أيضا، لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة (من) هاهنا التمييز ثم يقول: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيكون المراد بكلمة (من) هاهنا ابتداء الغاية كما يقول: بنات الرسول من خديجة، فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز، ويمكن أن يجاب عنه فيقال: إن كلمة (من) للاتصال كقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما أنا من دد ولا الدد مني) ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا.
• الرابع: في الدلالة على ما قلناه: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت)، وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث، وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة، فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة، وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها، وإن ماتت لم يتزوج أمها، واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم، لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول، ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة، وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة، لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم.
ب. وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عباس، وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ ثم ذكر شرطا وهو قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا.
2. النوع الحادي عشر من المحرمات هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾
3. الربائب: جمع ربيبة، وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة، لأن الرجل هو يربها يقال: ربيت فلانا أربه: وربيته أربيه بمعنى واحد.
4. الحجور جمع حجر، وفيه لغتان قال ابن السكيت: حجر الإنسان وحجره بالفتح والكسر، والمراد بقوله: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ أي في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربي طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحضن الذي هو الإبط، وقال أبو عبيدة: في حجوركم أي في بيوتكم.
5. روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي أنه قال: الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر، ثم فارق الأم بعد الدخول فإنه يجوز له أن يتزوج الربيبة، ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ شرط في كونها ربيبة له، كونها في حجره، فإذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط، فوجب أن لا تثبت الحرمة، وهذا استدلال حسن.
6. أما سائر العلماء فإنهم قالوا: إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول، وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الإنسان تكون في تربيته، فهذا الكلام على الأعم، لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم.
7. تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ قال لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا، فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت، وهذا الاستدلال في نهاية الضعف، وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين:
أ. الأول: أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك، فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين:
• الأول: أن قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها.
• الثاني: أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها، وإلى من لا تكون كذلك، بدليل قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها، وأما بيان أن المزنية ليست كذلك، فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها، أما في الزنا فإنه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه، فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية.
ب. الثاني: لو أوصى لنساء فلان، لا تدخل هذه الزانية فيهن، وكذلك لو حلف على نساء بني فلان، لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية، فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم.
8. النوع الثاني عشر من المحرمات هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، واختلفوا:
أ. قال الشافعي: لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه.
ب. وقال أبو حنيفة: يجوز.
9. احتج الشافعي، فقال: جارية الابن حليلة، وحليلة الابن محرمة على الأب، أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول: الحليلة فعلية فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول:
أ. أما إذا قلنا: الحليلة أو بمعنى المفعول، ففيه وجهان:
• أحدهما: أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة، فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة، ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له.
• الثاني: أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول، فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول، ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد، فكانت حليلة له.
ب. أما إذا قلنا: الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضا:
• الأول: أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك.
• الثاني: أن كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة، فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة، وأما المقدمة
10. حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ﴾ لا يقال: إن أهل اللغة يقولون: حليلة الرجل زوجته لأنا نقول: إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية، فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه، فكيف وهو شهادة على النفي؟ فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة، ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية، فقول من يقول: إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه.
11. ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ احترازا عن المتبني، وكان المتبني في صدر الإسلام بمنزلة الابن، ولا يحرم على الإنسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه، نكح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب، وكانت زينب ابنة عمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة، فقال المشركون: إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4] وقال: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: 37]
12. ظاهر قوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة، فلما قال في آخر الآية: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع، إلا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ يتناول الرضاع وغير الرضاع، فكان قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أخص منه، فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد.
13. اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد، وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن، سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن، أما ما روي ابن عباس سئل عن قوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها، أو غير مخصوص بذلك، فقال ابن عباس: أبهموا ما أبهمه الله، فليس مراده من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة، بل المراد من هذا الإبهام التأييد، ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب: انها من المبهمات، أي من اللواتي ثبت حرمتهن على سبيل التأبيد، فكذا هاهنا.
14. اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/28.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار، وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى، قالوا: ومعنى قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ أي اللاتي دخلتم بهن، ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾، وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب، وروي عن ابن عباس وجابر وزيد ابن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد، قال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين، وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها، وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح، والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي، وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة، قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل، فقلت له: أكان ابن عباس يقرأ: (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن)؟ قال: لا لا، وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه: فقال زيد: (لا، الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب)، قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾
2. ويؤيد هذا القول من جهة الاعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون (الظريفات) نعتا لنسائك ونساء زيد، فكذلك الآية لا يجوز أن يكون ﴿اللَّاتِي﴾ من نعتهما جميعا، لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني، وأنشد الخليل وسيبويه:
çإن بها أكتل أو رزاما...خويربين ينفقان الهاما خويربينé
يعني لصين، بمعنى أعني، وينقفان: يكسران، نقفت رأسه كسرته، وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت) أخرجه في الصحيحين.
3. ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن، فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم.
4. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ هذا مستقل بنفسه، ولا يرجع قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ إلى الفريق الأول، بل هو راجع إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم.
5. الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة، واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها، فلو كانت في بلد آخر وفارق الام بعد الدخول فله أن يتزوج بها، واحتجوا بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين:
أ. أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها.
ب. الثاني: الدخول بالأم، فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) فشرط الحجر، ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك.
6. قال ابن المنذر والطحاوي: أما الحديث عن علي فلا يثبت، لان راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا يعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) فعم، ولم يقل: اللائي في حجري، ولكنه سوى بينهن في التحريم، قال الطحاوي: وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب، لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك.
7. ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يعني بالأمهات، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم، وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها، واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب، فروي عن ابن عباس أنه قال الدخول الجماع، وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما، واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي، واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شي من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها، وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وقال الثوري: يحرم واللذة.
8. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة، سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل.. فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقيل: لان كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
9. أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، كان مع العقد وطئ أو لم يكن، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح، لان النكاح الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه، فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح، لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم:
10. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علما بامرأته، ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك، وقالت طائفة: تحرم عليه، روي هذا القول عن عمران بن حصين، وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك، وأن الزنى يحرم الام والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق، والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له، لان الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه، وهو قول الشافعي وأبي ثور، لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز، وروى الدار قطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: (لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح)
11. ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن جريج وقوله: (يا غلام من أبوك) قال فلان الراعي، فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطي الحلال، فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده، وهي رواية ابن القاسم في المدونة، ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها) ولم يفصل بين الحلال والحرام، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها)، قال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة، وقال عبد الملك الماجشون: إنها تحل، وهو الصحيح لقوله تعالى: ﴿وَهُوَالَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً﴾ يعني بالنكاح الصحيح، على ما يأتي في (الفرقان) بيانه، ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك، وأخبر بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فثبتت البنوة وأحكامها، فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟ فالجواب ـ إن ذلك موجب ما ذكرناه، وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل.
12. ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، ولما تزوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة زيد ابن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه! وكان عليه السلام تبناه، على ما يأتي بيانه في (الأحزاب)، وحرمت حليلة الابن من الرضاع ـ وإن لم يكن للصلبـ بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام: (يحرم الرضاع ما يحرم من النسب)
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/106.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ أي: اللاتي دخلتم بهن، وزعموا: أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب، وروي عن ابن عباس، وجابر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، ومجاهد، قال القرطبي: ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة، ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة.
2. وقد أجيب عن قولهم: إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب: بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه: أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات، على أن يكون الظريفات نعتا للجميع، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتا لهما جميعا، لأن الخبرين مختلفان، قال ابن المنذر: والصحيح: قول الجمهور: لدخول جميع أمهات النساء في قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾
3. ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور: ما أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها دخل بالابنة أو لم يدخل، وإذا تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثم طلّقها، فإن شاء تزوّج الابنة) قال ابن كثير في تفسيره مستدلا للجمهور: (وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا، فذكر هذا الحديث، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره)، قال في الكشاف: (وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى)، ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم.
4. ويدخل في لفظ الأمهات: أمهاتهنّ، وجداتهنّ، وأمّ الأب، وجدّاته، وإن علون، لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته وإن سفل، ويدخل في لفظ البنات: بنات الأولاد وإن سفلن، والأخوات؛ تصدق على الأخت لأبوين، أو ل أحدهما، والعمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدّك في أصليه أو أحدهما، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ، والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت.
5. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه، والمحرمات بالمصاهرة أربع: أمّ المرأة، وابنتها، وزوجة الأب، وزوجة الابن.
6. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره، فهي مربوبة، فعيلة: بمعنى مفعولة، قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر، فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها، وقد روي ذلك عن عليّ، قال ابن المنذر، والطحاوي: لم يثبت ذلك عن عليّ، لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عليّ، وإبراهيم هذا لا يعرف، وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم، والحجور: جمع حجر: والمراد: أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب ـ وقيل: المراد بالحجور: البيوت، أي: في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة، قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: في نكاح الربائب، وهو تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله.
7. وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال الدخول: الجماع، وهو قول طاوس، وعمرو بن دينار، وغيرهما، وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والليث، والزيدية: إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي، قال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع: أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، أو قبل النظر إلى فرجها؛ لشهوة: ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع، انتهى، وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها، واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها، وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة، وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة، وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي، والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف: هو النظر في معنى: الدخول، شرعا أو لغة، فإن كان خاصا بالجماع؛ فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع؛ بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع؛ كان مناط التحريم هو ذلك، وأما الربيبة في ملك اليمين: فقد روي عن عمر بن الخطاب: أنه كره ذلك، وقال ابن عباس: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله، وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين، لأن الله حرّم ذلك في النكاح قال ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم.
8. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة؛ سميت بذلك: لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ، فهي: فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم: إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقيل: لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه، وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ وقوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾
9. اختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسدا: هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع، قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار: أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده، وأجمع العلماء: على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس، أو قبل، حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه، فوجب تحريم ذلك تسليما لهم، ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خلاف ما قلناه.
10. ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ وصف للأبناء، أي: دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ ومنه: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ وأما زوجة الابن من الرضاع، فقد ذهب الجمهور: إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل: إنه إجماع، مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب، ووجهه ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ولا خلاف أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
11. وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا: هل يقتضي التحريم أو لا؟ فقال أكثر أهل العلم: إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحدّ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنى بها وبابنتها، وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنا يقتضي التحريم، حكي ذلك عن عمران بن حصين، والشعبي، وعطاء، والحسن، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وحكي ذلك عن مالك، والصحيح عنه: كقول الجمهور، احتج الجمهور بقوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ وبقوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم، ولا من حلائل أبنائهم، وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوّجها أو ابنتها، فقال: (لا يحرّم الحرام الحلال)، واحتج المحرّمون: بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا، وهذا احتجاج ساقط، واحتجوا أيضا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها) ولم يفصل بين الحلال والحرام، ويجاب عنه بأن هذا مطلق؛ مقيد بما ورد من الأدلة الدالة: على أن الحرام لا يحرّم الحلال.
12. واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري: إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل قال: إذا تلوّط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته، وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت؛ لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به، ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين: بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات، لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه، على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/512.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ﴾ شامل لجدَّات النساء وإن علون، من أيِّ جهة، وللجدَّات من الرضاع من أيِّ جهة كذلك، والأمَّهات من الرضاع ﴿وَرَبَآئِبُكُمْ﴾ القريبات والبعيدات ما تناسلن، وهنَّ بنات أزواجكم من غيركم، ولو ولدنهنَّ من غيركم بعدما فارقتموهنَّ، وجاء مرفوعًا: أنَّه (إذا نكح الرجل المرأة لم تحلَّ أمُّها، دخل بالابنة أو لم يدخل، وتحرم البنت إن دخل بالأمِّ)، وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، أي: مربوبة، كما يربَّى الولد، ولحقته التاء لتغليب الاسميَّة، وإلَّا ففعيل بمعنى مفعول لا تلحقه التاء إلَّا نادرًا.
2. ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم﴾ جريٌ على الغالب لا قيدٌ؛ فلا يُفهم منه حلُّ الربيبة التي لم تربَّ في الحجْر، والمفرد (حجْر) بفتح الحاء وكسرها وإسكان الجيم، وهو مقدَّم الثوب، أو ما دون الإبط إلى الكشح، والمراد لازم الكون فيه وهو التربية، وقال أبو عبيدة: ﴿فِي حُجُورِكُم﴾: في بيوتكم، وهو كذلك جريٌ على الغالب لا قيد، وروي عن عليِّ أنَّ قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم﴾ قيدٌ، وأنَّه تحلُّ التي ليست في الحجر، وكان ابن مسعود يقول بذلك ثمَّ رجع إلى الجمهور، وفائدة ذكر الحجر التشنيع كأنهنَّ الأزواج الأمَّهات ﴿مِن نِّسَآئِكُم﴾ حال من الربائب، أو من ضميرهنَّ المستتر في قوله: ﴿فِي حُجُورِكُم﴾، ﴿اللَّاتِي دَخَلتُم بِهِنَّ﴾ أي: جامعتموهنَّ أو نظرتم فروجهنَّ أو مسستموها.
3. ومن فعل ذلك بزنى بامرأة حرمت عليه هي وبناتها وأمَّهاتها، وحرمت هي على أولاده، وكذا عند أبي حنيفة أنَّ لمس الزوجة ونحوها كالجماع، وأنَّ الزنى يحرِّم المصاهرة، تحرم به المزنيَّة على أبي الزاني وإن علا، وعلى أولاده وإن سفلوا، وعلى الزاني أمَّهاتها، وإن علون، وبناتها وإن سفلن، إلَّا أنَّه زعم لا تحرم على الزاني مزنيَّته، وزعم الشافعيُّ أنَّ الزنى لا يوجب حرمة المصاهرة؛ لأنَّ المزنيَّة ليست زوجًا لزانيها، وأنَّه إِنَّمَا يوجبها الوطء بشبهة أو ملك يمين.
4. ومن فارق المرأة قبل الدخول وما يلتحق به حلَّت له بنتها، وحرمت عليه أمُّها، فالعقد على البنت يحرِّم الأمَّ، وإنَّما يحرِّم البنتَ الدخولُ على الأمِّ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجل طلَّق امرأة قبل الدخول بها: (إنَّه تحلُّ له بنتها لا أمُّها)، وزعم بعض عن عليٍّ: أنَّه لا تحرم الأمُّ بالعقد على البنت، بل بوطء البنت.
5. ﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ تصريح بالمفهوم، دفعًا لقياس الربائب على أمَّهات النساء في التحريم بمطلق العقد، ﴿وَحَلآئِلُ﴾ أزواج، وسمِّيت حليلة لأنَّها حلَّت لزوجها، ولأنَّها تحلُّ مع زوجها حيث كان، وفي لحاف واحد أو فراش، وكذا يقال للزوج: حليل، وكلاهما فعيلة بمعنى فاعل، أو لأنَّ كلًّا منهما يحلُّ للآخر إزاره، فهو بمعنى مفعول، أو الزوج حليل بمعنى فاعل، والزوجة حليل بمعنى مفعول.
6. ومثل حليلة الابن سُرِّيَّتُه في التحريم، ﴿أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنَ اَصْلَابِكُمْ﴾ وإن سفلوا، فإنَّ ابن الابن وإن سفل وابن البنت وإن سفل من صلب الجدِّ بواسطة أو وسائط، ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، فخرج الابن الذي بالتبنِّي، فإِنَّ حليلته لا تحرم على متبنِّيه، فإنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوَّج زينب بنت جحش بنت عمَّته أميمة بنت عبد المطلب بعدما تزوَّجها زيد بن حارثة، وقد تبنَّاه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وزوجة الربيب ـ قيل ـ تحرم على زوج أمِّه فتنكشف له كزوج ابنه، وقيل: تكره، وقيل تحلُّ له فلا تنكشف له.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/152.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ أي أصول أزواجكم ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ جمع ربيبة، بمعنى مربوبة، قال الأزهريّ: ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره، انتهى، سميت بذلك لأنه يربّها غالبا، كما يربّ ولده.
2. ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ جمع حجر (بفتح أوله وكسره) أي في تربيتكم، يقال فلان في حجر فلان، إذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربي طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم، كبنات الصلب، والدخول بهن كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها، وضرب عليها الحجاب، أي أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية.
3. ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن.
4. ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ ـ راجع إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها، لقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، وروى ابن جرير عن علي في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها: أيتزوج بأمها؟ قال هي بمنزلة الربيبة، وروي أيضا عن زيد بن ثابت وعبد الله ابن الزبير ومجاهد وابن جبير وابن عباس، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد ابن محمد بن الصابونيّ، فيما نقله الرافعيّ عن العباديّ، وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه، وتوقف فيه معاوية، وذلك فيما رواه ابن المنذر عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف، قال فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي: هل لك في أمها؟ قال فسألت ابن عباس وأخبرته، فقال: انكح أمها، قال وسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها، فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية، فأخبره بما قالا، فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله، وأنت وذاك، والنساء سواها كثير، فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها، وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم، قالوا: الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب، وروي في ذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل، أخرجه الترمذي، قال الحافظ ابن كثير: هذا الخبر غريب، وفي إسناده نظر، وقال الزجاج: قد جعل بعض العلماء ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ وصفا للنساء المتقدمة والمتأخرة، وليس كذلك، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا، لأنّ النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية بـ (من) ولا يجوز أن تقول: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء.
5. قال الناصر في (الانتصاف): والقول المشهور عن الجمهور، إبهام تحريم أم المرأة، وتقييد تحريم الربيبة بدخول الأم، كما هو ظاهر الآية، ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها، ومخاطبات ومسارّات، فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة، وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما والثاني: استدلّ بقوله تعالى: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربّها، روى ابن أبي حاتم عن مالك بن أوس بن الحدثان قال كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك:؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف، قال فانكحها، قلت: فأين قول الله ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ قال إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك؟، قال الحافظ ابن كثير: إسناده قويّ ثابت إلى عليّ بن أبي طالب، على شرط مسلم، وإلى هذا ذهب الأمام داود بن عليّ الظاهريّ وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعيّ عن مالك، واختاره ابن حزم.
6. والجمهور على تحريم الربيبة مطلقا، سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن، قالوا: والخطاب في قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ خرج مخرج الغالب، فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكنّ في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن، ولم يرد كونهن كذلك بالفعل، وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها، كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن، وفي شرف التقلب في حجورهم، وتحت حمايتهم وتربيتهم، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم، ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم، لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل ـ كذا قرره أبو السعود ـ، وفي (الانتصاف): إن فائدة وصفهن بذلك، هو تخصيص أعلى صور المنهيّ عنه، بالنهي، فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام، في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور، والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جميع صوره، وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان (وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان) فقال: أو تحبين ذلك؟ قالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحبّ من شاركني في خير أختي، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن ذلك لا يحل لي، قلت: فإنا نحدّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، فقال: لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن، (وفي رواية للبخاري: لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي)، قال ابن كثير: فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة، وحكم بالتحريم بذلك.
7. اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى: ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ معناه الكنائيّ، وهو الجماع، لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره بلاغة وأدبا، ولذا فسره به ابن عباس وغير واحد، فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع، فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها، ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع، لأنه يقال: دخل بها، إذا أمسكها وأدخلها البيت، وفي (فتح البيان): (الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف، هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة، فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به، من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كل مناط التحريم هو ذلك)، و(في شرح القاموس للزبيديّ): (ودخل بامرأته كناية عن الجماع، وغلب استعماله في الوطء الحلال، والمرأة مدخول بها، قلت: ومنه الدخلة، لليلة الزفاف)
8. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ أي موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين، جمع حليلة، سميت بذلك لحلها للزوج، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: 37]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4]، فالسر في التقييد هو إحلال حليلة المتبنّى، ردّا لمزاعم الجاهلية، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء، كأنه قيل: بخلاف من تبنيتموهم، فلكم نكاح حلائلهم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/67.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القسم الثالث محرمات المصاهرة: أي التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع الآتية، قال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ يدخل في الأمهات أم المرأة التي يتزوجها الرجل وجداتها، ويدخل في النساء من يدخل بها الرجل بملك اليمين كما تدخل في مثل قوله تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 222] وقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 186] وقوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 21] وإن لم تدخل في قوله: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [البقرة: 230] ولا قوله: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة: 225] لأن الطلاق والإيلاء خاص بالزوجات، ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بها لأن القرآن لم يشترط الدخول هنا كما اشترطه في بنتها كما يأتي، وهي بمجرد العقد تكون من نسائه، وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم من علماء الملة ومنهم أئمة الفقه الأربعة، وروي عن بعض الصحابة أن من عقد على امرأة فماتت أو طلقها قبل أن يدخل بها جاز له أن يتزوج أمها، منهم ابن عباس وزيد بن ثابت في إحدى الروايتين عنهما، وأما المملوكة فلا تعد من نسائه إلا إذا استمتع بها وحينئذ تحرم عليها أمها.
2. وقوله عز وجل: ﴿وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن﴾ يدخل فيه تحريم بنات امرأة الرجل عليه إذا كان قد دخل بها والمراد بالدخول بالمرأة يعرفه كل عربي حتى عامة المولدين، ويدخل في ذلك بنات بناتها وبنات أبنائها وإن سفلن لأنهن من بناتها في عرف أهل اللغة، ولا يدخل في هذا التحريم أم زوجة الابن وبنتها.
3. والربائب جمع ربيبة وربيب الرجل ولد امرأته من غيره سمي ربيبا له لأنه يربه كما يرب ولده أي يسوسه فهو بمعنى مربوب، والقاعدة أن يقال في مؤنثه ربيب كمذكرة وإنما قيل ربيبة لأنه جعل اسما، والجماهير على أن قوله تعالى: ﴿واللاتي في حجوركم﴾ وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة وهو أن تكون في حجر زوج أمها (والحجر بالفتح والكسر الحضن وهو مكان ما يحجره ويحوطه الإنسان أمام صدره بين عضديه وساعديه) كما قال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: 31] لأن الغالب أنهم لم يكونوا يقتلونهم إلا من خشية الفقر أو من الفقر وذلك ليس قيدا للنهي فلو قتلوهم بسبب آخر كان محرما أيضا، ويقال فلان في حجر فلان أي في كنفه ورعايته قالوا وهو المراد في الآية وفيه مع ذلك إشارة إلى جواز جعل الربيبة في الحجر حقيقة أو تجوزا كأن تكون في غاية القرب من زوج أمها يخلو بها ويسافر معها ويعاملها بكل ما يعامل به بنته، وقال محمد عبده: ذكر هذا الوصف لإشعار الرجل بالمعنى الذي يوضح له على التحريم ويقررها في نفسه وهو كون بنت زوجته في مكان ابنته لأن زوجته كنفسه ففرعها كفرعه فهو وصف يحرك عاطفة الأبوة في الرجل، وهو كون الربيبة في حجره يحنو عليها حنوه على بنته، وليس عندي عنه في هذه الآية غير هذه العبارة.
4. وقالت الظاهرية: إن هذا الوصف قيد وإن الرجل لا تحرم عليه ابنة امرأته إذا لم تكن في حجره، وروي هذا عن بعض الصحابة، فقد روى عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال كان عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها (أي حزنت) فلقيني علي بن أبي طالب فقال ما لك؟ فقلت توفيت المرأة فقال: لها بنت؟ قلت نعم وهي بالطائف؛ قال كانت في حجرك؟ قلت لا، قال انكحها؛ قلت فأين قوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾؟ قال إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك، ويروى أن ابن مسعود كان يقول بذلك ثم رجع عنه، ويمكن أن يقال إن التي لا تكون في حجره لا تكون ربيبة له في الواقع لأنه لا يربها ولا يسوسها ويمكن أن يقال أيضا إنه لا يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة التي تفنى فيها أو لا تجتمع معها عاطفة الشهوة، فالاحتياط عندي أن لا يتزوجها ولا يخلو بها ولا سيما إذا لم يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة.
5. وقد استدل بعضهم بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، على أن الربيبة تحرم وإن لم تكن في حجر الزوج لأنه تفريع لبيان مفهوم ما قيد به التحريم فلو كان الكون في الحجور قيدا أيضا لقال: فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لم تكن ربائبهن في حجوركم فلا جناح عليكم، والجناح فسروه بالإثم، وعندي أن تفسيره بالتضييق والأذى أحكم وأولى، قال صاحب اللسان: والجناح ما تُحمّل من الهم والأذى، أنشد ابن الأعرابي:
çولاقيت من جُمْل وأسباب حبها...جناح الذي لاقيت من تربها قبلé
وقال أيضا: وقيل في قوله: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا إثم عليكم ولا تضييق.. والحاصل أن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها.
6. وذهبت الحنفية إلى أن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة، بل قالوا أيضا إذا لمس يد أم امرأة في حال الشهوة ولو خطأ فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا! وألحقوا ذلك بحرمة المصاهرة بالقياس وتوسعوا في ذلك توسعا ضيقوا فيه تضييقا! ورد عليهم بأن الزنا ومقدماته ليس فيها شيء من معنى المصاهرة التي جعلها الشارع كالنسب في بعض الأحكام وبأن لفظ الآية ينافي في ذلك، فاللواتي يزنى بهن أو يلمسن أو يقبلن أو ينظر إليهن بشهوة لا يصرن من نساء الزناة أو المتمتعين منهن بما دون الزنا، فعبارة القرآن لا تدل على ذلك بنصها ولا فحواها، وحكمة حرمة المصاهرة وعلتها لا تظهر فيها، ثم إن ما ذكروه من الأحكام في ذلك هو مما تمس إليه الحاجة وتعم به البلوى أحيانا، وما كان الشارع ليسكت عنه فلا ينزل به قرآن ولا تمضي به سنة ولا يصح فيه خبر ولا أثر عن الصحابة وقد كانوا قريبي العهد بالجاهلية التي كان الزنا فيها فاشيا بينهم فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركا في الشرع أو تدل عليه علله وحكمه لسألوا عن ذلك وتوفرت الدواعي على نقل ما يفتون به.
7. ثم قال سبحانه: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة ويقال للرجل حليل واللفظ مأخوذ من الحلول فإن الزوجين يحلان معا في مكان واحد وفراش واحد وقيل من الحل بالكسر أي كل منهما حلال للآخر وقيل من حل الإزار (بفتح الحاء) ويدخل في الحلائل الإماء اللواتي يستمتع بهن واللفظ يصدق عليهن بكل معنى قيل في اشتقاقه، ويدخل في الأبناء أبناء الصلب مباشرة وبواسطة كابن الابن وابن البنت فحلائلهما تحرم على الجد، ولا يدخل فيه الابن من الرضاعة لأنه ليس من صلبه لا بالذات ولا بالواسطة فهو يخرج بهذا القيد بحسب المتبادر منه وبذلك قال بعض علماء الملة ولكن المروي عن أئمة الفقه الأربعة ـ إلا ما روي من قول للإمام الشافعي ـ أن ابن الرضاع تحرم حليلته إما لدخوله في الأبناء هنا وجعل القيد لإخراج الداعي الذي يتبنى وإما لما تقدم من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ورد عليهم الآخرون بأن حرمة امرأة الابن لا تحرم بالنسب وإنما تحرم بالمصاهرة فهذا حجة عليكم وبأن الداعي ليس ابنا فيحتاج إلى إخراجه لا حقيقة كما هو بديهي ولا شرعا ولا عرفا فإن الله تعالى لما أنزل: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4] بطل هذا العرف في الإسلام.
8. قال ابن القيم في تقرير حجة المخالفين للمذاهب الأربعة في هذه المسألة ما نصه: وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فهو من أكبر أدلتنا وعمدتنا في المسألة فإن تحريم حلائل الآباء والأبناء إنما هو بالصهر لا بالنسب والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قصر تحريم الرضاع على نظيره من النسب لا على شقيقه وهو الصهر فيجب الاقتصار بالتحريم على مورد النص، قالوا: والتحريم بالرضاع فرع على تحريم النسب لا على تحريم المصاهرة، فتحريم المصاهرة أصل قائم بذاته، والله سبحانه لم ينص في كتابه على تحريم الرضاع إلا من جهة النسب ولم ينبه على التحريم به من جهة الصهر ألبتة بنص ولا إيماء ولا إشارة، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر أن يحرم به ما يحرم من النسب، وفي ذلك إرشاد وإشارة إلى أنه لا يحرم به ما يحرم الصهر، ولولا أنه أراد الاقتصار على ذلك لقال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والصهر، قالوا: وأيضا فالرضاع مشبه بالنسب ولهذا أخذ منه بعض أحكامه وهو الحرمة والمحرمية فقط دون التوارث والإنفاق وسائر أحكام النسب، فهو نسب ضعيف فأخذ بحسب ضعفه بعض أحكام النسب ولم يقو على سائر أحكام النسب وهي ألصق به من المصاهرة مع قصوره عن أحكام مشبهه وشقيقه، وأما المصاهرة والرضاع فإنه لا نسب بينهما ولا شبهة نسب ولا بعضية ولا اتصال قالوا: ولو كان تحريم الصهرية ثابتا لبينه الله ورسوله بيانا شافيا يقيم الحجة ويقطع العذر، فمن الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم والانقياد، فهذا منتهى النظر في هذه المسألة فمن ظفر فيها بحجة فليرشد إليها، وليدل عليها، فإنا لها منقادون، وبها معتصمون، والله الموفق للصواب.
__________
(1) تفسير المنار: 4/477.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القسم الثالث محرمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع الآتية:
أ. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ ويدخل في الأمهات الجدات، ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بالبنت بل يكفى مجرد العقد، وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم وعليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة.
ب. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ الربائب جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره، سمى ربيبا لأن الرجل يربّه ويسوسه ويؤدبه كما يؤدب ولده، وقوله: اللاتي في حجوركم وصف لبيان الحال الغالب في الربيبة وهى أن تكون في حجر زوج أمها، وللاشعار بالمعنى الذي يوضح علة التحريم ويحرك عاطفة الأبوة في الرجل وهى كونها في حجره يحنو عليها حنوّه على بنته، ويدخل في التحريم كل بنات امرأة الرجل إذا كان قد دخل بها وبنات بناتها وبنات أبنائها، لأنهن من بناتها في عرف اللغة، ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي إن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها، وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة، وكذلك أيضا إذا لمس يد أمّ امرأته بشهوة فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا، ولم يوافقهم على ذلك كثير من الأئمة، لأنه لم يؤثر فيه خبر ولا أثر عن الصحابة فيه شيء وقد كانوا قريبى العهد بالجاهلية التي كان الزنا فاشيا فيها بينهم، فلو كانوا فهموا لذلك مدركا من الشرع وعلله لسألوا عنه وتوافرت الدواعي على نقل ما أفتوا به.
ج. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ الحلائل واحدها حليلة وهى الزوجة ويقال أيضا للرجل حليل إذ أن الزوجين يحلّان معا في مكان واحد وفراش واحد، ويدخل في الأبناء أبناء الصلب مباشرة أو بواسطة كابن الابن وابن البنت، فحلائلهما تحرم على الجد، كما يدخل الابن من الرضاعة فتحرم حليلته لما تقدم من قوله (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)
__________
(1) تفسير المراغى: 4/222.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. المحرمات بالمصاهرة خمس:
أ. أصول الزوجة مهما علون، فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته، وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون، ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة: سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾
ب. فروع الزوجة مهما نزلن، فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته، وبنات أولادها، ذكورا كانوا أم إناثا مهما نزلوا، ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾
ج. زوجات الأب والأجداد من الجهتين ـ مهما علوا ـ فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه، وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا.. ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.. أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه.
د. زوجات الأبناء، وأبناء الأولاد مهما نزلوا، فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه، وامرأة ابن ابنه، أو ابن بنته مهما نزل: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾.. وذلك إبطالا لعادة الجاهلية في تحريم زوجة الابن المتبنى، وتحديده بابن الصلب، ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم ـ كما جاء في سورة الأحزاب.
هـ. أخت الزوجة.. وهذه تحرم تحريما مؤقتا، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل، والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.. أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/609.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ أي أم الزوجة.. سواء أكان معقودا على ابنتها ولم يدخل بها أم مدخولا بها.. فلها حينئذ حرمة الأم، على من تزوج ابنتها، تحرم عليه حرمة مؤبدة.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ والربيبة: الصغيرة المربّاة في بيت الرجل المتزوج بأمها.. ويراد بها هنا مطلق بنات الزوجة.. فإنهن يحرمن على زوج الأم، سواء تربين في بيت الزوج أم نشأن بعيدا عنه.. وذلك بشرط أن تكون الأم مدخولا بها، أما العقد عليها فلا يحرّم زواج بناتها ممن عقد عليها ثم طلقها ولم يدخل بها.
3. والتعبير عن بنات الزوجة بالربائب، لأنهن على صلة مع أمّهن، وهى في بيت زوجها.. إذ أن من شأن البنات ألا ينقطعن عن أمهن، ولو كنّ في بيت غير بيت أبيهن.. ومن هنا كان التعبير عنهن بالربائب اللائي في الحجور، حتى ينظر إليهن الرجل نظرته إلى بناته الصغيرات، فلا تمتد عينه إلى النظر إليهن نظر شهوة.
4. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ وهن زوجات الأبناء الحقيقيين الرجل، لا الأبناء بالتبني.. فهؤلاء الأبناء بالتبني لا يحرم على مثل هذا الأب زواج من تزوج بهن أبناؤه بالتبنّي بعد طلاقهن وانقضاء عدتهن، وقد كان العرب في الجاهلية، يلحقون الابن المتبنّى بالابن من الصلب في هذا، فلما جاء الإسلام فرق بين الحالين في قوله تعالى: ﴿وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَيَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ﴾
5. وبهذا وضع الإسلام حدّا لفوضى الأنساب التي كانت شائعة في الجاهلية، حيث يخلط الرجل من يتبنّى من أبناء الغير بأبنائه، ليكتسب بهم كثرة وقوة!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 2/736.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ هؤلاء المذكورات إلى قوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ هنّ المحرّمات بسبب الصّهر، ولا أحسب أنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون شيئا منها، كيف وقد أباحوا أزواج الآباء وهنّ أعظم حرمة من جميع نساء الصهر، فكيف يظنّ أنهم يحرّمون أمّهات النساء والربائب وقد أشيع أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد أن يتزوّج درّة بنت أبي سلمة وهي ربيبته إذ هي بنت أمّ سلمة، فسألته إحدى أمّهات المؤمنين فقال: (لو لم تكن ربيبتي لما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة)، وكذلك حلائل الأبناء إذ هنّ أبعد من حلائل الآباء، فأرى أنّ هذا من تحريم الإسلام وأنّ ما حكى ابن عطية عن ابن عباس ليس على إطلاقه.
2. وتحريم هؤلاء حكمته تسهيل الخلطة، وقطع الغيرة، بين قريب القرابة حتّى لا تفضي إلى حزازات وعداوات، قال الفخر: (لو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه، ولم تدخل على الرجل امرأته وابنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة، ولتعطّل على الزوج والزوجة أكثر المصالح، ولو كان الإذن في دخول هؤلاء دون حكم المحرمية فقد تمتدّ عين البعض إلى البعض وتشتدّ الرغبة فتحصل النفرة الشديدة بينهنّ، والإيذاء من الأقارب أشدّ إيلاما، ويترتّب عليه التطليق، أمّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع، وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فيبقى النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة) وعليه فتحريم هؤلاء من قسم الحاجيّ من المناسب.
3. الربائب جمع ربيبة، وهي فعلية بمعنى مفعولة، من ربّه إذا كفله ودبّر شؤونه، فزوج الأمّ رابّ وابنتها مربوبة له، لذلك قيل لها ربيبة، والحجور جمع حجر ـ بفتح الحاء وكسرها مع سكون الجيم ـ وهو ما يحويه مجتمع الرّجلين للجالس المتربّع، والمراد به هنا معنى مجازي وهو الحضانة والكفالة، لأنّ أوّل كفالة الطفل تكون بوضعه في الحجر، كما سمّيت حضانة، لأنّ أوّلها وضع الطفل في الحضن.
4. ظاهر الآية أنّ الربيبة لا تحرم على زوج أمّها إلّا إذا كانت في كفالته، لأن قوله ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ وصف والأصل فيه إرادة التقييد كما أريد من قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ فظاهر هذا أنّها لو كانت بعيدة عن حضانته لم تحرم، ونسب الأخذ بهذا الظاهر إلى علي بن أبي طالب، رواه ابن عطية، وأنكر ابن المنذر والطحاوي صحّة سند النقل عن علي، وقال ابن العربي: إنّه نقل باطل، وجزم ابن حزم في المحلّى بصحّة نسبة ذلك إلى علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، وقال بذلك الظاهرية، وكأنّهم نظروا إلى أنّ علّة تحريمها مركّبة من كونها ربيبة وما حدث من الوقار بينها وبين حاجرها إذا كانت في حجره وأمّا جمهور أهل العلم فجعلوا هذا الوصف بيانا للواقع خارجا مخرج الغالب، وجعلوا الربيبة حراما على زوج أمّها، ولو لم تكن هي في حجره، وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك هو النظر إلى علّة تحريم المحرّمات بالصهر، وهي التي أشار إليها كلام الفخر المتقدّم، وعندي أنّ الأظهر أنّ يكون الوصف هنا خرج مخرج التعليل: أي لأنهنّ في حجوركم، وهو تعليل بالمظنّة فلا يقتضي اطّراد العلّة في جميع مواقع الحكم.
5. ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ ذكر قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ ليبني عليه ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ وهو قيد في تحريم الربائب بحيث لا تحرم الربيبة إلّا إذا وقع البناء بأمّها، ولا يحرّمها مجرّد العقد على أمّها، وهذا القيد جرى هنا ولم يجر على قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ بل أطلق الحكم هناك، فقال الجمهور هناك: أمّهات نسائكم معناه أمّهات أزواجكم، فأمّ الزوجة تحرم بمجرد عقد الرجل على ابنتها لأنّ العقد يصيّرها امرأته، ولا يلزم الدخول ولم يحملوا المطلق منه على المقيّد بعده، ولا جعلوا الصفة راجعة للمتعاطفات لأنّها جرت على موصوف متعيّن تعلّقه بأحد المتعاطفات، وهو قوله: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ المتعلق بقوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ ولا يصلح تعلّقه ب ﴿أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾، وقال علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وعبد الله بن عبّاس، ومجاهد، وجابر، وابن الزبير: لا تحرم أمّ المرأة على زوج ابنتها حتّى يدخل بابنتها حملا للمطلق على المقيّد، وهو الأصحّ محملا، ولم يستطع الجمهور أن يوجّهوا مذهبهم بعلّة بيّنة، ولا أن يستظهروا عليه بأثر، وعلّة تحريم المرأة على زوج ابنتها تساوي علّة تحريم ربيبة الرجل عليه، ويظهر أنّ الله ذكر أمّهات النساء قبل أن يذكر الربائب، فلو أراد اشتراط الدخول بالأمّهات في تحريمهنّ على أزواج بناتهنّ لذكره في أوّل الكلام قبل أن يذكره مع الربائب، وهنالك رواية عن زيد بن ثابت أنّه قال إذا طلّق الأمّ قبل البناء فله التزوّج بابنتها، وإذا ماتت حرمت عليه ابنتها، وكأنّه نظر إلى أنّ الطلاق عدول عن العقد، والموت أمر قاهر، فكأنّه كان ناويا الدخول بها، ولا حظّ لهذا القول.
6. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ الحلائل جمع الحليلة فعيلة بمعنى فاعلة، وهي الزوجة، لأنّها تحلّ معه، وقال الزجّاج: هي فعيلة بمعنى مفعولة، أي محلّلة إذ أباحها أهلها له، فيكون من مجيء فعيل للمفعول من الرباعي في قولهم حكيم، والعدول عن أن يقال: وما نكح أبناؤكم ـ أو ـ ونساء أبنائكم إلى قوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾ تفنّن لتجنّب تكرير أحد اللفظين السابقين وإلّا فلا فرق في الإطلاق بين الألفاظ الثلاثة، وقد سمي الزوج أيضا بالحليل وهو يحتمل الوجهين كذلك، وتحريم حليلة الابن واضح العلّة، كتحريم حليلة الأب.
7. ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ تأكيد لمعنى الأبناء لدفع احتمال المجاز، إذ كانت العرب تسمّي المتبنّى ابنا، وتجعل له ما للابن، حتّى أبطل الإسلام ذلك وقوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ [الأحزاب: 5] فما دعي أحد لمتبنّيه بعد، إلّا المقداد بن الأسود وعدّت خصوصيّة، وأكّد الله ذلك بالتشريع الفعلي بالإذن لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بتزوّج زينب ابنة جحش، بعد أن طلّقها زيد بن حارثة الذي كان تبنّاه، وكان يدعى زيد بن محمد، وابن الابن وابن البنت، وإن سفلا، أبناء من الأصلاب لأنّ للجدّ عليهم ولادة لا محالة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/81.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ هذه النصوص تعرضت للمحرمات بسبب المصاهرة، وهى تتم ما ابتدأه سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ التي تعرضنا لذكر أحكامها في ابتداء القول في المحرمات، وهذه النصوص شملت ثلاث طوائف:
أ. أولاها: ﴿أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ وأمهات من كانت زوجة للشخص يكن حراما سواء أكن أمهات صلبيات أم جدات، فيشمل النص كل الجدات، لما ذكرنا من أن كلمة الأمهات تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك، ولبيان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما من عقد عليها وافترق تحرم عليه، سواء أدخل بها أم لم يدخل؛ لأن الأم توحش صدر ابنتها إذا تزوجت من مطلقها، ولأن الأم لا يليق بها أن تتطلع إلى الزواج ممن كان زوج ابنتها، ولو لم يدخل بها، فإن ذلك مخل بكرامة الأمومة وشرفها وحنانها، وهو سبيل لقطع رحمها، وشيوع ذلك يؤدى إلى الفساد.
ب. الثانية: بينها الله تعالى بقوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ والربيبة هي ابنة الزوجة لأن الزوج في أكثر الأحوال يربّها أي يربيها ويعطف عليها، وهى في غالب الأحوال تكون في حجره، أي في بيته وتحت رعايته، فقوله تعالى: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ كناية عن الرعاية والحياطة والعطف، وغيرها من أنواع البر التي يحوط بها أولاد زوجته من غيره إن كان رجلا عطوفا كريما، وهذا الوصف جار مجرى العادة، والتعبير فيه مجازى لبيان قبح من يتزوج بنات امرأته، وقد اشترط للتحريم أن يكون قد دخل بزوجته التي افترق عنها، وأراد أن يتزوج ابنتها، ولذلك صرح سبحانه وتعالى بالحل، إن لم يكن قد دخل بالأم وافترق عنها وأراد الزواج بالبنت، إذ قال سبحانه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي لا إثم عليكم في أن تعقدوا عليهن، وإن المعاني التي من أجلها حرم الزواج بالأم عند العقد على البنت ليست قوية في حال التزوج بالبنت بعد الافتراق عن الأم، فالأم لها من الحنان والعطف والشفقة ما يجعلها تغفر لابنتها تزوجها ممن كان زوجها إذا لم يكن دخول، ولأن البنت ليس فيها من الكرامة والاحترام والشرف ما للأم الرءوم العطوف، لذلك اشترط في التحريم الدخول بها، والحكمة في التحريم واضحة؛ لأنه لو كانت الإباحة، فيباح للرجل أن يطلق الأم المدخول بها ويتزوج ابنتها، ويطلق البنت ويتزوجها، لأدى ذلك إلى إلى تقطيع الأرحام بين الأم والبنت، ولأدى إلى التضييق في الأسرة، فلا يباح للرجل أن يضم إليه أولاد امرأته، ولا يباح له أن يعطف على بناتها، ويؤويهن عنده إن كن في حاجة إلى إيواء، خشية أن يؤدى ذلك إلى الرغبة في الزواج بواحدة منهن.
ج. الثالثة بين سبحانه وتعالى تحريمها بقوله: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ والحلائل جمع حليلة وهى الزوجة التي تحل، والأبناء يشملون الأولاد من الطبقة الأولى والطبقات الأخرى، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فمن كانت زوجة ابنه أو ابن ابنه أو ابن بنته لا تحل له لأنها كانت حليلة لأحد هؤلاء، والتحريم ثابت سواء أدخل بها فرعه أم لم يدخل، وقوله تعالى ﴿مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ ـ معناها من ظهوركم، وكان في ذكر كلمة ﴿أَبْنَائِكُمُ﴾ ما قد يغنى عن ذكر ﴿أَصْلَابِكُمْ﴾ ولكنها ذكرت ليخرج الذين يتبنّون، فقد كان العرب يعتبرون المتبنّى ولدا له كل حقوق الأولاد، ويحرمون على أنفسهم الزواج من أزواج المتبنين، وقد سماهم القرآن أدعياء، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ واللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَيَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَأَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ومَوالِيكُمْ ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ [الأحزاب] ومن أجل إباحة الزواج بمن كانت زوجة المتبنى أمر الله نبيه بأن يتزوج امرأة زيد بعد أن يطلقها لأنه كان متبنى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الجاهلية، ولذا قال سبحانه عند الأمر بزواجها: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب]
__________
(1) زهرة التفاسير: 3/1633.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾، اتفقوا على ان ام الزوجة، وان علت تحرم بمجرد العقد على البنت، وان لم يحصل الدخول، وشذ من قال ان العقد لا يحرّم الأم، حتى يدخل بالبنت، واستدل بالآية نفسها، حيث جعل لفظ ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ وصفا لأمهات النساء والربائب.. وأعرض فقهاء المذاهب عن هذا القول، لأن الوصف يرجع إلى الأقرب، وللأحاديث الصحيحة عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه الأصناف كلها تحرم على التأبيد.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، اتفقوا على ان بنت الزوجة لا تحرم على العاقد بمجرد وقوع العقد على أمها، فيجوز له أن يطلق الأم قبل أن يدخل، ثم يعقد على بنتها، وليس معنى قوله: اللاتي في حجوركم ان الربيبة تحل إذا لم تكن في حجر الرجل، لأن الربيبة تحرم، وان لم تكن في حجر زوج الأم، وإنما ذكر الحجور لبيان الفرد الغالب، لا للاحتراز من التي ليس في الحجر، وقال الحنفية والمالكية: اللمس والنظر بشهوة يوجبان التحريم، تماما كالدخول، وقال الإمامية والشافعية والحنابلة: لا تحرم إلا بالدخول، ولا أثر للمس ولا للنظر، وان كانا مع الشهوة، واتفقوا على ان حكم الوطء بشبهة حكم الزواج الصحيح في ما ذكر، ومعنى وطء الشبهة أن تحصل المقاربة بين رجل وامرأة باعتقاد انهما زوجان شرعيان، ثم يتبين انهما أجنبيان.
3. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾، اتفقوا على ان زوجة الابن وان نزل تحرم على الأب وان علا بمجرد العقد، وقوله من أصلابكم ليخرج ولد التبني، أما الولد من الرضاعة فحكمه حكم الولد من النسب، لحديث يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/287.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولا بهن أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا أضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الأزواج، والدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ الآية.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ الربائب جمع الربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره لأن تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الذي يربها ويربيها في العادة الغالبة وإن لم يكن كذلك دائما، وكذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب وإن لم يجر الأمر عليه دائما، ولذلك قيل: إن قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ قيد مبني على الغالب فالربيبة محرمة سواء كانت في حجر زوج أمها أو لم يكن، فالقيد توضيحي لا احترازي.
3. ومن الممكن أن يقال: إن قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾، إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب والسبب على ما سيجيء البحث عنه، وهو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وبين هؤلاء الأصناف من النساء والمصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل والبيوت فلو لا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا (على ما سيجيء بيانه)، فيكون قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم وفي صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته.
4. وكيفما كان ليس قوله: ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بأمها، والدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم، ولو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره، وهو ظاهر، وقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق عليه.
5. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ الحلائل جمع حليلة قال في المجمع: (والحلائل جمع الحليلة، وهي بمعنى محللة مشتقة من الحلال والذكر حليل، وجمعه أحلة كعزيز وأعزة سميا بذلك لأن كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه، وقيل هو من الحلول لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش)، والمراد بالأبناء من اتصل بالإنسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت، وتقييده بقوله: ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ احتراز عن حليلة من يدعى ابنا بالتبني دون الولادة.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/265.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ فهي محرمة على الإطلاق، ولا يشترط في تحريمها الدخول ببنتها؛ لأن تحريمها مطلق غير مشروط بالدخول، وفي (مجموع الإمام زيد بن علي) عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال: حرم الله من النسب سبعاً ومن الصهر سبعاً، فأما السبع من النسب: فهي: الأم، والإبنة، والأخت، وبنت الأخ، وبنت الأخت، والعمة، والخالة، والسبع من الصهر: فامرأة الأب، وامرأة الإبن، وأم المرأة دخل بالإبنة أو لم يدخل بها، وابنة الزوجة إن كان دخل بأمها وإن لم يكن دخل بها فهي حلال، والجمع بين الأختين، والأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة) وظاهره: التفسير للآية؛ لقوله في أول الكلام: (حرم الله..) ولأنه لم يذكر غير من في الآية وجعل لغيرهن كلاماً آخر، ولم يدخلهن في هذا الحصر سبعاً وسبعاً، وفي (أمالي أحمد بن عيسى) من تخريجها (رأب الصدع) بإسناده: عن الحكم بن عتيبة: أن رجلاً سأل ابن مسعود بالكوفة عن رجل تزوج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أيحل له أن يتزوج أمها؟ قال فكأن ابن مسعود رخّص له فيها، فتزوّجها فولدت له، فعرض في نفس ابن مسعود منها شيء فلقي علياً فسأله فقال: (لا تحل له) فقال: أليس الله يقول: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾؟ فقال علي: (هذه قد فسرت وهذه مبهمة) قال فرجع ابن مسعود ففرق بينهما.. وفي (الأمالي) أيضاً بسنده: عن السدي في قوله ـ عزَّ وجل ـ: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ قال قال علي بن أبي طالب: (إذا تزوج الرجل الجارية دخل بها أو لم يدخل بها، لم تحل له أمها لأنها محرمة مبهمة في كتاب الله عزَّ وجل) وفيها هناك في [الصفحة] بسنده: عن ابن عباس قال هي مبهمة ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾)، ومعنى (مبهمة): ليس فيها تفصيل بين المدخولة بنتها وغير المدخولة بنتها، وهذا واضح ولا يصح دعوى أنها مقيدة مع الربائب؛ لأن ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ هي لابتداء نسبة الربيبة، وبيان مصدر هذه النسبة مثلها في قولك: هو أخي من أبي أو من أمي أو منهما لبيان مصدر الأخوة، ولم يذكر في قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ النسبة بينهن وبين الزوج ولا معنى لأن يقال: هي أمها منها، أي أم البنت من البنت، فجعل القيد راجعاً إليها تمحل ودعوى خلاف الظاهر.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ الربيبة: هي بنت الزوجة من غيرك، وفي (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام): (فربيبة الرجل: بنت امرأته، و﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ معناه: في بيوتكم)، وفي (الصحاح): (وحَجر الإنسان وحِجره ـ بالفتح والكسر ـ والجمع: حجور)، وفي (مفردات الراغب): (ويقال: فلان في حِجر فلان، أي في منع منه عن التصرف في ماله وكثيرٍ من أحواله، وجمعه: حجور، قال تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ وحِجر القميص ـ أيضاً ـ اسم لما يجعل فيه الشيء فيمنع) لعله يعني بقوله: في منع منه، أي في حماية منه وحفظ، فلعل (تفسير الإمام زيد بن علي عليهما السلام) أراد به هذا؛ لأنهن إذا كنَّ في البيوت كنَّ في الحماية، وقال (صاحب القاموس): (ونشأ في حِجره: أي في حفظه وسَتره)، وفي (لسان العرب): حَجر الإنسان وحِجره ـ بالفتح والكسر ـ حضنه، وفي (سورة النساء): ﴿فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ واحدها حَجر ـ بفتح الحاء ـ يقال: حَجر المرأة، وحِجرها: حضنها، والجمع الحجور، وفي حديث عائشة: (هي اليتيمة تكون في حَجْر وليّها) ويجوز أنه من حَجْر الثوب وهو طرفه المتقدم؛ لأن الإنسان يرى ولده في حِجره، والولي: القائم بأمر اليتيم ـ ثم قال في موضع آخر ـ: ونشأ فلان في حَجر فلان وحِجره، أي حفظه وستره)، قال في (الكشاف): (فإن قلتَ: ما فائدة قوله: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾؟ قلت: فائدته التعليل..) إلخ، يعني: أنه ليس للتقييد وإخراج من ليست في الحجر، لكنه سواء كان للتعليل أو للتقييد قد صير الكلام خاصاً بمن في الحجر، ويحتاج من ليس في الحجر إلى دليل لتحريمها.
3. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ الحلائل: الزوجات، الواحدة حليلة، والزوج حليل ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ لتحقيق الأبناء، لئلا يتوهم دخول المتبنى الذي كانوا يسمونه ابناً، فردّ الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ [الأحزاب: 4] وفي قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ [الأحزاب: 37]
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/42.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ فإن أم الزوجة تحرم على الزوج، سواء أكانت أمّا بشكل مباشر كالأم، أو بالواسطة كالجدة، من دون فرق بين الدخول بالزوجة وعدمها، وهناك قول نادر باشتراط الدخول بالزوجة في حرمة أمها.
2. ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ وبهذا لم تحرم الربيبة على زوج الأم في حالة عدم الدخول بالأم، فيجوز له الزواج بها بعد طلاق الأم، ولكن لا يجوز الجمع بينهما، أما قيد ﴿اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ فقد أشرنا أنه ليس واردا على نحو الشرطية، بل على نحو الفرد الغالب، لأن الغالب أن تكون البنت في حجر أمها لحاجتها إليها في الحضانة والرعاية، وفي ضوء ذلك تثبت الحرمة في صورة عدم كونها في حجرها، وربما كان هذا القيد إشارة إلى أن الربائب تشارك سائر الأصناف من الاشتمال على ملاك التحريم وحكمته، وهو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل وسائر الأصناف من النساء والمصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل والبيوت، (فلو لا حكم الحرمة المؤبدة، لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنى) ـ كما يقول صاحب الميزان.
3. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ فلا تحل زوجة الابن النسبي لأبيه، ولا يشمل ذلك ولد التبنيّ، أمّا الولد الرضاعي، فحكمه في ذلك حكم الولد النسبي انطلاقا من الحديث المأثور: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فتحرم زوجته على أبيه الرضاعي، ويلحق بالابن ابن الابن إلى آخر السلسلة.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/178.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ثمّ إنّ الله سبحانه يشير ـ في المرحلة الأخيرة ـ إلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهنّ ويذكرهنّ ضمن عدّة عناوين.
2. ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ يعني أن المرأة بمجرّد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم أمها وأم أمها وإن علون على ذلك الرجل، ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يعني أنّ مجرّد العقد على امرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثّاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضا مضافا على العقد عليها.
3. إنّ وجود هذا القيد في هذا المورد ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ يؤيد كون حكم أمّ الزوجة الذي مرّ في الجملة السابقة ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ﴾ غير مشروط بهذا الشرط، وبعبارة أخرى إن هذا القيد هنا يؤيد ويؤكّد إطلاق الحكم هناك، فتكون النتيجة أن بمجرّد العقد على امرأة تحرم أمّ تلك المرأة على الرجل وإن لم يدخل بتلك المرأة، لخلو ذلك الحكم من القيد المشروط هنا في مورد الرّبيبة.
4. ثمّ إنّ قيد ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ وإن كان ظاهره يفهم منه أنّ بنت الزوجة من زوج آخر إذا لم ترب في حجر الزوج الثاني لا تحرم عليه، ولكن هذا القيد بدلالة الروايات، وقطعية هذا الحكم ـ ليس قيدا احترازيا ـ بل هو في الحقيقة إشارة إلى نكتة التحريم ـ لأن أمثال هذه الفتيات اللاتي تقدم أمّهاتها على زواج آخر، هنّ في الأغلب في سنين متدنية من العمر، ولذلك غالبا ما يتلقين نشأتهنّ وتربيتهنّ في حجر الزوج الجديد مثل بناته، فالآية تقول إن بنات نسائكم من غيركم كبناتكم أنفسكم، فهل يتزوج أحد بابنة نفسه؟ واختيار وصف الربائب التي هي جمع الرّبيبة (لتربية الزوج الثاني إيّاها فهي مربوبته) إنّما هو لأجل هذا.
5. ثمّ يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي إذا لم تدخلوا بامّ الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهنّ.
6. ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ والمراد من حلائل الأبناء زوجاتهم، وأمّا التعبير بـ (من أصلابكم) فهو في الحقيقة لأجل أن هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصا ثمّ يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماما، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإسلام.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/173.
25. حرمة الجمع بين الأختين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈25⌉ من سورة النساء، وهو ما نصّ عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 23]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين، فكره، فقيل: يقول الله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، فقال: وبعيرك أيضا مما ملكت يمينك!(1).
2. روي أنّه قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر، إلا العدد(2).
__________
(1) عبد الرزاق (١٢٧٤٢.
(2) ابن المنذر ٢/٦٣٢.
عمار:
روي عن عمار بن ياسر (ت 37 هـ) أنّه قال: ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا قد حرمه من الإماء، إلا أن الرجل قد يجمع ما شاء من الإماء(1).
__________
(1) عبد الرزاق (١٢٧٥٠.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال ذات يوم: (سلوني) فقال ابن الكواء: أخبرني عن بنت الاخت من الرضاعة، وعن المملوكتين الأختين، فقال: (إنك لذاهب في التيه، سل عما يعنيك أو ما ينفعك)، فقال ابن الكواء: إنما نسألك عما لا نعلم، فأما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثم قال: أما الأختان المملوكتان أحلتهما آية، وحرمتهما آية ولا أحله ولا احرمه، ولا أفعله أنا، ولا واحد من أهل بيتي(1).
2. روي عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك.. وفخرج من عنده، فلقي رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال ابن شهاب: أراه الإمام علي ـ، فسأله عن ذلك، فقال: لو كان لي من الأمر شيء، ثم وجدت أحدا فعل ذلك؛ لجعلته نكالا(2).
3. روي أنّه سئل عن رجل له أمتان أختان، وطئ إحداهما، ثم أراد أن يطأ الأخرى، قال: لا، حتى يخرجها من ملكه، قيل: فإن زوجها عبده؟، قال: لا، حتى يخرجها من ملكه(3).
4. روي أنّه سئل عن ذلك؟ فقال: إذا أحلت لك آية، وحرمت عليك أخرى؛ فإن أملكهما آية الحرام(4).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/232.
(2) مالك ٢/٥٣٨.
(3) ابن أبي شيبة ٤/١٦٨.
(4) ابن أبي شيبة ٤/١٦٧.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾، قال يعني: في النكاح(1).
__________
(1) ابن المنذر (١٥٥٦.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) أنّه قال: أغضبوا عبد الله بن مسعود في الأختين المملوكتين، فغضب، وقال: جمل أحدكم مما ملكت يمينه!(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة ٩/١٠٣.
عطاء:
روي عن عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: في قول الله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، قال في جاهليتهم(1).
2. روي أنّه قال:، وإسماعيل السدي، في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾: إلا ما كان من يعقوب عليه السلام؛ فإنه جمع بين ليا أم يهوذا، وراحيل أم يوسف، وكانتا أختين(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩١٤.
(2) تفسير الثعلبي ٣/٢٨٤.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها قبل أن يراها، قال لا تحل لأبيه، ولا لابنه، قلت: ما قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؟ قال كان في الجاهلية ينكح امرأة أبيه(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم ٣/٩١٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن أختين مملوكتين ينكح إحداهما، أتحل له الاخرى؟فقال: (ليس ينكح الاخرى إلا دون الفرج، وإن لم يفعل فهو خير له، نظير تلك المرأة تحيض فتحرم على زوجها أن يأتيها في فرجها لقول الله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ قال: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يعني في النكاح فيستقيم للرجل أن يأتي امرأته وهي حائض فيما دون الفرج)(1).
2. روي أنّه قال: إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ثم بدا له في الثانية فنكحها، فليس ينبغي له أن ينكح الاخرى حتى تخرج الاولى من ملكه، يهبها أو يبيعها، فإن وهبها لولده يجزيه(2).
3. روي أنّه سئل عن رجل كانت عنده جاريتان اختان فوطأ إحداهما، ثم بدا له في الاخرى، فقال: (يعتزل هذه، ويطأ الاخرى)، قال قلت له: تنبعث نفسه للأولى؟ قال: لا يقرب هذه حتى تخرج تلك عن ملكه(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي 1/232.
(2) التهذيب 7/288.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. يحتمل قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ وجوها: يحتمل الجمع بينهما في العقد، وقد أجمعوا: أنه إذا لم يجمع بينهما بالعقد ولكنه تزوج إحداهما، ثم تزوج أخرى، لم يحل أكثر أحكام الزوجات قائم فيما بينهما: نحو الإسكان، والإنفاق عليها، وإلحاق الولد، وغير ذلك من الحقوق، وعن على أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فلم تنقض عدتها حتى تزوج أختها، ففرق علىّ بينهما، وجعل لها الصداق بما استحل من فرجها، وقال: تكمل الأخرى عدتها، وهو خاطب، وعن زيد بن ثابت أنه سئل عن رجل تحته أربع نسوة، فطلق إحداهن ثلاثا، أيتزوج رابعة؟ فقال: لا، حتى تنقضي عدة التي طلق، وعن عائشة مثله.
2. اختلف في الجمع بين الأختين من ملك اليمين: عن عمر أنه سئل عن المرأة وأختها من ملك اليمين، هل توطأ بعد الأخرى؟ قال ما أحب أن أجيزهما جميعا، ونهي عنه، وعن ابن مسعود أنه حنث في الأختين من ملك اليمين، فقال: حمل أحدكم ملك اليمين، وعن ابن مسعود قال يحرم من جمع الإماء ما يحرم من جمع الحرائر إلا العدد، وعن ابن عمر أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وقع على إحداهما أيقع على الأخرى؟ قال لا؛ ما دامت في ملكه.
3. أجمعوا ـ أيضا ـ على أنه إن تزوج بامرأة فاشترى أختها لم يحل له أن يطأها في أنفسهما، وفي ولدها، فإذا كانت الحرمة في الأخت من وجه، وفي الأم من وجهين، ففيما كانت الحرمة من وجه كانت حرمة الجمع لا حرمة تأبيد، وفيما كانت من وجهين حرمة جمع وحرمة تأبيد؛ لأنها تأدت إلى أولادها، وفي الأخت لم يتأد؛ لذلك اختلفا.
4. قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: إلا ما قد سلف قبل التحريم في الجاهلية، فإنهم إذا انتهوا عن ذلك في الإسلام، يغفر الله لهم.
ب. ويحتمل قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وإن كان محرما في ذلك الوقت فإنهم إذا انتهوا عن ذلك بعد الإسلام يغفر ذلك لهم، ويتجاوز عنهم، فهم كما ذكرنا في قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾:
• يحتمل: كان في ذلك الوقت فاحشة.
• ويحتمل: كان فاحشة، أي: صار فاحشة في الإسلام.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 3/105.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ فيه تحريم الجمع بينهما في عقد واحد، وتحريم الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين، فإذا وطأ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن، وأكثر المفسرين والفقهاء، وروي عن ابن عباس أنه أجاز الجمع بينهما بملك اليمين، وتوقف فيهما علي وعثمان، وباقي الصحابة حرموا الجمع بينهما، وروي عن علي عليه السلام أنه قال حرمتها آية، وأحلتهما أخرى، وأنا أنهى عنهما نفسي، وولدي، فغلب التحريم، ومن أجاز الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين ـ على ما يذهب إليه داود وقوم من أهل الظاهر ـ فقد أخطأ في الأختين، وكذلك في الربيبة وأم الزوجة.
2. فأما الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فحرم بالسنة، ويجوز عندنا نكاح العمة والخالة على المرأة، ونكاح المرأة على العمة والخالة لا يجوز إلا برضاء العمة والخالة، وخالف فيه جميع الفقهاء، والمحرمات بالنسب ومن يحرم بالسبب على وجه التأبيد يسمون مبهمات، لأنه يحرم من جميع الجهات، مأخوذ من البهيم الذي لا يخالط معظم لونه لون آخر، يقال: فرس بهيم لا شية فيه، وبقرة بهيم، والجمع بهم.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ اخبار أنه كان غفوراً حيث لم يؤاخذهم بما فعلوه من نكاح المحرمات، وأنه عفى لهم عما سلف، ولا يدل على أنه ليس بغفور فيما بعد، لأن ذلك معلوم بدلالة أخرى، وفي الناس من قال كان زائدة، وقد بينا أن هذا ضعيف، لأنها تكون عبثاً ولغواً، وذلك لا يجوز.
__________
(1) تفسير الطوسي: 3/162.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. تدل الآية الكريمة على تحريم الجمع بين الأختين فلا خلاف أن الجمع بينهما في عقد النكاح محرم، واختلفوا في الجمع بينهما بملك اليمين فالأكثر على أنه محرم، وهو المروي عن علي، وروي عن عثمان ما يدل على أنه كالمتوقف فيه؛ لأنه قال: أحلتها آية وحرمتها آية، وأرى التحليل أولى، وكان علي يقول: التحريم أولى، وذكر علي بن موسى القمي عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار التحريم والتشديد فيه، واختلفوا في الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وابنة أختها وابنة أخيها فالفقهاء بأسرهم على التحريم، وعن بعضهم أنه يحل، ومن قال بالتحريم اختلفوا، فقيل: الحرمة مستفادة بالآية؛ لأن المعنى في الأختين أنهما شخصان لوْ ذُكِّرَتْ إحداهما وأنثت الأخرى حرم النكاح بينهما من الطرفين، وهذا موجود في مسألتنا، ولأن صلة الرحم فيهما واجب، والجمع يؤدي إلى قطيعة الرحم، وهذا موجود في العمة والخالة، وقيل: بل الحرمة مستفادة بالخبر المشهور أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها) الخبر.
2. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا﴾ محله رفع على تقدير: وحرم الجمع إلا ما قد سلف، قوله: ﴿مَا﴾ في محل النصب؛ لأن المعنى حرمت عليكم هذه الأشياء إلا شيئًا قد سلف فأنتم غير مأخوذين به.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 2/579.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾: أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين لان ﴿إِنَّ﴾ مع صلتها، في حكم المصدر، وهذا يقتضي تحريم الجمع بين الأختين في العقد على الحرائر، وتحريم الجمع بينهما في الوطء، بملك اليمين، فإذا وطئ إحداهما، فقد حرمت عليه الأخرى حتى تخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن، وأكثر المفسرين والفقهاء.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾: استثناء منقطع، ومعناه لكن ما قد سلف لا يؤاخذكم الله به، وليس المراد به أن ما قد سلف حال النهي، يجوز استدامته بلا خلاف، وقيل: معناه إلا ما كان من يعقوب إذ جمع بين الأختين ليا أم يهوذا، وراحيل أم يوسف، عن عطاء، والسدي.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لا يؤاخذكم الله بحكم ما قد سلف من هذه الأنكحة قبل نزول التحريم.
4. كل ما حرم الله في هذه الآية، فإنما هو على وجه التأبيد، سواء كن مجتمعات، أو متفرقات، إلا الأختين، فإنهما يحرمان على وجه الجمع دون الانفراد، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على أن هؤلاء المحرمات من ذوات الأنساب، لا يصح أن تملك واحدة منهن، لان التحريم عام، والمحرمات بالنسب أو السبب، على وجه التأبيد، يسمون مبهمات، لأنهن يحرمن من جميع الجهات، وهي مأخوذة من البهيم الذي لا يخالط معظم لونه لون آخر، يقال: فرس بهيم لا شية له.
5. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا﴾ يغفر الذنوب ﴿رَحِيمًا﴾ يرحم العباد المؤمنين.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 3/49.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. النوع الثالث عشر من المحرمات هو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
2. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ في محل الرفع، لأن التقدير: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين، والجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه:
أ. إما أن ينكحهما معا.
ب. أو يملكهما معا.
ج. أو ينكح إحداهما ويملك الأخرى.
3. الجمع بين الأختين في النكاح، يقع على وجهين:
أ. أحدهما: أن يعقد عليهما جميعا، فالحكم هاهنا: إما الجمع، أو التعيين، أو التخيير، أو الابطال:
• أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا، إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة، لأن الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله، ثم انه يقع، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة، فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله، فان قالوا: وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه، ثم إنه يقع، قلنا: بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل.
• أما أن التعيين أيضا باطل، فلأن الترجيح من غير مرجح باطل.
• أما أن التخيير أيضا باطل، فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين، وقد بينا بطلانه.
• فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا.
ب. الثانية: من صور الجمع: وهي أن يتزوج إحداهما، ثم يتزوج الأخرى بعدها، فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية، لأن الدفع أسهل من الرفع.
4. أما الجمع بين الأختين بملك اليمين، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى، فقد اختلفت الصحابة فيه:
أ. فقال علي وعمرو وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما.. وقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه.
ب. والباقون جوزوا ذلك، فعن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، والتحليل أولى، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 24] وقوله: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: 6]، والجواب عنه من وجهين:
• الأول: أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء، فنقول: لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المعارج: 29. 30]، لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك، أولى من أن تكون دالة على الجواز.
• الثاني: إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع، لكن نقول: الترجيح لجانب الحرمة، ويدل عليه وجوه:
● الأول: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال)
● الثاني: أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
● الثالث: أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة، بدليل أنه إذا استوت الأمارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة، ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة، فلو كان خاليا عن جهة الإذلال والضرر، لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع إليهن مندوب لقوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83] ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الإذلال والمضارة، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة، والحل إنما ثبت بالعارض، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة، فهذا هو تقرير مذهب علي في هذا الباب، أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين، فإذا وطئ إحداهما حرمت الثانية، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج.
5. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بفروع المسائل المتعلقة بالجمع بين الأخوات، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
6. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فيه الأشكال المشهور: وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف، وهذا يقتضي استثناء الماضي من المستقبل، وإنه لا يجوز، وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ والمعنى أن ما مضى مغفور بدليل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؟
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 10/31.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ موضع ﴿فَإِنَّ﴾ رفع على العطف على ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾، والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الامة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)، واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطي، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة، واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها، فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها، وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت، قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطء لم يجزه، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة، لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ يعني الزوجتين بعقد النكاح، فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب [إن شاء] بإجماع وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله، وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين: (أحلتهما آية وحرمتهما آية) معلوم محفوظ، فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية؟
2. اختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى، فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطئ الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها، قال ابن المنذر: وفية قول ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطئ الأخرى فإنه ينوي تحريم الاولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الاولى المحرمة، ثم يغشى الثانية، وفية قول ثالث: وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما، هكذا قال الحكم وحماد، وروي معنى ذلك عن النخعي، ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطئ الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الاولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك: إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الاولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى، ولم يوكل ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، ومذهب الكوفيين في هذا الباب: الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى، فإن باع الاولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى، وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة: فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج التي يطأ غيره، وروي معنى ذلك عن علي، قالوا: لان الملك الذي منع وطئ الجارية في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وبين بقائها في ملكه، وقول مالك حسن، لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال، وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال، ولم يختلفوا في العتق، لأنه لا يتصرف فيه بحال، وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه، فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح.
3. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين، على ما قاله مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع، وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين، وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد، وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين، إحداهما نكاح امرأة الأب الثانية، الجمع بين الأختين، ألا ترى أنه قال ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ولم يذكر في سائر المحرمات ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 5/117.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ أي: وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، فهو في محل رفع عطفا على المحرمات السابقة، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين، وقيل: إن الآية خاصة بالجمع في النكاح، لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح.
2. واختلفوا في الأختين بملك اليمين: فذهب كافة العلماء: إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط، وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، وسيأتي بيان ذلك، واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك: فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها، وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت، وقد ذهبت الظاهرية: إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما يجوز الجمع بينهما في الملك، قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، ولا بالعراق، ولا ما وراءها من المشرق، ولا بالشام، ولا المغرب، إلا من شذّ عن جماعتهم باتباع الظاهر، ونفي القياس، وقد ترك من تعمد ذلك، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحلّ ذلك في النكاح، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخر الآية، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظرا الجمع بين الأختين، وأمهات النساء، والربائب، وكذا هو عند جمهورهم، وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها، والله المحمود..
3. هاهنا إشكال، وهو: أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط، وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا، أو كونهما حقيقتين معروف، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى آخرها، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى آخره، يستوي فيه الحرائر والإماء، والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط؛ لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف بالرجال، فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فبها ونعمت، وإلا كان الأصل الحل، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك، وفيه الخلاف المعروف في الأصول، فتدبر هذا.
4. وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك، فقال عليّ وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوّجها، قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة: وهو أن ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية، وفيه قول ثالث: وهو أنه لا يقرب واحدة منهما، هكذا قال الحكم وحماد، وروي معنى ذلك عن النخعي، وقال مالك: إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى؛ فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو بيع، أو عتق، أو كتابة، أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى؛ وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما؛ حتى يحرّم الأخرى، ولم يوكل ذلك إلى أمانته، لأنه متهم، قال القرطبي: وقد أجمع العلماء: على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدّة المطلقة، واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها؛ فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التي طلق، روي ذلك عن عليّ، وزيد بن ثابت، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، والثوري، وأحمد بن حنبل، وأصحاب الرأي، وقالت طائفة: له أن ينكح أختها؛ وينكح الرابعة؛ لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهنّ طلاقا بائنا، روي ذلك عن سعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، وعروة بن الزبير، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبي ثور، وأبي عبيد، قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك، وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء، قوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ويحتمل معنى آخر، وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين، والصواب الاحتمال الأوّل.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/515.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاُخْتَيْنِ﴾ من نسب أو رضاع بنكاح أو تسرٍّ، أو إحداهما بنكاح والأخرى بتسرٍّ، وهذه الآية حرَّمت الجمع، وقوله تعالى ﴿اَوْ مَا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 3]، وقوله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتَ اَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 24]، لم يبيحا الجمع بل أباحا النكاح، أي: الوطء لتسرٍّ، قال عليٌّ أو غيره من الصحابة: (لو كان الأمر لي لم أجد أحدًا جمع بين أختين مملوكتين إلَّا جعلته نكالاً)، فآيات ما ملكت اليمين عامَّات مخصوصات بقوله تعالى: ﴿وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاُخْتَيْنِ﴾ على قاعدة حمل العامِّ على الخاصِّ عندنا، وعند الشافعيِّ، عُلِم التاريخ أو لم يُعلم، وبطل قول عثمان بجواز الجمع بين الأختين المملوكتين، وكذا لا يجوز الجمع بين من لا تتناكحان لو كانت إحداهما ذكرًا، وكلُّ ما يحرم تزوُّجه يحرم تسرِّيه، بل هو مَحْرَمٌ له يكون حرًّا بملكه له، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تنكح المرأة على عمَّتها، ولا على خالتها، ولا على ابنة أختها، ولا على ابنة أخيها)، وهو تمثيل للعموم المذكور في كلِّ من لا تحلُّ للأخرى، وأمَّا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا تنكح المرأة على قرابتها) فشامل لمن تحلُّ لكن خاف القطيعة، فلو جمع بنتي عمَّيْن لجاز، ومن جمع بين أختين مثلاً حرمتا إن مسَّهما، وإن مسَّ إحداهما حرمت الأخرى، وقيل: إذا فارق الممسوسة حلَّت الأخرى، ومن عقد عليهما عقدة واحدة حرم من مسٍّ وجدَّد العقد للأخرى.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ متعلِّق بقوله تعالى : ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُم﴾ إلى قوله تعالى ﴿بَيْنَ الاُخْتَيْنِ﴾، والاستثناء منقطع، أي: لكن لا عقاب على ما سبق قبل نزول الآية، أو مُتَّصِل على ما سبق في مثله، وقد وقع في الجاهليَّة الجمع بين الأختين وبين امرأتين لا تحلُّ إحداهما للأخرى لَو كانت ذكرًا، ووقع نكاح امرأة الأب، وكأنَّه قيل: إلَّا ما قد سلف إنَّه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلاً، وَحَذَفَه للعلم به، أسلم فيروز الديلمي على أختين فأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم : (طلِّق إحداهما)، وعن ابن عبَّاس: كان أهل الجاهليَّة يحرِّمون ما حرَّم الله تعالى إلَّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، ويروى أنَّ نبيَّ الله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين: لِيا أمِّ يهودَا، وراحيل أمِّ يوسف عليه السلام ، وذلك في شرعه، ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ لِكُلِّ أحد إِلَّا مَن أبى، فلكم الغفران والرحمة عمَّا سلف وَلَا بُدَّ من الفرقة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 3/154.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ في حيّز الرفع، عطفا على ما قبله من المحرمات، أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع، لما فيه من قطيعة الرحم ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الجاهلية فإنه معفوّ عنه ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تعليل لما أفاده الاستثناء.
__________
(1) تفسير القاسمي: 3/70.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. لما بين تبارك اسمه ما يحرم بالأسباب الثابتة وقدم الأقوى في علته وحكمته على غيره بين بعد ذلك ما يحرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم فقال: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الاستمتاع الذي يراد به الولد سواء كان بعقد النكاح أو ملك اليمين، هذا ما عليه جمهور الصحابة وعلماء التابعين ومن تبعهم وهو المتبادر وروي عن بعضهم الخلاف في الجمع بين الأختين بملك اليمين مع إطلاق إباحة الاستمتاع بما ملكت الأيمان على الإطلاق، وروي عن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وحجة الجمهور أن سائر ما في الآية من المحرمات عام في النكاح والملك، لا وجه الاستثناء هذا وحده منها، وأن إطلاق إباحة ما ملكت الأيمان إنما هو بيان لسبب الحل دون شروطه التي تعلم من نصوص أخرى، فمن ملك إحدى محارمه لا يحل له الاستمتاع بها ولو جاز الجمع بين الأختين في استمتاع الملك جاز الجمع بين الأم وبنتها في ذلك، ومن يقول بذلك؟ والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين في ملك اليمين وكذلك الجمع بينهما بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا الأخرى، فيحرم عليه أن يستمتع بهما معا، ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه، كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له والتفصيل في كتب الفقه، ويدخل في ذلك الأختان من الرضاعة وقد فهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من تحريم الجمع بين الأختين تحريم ما في معناه وهو الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها قال العلماء: والضابط في هذا: أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى، وهو الذي تظهر فيه العلة، وتنطبق عليه الحكمة.
2. ثم قال عز وجل: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي حرم عليكم ما ذكر لكن ما سلف لكم قبل التحريم لا تؤاخذون عليه، وكانوا يجمعون بين الأختين في الجاهلية، وقيل إلا ما سلف في الشرائع السابقة، وورد في حديث أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (طلق أيتهما شئت)
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ لا يؤاخذكم بما سلف منكم في زمن الجاهلية إذا أنتم التزمتم العمل بشريعته في الإسلام، فمن مغفرته أن يمحو من نفوسكم أثر تلك الأعمال المنكرة التي تنافي سلامة الفطرة، ومن رحمته بكم أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم، وتوثيق روابط القرابة والصهر والرضاع بينكم، لتتراحموا وتتعاطفوا على البر والتقوى فتنالوا تمام الرحمة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) تفسير المنار: 4/481.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. القسم الرابع ما حرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم وهو ما ذكر، سبحانه بقوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين في الاستمتاع الذي يراد به الولد، والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين أو بالنكاح، أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا للأخرى، فيحرم عليه أن يستمتع بهما ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له، ومثل هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لأن العلة موجودة فيه أيضا وهى إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله، كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، والضابط لذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي لكن ما قد سلف قبل التحريم لا تؤاخذون عليه، وقد كانوا يجمعون بين الأختين.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلا يؤاخذكم بما سلف منكم في زمن الجاهلية إذا أنتم عملتم بشريعة الإسلام، ومن مغفرته أن يمحو من نفوسكم آثار الأعمال السيئة ويغفر لكم ذنوبكم إذا أنبتم إليه، ومن رحمته أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم، لتتراحموا وتتعاونوا على البر والتقوى.
__________
(1) تفسير المراغى: 4/223.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. أخت الزوجة.. وهذه تحرم تحريما مؤقتا، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل، والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾.. أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/609.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فلا يحل الرجل أن يجمع بين الأختين في عصمته، وله أن يتزوج الثانية بعد أن تنقطع علاقته بالأولى، بالطلاق أو الوفاة، وذلك صيانة للعلاقة بين الأختين أن تفسدها الحياة الزوجية التي تجمعهما تحت سقف واحد، وليد رجل واحد، فتكون المرأة ضرّة أختها، كما يحدث بين زوجتى الرجل أو زوجاته، المتباعدات نسبا وقرابة.
2. ولهذا، فقد ألحق النبيّ الكريم بتحريم الجمع بين الأختين، الجمع بين البنت وعمتها، والبنت وخالتها، في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تنكح البنت على عمتها أو خالتها فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)
3. وقد عفا الله عما سلف في الجاهلية من الجمع بين هذه المحارم، قبل أن يجيء أمر الله بتحريم هذا الجمع.. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 3/737.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ هذا تحريم للجمع بين الأختين فحكمته دفع الغيرة عمّن يريد الشرع بقاء تمام المودّة بينهما، وقد علم أنّ المراد الجمع بينهما فيما فيه غيرة، وهو النكاح أصالة، ويلحق به الجمع بينهما في التسرّي بملك اليمين، إذ العلّة واحدة فقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾ وقوله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 24] يخصّ بغير المذكورات، وروي عن عثمان بن عفّان: أنّه سئل عن الجمع بين الأختين في التسري فقال: (أحلتهما آية يعني قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ وحرّمتهما آية يعني هذه الآية، أي فهو متوقّف، وروي مثله عن علي، وعن جمع من الصحابة، أنّ الجمع بينهما في التسرّي حرام، وهو قول مالك، قال مالك: (فإن تسرّى بإحدى الأختين ثمّ أراد التسرّي بالأخرى وقف حتى يحرّم الأولى بما تحرم به من بيع أو كتابة أو عتق ولا يحدّ إذا جمع بينهما)، وقال الظاهرية: يجوز الجمع بين الأختين في التسرّي لأنّ الآية واردة في أحكام النكاح، أمّا الجمع بين الأختين في مجرّد الملك فلا حظر فيه.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هو كنظيره السابق، والبيان فيه كالبيان هناك، بيد أنّ القرطبي قال هنا: ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف وأنّه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا وإذا جرى الجمع في الإسلام خيّر بين الأختين من غير إجراء عقود الكفّار على مقتضى الإسلام، ولم يعز القول بذلك لأحد من الفقهاء.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يناسب أن يكون معنى ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ تقرير ما عقدوه من ذلك في عهد الجاهلية، فالمغفرة للتجاوز عن الاستمرار عليه، والرحمة لبيان سبب ذلك التجاوز.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(2):
4. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هذا نوع جديد من التحريم المؤقت، وهو ألا يجمع الرجل بين امرأة وأختها في عصمته، فلا يصح أن يتزوج أخت زوجته، وهى في عصمته، أو يكون قد افترق عنها وعدتها لم تنته، فإن ذلك حرام؛ لأنه يؤدى إلى قطع الرحم بينهما، ومثل الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وابنة أخيها وابنة أختها، وقد ثبت تحريم الجمع بين هؤلاء لقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أبو هريرة: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا المرأة على ابنة أخيها، ولا ابنة أختها)، وزاد في بعض الروايات: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)، وقد انعقد إجماع من يعتدّ بإجماعهم على ذلك، وقد قال بعض المفسرين: إن تحريم الجمع بين هؤلاء يثبت من نص القرآن في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ ذلك لأن التحريم لخشية إيحاش قلب الأختين بالعداوة، ويكون بينهما ما بين الضرائر من مبادلة الأذى، وإن ذلك أظهر في الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، فأولى أن يكون التحريم في الجمع بينهما، ولأن العمة والخالة بمنزلة الأم.
5. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يظهر أن هذا كان يقع من العرب في الجاهلية، ومنهم بعض الذين آمنوا، ولذلك بين الله سبحانه أن ذلك موضع عفو الله تعالى، ولذا قال سبحانه: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ والاستثناء هنا منقطع، و(إلا) بمعنى (لكن) والمعنى: لكن ما قد سلف منكم في جاهليتكم قبل ذلك التحريم موضع عفو الله تعالى؛ وذلك لأن الله تعالى غفور رحيم، فقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ في موضع التعليل لعفو الله في هذا الاستثناء المنقطع، والمعنى أن الله يعفو، لأنه سبحانه وتعالى كان وما زال غفارا للذنوب رحيما بعباده، ومن رحمته بعباده ألا يعذبهم من غير نذير، وألا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلا بعد بيان واضح، وإن كان العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4/83.
(2) زهرة التفاسير: 3/1636.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، اتفقوا على تحريم الجمع بين الأختين، فإذا فارق الرجل زوجته بموت أو طلاق جاز الزواج بأختها، وقال الإمامية والشافعية: إذا طلق زوجته رجعيا فلا يجوز له أن يعقد على أختها إلا بعد انقضاء العدة، أما إذا طلقها بائنا فيجوز أن يتزوج الأخت في أثناء العدة، لأن الطلاق البائن ينهى الزواج، ويقطع العصمة، وقالت سائر المذاهب: ليس له ذلك إلا بعد انقضاء العدة، من غير فرق بين الطلاق الرجعي والبائن.
__________
(1) التفسير الكاشف: 2/291.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ المراد به بيان تحريم نكاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة وأحسنها في تأدية المراد، وإطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الأختين ثم يتزوج بالأخرى بعد طلاق الأولي أو موتها ومن الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هو كنظيره المتقدم في قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية من الجمع بين الأختين، والمراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الأختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شيء من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية تدل على منعه لأنه جمع بين الأختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب نزول قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ الآية حيث فرق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نزول الآية بين الأبناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية.
3. رفع التحريم ـ وهو الجواز ـ عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل، والعفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي وإن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد واعتبار القرابة مع الاستيلاد ونحو ذلك، وبعبارة أخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الأختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحداهما أو حل الطلاق بهما أو بإحداهما لكن يصح رفع الإلغاء والتحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الأولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم، ووجود القرابة بينهم وبين آبائهم المولدين لهم وسائر قرابات الآباء، المؤثر ذلك في الإرث والنكاح وغير ذلك.
4. وعلى هذا فقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع ومن هنا يظهر أن الاستثناء متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون.
5. ويمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الأختين، ولم تكن تقترف نكاح الأمهات والبنات وسائر ما ذكرت في الآية إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس والروم وسائر الأمم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، والإسلام يعتبر صحة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم، ويعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق، هذا، لكن الوجه الأول أظهر.
6. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ تعليل راجع إلى الاستثناء، وهو من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب والمعاصي.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 4/266.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي(ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في الجاهلية قبل الإسلام فهو مغفور، فالإستثناء بمعنى لكن، وهو نظير قوله تعالى: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾
2. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فهو يغفر لمن تاب ويرحمه، ومن ذلك: من أسلم بعد الجاهلية فقد جَبَّ الإسلامُ ما قبله، وجعل الإستثناء هنا كالأول؛ لقرينة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ولولا ذلك لأمكن أن يكون هنا متصلاً أي إلا ما قد سلف فلم يُحَرِّم، والجمع بين الأختين الجمع في زواج واحد أو تسَرّ.
__________
(1) التيسير في التفسير: 2/45.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، فلا يجوز الزواج بأخت زوجته ما دامت زوجته معه أو كانت في عدة الطلاق الرجعي، فإذا فارق زوجته وانتهت عدتها الرجعية، جاز له الزواج بأختها بعد ذلك، وإذا طلقها طلاقا بائنا، جاز له الزواج بأختها في أثناء العدة البائنة، وربما كان الأساس في حرمة الجمع بين الأختين، هو أن الانتماء إلى زوج واحد، يخلق بينهما ـ غالبا ـ الكثير من التنافس عليه، كما في سائر الضرائر، مما يؤدي إلى التنافر والتضاد الشعوري الذي يحطم العلاقة الأخوية المبنية على المودة والمحبة ويحوّلها إلى حالة من الصراع المرير المستمر الذي ينطوي على مشاكل كثيرة وتعقيدات صعبة.
2. أما قوله ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ فهو جار على غرار قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾، فقد كانوا في الجاهلية يجيزون ذلك، فيجمعون بين الأختين، فكانت الآية تمثل الحكم بالعفو عنه من حيث شرعية النتائج الناتجة عن العلاقة الزوجية السابقة من انتساب الأولاد شرعا إلى آبائهم وأمهاتهم وإجراء أحكام القرابة عليهم كأية ولادة شرعية، ولكنها لا تثبت الاستمرار في شرعيته إذا كان باقيا في زمن نزول الآية، فقد ورد في أسباب النزول أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فرق بين الأبناء وبين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية
3. وقد احتمل صاحب تفسير الميزان أن يكون قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ راجعا إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾، فإن العرب وإن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الأختين، ولم تكن تقترف نكاح الأمهات والبنات وسائر ما ذكر في الآية، إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم، كالفرس والروم وسائر الأمم المتمدنة وغير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، والإسلام يعتبر صحّة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم، فيحكم بطهارة مولدهم ويعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق هذا لكن الوجه الأول أظهر.
4. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فإن الإسلام يجبّ ما قبله، فلا مسئولية على المسلّم الذي كان يمارس الانحراف عن خط الشريعة قبل إسلامه.
__________
(1) من وحي القرآن: 7/179.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ يعني أنّه يحرم الجمع بين الأختين في العقد، وعلى هذا يجوز الزواج بالأختين في وقتين مختلفين وبعد الانفصال عن الأخت السابقة.
2. وحيث أنّ الزواج بأختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية، وكان ثمّة من ارتكبوا هذا العمل فإن القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يعني إنّ هذا الحكم كالأحكام الأخرى لا يشمل الحالات السابقة، فلا يؤاخذهم الله على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إحدى الأختين، ويفارقوا الأخرى، بعد نزول هذا الحكم.
3. يبقى أن نعرف أنّ سرّ تحريم هذا النمط من الزواج (أي التزوج بأختين في وقت واحد) في الإسلام لعلّه أن بين الأختين بحكم ما بينهما من نسب ورابطة طبيعية ـ علاقة حبّ ومودّة، فإذا أصبحتا متنافستين في ظل الانتماء إلى زوج واحد لم يمكنهما الحفاظ على تلك المودّة والمحبّة والعلاقة الودية بطبيعة الحال، وبهذه الصورة يحدث هناك تضاد عاطفي في وجود كل من الأختين يضرّ بحياتهما، لأن كلّ واحدة منهما ستعاني حينئذ وبصورة دائمية من صراع حالتين نفسيتين متضادتين هما دافع الحب، وغريزة التنافس، وهو صراع نفسي مقيت ينطوي على مضاعفات خطيرة لا تحمد عقباها.
4. ثمّ إن بعض المفسّرين احتمل أن تعود جملة ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ إلى كل المحارم من النسوة اللاتي مرّ ذكرهنّ في مطلع الآية فيكون المعنى: إذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإحدى النساء المحرم عليه نكاحهنّ لم يشمله حكم تحريم الزواج بهنّ هذا، وكان ما نتج من ذلك الزواج الذي حرم في ما بعد من الأولاد شرعيين، وإن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء، ويفارقوهنّ، وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا المعنى الأخير.
__________
(1) تفسير الأمثل: 3/174.